عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - نبيل عبد الأمير الربيعي

صفحات: [1]
1
مستشفى الديوانية العسكري في الديوانية معلم صحي أزيل بعد الإحتلال الأمريكي
نبيل عبد الأمير الربيعي
تقع المستشفى العسكري على ضفاف نهر الديوانية داخل أراضي الفرقة العسكرية الأولى، مقابل المستشفى الجمهوري الحكومي، التي اندرست معالمه في ثمانينات القرن الماضي، وفي عهد متصرف الديوانية مصطفى بك العمري الذي تمّ تعيينه في شهر شباط عام 1930م ونقل منها في 15 شهر آب عام 1933م, وفي زمانه بوشر ببناء دار الحكومة الجديدة سنة 1932م (بناية متصرفية الديوانية القديمة) وعلى الجانب الأيسر من ضفة نهر الفرات والذي تم بناؤه عام 1935م, وكذلك أنشأت بناية (الثكنة) العسكرية والمستشفى العسكري والنادي العسكري على الجانب الأيمن من ضفة نهر الفرات, وكما تم تأسيس الثانوية للبنين في أواخر أيامه عام 193)
يضمُّ المستشفى العسكري أطباء محنّكين وممرضين ذوي خبرة وأجهزة ومستلزمات طبية حديثة وأدوية وعلاجات وفيرة، وهم الذين كانوا يستقبلون المرضى مقابل الأجور في عياداتهم الخاصة بعد انتهاء دوامهم الرسمي، إنَّ السماح للأطباء العسكريين بفتح عيادات طبية خاصة لهم بعد الدوام الرسمي، أسهم في جعل مدينة الديوانية مقصد المرضى الذين يفدون إليها عند المساء بصورة خاصة من القرى والأرياف والنواحي المحيطة بالمدينة، وكان ثَمّة تفاهم ملحوظ ما بين الأطباء العسكريين والأطباء المدنيين للتعاون في علاج المرضى في المستشفيات، ولعلَّ جيل الأربعينات والخمسينات لا ينسى أطباء لمعت أسماؤهم فأقاموا في الديوانية ردحاً من الزمن، مثل الطبيب رشيد معتوق والطبيب جورج سليم والطبيب عاصم الخيالي والطبيب فؤاد سارة والطبيب حكمت الشعرباف، والطبيب رسام شاشان (عام 1948م) والطبيب نهاد مراد (عام 1956م) والطبيب فؤاد مراد والطبيب يعقوب سارة (عام 1950م) والطبيب أدور عيسى (1954م)، والأخَوَين الطبيبين شاكر وعبد الأمير توفيق الذين كان لهما فضل تنظيم الأسبوع الصحي في الديوانية.
يذكر الدكتور حكمت الشعرباف حول الأيام التي قضاها كضابط احتياط في مستشفى الديوانية العسكري بعد تخرجه في كلية الطب عام 1960م، "ألتحقت بالعمل في (م.د.ع)، وهو الأسم المختصر لمستشفى الديوانية العسكري.. وجدت الديوانية، كئيبة، ليس فيها ما يسر. وكان نادي الضباط وخدماته المتميزة وحدائقه الواسعة الملاذ الوحيد لقضاء أوقات الفراغ الطويلة. كان من العاملين في المستشفى وقد توطدت لي معهم الصداقة كلٍ من الدكتور سالم سفر والدكتور سعيد غدير والدكتور صالح شلال وطبيب الأسنان خسن عبرة والصيدلي مجيد مشكور. كان آمر المستشفى يومذاك الدكتور بوغوص بوغوصيان، وهو جراح اختصاصي، وكان رجلاً جاداً وحريصاً، إلا أنهُ صعب المراس أحياناً. أما مساعد الآمر والقائم بالشؤون الإدارية للمستشفى فكان الرئيس الأول عباس الدجيلي، وهو عسكري صارم.
كان يحق لنا مغادرة المعسكر للسفر إلى اهلينا مرة كل أسبوعين، وكنا نزود في هذه الحالة بورقة تعرف بورقة (عدم التعرض). كان يذكر في الورقة الساعة التي يسمح لنا عندها بمغادرة المستشفى، وهي الساعة الثانية عشرة ظهراً عادةً. كنا نجلس في غرفة المساعد السيد عباس، ويكون قد أعد هذه الورقة من قبل، ولكنه لا يسلمنا إياها إلا في تمام الساعة المدونة فيها. كان ينظر إلى ساعته ويقول (بقيت عشر دقائق)، ثم (بقيت خمس دقائق)، وهك1ا. تعليقاتنا الساخرة لم تكن تجدي نفعاً. فصك الغفران هذا لا يمكن استحصاله منه إلا بعد أن يكون الوقت قد أزف. من المؤسف أن يتم إعدام هذا الرجل العسكري المثالي بعد قيام حركة 8 شباط عام 1963 بتهمة انتمائه للحزب الشيوعي العراقي، رحمه الله.
في صبيحة أحد الأيام طلب منا أخذ مسحات دم من كافة المنتسبين من الجنود وضباط الصف وذلك للتحري عن مرض الملاريا. قمنا بهذه المهمة أما والزميل شلال التميمي. انتظم الجنود وضباط الصف وبدأنا عملنا. كانت المهمة سهلة للفاحص والمفحوص، كنا نأخذ قطرة دم من أصبع الجندي بعد وخزه، وكنا نضع هذه القطرة على الشريحة الزجاجية. لاحظت أن أحد الجنود كان شاحب اللون، مصفر الوجه. كان تقديري أن الرجل من (نهي عصبي) وهي حالة كثيراً ما يعاني منها بعض الناس عند رؤيتهم الدم أو مناظر العنف، طلبت منه أن يجلس لكنه رفض مدعياً أنه جندي في القوات المسلحة منذ حرب فلسطين عام 1948م، وأنه فعل بالصهاينة ما فعل...!!. وحين انصرفت لأخذ المسحة من الجندي التالي سمعت صوت ارتطام رأس صاحبنا بالأرض، فقد أغمي عليه، لم تنفع معه بطولاته المزعومة في فلسطين، تمّ نقله إلى المستشفى واتضح أنه أصيب بكسر في الجمجمة. تعافى الرجل من اصابته بعد أسابيع ولكن المنتسبين ظلوا ما أن يلتقون به أو يلتقي بهم حتى يغمزوه ويلمزوه مشيرين إليه قائلين بتهكم (جبناها لفلسطين).
جاء تسريحنا من الخدمة في الثلاثين من تشرين الثاني عام 1961م، كان يوم التسريح يوماً سعيداً، إذ سيكون اليوم الذي أقول فيه للديوانية (هذا فراق بيني وبينكِ). أقسمت في نفسي أن لا أدخلها بعد ذلك اليوم أبداً. غادرنا المستشفى بعد أن ودعنا الجنود البسطاء الطيبين وداعاً حاراً".

2
قراءة في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.
    في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.
    يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.
   في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.
   ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.
    لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.
   ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟
    في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.
    وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

3
قراءة في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.
    في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.
    يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.
   في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.
   ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.
    لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.
   ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟
    في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.
    وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

4
قراءة في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.
    في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.
    يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.
   في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.
   ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.
    لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.
   ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟
    في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.
    وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

5
قراءة في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.
    في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.
    يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.
   في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.
   ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.
    لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.
   ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟
    في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.
    وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

6
قراءة في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.
    في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.
    يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.
   في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.
   ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.
    لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.
   ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟
    في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.
    وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

7
قراءة في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.
    في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.
    يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.
   في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.
   ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.
    لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.
   ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟
    في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.
    وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

8
قراءة في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.
    في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.
    يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.
   في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.
   ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.
    لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.
   ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟
    في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.
    وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

9

قراءة في كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان (بشتاشان "خلف الطواحين".. وثمة ذاكرة، شهادة وليست رواية).
نبيل عبد الأمير الربيعي
    صدر عن دار الرافدين في بيروت هذا العام 2024 كتاب الدكتور والمفكر عبد الحسين شعبان الموسوم (بَشتاشَان "خلف الطواحين"... وثمة ذاكرة، شهادة وليست رواية)، الكتاب بحجم الوسط ويتضمن (247) صفحة مع المقدمة والاهداء إلى: أرواح نزار ناجي يوسف (ابو ليلى- النجف) وحامد الخطيب (ابو ماجد- عانة) ومحمد فؤاد هادي (ابو طارق- البصرة) ومحمد البشيشي (ابو ظفر- السماوة)، وكُسِرَ الكتاب إلى ستة اقسام مع ملاحق بأسماء شهداء بشتاشان الأولى والثانية، ونداء ورجاء، وبعض الالتباسات لتدقيق اسماء بعض شهداء بشتاشان، وملحق بالصور للمؤلف.
    في هذا الكتاب وضع الدكتور شعبان النقاط على الحروف في نقل القارئ الكريم وممن كان بعيداً عن الأحداث آنذاك إلى حقيقة مجزرة بشتاشان الثانية يوم 1 آيار 1983م، التي قام بها جماعة الحزب الوطني الكردستاني بزعامة نوشيروان مصطفى أمين نائب الأمين العام لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني؛ وما حدث، والأسباب الحقيقية لتلك الهجمة من قبل (أوك) على قوات انصار الحزب الشيوعي العراقي، فضلاً عن نقل القارئ الكريم بسياحة إلى اعماق الحدث وسلبيات قيادة الحزب الشيوعي في اختيار الموقع والاصرار على البقاء، حتى كان ما كان من استشهاد 70 رفيقاً من الحزب الشيوعي العراقي.
    وللتعريف بـ{بشتاشان}، فهي قرية كردية جبلية تقع في الشريط الحدودي العراقي المحاذي لإيران، وقد هُجَّر سكانَ هذه القرية وثلاثة قرى أخرى في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. والقرية كانت ذات موقع حصين عند سفح جبل قنديل، اتخذتها قيادة الحزب الشيوعي العراقي موقعاً يضم مقارّ للإعلام المركزي للحزب، ومستشفى ميدانياً، ومجموعة من الإدارات الخدمية، إضافة إلى مقر للمكتب السياسي للحزب. كانت هذه المواقع محمية بقوة مسلحة من أنصار الحزب القادمين من شتى أنحاء العراق، الذي كان يحمل السلاح ضد النظام الحاكم آنذاك. وكان الحزب الشيوعي متحالفاً سياسياً وعسكرياً مع عدد من الأحزاب العراقية والكردية. ويرى د. شعبان في ص97 أن موقع بشتاشان وقع الاختيار عليه في عام 1982م (بعد مناقشات بين المكتب السياسي والمكتب العسكري، وبين آراء معارضة أو مخالفة وآراء متحمسّة أو تحت ضغط الواقع، بسبب عدم الرغبة في التداخل مع القوات الإيرانية التي أصبحت على مقربة من قرية {داوداوا}، أي عند حدود {ناوزنك- نوكان}، حيث مقراتنا الأمامية القيادية. وكان رفاق من المكتب العسكري زاروا بشتاشان، وقرروا مع عدد آخر من الرفاق اختيار الموقع الذي يقول عنه "ابو شوان" غير صالح).
    ويعود د. شعبان ليؤكد خطأ اختيار موقع بشتاشان لأسباب لوجستية وسياسية وعملية في ص107، (وكان توما توماس، وهو من الأنصار المعتقِّين، قد تساءل باستنكار واستهجان شديدين عن العقل الذي يقف خلف اختيار بشتاشان كموقع لإدارة الحزب والإذاعة والإعلام والمكتب العسكري، خصوصاً أنه يعتبر ساقطاً عسكرياً بسبب عزلته وانقطاعه عن التجمعات السكانية، الأمر الذي يمكن من استهدافه، فضلاً عن كونه نائياً وبعيداً عن حلفاء الحزب الشيوعي وقواطعه الأخرى، مثل السليمانية وأربيل وبهدنان، وبقية المقرات العسكرية).
    ويرى الدكتور شعبان في كتابه ص199 أن (لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار، أولاً وقبل كل شيء، حقوق الضحايا واحتياجاتهم مع أسرهم في حال مفارقتهم الحياة، وهو ما ذهبت إليه اتفاقية شيكاغو لعدالة ما بعد النزاعات. والمسألة تتعلق بالرغبة في كشف الحقيقة، وعدم طمس الماضي لكي لا ننسى، بقدر الميل إلى التسامح، ولكن في الوقت نفسه لتوثيق الذاكرة... لقد طُويت تلك الأيام، ولم يعد استذكار ما حصل في بشتاشان يثير الحساسية السياسية القديمة ذاتها. ومهما كانت التبريرات، فليس هناك ما يعادل قيمة الإنسان، لكن الجيل الحالي، والأجيال المقبلة، تظل تستفسر وتبحث عن الحقيقة). هذا كان هدف الكتاب الذي وثيق فيه د. شعبان مجزرة بشتاشات التي عايشها وكان أحد الناجين منها. وكي لا يبقى ما حدث في كهف النسيان، وتوثيق ما حصل وتحديد المسؤوليات، فلم تكن مجزرة بشتاشان قضاءً وقدراً، بل كانت بفعل فاعل دبر بليل، وكانت شهادة الملا بختيار (حكمت محمد كريم) القيادي في أوك كما ذكرها في ص188 د. شعبان واحدة من الشهادات الجريئة الذي قال له نشيروان مصطفى أمين حرفياً: (لقد سحقت رؤوس الشيوعيين، وعليك تقطيع أوصالهم).
    ويسرد الدكتور شعبان في كتابه مواضيع تخص المقاتلين الأنصار في كردستان العراق ومنها (سرديات سيد هاشم الزمكانية) ص35-43، وهي عبارة عن رحلة وصول قيادات الحزب الشيوعي العراقي من جمهورية اليمن الديمقراطي آنذاك عبر جمهورية إيران الإسلامية حتى وصولهم مواقع فصائل الأنصار  ومنهم: معن جواد (ابو حاتم)، محمد جاسم اللبان (ابو فلاح) وسيد هاشم مالك علي، حتى يدخلنا المؤلف في محور احداث بشتاشان في الفصل الرابع واحداث الأول من آيار 1983م، ففي ص90 ينقلنا إلى تحالف أوك والحكومة العراقية، ذاكراً: (في تلك الأجواء الملتبسة، والمنافسة غير المشروعة، ألتقت مصالح الاتحاد الوطني الكردستاني {أوك} مع مصالح الحكومة العراقية، التي يهمها التخلص من خصومها: الحزب الشيوعي وأنصار (جود) - الجبهة الوطنية الديمقراطية بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستان والحزب الاشتراكي الكردستاني-، وخصوصاً الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك). وتم اللقاء بين أوك والحكومة العراقية عبر مسؤولين رفيعي المستوى، وصلوا إلى المنطقة عن طريق الدكتور عبد الرحمن قاسملو (الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني- حدكا)، الذي كانت علاقته وطيدة مع بغداد، فضلاً عن علاقته الجيدة مع أوك، ومع مام جلال الطالباني بشكلٍ خاص، في حين كانت علاقته سيئة مع حدك). ويضيف د. شعبان في ص91 حسب ما ذكره قادر رشيد (ابو شوان)؛ أن (مقاتلي أوك كانوا يستعدون منذ أواسط نيسان/ أبريل 1983، أو حتى قبله، للهجوم على مقراتنا الرئيسية في بشتاشان، بقيادة ناوشيروان مصطفى أمين، حيث تم تحشيد أعداد كبيرة من القوات للقيام بهجوم مباغت... وكشفت بعض الوثائق أن مثل هذا الأمر تقرر بفترة أبكر من ذلك لا سيما بعد حوادث 11 شباط/ فبراير 1983، حيث تعرضت مفرزة تابعة للحزب الشيوعي للبريد الحزبي إلى عدوان مبيّت من قبل مسلحي أوك، استشهد فيه ثلاثة من الرفاق، وتم أسر 4 آخرين).
    فاتخاذ موقع بشتاشان قد يكون بدون دراسة معمقة، فضلاً عن تكدس عدد كبير من الأنصار غير المقاتلين في الموقع، (بعضهم من كبار السن والمرضى، أو من العوائل، وبعضهم لا يعرفون استخدام السلاح) ص109. يذكر د. شعبان في ص111 (بدأ زحف قوات أوك على مقراتنا منذ يوم 29 نيسان /أبريل 1983، ابتداءً من رزكة ثم قرناقو وحتى أشقولكا، حيث يوجد مقر للحزب الاشتراكي الكردستاني أيضاً وصولاً إلى كاسكان، ومن بعدها محاصرة بشتاشان والنزول إليها من الأعلى عصر يوم 1 آيار/ مايو، وكان الهجوم قد بلغ أوجه فجراً. كانت إدارة الحزب قد قررت، في اجتماع ضمّ أعضاء من المكتب السياسي واللجنة المركزية (الموجودون في بشتاشان)، عدم المواجهة والانسحاب، وذلك في 30 نيسان/ أبريل 1983. حيث انسحبت مفرزة واحدة مساء ذلك اليوم، وبقي كريم أحمد وأحمد بانيخيلاني، اللذان انسحبا ظهر يوم 1 آيار/ مايو باتجاه روست مع مفرزة كبيرة). ويعقب في ص110 قائلاً: (ففي حين كانت المعركة دائرة وما بعدها من تداعيات، وقعَّ خبر توقيع بيان مشترك بين كريم أحمد (ابو سليم) وجلال الطالباني (ابو شلاّل)، والذي أذيع عبر إذاعة أوك، وقع الصاعقة على الأنصار الشيوعيين، علماً أنه كان أسيراً هو وأحمد بانيخيلاني وقادر رشيد وعدد كبير من الأنصار، قُتل منهم في الحال 25 رفيقاً بعد أسرهم، وغالبيتهم الساحقة من العرب. كما وقّع بهاء الدين نوري اتفاقية مع أوك عُرفت باسم (اتفاقية ديوانة)، وذلك بعد فترة قصيرة من مجزرة بشتاشان). لذلك نجد تصرفات كريم أحمد وبهاء الدين نوري آنذاك تصرفات متخبطة في مواقفهم وسياساتهم الخاطئة في توقيع البيانين، مما شعر انصار الحزب بالمرارة والهزيمة، وتسرع في اتخاذ القرارات، فأصبح النقد مهيمن على سلوك بعض المقاتلين من الحزب. ثم يسرد د. شعبان ما وقع من مجزرة بشتاشان ويربطها بالهجوم البعثي على الحزب عام 1978 ومطلع عام 1979 متذكراً العبارة المشهورة (دبّر نفسك يا رفيقي) ص114.
    العمل العسكري وفي واقع أرض جبلية وقتال مع قوات حكومية مدججة بالسلاح الخفيف والثقيل يحتاج إلى دراسة وحسابات، لكن أجد من خلال اطلاعي على احداث بشتاشان منذ عام 2001م من خلال رواية الأديب عامر حسين (خلف الطواحين) التي تم استعارتها من الرفيقة (نصيرة عواد كراد) المقيمة في الدنمارك وقتذاك، واستطيع القول أن معركة بشتاشان كانت معركة ثأرية دون حساب تواز القوى والظروف الموضوعية والإمكانات الذاتية، ولم نتعلم من تجاربنا السابقة في التحالفات والمعارك وحمل السلاح، وكانت الحكومة العراقية هي المستفيدة من تلك المعارك، فكانت النتائج سقوط عدد آخر من الشهداء والهزائم المتكررة والبلبلة الفكرية والتراجع السياسي، وزادت من الهوة بين القيادة والقاعدة بسبب ضعف الثقة الحالة النفسية للقوات الأنصارية، فضلاً عن الضعف الفكري والسياسي، لذلك كان دخول الحزب الشيوعي العراقي في جبهتين (جود، وجوقد) غير صحيح في ظل قوى متخاصمة راح ضحيتها أكثر من 70 شهيداً بدلاً من أن يكون موقف الحزب موقف سلمي كحمامة سلام، فالتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني أزعج حزب الاتحاد الكردستاني المتحالف مع الحكومة فوقعت الكارثة.
    ثم يذكر د. شعبان في ص126-134 تحالفات الحزب مع البعث عام 1973م، منتقداً سياسة الحزب قائلاً: (وهكذا تم الانتقال سريعاً من سياسة التحالفات مع حزب البعث إلى سياسة نقيضه، فتحول البعث من حزب قاد التغيير الثوري، وفيما بعد أصبحت ثورة 17 تموز/ يوليو متقدمة في العالم الثالث {1976- المؤتمر الوطني الثالث للحزب الشيوعي}، إلى حزب فاشي، أو ديكتاتورية فاشية، أو ديكتاتورية بأساليب فاشية 1979م). وأنا أرى أن الدكتور عبد الحسين شعبان قبل مجزرة بشتاشان كان قريباً من قيادة الحزب الشيوعي والمكتب السياسي، فهو الذي عمل في الجانب الإعلامي في بشتاشان، فلماذا لم يوجه لهم النقد أو الحوار دون التجني عليهم في كتابه هذا؟ أم أن هذه الانتقادات في هذا الوقت هي نتيجة الصراعات السياسية والحركة الانشقاقية التي قادها بعض قيادات الحزب ممن لم ينتخبوا في المؤتمر الرابع، حتى وصل الصراع الداخلي إلى طريق مسدود وضاقت بهم السبل للاختيار بالتعبير عن الرأي في حركة المنبر، خارقين قواعد الحزب التنظيمية، واصدار صحيفة الحركة الانشقاقية (المنبر)، وقد كان د. شعبان رئيس تحريرها في بيروت، لذلك اتخذت قيادة الحزب الاجراءات الانضباطية بالتنحيات والفصل والعقوبات المختلفة.
    ويذكر د. شعبان في ص152 من الكتاب أنه (كان نوري عبد الرزاق، المؤسس في حركة المنبر والمنسّق العام لها، قد أحاب على استفسار وجهه له عزيز محمد، أمين عام الحزب: {ماذا تمثّلون؟}، حيث قال له: {اخترنا طريق قول الرأي العلني. لسنا منشقّين}، ولا نزعم أننا نمثل الشرعية، ولكن ذلك اسلوب جديد في الصراع الداخلي، بعد أن سُدت المنافذ في وجوهنا. وهناك قضايا عُقدية سبق وأن وقعت خلافات بشأنها، مثل الحرب العراقية- الإيرانية، بالإضافة إلى قضايا نظرية وتاريخية).
 ويعاود د. شعبان في ص181 ذاكراً حال المنشقين عن الحزب، (وتأكدتُ لاحقاً، من خلال تجربتي العملية، من أنه ليس بالإمكان إحداث تغيير أيضاً عبر الانشطار أو الانقسام، تحت عناوين {الشرعية} أو {التصحيح} أو {صواب النهج السياسي}، وهي العناوين التي يستخدمها الفرقاء، فضلاً عن {اليمين واليسار} و{الإصلاحي والمغامرة}. فقد فشلت انشقاقات مماثلة سبقتنا، سواء كانت على صواب أم على خطأ، ومثل هذا الاستنتاج لا يخصّ الحزب الشيوعي وحده، بل ينسحب على مجمل الأحزاب والتيّارات ذات الأيديولوجيات الشمولية، التي تنسى كل شيء وتظلّ تحارب أصحاب الرأي باسم {نقاوة النظرية} في الأحزاب الشيوعية والماركسية أو {الوحدة العربية المقدسة} و{تحرير فلسطين} في الأحزاب القومية العربية والبعثية....الخ). ولا اعرف من خلال كلمات الدكتور شعبان هذه هل هو نادماً على حركة المنبر والانشقاق عن جسد الحزب الشيوعي العراقي، مع احترامي له ولفكره، فهو قامة عراقية وعلم من اعلام العراق لا يمكن ليّ أن أصل مقامه الكريم، وارجو أن لا يفهم كلماتي هذه بالخطأ، فأحدهم عدما كتبت قراءة بحق كتابه (نصف قرن في رحاب الحركة الشيوعية) الصادر عن دار الرافدين في بيروت عام 2023م، ارسل لي رسالة على الماسنجر {احتفظ بها في ملفاتي اليوم} بكلمات نابية وشتائم لا تنسجم مع مهنته كطبيب ومناضل وكاتب كما هو معروف، ولكن (الاختلاف لا يفسد في الود قضية) كما يقال، إلا أن يحاول أن ينال منيّ كوني اختلفت معه في الآراء والأفكار أو في الموقف، فالكلمات النابية لا تحل أمراً، فهذا لا يليق بحضرته، أما أن يستخدم ضغوطات ووساطات لسحب مقالي فهذا مُعيب، فلا اعرف هل استخدام الكلمات النابية قوَّة أم ضعف موقف، كيف يكون موقف الإنسان الشريف والنبيل مشرّفاً ومشرقاً وهو يستخدم الكلمات النابية، وينزل إلى مستوى متدني في الألفاظ النابية والكلمات والمصطلحات غير المتوفرة في قاموس ابناء الشوارع. مع الأسف الوسط الثقافي والأدبي والحزبي اليوم مأزوم ويعيش حالة من التدني والانحدار الأخلاقي والسياسي.
   مع كل الخلافات التي تحصل بين اعضاء الحزب وسياسة القيادة لا بد أن لا ننسى بأنه من الاستحالة الانفصام عن كيان الحزب وجسده، مهما اختلفنا أو تقاطعنا بالأفكار والآراء وسياسة الحزب، فنحن كبرنا وتربينا في حضن وكنف الحزب رغم العذابات والمرارة اللاذعة.

10
هاشم مطر وقطوف التجربة النقدية في أدب سهيل سامي نادر
نبيل عبد الأمير الربيعي
صدر عن دار قوس قزح في كوبنهاكن مطلع عام 2024 للناقد والأديب هاشم مطر كتابه الموسوم (قطوف التجربة.. نقد النقد في أدب سهيل سامي نادر) بواقع (190) صفحة من الحجم الوسط، كان بتقدم الكتاب من قبل الدكتور خالد السلطاني بمقدمة مؤازرة وحميمية. يتناول الكاتب في هذا الكتاب جهد الاستاذ الكاتب والناقد سهيل سامي نادر النقدي والكتابي والمعرفي. ويعد الكتاب مساهمة في مجال (نقد النقد) وحركية النص. وجاء الكتاب بواقع ـ(37) عنواناً، تناول فيها أغلب اصدارات سهيل معتمداً على أكثر من (55) مصدراً مهماً.
لغة الكتاب سلسة للقارئ الكريم البعيد عن القراءة النقدية، حيث اتبع الكاتب المقارنة والمقاربة بالنصوص النقدية الصارمة، وهو عمل أثير يستحق المتابعة والقراءة. في البدء لا بد من التعريف بالناقد والأديب والصحفي سهيل سامي نادر؛ ولد سهيل في البصرة عام 1943؛ كان أبوه أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي في البصرة، حصل على اللجوء في مملكة الدنمارك في الفترة التي اقدمت فيها على اللجوء في المملكة مع الأستاذ احسان أدهم. أصدر عدة مؤلفات منها: التل (رواية)، عن دار المدى، بغداد - 2007. التل: رواية. دار المدى. سوء حظ: ذكريات صحفي في زمن الانقلابات، عن دار المدى للنشر والتوزيع، بغداد - 2020. ونزولا من عتبات البيت، عن دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد - 2020. وشاكر حسن آل سعيد: سيرة فنية وفكرية، عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد - 2016. والخشن والناعم، عن دار الأديب، عمان - 2013. ومؤلفات أخرى، ومقالات كثيرة.
 
استعرض الكاتب في المقدمة ص13-14 قائلاً: "محتويات الكتاب ليست مبنية على فصول.. فالكتاب لم يأتِ على نحو دراسة منهجية حسب آلية البحوث الدراسية التي تبتغي التأهيل.. خصوصاً وإنني إزاء أعمال كاتب كبير ومعروف هو سهيل سامي نادر... وجسد البلاد الذي أوشك جسد سهيل أن يحاكيه بحديته واضمرار هيأته.. إنما توزعت تجربته على الصحافة وانقد الفني والأدبي، كذلك النقد السياسي ثم جهده الروائي"، فقد ابتلى المثقف والأديب في هذه البلاد بكل شيء محزن بسبب ألوان الأنظمة والاستهتار السياسي، فكان للمثقف المنتصر لمبادئه النبيلة قد تكلفه حياته أو الهجرة أو الاعتقال أو خارج البلد وهذا ما حدث مع الأديب سهيل سامي نادر.
وفي ص17-18 يسلط هاشم مطر الضوء على كتاب سهيل نادر (نزولاً من عتبات البيت) الصادر عن دار المدى 2021، اشار إلى لغة الكاتب كونها "لغة مركبة بالرغم من جهد الكاتب لجعلها مبسطة وواقعية تساير موضوعاته المختارة في كتبه... فالجملة لديه ليست شاعرية أو فضفاضة المعنى... بل هي اشتقاق للمعاني على وفق سيميائي... وهي مهنية نادرة قوامها التلاقح المعرفي". وهو يبين بموجبها سيطرة الكاتب سهيل على خزينه المعرفي المترامي الأطراف وقدرته الاستنطاقية للأشياء مما يضعنا على مستوى من المساواة.
ويرى الاستاذ مطر أن كتاب سهيل (نزولاً من عتبات البيت) يلتمس من مقاله الأول في ص19-20عن "بغداديات جواد سليم وقدرته التعشيقية المذهلة لماضِ وحاضر... واستوفى شروطه المؤسسة آنذاك من حيث بؤر المعرفة والحياة... أفرد له الكاتب مساحة معتبرة من كتابه وأعماله". لكن نجد في كتابات سهيل الظاهرة والحلول الجمالية فتكون سلطة النقد أكثر مضاءة ودون مجاملة، كما أثث الكاتب من جانب آخر جمالية اشتقت طريقها كبذور نابتة في الأرض.
ويرى هاشم مطر أن ما كتبه سهيل بهذا المعنى هو "رحلة مشاركة رصد أثرها حداثياً بمنجز فني صادم، فيما كان هو ذاته يتحرك سردياً كما تتحرك المدينة باتجاهات عدة" ص22. إلا أن سهيل نجده في سياحة أمام عالم الصور وكثافتها وابعادها، ويؤشر على دائرة الصراع الأخلاقي والاجتماعي، بما فيه من اضطراب سياسي في جدارية جواد سليم، وقد رحل الأخير دون أن يكن له حضور عند افتتاح منجزه الفني. لذلك يرى هاشم أن سهيل يلتقط في مبحثه كناقد "لمعنى الرسم في البغداديات فكرة تفكيك العزلة، وهي الفكرة التي أسست إلى ثقافة أوربية ناهضة بعد الحرب العالمية الثانية... ومع أخذه المواجهة الصريحة التي سخّر لها الكاتب عصارة ذهنه المتقد ليبدو مغرداً خارج السرب الذي بدأ برحلة نقدية اتسعت فيما بعد" ص24. لذلك أجد من خلال النص الذي كتبه هاشم يحتاج سهيل إلى رحلة نقدية تفكيكية لما يحصل في التاريخ.
ويرى الناقد هاشم مطر في مادة سهيل المعنونة (الصورة المؤجلة لشارع الجمهورية)، في ص25 المطلوب "بعث الماضي بازدهار عمراني في الحاضر، وعليه سينحو سهيل في نصه إلى رؤية تفكيكية يكتنفها الحنين (كتذكارات بصرية) تشكل في الأغلب ذكريات منقبضة ترسم صورة حديثة جداً، خربة، لانعدام الجدوى في التخطيط العمراني الجديد". لذلك نجد التخطيط العمراني لأي مدينة لا يمكن أن يتم من دون مختص آركيولوجي، فما بالك بمدينة عتيقة ذات شرايين متقطعة ورئة مدمرة مثل بغداد، مع غياب ذهنية متّقدة جعلت كثيراً من مدن العالم معالم سياحية أثيرة إلا بغداد، فالبعض يرغب بتغيير أسماء شوارعها كونها لا تنسجم مع توجهه الطائفي مثل شارع الرشيد. لكن سهيل نجد له حنين وتساءل عن الفوضى التي حصلت في بغداد وشارع الجمهورية وأزقة أسواق الشورجة والغزل.
وفي مقال لسهيل (عتبات دائرية تصعد إلى البصرة)، يستطلع الناقد هاشم المقال ويجد أن البصرة تظهر في مقاله ص28-3- "كترميز مكاني لغياب دائم الحضور كحفر لأثر هيروغليفي يبدو طلسماً من دون شفرة. بل آثر سهيل بنفسه على إضاعة الخارطة التشفيرية حتى في طواعيتها. المطرقة لا تهدأ والحديد لا يلين، فيما يتحمل قلب الكاتب الضرب الشديد!... في وقت لن تبقى النخلة نخلة من دون مكان هو (البصرة) كما لن تبقى البصرة جغرافياً من دون ذاكرة متحولة تستدعي (حزن مشترك)". فضلاً عن أن هذا يقع في خانة الاشتغال الذي ألزمنا به أنفسنا لتوضيح آلية باختصار. وكقاعدة عامة إن كنت تقرأ مادة لن تلهب مخيلتك ولن تستدعيك لمشاركتها فأترك القراءة واستمتع بشيء آخر. فالمتابع لكتابات سهيل يرى بوضوح مغامراته في تناول أي عقدية لا تفتح رتجها إلا بمفتاح يمتلكه بنفسه لوحده. ولذلك نجد سهيل كناقد يقوم بعملية جراحية واجتراحية في نصه تقابله ميسرة بين النص والمرجع وقراءته النقدية.
فالناقد هاشم مطر نجده يأخذ بتفكيك اغلب مقالات سهيل سامي نادر ومادته من النصوص للحد الذي يكون فيه أعلى دراية باللغة واستخداماتها، ففي مقال سهيل (أحيا وأموت ع البصرة)، وهي مادة استكشافية لما يحدث وحدث عام 2008 في مدينة البصرة من اغراق أهلها بالحرب والاطلاقات النارية والصراع والفوضى والفقر والنذالة ووأد النساء من قبل المتريّفين أصحاب اللاوطن والهوية بعد حصولهم على مكافأة الديمقراطية، يتساءل سهيل "والسؤال للكاتب: فما الذي امتلكته مدينة يسرقها متدينون؟ سوى أن البصرة مليئة بالفقراء والوحوش"، لكن نجد الناقد هاشم يرى في ص37 أن "أهل البصرة الحقيقيين الذين ملاذهم (العمق اللامرئي) غير العابئين لقلة حيلة ومقام أرفع". لذلك نجد سهيل قد حشر نفسه بين سواد الأفكار، فهو الباحث عن صورة الإنسان بصفة التفوق والإتقان.
وهكذا يأخذنا الناقد هاشم مطر بسياحة في المادة الجميلة للكاتب والروائي والصحفي سهيل سامي نادر، فقام بتفكيك مادته بشكل جميل يرضي القارئ وأنصاف الأستاذ سهيل، ذلك الصحفي والناقد والأديب العاطفي والباحث عن الذخيرة المعرفية لكشف الحقول المعرفية كمنقب آثاري. فقد تناول الأستاذ هاشم الكثير من مقالات سهيل ومنها: (تأملات الآثار، الموت، السلطة)، ومقاله عن (جبرا)، و(الأطروحة الفنتازية لعلي الشوك: حكة جرح منسي)، و(الذي زارني في احلامي) وهي مقالة عن المخرج سامي محمد، و(ليث متي)، و(الجدلية)، و(غير المترابط)، وغيرها من المواد التي كتبها الأستاذ سهيل سامي نادر.
والموجز لمقالات سهيل سامي نادر نجدهُ مغامراً من خلال عرض أفكاره، ودائماً ما تبدأ مقالاته بخبر يجتهد أن يضع فيها ما سيكون خادماً لسرديته.

11
علاء حمد والثقافة النصيّة في مدونة الشاعر حميد العقابي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل، صدر للأديب والناقد علاء حمد كتابه الموسوم (الثقافة النصيّة في مدونة الشاعر العراقي حميد العقابي)؛ بواقع (194) صفحة من الحجم الوسط، وغلاف الكتاب يحمل صورة الشاعر الراحل حميد العقابي.
كُسِرَ الكتاب على مقدمة وأربعة فصول، معتمداً الكاتب على (36) مصدراً أدبياً نقدياً، والناقد علاء حمد المقيم في الدنمارك صدر لهً أكثر (21) مؤلفاً بين النقد الأدبي والشعر، وهو الرافض للتمييز بين شعراء الوطن العربي من حيث المذهب أو الطائفة أو الدين، متجاوزاً الرؤية الشوفينية والعنصرية، فكان يشده النص النوعي للكتابة، معتمداً التفاؤل الكتابي بعيداً عن السلبيات، وفنية النص الشعري الحديث.
أما موضوع الكتاب في مدونة الراحل حميد العقابي؛ فالعقابي من مواليد الكوت، 12 حزيران 1956، اكمل دراسته فيها، ثم سنحت له الفرصة أن يستقر في مملكة الدنمارك عام 1985م، نتيجة الظروف السياسية في العراق آنذاك وموقفه الرافض للعنف والدمار وافتقاد العدالة، بعد رحلة عذاب بين الأسر في إيران منذ عام 1982 والرحيل نحو سوريا، ثم الدنمارك كانت محطته الأخيرة ومنفاه الذي دفن فيه، ورحل عن عالمنا إثر أزمة قلبية مفاجئة يوم 3 نيسان من عام 2017م، وقد صدر للعقابي (11) ديواناً شعرياً، و(10) مؤلفات بين الرواية والقصة.
يسترجع الناقد والشاعر علاء حمد في كتابه العلاقات النصية والوظائف الدلالية في النص والبنية النصية في قصائد الراحل حميد العقابي معتمداً على النصوص الشعرية للعقابي على المستوى العرفاني والمقاربات التداولية من خلال الضوابط والارتباطات والمعاينة الرمزية واللغوية والعلاقات الدلالية الحركية الانتقالية والعلاقات المقطعية في قصائد العقابي.
يرى علاء حمد في مدونة الشاعر العقابي أن الأخير استطاع أن ينتج نصوصاً بمجاميع شعرية مختلفة، وقد اختلف إنتاج النصّ لديه من ناحية التقليلية الزمنية، ومن ناحية التقشف اللغوي، فهو يعتبر بأن المفردة، مفردة شعرية تنزل بمفاهيم تركيبية لتكوين المستوى النصيّ، ومثال ذلك قصيدة العقابي (أمطار الدرويش) من ديوانه (حديقة جورج) ص8:
أيّ فألٍ أقرأ في كفّ القتيلْ
       حرّية حرباء
       أم صمتاً ثقيلْ؟
أيّ فألٍ أقرأ الليلةَ في كفّي
         جمراً
    أم ترى أقرأ كفيّ نجمَ المستحيلْ؟
أيّ فأل أقرأ الليلة في كفّ العراق
          حرّية،
         نخلاً،
         رحيل؟
يجد الناقد علاء حمد في ص24 أن "النص يتكون من وحدات لغوية منسجمة مع بعضها، فإن الجملة الشعرية في بعدها الفوقي وبعدها الدوني من حيث مستوى الاندماج، أي أن تكون منفصلة من ناحية المعنى وتنتهي بنقطة دالة". وهذه نتيجة حتمية تقود الشاعر العقابي إلى الدال الذي سخره من خلال حركة الفعل (أقرأ)، فيرى العقابي من خلال قراءة المشهد العراقي بين القتيل والحرية وبين الصمت والرحيل، فالدرويش له أمطاره الخاصة، وأنفراداته في القراءة.
أما قصيدة (الوهم) ص14 من ديوان (حديقة جورج):
يبتدئ الوهمُ
لكنّ سرعان ما ينتهي بالمحالْ
كيف يبتدئ الوهمُ
أو ينتهي بالمحالْ؟
ها أنا
أتوهم أنّ السؤال بابُ أغنيةٍ
ثمّ أوغل في الوهم
أحفر
أحفر في الأغنيات
أنقّب عن غجرٍ ضائعين
أو قبائل قانعةٍ بالزوالْ
قصيدة الوهم تبين الوضعية الاستدلالية في استدعاء المفاهيم التي قصدها الشاعر من مفاهيم دلالية، إذ يرى الناقد حمد في ص29 "نحن أمام ثلاثة مقاطع ضمن نصّ متواصل، لا يفصل بينهم سوى البياضات، ومن الممكن جداً أن يتحوّل الشاعر من حالة إلى أخرى، أو من بحر إلى بحر آخر، ويحافظ على المبنى النصيّ؛ هي العلاقة المتواجدة، علاقة المعاني التي تمتدّ من مقطع إلى آخر". لذلك نجد الشاعر يميل إلى اللغة الإدراكية الفعالية على خلفية تأويلية ويثقلها بالكينونات اللغوية التي تتماشى مع التفكر الشعري.
أما قصيدة (سباخ) من نفس الديوان اعلاه ص29، فيقول الشاعر
أيدوزنُ أوتاره؟
أم
يدوزنُ أوزاره؟
أم يمنّي؟
 
ماصخاً كان صوت المغني
وناي الضرير
البحور الخفيفةُ ماصخة
ماصخٌ ثدي أمّي
وخبز الرحيلْ
مفردات القصيدة مقاربات ايحائية في الاختلاف اللغوي وارتداد المعاني. ويرى الناقد علاء في ص30 أن الشاعر اعتمد "على تأطير النصّ لبناء حركته وتحقيق فعل المتخيّل التي كانت من نتائجه المعاني، وقد اعتمد على دلالة مركزية في تحريك الجمل الشعرية؛ فمفردة (ماصخ) أي عديم الطعم من المفردات المتداولة لدى العراقيين". فالشاعر اعتمد الاختزال المركزي في اختيار المفردات الدارجة الشائعة في الوسط العراقي.
وهناك قصيدة للراحل العقابي من ديوان (حدائق جورج) ص30 بعنوان (هاوية)، يذكر قائلاً:
ها
   وية تحتفي بمكائدها
تتفرّس بالفأس
تقرأ ما يختفي في الرخامْ
ظمأ يتضوّع
والشمس غيمة
       نثرت فوق أحلامنا – الشمع
                  قطراتها
جمرة الماء ترغي
ولامّ
غير غدٍ غارقٍ في الرغامْ
ها    وية تحتمي بمكائدها
وظلامْ
نلاحظ أن الشاعر "يحاول أن يقسّم الوحدة اللغوية الصغرى إلى أجزاء، فمفردة (ها   وية)، وهي تمثل كلمة مفردة، أي أنّها تمثّل أصغر وحدة لغوية بدأ بها الشاعر" ص32.
لكن الشاعر وبشكلٍ هادئ يخرج ذاكرته في احداث الثاني من آب 1990 بقصيدة تحت عنوان (كثبان) من نفس الديوان ص32 قائلاً:
في الثاني من آب
خرجت ذاكرتي، تحملُ معطفها الوبريّ
تدفئ شمساً تحتضر الليلةَ
كنتُ المجبرَ أن أنصت للذئب العاوي
كي أوهم أغنيتي
أنّ هنالك قمراً للغيّابْ
في الثاني من آبْ
يطرق دجلةُ بابي
يدخل مكتئباً
يتكوّر مرتجفاً في الركنِ
ويطلب عودَ ثقاب
ثمّ يغادر كالطيفْ
في الشارع
ألمحُ نهرً يركض
         يركضُ
         يركض محترق الأثوابْ
"فقد تطرق الشاعر إلى نهر دجلة، وبما أن النهر يشق بغداد إلى شقين (الرصافة والكرخ) فقد انتمى الشاعر إلى الشقين متابعاً وملاحقاً النهر الذي اتخذ منه دلالة مركزية" ص36، يستنتج الناقد علاء حمد إلى الانتباه المركزي والتلقائي والحدث الشعري والتفكر المعرفي حيث يكون الشاعر في هذه الحالة على معرفة بالهدف التفكري الذي سيخترقه من خلال النص الشعري. فكل ما يدور في النص يعد من الأدوار التداولية؛ وذلك من خلال قصدية المعنى والتأويل وتسيّد الجمل.
من خلال القصيدة اعلاه تولى الشاعر المعنى كموضوع، وذلك من خلال تجريد الذات من المعاني المباشرة. و"هنا جعل الذاكرة، ذلك الكائن الحركي، إسوة مع الأفعال الحركية التي استوطنت في النصّ" ص35.
وقصيد العقابي (مشهد/ حلم) من نفس الديوان ص47؛ يستذكر الشاعر طوابير الشحاذون كصفوف العسكر ينتظرون الله، قائلاً:
بابُ وحيدُ في صحراء
والشحاذون طوابيرَ
           طوابير
ينتظرون الله
 
فجأةً
تفتح البابَ امرأةً عارية
فتندفعُ أمواجُ دلافين.
يرى الناقد علاء حمد في ص38 أن الشاعر قد "وظف مفردة (طوابير) والتي لها علاقة بالصف (وغالباً تستعمل المفردة في المعسكرات)، فهنا، الجملة تنقلنا إلى حالة التشبيه ضمن الاستعارة (الشحاذون طوابير) أي أنهم مثل صفوف العسكر؛ وكما الطابور العسكري ينتظر الضابط، فطابو الشحاذين ينتظرون الله".
وهكذا يستمر الناقد والأديب علاء حمد في تفكيك قصائد الراحل العقابي من دواونه؛ منها: ديوانه (حديقة جورج) الصادر عن دار قوس في كوبنهاكن عام 1996، و(الفادن) الصادر عن دار ألف في مدريد عام 2015، و(صيد العنقاء) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2017، و(التيه) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2015، و(واقف بين يدي) الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1987.
من خلال ما ذكرنا اعلاه نجد الناقد قد فكك القصائد الشعرية وفق العتبات والبنى النصيّة والدلالة والاستدلال، وفاعلية المفاهيم واللغة النصيّة والتأويل، واجاد في ذلك واعطى كل مفردة من القصائد حقها في دراسته النقدية هذه.

12
نقابة الفنانين العراقيين تكرم ايقونة المسرح الحلي غالب العميدي
نبيل عبد الأمير الربيعي
    لكل عصر ثقافته وأفكاره السائدة، كذلك كانت لعصرنا وسائل تعبيرية عن تلك الثقافة وعن تلك الأفكار. فأصبحت الصورة ولغة الجسد في المسرح هي المعبرة عن الفكر الإنساني المعاصر في عصر العولمة. والحداثة وما بعدها.
   كرمت نقابة الفنانين العراقيين/ المركز العام يوم أمس الأحد الموافق 27/1/2024 الفنان المسرحي غالب العميدي، والذي يعد ايقونة المسرح في محافظة بابل، وبحضور نخبة من الاساتذة المسرحيين الذين اثنوا على مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء والإبداع، بالعديد من الانجازات المسرحية تمثيلاً وتأليفاً وإخراجاً، والفنان العميدي له الدور الكبير في النشاطات الفنية والمسرحية في المحافظة، وله الدور في احياء النشاط المدرسي عندما كان مديراً لهُ، كما كان لهُ الدور الكبير في نقابة الفنانين/ فرع بابل عندما كان نقيباً. وقد تم تكريمه بحفل بهي من قبل نقيب الفنانين الدكتور جبار جودي، وقدم الجلسة الحوارية الدكتور محمد حسين حبيب. وانتهت الجلسة بتوقيع كتابين مؤلفين في سيرة الفنان العميدي.
    والأستاذ غالب العميدي هو الفنان والكاتب والمخرج الذي استطيع القول إنه بحق يمكن أن يكون عيَّنة المسرح العراقي بجدارة لما حققه خلال أربعة عقود أو أكثر من الزمن، من حضور وانجاز متواصل وإضافات نوعية سواء من خلال أعماله المسرحية التي وجدت طريقها للجمهور، أو عبر ما كتبه في مجال التأليف، أو ما شارك به من خلال الإخراج الذي كان بمثابة المختبر لتنضج داخلها تلك الأفكار، وتتطور مواهب الممثلين أو تتلاقح فيها خبرات الفنيين، وتتعمق العلاقة بين طرفي الأرسال والاستقبال، ومن خلال الأعمال الكثيرة والتي أصبحت اليوم تشكل رصيداً في مسيرة المسرح العراقي لا يمكن تجاهله.
    فهو رجل استثنائي في محيطه المهني والفني والإنساني، استثنائيته المهنية أنه إداري ناجح يجيد مهارة الإدارة في زمن التقلبات السياسية والإدارية، ويستطيع أن يستوعب الجميع بتطبيقه العادل للقوانين، وتغليبه روح القانون على صرامة القوانين وتعسفها أحياناً. واستثنائيته في المجال الفني تكمن في جمعه بين الإدارة والإنتاج الفني، فهو كاتب ومخرج وممثل حاضر في المشهد البابلي بامتياز، ومنذ عقود وبالكفاءة نفسها. وقد وجدت في نجاحة من خلال مواكبتي للعمل معهُ في ثلاث مهرجانات أقيمت بمناسبة تمصير مدينة الحلة، فضلاً عن دوره الكبير في دعم ومواكبة ملتقى العشرة كراسي الذي يقيم في مكتبة ودار الفرات كل خمسة عشر عاماً، فضلاً عن دعمه لمجلة الملتقى.
   والعميدي تاريخهُ الفني والمهني حافل بالإبداع، تجد فيه من القيَّم ما يجعلك في مواقف وتساؤلات، ومن خلال شخصيته بحق؛ تقف في مصاف قائمة أولئك الذين خدموا وطنهم وقدموا للبلاد إخلاصهم. وإن حياة هذا الرجل وما مرَّ بتاريخه الفني المسرحي من أحداث ووقائع تضفي عليه لا القيمة التاريخية حسب بل والقيمة الفنية والوطنية والأدبية والاجتماعية أيضاً.
    فهو أحد الناشطين في الحقل المسرحي البابلي والعراقي، وكونه من المخلصين الصادقين في هذا الحقل من اجل تحقيق المثل الأعلى فيه، لذا تعد حياته صفحة من صفحات العمل الفني والوطني، ونلاحظ هنالك تداخل في تجربته، فهو يجمع بين الإعداد والتأليف والإخراج, وإن هذا التنوع ربما يشتت جهود الفنان، ولكن بالمقابل هو تأكيد لسعة خبراته والمامه بتفاصيل عناصر الفن المسرحي، وتأكيداً على خبرته في هذا المجال، فهو يسعى لرفد أعماله بروحه العراقية، مستفيداً من التقنية في تأطير هذه الروح، ولكن يعتمد على المزاوجة لكي لا يبتعد عن جذوره الاصيلة وروحه الوطنية التي انطلق منها.
    ويستغل المبدع غالب العميدي تلك الألفة مع زملاؤه الفنانين، لكي يربط علاقة متواصلة بين العرض المسرحي، بكل تشكيلاته، والمشاهد بكل كيانه، وقد كوًّن طقساً خاصاً مليئاً بالألفة والانسجام والجو الحميمي. ولأن الفنان العميدي في طبيعته ميال إلى التوفيق بين التجريب والتراث والحديث، فهو فنان يعتبر وسيطاً للثقافات لأنه يعتقد في التجريب لا يمكن أن يكونا صورة مستنسخة لماضي راسخ في تراكمية الفنان، وهي الجاهزية في الأسلوب.

13
الثلاثي الأقدس في مخلوقات الفنان سعد علي
نبيل عبد الأمير الربيعي
    إن الفن الحقيقي لا يعيد الأشكال ولا يكرر الصوَّر المفتعلة، بل يكمّل كلَ جميل ببراعة تكتيكية أجمل. والصورة الواقعة والمنطبعة تثير وتستنير بتفاعل وصراع جدلي مع ما في حقيقة الواقع من متناقضات، وأن قيمة الفنان عالية بقدر ما يتمكن من الاقتراب أكثر من قضية المتناقضات الأكثر جوهرية في عصره.
    الفنان سعد علي العراقي المقيم حالياً في اسبانيا، يستمد ويستفيد من التجارب الفنية الأخرى، ليخرج بتجربة خاصة، تنتمي إلى ذاته أكثر مما تنتمي إلى مدرسة أخرى، والثلاثي الأقدس في مخلوقاته (المحبة، الأمل، الفرج)، هي الثيمة والمحور في التجربة.
    وتجربته الفنية فيها (الأتباع والإبداع)، يعشقها بمفردات تشكيلية تعكس ماهيات الحياة واشكالات وأزمات الإنسان في الوجود. حيث يعد الفنان التشكيلي سعد علي المخضرم في زواغير الليل وبألوان مصحرة ذات ضجيج صارخ في الأفكار.
    فسماوات اللوحة تصاغ بصخب رافض حتى لو كانت هذه الأفكار والمواضيع تشع من ردهة محنطة ليخور القداسة لمرجعيةٍ ما، لذلك نجد أعماله اقرب ما تكون إلى تخطيطات منفذة؛ تعطي مواضيع ترمز إلى عالم مثالي بعيدة عما هو معروف من انماط قابعة مألوفة في الرسم، فهيَّ من دون أن تتولى تأسيس رؤية لذلك العالم.
    في لوحة سعد علي تفاصيل محتشدة بسردٍ من الحكايات وما خلف الأبواب القديمة المرصعة بالمسامير الصدئة، من طقوس لها بعد (زمكاني) مختوم بالعاطفة من فكرة الأبواب العراقية المشيدة في ذاكرته؛ ويتعداها إلى حدود العالم ومحيطه الجديد، لأن فكرة الأبواب فكرة أزلية وكونية معروفة بالدلالات. ونحن لا نعرف أي شعب استبق أو اصطنع استعمالها قبل من!!.
    انطلق الفنان سعد بسماته الفراتية وبزيّ (اليشماغ) المرقط نحو العيون الواسعة المبالغة بالهدوء وما فيها من احلام العودة لزمن الخيال، فيئن سعد بنواح الزواجل للعودة إلى الجنة والرجوع إليها باستفزاز الأشواق وتكوين ما في قلبه مع وجع الحنين، وبشفافية عالية غاية في المتعة والحساسية الفنية الخاصة جداً بزمن كان.
    فيحلم سعد بهدوء مصطنع، وبحلم يقود احلامه الوردية، ليجد الأجيال القادمة عمّتها السعادة ولم تعد تعاني من خيبة الأمل التي عانينا وعانى الفنان منها في حياته القاسية. نرى في ممارساته الفنية استخدم الحواس والمشاعر كلها في وقتٍ واحد، يقوم بذلك تلوين افكاره، ويسلط عليها الأضواء وبقفزة واحدة "تسبح في النيران وفضاء الجمال والدهشة"، مثلما كتب الاستاذ مفيد الجزائري عن أحد معارض سعد الفنية.
    سعد علي يستعيض عن الحقيقة بالخيال الفني الساحر راكباً مركب الثبات الالهامي لعصرنة المواضيع، متجهاً صوب المحبة، المحبة لا حصر لها وليس لها حدود، ولا تعرف الأزل، وهي تنصهر وتطحن بفيض الأنفعالات مع خراب الوجود والواقع المتناغم رومياً والمزري والغارق في لجة الأحلام ورواسب الذكريات وما فيها من رموز (لباب الفرج) المتلاحم  مع التراث، مع الواقع وباستعارات وابتكارات مؤطرة بالتجديد وكسراً للإطار. مثلما نرى لوحة (السبايا) في واقعة الطف، وتسفير الأسرى إلى الشام على ظهر سفينة بدلاً من الخيول أو الجمال أو ما شابه ذلك، مشياً على الأقدام كما ذكروا من قبل. ومن شأن الاستعادة هنا أن يزداد التشبيه فضاءً، كي تزداد الاشارة جمالاً وقوة مؤثرة خارج المعروف والمألوف، وباتجاه لوني فعال بقوة الإخراج لذبذبات ابداعية وايقاعات مائزة في العلاقة اجمالية المدهشة للأشياء والطبيعة. ويقيناً أن ما يراه المبدع لا يمكن أن يراه غيره، لكن مشاهدة دقة الأعمال المستعرضة على صفحات التواصل الاجتماعي تستعر فيها الروح والعين.
    في اغلب لوحات الفنان سعد نرى الوجوه خاضعة، مشوهة الأشكال والتناسب والقياسات في الأجساد، والعجب فيما نرى احساساً ولذة جمالية؛ حيث التشويه هنا لا يثير الاشمئزاز ابداً، وهذا هو الفرق بين الصورة الشمسية أو (الفوتو) بأنواعه، والعمل الابداعي الخلاق، حيث الشكل غير المألوف عند سعد معبراً عن الحب النقي الشفاف المندفع والمتحد بكل ما أوتيّ من عنفوان، حيث الغموض يمزق الوضوح في المعنى والعكس صحيح. والمعنى الذي يفتش ويتحدث عنهُ سعد يربط الغموض بسلسلة الوضوح الذهبية وبتشبيهات.
    مجازية للشكل العام. من خلال ذلك يحاول الفنان غرس المفاهيم ولو بوشائج بصرية لماعة من ظهير ثقافي يصور بخلقه ذلك، إنهُ اكثر رفعة من البشر لأن واقعه الفني اكثر تطوراً من الواقع. الصفاء الفني الذهني في مخلوقات سعد سابح في تخوم الأحلام المشتهاة، شيء فوق الوصف والخيال، فوق العواطف والاحساس، فوق العقل والأفكار وما فيها من روابط في الأهداف، رغم أن بعض الأهداف عبودية. ولكن فيها مواثيق من الأمل الحزين والغربة والأغتراب. فيها تأملات مفتوحة على عالم واسع اوسع من الرغبة العارية.
    نلاحظ في اعمال أخرى أن سعد حاول اذابة روحه وجسده على جغرافية اللوحة، مفتتحاً بالألوان صياغة الأشكال من ثنايا الجسد كما لأفعى إلى حركات الأيادي والأرجل لأتمام الوحدة العضوية داخل التعدد. بينما العيون تتحدث راجفة باللذة لجذب الاهتمام، وبعملية وحركة ابداعية تشبه السحر.
    سعد بأسلوبه الفني يقوم بتبسيط الخطوط محاولاً بتكرار ابداعي تجسيد فكرته ثم تعقيد الموضوع لخلاصة روحية تمثل فلسفة المستقبل الصافية. ويعتقد أنها تحفظ صورتها من قبل المشاهد عن ظهر قلب، لما لها من تأثير حاسم في سايكولوجية المتلقي.
    تتجسد تجربته شأن تجربة الجيل الثالث، إذا صح التعبير كما ذكر ذلك إسماعيل زاير حين قال: (أي جيل ما بعد الرواد العرب محاولاً تجسيد المفاهيم الفكرية المرتبطة بفلسفة الفن، سواء بجناحها الذي يركز على المعنى الواقعي أو الآخر الذي يصور التجربة البصرية من خلال الخلاصات العلمية والمستقبلية كإشارات للمضمون الجديد الذي لم يتم حسم الجدل أزاءه).
    وسعد بانفعال صادق يوظف قدراته الفنية بعمق لا متناه كي لا تفنى أو تهمل غائيته، لذلك نراه يقشر العمل الفني ويستعمل لبّ المعنى اللوني بفظاظة تتجلى في اللامعنى باحتبال الواقع والفكرة الملونة بالقسمات والأطياف، لأنه يخاف الفراغ الملوث بسواد الأعظم للمتاهة، ويحاول صهر روح الأشياء في عناصر متصارعة بعشق خيالي قاهر لكل ما هو قسري في بانوراما المنظور المتصور، وإن كل الكوابيس لا تستطيع كبح جماح الخيال. ثم يقوم باخضاع ذات المرسوم بتحيز النزوات الباحثة بشغف عن الاضطرابات المحركة للأعصاب وبادراك جمالي، ووحي عقلي غايته الأثارة ببهرجة الفوضى الخلاقة المنضوية تحت مظلة الأندهاش الفني لأنهيار الواقع المزري؛ وبحمى تشكيلية لا تهدأ.
    دائماً يكر كما قلنا مواضيع حياتية وتاريخية شتى محاولاً الوصول إلى الكمال الفني في عوالم مثل (ألف ليلة وليلة)، وبلا شروخ جمالية ليظل محافظاً على سميته الشرقية وجذوره الرافدينية رغم ضغوط التيارات العالمية وعلاقتها التوجيهية والمعرفية للفن، حيث كل المدارس والتيارات آتية من الغرب.
    يؤكد الناقد ياسين النصير على أن لوحات سعد (تؤكد أن منحاه ذاتي بحت وثمة خلفيات شرقية كثيرة، لكن هذه الذاتية تمتلك خصوصيتها عن طريق تجاورها اتجاه اجيال من فناني الشرق والفن الإيراني، والفن المصري القديم، وفنون الصين واليابان، والفنون السومرية ذات البعد الواحد على ابراز قياسات الجسد الداخلية والوجوه المتلفتة إلى جهةٍ ما).
    والفنان سعد وباستباق فني يمور فيه الإخلاص لشيءٍ ما كتعبير عن المبادئ، ابتكر اسلوبه الفني بفرادة، وبحجوم وسطوح وضعية متمردة. لأن الفن عنده لا يعرف الركود أو السكون، لذلك رسم بحداثة موضوعية مثل (لوحة الفانوس السجين)، ولوحة (صندوق الدنيا)، وغازل في لوحة أخرى سيدة الغناء الشرقي (أم كلثوم)، وصديقه الشاعر الشعبي الراحل (عزيز السماوي)، فضلاً عن ما في لوحاته من اشارات لمواضيع مختلفة متعددة الأفكار، وفي مفردات تراثية وشعبية، لنبش الماضي وما فيه من خرق وصرائر العجائز وحاجيات الأمهات السرية؛ كما الطلاسم وقصاصات التعاويذ، حيث يؤكد منعم الفقير أن لوحات سعد (تتخذ اللوحة الواحدة أكثر من نقطة كمراكز لاستقطاب النظر، ثم تتشعب ببناءات لونية وخطية تنحني بالألم وتتقاطع لرغبة، وتتمازج بالحيرة لكي تنتهي إلى تكوين يتعدد بتعدد الحالات والمواقف).
    وهو ينتقل بطاقيته المشهورة على رقعة الشطرنج كبيدق يحارب من اجل عيون محبوبته، وعلى كل الجهات، متراقصاً بسهامه الشعرية التي تغزوا لوحاته.
   لذلك نجد المتابع للواحات سعد علي يلاحظ الألوان تتمرغ بالدماء الفضية كلون الشمس لخلق نمط جديد في الرسم يهاجم به ابصار المتلقي، المبهور بتوهج الاغماض. وحتى اللوحة ذات اللون الواحد، المستكشف الواضح في المتأمل للوحة لا يقع في مطب الرتابة البصرية، ولا يشعر بالملل، لأنه اتخذ مسلكاً فنياً غاية في التنسيق والمضمون بتناغم روحي في فضاءات اللوحة، محاولاً تثوير مختزلاته وآراءه الفكرية بذكاء ابداعي قاتلاً بذلك الطريقة التعليمية الفجة لما فيها من عسف فني مربك للموهبة، مملوء بالكبوات والكبح الانعاكسي الفني على ذات الفنان المنطلقة بقوة سحرية جمالية خلاقة، يتسامى بها الفنان سعد علي إلى مصاف الفنانين الكبار.

14
صدر كتابي الموسوم تاريخ الأكراد في العراق عن دار الفرات في بابل
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
صدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل كتابي الموسوم (تاريخ الأكراد في العراق) وهو وهو دراسة تاريخية سياسية اجتماعية، للحقبة من عام 2230 ق.م ولغاية عام 2015م؛ بجزأين، تضمن الجزء الأول (368) صفحة والجزء الثانية (392) من الحجم الوزيري.
بالنظر للأختلاف الواسع والأفتراضات المتعددة بين العلماء والباحثين حول أصل الأكراد وأسلافهم، والمواطن التي استوطنوها بعد انتشارهم من مهدهم، إلاّ إننا نستطيع أن نقول بصورة عامة، أن الأكراد والجبال لا يفترقات، كلما بدأت السهول يترك الأكراد الأرض للعرب، وحوالي بحيرة وان للأرمن، هذا ما يؤكده العالم الآثاري مينورسكي، أما كردستان فهي قديمة قِدم الزمان.
كانت لي الرغبة منذُ أكثر من عشرة سنوات بالبحث في هذا المجال، فبدأت بتوفير المصادر للبحث والتحليل للوصول إلى قناعة تامة ورأي قاطع بصدد هذا الموضوع، وقد اطلعت على رأي الباحثين والمستشرقين امثال: جليلي جليل ومحمد أمين زكي والدكتور شاكر خصباك والدكتور عبد الرحمن قاسملو والاستاذ جلال الطالباني والدكتور كمال مظهر أحمد والمقدم السوري منذ الموصلي والدكتور جمال رشيد أحمد والدكتور فوزي رشيد والأستاذ حمه رشيد، والروسي الأصل ق. ف. مينورسكي، وباسيل نيكيتين، م.س لازاريف، ن،أ خالفين، مايكل إم غينتر، مارتن فان بروينسن، كيو موكرياني، كريس كوجيرا، سي جي. ادموندز، ستيف لونكريك، ديفيد ادامسن.
إن أكثر المعلومات القيِّمة عن الكُرد موجودة بشكل رئيسي في المؤلفات المكتوبة باللغة العربية خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين. ومن المعروف أن اللغة العربية في الفترة ما بين القرنين الثامن والتاسع خرجت عن كونها لغة البلاط وأصبحت بشكل رئيسي اللغة الرسمية للعالم الإسلامي.
كلما راجعت تاريخ الشعب الكُردي واطلعت على ما حملهُ من هموم واضطهاد، اشتدت بيّ الحاجة للبحث أكثر في هذا المجال. فالشعب الكُردي تعرض للنزعة الشوفينية القومية على مدار تعاقب الحكومات، وعلى مر الأزمان، لذلك تعرضت حركة التحرر الكُردية لأضطهاد وتهجير دائم، حتى وصل الأمر بحكومة البعث إلى استخدام السلاح الكيمياوي الفتاك وضرب المدن والقرى الكُردي، وخاصة مدينة حلبجة، حيث قتل خمسة آلاف من سكانها، ثم ابتدعت حكومة البعث اسلوباً قذراً آخر بمطاردة المدنيين الكُرد والتي اطلقت عليه عمليات (الأنفال)، فكان لقوات الجيش والمرتزقة المسلحين من الخونة ما يسمى (الجاش) بمحاربة ابناء الشعب الكُردي في المناطق والقرى، فضلاً عن تخريب حوالي (4500) قرية ومدينة كُردية، فقبضت على الرجال والنساء والأطفال بأكثر من مائة ألف، لتقتلهم بأساليب بشعة، وكذلك صور المقابر الجماعية شاهدة على إجرام النظام السابق، من خلال دفنهم في خنادق وهم أحياء، وأرض صحراء السماوة شاهدة على ذلك، كل هذه الأعمال الوحشية والعالم صامت وساكت دون استنكار، فضلاً عن قيام نظام البعث بتعريب المناطق الكُردية من خلال اسكان العرب واجلاء أهل الأرض الأصلاء الكُرد، وخاصة في مدينة كركوك وخانقين وسهولهما.
يقول الجنرال (بيير روندوث Rondot) في كتابه (كُردستان قلعة منسية): "في قلب آسيا القديمة وفي سالف الزمن، تقف قلعة كبيرة حيث ينتظر ملايين الرجال الأشداء إشارة من القدر، ولكن تلك القلعة ليست بين حساباتنا، فلم تكن كردستان دولة... كما أن اسمها لا يوجد في معظم أطالِسِنا، بل وتخترقه الحدود وحيث نسينا أصوله ووحدته النفسية، بل ووجوده حتى... وها هي أربعة قرون قد مضت حيث كوزنوفون عن قيمة الكاردوك Karduques أجداد الأكراد الحاليين".
لقد نال الظلم وأنواع مظاهر الجور الشعب الكُردي، وهو الشعب الذي يمتلك تأريخاً مشرقاً ومكتوباً بالدم، وكانوا عرضة للتشنيع والسَب والقدح على مر الحكومات السابقة، ولذلك كانت الحركة الوطنية الكُردية اسباباً لوجودها، وتستند قوميتهم على حق جميع الشعوب وكل الأمم في تقرير مصيرها، والتحكم في مواردها الخاصة، كما أقرت ذلك الأمم المتحدة في قرارها الصادر في السادس من ديسمبر 1952م. فالمجتمع الكردي المعاصر اليوم يختلف كلياً عما كان عليه الوضع قبل خمسين عاماً خَلت.
ويرى الدكتور كاظم حبيب حول الموقف من المسألة الكُردية قد "نشأ مع نشوء الدولة العراقية، هذا النشوء غير الديمقراطي والتربية العثمانية الاستبدادية والرؤية القومية والدينية المتعصبة والقاسية والعنيفة في آن واحد.. وأزداد في الطين بلّة موقف سلطات الاحتلال البريطانية الاستبدادي والاستعمار الاستغلالي من القضية الكُردية، وسعي هذه السلطات إلى تهميش دور الكُرد في المنطقة ومنع إقامة دولتهم الوطنية المستقلة على أرض كُردستان، والإصرار على تجزئتها.. وهذا يعني أن النُظم السياسية التي وجدت في العراق كانت كلها تسير على خط واحد إزاء المسألة الكُردية، إذ بَرز بعض التباين عند النُظم المختلفة، ولكن الموقف الجوهري من حقوق الشعب الكُردي ومن حقه في تقرير مصيره.
علماً أن الآراء حول أَصْل الأكراد، ونشأتهم لم تتوحَّد، وكذلك في بداية ظُهورهم في كُردستان؛ فقد ظهرت العديد من الفرضيّات، والدراسات حول أَصْل الكُرْد، وتاريخهم القديم، عِلماً بأنَّ بعض هذه الدراسات استدلَّت على أَصْل الكُرْد من خلال رَبْط الخصائص القوميّة للشعب الكُرديّ، كتَسمِيَة "كُرْد" التي كان لها مفاهيم ومعانٍ مُختلِفة عمَّا هي عليه اليوم، أو من خلال استكشاف التأثيرات الحضاريّة التي ظهرت في الحياة اللُّغويّة، والدينيّة، والثقافيّة لمُختلَف شُعوب الشرق الأدنى القديم، أو من خلال تحليل حوادث التاريخ القديم للأكراد، ودراستها، مُنذ العُصور القديمة، وحتى العَصْر الحالي وبمفهوم الكُرْد بصيغته القَوميّة الحاليّة، وبالنظر إلى المُعطَيات التاريخيّة، واللُّغوية، فإنَّ تصنيف الكُرد يعود إلى ما هو ضِمن الشُّعوب الإيرانيّة، إلّا أنَّ هذا لا يعني ثَبات أَصْل الأكراد بأنَّهم من إيران؛ فقد يكون عُنصر الكُرد قد امتدَّ من منطقة غرب بلاد فارس (إيران) إلى أواسِط كُردستان، أو قد تكون هناك قَوميّة أُخرى ذات تَسمِيَة مُشابِهة للكُرد، ولكن من أَصْلٍ مُختلِف ظهرت قَبل مَجيء الكُرد من إيران، واندمجت معهم، ومن الجدير بالذكر أنَّ كُلَّ ذلك كان دافعاً لظهور آراء، واعتقادات عِدَّة حول أَصْل الأكراد.
وحول أصل الأكراد يَعتقد مُعظمهم أنَّ نَسبهم وأُصولهم تعود إلى الكوتيّين الذين عاصروا السُّومريّين، وسكنوا مَدينة (بَابِل) الواقعة في العراق، واستطاعوا السيطرة عليها في عام 2649 ق.م، إلّا أنَّه مع مُرور الوقت سَقَط حُكمُهم، وتراجعوا إلى الجِبال، واستقرُّوا فيها، وأنشأوا نظاماً داخليّاً خاصّاً بهم، ويَعتقد الكُرديّ (مُحمَّد أمين زكي) أنَّ الأكراد القُدَماء هم من الشُّعوب القوقازيّة، إلّا أنَّهم تحوَّلوا إلى آريّين، واقتبسوا اللُّغة الميديّة الآريّة؛ وذلك بسبب اختلاطهم مع الأكراد الجُدُد (الميديّين)، ويَذكُر المُؤرِّخ الكُرديّ (محمود بايزيدي) أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى العرب، حيث يَرى أنَّ الأقوام الكُرديّة تعود في الأصل إلى القبائل البَدَويّة، وأنَّهم تحدَّثوا لُغتَهم (اللُّغة العربيّة)، ومع مُرور الوقت انفصل جُزءٌ من الأكراد عن البَدو، واستقرُّوا في مَناطِقهم الحاليّة.
أما رأي المُستشرقين فهناك بعض الفرضيّات المُتضارِبة التي تتَّفق فيما بينها ببعض النقاط، إلّا أنَّها تختلف في كثيرٍ من مَضامينها حول تحديد أَصْل الأكراد، ومن أهمّ هذه الفرضيّات: نظريّة مينورسكي: وهي نظريّة وَضَعها السيّد مينورسكي، وأكَّد فيها أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى الفُرس؛ أي الأَصْل (الهندو-أوروبّي)، وقد صنَّفهم مع الشعب الإيرانيّ، كما أنَّه اعتقد أنَّ الأكراد انتقلوا في القرن السابع عشر من منطقة (بُحيرة أرومية) إلى جزيرة (ابن عمر)، إلّا أنَّ مينورسكي في فرضيّته هذه لم يأخذ بالحُسبان أَصْل السُّلالات المُعقَّدة التي لم تختلط بالأكراد. أما فرضيّة السوفيتي مار: والتي تَنصُّ على أنَّ الأكراد الأصليّين لهم طبائع مُشابهة لطبائع الأقوام الآسيويّة الأُخرى، مثل: قبائل الأرمن، والكلدانيّين، والقوقازيّين. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ أَحد المُؤرِّخين المُستشرقين يرى أنَّ الأكراد هم في الأصل أحفاد الخالديّين الإيرانيّين من سُكّان الجِبال، وقد اشتهروا بشِدَّتهم، وقُوَّتهم. في حين يَرى البروفيسور (لهمان هوبيت) أنَّ الأكراد هم أجداد الجورجيّين، وهناك من يُرجِّح أنَّ أصل الأكراد يعود إلى الميدويستي، عِلماً بأنَّ البعض يعتقد أنَّهم يعودون إلى سُلالة الكاردوخيّين.
أما الدكتور حسين قاسم العزيز فيعتقد أن الأكراد هم من أصول السومريين، وقد هاجر بعضهم إلى بلاد الرافدين وأسسوا الحضارة السومرية فيها. أما رأي عُلَماء الأجناس والتاريخ يعتقد بعض عُلَماء الأنثروبولوجيا أنَّ الأكراد هم الجماعات البشريّة التي زَحفت إلى مناطق وَسَط آسيا ذاتها، وهي الأقوام (الهندو-آريّة)، وقد استدلُّوا على ذلك من خلال مُلاحَظة الصِّفات الخَلقيّة للأكراد الحاليّين؛ حيث إنَّهم يتَّصفون بطول القامة، وطول الرأس، وقِلَّة استدارته، بالإضافة إلى مُشابهة لون بشرتهم، وعيونهم، وشعرهم للصفات ذاتها لدى تلك الجماعات، ويرى الجغرافيّ (سترابو) أنَّ بِلاد الكُرد تَقَع في أرض فارس، وميديا، كما تُشير اللوائِح الطينيّة التي وُضِعت في عام 2000 ق.م إلى أنَّ الكُرد هم أقدم المُجتمعات الأرستقراطيّة في العالَم، كما يرى المُؤرِّخ الإغريقيّ (هيرودوت) أنَّ الشعب الكُرديّ ينحدر في الأصل من سُلالة الكروديوني، والعِرْق الآريّ.
فضلاً عن إن ما هو لافت للنظر أسماء بعض الأماكن التي ورد ذكرها مراراً في المصادر العربية، لكن تحت تسميات مختلفة نسبياً. فجبال منطقة كوردوك، نجدها قد وردت بعدة أشكال مثل (قردى) أو (قرد) أو (بقردى)، إن هذه التسميات المتعددة لذلك المكان المذكور هي التي شدت انتباه الباحثين في الدراسات الكُردية في سياق بحثهم لتحديد أصل نشأة العرق الكُردي. وقد أشار الجغرافي ابن رسته إلى أن أول المواقع التي شيدها نوع وأبناؤه هو (قرية بقردى) وتسمى (سوق الثمانين).
ومما تجدر  بالاشارة هو أن الأموريين حاولوا الاستيطان في مناطق كركوك وأربيل وعَبرَ قسم منهم نهر دجلة، لكن الملك (ادي سين) ملك (سيمورروم) المتاخمة لكركوك، وكان قسم من كردستان الجنوبية تحت حكمه قاتلهم وهزمهم وأسرَ خمسة من رؤسائهم وردهم على أعقابهم، وذلك منذ حوالي أربعة آلاف سنة. خلد الملك (ادي سين) انتصاره المنسي هذا على لوحة حجرية عثرت عليها اسرة مام ناصر في مزرعتها بقرية (قه ره چه تان) الواقعة في شمال غرب السليمانية بقرب جبل پيره مه گرون وذلك سنة 1984م.
أما اللهجات الكردية الحالية فتنقسم إلى أربع لهجات رئيسية هي: الكرمانجية والجوزانية والكلهرية والسورانية. كما توجد لهجة الزازا ما بين ديار بكر وأذربيجان. فاللهجة الكرمانجية يستعملها أكثر من 50% من الأكراد وتستعمل في الكتابة والتعليم خاصة في المنطقة الكردية الشمالية في العراق، كما يتكلم بها معظم الأكراد في تركيا وسوريا والاتحاد السوفياتي. وأمّا في المنطقة الجنوبية من كردستان العراق فتوجد بها قسمان من اللهجات:
أ– القسم الموكري: أي لهجة قبائل الموكري وسوران.
ب– القسم السليماني: أي قسم السليمانية وأردلان ويلاحظ أن اللهجات الكردية جميعاً مقسّمة جغرافياً.
وتعتبر لهجة موكربان التي هي أساس اللهجات المحلية التي يتكلم بها أكراد مناطق موكربان وسنه وسقز والسليمانية وأربيل وكركوك أنقى اللهجات الكردية وهي اللهجة الأكثر تطوراً في منطقة السليمانية حيث هي غنية باشتقاقات ومصطلحات جديدة خاصة خلال الخمسين عاماً المنصرمة وبها تكتب الكتب والقصص والمجلات. فلهجة سليماني تمّ الإجماع على أنها التعبير الأدبي الأول لا في العراق وحده، بل في الجهة الأخرى من الحدود الإيرانية. وربما عزى جانب من هذا التفوق اللغوي إلى الرعاية التي بسطها أمراء بابان على الأدب الكردي في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما يعزى بعضه إلى إنشاء الأتراك مدرسة عسكرية في السليمانية يرسل خريجوها إلى كليتي الأركان والحربية في إسطنبول، فوصلت الثقافة إلى مستوى لم يبلغ شأوه مجتمع كردي آخر. والأكثر من هذا أن اللغة الكردية اعتبرت سنة 1918م ولأول مرة في السليمانية مصدراً لتخريج عدد كبير من موظفي الأقاليم الكردية ومنذ العام 1925م؛ بدأت مطابع السليمانية وأربيل وراوندوز، فضلاً عن مطابع بغداد تصدر صحفاً ومجلات أسبوعية وشهرية مستمرة بأعداد كبيرة جداً. وطبعت أيضاً دواوين شعرية قديمها وحديثها وكتب تاريخية ودينية وسياسية.
ومن خلال ما ذكرت سابقاً من معلومات، والتي أوردناها في هذه الدراسة، فإن قضية الأمة الكُردية تتعلق بحقيقة اساسية هي أن شمال وادي الرافدين ومرتفعات جبال زا گروس (سوبارتو) هي المهد الذي نشأت فيه، وإن كنية ولغة ودين الكُرد، وعُرف وعاداته توفرت نتيجة امتزاج دم وثقافة السكان المحليين القدماء كالكوتيين والخوريين والكاشيين مع دم وثقافة المهاجرين من الهنود الآريين الذين سادوا على هؤلاء سياسياً في البداية. وهكذا فالكُرد المعاصرون ما هم إلا حصيلة الأحداث التأريخية التي شهدتها بلاد سوبارتو عِبرَ التأريخ.
وإذا كانت كُنية (كوردا) هي أقدم صيغة خورية للتسمية القومية الكردية، فإن اللغة الكُردية المعاصرة ظهرت وتكاملت في إطار هندي-إيراني، بينما سادت التأثيرات الدينية السامية من خلال البابليين والآشوريين واليهود والمسيحيين والمسلمين على البنية الذهنية لأغلب شرائح المجتمع الكُردي. وبمرور الزمن، وبعد أن أدى حلف القبائل الذي صاحبه تعزيز الصلات الاقتصادية والثقافية بين أفرادها، امتزجت بطون القبائل المهاجرة مع أُسر السكان المحليين تدريجياً، واستبدلت الروابط الدموية بينهم بروابط اقليمية حيث ظهر على إثر هذه الظاهرة شكل جديد للتجمع في شمال وادي الرافدين عُرف بـ(الكُرد) توفرت اساسه من وحدة الاقتصاد والسوق والإقليم واللغة والحضارة المشتركة.
وقد ألتزمنا في دراستنا هذه بمبدأ النهج العلمي مع مناقشة كل الآراء المطروحة حول المواضيع التي نحن بصددها، وابتعدنا بقدر ما يسمح لنا هذا النهج عن العواطف والأحاسيس القومية والدينية التي تسود أوساط الكُرد. وعلى كل حال فإن المواضيع التي ستطرح في هذا الكتاب تتعلق بنشأة الشروط القومية الكُردية في مرتفعات جبال زا گروس وكُردستان التي شهدت أحداثاً تأريخية معقدة لا يمكن الالتزام بجانب واحد منها. وبناءً على الحقائق فإن القاعدة التي نمت عليها القومية الكُردية في التأريخ لم تكن في موطن الآريين بجنوب روسيا أو في إيران أو في أواسط آسيا وإنما في مرتفعات جبال زاگروس وطوروس وسهول سوبارتو بشمال وادي الرافدين، ففي الوقت الذي بدأت القبائل الميدية تستقر في مرتفعات جبال زاگروس وشمال وادي الرافدين سائدة لهجتها على السكان المحليين لهذه البلاد خلال القرن السابع وخاصة بعد انهيار الإمبراطورية الآشورية عام 612 ق.م كانت هناك عدد من مقومات الأمة الكُردية متجسدة في هذه المقاطعات منذ أمد بعيد ومنها:
أ‌-  وجود الكُنية الطوبوغرافية الحورية القديمة (مات كوردا كي- mat Kurda ki ) أي (أرض بلاد كوردا)، التي كانت تقع حوالي مناطق جغجغه وتل الأسود في حوض نهر خابور (بكردستان الغربية)، كما حددتها لنا السجلات السومرية والأكدية في الألف الثالث قبل الميلاد. وعندما بدأت هذه الكُنية الطوبوغرافية تُعبر قبل العصر الهللنستي عن مفهوم أثني، بدأت تتوسع حدودها، فشملت المقاطعات الوسطى والشمالية من كردستان الحالية، حيث دَوّنَ المؤرخون الكلاسيكيون اسمها بصيغة Cordya, Kordya.
ب‌-     استقرار العناصر الآرية (الميتانية) في أرض كوردا منذ الألف الثاني قبل الميلاد وتجسيدهم لقاعدة لغوية ودينية هندية- آرية فيها، وعند حلول انسبائهم من الميديين في أواسط الألف الأول قبل الميلاد في هذه الأرض حدثت عملية أمتزاج بين المجموعتين بشكل طبيعي حيث تطورت لهجتيهما (وهما من نفس الشعبة اللغوية) معاً واصبحتا قاعدة لأولى بوادر اللغة الكُردية.
ت‌-     بما أن موطن الزاگروسيين الذي جرت عليه عملية الامتزاج الحضاري بين الهنود الآريين القدماء من الميتانيين مع الميديين فيما بعد، كان يتمتع برقي حضاري منذ قيام الثورة الزراعية في مرتفعاته، فإن ظهور بوادر المجتمع المدني القديم في سهوله كان أمراً طبيعياً، ومُنذ هذا العهد المبكر غدت بلاد كورديا Kordya ومرتفعات جبال زاگروس المهد الذي استكرد فيه أقدم المستوطنين الزاگروسيين من الكوتيين واللولوبيين والحوريين والكاشيين تحت ظل طغيان اللهجات الميتانية والميدية على لغات هؤلاء الأقوام، ونمت في هذا المهد الشروط القومية للكُرد المعاصرين من كُنية ولغة وأرض مشتركة.
بعد هذا العرض تضمن الكتاب على مقدمة وجزأين، وكُسِرَ على سبعة عشر فصلاً، أحتوى الجزء الأول: الفصل الأول على الفرضيات حول أصل الكُرد، والفصل الثاني أقوام كردستان القدماء، والفصل الثالث أصل اللُغة الكُردية، والفصل الرابع علاقاتهم بالديانات الأخرى، والفصل الخامس أحوالهم الاجتماعية، والفصل السادس الأكراد وكُردستان العراق، والفصل السابع انتفاضات الإمارات الكُردية. وتضمن الجزء الثاني: الفصل الثامن الأكراد في الحرب العالمية الأولى، والفصل التاسع الانتفاضات البارزانية الوطنية، والفصل العاشر الأحزاب والجمعيات الكُردية، والفصل الحادي عشر حركة الملا مصطفى البرزاني، وفصل الثاني عشر الكُرد والأحداث السياسية في العهد الملكي (1934-1958م)، والفصل الثالث عشر موقف الكُرد من انقلاب 8 شباط 1963م، والفصل الرابع عشر الأكراد بعد 17 تموز 1968م، والفصل الخامس الحركة الكُردية بعد عام 1975م، الفصل السادس عشر الأكراد بعد حرب الخليج الثانية، والفصل السابع عشر الأكراد وتاريخ تواجدهم في المدن العربية.
لا يسعني إلا أن اقدم الشكر الجزيل لأخي ضياء عبد الأمير الربيعي في توفيره المصادر المهمة لي، وكذلك شكري وامتناني للأخ العزيز علي عبد الرضا عوض، في توفير المصادر المهمة من مكتبته والده رحمه الله، فضلاً عن تنضيد الكتاب واخراجه بالشكل اللائق.
 
 

15
ساعة الشهيد سلام عادل وموت الضمير الأخلاقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
لا اعرف سامي مهدي عن قرب، ولم اتعرف عليه إلا في مكتبة ودار نشر ميزوبوتاميا في شارع المتنبي عام 2016م وهو يزور صديقنا المُغيَّب مازن لطيف، وعندما اسأل أصدقاءه عن قصة سلبه لساعة سلام عادل، قالوا: إن سامي ينكر ذلك. لكن التماهي مع آلة الفتك والتدمير أسكرت سامي مهدي، فلم يخفف من ارتداءه الدم الأحمر حتى رمقه الأخير، لا اعتقد لشاعر شفاف يتمكن من استخدام آلة التعذيب مع خصومه، لكنه عاش سنوات عديدة ومديدة حراً طليقاً أبان عهد صدام وأكثر كانت بعد سقوط النظام، لكن مات الضمير الأخلاقي للشاعر والمثقف، وعجز عن الاعتراف والاعتذار، وانخرط طوعياً في جوقة الطبالين والمهرجين للنظام ولقائده المهزوم، وتغنى بمسالخ البعث الصدامي ومأساة المقابر الجماعية.
قبل رحيله كان شيخاً عاجزاً، وهن الجسد، لا يمتلك شيَّم الكِرام، ميت الضمير، لم نقرأ لهُ اعتذاراً شجاعاً بكلمة واحدة للشعب العراقي ولرفاق الشهيد سلام عادل، لا ولم يصحو ضميره حتى آخر يوم في حياته، أسوة برفاقه، نشر الشعر في مديح صدام وتمجيد حروبه، تزلف له طمعاً بعطية، وتملق لهُ ولزبانيته، غلب على جيله نزعة التمرد، ومحبة الزعيم المتوحش صدام، ليس المهم إن كان شاعراً حاذقاً متعلماً المهم أن يكون واعياً حكيماً يمتلك ضميراً أخلاقياً يقظاً.
في شهادة حول شعراء الستينات و(نقد البيان الشعري) يصوّر الشاعر عبد الكريم كاصد موقفاً مثيراً لسامي مهدي، حين كان ومجموعة من أصدقائه في جلسة مرح وابتهاج، استفزه ذلك وهو يجلس قربهم، يكتب كاصد: (سامي مهدي أغاضه ما رآه من فسحة فرح منحتها لنا سلطته الجادة الدموية المتجهمة، لأنّ مكاننا الحقيقي هو السجن، أو المنفى، "وهذا ما تحقق فيما بعد بأسوأ مما قبل"، وليس موائد الفرح: فجأةً بحركة همجية شرسة مباغتة قطع ضحكنا بعرض ساعته ليرينا إياها معلناً: إنها ساعة سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل الذي عُذِّب تعذيباً وحشياً لا سابقة له. قال له الصديق الراحل جعفر موسى: هذا يعني أنكَ كنت تمارس دور الجلاد معهُ. أجابهُ: كنت حاضراً التعذيب ولم أمارسه. رد عليه جعفر بل مارسته. ليلة ليلاء لا تُنسى، وجلسة عرس ارتدت حدادها منذ اللحظة الأولى... الجلاد الذي مرّ ذكره، والذي قدم عذراً أسوأ من فعلته، وهو حضوره ليشهد الصلب أو التصليب أو المذبحة، أو سمّها ما شئت: إنسان معلّق بمروحة سملوا حتى عينيه، فلم يقو حتى على الأنين. كيف لشاعر أن يستمرئ رؤيته مثل هذا المشهد المريع! ولم يكتفِ بما فعله أو رآه باعتباره فرجة دموية نادرة، وإن تكررت في أقبيتهم، بل وفي المنازل والشوارع والساحات. لا لم يكتفِ حتى بتذكره. إنه يستدعيه ويستعيده ملتذاً، علناً أمام الجميع، في أي مناسبة تسنح لهُ ملوحاً بساعته، مفتخراً رغم مرور السنوات التي تبدو أنها مرت بالنسبة إليه سراعاً، وكأنها ساعاتٌ تلوّنتْ بالنصر، واستعادة النصر ثانيةً وثالثةً، وهكذا هم بالفعل)(1).
وكتب معتزي رشدي: كيف حصل سامي مهدي على ساعة الشهيد الخالد سلام عادل؟ هل اشتراها من سوق الهرج؟ أأهداها إليه جلاد من جلادي شباط الأسود؟: إليكم هذه المعلومة المرعبة، من مقالة للعزيز عبد الكريم كاصد وجدتها منشورة في موقع الحوار المتمدن في ذكرى رحيل طيب الذكر ممدوح عدوان.
أضاف رشدي: كان ممدوح، وعلي الجنديّ الصديق الحميم الآخر، من المدعوّين الدائمين إلى المربد. ما إن يصلا إلى البصرة حتى يتصلا بي لنسهر معاً في أحد منتدياتها، رغم الرقابة المحكمة من قبل السلطة، ودعواتها الباذخة، وتدليلها الفائض لهما، باعتبارهما رفيقين سابقين، ولكن ما أبعدهما عن مثل هذه الدعوى، ورغم ذكائهما الشديد في التخلص من شرك الدعوات، لم يفلتا من خيط أو خيطين من الشرك، فكثيراً ما يأتيان وبرفقتهما إما مخبر أو شاعر سلطويّ، ففي مرة كان مخبرهما دكتوراً كشفا عن هويته ما إن وصلا، ولكننا سرعان ما نسينا أن ثمة رقيباً بيننا، بل أن الرقيب سرعان ما نسي دوره واستعاد إنسانيته معنا، وأخذ يهتز طرباً لنكاتنا وضحكنا المتواصل. ومرة جاء معهم الشاعر البعثي سامي مهدي وقد فاجأنا بمعلومة سمجة لا ندري ما موضعها من جلستنا إذ أخبرنا أنه حصل على ساعة الشهيد سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي من جلاديه!!".(2).
كما كتب كريم شعلان: "الصادم في هذا الكتاب (رهان الستينات: نقد البيان الشعري) والذي أثار أسئلة كثيرة من الوسط الثقافي والمتابعين، هو واقعة ساعة الشهيد سلام عادل ودور البعثي سامي مهدي في تعذيب الشهيد والتباهي في مشاركته في تعذيبه وسرقة ساعته اليدويّة التي بقيت في معصمه مفتخرا بها"(3).
وكتب الدكتور عبد الجبار الرفاعي: "لم يعد هناك ما يمنعني اليوم من التحدّث عنه، بوصفه نموذجاً لموت الضمير الأخلاقي لعددٍ من شعراء وأدباء ما زالوا يحضرون بقوةٍ في حياتنا الثقافية، ولم نقرأ اعتذاراً شجاعاً ولو بكلمةٍ واحدة من أحدٍ منهم للشعب العراقي. هذا النموذج معروضٌ للبيع في كلِّ العهود، هناك دائماً من يقوم بمثل هذا الدور في خدمة كلِّ نظامٍ مستبدٍّ في بلادنا وغيرها، لا يصحو ضميرُ هؤلاء إلى آخر يومٍ في حياتهم. سألتُ عدداً من شعراء وأدباء وكتّاب معروفين، ممن مكثوا في العراق أيام الحروب والحصار ولم يغادروا الوطن، عن نشرِ الشعر في مديحِ صدام وتمجيدِ حروبه، والتزلفِ له ولحزبه في الكتابة، فشدّد الكلُّ على أن هؤلاء كانوا متطوعين، يطمعون بما يعطيه صدام لهم، ويتملقون له ولزبانيته. شعراء وأدباء وكتّاب كبار صمتوا، ولم يكتبوا جملةً واحدة تملقاً أو طمعاً بمال كلِّ تلك الأيام. سجالات جيل الستينات، أو سلوكياتُ التناحر الجدليّ بين اليسار الشيوعي واليمين القومي، تركتْ آثاراً عميقة على الروح الشعريّة العراقيّة. هذه الآثارُ ستظهر بأوجه عديدة ومتناقضة جداً"(4).
وكتب الروائي علي بدر: للمرة الأولى التي شاهدت فيها سامي مهدي حقيقة، أي من لحم ودم كان في غاليري للرسم. لم تكن له هيئة شاعر له اهتمامات ميتافيزيقية: أصلع تماماً، يرتدي السفاري الكاكي، وبدين بدانة مفرطة، هذا قبل أن يصدر صدام حسين قرار تخسيس موظفي الدولة فيشمله القرار ليظهر فيما بعد بنصف ما كان عليه وإن بقي أقرب للبدانة منه لشخص عادي طوال حياته، بل بقيت ملابسه وهيئته أقرب لتجار الجملة في سخرية واضحة من الشاعر كرافان ابن أخت الشاعر أوسكار وايلد وهو يصف الشعراء القريبين دوماً من السلطة، حيث لا ينتمون إلى النخبة التي ترتدي ملابس مميزة تميزها عن العامة سواء بالاكسسوارات أو بالازياء الغريبة، كما هو حال النخبة المثقفة المنشقة في الغرب. لم يكن شاعراً قريباً من السلطة فقط إنما شاعر سلطة، صحيح هو لم يكتب الشعر السياسي، بل إن موضوعة الحرية لم تقلقه، موضوعة بطش السلطة لم تقلقه كان موضوعة الوجود بحسب شعره هي التي تقلقه، فكرة الزوال 1979 التي كرس لها ديوانا كاملاً، الاغتراب كما في ديوانه سعادة عوليس 1987، أو غموض الكائن التي سادت جميع شعره، وهو في واقع الأمر لم يكن شاعراً رديئاً ولكن شعره يفتقر للجذوة، يفتقر للروح، شعره مكتوب ببراعة لكنه مصنوع. لم يكن شعر تجربة مأساوية كما هو شعر فوزي كريم، أو شعر ثورة كما هو شعر فاضل العزاوي، أو شعر دراما هائلة كما هو شعر سركون بولص، أو شعر ملحمة معاصرة كما هو شعر حسب الشيخ جعفر. هو شعر مكتب مبرد ومخدوم خدمة جيدة، شعر موظفين أدمنوا الخدمة، شاعر يراقب الكون دون أن يتدخل في تفاصيله، شاعر يعرف أكثر منا، شاعر واضح، ولكن وضوحه يغري فهو يتعالى علينا بلغته ورموزه، الشاعر مدير، بقي طوال حياته مديراً، مدير المركز الثقافي العراقي في باريس، مدير دائرة الشؤون الثقافية، مدير تحرير، هو مدير حتى في شعره، هو يدير الشعر أكثر مما يكتبه، قصائده مقادة وموضوعة ومسيرة حسب رؤية المدير وأيديولوجيته، لم يشك ولا لحظة واحدة حتى وفاته لا بالأيديولوجية ولا بتطبيقاتها التي انتهت به لاجئا من دون راتب، كما أنه لم تكن لديه ولا حتى أزمة ضمير إزاء الشعراء من جيله الذي انتهوا منفيين او مسجونين أو مقتولين فهو كشاعر أو كمثقف أبعد ما يكون عن التعاطف. كما أنه لم يكن مدرسة كاملة في الشعر له تلامذته ومقلدوه ومريدوه مثل سعدي يوسف، لقد عجز أن يجد شاعرا واحدا يتبعه، ولم نجد شاعراً واحداً نقول إن شعره تقليد واضح لشعر سامي مهدي(5).
 
المصادر:
1- عبد الكريم كاصد، رهان الستينات: نقد البيان الشعري، الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، 2022، ص40-42.
2- جريدة المدن الألكترونية المستقلة، رحيل الشاعر سامي مهدي... أحد روّاد جيل الستينيات العراقي، 2/9/2022.
3- جريدة الصباح، كريم شعلان، عبد الكريم كاصد: الشك والنوايا في رهان الستينات { 3 - 1}، 18/6/2023.
4- جريدة الصباح، د. عبد الجبار الرفاعي، الكتابة بوصفها امتحانًا للضمير الأخلاقي، 22/2/2023.
5- جريدة المدن الألكترونية المستقلة، رحيل الشاعر سامي مهدي... أحد روّاد جيل الستينيات العراقي، 2/9/2022.

16
النمو الحضري... بين الهجرة الريفية والتكييف في المدينة (1-3)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
يصعب فهم النمو الحضري الذي شهدته المدن العراقية بداية أربعينيات القرن الماضي، ولم تنتهي حتى الوقت الحاضر بسبب تجاهل الحكومات المتعاقبة لها ولأسبابها وعدم إيجاد الحلول المناسبة لإيقافها أو الحد منها على الأقل، دون التعرف على اسباب الهجرة والخروج الريفي. وعلى الرغم من كثرة الدراسات الإحصائية التي تناولت الهجرة الريفية إلى المدينة، إلاّ أن التحليلات النظرية ما تزال محدودة للغاية. وربما كان مفهوماً بين منطقة الطرد في الريف ومنطقة الجذب في المدينة من أشهر الأدوات التحليلية التي يستعين بها الدارس في دراسته عوامل الهجرة الريفية/ الحضرية ونتائجها. ومن الطبيعي أن تختلف العلاقة بين مناطق الطرد ومناطق الجذب؛ بين مناطق الفرات الأوسط والجنوب، والمناطق الشمالية.
ويتعين علينا الإشارة إلى هذين المفهومين (منطقة الطرد ومنطقة الجذب)، فكل العوامل تشير إلى أن منطقة الطرد هي تدفق القرويين نحو المدينة بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والخدمية التي تعاني منها القرية. أما منطقة الجذب فتشير إلى كل الظروف التي تجذب المهاجرين إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل أفضل وظروف معيشية أرقى. ومعنى ذلك أن عوامل الطرد كامنة في القرية؛ بينما عوامل الجذب مكفولة في المدينة. والتوازن بين هذين النوعين من العوامل يتوقف على اعتبارات عديدة منها:
1- مدى التفاوت الحضري بين القرية والمدينة.
2- الموقع الجغرافي للقرية.
3- نوع المواصلات التي تربط القرية بالمدينة.
4- معدل النمو الاقتصادي الحضري.
5- ظروف العمل الزراعي وحجم الملكية الزراعية.
وإذا ما ناقشنا العوامل الجاذبة وجدنا أن ابناء القرى ينجذبون إلى المدينة، لأنهم يعتقدون أنها تتيح لهم فرصاً للحياة، وإن نسباً من الشباب يهاجرون إلى المدينة لغرض الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، لكنهم سرعان ما يؤثرون في الوسط المدني بنقل عاداتهم وتقاليدهم، أو التأثر وكسب الثقافة الحضرية والإقامة في المدينة، فضلاً عن ترك القرية بعد تخرجهم والسعي إلى الحصول على وظائف أفضل، ويشكل هؤلاء نسبة عالية، ويمكن تفسير ذلك على ضوء معدلات الدخل في المدينة إذا ما قورنت بالقرية.
ونلاحظ أن نمواً كبيراً في اعداد المهاجرين خلال العقود الأخيرة الماضية وانتشار الأحياء العشوائية في اطراف المدن منها (أحياء الصفيح) التي انتشرت فيها الجريمة بعدة اشكال. وعلى الرغم من القيود التي كانت تفرضها الحكومات السابقة على الهجرة إلى المدينة وتغيير مهنة المهاجر من الفلاحة إلى العمالة، نظراً لاعتبارات اثنولوجية وسكانية وسياسية.
وقد زادت الهجرة الريفية إلى بغداد العاصمة وعلى الأخص من مناطق الفرات الأوسط والمناطق الجنوبية، بسبب العامل الاقتصادي وسيطرة الاقطاع على مساحات شاسعة من الأراضي؛ واتخاذ الفلاح كقنّ للعمل في الحقل؛ تعتبر من أهم العوامل المحركة للهجرة إلى بغداد واتخاذ منطقة الشاكرية مقراً لتجمعاتهم السكانية. وقد تركت ولا زالت، موجات الهجرة هذه على مدى العقود الماضية آثارها على الوجه الحضاري الجديد لمدينة بغداد، المدينة التي كانت قد بدأت تنهض ثقافياً وعلمياً وفكرياً واقتصادياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1939/1945م، وتركت هذه الهجرة آثارها أكثر ما أثارت على الحياة الاجتماعية لسكان المدينة؛ وطابعها المدني بما حملته معها من ريف الجنوب من عقائد وتقاليد ومفاهيم وعادات وقيَّم وأعراف عشائرية.
لقد أوضح الدكتور مكي عزيز في كتابه (جغرافية السكان): (إن الدخل الشهري الذي يحصل عليه المهاجر إلى بغداد بغض النظر عن مستوى تدريبه ومهارته، يكاد يعادل الدخل السنوي الذي يحصل عليه القروي الذي يعمل في قرية عراقية جنوبية. ففي بغداد يستطيع المهاجر أن يحصل على عملٍ ملائم، مما يمكنه من التحرر من كبار ملاّك الأراضي الزراعية والمرابين). وفضلاً عن ذلك سجلت هذه الدراسة أن المهاجرين إلى بغداد يحصلون على فرص تعليمية ورعاية طبية لم يكونوا يحصلون عليها في قراهم الأصلية، وأنهم قد قبلوا تماماً الحياة الحضرية، حتى أنهم لا يرضون عنها بديلاً.
 

17
المنبر الحر / مفهوم التاريخ (1-2)
« في: 12:36 05/01/2024  »
مفهوم التاريخ (1-2)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    التاريخ هو: ((الوعاء الذي يحتوي على كل مظاهر الوجود الإنساني. فوجود كل شيء تاريخ. والتاريخ هو وجود الأشياء جميعاً، فمن غير الممكن التحدث عن الإنسان دون تاريخهُ، كذلك نفس الشيء قوله عن الطبيعة والوجود. فضلاً عن اهمية كيفية قراءة التاريخ، ومن الممكن تطبيقها على اوضاع العراق الحالية، أي كل باحث ملزم بقراءة التاريخ وتحليله والنظر فيه. والتاريخ نسبي، والأحداث حقائق ووقائع وتراكم وعي الذات. وحقيقة التاريخ هي تراكم وعي الذات، وهي إنتاج ثقافي ومنظومة فكرية حية، والرؤية الفلسفية للتاريخ تعكس في ملامحها العامة والخاصة الرؤية الثقافية.
    والصيغة المثلى للنظر إلى التاريخ من خلال التجارب المتنوعة التي تتوقف آفاق تطورها على كيفية حل الاشكاليات الواقعية الكبرى التي تواجه الدولة والمجتمع والثقافي، فالتاريخ لا يعرف قوانين حتمية وإنما هو تجارب وبحث عن البدائل، مثال ذلك: لم تكن ثورة تموز 1958م حتمية تاريخية أو ضرورة كما يضعها بعض الكتّاب ذات الميول الايديولوجية الماركسية، فكل ما حدث لهُ اسبابه ومقدماته، لأن فكرة الحتمية والضرورة تصبح أكثر اشكالاً في الحياة السياسية، لأن الحتمية في الحياة السياسية جزء من الاحتمال. فما حدث يوم 14 تموز 1958 بدايته انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط الحرار ثم تحول لاحقاً بعد ألتفاف الجماهير حوله إلى ثورة، فتدّخل الجيش المباشر هو انقلاب على شؤون الحياة السياسية والمدنية، وهو مؤشر لضعف الدولة والنُخب السياسية، مما جعل من العسكريين الذي قادهم الزعيم عبد الكريم قاسم مغامرة لتغيير الحكم الملكي، ثم جرى بعدها سلسلة من الانقلابات وانعدام الاستقرار الأمني، واحتقار القانون من خلال تسخيره كمآربهم الضيقة.
    مع العلم أن ثورة 14 تموز 1958 هي فعل تاريخي كبير، لكن تدخل الجيش في حياة الدولة والمجتمع فتح الأبواب لصعود التيارات السياسية الغير قادرة على قيادة الدولة، كما كانت أقرب إلى قوة الطوفان العارم في الذاكرة العراقية. ثم تبعتها احداث أخرى منها انقلاب 8 شباط 1963، وهو استمرار لانقلابات عسكرية أخرى، فتحت الطريق أمام المغامرة لسهولة استلام السلطة، واشتراك الحثالة الاجتماعية في الانقلاب وجعل الدولة تابعة لتلك الحثالة، بحيث تحولت الدولة إلى اضعف شيء، وجعلت هذه الحثالة من السلطة الشيء الوحيد المطلوب والمرغوب ليتمتع بالسلطة وقتل المنافسين، مما ساهمت هذه الفئة بالخروج عن القانون وسحقه مع الدستور، وتحويل تاريخ العراق إلى مجرد تاريخ للجريمة والتخريب، ثم تبعها انقلاب 17 تموز 1968، لتصنع معايير لرؤية الانحلال الاجتماعي وقتل الروح الوطنية، وتبعها الانحطاط الثقافي العام والتخلف السياسي بسبب تفسح الدولة، وجعلت من السلطة الشيء المقدس وعسكرة الثقافة والمجتمع، ثم انتعشت الطائفية كانتعاش الطاعون، لتعود إلى صانها الرئيسي الدولة الأموية بوصفها سنّة للسلطة وقانون يحكم سلوكها، فالطائفية بدايتها ذات ابعاد سياسية، وهي ظاهرة مصطنعة رغم تاريخها العريق، والطائفية الاداة التي تقتل فكرة المواطنة والعدالة والمساواة وتتعارض مع العقل النقدي والروح الإنساني واستعادة للانغلاق والأذية الأولى.
    إن اشكالية كتابة التاريخ هي اشكالية التاريخ نفسه، فالتاريخ تراكم يتحول بالضرورة إلى مؤسسات وتقاليد ومبادئ ضابطة للسلوك الفردي والاجتماعي، امثال ذلك: المبادئ والقيَّم والأعراف والتقاليد المغروسة في الوعي والمؤسسات. أما فكرة إعادة كتابة التاريخ فتلك جريمة لا تغتفر، أي بمعنى نقف أمام محاولة جديدة لقطع ما لا يعجبنا لرميه في مزبلة التاريخ، أو كتابة التاريخ وفق الايديولوجية والخطاب السياسي لقلب الأمور كلها رأساً على عقب لنجعل من التاريخ ارجوحة تعلو وتهبط وفق امزجة أزلام السلطة. ومهمة المؤرخين التعامل مع الماضي والحاضر بمعايير موضوعية وفق الانتماء الثقافي لنجعل من الماضي مصدراً مهماً لوعي الذات.

18
المنبر الحر / مفهوم التاريخ (2-2)
« في: 12:35 05/01/2024  »
مفهوم التاريخ (2-2)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    إن حقيقة التاريخ تراكم وسريان للأحداث والوقائع، أحدهما يكمل الآخر في مجرى تعمق وتوسع وعي الذات التاريخي. فالحقيقة التي سبقت ثورة تموز 1958م هي حقبة بناء تراكم العقلية في مجال الحياة والابداع الثقافي والأدبي، وظهور شخصيات لكبار بدون توظيف حزبي. لذلك نقف أمام تجزؤ للتاريخ العراقي. فقد كان لتتويج الملك فيصل الأول المستورد بحد ذاته دليلاً على ضعف سياسي، وهي اقرب إلى البضاعة الجاهزة والتي اعطت لها الموافقة العراقية.
    كذلك لو سلطنا الضوء على ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، ونتأمل مقدماتها وقواها وبرامجها، فإنها أقرب إلى الانتفاضة لا الثورة، أما ثمار التضحيات فقد تجسدت كما ذكرت باستيراد حكومة صعدت عرش العراق.
    نجد الكثير من المؤرخين والباحثين يدعون إلى الحيادية والتجرد بصورة تامة عن الايديولوجية التي يعتنقها المؤرخ أو الباحث. وهي دعوة ايجابية لأنها تعيد كتابته بتجرد عن التدخلات الحزبية التي ترغب بكتابته كما تريد، أو كما تستجيب لأهوائها السياسية والحزبية، لذلك مثل هكذا توثيق للتاريخ هو اقرب ما يكون إلى التأويل، والابتعاد عن الرؤية العلمية والموضوعية في كتابة التاريخ.
    فكتابة التاريخ برأي (تحتاج إلى تأهيل علمي رفيع واحتراف مهني، ونزاهة، والعمل بالمعايير المستقلة. فالجهل بالتاريخ لا ينتج غير التخلف والانحطاط، وهو دليل على فقدان العقل النقدي والرؤية المستقبلية. وحقيقة التاريخ تراكم معقول ومتغلغل في الوحدة الروحية للأمم والثقافة، وإعادة كتابته العقلية هي نفعية ونفعية للقيَّم المعاصرة. لكن كتابة التاريخ يفترض كتابته بمعايير المنهجية والموضوعية والوطنية والمستقبلية، بمعنى إمكانية كتابة تاريخ علمي حي برؤية مستقبلية، لذلك نجد من الصعب أن يصل المؤرخون جميعاً إلى صيغة موحدة في كتابة التاريخ، إلا أن الاختلاف والتنوع طبيعي ومحكوم بالقابلية والكفاءة والاحتراف. بعبارة أخرى: إن الاسلوب الأمثل لكتابة التاريخ هو صناعته استناداً للفكرة الوطنية العامة أو الهوية الوطنية).
    كما يرى صاحب موضوع الدراسة في التاريخ (وسيلة فاعلة للحد من اعتبار أن الماضي زمنٍ مات، بل هو الذاكرة التي نحيا بها وتقود سلوكنا وسلوك الأفراد والجماعات في صناعة حاضرهم. والتاريخ يقدم لنا مادة تمتد إلا آلاف السنين، كي تعيد أمام عيننا انتاج شخصيات ماتت مادياً لكنها ما زالت حية من خلال نتاجاتهم، وهذا ما يؤكده الدكتور فالح مهدي في كتابه (تاريخ الخوف) حين يذكر أن "من يقرأ كلكامش يشاركه لوعته بفقدان صديقه انكيدو، ومن يقرأ الإلياذة يحس بما عاناه يوليسوس في رحلته تلك. ومن يقرأ محنة علي بن أبي طالب، يجد نفسه متعاطفاً معهُ. التاريخ لوحده يكفي لإعطاء صورة عن ذلك الذي جرى، إن اسطرت ذلك الحدث أفقده الكثير من مصداقيته. بل حتى عندما نقرأ شكسبير، نتعاطف مع الملك لير في مواجهة دونية ابنتيه. بل نتذكر فعل الليدي ماكبث عندما وجد ضميرها نقطة ضوء ممعنة في الصغر لينطلق منه. تلك الأحداث وتلك الشخصيات حفظها لنا التاريخ وأصبح بعضها جزءاً من ثقافتنا"(1). فالتاريخ يتعلق بمعرفة ماضي الإنسانية والبحث عن إعادة بنائه. لذا "فنحن عبارة عن ذاكرة حيث نحيا اليوم أربعة مليارات من اللحظات عبر الذاكرة الحية لماضينا بما فيه من ظلمات وإشراقات، تلك الذاكرة تؤدي بنا حسب ثقافتنا وتربيتنا إلى تذكر إنسانية كلكامش، وعمق التوحيد، وألمعية المعتزلة، وإشراق الحلاج، كما أنها تؤدي بالبعض منا إلى تمجيد أكاذيب صنعت على شكل ايديولوجيات"(2). واعتبار بعض الظلمة والمجرمين والطغاة نموذجاً للحكام الصالحين الأتقياء.
المصادر
1-  فالح مهدي، تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري، مصر، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، ط1، 2020، ص50.
2-  المصدر نفسه، ص51.

19
الإساءة في قصائد بدر شاكر السياب
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
يقف الشاعر بدر شاكر السياب في مقدمة مجددي القصيدة العربية الحديثة، وهو المثقف الذي كان جزءاً من نسيج الثقافة العراقية، وكان من الأشخاص القريبين من السياب الكاتب محمود العبطة، وهو أول من كتب عنه بكتاب تحت عنوان (بدر شاكر السياب والحركة الشعرية الجديدة في العراق) الصادر عام 1965 عن مطبعة المعارف في بغداد. ويقول عن السياب في ص16-17 من كتابه: (في السنين الأخيرة نشر مقالات ظالمة وقصائد تزلف في صحف بغداد، وكما توظف محرراً في مجلة حكومية في البصرة، وسافر إلى روما وألقى محاضرة عن الشعر في العراق، أنزلته من عيون الناس، واتصل ونشر في مجلة حوار المشبوهة، إن هذه المواقف نقاط سوداء في صفحته).
ثم كتب السياب مقالاته (كنت شيوعياً)، لينشر من خلالها تجربته مع الحزب الشيوعي العراقي ويسمي شخصاً كان مسؤوله (الرفيق رائد)، والكتاب عبارة عن مقالات نشرها في صحيفة الحرية عام 1959م، تحتوي على أربعين مقالة على شكل حلقات أسبوعية، وقد صَبّ جام غضبه على كل شيوعي في العالم وكل حزب يحمل هذا الاسم وأفكاره، ففجر في خصومته معهم لينسب صورة قاتمة وبشعة لهذا الحزب آنذاك في طريقته وأسلوبه ومعاملاته، حيث إن عين سخطه ابداها، وجعل كل مساوئ الدنيا في هذا الحزب وأفراده، ثم تحدث عن اتصاله بالأحزاب الشيوعية الأخرى خارج العراق كحزب تودة الشيوعي الإيراني، فعندما اختلف مع رفاق الأمس قلب ظهر المِجنّ لهم ولم يسعفه الوقت حتى كان يحلم بانهياره انهياراً تامّاً.
مع كل ما ذكرناه اعلاه إلا أنه استقبل الشهرة من خلال قصائده الأولى، ومن ثم ظهرت تناقضاته في حدتهّا، ففي أيامه الأخير قد أساء كثيراً، وخاصة بعد انقلاب 8 شباط 1963م، التي كتبها وهو بالمستشفى في لندن ومنها:
لولاه ما عاد الشيوعي حاكماً**********كما شاء أو كان الشيوعي ينحر
لك الحمد إذ رويت بالثأر أرضنا******* فسرنا على الدرب الذي كاد يطمر
وقصيدته إلى العراق الثائر:
والله عاد إلى الجوامع بعد أن طلع النهار
طلع النهار فلا غروب
يا حفصة ابتسمي فثغرك زهرة بين السهوب
أخذت من العملاء ثأرك كفّ شعبي حين ثار
فهو إلى سقر عدو الشعب فانطلقت قلوب
كانت تخاف فلا تحن إلى أخ عبر الحدود.
فكان يؤكد على الثأر من رفاق الأمس بعد انقلاب شباط 1963م، وقادة الانقلاب سائرون نحو ذبح حلفاء الأمس، وينادي السياب باسم حفصة، وهي اشارة واضحة إلى الطائفية والعروبية بعينها، للثأر من الزعيم. فيقدم السياب افراط في الاساءة المبالغ بها، فكان عنيفاً متناقضاَ مقصوداً وواعياً، لذا تجد كلمة الثأر والتشفي والتلويح بالانتقام مفردات ألفهما سياق القصيدة، فضلاً عن التشهير برفاق الأمس.
يذكر السياب في كتابه (كنت شيوعياً-ص27) قائلاً: (إننا نحمّل رجال العهد البائد مسؤولية تلك الجريمة التي ارتكبوها بحق الشاعر معروف الرصافي حين حاربوه في رزقه، لأنه كان ضد الملك والبلاط، وها أنذا اليوم شاعراً لا يقل عن الرصافي شاعرية، ووطنياً مخلصاً وديمقراطياً صميماً أُحارب في رزقي، في عهد الزعيم الفذ عبد الكريم قاسم، لا لأني ضد الجمهورية بل لمجرد أنني أحب عبد الكريم أكثر مما أحب خروشوف أو ماركس أو لينين، وأحب العراق أكثر مما أحب الاتحاد السوفيتي، وأحب الشعب العربي العظيم أكثر مما أحب الشعب السوفيتي أو سواه من الشعوب). مع هذا أجد السياب بوضعه المادي ومرضه، ووضع العراق في صراعات القوميين والشيوعيين، لما كان اختلافه مع رفاق الأمس. وفعلاً (بعد مراوغة وإلحاح اقتنع بنصيحة أخيه أن يقابل أحد المسؤولين في الحزب، لكن هذه المقابلة لم تثمر بإعادته للوظيفة). كنت شيوعياً، ص66.
كانت أحد اسباب ثائرة التوتر بين السياب والحزب الشيوعي العراقي حينما طبع الحزب الشيوعي ديوانين للبياتي في مجلة الحزب آنذاك (أباريق مهمشة، أشعار في المنفى)، وتعتذر عن طباعة كراس لقصيدته (المومس العمياء) في وقت سابق، هو ما ذكره السياب في كتابه (كنت شيوعياً ص122، 136-137) قائلاً: (يذكر البياتي وقد يكون لصعود نجم الأخير أثر في التوتر، وتبني الشيوعيين الاحتفاء به هذا في غياب السياب، وسيتكرر ذكر البياتي حتى ليبدو جزءاً مهماً من معركته، أو هو لصيق باحتفائهم به). ويعلق في ص20 من كتابه ليقلل من شاعرية البياتي قائلاً: (ولاحظت آنذاك أن بعض المتشاعرين التافهين من أمثال عبد الوهاب البياتي وزمرته قد برزوا بشكل عجيب آنذاك نظراً لخلو الميدان لهم). من خلال كلامه اعلاه أجد أن السياب يبدو ساذجاً، وكأن حكر الثقافة والشعر عليه دون سواه. فبدأت معركة السياب الحقيقية مع الشيوعيين منذ ذلك الحين، فأرخها في مقالاته في صحيفة الحرية، فيذكر في كتابه كنت شيوعياً ص25: (ثم روج الشيوعيون عني بأنني بعثي، وروج آخرون إشاعة تزعم أنني لست قومياً عربياً وإنما قومي سوري). فكانت صحة السياب على اشدها وكانت مواقفه تزداد تطرفاً، فضلاً عن موقف مجازر الإنقلابيين الغير إنسانية قد زادت من حجم الكارثة والخلافات، واستنتج مما مر به السياب أنه لم يكن بريئاً، كما لم تكن الجهة المقابلة التي ناصبها العداء اقل عدوانية.

20
رواية منازل العطراني تنصف ضحايا أحداث عام 1963م
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
استطاع الدكتور جمال العتّابي أن يوثق ضحايا أحداث انقلاب 8 شباط 1963 من خلال روايته (منازل العطراني) الصادرة مؤخراً عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وبواقع (253) صفحة من الحجم المتوسط، وبتصميم رائع للدكتور فرات جمال، وهي الرواية الأولى للكاتب جمال العتابي.
حين علمت بإصدارها وأنا بشوق للاطلاع عليها، وكان قلبي يرشدني أن الدكتور سيرسلها اهداءً، وكان ذلك، استلمتها وأنا اتمعن بتفاصيل أدوار أبطالها، وأماكن أحداثها وهذا ما كان، فقد كتبها من القلب، وهو ينقل لنا الأحداث بشكلٍ مفصل ومذهل للأماكن والأحداث.
بطل الرواية محمد الخلف المعلم من مدينة الخضر جنوب مدينة السماوة والسجين السياسي الهارب من السجن وهو يواجه أحداث انقلاب شباط 1963م. يروي لنا العتّابي اصداء سور السجن التي تنشد لنا نشيدهم (السجن ليس لنا نحن الأباة... السجن للظالمين الطغاة). ثم ينقلنا بحوار حول نتائج الانقلاب ومقتل الزعيم قاسم والثرثرة في الباص الخشبي ص14: (الزعيم ما زال يقاوم من مقره في الدفاع، معه عدد قليل من معاونيه. فقراء الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحملون السلاح ضد الانقلاب. عبد الكريم قاسم كان لا يثق بالشعب وحتى في أصدقائه المقربين إلى آخر لحظة. والله يبين الأمور محسومة لجماعة الانقلاب... الفلاحون البسطاء يدركون مقدار حماقة القائد العسكري). بهذه الكلمات ينقلنا لواقع حال ساعة الانقلاب، والدكتور العتّابي قد عايش تلك اللحظات، وهو الذي يحلل النتائج وينقلها لنا بحوارية رائعة من خلال بطل الرواية محمد الخلف المولود في قلعة سكر.
لقد انصف الدكتور العتّابي ضحايا الانقلاب، والقتلة المتعطشين للدماء، وهو يصف لنا لحالة مقتل الزعيم في دار الإذاعة. وبسياحة ممتعة جمع العتاّبي أساليبه السردية المتعددة بصفحات الرواية، وهي مزيج من الأحلام والانكسارات، فكتبها بذهنية ممن استوعب التاريخ. أجد في رواية منازل (العطراني)، يرغب الروائي فيها أن ينقل لنا كشاهد على زمانه، وقد كتب لنفسه قبل أن يكتب لأي أحداً آخر في العالم، فهو ادرك خراب العراق نتيجة طبيعية للفشل الشامل المستمر مُنذُ عقود عدة في العثور على جوابٍ صحيح لإشكاليات مجتمعنا. فرواية (منازل العطراني) أجد فيها ذلك النص المستكشف في رحلة الروائي العتّابي بعد انقلاب 1963م، وذلك العالم المجهول بعد الانقلاب، فلا يعرف المبدع نفسه كروائي في كثافة أدغاله المتشابكة، إلا بعد أن كان منجزه واضح القسمات، بعد عناء الروح وغربتها لبطل الرواية (محمد الخلف)، فيفتح الروائي ذراعيه لاستقبال قاطني بلده من التردد، ليمسكوا بمجساتهم المرهفة، فدهشة الروائي وحلمه في تجاوز ما هو كائن، فالكتابة تناسل وحبل، ومن ثم ولادة نصوص.
ففي ص19 يربط الروائي (رائحة الدخان المتعالي من أطراف المدينة، برائحة نفط أسود مشتعل لشواء الطين في كورٍ بدائية تصنع الفخار، توارثها العراقيون من أجدادهم السومريين)، بهذه الكلمات يؤكد لنا الربط بين صناعة الفخار الموروث من قدماء العراقيين، ثم ينقلنا بلحظات خاطفة وبطيئة إلى قرية العطرانية ومنزل اخته (أم عباس) الملجأ الأخير للهروب من عناصر الحرس القومي.
الرواية فيها الكثير من الأوصاف الأدبية الجميلة التي لا تتكرر أمثال ("مزموم الفم"، "الريح نحسٌ في الشتاء تسرق نعاس الأطفال في الليالي"، "النجوم الشفيفة كانت تضيء"، "أسمع صرخاتها كبكاء النوارس في صباحٍ شاحب"، "الويل لمن يتنصت على قلبه أو يسترق السمع لرئتيه، هذا البلط يقتل الصمت"، "ليرى مشهد المدينة المسوّر بالخوف والترقب"، "أعمدة تلغراف صدئة يحوم حولها غرابٌ أسود").
فالروائي كان متمكناً من أدواته في السرد والتسلسل التاريخي للأحداث، ليجد القارئ نفسه يعيش تلك الأجواء كحقيقة مرعبة، ينتقل مع بطل الرواية عبر تسلسلها الزمني، خائف عليه ليسقط في أيدي عسس الليل أو عناصر الحرس القومي. نجد الروائي يعاني من واقع حال ما يعيشه المجتمع العراقي مع الطغاة والقادة المتجبرون بالأمس واليوم. ومع ذلك فإنه لا يستطيع إلا أن يكتب من خلال طموح الاعتراف بموهبته التي لن تفارقه، فيتعلق بالهدف من خلال روايته التي يضفيه على نفسه وعلى كتابته. فالاعتراف به يعني الاعتراف بدوره الاستثنائي داخل المجتمع. ونجد ذلك في صفحات روايته ص33: حين تلومه والدته على دخوله المعترك السياسي (خلّي سلاتين يسلتكم!!)، ترددها كنوع من العتاب لأم متلهفة لإبنها الكبير وهو منصرف عنها للعمل السياسي، و(سلاتين) هنا تقصد به القائد الشيوعي (ستالين)، أو في ص40 حينما ينقلنا الروائي لحال عائلة محمد الخلف حينما تتحدث زوجته لأبو عباس المرسل كي يجمع اطراف العائلة في قرية العطراني: (كما ترى يا ابن عمي، انقطع خالد عن الدراسة لا أظن أنه سيعود إليها، لديه خشية من الاعتقال، البقاء في البيت بعيداً عن عيون العسس أسلم له من التجوال، محسنة انصرفت للخياطة ليل نهار بأجور توفر بعض احتياجاتنا اليومية، عامر يلفّ الأزقة في دراجته منذ الصباح الباكر يبيع الصمون قبل الذهاب إلى المدرسة، أما عادل فما زال صغيراً لديه رغبة بالمشاركة). هذا هو واقع حال عائلة السياسي في عراق الثورة والثروة، ثم ينقلنا الروائي في ص43 إلى حال العاصمة بغداد وكثرة نقاط التفتيش للبحث عن أخوة الأمس وخصوم اليوم.
شخوص الرواية قد صاغها ونسجها بتأني وبدقة عالية ليظهرهم من الواقع الذي جعلنا ندور مع افلاكه وهم يتعذبون بسياط الدكتاتورية أمثال: محمد الخلف صالح كيطان، نوار، خالد، عويد، رضية، فطيم،  وغيرهم.
الرواية تتسابق الأحداث فيها بوصف تنقلك من حدث إلى آخر، وتوثق الواقعية التاريخية والأدب الحقيقي. ويصعب عليَّ هنا أن أقدم ملخصاً للبنية المركبة للرواية وبناء فصولها، إذ ما يهمني هنا هو الإشارة إلى الروح الملحمية التي تكتنف السرد، حيث يختلط الواقع بالأسطورة، والحقيقة بالحلم، والبطولة بالفكاهة، والبشر بالملائكة والشياطين. وتشكل موضوعة الرواية الضحية والجلاد وجوهر تأريخها الإنساني كله، فثمة دائماً جلاد وضحية، ليس في السياسة وحدها وإنما في كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية، بقدر ما يهدم الجلاد الضحية؛ تهدم الضحية جلادها. هذا هو ديالكتيك التاريخ نفسه. من عادة العتّابي أنه لا يترك ثيمّةً أو موقفاً أو وصفاً في مسار السرد إلا ويعتصره عصراً من خلال الطرق المتكرر، وعلى مفاصل مختلفة مرة، إلى أن يفككها تماماً، وهذا ما وجدته في روايته (منازل العطراني) التي يتكون عنوانها من كلمتين. فضلاً عن أن الرواية تحمل موقف استشهاد (عامر)، كذلك موقف الزوجة (زهرة) التي تمثل الزوجة العراقية المضحية.
الرواية تمثل سيرة ذاتوية بعد ربط الرواية بمذكرات الأديبة والصحفية منى سعيد الطاهر (جمر وندى) الصادرة عن دار سطور، والمتزوجة من الشهيد سامي العتّابي، والمتمثل بالرواية باسم (عامر). فالسرد الذي تسير به الأحداث حين تعرض منى سعيد الطاهر رحلة الخوف هذه، والهروب والتخفي من الاعتقال حتى تنال الأجهزة الأمنية من زوجها، و(سما) هي يمام ابنتها كانت في عمر الشهرين وبدسائس لا تجد للآن تبريراً لها ينال سامي حصته من التعذيب والشهادة.

21
محمد السعدي وأرشيف حكاياته النضالية في مذكراته (بيني وبين نفسي) (1-2)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
تتسلسل الأحداث التي يوثقها محمد السعدي ضمن الحدث الذي وقع، ولكن عندما تتابع مذكراته تصيبك الرهبة للمواقف التي مرَّ بها، والعناصر المندسة التي ساهمت بتغييب الكثير من الرفاق ممن نزل للعمل التنظيمي داخل الوطن؛ أمثال (فالح حسن "أبو بهاء"، وعدنان الطالقاني "أبو هيمن"، وشهاب العميل المزدوج)، ثم ينقلك إلى عمله بعد انفراط عقد الجبهة في منظمة (الصدى)، وأن كان كل توقعي أن هناك منظمة في الفرات الأوسط الوحيد التي استمرت حتى عام 1994م هي (منظمة الحقيقة)، إلا أن منظمة (الصدى) كما سلط الضوء عليها في مذكراته كانت تعمل وفق منهجية و(اشراف آشتي شيخ عطا ابن مدير بلدية كفري وابن أخ مكرم الطالباني، الوزير الشيوعي في فترة الجبهة مع البعثيين ووسيط المفاوضات) ص50، الصدى التي أسست عام 1978-1979 في بغداد، في الأوساط الطلابية في جامعات (المستنصرية وبغداد والتكنولوجية)، وكان عنصر الاتصال مام صالح، وكانت تستنسخ يدوياً بيانات الحزب وتوزع على محافظات العراق وفق منهجية (60 نسخة في كركوك، و250 نسخة في البصرة، و50 نسخة في الحلة) ص87، وكان هذا أول نشاط للمنظمة في شباط 1979م، ونشاط اعضائها بالتحرك باتجاه الشيوعيين المقطوعين الصلة بالتنظيم.
ثم ينقلنا السعدي عبر سياحته في الذكريات ودراسته الجامعية وعلاقاته الرفاقية، ونشره الفكر الشيوعي في الوسط الطلابي، أبان الحرب العراقية الإيرانية، ثم يلقي نظرة على الواقع المعيشي للفرد العراقي وفق عمليات التهجير القسري لما يسمى (بالتبعية الإيرانية) في صفحات مذكراته ص63-74.
في مذكرات السعدي زخم من الأحداث حقبة ثمانيات القرن الماضي، وقد سلط الضوء على عمله الأنصاري مع رفاقه في أكثر من مكان. والمذكرات تتضمن أكثر من (60) محطة، ينقلك من عالم إلى عالم، من عالم قرية الهويدير إلى عالم العاصمة بغداد والحياة الجامعية والبيوت السرية للعمل الحزبي، ثم الانتقال إلى الجبل في السليمانية ورحلة النضال، ومعارك الحركة الأنصارية في قرداغ ودربندخان، ورحلة العذاب في الشعبة الخامسة في بغداد، ثم العودة إلى الجبل، والهجرة إلى إيران ومن ثم التوجه إلى دمشق والاستقرار في مملكة السويد.
أجد محمد السعدي في مذكراته شجاعاً وجريئاً في طرح الآراء والأفكار، وتسليط الضوء على اخطاءه أبان الحركة الأنصارية وندمه كما ذكر ذلك في ص188 قائلاً: (وهنا اسجل نقداً ذاتياً وندماً شخصياً لمشاركتي في استخدام القوة عندما كان أبو زكي (حميد بخش) يحقق مع (أبو بهاء) في وادي (كلي زيوه)، وأنا المكلف بالحماية أثناء جلسات التحقيق اليومية).
فكانت مذكرات الأخ أبو بيدر محطات مهمة في سرد التفاصيل، ولفتات ذكية ومواقف في النقد والنقد الذاتي لأخطاء القيادة، وقد تناول المؤتمر الرابع 1985م بكل تعقيداته وملابساته وانقسامات اعضاء اللجنة المركزية حينما قال السكرتير (اجتمعنا ليُلغي نصفنا النصف الآخر). وقد شخص السعدي من خلال مسيرته النضالية العيوب والثغرات الأمنية التي عانى منها؛ لكنها فتحت أمامه آفاقاً جديدة.
من خلال هذه القراءة البسيطة لمذكرات السعدي أجده استدرج إلى مملكته حروف ابجديته الماركسية من خلال الصبر والتحدي والمطاولة. ومن خلال اطلاعي على ثلاث كتب قدمها للقارئ هي (1-سجين الشعبة الخامسة، 2-أوراق صفراء من الصندوق الأسود، 3-بيني وبين نفسي)، أجد نفسي يخيل لي أني أسمع صوته الخفي المرموز من وراء الصوت الظاهري، وصيحة الحبور في مواقف تصدى لها في سجن الشعبة الخامسة وعلى جبال كردستان، وهو الذي يجبرنا على الاطلاع على تجربته النضالية قائلاً (هاكم اقرأوا تجربتي)، أنه صوته الذي يبادلك الحبور من خلال انجاز تجربته مع الثوار وفي الداخل وفي الاغتراب السويدي، لا لحاجة سوى لنقل تجربته.
أجد نفسي أشعر بالأسى لأني لم اتعرف عليه شخصياً قبل اطلاعي على تجربته النضالية، ومن خلال حروف كلماته تعيد بيَّ ذاكرتي إلى الوراء كوني عايشت حقبة الجبهة وانفراط عقدها عام 1978م، ثم الاعتقال في دائرة أمن بلدة الديوانية، والمراقبة اليومية حتى انتقالي للسكن في مدينة الحلة والهجرة إلى الدنمارك.
شهادة للتاريخ وجدت السعدي من خلال مذكراته ناقداً لكثير من الظواهر والتحالفات التي شهدها الحزب الشيوعي العراقي (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، جود، جوقد)، لكنه لا يفصل عن ما جرى منذ انعقاد عقد الجبهة وحتى انتقاله للمنفى عن السياق التاريخي، والظروف التي أحاطت به، ليس تسويغاً لها وإنما لشرح أولياتها وإيضاح أسبابها حرصاً على حزبه وتاريخه، فهو من النوع الذي لا يجامل في الصح والخطأ، ولديه الشجاعة في قول ما يراه صائباً وفعله، حتى لو خالف اعرافاً كانت سائدة في المسيرة النضالية وربما حاكمة.
لذلك أجد أن الكتابة في قراءة المذكرات الخاصة بالسعدي تحتاج إلى تركيز كبير ودقة، وبخاصة أولئك الذين مروا بمراحل نضالية مختلفة، لذلك اقول أني احترم هذا الرجل حقاً لتاريخه ونبل أخلاقه وعلو مكانته.
أما ملاحظاتي حوله المذكرات، اسجلها بنقاط في حالة الرغبة في طباعتها مرة أخرى:
أولاً: ادراج تأريخ قرية الهويدر.
ثانياً: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للقرية.
ثالثاً: العائلة والنشأة والولادة.
رابعاً: التأكد من صحة بعض المعلومات البسيطة في بعض الصفحات وتلافي الأخطاء الطباعية.
خامساً: الابتعاد عن تكرار الأحداث.
 
 
الحلة 6/12/2023

22
محمد السعدي وأرشيف حكاياته النضالية في مذكراته (بيني وبين نفسي) (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
يتحدث ابن الهويدر محمد السعدي عن حياته ونشأته في مذكراته الموسومة (بيني وبين نفسي.. حكايات من أرشيف الحركة الشيوعية العراقية) الصادر عن دار الرافدين في بيروت عام 2021، (397) صفحة من القطع المتوسط. وكان الإهداء إلى شريكة حياته جنان، وتقديم الدكتور عبد الحسين شعبان.
يتطرق السعدي عن تاريخ منظمة الهويدر للحزب الشيوعي العراقي أبان التحالف الجبهوي مع حزب السلطة (1973-1978م)، مسلطاً الضوء على دقائق الأمور والحركة الانصارية في كردستان العراق، من خلال اطلاعي على المذكرات وجدتها وثيقة تأريخية مهمة لحقبة زمنية وثقها السعدي في كتابه هذا.
فمنذ أول الطفولة كان مدققاً في اختيار أصدقائه، حتى أن حدساً ما يسبق الوعي وراء هذا الأختيار، فضلاً عن طبيعته الشخصية وما نشأ عليه من أعراف اجتماعية، تجعل من علاقاته في مرحلة الشباب واطلاعه على الفكر الماركسي ذات طبيعة قد دفعته إلى المطالعة والتثقيف الذاتي.
يؤكد في ص25 من كتابه بأن (الطفولة هي التي تحدد مصير الفرد، وفقاً إلى سيجموند فرويد، فقد ولدت وعشت وترعرعت في عائلة فقيرة مكونة من أحد عشر فرداً، في بيت طيني سقفه لا يقي من الأمطار ولا الأنواء)، فمن خلال ترعرعه في هذه العائلة الطيبة التي خلقت منه إنساناً طيباً محباً للفقراء والمحتاجين، مضحياً من أجل شعبُ حرُ يعيش بأمان وسلام، ربما كانت لبؤس الحياة قد خلقت منه إنساناً حالماً بعراقٍ جميل.
المذكرات عبارة عن موسوعة تاريخية فلسفية أدبية توثق تاريخ ادباء ومثقفي قريته، ومن خلالها يسلط الضوء على المصادر الأدبية والفلسفية التي أثرت على مسيرته الأدبية والثقافية والنضالية، كما يذكر في ص27-28 من ذكرياته قائلاً: (تأثرت بكتابات الرائد الاشتراكي سلامة موسى، ثم جان جاك روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي، ولكن كان أكثر من ترك أثراً في حياتي آنذاك، هو سلمان الفارسي أحد أصحاب النبي محمد... وهنا شخصية أخرى تركت أثراً في نفسي وفي ذاكرة كل من تمعن في خصالها، إنه أبو ذر الغفاري، لشجاعته وزهده ومواقفه وخصاله الحميدة).
من خلال المذكرات وجدته صادقاً مع مشاعره ومع نفسه في طرح افكاره أو اعترافه بطريقة اعتناقه للشيوعية قائلاً في ص28: (منذ بداية طريقي في الإيمان بالشيوعية، كنت أجهل أركانها الفلسفية والاقتصادية والفكرية، لكنني تأثرت بها عاطفياً، واعتقدت بمثلها الاجتماعية من خلال مناقب الشيوعيين ومآثرهم في قرية الهويدر وما يحملون من مُثل وأخلاق وشجاعة طيبة).
يحمل السعدي من خلال مذكراته اسلوباً أدبياً راقياً، يشد القارئ الكريم في متابعة حروف كلماته، فهو يسيح بالقارئ من خلال اسلوبه الجميل عبر بساتين الهويدر وشاطئها الجميل، ثم ينقلك في ص31 إلى قصص وحكايات القراء الحسينيين أمثال وطن وحمزة الزغير وقصيدته الموالية لحزب السلطة (يا حسين انهضت من أجل العدالة)، ومديحه للبعث وبكر وصدام، لكن في ص32 من مذكراته يذكر معلومة قد غابت عن ذاكرته بنسب أم كلثوم ورقية بنات النبي محمد إلى ابن عمه علي. ثم ينقلنا إلى بداية الوعي والانتماء السياسي ولقاءاته مع المناضل باقر إبراهيم وحديثهم عن متطلبات المرحلة مطلع سبعينيات القرن الماضي ودور الاتحاد السوفياتي في الضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي لعقد التحالف الجبهوي مع حزب السلطة، فيذكر في ص35 رأي إبراهيم بالتحالف قائلاً: (إنها إنجاز وطني وقومي إذ لا بد من التضحية وتقديم التنازلات على حساب المواقف والمبادئ)، لكن بعد تقديم التنازلات ماذا كانت نتيجة التحالف غير إبادة الشيوعيين كما تمت إبادة قياداتهم والقاعدة عام 1963، فقد ذكر في ص36 اعترافات إبراهيم علاوي في كتابه (المقايضة) قائلاً كان (حجم الضغط على الشيوعيين من جانب المركز الأحمر "الاتحاد السوفيتي"، وللأسف لم يؤخذ رأي القاعدة الحزبية في المفاصل الأساسية مثل عقد الجبهة أو الدخول إلى مجلس الحكم الانتقالي بعد الاحتلال كما حصل عام 2003م).
وفي ص41-42 ينقلنا السعدي إلى عام 1978م والهجمة على القاعدة الحزبية بعد فتح مجال للقيادة للخروج من العراق عبر مطار بغداد وبعلم السلطة، وحينما يسأل السعدي القيادي باقر إبراهيم الموسوي (أبو خولة) حول موقفه من الجبهة: (هل أنت نادم على مشروع الجبهة مع البعثيين؟ أجابني: لم أندم عليها قطّ، بل بقيت عالقة وراسخة في ذاكرتي... لو كانت الجبهة موجودة في عراق معافى سياسياً، لما تعرض شعبنا إلى تلك الحروب والويلات والحصار والطائفية والاحتلال، فضلاً عن أنها عززت من قوتنا جماهيرياً ووسعت رقعة تنظيماتنا. وليس الخلل على مبدأ التحالفات في تاريخ الشيوعيين، بل إن الخلل كان في قادة تلك التحالفات وموضوع الاستراتيجية وجدلية التكتيك)، هذا التفاؤل كان لموقف المناضل باقر إبراهيم الموسوي، لكن السؤال هو هل كانت القيادة تأخذ برأي القاعدة في مثل هكذا قرار استراتيجي مهم قد عرض الحزب إلى انتكاسات متلاحقة؟ علماً أن قيادة البعث كان هدفها من وراء التحالف القضاء على أكبر قاعدة جماهيرية وطنية تمثل الشيوعيين العراقيين.
تتنوع مذكرات الصديق محمد السعدي تنوعاً شديداً في انشغالاته لتوثيق حقبة زمنية مهمة من مسيرة الحركة الشيوعية العراقية، من خلال الفضاءات التي تمتد وتتسع إلى حدٍ كبير لتشمل جانباً شاسعاً من حياته بعد الانتقال إلى الجبل مع الثوار، ليحمل بندقيته ويشارك تجربته في القتال، فينتقل إلى تجربة شديدة الامتداد من تفاصيل الشأن العام السياسي والفكري، فكانت سعة تجربته في الجبل قد تغلغلت عميقاً في وجدانه.
هناك قراءة وملاحظات أخرى مهمة تفيد القارئ الكريم وصاحب المذكرات ستنشر في حلقات قادمة.
 
حلة 5/12/2023
 

23
مذكرا الدكتور محمد جواد فارس في نصف قرن من التخبطات
نبيل عبد الأمير الربيعي
الدكتور محمد جواد فارس من مواليد مدينة الحلة عام ١٩٤٧م، اكمل دراسته الأولية والثانوية في مدينة الحلة ثم هاجر إلى سوريا لغرض الدراسة، ثم حصل على زمالة دراسية إلى الإتحاد السوفيتي (سابقاً) من خلال الحزب الشيوعي العراقي، وبتوسط من عائلته. ثم حصل على اختصاص الطب الباطني عام 1980م، وعمل في جمهورية انغولا الشعبية وفي لبنان وسوريا وليبا واليمن الديمقراطية، حالياً مقيم في بريطانيا.
صدرت مؤخرات مذكراته عن دار الرافدين تحت عنوان (نصف قرن في رحاب الحركة الشيوعية) بواقع (186) صفحة من الحجم المتوسط، وكانت المقدمة بقلم الدكتور عبد الحسين شعبان، وقد ذكر شعبان في مقدمته للكتاب ما يلي في ص7-16 قائلاً: (أحيانًا تستهويك المذكرات وأحداثها وتفاصيلها، وفي أحيان أخرى يستهويك صاحبها صانع الحدث أو المشارك فيه أو الشاهد عليه، فما بالك حين تشدّك المذكرات مثلما تتابع سيرة كاتبها. أُعجبت بمذكرات د. محمد جواد فارس مثلما أنا معجب بشخصيته وشجاعته وتواضعه، ولا يمنع ذلك من الاختلاف في بعض توجّهاتنا ووسائلنا في التعبير عنها، ناهيك عن بعض المواقف، لكنني كنت على تواصل مستمرّ معه طيلة ما يزيد عن خمسة عقود من الزمن. يتمتّع فارس بحيوية فائقة، فهو شخصية اجتماعية منفتحة، ولديه علاقات واسعة على الصعيدين العراقي والعربي، وبشكل خاص الفلسطيني، حيث عمل في المستشفيات الفلسطينية، وتطوّع خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 لمعالجة الجرحى وتقديم المساعدة الطبية للمقاومين وعموم الفلسطينيين واللبنانيين، مثلما كان يتحلّى بروح إنسانية باهرة، فقد تطوّع قبل ذلك ضمن الفريق الأممي (كطبيب) للعمل في أنغولا. وكان في الشام مرجعاً لجميع العراقيين بمختلف توجّهاتهم، يحمل سماعته ويواصل فحص مرضاه ويُعيد البسمة إلى وجوه الأمهات بمعالجة الأطفال ويزيل الهم عن الشيوخ بتخفيف الآلام، وفي أغلب الأحيان يوفر الدواء المجاني لهم ويزورهم ليطمئن على صحتهم. وفوق كلّ ذلك، فالدكتور محمد مبادر ومجتهد أخطأ أم أصاب، وهو ما تُظهره مذكراته الغنيّة بالعبر والدروس، فلا يتوان من النقد والنقد الذاتي، فالمواقف والآراء تحتاج إلى مراجعة وتدقيق باستمرار، فما بالك بمسيرة زادت عن خمسة عقود من الزمن في ظلّ السجون والمنافي والاستبداد).
مطلع عام 2019م تعرفت على الدكتور محمد جواد فارس من خلال صفحات الفيس بوك، وقد اشار لي الباحث محمد علي محيي الدين للأتصال به وتوثيق تاريخ (اتحاد الطلبة العام) حقبة الستينيات للبدء مع محيي الدين لتوثيق تاريخ محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي، فكان محمد جواد حقبة الستينيات مسؤول اتحاد الطلبة العام في المدينة ومشارك في أحد مؤتمراتها ومندوباً عن الاتحاد، وقد تعاون معي في توثيق تاريخ اتحاد الطلبة في المدينة، ولم اكن أعلم أن الدكتور محمد جواد قد ساهم في جبهة وطنية وقومية مع تنظيم لحزب البعث العربي الاشتراكي جناح محمد يونس الأحمد كما ذكر ذلك في ص123 وما بعدها في مذكراته، وكان يمثل الدكتور محمد جواد والدكتور فاضل الربيعي الحزب الشيوعي العراقي- جناح اتحاد الشعب كأحد قدامى الشيوعيين، وكانت صدمة لي وهو يكرر في صفحات مذكراته أنه كان داعماً للمقاومة كما يسميها مع حزب البعث ضد الاحتلال الامريكي للعراق، مهما كان الاحتلال جائر والوطن محتل كيف لسياسي محترف ومعروف يتحالف مع قادة حزب ملطخة ايديهم بدماء العراقيين ورفاقه من الشيوعيين.
الكتاب يوثق تاريخ محلية بابل حتى عام 1969 وهي حقائق كما ذكرها محمد جواد، إلا أنه بعد انحرافه عن مسيرة الحزب في المؤتمر الرابع عام 1984م بدأ يتخبط في انتقاد قيادة الحزب والانضمام لعناصر يمينية متطرفة مثل جان محمد يونس الأحمد، وإن اذّكر الدكتور أن للحزب فضل عليه لولا الزمالة الدراسة لدراسة الطب في موسكو لكان اليوم عاملاً أو صاحب مقهى في مدينة الحلة كما كان عمل والده في إحدى محلات الأسطة جابر. لكن أن تذكر الأكاذيب في مذكراتك فهذا معيب على مسيرتك الحزبية. أنا اكتب لست مدافعاً عن الحزب ولكن لتوضيح الحقائق.
عندما اقلب صفحات الكتاب أجد فيه الكثير من الأكاذيب والمغالطات والسذاجة لرجل قد يكون مخرفاً أو فاقد العقل، فالمذكرات خالية من التسلسل الزمني للأحداث، واسلوب الصفحات الأولى ركيكة وفيها الأخطاء الاملائية والمطبعية، وكلمة (كان وكانت) تتكرر اكثر من مرة في السطر الواحد حتى ص81، وما بعد ص82 أجدها قد كتبت بأسلوب آخر قد يكون ساعده كاتب آخر في توثيقها، فضلاً عن اكاذيب سمعتها بنفس الأسلوب وهي من قصص العجائز ومن آخرين أمثال الرهيمي والمخرف ناهي عندما ذكر الدكتور فارس في ص43 عن طريق توزيع منشورات الحزب الشيوعي في مدينة الحلة، قائلاً: (كان لدينا جيران في محلة المهدية، وهم من مربي الطيور كما ندعوهم (مطيرجية)، فقررت الذهاب إلى أحدهم وكان يدعى جحش فقلت له: لدي رهان بأن الطيور الجلدة أي الأصيلة، ترجع إلى محلها من أي مكان تطير؛ لذا طلبت منه عشرة طيور، وأخذتها في سلة إلى بيت رفيق معلم (أبو هيفاء) وموقع بيته في القرب من اليهودية، وهناك ربطت رجل كل طير بسيجارة فلتر بخيط يحمل خمسة بيانات مربوطة بخيط، وحين ينفتح الخيط أثناء طيران الطير وتكون السيجارة مشتعلة لحين الوصول إلى الفلتر ينقطع الخيط، ومن ثم تسقط البيانات في الجو؛ ونجحت العملية؟؟؟؟؟). لا اعرف هل محمد جواد فارس من خلال هذه العملية كان قد حصل على براءة اختراع في توزيع المناشير أم هي كذبة لتنطلي على المغفلين.
أما الكذبة الأخرى وقد تكون ذاكرته قد خانته بسبب تجاوز العمر السبعين وهو من مواليد 1947م، فقد ذكر في ص44 من مذكراته قائلاً: (قد أقدم زملاؤنا في ثانوية كربلاء على سرقة آلة كاتبة من الثانوية المذكورة، وجرت حملة اعتقالات في صفوف زملائنا، حتى إن عدداً منهم تعرض للتعذيب الوحشي في قصر النهاية وأمن كربلاء). وارغب بتذكير الدكتور أن عملية سرقة الطابعة ليست في كربلاء وإنما في مدينة الديوانية، قام بها الشاعر الراحل علي الشباني ورفاقه عام 1964م وقد ألقي القبض عليهم وسجنوا في سجن الحلة المركزي لا في قصر النهاية.
أما في ص 57-58، فيذكر قائلاً عندما كان طالباً في موسكو أنه استلم (رسالة من محمد حمزة (الزبيدي) وكان مسؤولاً في منظمة البعث في الحلة، يخبرني فيها أنه وصل إلى موسكو للدراسة الحزبية، وكان نسيبي جبار معروف قد بعث تمراً، وتحدث معه طالباً منه مساعدتي للحصول على جواز السفارة (السفارة العراقية في موسكو)، وقد أرسل مع الرسالة أنه مغادر موسكو وطلب مني الاتصال بالمدعو فاضل البراك في الملحقية العسكرية، وقد كلمه عني والرسالة التي أوصلها إلى البراك معي.... وكان السفير صالح مهدي عماش، قدمت الطلب... وبالفعل رفع الطلب إلى وزير الخارجية مرتضى سعيد عبد الباقي وبعد فترة جاءت الموافقة على اصدار الجواز لي ولخليل الجزائري وعبد الأمير الموسوي). والكل في تنظيمات الخارج يعلم أن خليل الجزائري كان متعاوناً مع فاضل البراك، في حين أن الدكتور محمد جواد فارس كان معارضاً للنظام فلا اعرف بأي صفة ووسيلة وثمن تم الحصول على جواز سفر عراقي من السفارة العراقية.
ولو نتابع حياة خليل الجزائري اليومية في موسكو وفي فترة عمل البراك في السفارة العراقية، كان الجزائري مسؤول تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي لعموم الاتحاد السوفييتي، ويذكر د. خليل عبد العزيز في ص173 من مذكراته (هارب من الإعدام) قائلاً: (من خلال معرفتي بفاضل وجدت أن الكثير من أفعاله تبعث على الريبة، فقد استطاع بناء علاقات ليست بالبسيطة أو العابرة مع بعض الرفاق في الحزب الشيوعي العراقي، ولوحظ تقربه ولقاءاته الكثيرة بالبعض من هؤلاء، وبالذات خليل الجزائري الذي كان سكرتير منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي، وهو خريج معهد بليخانوف في موسكو، وعمل آنذاك استاذاً في جامعة قسنطينة بالجزائر. كان فاضل البراك ومنذ بداية قدومه إلى موسكو قد وضع نصب عينيه شخصية خليل الجزائري، وكان له حسب ما يدعي كرهاً شديداً، وقد ألمح لذلك أمامي، وكانت هناك فعلاً مماحكات كثيرة بين الشخصين، رغم أن تلك الفترة كانت فترة الجبهة الوطنية بين البعث وحزبنا الشيوعي، بعد فترة ليست بالقصيرة أخبرني بعض الرفاق في المنظمة الحزبية برؤيتهم لفاضل البراك جالساً في أحد مطاعم العاصمة مع خليل الجزائري، عندها سألت خليل الجزائري عن تلك الجلسة، فأخبرني بأن فاضل البراك قد دعاه على وجبة طعام فلبى دعوته، ودار الحديث بينهما عن طبيعة العلاقة بين الحزبين، والتطورات السياسية في العراق، وسألت فاضل البراك عن تلك الدعوة، فأخبرني بأنه أراد منها أن يكسر جناح خليل الجزائري ونعته بالسافل، بعد تلك الجلسة راح خليل الجزائري يتقرب من البراك ويدخل ويخرج من السفارة العراقية، ثم خرج من تنظيمات الحزب الشيوعي وسافر إلى براغ، وهناك عمل مع مجموعة النهج، ثم سافر إلى بغداد وشكّل هناك مع خالد السلام وماجد عبد الرضا مجموعة أراد حزب البعث تسويقها بديلاً عن الحزب الشيوعي، ولكن بعد مقتل فاضل البراك وصف صدام حسين هذه المجموعة من نتائج العلاقة مع فاضل البراك ومن عوائده الخاصة).
نعود لمذكرات الدكتور محمد جواد فارس، فعندما قرأت العنوان اعتقدت أن الدكتور يوثق مذكراته وفق منهجية تخدم الحركة الشيوعية، ولكن عندما بدأت بمطالعة الكتاب تبين لي أن الدكتور يبث سمومه من خلال الكلمات ويوثق حياته الفكرية من خلال تخبطاته وميوله المتذبذب بين اليسار والبعث والارتماء بأحضان عزت إبراهيم الدوري وطارق عزيز ونظام صدام، ففي زيارته الأخيرة لبغداد عام 2002م كما ذكر ذلك في مذكراته بعد توجيه أحد ممثلي النظام له الدعوة مع رفيق دربه فاضل الربيعي، فيذكر في ص112-113 قائلاً: (وفي أواخر عام 2002م، وعلى وجه التحديد قبل أربعة أشهر من العدوان الأنكلو أميركي على العراق، وفي آخر الليل، وصلتني مكالمة من باريس من الصديق عبد الجبار الكبيسي يفيدني فيها بتوجيه دعوة من الحكومة العراقية لنا، لزيارة بغداد والتحدث معهم حول ما يدور من أمور حول التآمر لضرب العراق، مؤكداً لي أنهم قالوا: نحن نرغب في أن يكون الدكتور معكم. قلت له: أنا على كامل الاستعداد، إن كانوا مستعدين للاستماع إلينا، بشكل ينسجم مع ما يجري الآن من تآمر على ضرب العراق، فقال لي: سوف يكون معك غداً فاضل الربيعي للتوجه إلى بغداد من دمشق، واتفقنا، أنا وفاضل، على أن يكون سفرنا في صباحٍ مبكِّر. وكان الشهر رمضان، وصلنا إلى الحدود العراقية (الحدود العراقية السورية) وكان النظام قد رفع أسماء المطلوبين من قائمة المنع، وبعد سفرة طويلة داخل العراق، وصلنا إلى الفندق المخصص لضيوف الدولة العراقية والمعروف بفندق الرشيد، وهناك ألتقينا مع عبد الجبار الكبيسي وعوني القلمجي ولبيد (الصميدعي)، وعامر الذرب).
هكذا كان موقف محمد جواد وفاضل الربيعي السقوط في احضان نظام صدام الذي احدث المجازر والقتل بآلاف الشيوعيين من رفاقهما، لا اعرف أي سقوط هذا الذي يحدث، لدناءة النفس، أم ليبيع الانسان شرفه ومبادئه مقابل اللقاء مع رأس ازلام الطاغية ويحتفل معهم في بغداد وابناء العراق يتضورون جوعاً من الحصار الذي انهك الحرث والنسل، لا اتمالك نفسي ولا تأتي الكلمات كي اعبر عن موقف انسان خان الحزب والوطن، هكذا يكون الانسان ضعيف امام الفتات من المأكل والمسكن والدولار، ثم يوعده مسؤول المخابرات كما يذكر في ص116-117 قائلاً: (المسؤول الأول عن المخابرات العراقية، طاهر الحبوش بدعوتنا إلى لقاء على جلسة حلويات وفاكهة وكرزات للحديث.... وأراد توديعنا (طاهر حبوش) شد على يدي مازحاً: كل هذا وأنت الآن تريدنا أن نمدد جوازك وهو يبتسم، ونادى على من يرافقنا وهو الرائد أبو فراس، وقال له أمامي: غداً تذهب مع الدكتور إلى مديرية الجوازات، وتصدروا له جوازاً جديداً. وفعلاً جرى ذلك، وتم إصدار جواز جديد لي... وكان آخر لقاء جرى معنا بناءً على طلب طارق عزيز نائب رئيس مجلس الوزراء، وجرى اللقاء في قاعة اجتماعات مجلس الوزراء، فجلسنا وتحدثنا معه... وهنا انتبه طارق عزيز لطلبنا نحن الشيوعيين (علماً انه طرد من الحزب عام 1984م في المؤتمر الرابع للحزب، واليوم يمثل الحزب) متجسداً بما يلي: هناك في رقبتكم أي السلطة 25 ألفاً ممن استشهدوا وغُيبوا، والمطلوب من أجل الوحدة الوطنية، أن يخرج الرئيس ليعتذر من عوائلهم ويعتبرهم شهداء الاحتراب السياسي، ويعوضوا مالياً ومعنوياً... وإجازة أحزاب وطنية وليست إسلامية، الموافقة على إصدار صحافة معارضة وطنية... وقال لنا: ابقوا هنا ونحن على استعداد لنعطيكم إجازة لإصدار جريدة، فقلنا له: لديكم قوميون وشيوعيون وبعثيون يمكن منحهم إجازة صحفية، وقال لي: لماذا لا تبقى هنا، ونحن نعينك مديراً لصحة بابل).
هكذا كانت مطالب هؤلاء من رئيس طاغية الاستهانه بحياة الشعب، أي سذاجة هذه، وأي سياسيين هؤلاء ممن يذهبوا لملاقاة قادة النظام ليعرضوا انفسهم أمامهم للحصول على جواز سفر أو منصب مدير عام. لا اعرف ماذا اكتب فسلسال الكلام توقف عن الكتابة والتعبير.
أما في سوريا فكان دور الدكتور محمد جواد فارس هو تحالفه مع البعثيين وآخرين كما جاء في ص121-122مع ما يسمى (اتحاد قوى تحرير العراق، ضم شيوعيين وطنيين وقوميين وبعثيين وناصريين، وقد اخترت كناطق رسمي باسم اتحاد قوى تحرير العراق. وأصدرنا نشرة دورية تتضمن أخبار المقاومة العراقية للاحتلال. وكنا نجتمع دورياً كل أسبوعين... وكانت هناك صعوبات في توفير أدوات للمقاومين في الداخل. وقد اعتمد الكثير منهم على ما يتوفر من أسلحة فردية كانت موزعة لدى البعض منهم من المنتمين لحزب العربي الاشتراكي، ومن المنتسبين للجيش العراقي والأجهزة الأمنية السابقة، التي قام بحلها الحاكم المدني بول بريمر)، وفي ص125 يذكر محمد جواد قائلاً: (وكنا مشاركين في جبهة وطنية وقومية مع تنظيم لحزب البعث العربي الاشتراكي جناح محمد يونس الأحمد، وكانت لديهم نظرة نقدية لما جرى في العراق إبان حكمهم... وكنا ثلاثة من الشيوعيين وهم: عدنان سليم نائب رئيس الجبهة وفاضل الربيعي ومحمد جواد فارس، وكنا نشارك في الاجتماعات في مكتب البعث). ثم يعاود التحفة محمد جواد فارس في مذكراته الخائبة متذكراً في ص126 قائلاً: (ومن نشاطات الجبهة قمنا بالإعداد لمهرجان للجبهة، وتخلل المهرجان الخطابي إلقاء الكلمات، وأُلقيت كلمات باسم الجبهة وحزب البعث، وكلمة الشيوعيين ألقيتها أنا)، أي كان يحلم أن يلقي كلمة بجبهته مع البعث وما يسمى المقاومة باسم الشيوعيين وهو المطرود من الحزب. ثم يتابع في ص127 قائلاً: (وألقى الرفيق أبو سعيد عبد الوهاب الرشواني كلمة الحزب الشيوعي السوري وهو على مقربة من تاريخ حزبنا وملم بأحداثه، وبعد الحفل الخطابي كُرم عدد من الأصدقاء بدرع الحزب، كان من بينهم الشاعر العراقي المعروف عبد الرزاق عبد الواحد الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي حتى انقلاب شباط 1963م، وبقى معتز بتاريخه على الرغم من أن عدداً غير قليل من العراقيين، يصفونه بشاعر صدام... كنت اشارك في ندوات سياسية وشعرية ومناسبات وطنية وقومية تعقد في البيت العراقي التابع لقيادة قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان بقيادة فوزي الراوي عضو القيادة القومية). ما هذه الهلوسة يا دكتور هل فقدت عقلك لتتحالف وتوزع الدروع باسم الحزب، لا اعرف بأي كلمات ارد على سذاجتك وتخلفك الفكري.

24
تاريخ الأكراد في العراق

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
الأختلاف الواسع والأفتراضات المتعددة بين العلماء والباحثين حول أصل الأكراد وأسلافهم، والمواطن التي استوطنوها بعد انتشارهم من مهدهم، إلاّ إننا نستطيع أن نقول بصورة عامة، أن الأكراد والجبال لا يفترقات، كلما بدأت السهول يترك الأكراد الأرض للعرب، وحوالي بحيرة وان للأرمن، هذا ما يؤكده العالم الآثاري مينورسكي، أما كردستان فهي قديمة قِدم الزمان.
كانت لي الرغبة منذُ أكثر من عشرة سنوات بالبحث في هذا المجال، فبدأت بتوفير المصادر للبحث والتحليل للوصول إلى قناعة تامة ورأي قاطع بصدد هذا الموضوع، وقد اطلعت على رأي الباحثين والمستشرقين امثال: جليلي جليل ومحمد أمين زكي والدكتور شاكر خصباك والدكتور عبد الرحمن قاسملو والاستاذ جلال الطالباني والدكتور كمال مظهر أحمد والمقدم السوري منذ الموصلي والدكتور جمال رشيد أحمد والدكتور فوزي رشيد والأستاذ حمه رشيد، والروسي الأصل ق. ف. مينورسكي، وباسيل نيكيتين، م.س لازاريف، ن،أ خالفين، مايكل إم غينتر، مارتن فان بروينسن، كيو موكرياني، كريس كوجيرا، سي جي. ادموندز، ستيف لونكريك، ديفيد ادامسن.
إن أكثر المعلومات القيِّمة عن الكُرد موجودة بشكل رئيسي في المؤلفات المكتوبة باللغة العربية خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين. ومن المعروف أن اللغة العربية في الفترة ما بين القرنين الثامن والتاسع خرجت عن كونها لغة البلاط وأصبحت بشكل رئيسي اللغة الرسمية للعالم الإسلامي.
كلما راجعت تاريخ الشعب الكُردي واطلعت على ما حملهُ من هموم واضطهاد، اشتدت بيّ الحاجة للبحث أكثر في هذا المجال. فالشعب الكُردي تعرض للنزعة الشوفينية القومية على مدار تعاقب الحكومات، وعلى مر الأزمان، لذلك تعرضت حركة التحرر الكُردية لأضطهاد وتهجير دائم، حتى وصل الأمر بحكومة البعث إلى استخدام السلاح الكيمياوي الفتاك وضرب المدن والقرى الكُردي، وخاصة مدينة حلبجة، حيث قتل خمسة آلاف من سكانها، ثم ابتدعت حكومة البعث اسلوباً قذراً آخر بمطاردة المدنيين الكُرد والتي اطلقت عليه عمليات (الأنفال)، فكان لقوات الجيش والمرتزقة المسلحين من الخونة ما يسمى (الجاش) بمحاربة ابناء الشعب الكُردي في المناطق والقرى، فضلاً عن تخريب حوالي (4500) قرية ومدينة كُردية، فقبضت على الرجال والنساء والأطفال بأكثر من مائة ألف، لتقتلهم بأساليب بشعة، وكذلك صور المقابر الجماعية شاهدة على إجرام النظام السابق، من خلال دفنهم في خنادق وهم أحياء، وأرض صحراء السماوة شاهدة على ذلك، كل هذه الأعمال الوحشية والعالم صامت وساكت دون استنكار، فضلاً عن قيام نظام البعث بتعريب المناطق الكُردية من خلال اسكان العرب واجلاء أهل الأرض الأصلاء الكُرد، وخاصة في مدينة كركوك وخانقين وسهولهما.
يقول الجنرال (بيير روندوث Rondot) في كتابه (كُردستان قلعة منسية): "في قلب آسيا القديمة وفي سالف الزمن، تقف قلعة كبيرة حيث ينتظر ملايين الرجال الأشداء إشارة من القدر، ولكن تلك القلعة ليست بين حساباتنا، فلم تكن كردستان دولة... كما أن اسمها لا يوجد في معظم أطالِسِنا، بل وتخترقه الحدود وحيث نسينا أصوله ووحدته النفسية، بل ووجوده حتى... وها هي أربعة قرون قد مضت حيث كوزنوفون عن قيمة الكاردوك Karduques أجداد الأكراد الحاليين".
لقد نال الظلم وأنواع مظاهر الجور الشعب الكُردي، وهو الشعب الذي يمتلك تأريخاً مشرقاً ومكتوباً بالدم، وكانوا عرضة للتشنيع والسَب والقدح على مر الحكومات السابقة، ولذلك كانت الحركة الوطنية الكُردية اسباباً لوجودها، وتستند قوميتهم على حق جميع الشعوب وكل الأمم في تقرير مصيرها، والتحكم في مواردها الخاصة، كما أقرت ذلك الأمم المتحدة في قرارها الصادر في السادس من ديسمبر 1952م. فالمجتمع الكردي المعاصر اليوم يختلف كلياً عما كان عليه الوضع قبل خمسين عاماً خَلت.
ويرى الدكتور كاظم حبيب حول الموقف من المسألة الكُردية قد "نشأ مع نشوء الدولة العراقية، هذا النشوء غير الديمقراطي والتربية العثمانية الاستبدادية والرؤية القومية والدينية المتعصبة والقاسية والعنيفة في آن واحد.. وأزداد في الطين بلّة موقف سلطات الاحتلال البريطانية الاستبدادي والاستعمار الاستغلالي من القضية الكُردية، وسعي هذه السلطات إلى تهميش دور الكُرد في المنطقة ومنع إقامة دولتهم الوطنية المستقلة على أرض كُردستان، والإصرار على تجزئتها.. وهذا يعني أن النُظم السياسية التي وجدت في العراق كانت كلها تسير على خط واحد إزاء المسألة الكُردية، إذ بَرز بعض التباين عند النُظم المختلفة، ولكن الموقف الجوهري من حقوق الشعب الكُردي ومن حقه في تقرير مصيره.
علماً أن الآراء حول أَصْل الأكراد، ونشأتهم لم تتوحَّد، وكذلك في بداية ظُهورهم في كُردستان؛ فقد ظهرت العديد من الفرضيّات، والدراسات حول أَصْل الكُرْد، وتاريخهم القديم، عِلماً بأنَّ بعض هذه الدراسات استدلَّت على أَصْل الكُرْد من خلال رَبْط الخصائص القوميّة للشعب الكُرديّ، كتَسمِيَة "كُرْد" التي كان لها مفاهيم ومعانٍ مُختلِفة عمَّا هي عليه اليوم، أو من خلال استكشاف التأثيرات الحضاريّة التي ظهرت في الحياة اللُّغويّة، والدينيّة، والثقافيّة لمُختلَف شُعوب الشرق الأدنى القديم، أو من خلال تحليل حوادث التاريخ القديم للأكراد، ودراستها، مُنذ العُصور القديمة، وحتى العَصْر الحالي وبمفهوم الكُرْد بصيغته القَوميّة الحاليّة، وبالنظر إلى المُعطَيات التاريخيّة، واللُّغوية، فإنَّ تصنيف الكُرد يعود إلى ما هو ضِمن الشُّعوب الإيرانيّة، إلّا أنَّ هذا لا يعني ثَبات أَصْل الأكراد بأنَّهم من إيران؛ فقد يكون عُنصر الكُرد قد امتدَّ من منطقة غرب بلاد فارس (إيران) إلى أواسِط كُردستان، أو قد تكون هناك قَوميّة أُخرى ذات تَسمِيَة مُشابِهة للكُرد، ولكن من أَصْلٍ مُختلِف ظهرت قَبل مَجيء الكُرد من إيران، واندمجت معهم، ومن الجدير بالذكر أنَّ كُلَّ ذلك كان دافعاً لظهور آراء، واعتقادات عِدَّة حول أَصْل الأكراد.
وحول أصل الأكراد يَعتقد مُعظمهم أنَّ نَسبهم وأُصولهم تعود إلى الكوتيّين الذين عاصروا السُّومريّين، وسكنوا مَدينة (بَابِل) الواقعة في العراق، واستطاعوا السيطرة عليها في عام 2649 ق.م، إلّا أنَّه مع مُرور الوقت سَقَط حُكمُهم، وتراجعوا إلى الجِبال، واستقرُّوا فيها، وأنشأوا نظاماً داخليّاً خاصّاً بهم، ويَعتقد الكُرديّ (مُحمَّد أمين زكي) أنَّ الأكراد القُدَماء هم من الشُّعوب القوقازيّة، إلّا أنَّهم تحوَّلوا إلى آريّين، واقتبسوا اللُّغة الميديّة الآريّة؛ وذلك بسبب اختلاطهم مع الأكراد الجُدُد (الميديّين)، ويَذكُر المُؤرِّخ الكُرديّ (محمود بايزيدي) أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى العرب، حيث يَرى أنَّ الأقوام الكُرديّة تعود في الأصل إلى القبائل البَدَويّة، وأنَّهم تحدَّثوا لُغتَهم (اللُّغة العربيّة)، ومع مُرور الوقت انفصل جُزءٌ من الأكراد عن البَدو، واستقرُّوا في مَناطِقهم الحاليّة.
أما رأي المُستشرقين فهناك بعض الفرضيّات المُتضارِبة التي تتَّفق فيما بينها ببعض النقاط، إلّا أنَّها تختلف في كثيرٍ من مَضامينها حول تحديد أَصْل الأكراد، ومن أهمّ هذه الفرضيّات: نظريّة مينورسكي: وهي نظريّة وَضَعها السيّد مينورسكي، وأكَّد فيها أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى الفُرس؛ أي الأَصْل (الهندو-أوروبّي)، وقد صنَّفهم مع الشعب الإيرانيّ، كما أنَّه اعتقد أنَّ الأكراد انتقلوا في القرن السابع عشر من منطقة (بُحيرة أرومية) إلى جزيرة (ابن عمر)، إلّا أنَّ مينورسكي في فرضيّته هذه لم يأخذ بالحُسبان أَصْل السُّلالات المُعقَّدة التي لم تختلط بالأكراد. أما فرضيّة السوفيتي مار: والتي تَنصُّ على أنَّ الأكراد الأصليّين لهم طبائع مُشابهة لطبائع الأقوام الآسيويّة الأُخرى، مثل: قبائل الأرمن، والكلدانيّين، والقوقازيّين. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ أَحد المُؤرِّخين المُستشرقين يرى أنَّ الأكراد هم في الأصل أحفاد الخالديّين الإيرانيّين من سُكّان الجِبال، وقد اشتهروا بشِدَّتهم، وقُوَّتهم. في حين يَرى البروفيسور (لهمان هوبيت) أنَّ الأكراد هم أجداد الجورجيّين، وهناك من يُرجِّح أنَّ أصل الأكراد يعود إلى الميدويستي، عِلماً بأنَّ البعض يعتقد أنَّهم يعودون إلى سُلالة الكاردوخيّين.
أما الدكتور حسين قاسم العزيز فيعتقد أن الأكراد هم من أصول السومريين، وقد هاجر بعضهم إلى بلاد الرافدين وأسسوا الحضارة السومرية فيها. أما رأي عُلَماء الأجناس والتاريخ يعتقد بعض عُلَماء الأنثروبولوجيا أنَّ الأكراد هم الجماعات البشريّة التي زَحفت إلى مناطق وَسَط آسيا ذاتها، وهي الأقوام (الهندو-آريّة)، وقد استدلُّوا على ذلك من خلال مُلاحَظة الصِّفات الخَلقيّة للأكراد الحاليّين؛ حيث إنَّهم يتَّصفون بطول القامة، وطول الرأس، وقِلَّة استدارته، بالإضافة إلى مُشابهة لون بشرتهم، وعيونهم، وشعرهم للصفات ذاتها لدى تلك الجماعات، ويرى الجغرافيّ (سترابو) أنَّ بِلاد الكُرد تَقَع في أرض فارس، وميديا، كما تُشير اللوائِح الطينيّة التي وُضِعت في عام 2000 ق.م إلى أنَّ الكُرد هم أقدم المُجتمعات الأرستقراطيّة في العالَم، كما يرى المُؤرِّخ الإغريقيّ (هيرودوت) أنَّ الشعب الكُرديّ ينحدر في الأصل من سُلالة الكروديوني، والعِرْق الآريّ.
فضلاً عن إن ما هو لافت للنظر أسماء بعض الأماكن التي ورد ذكرها مراراً في المصادر العربية، لكن تحت تسميات مختلفة نسبياً. فجبال منطقة كوردوك، نجدها قد وردت بعدة أشكال مثل (قردى) أو (قرد) أو (بقردى)، إن هذه التسميات المتعددة لذلك المكان المذكور هي التي شدت انتباه الباحثين في الدراسات الكُردية في سياق بحثهم لتحديد أصل نشأة العرق الكُردي. وقد أشار الجغرافي ابن رسته إلى أن أول المواقع التي شيدها نوع وأبناؤه هو (قرية بقردى) وتسمى (سوق الثمانين).
ومما تجدر  بالاشارة هو أن الأموريين حاولوا الاستيطان في مناطق كركوك وأربيل وعَبرَ قسم منهم نهر دجلة، لكن الملك (ادي سين) ملك (سيمورروم) المتاخمة لكركوك، وكان قسم من كردستان الجنوبية تحت حكمه قاتلهم وهزمهم وأسرَ خمسة من رؤسائهم وردهم على أعقابهم، وذلك منذ حوالي أربعة آلاف سنة. خلد الملك (ادي سين) انتصاره المنسي هذا على لوحة حجرية عثرت عليها اسرة مام ناصر في مزرعتها بقرية (قه ره چه تان) الواقعة في شمال غرب السليمانية بقرب جبل پيره مه گرون وذلك سنة 1984م.
أما اللهجات الكردية الحالية فتنقسم إلى أربع لهجات رئيسية هي: الكرمانجية والجوزانية والكلهرية والسورانية. كما توجد لهجة الزازا ما بين ديار بكر وأذربيجان. فاللهجة الكرمانجية يستعملها أكثر من 50% من الأكراد وتستعمل في الكتابة والتعليم خاصة في المنطقة الكردية الشمالية في العراق، كما يتكلم بها معظم الأكراد في تركيا وسوريا والاتحاد السوفياتي. وأمّا في المنطقة الجنوبية من كردستان العراق فتوجد بها قسمان من اللهجات:
أ– القسم الموكري: أي لهجة قبائل الموكري وسوران.
ب– القسم السليماني: أي قسم السليمانية وأردلان ويلاحظ أن اللهجات الكردية جميعاً مقسّمة جغرافياً.
وتعتبر لهجة موكربان التي هي أساس اللهجات المحلية التي يتكلم بها أكراد مناطق موكربان وسنه وسقز والسليمانية وأربيل وكركوك أنقى اللهجات الكردية وهي اللهجة الأكثر تطوراً في منطقة السليمانية حيث هي غنية باشتقاقات ومصطلحات جديدة خاصة خلال الخمسين عاماً المنصرمة وبها تكتب الكتب والقصص والمجلات. فلهجة سليماني تمّ الإجماع على أنها التعبير الأدبي الأول لا في العراق وحده، بل في الجهة الأخرى من الحدود الإيرانية. وربما عزى جانب من هذا التفوق اللغوي إلى الرعاية التي بسطها أمراء بابان على الأدب الكردي في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما يعزى بعضه إلى إنشاء الأتراك مدرسة عسكرية في السليمانية يرسل خريجوها إلى كليتي الأركان والحربية في إسطنبول، فوصلت الثقافة إلى مستوى لم يبلغ شأوه مجتمع كردي آخر. والأكثر من هذا أن اللغة الكردية اعتبرت سنة 1918م ولأول مرة في السليمانية مصدراً لتخريج عدد كبير من موظفي الأقاليم الكردية ومنذ العام 1925م؛ بدأت مطابع السليمانية وأربيل وراوندوز، فضلاً عن مطابع بغداد تصدر صحفاً ومجلات أسبوعية وشهرية مستمرة بأعداد كبيرة جداً. وطبعت أيضاً دواوين شعرية قديمها وحديثها وكتب تاريخية ودينية وسياسية.
ومن خلال ما ذكرت سابقاً من معلومات، والتي أوردناها في هذه الدراسة، فإن قضية الأمة الكُردية تتعلق بحقيقة اساسية هي أن شمال وادي الرافدين ومرتفعات جبال زا گروس (سوبارتو) هي المهد الذي نشأت فيه، وإن كنية ولغة ودين الكُرد، وعُرف وعاداته توفرت نتيجة امتزاج دم وثقافة السكان المحليين القدماء كالكوتيين والخوريين والكاشيين مع دم وثقافة المهاجرين من الهنود الآريين الذين سادوا على هؤلاء سياسياً في البداية. وهكذا فالكُرد المعاصرون ما هم إلا حصيلة الأحداث التأريخية التي شهدتها بلاد سوبارتو عِبرَ التأريخ.
وإذا كانت كُنية (كوردا) هي أقدم صيغة خورية للتسمية القومية الكردية، فإن اللغة الكُردية المعاصرة ظهرت وتكاملت في إطار هندي-إيراني، بينما سادت التأثيرات الدينية السامية من خلال البابليين والآشوريين واليهود والمسيحيين والمسلمين على البنية الذهنية لأغلب شرائح المجتمع الكُردي. وبمرور الزمن، وبعد أن أدى حلف القبائل الذي صاحبه تعزيز الصلات الاقتصادية والثقافية بين أفرادها، امتزجت بطون القبائل المهاجرة مع أُسر السكان المحليين تدريجياً، واستبدلت الروابط الدموية بينهم بروابط اقليمية حيث ظهر على إثر هذه الظاهرة شكل جديد للتجمع في شمال وادي الرافدين عُرف بـ(الكُرد) توفرت اساسه من وحدة الاقتصاد والسوق والإقليم واللغة والحضارة المشتركة.
وقد ألتزمنا في دراستنا هذه بمبدأ النهج العلمي مع مناقشة كل الآراء المطروحة حول المواضيع التي نحن بصددها، وابتعدنا بقدر ما يسمح لنا هذا النهج عن العواطف والأحاسيس القومية والدينية التي تسود أوساط الكُرد. وعلى كل حال فإن المواضيع التي ستطرح في هذا الكتاب تتعلق بنشأة الشروط القومية الكُردية في مرتفعات جبال زا گروس وكُردستان التي شهدت أحداثاً تأريخية معقدة لا يمكن الالتزام بجانب واحد منها. وبناءً على الحقائق فإن القاعدة التي نمت عليها القومية الكُردية في التأريخ لم تكن في موطن الآريين بجنوب روسيا أو في إيران أو في أواسط آسيا وإنما في مرتفعات جبال زاگروس وطوروس وسهول سوبارتو بشمال وادي الرافدين، ففي الوقت الذي بدأت القبائل الميدية تستقر في مرتفعات جبال زاگروس وشمال وادي الرافدين سائدة لهجتها على السكان المحليين لهذه البلاد خلال القرن السابع وخاصة بعد انهيار الإمبراطورية الآشورية عام 612 ق.م كانت هناك عدد من مقومات الأمة الكُردية متجسدة في هذه المقاطعات منذ أمد بعيد ومنها:
أ‌-  وجود الكُنية الطوبوغرافية الحورية القديمة (مات كوردا كي- mat Kurda ki ) أي (أرض بلاد كوردا)، التي كانت تقع حوالي مناطق جغجغه وتل الأسود في حوض نهر خابور (بكردستان الغربية)، كما حددتها لنا السجلات السومرية والأكدية في الألف الثالث قبل الميلاد. وعندما بدأت هذه الكُنية الطوبوغرافية تُعبر قبل العصر الهللنستي عن مفهوم أثني، بدأت تتوسع حدودها، فشملت المقاطعات الوسطى والشمالية من كردستان الحالية، حيث دَوّنَ المؤرخون الكلاسيكيون اسمها بصيغة Cordya, Kordya.
ب‌-     استقرار العناصر الآرية (الميتانية) في أرض كوردا منذ الألف الثاني قبل الميلاد وتجسيدهم لقاعدة لغوية ودينية هندية- آرية فيها، وعند حلول انسبائهم من الميديين في أواسط الألف الأول قبل الميلاد في هذه الأرض حدثت عملية أمتزاج بين المجموعتين بشكل طبيعي حيث تطورت لهجتيهما (وهما من نفس الشعبة اللغوية) معاً واصبحتا قاعدة لأولى بوادر اللغة الكُردية.
ت‌-     بما أن موطن الزاگروسيين الذي جرت عليه عملية الامتزاج الحضاري بين الهنود الآريين القدماء من الميتانيين مع الميديين فيما بعد، كان يتمتع برقي حضاري منذ قيام الثورة الزراعية في مرتفعاته، فإن ظهور بوادر المجتمع المدني القديم في سهوله كان أمراً طبيعياً، ومُنذ هذا العهد المبكر غدت بلاد كورديا Kordya ومرتفعات جبال زاگروس المهد الذي استكرد فيه أقدم المستوطنين الزاگروسيين من الكوتيين واللولوبيين والحوريين والكاشيين تحت ظل طغيان اللهجات الميتانية والميدية على لغات هؤلاء الأقوام، ونمت في هذا المهد الشروط القومية للكُرد المعاصرين من كُنية ولغة وأرض مشتركة.
 
 
 
 
المصادر:-
1- فلاديمير مينورسكي، الأكراد، ترجمة: معروف خزندار، بغداد، 1968، ص15.
2- أرشاك بولادان، حول مسألة أصل الكُرد، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل، بالاشتراك مع دار الفارابي، بيروت، ط1، 2013، ص10.
3- بيلياييف ف.ن، المصادر العربية حول تاريخ التركمان وتركمانيا في الفترة ما بين القرنين التاسع والثالث عشر، في كتاب: معلومات حول تاريخ التركمان، المجلد الأول، موسكو- لينينغراد، 1939، ص12.
4- عصمت شريف وانلي، كُردستان العراق هوية وطنية (دراسات في ثورة 1961)، ترجمة: سعاد محمد خضر، السليمانية مطبعة شقان، 2012، ص19. منقول عن كتاب الجنرال بيير روندو، كُردستان قلعة منسية، مركز الدراسات الإدارية العليا الحديثة حول آسيا وأفريقيا.
5- كاظم حبيب، لمحات من نضال حركة التحرر الوطني للشعب الكُردي في كُردستان العراق، منشورات ئاراس، اربيل، ط2، 2005، ص22.
6- سمر فضلاً عبد الحميد محمد، أكراد العراق تحت حكم عبد الكريم قاسم (1958-1963م)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة الزقازيق، كلية الآداب- قسم التاريخ، 2010، ص36-47.
7- عمار عباس محمود، القضية الكُردية.. إشكالية بناء الدولة، ص 18-22.
8- حسين قاسم العزيز، دراسات عن بعض الأصول الكُردية، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل/ أقليم كردستان العراق، ط1، 2012، ص81-90.
9- أحمد بن أبي يعقوب بن واضح الكاتب اليعقوبي، المجلد السابع، تصنيف أبي علي أحمد بن عمر، ابن رسته، الاعلاق النفيسة (كتاب البلدان)، مدينة ليدن، مطبعة بريا، 1843م ص195.
10-                عبد الرقيب يوسف، حدود كردستان الجنوبية تاريخياً وجغرافياً خلال خمسة آلاف عام وما ترتب على الحاقها بالعراق، السليمانية، مطبعة شفان، ط1، 2005، ص62.
11-                عايدة العلي سري الدين، الأكراد في العالم تاريخهم ومستقبلهم، ج1، الدار العربية للعلوم، ط1، 2018، ص60-62.
12-                جمال رشيد أحمد، ظهور الكورد في التاريخ، ج1، دار ئاراس للطباعة والنشر، اربيل، مطبعة وزارة التربية، ط1، 2003، ص36-37.
 
.
 


________________________________________


25
ومضيت وكأنما اعجبكَ الرحيل
نبيل عبد الأمير الربيعي
    لا يمكن الحديث عن الواقع الثقافي والتاريخي والأدبي في مدينة الحلة الفيحاء إلا وتسليط الضوء على دور الباحث والمؤرخ والمحقق الراحل د. عبد الرضا عِوض، سمعتُ باسمه من خلال الدكتور عدي غني الأسدي حفظه الله خلال اكثر من عقد من الزمن، كونهُ صديق الطفولة، فحدَّثني عن مروءته وكرمه وعلمه، وأكثرَ في الحديث عن استقباله للأصدقاء، واستضافتهم في بيته الكبير، فحبَّبني إليه وشدَّني إلى التعرُّف عليه بزيارته لمنزله في أحد أيام عام 2010م، واستمرت صحبتنا حتى يوم رحيله. كنتُ أحسُّ أن أكثر ما يُؤلمه هو نكران الجميل وقلَّة الوفاء، فكم من أشخاص أحسنَ إليهم ورعاهم، فما ردُّوا الوفاء بوفاء أو الجميل بجميل، غير أن هذا لم يفُتَّ في عضُده، ولم يدَعهُ يندم على اصطناع المعروف بين الناس. وإن قلَّة الوفاء ونكران الجميل من أخسِّ صفات الإنسان.
    كان صادق المشاعر، حلو اللقاء، يعتبر لدى المثقفين والباحثين والمؤرخين المرجع والعرّاب، ومحل التساؤل لدى طلبة الدراسات العليا والباحثين عن كل شاردة وواردة، فقد أرخ تاريخ مدينة الحلةُ الفيحاء ووثّق سيرة علمائها، مُنذ النشأة وحتى تاريخ رحيله.
    بذلَ الراحل عِوض جهده في إظهار الطوبوغرافيا العلمية لتاريخ مدينة الحلة، وتسليط الضوء على جملة الانجازات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي حصلت في الحقب الزمنية السابقة. كنت اجالسه في مكتبته العامرة يوماً، فوثقتُ كل ما يحمل في ذاكرته من خزين ومن مواقف ورؤى سياسية، فوثقت مواقفه وآراؤه من العملية السياسية الحالية بأكثر من (70) صفحة.
كان رحمه الله قويَّ الحجَّة، حاضرَ البديهة، واسعَ الاطِّلاع، شديدَ الذكاء، دقيقَ الملاحظة، كريمَ النُّـزُل، عَذْبَ الحديث، قويَّ الذاكرة، فطِنًا، حسنَ العِشرة، وفيّاً لأصحابه، ذا مروءة نادرة وكرم أصيل. أحببناه على القُرب والبُعد، وصافيناه الوِداد، مما يحمل من المروءة والكرم والعلم، والأخلاقَ الرفيعة والشمائل النبيلة، ترك دار نشر ومكتبة عامرة سامقة لطباعة ونشر الكتب، يواصل ولدية علي وحلمي عملَهم فيها في نشر العلم والتاريخ والتراث.
رحم الله أيامك د. عبد الرضا عوض
وجمعنا وإياك في مثوى ومنـزل البَرَرة، وحسن أولئك رفيقاً.
الحلة
السبت: 11/11/20123
 
ألقيت بمناسبة الذكرى الثانية على رحيل استاذنا د. عبد الرضا عوض

26
بمناسبة مرور ستة اعوام على مجلة العشرة كراسي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     بمناسبة مرور ستة أعوام على صدور (مجلة العشرة كراسي) التي تصدر عن (ملتقى العشرة كراسي الثقافي) في مدينة الحلة، والذي أسست في تشرين الأول 2017م في مدينة الحلة الفيحاء بدعم ورعاية الدكتور عبد الرضا عوض رحمه الله برحمته الواسعة، ابارك لكتّاب المجلة وقراءها هذا الانجاز، والتي تصدر بجهود ذاتية دون دعم حكومي أو مؤسساتي، وبواقع (194) صفحة من القطع الكبير، وهي مجلة فصلية ثقافية عامة كما جاء في ترويستها.
    في صفحات مجلة العشرة كراسي واعدادها (23) المختلفة المواضيع، كان الهدف منها لاطلاع جمهور قرائها بصورة عامة وأهالي الحليين بصورة خاصة، على حال نماذج من موضوعات اجتماعية وتاريخية ودينية وفنية وأدبية، ولكثرة المواضيع المتنوعة والموضوعات المعرفية والثقافية ذات التنوع في شتى التواريخ المختلفة، تحت عدة مسميات. لذلك نجدها قد نالت الاهتمام في مدينة الحلة خاصة والعراق عامة، كون اصدار مثل هكذا مجلة بجهود شخصية وبدون دعم مؤسساتي أو حكومي، ولما لها من تأثير على المستويين الثقافي والفكري بين أوساط المجتمع الحلي، ورغبتها في إظهار مواهب وقدرات أنامل كُتّابها سواء الحليين كانوا أم العراقيين، وإيصال أفكارهم وآراءهم إلى القراء. والمتصفح لصفحات مجلة العشرة كراسي يجد أنها حرصت على جودة الطباعة ومضمون مقالاتها، فترسمت غايتها في إثراء المعرفة والثقافة بين أوساط ومكونات المجتمع الحلي، ومعبرة بذلك عن منهج ملتزم برسالتها ودورها الفعال في بناء المجتمع بمدينة الحلة الفيحاء، وليست وسيلة إعلامية أو دعائية موجهة لخدمة مكون أو فئة أو طبقة أو جهة سياسية أو حكومية، فهي مجلة فصلية متنوعة ومستقلة، فضلاً عن التزام المجلة بخط توفيقي ومواكبة روح العصر ورقيه بما ينسجم للقيام بثقافة تنويرية في المجتمع الحلي. وقد سعى الراحل د. عبد الرضا عوض رحمه الله واعضاء وسكرتارية هيئة التحرير ومستشاريها المتكونة من: (د. نصير الحسيني، علي عبد الرضا عوض، نبيل عبد الأمير الربيعي، أ.د محمد كريم الشمري، أ.د يحيى كاظم المعموري، أ.د علي محمد هادي الربيعي، د. أسماء غريب، و(سابقاً) الشاعر جبار الكواز) على اتخاذها منبراً ثقافياً وأدبياً وانتقادياً وفكراً حراً معتدلاً لا متطرفاً في عرض الموضوعات فيها، لتتجلى بشكل واضح في تنوع مشارب واتجاهات وانتماءات كتّابها من اغلب مدن العراق.
    كان سعي الدكتور عبد الرضا عوض رحمه الله ومن بعده ولده علي عوض حفظه الله على أن تكون المجلة ذات تكوين معرفي فكري ليكون لها التأثير الفعال والواضح والملموس في اندفاع وبواعث ومبررات الراحل عوض في صدور المجلة في مدينة الحلة على الرغم مما واجهته من عقبات ومعوقات في غضون انطلاق صدورها.
 

27
فالح مهدي ونقد المشاعر في الحيز الدائري لتاريخ الخوف (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
الدكتور فالح مهدي مفكر عقلاني وباحث تنويري وروائي وقاص مبدع، ولج في أعماق الديانات وأفكارها، وصدر له خلال رحلته البحثية في مجال الظاهرة الدينية الكثير من المؤلفات الرصينة منها: (البحث عن منقذ.. دراسة مقارنة بين ثماني ديانات 1981م، صلوات الإنسان: ومن سومر إلى الإسلام عام 2011م، والخضوع السني والإحباط الشيعي: نقد العقل الدائري عام 2015م، وجذور الإله الواحد: نقد الإيديولوجية الدينية عام 2017م، وتاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري 2020م، وتاريخ الجنة: نقد مشاعر التفاؤل في الحيز الدائري، ومقالة في السفالة 2019.).
    ولد الدكتور فالح مهدي في العاصمة بغداد عام 1947م، اكمل دراسته الأولية والثانوية فيها، وتخرج في كلية القانون عام 1970م، غادر العراق عام 1973م إلى الهند للدراسة في جامعة (بونا) وحاز على درجة الماجستير في العلوم السياسية ودبلوم في القانون الدولي عام 1976م، ثم نال شهادة الدكتوراه في جامعة باريس عام 1987. وكان موضوع أطروحته (أسس وآليات الدولة في الإسلام: العراق نموذجاً)، مارس التدريس في الجامعة ذاتها، وانتقل بعدها للتدريس في جامعة فيرساي لتدريس نفس المادة إضافة إلى مادة القانون الدستوري الفرنسي إلى عام 2003. وهو أستاذ القانون الدولي في جامعة السوربون.
في هذا المقال نسلط الضوء على كتابه (تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري)، الصادر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع في مصر عام 2020م، الكتاب يتضمن (222) صفحة من الحجم الوزيري، وقد كُسرَ على ستة فصول. واستند في كتابه على تاريخ الخوف في العصور البدائية دون الاستناد على ايديولوجيا معينة لاعتقاده (أن الايديولوجيا مهما كان ذكاؤها مخربة لأي عمل جاد، وتُفقد العمل موضوعيته)، ففي مقدمة كتابه يطرح دائماً تساؤله (ما الخوف؟) ، فيتابع قواميس اللغة الفرنسية وقاموس أكسفورد واللغة العربية للبحث عن الاجابة، فوجد أن كل تلك التعاريف لن تفيدهُ في موضوع كتابه هذا والذي تضمن محاولة جادة لفهم موضوع الخوف الذي يصاب به الإنسان بالذعر والفزع والإرهاب وفقدان العقل، ولكن سارتر يقول (من لا يخاف ليس سوياً).
الدكتور هنا يبحث عن جذور الخوف وأصوله، وبداياته منذ عصر الصيد والعصر الزراعي والعالم الصناعي والتكنولوجي والعالم المعاصر، ففي ص6 يطرح رأيه قائلاً: (ليس هناك في الحيز الأفقي خوفٌ من عالم آخر بعد خروج الإنسان من هذا العالم، ليس هناك خوفٌ من نهاية العالم وحضور المنقذ ليخلص من نفهم برسالته وينقله إلى جنات النعيم). كما يرى الدكتور مهدي (أن من سعى إلى تخليص البشرية من الدين باعتباره مصدر كل المخاوف، جاء بنظام قائم على الخوف. وهنا أقصد النظام الشيوعي الذي قام ببنائه نظرياً لينين وشيده ستالين، حتى أصبح من أكثر الأنظمة إرهاباً في العالم) ص6. لكن لينين بالغ في ذلك ليكون بالضرورة مشتملاً على الدعاية إلى الإلحاد، (ما كتبه لينين حتى ماركس، لا يمثل نقداً للدين، بل طرداً لايديولوجيا لكي تحل محلها واحدة أخرى قائمة هي الأخرى على أوهام المستقبل الأفضل.. لكنما اعتبار الدين أفيون الشعوب كأُسّ لكل نقد، سيمنعنا من فهم حقيقة الدين!)ص8.
نقد الدين لا يعني اظهار عيوب الشيء كما قد يتبادر إلى الذهن، بل الكشف عن آليات فعله والغرض من قيامه وأهدافه المرتبطة بوجود ذلك الدين. لكن موضوع الخوف الذي يتطرق إليه الدكتور فالح مهدي في كتابه هذا في بحثه بالتفصيل وبشكل علمي وموضوعي وبحيادية، فهناك عدة اشكال للخوف منها الخوف من العائلة ومن المعتقد والتقليد والمجتمع ومن السلطة الاستبدادية في الدول الشرقية. ويبدأ الدكتور ببحثه في رحلته عبر الزمن عن مفهوم الموت في العالم القديم ومحاولة تسليط الضوء لفهم موضوع الزمن السهمي والزمن الدائري من خلال التراث الرافديني السومري والأكدي والعبري والزرادشتي والفرعوني، فيجد أن السباقون إليه السومريين في جنوب العراق ومن ثم الأكديون في وسط العراق. ليكتشف الباحث عن (أن السرقات العظيمة التي قام بها كتبة العهد القديم، تعود في جوهرها إلى بلاد الرافدين ومصر وسوريا وفلسطين... ومسيرة الزمن على شكل سهم وجد عند السومريين) ص19.
لقد قام كبار رجالات الدين السومريين وهم نخبة القوم بمراقبة السماء، ووجدوا أن الشمس تدور حول الأرض، تلك المراقبة تمثلت بوضع عصا مستقيمة في أعلى مكان الزقورة، ويجري تحريك العصا عبر مرور الشمس. وقد سمحت تلك المراقبة الدقيقة وعبر تحريك العصا بدقة في كل مرة ينتقل فيها ضوء الشمس بتقسيم السنة إلى 360 يوماً، وتقسيم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً، يبدأ مع الربيع.... اليوم السابع الذي قدسه البابليون وتتوقف فيه الأعمال، أصبح في العبرية ومنذ السطور الأولى من السفر الثاني من كتاب التكوين؛ اليوم الذي يتوقف فيه الله عن العمل ويخلد للراحة بعد أن خلق الكون! ص20.
فيذكر الدكتور مهدي في ص21 من (أن السومريين والبابليين تصوروا وجود سبع سماوات..  وأن الميت يذهب إلى باطن الأرض بعد موته... وأن باطن الأرض موزع إلى سبعة أقسام... كما أن السومريين قسموا أيام الأسبوع إلى سبعة أيام.. وأن السبت في العربية وشابات في العبرية يشير إلى الرقم سبعة... بل ذهبت الحكايات فيه إلى أن سليمان شيد المعبد في سبع سنوات.... وعمر الإنسان قسم إلى سبعة: الولادة، الطفولة، المراهقة، سن الرشد، النضج، الشيخوخة، ومن ثم الموت. فأخذت به كل الديانات التوحيدية، وكان هذا الرقم حاضراً في معظم ثقافات العالم القديم، واستخدم هذا الرقم (77) مرة في العهد القديم، أما في ملحمة كلكامش فإن الطوفان لم ينتهِ إلا في اليوم السابع، وعجائب الدنيا سبع، والخطايا الكبرى سبع، والقارات سبع، والمحيطات سبع، والكائنات الشريرة عند البابليين تحولت في الديانات التوحيدية إلى شياطين كان عددها سبعة، وأبواب الجحيم سبعة، والافلاك سبعة، والألوان سبعة، والأذواق سبعة والروائح سبعة، وعجائب الدنيا سبعة، والحكماء عند السومريين سبعة، وابواب النار سبعة، والطوفان حول الكعبة سبعة، والسعي بين الصفا والمروة سبعة، ورمي الجمرات سبعة، واوان قوس قزح سبعة، والكون يحتوي على سبعة كواكب، والمصائب العظيمة في الثقافة الدينية الفرعونية تتألف من سبعة. وفي الصين وضعوا لأفعى الكوبرا سبعة رؤوس).
ونعود لكتاب الدكتور فالح مهدي حول الخوف في الثقافات القديمة، فنجد موت انكيدو في ملحمة كلكامش قد فقده بصيرته حتى تخلى عن مباهج الدنيا، بعدما تجشم عناء رحلة محفوفة بالمخاطر ومواجهة الأخطار في قطع البحار والمحيطات حتى يصل إلى نهاية العالم ويلتقي بـ(اتونابشتم) الذي منحته الآلهة الخلود مع زوجته، فهو الناجي الوحيد مع زوجته من عالم الطوفان. (كانت الحكمة ذات المدلولات الرفيعة التي وردت في هذه الملحمة، هي أن مصير الإنسان الموت لا محالة في ذلك. فقد عاد كلكامش بخفي حنين بعد تلك الرحلة المضنية) ص25-26. لأنه كان على يقين بأن اعمال المرء الحسنة تكمن في الخلود، فقرر العودة وبناء مدينة أوروك ونشر العدل والسلام بين ابناء شعبه. فيؤكد الدكتور مهدي أن (هذا المكان الأتونبشتي هو الذي ستحوله الديانات التوحيدية إلى الزمن الأبدي، والذي ستأتي بعد أن تنتهي الحياة فوق الأرض بأمر الله والذي يعني انتهاء الزمن الأرضي... الزمن الرافديني يتمثل بسهم خلقته الآلهة في لحظةٍ ما، وقررت أن تنهيه وتبدأ بزمن آخر هو زمن الخلود، زمن الآلهة ومن رأت أن تخلده كأتونوبشتم وزوجته) ص26.

28
صدر كتابي الموسوم (الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية الشرقية) الطبعة الثانية

نبيل عبد الأمير الربيعي

صدر اليوم عن دار الفرات بالمشاركة مع دار سما كتابي الموسوم (الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية الشرقية) الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة، وقد تم
 مراجعة وتقديمه للقراء من قبل الكاتب والإعلامي والناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإيزيديين والأقليات، ورئيس المؤسسة الإيزيدية الدولية لمناهضة الجينوسايد والتي تحمل المركز الاستشاري في الأمم المتحدة (حسو هورمي)، الذي دعم الكتاب بالصور النادرة حول تأريخ الديانة الإيزيدية، ومن ضمن ما كتبهُ في تقديم الكتاب للقراء ما يلي: (سعادتي لا توصف بتشرفي ولمرتين بالاطلاع على هذا الجهد العلمي المتميز الذي يمكن وصفه بدراسة ذات طابع توثيقي-تحليلي، المرة الأولى عند مراجعة الكتاب "عندما كان مسودة فوضعت ملاحظاتي" ثم هذه المرة الثانية لتقديمه إلى القراء، والمتخصصين والباحثين منهم. يعد هذا الكتاب إسهام جوهري وعالي القيمة للمعنيين، والتي حرص الكاتب على تسليط الضوء حين عرض الخطوط الرئيسة للموضوعات، ضمن دراسة تأريخية، روحية معمقة للدين الإيزيدي توضح فلسفة تعاليمه وجوهر حكمته وأثر معتقداته وعراقة عقيدته وعمق تاريخه، إذ أخذ الباحث نبيل الربيعي على عاتقه مهمة تقديم صورة معرفية للقارئ العربي عن الديانة الإيزيدية مستنداً في استقاء معلوماته من مصادر وتقارير ودراسات وكتب سابقة، لايسع القارئ الموضوعي إلا تثمين جهده الدؤوب في إزالة الشبهات وتبديد الشكوك وتصحيح المغالطات وتصويب الصورة النمطية وتفنيد الشائعات من منطلق إحساسه العالي بالمسؤولية لتوضيح الحقائق).
وتعتبر دراسة الديانات القديمة في هذه المنطقة من العالم، يمكن مسك بعض خيوط التماثل والتقارب الواقعي بين الديانة الإيزيدية من جهة، والديانات السومرية والبابلية والأكدية والآشورية والكلدانية، من جهة أخرى، أو بين غيرها من الديانات القديمة، كالديانات الهندية والديانة الفرعونية التي كانت قائمة في المجتمعات الرعوية، ومن ثم في المجتمعات الزراعية من جهة أخرى.
فالتعرف على تاريخ الإيزيديين في إطار الشعب الكُردي وتاريخه وحضارته، يطلّعنا على الجرائم التي ارتكبت بحقهم باسم الدين، وخاصة ما حصل بعد اجتياح مقاتلي داعش عام 2014م من أحداث كارثية ومآسي رهيبة بحق ابناء الديانة الإيزيدية ، لقد ارتكب أوباش داعش في سنجار و سهل نينوى ومدن إيزيدية أخرى ومارسوا أبشع الجرائم الكبرى بحقهم من النساء والرجال والأطفال، واستباحتهم القتل والتهجير والسلب والسبي للنساء واغتصابهن وبيعهن في سوق النخاسة.
حَزمَ الكتاب في جوفه عشرة فصول، الفصل الأول، ضمّ مختصراً لتأريخ الإيزيدية في العراق، وجاء التركيز على دورهم الرائق في هذه النشأةِ. أما الفصل الثاني، فثبتنا فيه حياة الشيخ آدي بن مسافر ودوره في الديانة الإيزيدية. وأفردنا الفصل الثالث من الكتاب المعتقدات والأوضاع الدينية للديانة. وحشونا الفصل الرابع من الكتاب كتب الإيزيدية المقدسة. وأختصَّ الفصل الخامس ببنية النظام الديني الإيزيدي. وحَمِلَ الفصل السادس عقيدة الديانة الإيزيدية . واهتمَ الفصل السابع بدور المرأة في المجتمع الإيزيدي وعادات الزواج. أما الفصل الثامن فشملَ الأعياد الدينية لأبناء الديانة الإيزيدية . وضمَّ الفصل التاسع مراقدهم الدينية المقدسة. وأفردنا في الفصل العاشر والأخير الإحصاء السكاني ونفوسهم في العراق وأوضاع الإيزيديين في العهود المتعاقبة مما حصل من اضطهاد وسبي وإبادة.
ولا نسى شكرنا وتقديرنا للصديق والباحث حسو هورمي لمراجعة وتقديم الكتاب.

29
الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    لقد اشتهرت الإيزيدية بهذا الاسم كونها أتت من تسمية يزدان، وهي تطلق عندهم على الله تعالى، وتفسيرها هو الخالق الرزاق، حيث لا يزال الإيزيديون يفتحون صلواتهم وادعيتهم بعبارة (بناظىَ يةزدانىَ ودلوَظان)، أي بأسم الله العلي الكريم. وذكرهم المؤرخ الكردي شرفخان البدليسي في كتابه (الشرفنامة) بـ(الإيزيدية واليزدانية)، وكشفت لنا مقولاته بأن هذه التسمية يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام إلى كردستان، وإلى كونهم يعبدون (أيزدان) وينتسبون إليه.
    والديانة الإيزيدية ديانة قديمة، وهي من بين أقدم الديانات الشرقية، وبالرغم من غموض تاريخها وزمن ظهورها، إلا أننا نستطيع القول أنها من الديانات التي ظهرت قبل الميلاد بمئات من السنين. كما ذكر المؤرخ اليوناني زينفون في كتابه (رحلة عشرة الآلاف- اناباسيس)، أنه كان هناك في حدود عام 401 ق.م ثمة طائفة تستقر قرب مدينة نينوى تدعى (بيزيدي) وكان لهم شهرة بارزة في القتال، وكذلك جرت الإشارة إلى تسمية بارتاسى كتعريف بالإيزيدية الذين اعتبرهم هيرودوت إحدى الجماعات الميدية القوية التي شاركت مع بقية القبائل الميدية في السيطرة على نينوى عام 612 ق.م، والواضح أن المقصود بـ(بارتاسى) هو الداسانية أي الإيزيدية، حيث يطلق عليهم أيضاً تسمية الداسنية وخاصة في المصادر السريانية.
    فقد وردت كلمة (يزدان) بمعنى الخالق العظيم في نصوص الإيزيدية المقدسة، وقد جاءت في إحدى النصوص (خودانىَ ئاخرةتىَ حاسلىَ مرازا منىَ، يزدانىَ منويىَ بتنىَ)، أي بمعنى (أن يزدان هو صاحب الدنيا والآخرة، وهو يلبي رغباتي وامنياتي، وهو إلهي الوحيد). والديانة الإيزيدية ديانة غير تبشيرية، وديانتهم على الأتفاق حول المبادئ الدينية الأولية محفوظة في صدور رجال الدين، واعتمدوا ولقرون طويلة على توارث الطقوس والتقاليد من جيل إلى جيل من دون أن يتم تدوينها، كما أنها تمتلك أجوبة كاملة حول مفهوم الحياة والخير والشر، وأجوبة حول معاناة الفرد، والموت وتناسخ الأرواح، وبمقارنتها مع الأديان الأخرى فأن الديانة الإيزيدية لا تسعى إلى السلطة أو شن الحروب على الآخرين باسم الدين، وكل ذلك نابع من صلب عقيدتهم الدينية.
    وحقيقة التوحيد في الديانة الإيزيدية واضحة من خلال نصوصهم وأدعيتهم الدينية، حيث يتقربون إلى الله مباشرة، وهم يعتقدون بأن الله موجود في كل شيء وفي كل مكان. وأثناء الفتوحات الإسلامية، بدأت ايديولوجيات الديانة القديمة بالاضمحلال، فاضطر معتنقي تلك الديانات ومنهم الإيزيدية إلى خوض الكفاح المرير، ومقاومة ظهور بعض العقائد، ولولا ظهور بعض القادة والمصلحين أمثال الشيخ عدي بن مسافر الهكاري الذي قام بتنظيم الإيزيدية وفق أسس حديثة، وبمجيئه إلى معبد لا لش، ومكوثه بين الإيزيديين، دخلت الإيزيدية منعطفاً تاريخياً حاسماً، ومرحلة جديدة من مراحل تطورها، وتعتبر الحد الفاصل بين الإيزيدية القديمة والإيزيدية الجديدة.
    ومن عقائد الديانة الإيزيدية نظرتهم إلى نشوء الكون والطبيعة والملائكة وآدم وحواء والبشرية جمعاء، وتقر الديانة بأن الله قد خلق في البداية درة نورانية من ذاته، وشاء الله أن يدخل الروح من ذاته إلى هذه الدرة الجامدة، إلا أنها لم تتمكن من تحمل هذه الروح الإلهية فأرتعشت من هيبة الله وانفجرت وتكونت منه سبع طبقات من السماء مزينة بالسدائم والمجرات والأجرام السماوية، ومن ثم زين الأرض بالنباتات والأشجار، وتم كل ذلك بدءاً من الجمعة ومنتهياً في الأربعاء، ولهذا فأن يوم الأربعاء له قدسية خاصة عند الإيزيديين، ويقع فيه عيد رأس السنة الإيزيدية، وهي من أكبر أعيادهم المرتبطة بالطبيعة وتكوين الخليقة، ومن مراسيمه الرئيسية احضار وسلق البيض (تشبيهاً بالدرة الإلهية)، وتلوينها بمختلف الألوان عن طريق الأعشاب الطبيعية "كدليل على دخول الروح إلى الدرة ومن ثم أنفجارها ونشوء الحياة على الأرض". وبحسب النصوص الدينية الإيزيدية خلق الله بعد تسعين ألف سنة سبعة ملائكة من نوره خلال سبعة أيام، حيث خلق في كل يوم ملاك واحد، وهم أزليون ومتواجدون دائماً في حضرة الله، ويعملون تحت أمرته، وهم المسؤولون عن تبليغ الرسائل الإلهية إلى البشر، كما أن الله قد أوصاهم بأن لا يسجدوا إلا لهُ، لأنهم من ذاته، لكن عندما خلق آدم قال للملائكة: أسجدوا لجسد آدم حتى تأتيه الروح، سجدوا ستة ملائكة إلا عزازيل (طاووس ملك) لم يسجد، وقال: ألم توصينا بعد السجود لغيرك يا رب؟؟ فقال له الله سبحانه وتعالى: أنكَ طاووس الملائكة يا عزازيل، وتكريماً له جعله رئيساً للملائكة لفوزه في أختباره المصيري تجاه واجبه المطلق في الطاعة والتقديس والتوحيد، ولهذا يعتبر الإيزيديون بأن طاووس ملك هو أول من جسد وحدانية الله ولم ينسى وصية ربه.. وبعد تركه لآدم دون روح سبعمائة سنة اجتمع الملائكة مع ربهم حول هيئته في إحدى أيام الأربعاء، فجلب الله تعالى كأساً من ماء الحياة لآدم، فشرب منه وأصبح بشراً، ثم قام الملائكة ورئيسهم طاووس ملك بأدخال آدم إلى الجنة بأمر من الله الذي أباح له أن يأكل من كل الثمار الموجود فيها عدا الحنطة، ومكث آدم فيها مدة طويلة، ثم جاء طاووس ملك إلى ربه سائلاً: كيف يكثر النسل البشري وآدم في الجنة لا يأكل من الحنطة؟ فقال له الرب: لك التدبير، فذهب إلى آدم وأرشده بأن يأكل من الحنطة، فأكل ثم أخرجه من الجنة لكي لا يدنسها، وبعد ذلك خلق الله حواء من أبط آدم وأمرها بالتزاوج، وتم ذلك وتكاثر البشر من نسلهما.
    أما ما يخص الخير والشر في فلسفة الديانة الإيزيدية، فلا ترسم خطاً فاصلاً بين النقائض في الطبيعة والحياة والموت والخير والشر والليل والنهار، كل واحد مكمل للآخر، وأية ظاهرة من هذه الظواهر لا تستطيع العيش بمعزل عن نقيضها، فهي تستمد ضرورة بقائها من هذا النقيض، لذلك فكل ظاهرة طبيعية وكل طرف من هذه الثنائة إله، وهذه الآلهة كلها جزء من الإله الكبر وهو الله. لذا فأن الخير والشر في الديانة الإيزيدية مصدرهما واحد وكليهما في ذات الله، وما على الإنسان إلا الاستجابة لنداء الضمير والأخلاق والنفس باعتبارهم المسؤولون عن الأفعال، أما الجانب الآخر من ذلك فهو العقل البشري الذي يميز بين الخير والشر ويختار الصالح أو الطالح. وهنا يبرز دور الإنسان وعقله في الديانة الإيزيدية، حيث اعطته الحرية الكاملة في الاختيار بين الخير والشر وبين النور والظلام وبين الصالح والطالح. والإنسان في الديانة الإيزيدية دائماً في حالة الصيرورة والحركة، فالموت والحياة مكملان البعض بتعاقبهما الدائري المستمر، ومحرك الروح هو الرغبة الكامنة في كل اعمالها وفعالياتها، وهي تسيطر على الخواص الأخرى.
    والديانة الإيزيدية لها اتصال مباشر مع الله لعدم وجود نبي أو رسول من الله ليهديه إلى الطريق الصحيح، فأن مسؤولية الفرد الإيزيدي في الحياة كبيرة وهذه سببت له هموماً وأعباء إضافية، فالروح البشرية تنبع من بذرة إلهية، لكنها تدخل جسداً بشرياً، وأن هذا الجسد البشري هو أساس الإنحراف إلى السوء إن لم يتحكم بها العقل المنير، ويجب على الإنسان أن يكون صبوراً كي يصل إلى شعاع الحقيقية، فالفرد الإيزيدي مخير في اعماله الخيرة أو الشريرة. ويعتقد الإيزيديون بأن الله في كثير من الحالات يعاقب الإنسان على أفعاله الشريرة في حياته وترتبط حالة الأمراض عند الإيزيدية بفلسفة ديانتهم على اعتبار المرض نتيجة عقاب الإنسان بسبب سوء أعماله وعلاقته الرديئة مع الله.
    ويعتقد الإيزيدية بأن الموت هي حالة لا بد منها، وهي التجربة الأولى من الحياة، وأمراً طبيعياً محتوماً، ولا اعتراض على حكم الله. وقد شغل الموت فكر الإنسان الإيزيدي منذُ القِدم، ويحدثنا الأدب الشفاهي الإيزيدي عن اسطورة (مير مح)، ذلك الأمير الذي حاول بجهود مضنية البحث عن الخلود أو الوصول إلى مكان لا يلاحقه شبح الموت، إلا أنها تشبه ملحمة كلكامش البابلية، وتبين من خلالها الصراع بين الموت والحياة ومحاولة الإنسان للتعرف على ماهية الموت. إلا أنه في النهاية بأن الموت حقيقة وهو المصير المحتوم للإنسان.
    أما فكرة الحلول في الميثولوجيا الإيزيدية فتقوم على أساس أن كل إنسان يحمل جزءاً من ذات رئيس الملائكة (طاووس ملك)، الذي خلق الله من نوره أو من ذاته، وهذه الفكرة مبنية على اساس ما كان كله مقدساً تصبح اجزاءهُ الصغيرة مقدسة أيضاً في حالة التقسيم، ولعظمة هذا الملاك في المعتقد الإيزيدي ترى الديانة الإيزيدية بأن الإنسان يولد وكيانه يحوي شيء من قدسية طاووس ملك، وبالتالي جزءاً من الله، ولكن ليس بدرجة طاووس ملك، لأنهُ هو المنبع الذي يستمد منهُ قوتهُ الإضافية بسبب ارتباطه المباشر معهُ، وهذه المعرفة تجري بوعي، فالمصدر واحد لكن شريان الامتداد ودرجة الأخذ والعطاء تختلف من فرد إلى آخر، وهنا يتحكم العقل.
    أما بالنسبة للروح وفق فلسفة الديانة الإيزيدية، فالجسد يتضمن في كينونته المادة والحياة والروح والعقل حال وجوده على وجه الأرض، وبواسطة تواجد الجزء الإلهي فيه يحاول الجسد تطوير الروح إلى الأحسن، وهكذا تنتقل الروح ثانية بعد موت الجسد إلى جسد ثاني وثالث إلى أن تتنقى وتعود إلى مصدرها الأول أو الروح الأزلية، كما أن الحلقة الدائرية لفكرة طاووس ملك هي نفس الحلقة الدائرية لحياة الإنسان بموجب فكرة تناسخ الأرواح، فالروح تتعاقب بالعودة إلى الأرض مرة وأخرى إلى أن تستكمل صفائها بالتجربة الذاتية لتواجه الله بنقاء تام في يوم القيامة.
    واليوم الآخر والقيامة بالنسبة للديانة الإيزيدية تختلف عن الأديان الأخرى في تفسيرها، إذ يؤمن الإيزيديون بأن اليوم الآخر يسبق يوم القيامة، وتجري فيه محاسبة الروح بعد خروجها من الجسد بغية أختيار جسد آخر مناسب لها، ويتوقف هذا الأختيار على الأفعال الحسنة والسيئة للروح، فإذا كانت الحسنات منها أكبر تدخل الروح إلى الأجسام الطاهرة والطيبة، أما إذا كان العكس فتدخل الروح إلى اجسام مكروهه لتتعذب، وهكذا تنتقل الروح بين الأجساد إلى يوم المحاسبة النهائية للروح، وهو الذي يسمى في الإيزيدية بيوم القيامة، إذ لا تعود الروح إلى الأرض ثانية، حيث نهاية الكون وعالمنا هذا. والعلاقة بين الروح والجسد بسبب حسناتها وخطاياها تخضع لقانون الفعل ورد الفعل، الثواب والعقاب. فالروح ضيف مؤقت على وجه الأرض وهي أرقى وأقدس شيء في الجسد، والروح عندما تفارق الجسد ستدخل جسداً آخراً وهكذا تتكرر العملية إلى أن تصل مرحلة السمو.
 
 
 
المصادر:
1- شرفخان البدليسي، الشرفنامة في تاريخ الدول والإمارات الكردية، ترجمة: ملا جميل بندي روزبياني، بغداد، 1953، ص147.
2- خليل جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، اينبيك، 1992.
3- عدنان زيان فرحان، الكرد الإيزيديون في أقليم كوردستان العراق، السليمانية، 2004، ص15.
4-  أرشد حمد محو، الإنسان في فلسفة الديانة الإيزيدية، دراسة مشاركة في أعمال المؤتمر الفلسفي الحادي عشر المنعقد بتاريخ 6/7 تشرين الأول 2012 لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة، بغداد، ط1، 2013، ص117.
5- أرشد حمد محو، الإيزيديون في كتب الرحالة البريطانيين من مطلع القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، دهوك، 2012، ص94/97.
6- زينفون، الصعود، ترجمة، يعقوب افرام منصور، مجلة المورد، المجلد الرابع، العدد: 2، بغداد، 1975، ص91.
7- عز الدين سليم باقسري، مه ركه الإيزيدية الأصل المفاهيم التسمية الطقوس والمراسيم والنصوص الدينية، من منشورات مركز لالش الثقافي والاجتماعي، دهوك سلسلة (1)، 2003، ص22.
8- هوشنك بروكا، دراسات في ميثيولوجيا الديانة الإيزيدية، المانيا، 1995، ص38/39.
10- شكري رشيد خيرافاي، فلفسة الموت في بعض المعتقدات والديان، مجلة لالش، العدد: 28، دهوك، 2008، ص112.
 
 

30
الروائية الكويتية عائشة المحمود وفن الانتماء للحدث التاريخي والسيرة الذاتية
نبيل عبد الأمير الربيعي
    صدر عن دار الساقي لعام 2022م للروائية الكويتية عائشة عدنان المحمود روايتها الموسومة (عباءة غنيمة) بواقع (224) صفحة من الحجم المتوسط، وتصدرت الرواية قائمة الستين للأعمال المشاركة في الدورة التاسعة لمؤسسة (جائزة كتارا للرواية العربية).
    تمثل الرواية واقع حال الشباب الكويتي من العام 1948م وصولاً إلى عام 1990م، لا سيما هي الحقبة الزمنية بين تاريخ الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وتاريخ الغزو للجيش العراقي للكويت يوم 2 آب 1990، حين استيقظ ابناء الشعب الكويتي عن مشهد منكسر لأحلام الشباب الحامل العروبة سمات الهشة، فيروا جيشاً عربياً لدولة جارة تحتل بلادهم، وهم كانوا في نشوة الحماس للعروبة والمبادئ العليا، كانوا يعتقدون أن هذا الجيش سيحمي أرض وشعب بلدهم في حال تعرض بلدهم إلى أي غاصب.
    جعلت الروائية المحمود في هذه الرواية تاريخ السقوط الحتمي والساذج لما يحمل البعض من الشعور العروبي والحسرة اما حصل لهم، فوضعت الروائية شخصياتها في مواجهة القدار، فكانت عباءة الأقدار تحمل (الغنيمة، الهزيمة، الجهل، السذاجة)، كما أن الجهل وطيش الشخصيات بالحب، حب الزوجة أو حب الأشياء كان قد احالهم إلى السقوط والهزيمة وتداعي الذاكرة، فكان السرد من خلال روايتها قد افصحت عن شعور الصراع ومحطات الصفو ومحادثات الذات مع الذات، مما اتاح للقارئ الكريم أن يدنو من أزمنة الخوف للعائلة الكويتية التي تتكون من الشخصية الرئيسية كما ذكرنا فيصل الأبن الأصغر لغازي، وبدور وشيخة والأم مريم والجدة مزنة، ثم الزوجة الثانية أمينة وابنتها سها، لا سيما أن فيصل ابن غازي من الزوجة الأولى كان يحمل الهم العروبي، وقد سلطت الروائية الضوء على هذه الشخصية ليرى القارئ تهاوي احلامه من خلال الخديعة، خديعة الحب لشخصية (لين)، وخديعة العربي في القرن الماضي، الذي تشبع بنهد القومية المفرطة والشعارات الحماسية للجامعة العربية في التجمعات الجماهيرية، وفي الختام ادرك فيصل أنه كانت هناك غشاوة على بصره وبصيرته ضمن جوقة العميان، ضمن هزيمة الإنسان العربي المتكررة.
    هكذا يمكن لنا أن نطل على رواية المحمود (عباءة غنيمة) من التوتر الدلالي لدى القارئ المفاجئ  أثناء القراءة بدهشة الصياغة السردية والرؤية الضدية التي تنتج من خلال ما حدث. فالرواية تشكل بفضاءها الدلالي لولادة شخصيتها.
    الرواية تسلط الضوء على أسرة كويتية تسكن (الفريج) ويبدأ فيصل بسرد الحداث بتاريخ مفصلي معين، ثم الصدمة في الرواية تاريخ ميلاد فيصب يوم 15 آب 1948 وهو تاريخ نكبة احتلال فلسطين. فأهتمت الروائية بالبنية التاريخية للرواية بين آب 1948 وآب 1990، أي بين تاريخ احتلالين، نكبة فلسطين ونكبة الكويت، أي الزمن الماضوي المستمر الذي لم ينقطع، فضلاً عن بسط الأحداث التاريخية العربية بشكل عام، وعرض التحولات التاريخية للزمكان وسيرته، وسرد التحولات الشخصية للبطل والتركيز على الأمكنة بين الوطن الكويت وبيروت والقاهرة وباريس، وهو يصب في التوتر السردي من التنقل بين لحظة زمنية إلى لحظة أخرى، لذلك نجد الروائية بدأت بولادة البطل فيصل وانتهت برحيله. أما فصول الرواية فهي ثلاثة تتخللها احداث اجتماعية وعاطفية رومانتيكية واقعية.
   جاء الفصل الأول بعنوان (شهقة بداية) واستهل الفصل بعنوان (مدينة قاصية) وتنقلت الروائية من الفصل الأول إلى عنوان آخر (سواد) وهو يؤرخ يوم 2 آب 1990، وبعدها تبدأ الذاكرة بالعودة لاسترجاع الحياة الأولى لعام 1948م، فالتواريخ لها دلالاتها إذ ترتبط بالتاريخ العربي والعدوان الثلاثي على مصر واستقلال الكويت.
    فالروائية بعض الأحيان تعود للانتماء لفن السيرة الذاتية، هكذا فهمت من خلال الرواية، وقد أكون مخطأ، فضلاً عن أني لم اعرف الروائية عائشة المحمود شخصياً، لكن لكي اقرر بدقة أصبحت اعرفها من خلال روايتها (عباءة غنيمة)، فضلاً عن انها كروائية جمعت بيت الجمع الروائي والسيرة الذاتية.
    ولا ننسى من خلال البحث عن روايات الروائية عائشة المحمود وجدت أن لها عدة روايات ومنها:
1-  آخر انذار، صادرة عن الدار العربية للعلوم- ناشرون عام 2014م.
2-  في حضرة السيد فوجي سان- مشاهدات سائحة في اليابان، صادرة عن دار نوفا عام 2016م.
3-  وطن مزور... وطن البن والحناء، صادرة عن دار سؤال عام 2018م.
4-  عباءة غنيمة، صادرة عن دار الساقي عام 2022م.
ولها تحت الطبع:
1-  كتاب متخصص في نقد الدراما التلفزيونية.
2-  عابرون، مجموعة قصصية.
3-  هوامش على خارطة السفر.
 
العراق/ الحلة/ 23 آب 2023


31
معايير التفاوض عند الإمام علي بن أبي طالب (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    كان السبب الرئيسي في اصدار كتابي هذا (معايير التفاوض عند الإمام علي بن أبي طالب) هو اطلاعي على كتاب القيادي الفلسطيني د. صائب عريقات (عناصر التفاوض بين علي وروجر فيشر) الصادر عن دار النصر في بيروت، مما ساعد على دراسة عناصر التفاوض لدى الأمريكي روجر فيشر، وما اضاف السيد عريقات من عناصر أخرى؛ لتسليط الضوء على معايير التفاوض للإمام علي بن أبي طالب.
    وقد سلطت الضوء على الكتاب من خلال المعايير أو (العناصر) التي اعتمدها الدكتور عريقات في مفاوضات الإمام علي الإثنى عشر، كما جاء في صفحة (26/27) من كتابه، وكان الفصل الثالث من كتابي هو التوسع في المفاهيم الفلسفية والإدارية لكل معيار من تلك المعايير المعتمدة في المفاوضات، فالإمام علي لهُ السبق في تحديد العقد بين السلطات والفرد، ومفهوم الدستور والحريات على أساس الدستور. فقد حدد الإمام معايير المفاوضات التي بلغت اثنى عشر معياراً، وسنبين هذه المعايير في هذا الفصل، ونبين تحديداتها وتعريفاتها. كانت قوة الإمام هي بالتمسك بحقوقه وليس بالتنازل عنها.
    فمعايير التفاوض الأثنى عشر التي تتمثل بالمصالح والشرعية والاتصال، والالتزام، والعلاقات، والخيارات، والبدائل، والعلم والمعرفة، والقيادة والمسؤولية، والمتغيرات، والصبر والثبات، والعدل. وإن كانت المقارنة لا تستقيم بين إنسان مهما كان وبين الإمام علي بن أبي طالب، وجدت لزاماً أن أُبين ما كان قد أرسى الإمام على اثنى عشر معياراً في التفاوض مع خصومه ومع الآخرين، ولا ننسى الراحل الدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وكتابه الجديد معايير التفاوض بين علي بن أبي طالب وروجر فيشر، فكان كتاباً مهماً لتوضيح معايير التفاوض، وهو الكتاب الريادي في هذا المجال.
    بشكل مفصل شرحاً حول آليات تطبيق المعايير أعلاه، وهي معايير مهمة لمكونات المفاوضات كما ارتأيت من خلال متابعتي لمراحل التأريخي الإسلامي وخلال خِلَافَةُ عَلي بنُ أَبِي طَالِب، هي امتدادٌ للخلافة الراشدة عَقِبَ مقتل ثالثِ خُلفاءِ المُسلمين عثمان بن عفان في يوم الجمعة الموافق لـــ 18 من شهر ذي الحجة سنة 35هـ. بايعهُ في اليوم التالي لقتلِ عُثمان كل من بقي من أصحاب الرسول محمد بن عبد الله في المدينة المنورة لإيمانهم بأحقيتهِ في الخلافة. ولم يكن أبو السبطين ليقبل بالخلافة لولا خشيته على الدين وحرصهِ على درء الفتن وتوحيد صفوف المسلمين. انتقل علي إلى الكوفة ونقل عاصمة الخلافة إليها وحكم في حِقبةٍ عُرِفَت بعدم الاستقرار السياسي وبالأحداث والمواقف الصعبة والمعقدة التي احتاجت إلى الحِكمة والدراية الفقهية التي كان هو أهلاً لها. استمرت مدة خلافته خمس سنوات، (من السّنة الخامسة والثّلاثين للهجرة إلى العام الأربعين للهجرة.
    البحث في أسس ركائز السلوك التفاوضي لدى الإمام علي نتيجة تجاربه العظيمة عندما دخل الإسلام غلاماً، وكان في مدرسة الرسول محمد، ومستشاراً للخلفاء، ثم أميراً للمؤمنين في ظروف عصيبة، عصفت بالدولة الإسلامية ووحدتها، قد حدد مجموعة من المعايير التفاوضية، وهي اثنى عشر معياراً. وهي معايير لصناعة القرارات وإدارة الأزمة والمفاوضات لدى الإمام، من خلال تطبيقاتها وفقاً لهذه المعايير.
    أما عملية التفاوض، فهي عملية يتفاعل فيها طرفان أو أكثر نتيجة لوجود مصالح مشتركة بينهم يتعذر تحقيقها دون الحوار حول الموضوعات المرتبطة بها، وقد يكون ذلك بمناقشة الأهداف والآراء تعبيرياً أو سلوكياً أو حوارياً لتقديم الحجج والأدلة من كل طرف للتوصّل الى اتفاق نهائي يُحقق المصالح المشتركة والتخلص من النزاع.
    إذن يُلاحظ أنَّ التفاوض يتسّم بالموقف النزاعي والصراع، والعملية الحركية المستمرة لكل طرف يهدف لمصلحته، والطرفان المتصارعان، والسلوك الطبيعي لدى الفرد أو الجماعة، والحل الأمثل لحل الصراع والتوصل لاتفاقٍ مُرضٍ، وأداة الحوار لحل المشكلات.
    أما أُسس عملية التفاوض؛ فمن الضروري وجود طرفين أو أكثر لديهم حاجة حقيقية للتفاعل فيما بينهم لتحقيق ما ينفعهم، منها؛ وجود هدف لدى كل طرف يهتم بتحقيقه من خلال تضحيات الآخر وتفهّمه، ووجود مصالح مشتركة رغم اختلاف وجهات النظر حول قضايا الآخر، وتوفر القدرات لدى كل طرف لإقناع الآخر بتعديل موقفه إذا لزم الأمر، فضلاً عن الاستعداد بتعديل المواقف الأصلية إذا ظهر دليل يؤيد حُجَجْ الطرف الآخر، وتوفر الوعي بأن عملية التفاوض فطرية وليست مكتسبة، وإنما تُنمّى مهاراتها وإن اختلفت الأهداف والأساليب والأدوات.
    وعملية التفاوض تعتمد على مبادئ عملية في المفاوضات بين الطرفين، منها: أن يكون المفاوض على استعداد دائم للتفاوض في أي وقت، وألا يتفاوض أبداً دون أن يكون مستعداً، فضلاً عن عدم الاستهانة بالطرف المفاوض معه، وعدم التسرع في اتخاذ القرار، وأن يكسب وقتاً للتفكير، وأن يستمع أكثر مما يتكلم، وعند الكلام لا يقل شيئاً له قيمة خلال التفاوضات التمهيدية. ويجب أن يتحلّى المفاوض بالمظهر الأنيق، والوقور، والمحترم في جميع عمليات التفاوض وفي الجلسات الرسمية كافة، وكثيراً ما يحدث أن يتردّد المفاوض في اتخاذ القرار لأسباب شتى منها: حداثة المفاوض بالعمل: مما يجعله ميالاً لتأجيل القرار الناتج عن التفاوض عسى أن تستجد ظروف قد تعفيه نهائياً من هذا العبء، وعدم كفاءة المفاوض ونقص تدريبه، مما يجعله عاجزاً عن معرفة البدائل أو تقييمها ومعرفة العيوب والمزايا لكل بديل، وعدم وضوح النصوص المنظمة لسلطات التفاوض وحدودها، بما يترتب عليها من الاهتمام عند اتخاذ قرار أو التردد فيه، والخوف من اتخاذ القرار النهائي حتى لا يتحمّل تبعات المسؤولية وحده، فضلاً عن ضيق الوقت اللازم لإتمام التفاوض، فلا يستطيع الإحاطة بالبيانات اللازمة لعملية بدء وإنهاء التفاوض، ومن ثم اتخاذ القرار الإداري المناسب لأنه يصبح غير مدروس بشكل يتيح له تقييم البدائل المطروحة واختيار أنسبها.
    أما أهم أركان التفاوض فهي تعتمد على التفاعل والتأثير النفسي والإقناع والحث من خلال تبادل وجهات النظر الهادفة والحوار الفعّال بين طرفين أو أكثر يعانون من تباين الآراء والأهداف والتي تتعلق بقضية أو خلاف أو صراع مسألة معينة ترتبط بها المصالح المشتركة بينهما بفرض التوصل لحل أو اتفاق مقبول ومُرضٍ لجميع الأطراف.
    وتتضّح أركان التفاوض من خلال الموقف التفاوضي، فالتفاوض يُعدّ موقفاً ديناميكياً يقوم على الحركة والفعل ورد الفعل ايجاباً وسلباً وتأثراً وتأثيراً، وهو موقف مرن يتطلب قدرات عالية للتكيف السريع والمستمر والمواءمة مع التغيرات المحيطة بالتفاوض وتتمثل معايير الموقف التفاوضي بالترابط؛ بحيث يصبح الموقف التفاوضي كلٍ مترابط وإن كان يسهل الوصول لجزئياته، والتركيب؛ حيث يتركب الموقف التفاوضي من جزئيات يسهل تناولها في اطارها الجزئي ويسهل أيضاً تناولها في اطارها الكلي، وامكانية التمييز؛ أي يمكن التعرّف على الموقف التفاوضي وتمييزه دون غموض أو دون فقد لبعد من أبعاده أو معالمه، والاتساع المكاني والزماني؛ ونقصد بذلك المرحلة التاريخية التي يتم فيها التفاوض والمكان الجغرافي الذي تشمله قضية التفاوض، والتعقيد؛ فالموقف التفاوضي معقد حيث تتفاعل عوامله الداخلية بحيث يتشكل منها الموقف التفاوضي، والغموض: ونقصد به الشك، حيث يُحيط بالموقف التفاوضي ظلال من الشك والغموض النسبي الذي يدفع المفاوض إلى تقليل دائرة عدم التأكّد، والشك دائماً يرتبط بنوايا ودوافع واتجاهات الطرف الآخر.
    أما أطراف التفاوض؛ فيتم التفاوض عادة بين طرفين وقد يتسع ليشمل أكثر من طرفين، نظراً لتشابك المصالح وتعارضها بين الأطراف المتفاوضة، ومن هنا فإن أطراف التفاوض يمكن تقسيمها أيضاً إلى أطراف مباشرة وهي التي تجلس وتمارس فعلاً عملية التفاوض، وأطراف غير مباشرة وهي التي تُشكّل قوة ضاغطة لاعتبارات المصلحة أو التي لها علاقة بعملية التفاوض.
    أما القضية التفاوضية فلا بد أن يدور التفاوض حول قضية معينة تُمثّل محور العملية التفاوضية وميدانها الذي يدور حوله التفاوض، وقد تكون قضية إنسانية عامة، أو قضية شخصية خاصة، أو اجتماعية، أو سياسية أو تربوية وما إلى ذلك، ومن خلال ذلك يتحدّد الهدف التفاوضي وغرض كل مرحلة من مراحل التفاوض، وكذلك النقاط والمعايير التي يتعيّن تناولها في كل مرحلة والأدوات المستخدمة في ذلك.
    ومن المعروف أن أي تفاوض لا يتم بدون هدف أساس يسعى لتحقيقه أو الوصول إليه وتوضع من أجله الخطط والسياسات، وبالتالي في ضوء هذا الهدف يتم قياس مدة تقدّم الجهود التفاوضية في جلسات التفاوض، ويتم تقسيم الهدف التفاوضي العام أو النهائي إلى أهداف مرحلية وفقاً لمدى أهمية كل منها، ومدى اتصالها بتحقيق الهدف الاجمالي أو النهائي. وفي ضوء ما تقدّم نرى أن أي نوع من أنواع التفاوض لابد وأن تتوافر فيه الأركان الآتية: وجود طرفين على الأقل، ووجود قضية أو نزاع حدث بالفعل بين الأطراف المتفاوضة، ولا يُفرض التفاوض وإنما يقنع الأطراف بأنه نابع منهم، والاعتقاد بأن التفاوض هو أفضل الوسائل المتاحة للتوصل لحل مقبول حول مسألة النزاع أو الخلاف، والحوار الهادف بحيث يتم الحث المتبادل على التوصّل لاتفاقات مقبولة ومُرضية للطرفين.
    ويمكن إظهار شروط العملية التفاوضية بالقوة التفاوضية، وترتبط بحدود أو حديّ السلطة والتفويض الذي يتم منحه للفرد للتفاوض واطار الحركة المسموح له بالتحرك فيها، وعدم اختراقها فيما يتصل بالموضوع أو القضية المتفاوض بشأنها، ولذلك يجب أن يتمتع المفاوض بمجوعة سمات شخصية. فضلاً عن الحصول على المعلومات التفاوضية، وتلك المعلومات تتيح لفريق التفاوض الاجابة على الأسئلة التالية: من نحن الذين نتفاوض؟ من الطرف الآخر الذي نعتبره خصماً لنا؟ ما البرنامج المقترح قبل وبعد التفاوض للحصول على وثيقة نهائية مضمونة التحقيق؟ ما وسائل الدعم المتاحة والأفراد المدربون للوصول لتلك الأهداف؟ ما الأهداف المرحلية التي ستسير عليها وكيفية استغلالها؟ هل تستطيع أن تُحقق ما نُريده جملةً واحدةً أم على مراحل؟ كيف تستطيع ان تُحقق ما تريده من التفاوض من الطرف الآخر؟ ماذا تُريد من عملية التفاوض من الطرف الآخر أن يُحققه لنا؟
    أما ما يخص القدرة التفاوضية، فيجب على الفريق التفاوضي أن يتمتع بمدى براعتهم ومهاراتهم، وتتأتى في عملية الاهتمام بالقدرة التفاوضية على الاختيار الجيد لفريق التفاوض، وتحقيق الانسجام والتوافق والتلاؤم والتكيّف المستمر بين أعضاء فريق التفاوض، وتحفيز وإعداد فريق التفاوض تحفيزاً عالياً، والمتابعة الدقيقة لأداء فريق التفاوض، وعدم الاستهانة بما سيحققونه من عملية التفاوض والاشادة بها. 
    ويوجد في عملية التفاوض غالباً طرفين لديهما نيّة حقيقية قبل الدخول في التفاوض لتحقيق المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة وحلّ القضية التي من أجلها سيتفاوضون، وبالتالي يجب أن تكون لديهما قناعة بأن الاتصال المباشر والتفاعل الملائم مع الطرف الآخر هو الوسيلة الفعّالة لتحقيق نتائج مُرضِية، وتوازن المصالح والقوى بين الأطراف المتفاوضة حتى يأخذ التفاوض دوره وتكون نتائجه أكثر استقراراً وتقبلاً وعدالة واحتراماً بين هذه الأطراف، وإذا لم يتحقق هذا التوازن فقد يفقد التفاوض معناه وسيضحى استسلاماً وتسليماً وظلماً لأحد الأطراف الذين لا يملكون القوة اللازمة للتدليل على حقهم وإجبار الآخر على تقبّله.
    أما أهم معوقات التفاوض؛ فهناك محظورات يجب أن يتجنبها المفاوض وتظهر في المبالغة في الحديث والاسترسال، واخفاء جوانب الضعف، والأسلوب الصعب والمُعقّد، وعدم الاهتمام بسماع الطرف الآخر، والمُكابرة في الخطأ، وفقدان الأعصاب والتوتّر، والقصور في مهارة التحدث والتفكير المنطقي، وتشويه المعلومات بقصد أو بدون قصد، وسوء العلاقات بين المفاوض وجماعته وبين الأطراف الأخرى.

32
قراءة في كتاب (الوطن.. ذاكرة لا تغفو) للباحث أحمد الناجي
نبيل عبد الأمير الربيعي
وصلتني نسخة من كتاب الأخ والصديق أحمد الناجي الموسوم (الوطن.. ذاكرة لا تغفو) وهو عبارة عن قراءة جميلة ودقيقة ورائعة للباحث الناجي لكتاب السيد عدنان الحسيني (مائة عام من ذاكرة وطن) الجزء الأول. الكتاب عبارة عن كراس من الحجم المتوسط، وقد تضمن (132) صفحة، بعنوانات متعددة، قد سلط الناجي الضوء فيها على الفتاوى التحريمية وعلاقة المرجعية بالسياسة لحقبة القرن العشرين، ومن تلك العنوانات:
-     فتوى تحريم التنباك.. الدين أداة لتوجيه الرأي العام.
-     الجهاد ذد الاحتلال البريطاني.
-     الجمعيات السياسية والدينية في العراق.
-     ثورة العشرين.
-     التدافع السياسي يفضي إلى تحييد دور المرجعية الدينية.
-     المرجعية الدينية تعود إلى الخوض في غمار السياسة.
-     فتاوى التكفير.. اهدار دماء الخصوم السياسيين.
-     انقلاب 8 شباط الدموي.. ثمرة مُرة لفتاوى التكفير.
-     عودة البعث للسلطة وتجليات زيف تحالفه مع المرجعية الدينية.
ما اعرفه عن مميزات حوزة النجف عن غيرها من الحوزات الدينية هو نهجها العلمي الاصيل وابتعادها عن الفعل السياسي المباشر، حيث تعتمد على نظرية الأمة الحاكمة وليس المرجعية الحاكمة، فمن تقاليد النجف المعروفة لا يجوز لطالب العلم أن ينتمي لأي حزب سياسي، ولا يجوز له أن يحمل أي افكار فئوية أو قومية أو عنصرية، من أجل تحصينها لكي لا تنقل الصراعات إلى داخل اروقة الحوزة وتؤثر بذلك على الأجواء العلمية في النجف.
لكن بعد اطلاعي على كتاب الصديق العزيز السيد عدنان الحسيني (مائة عام من ذاكرة وطن) بثلاثة أجزاء، الصادر عن مؤسسة الصادق في بابل عام 2022، ذات الطباعة الراقية والاخراج الجميل، وجدته مثابراً بتسليط الضوء على مجريات الأمور الحياتية والسياسية والاجتماعية والدينية في العراق، بتقديم دلائل تاريخية عن العلاقة بين السلطة السياسية والمرجعية، فضلاً عن استخدام الدين في الشأن السياسي بين أواصر المدنس والمقدس، لكن كتاب الباحث أحمد الناجي، وهو يسلط الضوء على الجزء الأول من كتاب السيد الحسيني، بقراءة جديرة بالاهتمام، حيث وضع النقاط على الحروف، مشيداً بالكتاب، وواضعاً ملاحظاته الدقيقة عن الاخفاقات التي وقع بها المؤلف، علماً أن كتاب الأستاذ الناجي فيه بعض الأخطاء المطبعية والإملائية البسيطة، إلا أن الأستاذ الناجي قد اجمل دراسته هذه بحصرها في الاجابة عن خمسة أسئلة (من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟ لماذا؟) التي تزداد مهام الباحث بالاستقراء لجوانح التدوين التاريخي، والتوسع في مضان البحث عبر الحفريات التنقيبية التي تغور في أعماق الأزمنة، وقد وجد الناجي المؤلف عدنان الحسيني قد أدرك هذا الجانب، لكن الناجي أكد على أن المؤلف (راح يغالي بلا مبرر، حينما يشير إلى مصادره في المتن والهامش، ربما تحسباً من الظنون التي تنطلق من مصالح ذاتوية تلغي الآخر بتجسيد صرامة المعتقد الديني وهي بعيدة كل البعد عن الدين والقداسة) ص15. فضلاً عن أن المؤلف الحسيني قد عرض في كتابه حيثيات موقف المرجعية الدينية ومواقفهم السياسية على عدة عقود دون السكون جانباً والابتعاد عن التدخل السياسي.
وقد قدم السيد الحسيني في كتابه نبذة عن كافة المراجع الدينية ممن سبقوا الشيرازي وكان لهم دورٌ بارز في التصدي للزعامة الشيعية، كما حرص المؤلف على تقديم لمحة وافية حول مجمل أحداث ثورة العشرين وفتاوى بعض المراجع الدينية وابرز تلك الفتاوى فتوى الشيخ محمد مهدي الخالصي، حيث بدأ باستعراض مجموعة من الآراء التي تناولت أسباب الثورة وتحليلها. كما استعرض المؤلف الحسيني تدهور العلاقة بين الزعيم قاسم والشيوعيين، واطال النظر نحو المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم الذي قد بارك لثورة تموز بتاريخ 27 تموز 1958، لكن العلاقة بين الزعيم قاسم ومرجعية الحكيم قد تباينت بين الشد والجذب إلى أن انتهت عند حدود القطيعة ومباركتها لانقلاب 8 شباط 1963، واهدار دماء الشيوعيين بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي، وكان للحكيم حسب ما صرح به عبد الرزاق محيي الدين الدور في اسقاط حكومة الزعيم قاسم ومجيء البعث للسلطة (الاعمال الكاملة لعبد الرزاق محيي الدين ج4، ص376). فانتشرت اعراس القتل الجماعي، ويصفها الاستاذ الناجي في ص88 (أصبحت تلاوين تلك الأيام مصبوغة بلون الدم).
فقد سلط السيد الحسيني في كتابه ج1 الضوء بعناية فائقة على بعض الحقائق في تلك الحقبة الزمنية، ومن المراجع الدينية الشيعية والسنية التي استحصل منها على فتاوى جديدة بقتل الشيوعيين بعد حركة حسن سريع 3 تموز 1963 كلٍ من: السيد محسن الحكيم والشيخ محمد مهدي الخالصي والسيد نجم الدين الواعظ والشيخ أمجد الزهاوي والشيخ قاسم القيسي (راجع ص94/95 من كتاب الوطن.. ذاكرة لا تغفو- احمد الناجي). لكن الراوي لم يجرِ الأخذ بها وتنفيذ احكام القتل الكارثية آنذاك بفضل تشاور عبد الغني الراوي مع طه جابر العلواني إمام جامع حسينية الباجه جي بمحلة أبو أقلام في الكرادة الشرقية، الذي اسدى نصيحة إليه، وأشار عليه أن لا يذهب لتنفيذها (انظر: د. رشيد اخيون، فتاوى قتل آلاف السجناء تموز 1963، مقال بجريدة الزمان اللندنية، 4 تموز 2021).
مؤلف الكتاب اجده قد اهتم بكل معلومة صغيرة أو كبيرة وفي تفصيلات الحوادث، حتى أنه سلط الضوء على فتوى التكفير الكاذبة الصادرة من قبل السيد الحكيم تفيد بحرمة مقاتلة الأكراد، كان أول من روج لها ونشر خبراً عنها دون أن تورد نصاً لها هي جريدة التآخي، التي كانت تصدر في العاصمة بغداد، بعددها الصادر بتاريخ 17 حزيران 1965، ويؤكد على أن الحقيقة ما نشر حينها كان تزويراً بقصدية مغرضة. مع العلم أن السيد مهدي الحكيم قد وزع عن طريق وكلاء المرجعية فتوى لا تبيح لأحد قتال الحركة الكردية (ص102 الناجي). مع العلم أن السيد محسن الحكيم رفض اصدار فتوى تدين جرائم الانقلاب البعثي التي تمثلت في ممارسات الحرس القومي من تعذيب واعدامات عام 1963، إلا أن السحر قد انقلب على الساحر بعد انقلاب البعث في 17 تموز 1968 حيث اصدر الانقلابيون قرار بعدم اعفاء طلبة العلوم الدينية من الخدمة العسكرية، واتهام السيد مهدي الحكيم بالتجسس من خلال سلاح الفتاوى الدينية التي سوقت من خلال السيد محمد الحسني البغدادي بالضد من نجل السيد محسن الحكيم التي جاء فيها: هؤلاء جواسيس تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف(ص112 الناجي).
مع هذا نجد الباحث أحمد الناجي في كتابه قد سلط الضوء على اغفال السيد عدنان الحسيني في كتابه (مائة عام من ذاكرة وطن) ما يلي؛ مع العلم أن الكتاب منجز تاريخي ابداعي يحسب للسيد الحسيني كونه كان حيادياً وموضوعياً مستقلاً في آراءه:
-     اغفل النظر نحو بعض تداخلات المرجعية الدينية والتحولات الحاصلة في زعامتها، وفي تداخلات مجيء السيد ابو القاسم الخوئي، الذي برز دوره بقوة عقب رحيل السيد محسن الحكيم ص114.
-     الفرصة قد فاتت على المؤلف بتبيان العلاقة بين السلطة السياسية والمرجعية الدينية عام؛ وهي موضوعة الكتاب ص117/118.
-     عدم الاهتمام بالسياق التاريخي من حيث التسلسل الزمني للأحداث ص121.
-     التنقل تارة بين استعمال التاريخ الهجري وتارة أخرى الميلادي ص121.
-     هناك بعض الاختلافات بين ثنايا الكتاب في التعابير والاسماء والامكنة ص121
-     هناك حالة مكررة لا داعي لها، تنطوي على ذكر المصدر نفسه وبالصفحة نفسها في المتن والهامش.
-     اغفل المؤلف عن موقف المرجعية الدينية من قرارات التأميم للشركات الخاصة في 14 تموز 1964 ص106.
-     اغفال المؤلف لما يتعلق بالمرجع الديني الايراني السيد الخميني وعلاقته بالمراجع الدينية وخاصة مرجعية الحكيم، فضلاً عن اهمال دور الخميني وموقفه من العلاقات العراقية الايرانية، وموقفه من نكسة حزيران 1967، وموقف الخميني من انقلاب 1968، وموقف الخميني من ترحيل الطلبة الايرانيين المقيمين في العراق عام 1969، وموقف الخميني من حملات التسفير نيسان 1969، وموقف الخميني من بيان 11 آذار 1970، وموقف الخميني من حرب تشرين وما بعدها 1973، وموقف الخميني من اتفاقية الجزائر 1975، وموقف الخميني من الزيارة الاربعينية واحداث خان النص شباط 1977، ص119/120.
مع هذا اشد على يد الأخ السيد عدنان الحسيني على منجزه (مائة عام من ذاكرة وطن)، فضلاً عن القراءة الدقيقة للصديق الباحث أحمد الناجي في كتابه الرائع والجميل والحيادي دون مجاملة (الوطن.. ذاكرة لا تغفو).

33
معايير التفاوض عند الإمام علي بن أبي طالب
نبيل عبد الأمير الربيعي
صدر الكتاب عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل، وقد احتى على (238) صقحة من الحجم الوزيري. مهمة الكتاب تقوم في الكشف عن حقائق الباطن التي مَثلّها الإمام علي في حياته ومماته، وعن روح المعاني في أقواله وأفعاله. وبالتالي ضرورة إيجاد الصلّة الفعلية ونموذجها الممكن بين قوة مثاله وشخصيته الواقعية، أي نفيها الحقيقي في الفعل المعاصر. فليست هناك من شخصية كبرى في تاريخ الإسلام استطاعت أن تستثير خفايا الوعي والضمير وتضارب المشارب والتقييمات كشخصية الإمام علي بن أبي طالب. فهو يبدو في كيانه الواقعي لُغزاً، وفي صورته التاريخية كياناً يصعب احتوائه أو المسك به. فهو الشخصية التي يصعب التعامل معها على أساس قواعد المنطق الصارمة أو الإنتماء المذهبي، فكلاهما يضعفان البحث.
كُسِرَ هذا الكتاب على مقدمة وستة فصول وخاتمة، شمل الفصل الأول دور الإمام علي في المصير السلطوي ومفارقاته، أما الفصل الثاني فتعلق بخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. أما الفصل الثالث فشمل عناصر التفاوض في مدرسة الإمام علي. وخصص الفصل الرابع صفات المفاوض الناجح وفق مفهوم الإمام علي، أما الفصل الخامس فتضمن محطات من حياة الامام علي. ثم الفصل السادس دور الامام علي في معركة الجمل.
اعتمدت في اصدار هذا الكتاب على مصادر متنوعة تراوحت في أهميتها بين مصادر وثيقة الصِلّة بموضوع شخصية الإمام علي، وأخرى برزت أهميتها في موضوعات خاصة من الكتاب، كانت في مقدمة تلك المصادر الكتب العربية مصدراً مهماً للكتاب، ومن أبرز هذه الكتب: شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد، وأمالي الصدوق لأبن بابويه القمي، وتهذيب التهذيب لأبن حجر العسقلاني، وتاريخ ابن خلدون، ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبن خلكان، وتحف العقول عن آل الرسول لأبن شعبة الحراني، والإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء لأبن قتيبة، وكشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي، والإمامة والقيادة لأحمد عز الدين، والغدير في الكتاب والسُنة والأدب للأميني، وحلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار للبحراني، والطبقات الكبرى للبغدادي، والكامل في التاريخ للجزري، ووسائل الشيعة للحر العاملي، ومصادر أخرى مهمة اعتمدت عليها في كتابي هذا.
لقد حدد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب معايير المفاوضات وعناصرها، وأسَسَّ لواقعية السياسية قبل مئات السنين، أي قبل توماس مور في كتابه (اليوتوبيا)، ونيقولا ميكافلي في كتابه (الأمير) الذي كان صاحب الواقعية السياسية، والفارابي في كتابه (المدينة الفاضلة)، وتوماس هوبز في كتابه (ليفيثان في الدولة والسياسة)، وروجر فيشر، وقبل مفهوم السيدة في كتب (الجمهورية الستة) لجان بودان، فضلاً عن جان لوك وكتابه (العقد الاجتماعي)، ومونتسكيو و(الفصل بين السلطان والدساتير والحريات)، وفولتين وجان جاك روسو. أما الهداية والحكمة والمعرفة والشجاعة والجرأة والقوة الجسدية فجميعها اجتمعت به، فضلاً عن آداب الفروسية والنخوة، والحق والشرف، والسلام والحرب، فكان يلتزم بالحكم الشرعي في كل قول وفعل.
ولتوضيح المزايا لأهدفنا في هذا الكتاب، هو تم تسليط الضوء على أسلوبه التفاوضي بصفته ابن عم النبي محمد بن عبد الله، وصحابياً يلتزم بالأحكام الشرعية، كأساس في حياته وافعاله وسلوكه، فضلاً عن كونه صاحب قرار بالحكم الشرعي ملتزماً به، فقد طالب بتسليم قتلة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وكان لهُ موقف في وجوب عزل معاوية بن أبي سفيان عن ولاية الشام، وفي معاملة طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام، وفي قبول التحكيم.
في هذا الكتاب نركز على مواقف الإمام علي بن أبي طالب التفاوضية انطلاقاً من فهمه للأحكام الشرعية، سواء في قوته أو ضعف سلطانه. فكان مثالاً للصحابة في عناصر المفاوضات التي كانت من بديهيات فهم الصحابة للأحكام الشرعية، ولو قارنا ذلك مع عناصر التفاوض في الفكر الغربي التي كُتبت بعد حوالي 1300 عاماً بعد استشهاد الإمام علي. وعناصر التفاوض التي وثقها العالم الأمريكي روجر فيشر السبعة لأي مفاوضات، هي: 1- المصالح، 2- الخيارات، 3- الشرعية، 4- العلاقات، 5- الإتصال، 6- الإلتزام، 7- البدائل. وإن الإمام علي بن أبي طالب قد وضعها قبله بألف وأربعمائة عام، وهي اثني عشر عنصراً، أي بزيادة خمسة عناصر على فيشر؛ وعناصر التفاوض الكاملة هي: 1- المصالح، 2- الخيارات، 3- الشرعية، 4- العلاقات، 5- الإتصال، 6- الإلتزام، 7- البدائل، 8- العلم والمعرفة، 9- القيادة والمسؤولية، 10- المُتغيرات، 11- الصبر والثبات، 12- العدل. وهناك من يعتقد أن توماس هوبز هو أول من أسس العلاقة بين الدولة والناس والدولة والسياسة، لكن الحقيقة العلمية واضحة لنا أن الإمام علي جاء بها قبل هوبز، فقد حدد مفهوم السيادة بوضوح.

34
ثوار انتفاضة هور الغموكة... ثوار من الزمن الآخر
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   بعد حقبة الستينيات وعند هذا التاريخ دخل العراق في الفراغ، في منعطف توقف عن إنتاج النماذج الوطنية الكبيرة، ومشاعية التفكير والرؤيا، فسلام عادل هو آخر الذين يذكرون هنا بإجلال، لاعتبارات خاصة، فالعناد والتمسك بالمبادئ كان ديدنهُ، مما صنع منه العظمة من الأعلى وجعلت لأول مرة في العصر الحديث ممكنة. أما ما صنعته القيادة من الأسفل فهو عزيز الحاج، الذي تزعم تنظيم القيادة المركزية وتركه بموقف لا يحسد عليه عبر لقاء على شاشات التلفزيون العراقي.
   لكن لا أحد من بين من انغمسوا في تجربة الكفاح المسلح كان كاملاً، فعزيز الحاج لم يكن ضعيفاً بذاته، بل بالخلفية والايقاع المحيط به هو الذي اضعفه، لذلك كان على عزيز الحاج أن يفعل ما فعله لأنه لا يستطيع الموت بمرافقة الكذب أو لأجله، مع العلم أنه كان غير مؤهلاً تماماً ليقود الثورة في أهوار جنوب العراق، لذلك نجده قد صعد في أرجوحة الحلم المغلق، وهبط مضرجاً هبوطاً مدوياً يدل على المأساة، فكان رمزاً لحظة الإعلان المدوي عن الفراغ بكل تراجيديتها، كما كان نقطة دالة على انقطاع في الجانب الأهم من جوانب الشكل الوطني.
   كانت انتفاضة الأهوار قد وقعت ضمن اخطر المنعطفات التاريخية في عموم تاريخ العراق، وكان ثوار الانتفاضة أمثولة من نوعٍ آخر، فالانتفاضة المسلحة التي قامت في الأهوار وقتها استمرت برمزيتها التي نجمت عنها، وخاصة بفرديتها، فالفرد الذي ينمو مع الأيام والوقائع انتهى بنهاية الحدث وتحول إلى ذكرى مستحيلة التكرار، والأشخاص صاروا حاضرين ملحقين بالحدث، كما هو حال الثائر خالد أحمد زكي، الذي كان يمتلك صفاة القائد بشجاعته وملكاته الشخصية، أو منجزه الحقيقي وحدود ما فعله، إلا أنه لم يكن مؤهلاً جسدياً للعمل الصعب الشاق في الأهوار، والنزعة الأرادوية في هذا المجال، لم تكن مفيدة دائماً ولا فعالة، بسبب ضخامة الصعوبات وتعددها، بينما وضع في الظل اسم شخص لعب الدور الأهم في كل تجربة الكفاح المسلح، وتميز بروح تطابق اللحظة التي مارس نضاله خلالها، وكان متميزاً وقيادياً ومشاكساً قرمطياً غريب الأطوار هو أمين الخيون.
   في ص66 يتذكره الكاتب عبد الأمير الركابي في كتابه (انتفاضة الأهوار المسلحة في جنوب العراق 1967/1968م) قائلاً: (أمين الخيون هو حقاً الممثل الفعلي للتيار العراقي، ضمن ظاهرة الاتجاه إلى العمل المسلح، وتصوراته ومحاولاته بهذا الخصوص، تعود إلى أوقات مبكرة، ترجع لما قبل تأثيرات أمريكا اللاتينية وجيفارا، فأمين كان من المشاركين في المقاومة المسلحة التي جوبه بها انقلاب 1963 البعثي عام 1963 في الكاظمية شمال بغداد، حين قام مع رفاقه باحتلال مركز الشرطة هناك، واستولوا على اسلحته وجابهوا الحرس القومي ودبابات الإنقلابيين. وكان هنالك في خلفية المشهد أيضاً أبو جعفر المناقبي، والشخصية المتفانية من دون حساب، أو نوري كمال العاطفي الذي صفيّ على يد ناظم كزار، أو الملازم فاضل عباس، ومن بين هؤلاء لم يشارك الأول والثاني، في العمل المسلح بأي درجة... في حين كان الملازم فاضل عباس قد شارك في القاعدة الأولى مع أمين الخيون، وكان المشرف على التدريب على الأسلحة. وهو بالمناسبة من الهاربين من سجن الحلة).
    علينا أن لا نغمط ونغفل دور الخيون في الدواية كلياً في مجريات العمل المسلح في الأهوار وما اطلق عليه اسم (منظمة الكفاح المسلح)، وهي المنظمة التي ظلت قائمة حتى بعد مجيء حكم البعث للسلطة عام 1968 وهروب أمين الخيون من السجن في الموقف العام في باب المعظم بمساعدة حارس ينتمي إلى الحركة الكردية قبل تصفية القيادة المركزية عام 1969. وقد فقد أمين الخيون أخيه نائب الضابط في القوة الجوية جميل الخيون في ظروف غامضة، ولم يعرف عنه أي شيء لحد الآن. وحالة أمين الخيون لعبت فيها قلة الخبرة، وعدم توفر الأشخاص المناسبين للمهمة، إضافة إلى الأخطاء التي كانت في هذا المجال الدقيق، غير قابلة للاستدراك وسرعان ما تنتهي إلى انهيار التجربة وفشلها.
    أما جماعة الفرات الأوسط من تنظيم الكفاح المسلح فكان موسى تاج الدين أكثر اعضاء المنظمة أهمية، وقد عقدت له عدة لقاءات بخالد أحمد زكي في الحديقة العامة قرب المحطة العالمية في الكرخ، ثم اللقاءات استمرت في بيت (شهاب) في الحرية الثانية. فضلاً عن جماعة (كوادر الحزب) أو (فريق الكادر اللينيني) المتمثل بعزيز الحاج وحسين الكمر. وكان لكثرة الانشقاق قد تعرض البعض للتجميد من قبل الحزب (اللجنة المركزية)، فبدأ بتشكيل تكتل (وحدة اليسار)، وهكذا كان الحزب عموماً، يضم قبل انشقاق القيادة المركزية في 17 ايلول 1967 ثلاث تكتلات هي: (القيادة المؤقتة) أو (مصباح) و(فريق من الكادر اللينيني) و(وحدة اليسار). الأول يتزعمه عزيز الحاج وحسين الكمر، والثاني يقوده نجم، والثالث الأصغر بقيادة أمين الخيون.
    كما لا ننسى الشخصية الاسطورية موسى عطية، فضلاً عن دور ضابط الصف المقاتل حسين محمد حسن السويعدي الذي شارك عام 1963 في انتفاضة الرشيد مع حسن سريع. ولدور محيسن نايف الذي ارتبط بانتفاضة فلاحي الغموكة، وهناك أيضاً عبد الجبار علي جبر الشمري؛ الذي فقد كفه وهو يعيد قنبلة يدوية وقعت وسط مجموعته في معركة هور الغموكة، ولولاه لقتل جميع رفاقه، وكذلك يجب أن لا يُنسى علي حسين بويجي، ذلك الشاب اللاهي الضحوك من أبناء مدينة الثورة (الصدر حالياً)، وتوفى في ظروف غامضة، ولا ننسى عقيل حبش ودوره في الانتفاضة، إلا أن الظروف لم تكن بجانبه فتم إلقاء القبض عليه من قبل الشرطة السيارة أولاً، فضلاً عن دور عبد الأمير الركابي الذي تخاذل فيما بعد وتعاون من اللجنة التحقيقية بعد إلقاء القبض على المجموعة. فضلاً عن دور ابن محلة الدوريين في بغداد عبد الله شهواز، وممن استشهدوا في المعركة خالد أحمد زكي ومحسن حواس، هما من قاتلا ببسالة ورضى مذهلين. قاد معركة هور الغموكة الشهيد خالد أحمد زكي، الذي ترك العمل مع البروفسور رسل وعاد للعراق لقيادة تجربته في الكفاح المسلح ضد نظام السلطة العارفية، وعند وصوله لبغداد اقتضت الضرورة لإقامة جهاز سري سمي (خط حسين)، وجرى لاحقاً تغيير اسمه إلى (خط هاشم)، حتى لقب خالد أحمد زكي بـ(أبو هاشم)، وكان دور هذا الجهاز أن يقوم بالمهام الخاصة من استخبارات ومراقبة وتأمين السلاح، والبدء بالتدريب على استعماله والقيام بمهمات الحماية. وكان السيد درعان (منعثر سوادي) الذي استشهد هو الآخر في المعركة, وهناك أشخاص آخرين لم يشاركوا في المعركة الفاصلة مع القوات الأمنية وقد اصيبوا بالذعر؛ هم كلٍ من: عبود خلاطي وحسين ياسين وموسى عطية، تركوا المجموعة في اليوم الثاني.
   من خلال هذا البحث الموجز احاول أن ارسم قراءة عن انتفاضة الأهوار، التي وقعت ضمن أخطر المنعطفات التاريخية حقبة الستينيات، في وقت تنامي الصيغة الشيوعية المقاتلة وكسر القاعدة. هذا التحدي الذي اسهم بقوة في طمس أو منع العقل العراقي من التعرف على ذاتيته التي كانت تتطلب أن يضطلع الإنسان بمفرده فيتحمل مغبة وثقل الاختراق الدهري وسط المعاكسات الثقيلة والراسخة في العقل والسلوك. فانتفاضة الأهوار هي بداية نشأة وصيرورة في قلب المستقبل، لها قواعدها التي رسمتها وهي من تؤسسها لتحقيق أهدافها وفق مفاهيم ومقاييس الشيوعية.
 
   

35

انعام كجه جي وروايتها (سواقي القلوب)
نبيل عبد الأمير الربيعي
انعام كجه جي أديبة استثنائية، فهي عند مجايليها من الروائيين قامة أدبية باسقة، وروائية فذة من طينة الكُتّاب الكبار، تسير على هدى وبصيرة، ذو انتاج أدبي رصين ومائز، اكتشف في جميع رواياتها اللآلئ، ومن ثم أبحر لأكتشاف كنوز أخرى، نذرت معظم وقتها للكلمة وإعلائها، منها رواية (طشاري، والنبيذة والحفيدة الأمريكية....الخ)، ترسو روايتها (سواقي القلوب) للحرية والحب والجمال والبهاء والصفاء والكمال والسلام، وتوضيح واقع حال النظام السابق ومعارضيه في المنفى (باريس)، تكشف لنا في هذه الرواية على علاقات العشق سواء في العراق أو في المهجر، ومن ثم تكشف لنا حالات المثلية الجنسية من خلال شخصية (ساري) أو (سارة)، تسعى لأفشاء سلوكها والتقارب بينها وبين بطل الرواية وهو عشيق والدتها (نجوى)، وتبين لنا الروائية من خلال روايتها دور السفارة العراقية في باريس كيف يقوم حمايتها من عناصر المخابرات باختطاف المعارضين العراقيين للنظام وارسالهم بصناديق اللحوم الطازجة إلى النظام العراقي.
رواية (سواقي القلوب) تصور لنا اقسى اشكال الضياع في غربة المعارضين للنظام، ممن خرج من وطنه يبحث عن وطن آمن من عسس مخابرات النظام.
وموضوع الحب هو الآخر، لا يغيب عن هذه الرواية. فالهاربان من الوطن، لاجئين إلى باريس، ثمة سوزان فرنسية لكل منهما، مثل الكثير من الهاربين أو القادمين للدراسة. لكن الحب لكل سوزان هو حبٌّ لا ينتهي بزواج، و(زمزم)، حَنقَباز السماوة لا يعنيه شيء مما يحدث، فهو منغمس في الشراب ليل نهار. و(كاشانيّة) توفّر الجو العائلي من طعام ونبيذ، بما تملك من مال، لم يجرؤ أحد على سؤالها من أين لكِ هذا، حتى تبيّن أخيراً أنها كونتيسة، زوجة كونت من تولوز في فرنسا. والعاشق الأول لـ(نجوى) الذي يساعد ابنها ساري إلى المستشفى الذي نجح في زرع الأنوثة في الفتى ساري، الذي انقلب إلى الفتاة سارة، وبدعم مالي من رئيس الجمهورية العراقية صدام حسين. ساري الجندي المكلف بالحرب العراقية الايرانية يتصل بالرئيس لمقابلته ويعرض عليه بأسلوب مدهش في بساطته أن الأطباء أوصوا أن تجرى له جراحة دقيقة، وأين؟ في باريس.
من أي طينة عجيبة خلقنا الله نحن العراقيين؟
كل قصة فينا وحدها وبحد ذاتها هي من عجائب الحياة، من اخبار الحرب العراقية الايرانية التي حرقت نخيل البصرة وشباب العراق وتركت النساء ثكالى، إلى احداث انتفاضة الشباب على رأس النظام وجلاوزته عام 1991م، والتي ذهب الأخضر واليابس باعدام خيرة الشباب، والآخرين هاجروا خارج العراق بسبب قسوة النظام.
انعام كجه جي تقدم لنا المزيد من الحب والفرح والعطاء والجمال الأدبي في رواياتها جميعاً، كأنها شجرة وارفة الظلال، جذورها في مشارق الأرض لتفيء بأغصانها مغارب الأرض، تدعو نحو آفاق المحبة، لا تملك إلا الكلمة الصادقة الشفافة، فهي عصاها ومتكأها.

36

الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية الشرقية
نبيل عبد الأمير الربيعي
الإشكالية الكبرى والمعضلة الحقيقية التي حَلّت بأبناء الديانة الإيزيدية هو حجم التشويه الذي تعرضوا لهُ في بلاد الرافدين، من خلال حجم الصراعات الدولية والإقليمية وحتى المحلية ذات الأبعاد العرقية والإثنية والطائفية التي سخرَّت لنيل مآرب اصحابها ومصالحهم ومطامعهم في المنطقة، من خلال مختلف العصور المتعاقبة على بلاد الرافدين وآخرها ما تعرضوا لهُ من عناصر ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، من قتل وسبي واغتصاب وانتهاك للأعراض وتدمير مناطق سكناهم منتصف عام 2016م.
لو سلطنا الضوء على معتقدات المكون الإيزيدي لوجدنا أنهم لا يقدسون بشراً ولا ابليس بل يعبدون الله الواحد الأحد بطريقة مغايرة، ولا يرغبون التخلي عن عقائدهم، ويحترمون الديانات الأخرى. أما تسميتهم بـ(الإيزيديين) فتعني من خلقني وليس يزيدي نسبة إلى يزيد بن معاوية، وهي تسمية مضللة ألصقت بهم لتشويه هويتهم وحقيقة معتقداتهم، وكان لسوء الفهم المترسب في وعي الناس عن هذا المكون المغلق على نفسه. والإيزيدية موحدين لله كسائر الديانات التوحيدية في العالم، وهم يعتقدون إن الله سبحانهُ وتعالى قد خلق العالم من العدم، وخلق الملائكة والكون والبشر. ويعتقدون من خلال ديانتهم بتناسخ الأرواح وانتقالها بين الأجيال، وهي ديانة غير تبشيرية كالمسيحية والإسلامية؛ فأنها ديانة مغلقة. وفيما يتعلق بطقوسهم الدينية، فلديهم الصلاة والصوم والأدعية والحج إلى ضريح الشيخ عدي بن مسافر الهكاري في معبد لالش، والتطهير والختان، ويوم العبادة عندهم هو يوم الأربعاء الذي يستوجب فيه التعطيل عن الاشغال. والإيزيديون كغيرهم لهم مراكز تواجد بعضها قرب مزاراتهم المقدسة؛ في سنجار والشيخان وبعض قرى نواحي تلكيف وبعشيقة وزاخو في محافظة دهوك. مع كل هذا الإيمان بالله فقد اتهموا بالكفر والزندقة وعبدة الشيطان التي اطلقها عليهم وزير العراقي العثماني سليمان باشا، فاستبيحت دمائهم.
بل نالوا من الحكومات المتعاقبة؛ منذُ الاحتلال العثماني ومن ثم البريطاني من تشويه اسم الإيزيدية وانتماءهم العرقي، وجوهر عقيدتهم، وموروثهم الاجتماعي والثقافي والديني، واستمر ذلك على مدى قرون طويلة، وحتى فترة قريبة من الآن. لقد طال هذا التشويه وساهم به بعض الكُتّاب والمؤرخين، لسرية عقيدتهم وانغلاقهم على الأجانب والغرباء وفقدان الثقة، لخوفهم من الحروب والمجازر التي تعرضوا لها، وعدم تمكنهم من التعبير عن مكنوناتهم بسبب جهلهم في العصور السابقة بالقراءة والكتابة المحرمة عليهم دينياً، أما اليوم فقد تصدى لذلك من ابنائهم ممن نالوا الشهادات والدراسات العليا وتعلموا في المدارس الحديثة.
وقد تناول تأريخهم بعض الكُتّاب غير الملمين بأحوالهم ومعتقداتهم معتمدين على الحكايات والمرويات من القصص التي تتحدث عنهم، والتي لا تخلو من الدَسّ لأسباب معروفة للجميع، كما أن أبناء الإيزيدية أنفسهم تأخروا كثيراً لتوضيح حقيقتهم؛ دينياً وعرقياً وثقافياً، وما انبروا في كتابته تركز على جوهر العقيدة الإيزيدية، والرد على بعض الاشكاليات التي طالت ديانتهم وكتبهم المقدسة، ومجدد ديانتهم الشيخ عبدي بن مسافر الهكاري، وأنهم ديانة سماوية قائمة بذاتها مثلها مثل اليهودية والمسيحية والإسلامية، وأنهم ليسوا فرقة إسلامية مرقت عن الديانة والتي بسببها عدوا مرتدين عن الإسلام ولاقوا صنوف العذاب والإبادة والقتل والتهجير على يد الكثير من الحكام المسلمين في أيام الدولة العثمانية بسبب فتاوى بعض رجال الدين المسلمين.
أما المؤرخين العراقيين فكانوا السباقين في هذا التشويه أمثال: السيد عبد الرزاق الحسني والأستاذ صديق الدملوجي والأستاذ سعيد الديوه جي والأستاذ عباس العزاوي والدكتور سامي سعيد الأحمد، الذين افردوا كتباً خاصة حول الإيزيدية وعقيدتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بالرغم من أن بعضهم كان على تماس وتعايش مباشر معهم وعن قرب، وربما يمكن السبب إلى انغلاق الإيزيدية وجهل غالبية رجال دينها بالإجابة عن اسئلة الباحثين الحرجة وقتذاك، فضلاً عن ملازمة الخوف لهم والذي لا زال يلازمهم حتى يومنا هذا؛ لعدم تخلصهم من صور عذابات ومآسي فرمانات العثمانيين وحملاتهم التي كانت تجلب القتل والدمار إلى جميع مناطق سكناهم، وقيام رجال الدين الإيزيدي بالاجابات التي ترضي فضول السائلين عنهم، مما دفع الإيزيديون ثمناً باهضاً جداً من خلال عشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من المهجّرين قسرياً إلى مناطق مختلفة من العالم، أو التحول قسرياً إلى الدين الإسلامي، عدا الأتاوات وتدمير القرى والبلدان.
لقد تعرض اتباع الديانة الإيزيدية في العراق إلى ما يقارب (73) حملة عسكرية من قبل المسلمين، مما اسفرت عن عمليات قتل الأفراد وسبي النساء، ومحاولة القيام بعملية تطهير عرقي عبر عمليات القتل الجماعي والقضاء على إدامة النسل.
لم ينصف الإيزيديون إلا على يد قلّة من الباحثين أمثال الدكتور كاظم حبيب والدكتور خليل جندي والباحث زهير كاظم عبود والأستاذ خدر سليمان والباحث عدنان فرحان زيان وآخرين، الذين قدموا دراسات ومحاولات جادة حول بعض الاشكاليات التي لم يتم الحسم فيها أو في كليتها حول العقيدة الإيزيدية وجوانب أخرى من حياتهم وتقاليدهم الاجتماعية.
كما انصف أبناء الديانة الإيزيدية بعد تعرضهم من قبل عناصر تنظيم داعش الإرهابي عام 2016م في مجال القصة والرواية، بعد ما شهدت الأقليات في محافظة الموصل الاضطهاد والقتل والتهجير، إذ عانت الإيزيدية من موجة الإبادة الجماعية، حيث اقترنت قضيتهم بسبي النساء وبيعهن، الأمر الذي جعلها قضية تأخذ بعداً عالمياً، فلم يقف الأدب صامتاً أزاء ما حصل لهذا المكون العراقي، إذ استجابت النصوص الأدبية لهذا الحدث ونقلته بتفاصيله الدقيقة، حيث وصلت تلك الروايات إلى أكثر من سبع روايات افتتحها الروائي علي بدر وسنان انطوان في مدة ثمان سنوات، فأسست لأدب القضية الإيزيدية، وجعلت مفهوم الهوية ذات بعد ديني عرقي، ثم ابتدأت د. وفاء عبد الرزاق بروايتها (رقصة الجديلة والنهر) 2015م، ووارد بدر سالم برواية (عذراء سنجار) 2016م، وعامر حميو برواية (بهار) 2016م، وراسم قاسم برواية (شمدين) 2017م، ونوزت شمدين برواية (شظايا فيروز) 2017م، وعبد الرضا صالح محمد برواية (سبايا دولة الخرافة) 2016م، ونزار عبد الستار برواية (يوليانا) 2016م، وغادة صديق رسول برواية (مراثي المدينة القديمة) 2018م، ومن الروايات العربية التي كتبت عن القضية؛ رواية سليم بركات (سبايا سنجار) 2016م، ورواية زهراء عبد الله (على مائدة داعش) 2016م، ورواية سمير فرحات (بنات خودا) 2017م، ورواية إبراهيم اليوسف (شنكالنامة) 2018م، ورواية دنيا ميخائيل (في سوق السبايا). فضلاً عن ديوان شعر كتب باللغة الإيزيدية الكرمانجية، وترجمها للعربية الأستاذ عيدان برير.
نحنُ اليوم بحاجة للتوقف عند جدلية الصراع بين الثقافة والدين، وسيادة احتكار الدين الإسلامي لمعظم المرافق الحياتية والصراع بين الثقافة الحديثة والتقليدية. نحنُ بحاجة إلى تجديد الدين ليسمو بالإنسان ويحفظ كرامته ويقرّب البشر بعضهم من البعض. نحن بحاجة إلى التنوع الثقافي وليست سيادة ثقافة واحدة. نحن بحاجة إلى خلق مساحات من الحوار لخلق ذهنية صحيحة عن الآخر ومحاولة تصحيحها من قبل بعض المسلمين، فضلاً عن المصالحة مع الذات ومع الآخر المختلف لبناء السلم المجتمعي.

37
الدكتورة أسماء غريب... وإتْنا ورحلةُ الظّهور المُقدّس
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    الدكتورة أسماء غريب شاعرة، وناقدة، ومترجمة، وفنانة تشكيلية، مقيمة في إيطاليا، مستشارة في هيئة التحرير لدى مجلة السّلام الصادرة من السويد (ستوكهولم)، مديرة الفرع الإيطالي للبيت الثقافي العربي في الهند؛ عضو رابطة الأدباء العرب؛ حصلت عام 2006 في إيطاليا على لقب أوّل امرأة عربية تتخرّج بمرتبة الشرف الأولى من جامعة الدراسات الشرقية الإسلامية. وقد كانت أطروحة إجازتها باللّغة الإيطالية حول “أسرار الحروف النورانية بالقرآن الكريم”؛ حصلت عام 2008 ومن الجامعة ذاتها، على شهادة الماجستير الدولية للدراسات العليا بمرتبة الشرف الأولى، تخصّص: دراسات حول البلدان العربية والإفريقية. وكانت أطروحة الماجستير حول “إسراء ومعراج الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام”؛ ـــــ في بدايات عام 2012 حصلت بروما على دبلوم في التحرير الأدبي والصحفي من “ستيلوس” مؤسسة علوم التحرير الأدبي والصحفي باللغة الإيطالية؛ نالت في 28 حزيران 2012، بروما بجامعة “المعرفة /La Sapienza” قسم الدراسات الشرقية: تخصّص (حضارات وثقافات دول إفريقيا وآسيا) شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز وبمرتبة الشرف الأولى عن أطروحتها الموسومة بـــــ (الحداثة في المغرب، من التاريخ إلى الأدب: محمد بنيس أنموذجا للدراسة والتحليل) ـــــ شاركت في العديد من الأنشطة الثقافية الخاصّة بحوار الأديان بأهمّ المؤسسات التعليمية بمدينة إقامتها. لها العديد من المؤلفات. بدأت مشروعها أدبيّ سرديّ بعدة روايات، وهي بهذا ترنو إلى وضع لبنات جديدة في البناء السّرديّ الصّوفيّ، عبر تقنيات تعتمد أسلوب المراسلات حينًا، والميتاسرد أحيانا أخرى، مع اللّجوء إلى الغوص في قضايا تراثيّة بأسلوب حديث فيه الكثير من الحفر الفلسفيّ والعرفانيّ الشّاهق.. ولقد بلغت نتاجات الدكتورة أسماء الأدبيّة ما يزيد عن أربعين إصداراً، بين ترجمة وحوار وشِعر ونقد ورواية.
    وعن تجربتها الجديدة هذه تقول الباحثة د. أسماء غريب: (الحياةُ بأسرهَا كتابٌ مفتوح، والنّاسُ فيهِ صفحات لا بدَّ من قراءَتِها بعقلٍ مُقَمَّطٍ بالنّورِ، ومُعَمّدٍ بالفرحِ والرّضا، ومن هذا المنطلقِ دخلتُ عبر هذا النّتاجِ النقديّ الجديدِ إلى محراب الحرفِ لأقرأَ منْ ذاكِرتِه أعمالَ قاماتٍ أدبيّة سامقة رافقَتْي لأيّام طوال قضيتُها أفكُّ فيها طلاسمَ الأبجديّة بصبرٍ عرفانيٍّ جميل، ومحبّة صوفيّة عميقة، وأرصُّ لآلئَ الكَلِم ومُرجانَ البوحِ نجوماً أُضيءُ بهَا عتمةَ الأزمنَةِ والأماكنِ، لأعرِفَ بالحرفِ نفسِي، وأرى على مرآتِه وجهِي كما هُوَ، قلباً مُتبتّلاً في محراب النّون والقلم، وأدخلَ بهِ ومنْهُ إلى مجرّتي الأمّ، أَخْبِرُ فيها هزّات أرضِ العَقْلِ، ونبضاتِ سماوات القلْبِ وهُو يحملنِي إلى الأكوان ويدورُ بي كالدّرويش الرّاقصِ بسُرعة الضّوء، وأُطِلُّ بهِ من أعماقي على البلدان، والنّاسِ فيها من أهل الكتابة، فأعرفُهُم ويعرفُونَنِي، وأقرأُ لهُم كما لمْ أقرأ لأحدٍ من قبْل، وأجسّ نبضَ حروفهم وأجلسُ قبالتَها أكَفْكِفُ دمْعَهَا وهيَ تبوحُ بمكنوناتِها عن كلّ أديبةٍ أو أديبٍ رصدتُ إبداعَهُما سواء في المسرحِ أو الشّعر أو الرّوايةِ).
    وكان لأحدث إصدارات دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة 1-7-2023، كتابها الموسوم (إتْنا... رحلةُ الظّهور المُقَدّس... من الحضرة الهيروغليفية إلى الحضرة المهدويّة)، الكتاب بحلته الجديدة بواقع (188) صفحة من الحجم المتوسط، وقد زينت صفحات الكتاب الأخيرة بملحق من اللوحات. تهانينا الحارة للسيدة الفاضلة الأديبة المترجمة والناقدة د. اسماء غريب، لهذا الإنجاز الكبير الرائع، والشكر والتحية لجهودها الزاخرة في توصيل الكلمة وإثراء الثقافة.. مع فائق تقديري ومودتي .
    في كتابها الأخير، تطرح عدّة اسئلة حول الإمام الغائي المهدي (ع)، ومن تلك الأسئلة: هل غاب المهديُّ حقاً؟ إذا كان الأمرُ كذلكَ، فأين هُوَ يا ترى؟ ولماذا هُو مُنتَّظّرٌ إلى اليوم؟ بل مَن هُم هؤلاء الذين حافظوا على وعد انتظاره مهما طال الزّمان أو قصر؟ أمجانين هُمّ، أم سادةُ العقلاء ممّن قذف البارئُ في قلوبهم النّورَ المبين؟ هذه بضعُ اسئلة ضمن محيط هادر من علامات الاستفهام التي يطرحها الإنسان الآن. هكذا علمتنا الدكتورة أسماء في كل مؤلف، تطرح الأسئلة وتأخذنا بعالمها الرحب لنصل إلى الجواب.
    وفي كتابها هذا تقول: (كل في هذا الكتاب سيجد صاحب زمانه، لا يهمُّ بأي ميثولوجيا يعتقد، أو إلى أي دين أو مذهب ينتمي؛ فالمسلمُ سُنياً كان أو شيعياً سيجدُ فيه الإمام الثاني عشر (ع)، والنصرانيُّ سيرى فيه المسيح (ع)، واليهوديَ سيعثر فيه على موسى (ع)، والبوذيُّ له فيه كريشنا، وصاحب الرَوح الهيروغليفية سيرى فيه حورس، وهكذا دواليك من الميثولوجيّات الدينية التي تتحدثُ عن هذا البطل المُقّدَّس. ولكلٍّ مَلِكُه المُنقذُ الذي يتفرد داخل كلّ روح بخصائص معينة تجعله مختلفاً لدى كلّ فردٍ أو كائنٍ حيٍّ مهما كانت مملكة الحياة التي ينحدرُ منها، بما فيها مملكة الحيوان. وهذا التفرد والاختلاف يأتي من اختلاف كلّ إنسان عن أخيه سواءً في الفكر والشخصية أو ظروف الولادة والمنشأ وتجارب الحياة وخصوصية العقيدة والإيمان. سيَدُ الأبجديات كلها هذا الإمام المُخلِّص، عرفتهُ نقطةً، ثم جعلتُ منه حرفاً، وحولته فيما بعد إلى كلمة حيّة هي العقل الخلاّق. لأجل هذا أدركتُ خلاصي بالكلمة).
   الدكتورة أسماء غريب جوهرة في الأعماق غير مكتشفة، لا يعرفها إلا من يعرفها، حُبلى بأدوات التنقيب، البارعة، وللعزلة عندها لونٌ آخر. وحدها ترصد ضجة الميدان، محصنة من شراك القالٍ والقيل، غير مكترثة بالكثرة، تسوطهم الغرائز والتفاهات، كأني أراها متكهفة في غرفتها، تحفها الملائكة وكأن كيانها قد رَوَّض وحش الجَسدَ ومخالب الاحتياج، تقرأها عن بُعد وهم عرضة للهاث المتناهي. هكذا يقرأها الدكتور هيثم كاظم المحمود.
    الدكتورة أسماء غريب حرفٌ مندلقٌ مشبَّعٌ بإشراقةِ وهجِ الرُّوح يستنهضُ أحلامًا غافية بين وهادِ النِّسيان، وتكتبُ نصَّها من وحي تراكمات مشارب فكرية أدبية ثقافيّة فكريّة غزيرة، كأنَّها في رحلةِ استكشافٍ لاستشرافِ أنقى ما في تجاعيد الذَّاكرة، وتجسيدها في رحابِ خيالٍ فسيح متعانق مع إشراقة الحرف على مرامي أسرارِ اللَّيل. حرفُها منبعث من طينِ المحبَّة، من هدوءِ اللَّيلِ الهائم في عناقِ بهجةِ القصائد. تتناثرُ رؤاها على مسارِ بهاءِ الشِّعرِ، تداعبُ عرشَ الحروفِ، وتغوصُ في أعماقِ دهشةِ الاشتعالِ، حرفُها مخضَّبٌ بأشجارِ الحنين، فتولدُ انبعاثات وميض البوح من أعماقِ أحلامٍ متوارية في متاهاتِ الزّمن.

38
باسم حمودي يسلط الضوء على عالم السحر الغامض
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    جميع كتابات الأستاذ باسم عبد الحميد حمودي أجد فيها خصوبة التنوع بسبب التنقل في معيشته مع عائلته في مناطق الفرات الأوسط، وهي رحلة صولاته وجولاته في المدن العراقية التي زادته خبرة في مجال التاريخ والتراث، ودراسة المجتمع العراقي وحقول البحث الإنساني.
   والكاتب باسم عبد الحميد حمودي من مواليد 1937 في بغداد، والحاصل على شهادة قسم التاريخ في كلية التربية عام 1960م، وأحد رواد الحركة الأدبية والصحفية العراقية، فضلاً عن كونه باحثاً ومختصاً بالتراث والفولكلور، نشر أول مقالة له (الفراغ) عام 1954م في جريدة (بغداد المساء)، وهو أحد أهم أركان النقدية العراقية التي انبثقت في القرن الماضي.
    أشاد بدوره الناقد الراحل الدكتور علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس، تولى رئاسة تحرير مجلة الأقلام التي تُعني بالأدب الحديث، وكذلك رئاسة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية التي تعني بالثقافة والفنون بالعالم. وعمل محرراً في مجلة التراث الشعبي ثم رئيساً لتحريرها، وسكرتيراً لتحرير مجلة الرواد التي تعني بأدب الرواد، ومسؤولاً عن صفحة التراث الشعبي في جريدة (المدى) ونشر العديد من البحوث والدراسات،
    ألّف الكثير من الكتب، وخاصة في الأدب الشعبي الذي اختص به، منها "السيرة الشعبية والذات العربية" و"القضاء العرفي عند العرب: معجم المصطلحات" و"الناقد وقصة الحرب: دراسة تحليلية"، و"عادات وتقاليد الحياة الشعبية العراقية"، والزير سالم" و"تغريبة الخفاجي عامر العراقي"، و"محمود العبطة فولكلوري عراقي يرحل"، و"أنا عاطل وقصص أخرى" و"الوجه الثالث للمرأة" وكتب عن شخصيات ودراسات في التراث الشعبي"، و"ديوان الأقلام" و"رحلة مع القصة العراقية" فضلا عن كتب "شارع الرشيد" و"في دراما قصيدة الحرب: تنويع نقدي على قصيدة الفاو" و"في تفاصيل الحدث: الهامش في التاريخ العراقي"، وكتب ودراسات في التراث الشعبي" و"حالة نصف الدائرة" و"ميريل ستريب". ورواية "الباشا وفيصل والزعيم".
    وأخيراً صدر حديثاً عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع كتابه الموسوم (السحر.. ذلك العالم الغامض)، والكتاب من الحجم المتوسط يقع في (128) صفحة، سلط فيه الضوء على تاريخ السحر قديماً وحديثاً من خلال المعتقد الشعبي في السحر والأوفاق والتعاويذ، وأنوزاع السحر ووقاية العلاج والرقص الآسيوي والمسرح والسحر.
    عرفت الأقوام الأولى السحر والعرافة منذُ أقدم الأزمان، وما تزال بعض الأقوام تضع للسحر مكانته الروحية والاجتماعية الخاصة، باعتباره عنصراً حامياً، والساحر إنساناً مهماً وضرورياً في مجتمعه. والسحر هو العادة الذي تمثل مواقف الخوف الكبير في المجمعات البدائية. وربما كان بسبب طبيعة البنية وقسوتها وعدم وجود رادع ديني واضح يضعف من موقف السحر والسحرة، لكنني أجد أن السحر يأخذ مداه في مجتمعات الشعوب بادئاً بالتنجيم وقراءة المندل وكتابة الأوفاق. والعرب قديماً سمت السحر سحراً لأنه يزيل الصحة إلى المرض، ويقال سحرهُ أي أزالهُ عن البغض إلى الحب. والإنسان يلجأ إلى السحر والخرافة لاعتقاده منذُ القدم أن ما يصيبه من أمراض قد يكون نتيجة لعين حاسدة أو أرواح شريرة أو مسّ من الجن أو انتقام من الآلهة.
    في هذا الكتاب سلط الكاتب الضوء على السحر وأنواعه وطرق ابطاله لدى الشعوب على مر التاريخ. ويظل العمل السحري نشطاً معه ما دام هناك نقاط ضعف لدى الإنسان علمياً ودينياً. وقد قضى المؤلف وقتاً طويلاً مع مجموعة من كَتبة الأدعية والتعاويذ للحصول على ما لديهم من مادة، فمنهم من رفض مساعدته ومنهم من ساعده بعد امتناع وحذر، في الوقت ذاته استعان المؤلف بعدة مؤلفات في هذا المجال لإنجاز هذا الكتاب كمادة أولية للدراسة والتحليل والاستنتاج، راجياً أن يكون قد وفق في تقديمه للقارئ الكريم. والغاية من هذا الكتاب كما يرى الكاتب هو لاظهار بعض نماذج ووسائل السحر دون الإيمان بها، ومعرفة جزء من المعتقد الشعبي الذي هو معتقد جمعي متوارث.

39
فروغ فرخ زاد... شاعرة الشّعر الفارسي المجعد المعاصر (1934 —1967)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    منذُ عقود وقد سُلبَ حق التحرك الحر وكتابة الشعر من النساء الإيرانيات، وخروج المرأة من الحدود المحددة، فهي تحتاج إذن الزوج أو القيّم، والزقاق والسوق وحقّ الخروج دون إذن وترخيص محصورة بالرجال. والاعتقاد العام هو أن تحرك النساء لا ينتج عنهُ سوى الهرج والمرج والانحلال. والمرأة والرجل مثل القطن والنار إذا لم تحدد العلاقة بينهما، ستقوم فتنة وستشتعل النار.
    التحرك الجنسي النسائي بات علاقة العفة القومية والعامة والحجب والحياء والخجل، حتى أن الغيرة تُلازم غياب النساء عن المجالات العامة. وحسب الملا أحمد النراقي في (معراج السعادة): الجلوس في البيت يخص بالنساء والرجولة رهان هذا السكون. فالتحرك الحرّ والتحسر على النساء كانت من مواضيع نتاجات الشاعرة فروغ فرخ زاد وإحدى العلامات البارزة. ورأت حركة المرأة غير المشروط أنهُ حق لا نزاع فيه. والمشكلة لا يوجد كاتب في الأدب الفارسي أهتمّ بهذه القضية مثلها. فأعمالها الشعرية أهمت بنماذج التجدد في إيران عهد الشاه.
    كانت (فروغ زمان فرخ زاد عراقي) أصغر شاعرة إيرانية حقبة خمسينيات القرن الماضي، ولدت عام 1934م في العاصمة طهران، وبدأت دراستها فيها وأكملتها وكانت الأولى في كل الصفوف، إلا الصف التاسع إذ عشقها جارها الشاب ورسام الكاريكاتير برويز شابور، فتزوجت منهُ عام 1943، وذهبت معهُ إلى الأهواز، وهي في السابعة عشرة من عمرها، وأنجبت منه ابنها الأوحد كاميار، لتنصرف إلى الشعر، وإلى علاقة عمرها الحميمة مع القاص الإيراني الشهير إبراهيم كلستاني بعد طلاقها من زوجها.
   أول دواوينها الشعرية كان بعنوان (أسير) ثم (حائط) ثم (عصيان) و(ولادة أخرى) كما صدر كتاب احتوى مختارات من شعرها. عملت فروغ إلى جانب ضخ الشعر، في إعداد وتصوير وتمثيل الأفلام منها (البحر) و(الخطوبة) و(الماء والحرارة) و(البيت الأسود) وسواها. كما عاشت حياتها القصيرة فتوفيت في عمر الثانية والثلاثين إثر حادث سير، وكرّمها المخرج الإيطالي (برناردو برتولوجي) حين أنجز فيلماً عنها مدته ربع ساعة.
    كانت قد أثرت على فروغ فرخ زاد جماليات كارون الأهواز ولياليه الساحرة. المرة الأولى التي أنشدت فيها الشعر لم يتجاوز فيها الثانية عشر عاماً، ثم كرهت هذا الشعر ولم تعتنِ به ولكنها عادت مرة أخرى ونجحت فيه نجاحاً كبيراً. أول نص شعري نشر للسيدة فرخ زاد كان باسم (الهاربة) في مجلة (المثقف)، ثم غزت الكثير من المجلات.
    كانت تحب من بين شعراء إيران حافظ شيرازي، وتهتم ببودلير كثيراً. وقد اعجبها من بين الكتّاب الأجانب أندريه جيد وإميل زولا. فروغ في نصوصها الشعرية جريئة، وكل ما تراه وتعرفه جميلاً تعكسه بصراحة.
    رغم كل ذلك أحبت فروغ حياتها العائلية جداً، وكانت تقضي أوقات فراغها في البيت، وإن كانت ليست ماهرة في هذا الحقل، ولكنها لا تجلس ساكنة. ليس لدى فروغ سوى أمنيتين: الأولى تحوّل المجتمع بصورة تتساوى فيها النساء مع الرجال. والثانية أن يكون لهنّ حق مثل الرجال في كتابة الشعر ووضع كل ما يرغبن به. وكأن فروغ فرخ زاد أوجدت هذا الجو الصحي بجرأة خاصة لنفسها، ولكنها لم تصل إلى ما هو مطلوب وعلى أي حال فقد تفوقت كثيراً على محيطها.
    لا ريب أنّ فروغ فرخ زاد التي كان يجب أن يطلق عليها تسمية شاعرة الشعر المجعد، كان لها مستقبلٍ زاهر، إذ نظراً لفترة إنشادها للشعر ونظراً لعمرها فقد تقدمت كثيراً... فهي تمتلك عينان واسعتان ونافذتان، ونافذة مشرعة على قلبها الهائج.
    عاشت فرخ زاد في أكثر مرحلة حرجة في تاريخ إيران، تلك فترة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي؛ حتى مطلع الستينيات منه، كانت أكثر الشعراء صراحة في الأدب الفارسي المعاصر، وقد عانت في عائلة غير منظمة، كما علمتها الحياة أن الحب، وخاصة في مرحلة الشباب، ليس سقفاً فوق الرأس ولا طعاماً في القدر ولا ثياباً على الجسد. لكنها كانت ترغب أن تصبح شاعرة كبيرة، ولم تفكر بغير هذا الأمر، وقد أصبحت كذلك. فهي تعشق الشعر، فكان الشعر لها آلهه تفكر بها ليل نهار. وكانت قصائدها جميلة، ومن تلك القصائد (الخطيئة)، ما هي إلا نموذجاً على هذه الجرأة(1):
أرتكبتُ، خطيئة، خطيئة طافحة باللذة
في أحضان خابية ونارية
ارتكبتها بين ذراعين
ساخنة وحاقدة وحديدية
في ذلك المختلى المظلم
نظرتُ لعينين مملوءتين بأسراره
رجف قلبي في صدري دون استقرار
من رجاءات عينيه المطالبة
في ذلك المختلى المظلم والقاصي
جلستُ بجانبه مشتته
سكبت شفتاه في شفتي الرغبة
من حزن قلب رستم المجنون
قصصتُ قصة حبّ:
(أريد يا روح الروح،
أريدك يا حضناً مانحاً
أنتَ يا حبي المجنون)
اشتعلت الرغبةُ في عينيه
رقصَ النبيذ في الكأس
جسدي بين سرير ناعم
على صدره الثمل ارتجف
ارتكبتُ خطيئة، طافحة باللذة
بجانب جسد راعش ومندهش
يا إلهي وما علمي بما فعلته
في ذلك المختلى المظلم.
    لذلك لا تقبل مثل هذه الممنوعات والحدود في الأدب الفارسي القديم علاقة الحب بين الرجل والمرأة دون مداخلة ووجود شخص ثالث، وفي الأعم الداية أو النديم، فقد ثارت فرخ زاد على هذه القيود وأزاحت الستار، اغتصبت حقل وحق الرجولة، جلست تحاور قراءها وجهاً لوجه، من جانب ثانٍ سحبت الحجاب من الهاجس النسوي ومن جانب آخر أدخلت الحبيب الرجل للأدب الفارسي. تمارضت عن إخفاء إحساسها وميولها الجنسية، وهي فضيلة نسوية. لم تختبئ خلف ستار الخجل والحيلة، لم تتكتم أدبياً، لم تتكلم بخفاء.
    في قصائدها كانت تكشفت الستار عن الرجل الحبيب، الرجل الإيراني. فرخ زاد وعلى خلاف مجايلتها لأغلب الأديبات المعروفات من: (بروين اعتصامي، جالة قائم مقامي، بروين دولت آبادي، سيمين دانشور، زهراء خانلري، سيمين بهباني، ولعبة إلا)، كانت في طريقها الأول الخطر قد لاقت الصعوبات. لكنها عاشت بين ناس يؤمنون أن الحب مفتاح وجود سرمدي، ويرون كما رأى لسان الغيب (لن يموت من عاش قلبهُ بالحب)، لكن في بلاد فارس نفسها ولقرون كان الحب للمرأة خطيئة كبيرة. ورثت أدباً يعتبر كنزاً ومن أجمل أبيات الحب العالمية. ولكنهُ حرَمَ المرأة من التعليم العالي خوفاً من اطلاعها على شعر الحب وإنشاده. تتغذى من أدب الحب وديعة سماوية، أساس وعمود وجود العالم وطلسم يعصف البحر ويهزّ الجبال، ولكنهُ يرى أن آلهة الحب في المجال العام يملكها الرجال فقط.
    عاشت فرخ زاد في بلاد آمنت طوال قرون مديدة بأن (لا تمنح زوجتك القلم/ خذ القلم بنفسك/ لا من رجل بات دواةً/ ولا من خاتون تسوّد الرسالة). أو على حد تعبير نظامي كنجوي وهو خالق بعض أجمل حكايات الحب، (ولأن الفتاة أمسكت المداد/ ترسل جواب الرسالة/ هذه الرسالة علامة اسوداد الوجه/ ولأنها كتبت اسمها باتت وثيقة)(2).
    عبّرَت فرخ زاد في شعرها عن حصار مثل هذه القيود في مجتمع وأدب تحدد للمرأة، وطرحت أطروحة جديدة. لم يكن الشعر بالنسبة لها تسليط قصة لتمضية وقت، بل كان ضرورة حياتية، كان نافذة على عالم ممتد ومنظم، كان اعتراضاً على موانع مجتمع تعيش فيه، كان وسيلة لتقبض على عنان الحياة بمساعدته وتغير الجبر والتقدير إلى اختيار وانتخاب. فأختارت هذا الطريق بدراية، قالت الشعر ألماً وعلاجاً تجده إلههاً وشيطاناً: أحياناً أفكر وفكرت لماذا خلقني اللهُ على هذا الشكل وأحيا فيَّ هذا الشيطان باسم الشعر...)(3).
    فرخ زاد وفي مثل هذه الأجواء ودون حماية عائلية، صرخت بإيمان راسخ، أنها تريد أن تكون شاعرة كبيرة واستطاعت في فضاء ضيق ومسموم أن تزهر مثل زهرة اللوتس من أعماق مستنقع وتصل لقمة الإبداع، ولو لم تمتلك هذه الجسارة التي تطلق عليها الجنون لما استطاعت إيصال صوتها المتمرد للآخرين. لو تقبلت المفاهيم النسوية الرائجة ولخصت هويتها في دور الأم والزوجة والفتاة، فمن الممكن أنها لم تستطع أن تكون شاعرة من الطراز الأول:
ارمهِ بعيداً حديث الاسم، أيها الرجل
فقد أعطاني لذةً خجولة ثملة
سيسامحني على ذلك الإله
أنه أعطى شاعرة قلباً مجنوناً
تعال افتح الباب حتى أفتح جناحيّ
جهة سماء الشعر المضيئة
لو سمحت لي بالطيران
سأكون وردة في بستان الشعر(4).
   كانت فرخ زاد ترى نفسها في تلك الأيام طائراً مرتاح البال يريد التحليق عالياً ناظراً للأفق ويريد الطيران، ولكن طريق الطيران صعب وكثير المشاكل. بعد فترة تعبت أجنحتها وأُجبرت على الهبوط، ولتنسى في النهاية، حتى حاولت الانتحار مجبرة ثم مشفى الأمراض العقلية. تصور نفسها أثناء السرير العلاجي الكهربائي موثقة اليد والرجل، وتحترق خلايا روحها مثلما تحترق خلايا مخها، مما يمر من خلالها:
يا أشعاري
يا شعلة قلب مملوء بالمحن
يا تجسدات لامعة لروح غير مستقرة
دائماً في انحدار من سجون الجسد الضيّقة
يا ضحكات الاشتياق
يا دموعاً باردة
يا نغمات النحس
يا ضجيج الألم
اهمسي في أذنهِ حكاية القلب
جددي ألم الفراق واحتراق الروح(5).
    حتى وصلت فرخ زاد إلى عتبة الموت وحافة ومنحدر الخواء، ما هي جريمتها، أي خطيئة هذه لا تغتفر ليكون مصيرها الموت عام 1967 وهي في مقتبل العمر؟ لماذا باتت اشعارها وتحركها ونجاحها يشكل تهديداً لأيام عاشتها في عهد الشاه، إلا أن فرخ زاد عرفت جيداً ثقافة عبادة الصنم وبعيداً عن الأسطورة والتصنيم، في ثقافة تترادف فيها مفردة المرأة النموذجية مثل التمثال، لا رجل تتحرك بها ولا لساناً تتحدث به، لم تكن مطيعة ولا منفعلة، لا تقف خلف الستار ولا هي لعبة بيد الآخرين، لا تتقبل الاستسلام، لا تحب فقد الإرادة، لا ترغب أن تكون عمياء وصمّاء وخرساء وثابتة. لم تودّ أن يكون وجودها أو عدمه متساويين في العمل وفي الرؤية، كانت تحارب بانتظام المرأة المؤطرة في إطار معين مطرقة الرأس، تريد الهيام والوله بموازاة استقلال الرأي والكرامة الإنسانية. ترى الحب الشيء الوحيد بين موجودين، كانت إحدى خصائصها البارزة في عمرها القصير التأكيد على الفردية وشجب حياة الدمية:
قبل هذا، آه، نعم
قبل هذا كان يمكن البقاء ساكنة
يمكنها لساعات طويلة
وبنظرة مثل نظرة الموتى، ثابتة
تحدق في دخان السيجارة
في شكل فنجان
في وردة فقدت لونها على السجادة
في خطّ وهمي، على الجدار...
يمكنها البقاء في مكان
بجانب الستارة، لكنها عمياء، صماء
يمكنها الصراخ
بصوت كاذب، غريبة جداً
(أحبك)(6).
   قد تبدو فروغ فرخ زاد، تبعاً لذلك، وفية لتقليد شعري درج عليه شعراء الفارسية منذ القديم، وهو استحضار النبرة العرفانية/ التصوفية في القصيدة. ذلك أن الحس العرفاني لم ينقطع بغياب أسماء الكلاسيكيين الكبار الذين أوقفوا نصوصهم لقول التصوف شعراً. بل استمر ذلك التقليد وإن كان بشكلٍ موارب في كل أنات الشعر الفارسي، إذ نجده لدى (أحمد شاملو ونيما يوشج)، كما نجده بشكل أوضح عند (سهراب سبهري) وشاعرتنا فروغ، وصولاً إلى الجيل الشعري الجديد كما لدى (أحمد رضا أحمدي)، على سبيل المثال.‏
    غير أن التصديق على هذا القول لن يمنعنا من النظر إلى تعاطي الشاعرة مع العرفان نظرة مختلفة يمليها اختلاف هذا التعاطي ذاته. فبمقايسة نصوصها مع نصوص شاعر كبير آخر هو (سهراب سبهري)، نجد أن هذا الأخير ساع إلى استخلاص شفافية عرفانية محضة وبثّها في ثنايا القول الشعري والتنويع عليه، الأمر الذي جعل من هذه الشفافية ملازمة لشعره كما في قصيدته (المسافر) أو قصيدته (صوت قدم الماء) كمثال.‏
    أما لدى فروغ فرخ زاد فإن هذه الرؤية التصوفية قد قُيّضَ لها أن تصل مختلطة بالمادة، غير صافية، فهي محتفلة بامتزاجها مع شوائب وكدورة عناصر العالم (الماء والتراب والهواء والنار) بل هي سمّتْ ذلك صراحة في كثير من قصائدها، كقصيدة (على التراب):-‏
أبداً لم أكن منفصلة عن الأرض‏
لم أتعرفْ إلى النجمة.‏
على التراب وقفتُ بقامتي‏
مثل ساق نبتة‏
تمتص الهواء والشمس والماء‏
لتحيا.‏
حبلى من الرغائب‏
حبلى من الألم‏
أقف على الأرض‏
لأمتدح النجوم.‏
    لعل اصطلاح (تصوف مادي) هو الأنسب لتوصيف شعر فروغ، فمن خلال هذه النبرة المترعة بتسام صوفي لا يخفى، نلحظ الرغبة الجسدية كأجلى ما تكون، نرى انشغالاً لذائذياً أيروسياً في سائر نصوصها، كأنما طمحت بذلك إلى إنشاء مسافة توتر مبتناة في عمقها على تناوب هذين المبدأين: قول التهتك بلغة الكشف، أو إضمار المعرفة في جسد، جسد مترع بالدم كعنقود عنب:‏
جسدي محموم من ملامسة يديك‏
ضفيرتي تنحلّ بأنفاسك‏
شفتاك -الإحساس الدافئ بالوجود‏
ضعهما برفق على شفتيّ‏
كلما اقتربت شفة من شفتي‏
انعقدت نطفة في إحدى النجوم.‏
    أخيراً، لا يمكن اختزال شعر فروغ فرخ زاد تحت عنوان أوحد دون الوقوع في تناقض مماثل لتناقضات شعرها. فهو شعرُ تأمل بامتياز، في الوقت الذي يستقصي أشد ذكريات الطفولة استعصاء على الحضور، وهو شعر عشق بكل ما لكلمة عشق من مداليل، شعر ميول ورغائب، شعر الروح المنقبضة والجسد المتهتك، شعر إدمان اليأس بانتظار الأمل.‏
    كانت فرخ زاد تعيش في البلاد قلقة، لم يكن قلقها اعتباطياً، كانت هناك علاقة مباشرة بين شرف المرأة وحرية حركتها. صورة امرأة تترك الجدران الأربعة للبيت وتسير في بلد غريب، لهو مترادف مع طلب لذائذ غير مسموحة، منذ قرون سُلب حق التحرك الحرّ من النساء في إيران. في أحد أيام تموز من عام 1967 رحلت فروغ فرخ زاد بسبب حادث سيارة.
    وجاءت الثورة وأوامر جمهوريتها الإسلامية لتفرض الحجاب والتفكيك بين الجنسين، وغياب المرأة من المشهد السياسي، وحذفها من مشهد التربية والتعليم. كفاءة سياسية أقل، حركة تشكيلية أقل ومدنية، من اليمين واليسار وحتى الوسط للوصول إلى الشرعي والعرفي، من القومي والشيوعي والاشتراكي حتى الأصولي، تم تفكيك التراث عبر العلاقات الشخصية والخاصة، فمنعت تداول قصائد ودواوين فروغ فرخ زاد، حتى اصبح تداولها سراً بين عشاق شعرها، إذ اعتبروها خطرة ومهدمة للوضع الموجود. منع صدور اعمالها الشعرية الأولى، وما زالت حتى اليوم المجموعات الشعرية الثلاث الأولى لها، خاصة الأسيرة، إضافة لمجموعتيها الأخريين تحت مقص الرقيب.
    في أقل من خمسة عقود أجبروا النساء بالعنف على ارتدائه، لو أقروا يوم كشف الحجاب كيوم حرية النساء، لرأوا هذا اليوم فيما بعد يوم أسر المرأة. وبعد جدل لا نهاية له حول الحجاب وقعت واقعة خطيرة في إيران، ولم يلتفت لها أحد، ولكن قبل ثمانية عقود من نزع الحجاب الإجباري، خرجت النساء رويداً رويداً، عبر فتح الأبواب المغلقة والحركة من الداخل للخارج، بتحول عظيم، برأيي إزاحة هذه الستارة، هذا الحضور غير المسبوق واللامع للنساء في فضاءات تراثية رجالية، تلك الأحكام الآمرة، لتغير وجه وثقافة إيران للأبد.
   
 
 
 
المصادر:
1- فرزانه ميلاني، فروغ فرخزاد.. الرسائل السرية والسيرة الأدبية، ترجمة: أحمد حيدري، دار الرافدين/ بيروت، ط1، 2018، ص498/499.
2- فرزانه ميلاني، من الكتابة للكاتب: من المكتوب للكاتب، إيران، عدد/1، 1372، ص51.
3- 1-    فرزانه ميلاني، فروغ فرخزاد.. الرسائل السرية والسيرة الأدبية،  رسالة لأبي بتاريخ 6 مايو.
4- هوشنك كلشيري، الخطوط الكلية للأدب النسوي، النساء، العام السابع، عدد/ 48 لسنة 1377، ص39.
5- فروغ فرخزاد، يا أشعاري، في (فروغ أيام الشعر الجيدة)، زن روز، عدد/ 692، السبت 21 مرداد 1357، ص34.
6- اللعبة المتحركة، ولادة أخرى، طهران، مرواريد، 1375، ص74.

40
الحب طائرٌ متمرد في حياة الأيام
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    ذياب مهدي محسن آل غلام شاعر علقت عينيه في سماء وآلهة الشعر التي لا حدود لها، وفكرٌ حر يرفرف فوق رأسه، اهداني قبل ايام ديوانه (حياة الأيام) بطبعته الثانية، كانت قد صدرت طبعته الأولى عام 2002م في عمان، وكان يجد أن الشعر وحده الملاذ والعزاء في غربته، بعد الهروب من وطنه العراق عبر الحدود دون تأشيرة سفر أو جواز، فعاش معاناة الغربة عن الأهل والزوجة والأبناء، هاجر من أجل حماية إنسانيته وكرامته، ومن أجل حق الأختيار، ومن أجل قول الحق، فهو يجد واجب في قول الحقيقة وحق الاستماع، الذي له عنده مكانة بنيوية، ويرى الشعر أفضل حريةٍ والأكثر عملية، ويرى احترام الشعر مثل احترام المتدين لدينه، والقريحة لا تكفي وحدها.
    فوجد في الهجرة والتغرب تجرع للصعاب، ويجب التضحية بالعمر والشباب والعلاقات، وشراء التكفير والتهديد بالروح وآلهة الشعر. فالشعر كان إلهه، يفكر ليل نهار بقصائده التي يكتبها ويرسلها للصحف العربية في وطن تغربه، أجد في ديوانه (حياة الأيام) شعرٌ جميل لم يقلد فيه أحد، واليوم الذي لا يفكر فيه بكتابة قصيدة لم يعد له معنى، فالسعادة بكتابة قصيدة، لا في الطعام الجيد والثياب الجيدة، يشعر بالسعادة حين ترضى روحه بقصيدة، فأختار طريق المخاطر، وخطَ بحذر أبعد من هواجس الذهن التقليدي.
    كان في بعض الأحيان عندما ألتقيه بعد سفرٍ طويل خجلاً ويحمر من شدة الخجل، كان يكتب الشعر في الحب المكشوف، وهو من النوع غير المسموح به، فينشر نصوصه الشعرية التي احدثت ضجة بين القراء، وتنهال الرسائل عليه أو على الصحف من هنا وهناك لبعض المعجبين أو المتعصبين، هكذا كان الأمر، ففي العمق كان بلده يعيش في أزمة حصار وسياسة، وفي أمواج هائجة، بينما هو يكتب النص الجدلي الثقافي، فيبدع ويكسر (التابو) بالنص الشعري الجريء، نُشر عدة قصائد حتى وصلت في ديوانه (حياة الأيام) (32) قصيدة، عبر نصوصه الشعرية وصل للوجد والارتعاش والشهرة.
    (نوال.. تتنزه في أزقة الروح) قصيدة قصيرة من ثمانية وعشرين بيتاً وبعض الصور، مع صورة شبه مفصلة لنوال. وذياب ذو الشعر المجعد والعينين الواسعتين النافذتين يستخدم اسماء النساء المستعارة في نصوصه النثرية، ولكن لقصائده يبث نداء الحب الذي يراه المجتمع محرماً، إلا أن شجاعته يتخطى التحريم:
يأتي الزمن
يهشم اللحظات
وضعتُ رأسي على صخرة الأوهام
لأعبر إليكِ
يا سيدة الأيام
لقلبي نبض
بيد أن جناحيَ كهيضٌ
أتبرعم في كلّ الاتجاهات
علّ روحي تلامس في المدى
أطراف روحك
لبلاب أتسلقُ ضفتيك
لا أسألك
من أي الطلاسم أنتِ؟
من أيِّ المروج قدَّ المولى قوامك؟
يا آخر الأحلام في زمني
كلما اقترب ينأى طيفك
دعيني أراك في المرايا
كوكباً أو مركباً
يجرجر أحلامي نحو الهاوية
كلّ المدائن والموتى
وأزمنة الرحيق بكِ تبتدئ
احتشدي عليّ
من رؤى الصباح
أو عند الأفول
كم مرّة في العمر تأتي النوارس
محملة بعطر الأمكنة
وأنتِ في نأيك عني
ترتعين؟!

41
الفكر التقدمي وتأثيره على الشباب المراهق
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    الفكر اليساري التقدمي هو الخميرة الإنسانية الأولى دون شك لكل مراهق ثوري في زمن المراهقة، وخميرة اليسار واليسارية ضرورة للوعي النقدي ولكل أديب ومثقف، لكن التحول قد يحصل حال اكتمال الفكر بعد سن المراهقة، وقد تكون خاتمة العلاقة مع جميع الأحزاب، لأن الفتى السياسي في عمله الحزبي في سن المراهقة كان وحشاً كاسراً في تمسكه بموقفه ودفاعه عن فكره وعقيدته ، لكن استمرارية العمل السياسي والحزبي حتى سن الكهولة سيصبح جحشاً ينفذ ما يرغب به قيادات الحزب من اعمال ومهمات سياسية وحزبية، وهذا ما يؤكده الدكتور ميثم الجنابي في كتاب (العراق حوار البدائل) وقد حاوره مازن لطيف، إذ يؤكد (من لا يكون يسارياً ثورياً زمن المراهقة فهو وحش! ومن يبقى يسارياً ثورياً بعدها فهو جحش!) ص32.
    علماً أن وجود الأحزاب والأفكار جميعاً ضرورة ولكن بوصفها جزءاً من منظومة عليها أن تحتكم إلى الاعتدال وتسترشد به في الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات والمجتمع والدولة والثقافة.
    وقد أوصلتني تجربتي السياسية والحزبية إلى أن الأحزاب السياسية جميعاً لا يمكنها أن تكون ميداناً ولا ممراً للحقيقة والبحث عنها. والأحزاب السياسية اليوم جميعها هي مصيدة شرسة لقتل الثقافة والمثقفين والروح النقدي الحر. وهو السبب الذي جعل منها أن تقتل أنبل القلوب وأصفى العقول وأشد العزائم دون أن يخامرها الشك بأن ما تقوم به هو عين النبل والعقل والعزيمة! وهي نتيجة يمكن العثور عليها عند الأحزاب المسترشدة بعقائد دينية ودنيوية.
    فالأحزاب اليوم هي تجمعات قوى اجتماعية رثة، وأقليات ضعيفة، تعاني من أزمة النمو والتكامل، وتقلد بطريقة فجّة كل موضة إيديولوجية يدفعها المركز المتخلف! من هنا تحولت بعض الأحزاب إلى تجمعات يصعب تحديد هويتها، لأنها منذ البدء بلا هوية وإنما تابعة لدول أخرى ترعاها، فتحولت إلى مسخ ومن ثم إلى صراع حزبي دموي، بحيث أصبحت فكرة الحزب والقيادة الحزبية رديفاً للمؤامرة والمغامرة وانعدام الأخلاق، ورديفاً لكل الرذائل الواقعية والممكنة، وبالتالي صعوبة توقع ظهور شخصيات سياسية لها وزن وطني ودولتي، وإنما ظهور شخصيات طفيلية همها المناصب والمكاسب والكذب على الجمهور واعضاء الحزب، وبعض القيادات تجدها ناقصة وجاهة أو خرجت من مجتمعات قروية متخلفة فتأخذ من الأحزاب قيادات لملأ النقص فيها. والشيء الوحيد الذي تتفنن به تلك القيادات السياسية هو احتراف الخديعة والدخل والمكر والكذب، بوصفها الصفات المعوضة عن غياب الكفاءة المعنوية والمهارة العلمية والاحتراف العلمي.
    وليس مصادفة أن تكون الأحزاب السياسية في العراق هي احزاب أهواء إيديولوجية. إنني لم أعثر لحد الآن على دراسة جديدة واحدة كتبها أي من قياديي الأحزاب السياسية المعروفة في العراق، أو حتى عند الحزب السياسي بأكمله، يمكن اعتبرها دراسة ذات ابعاد وطنية واستراتيجية متكاملة أو ذات أفق يشمل رؤية واضحة الآفاق تطور الدولة بمختلف ميادينها على أسس فكرية مستقلة وعلمية. لككني أجد جميع الأحزاب لها اجترار للأهواء الإيديولوجية، وحالما تنظر إلى تاريخها الآن فأنك تصاب بالغثيان من هذه الكمية الهائلة والسطحية بلا سياسة ولا فكر.
   

42
محمد الزهيري ومحاضرته (مفهوم الأخلاق في النظريات الفلسفية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    يُعرّف الفَلاسفة الأخلاق على أنّها دراسة معياريّة للخير والشر تهتمّ بالقيم المُثلى، وتصلُ بالإنسان إلى الارتقاء عن السلوك الغريزي بمحض إرادته الحرة؛ حيث إنّها ترفُضُ تعريف الأخلاق على أنّها مجموعة من القواعد والعادات السلوكية، التي يعتنقها ويؤمن بها مجتمع ما، فتغدو مُلزمةً حتميّة لسلوك الأفراد، ومنظِّمة لعلاقات الإنسان بالآخر والمجتمع، وتختلفُ هذه السلوكات من زمنٍ لآخر ومن مجتمع لآخر. وقد اهتمّت المدارس الفلسفيّة عبر العصور بدراسة الظاهرة الأخلاقية ووضع تعريفٍ وتفسيرٍ لها، كما حَاول الفلاسفة وضع ضوابط وأسُس للقيم الأخلاقية عبر العصور.
    كان ضمن برنامج اتحاد ادباء وكتاب بابل الثقافي والفصلي دورة الباحث والمترجم صلاح السعيد محاضرة تحت عنوان (مفهوم الأخلاق في النظريات الفلسفية)، قدمها الباحث محمد الزهيري على قاعة نقابة المهدسين في بابل يوم امس الخميس الموافق 8 حزيران 2023، وكانت إدارة المحاضرة من قبل الباحث نبيل الربيعي.
    والباحث محمد الزهيري هو من الباحثين الدؤوبين في نشر المعرفة، ولديه ما يقارب (32) محاضرة متخصصة منها: الدولة المدنية، الدولة الريعية، صندوق النقد الدولي، هيمنة الدولار الأمريكي، هيئة الأمم المتحدة، الهوية الوطنية، الموقع الجيوسياسي للشرق الأوسط، الماسونية العالمية، الخصخصة، انهيار الامبراطورية البريطانية، بدء أفول الامبراطورية الأمريكية. كما لديه قناة على اليوتيوب باسم (الباحث محمد الزهيري).
    وفي بداية المحاضرة تطرق المحاضر الزهيري حول الأخلاق من وجهة نظر الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وكانط ونيتشة. ووضح مفهوم الأخلاق لهؤلاء الفلاسفة ووجهات نظرهم. وأكد المحاضر على أن الأخلاق تتمثّل في كبح شهوات الإنسان، والتّسامي فوق مطالب الجسد بالالتفات إلى النفس والروح وتوجيههما لتحصيل الخير والمعرفة ومحاربة الجهل. ووضح رأي أرسطو الذي يرى أنّ الأخلاق مُرتبطة بسعادة الإنسان التي هي غاية وجوده، فيعرّفها على أنها الأفعال الناتجة عن العقل، من أجل الخير الأسمى؛ السعادة. أما كانط فيرى أن الأخلاق قد ارتبطت بالإرادة النّابعة من عقل الإنسان الواعي، لا من رغبته، ورأى أنّ التمسّك بالأخلاق وفعل الصواب واجب أخلاقي. كما وضح رأي نيتشه في الأخلاق والتي يرى أن تكون نابعةً من الإنسان نفسه، فعلى كل فردٍ أن يبني عالمه الأخلاقي الخاص، الذي لا يعتمد على العقل وحده، إنما يُمثّل الإنسان كلّه بنقائصه وانفعالاته قبل حكمته. أصل الأخلاق تباينت الآراء في أصل القيم الأخلاقيّة بين الفلاسفة عبر العصور، منهم من رجّح العقل كأساس في التمييز بين الخير والشر، وردّها آخرون إلى عادات وقيم وقوانين المجتمع الذي يعيش فيه الفرد ويلتزم بواجباته تجاهه. من ناحيةٍ أخرى هناك الشرع والدين كمعيارٍ في الحكم على الأفعال من خيرٍ أو شر، وتوجيه سلوكات الفرد لما هو صائب عن طريق التزامه بالأحكام الشرعية. الحاجة إلى الأخلاق يُمكننا القول باستحالة قيام مجتمعٍ دون قيمٍ أخلاقيّة؛ فالأخلاق هي ما يُحدّد معايير السلوك الإيجابي الخيّر، ويُرسّخ مفهوم الواجب لدى الأفراد، كما أنها تكبحُ أفعال الإنسان الشريرة فتقاومها وتهذّبها، وبعبارةٍ اخرى هي ما يُملي على الإنسان ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله.
   وفي ختام المحاضرة كانت هناك عدة مداخلات وطرح للأفكار والآراء بعضها كان منسجم مع عنوان المحاضرة والبعض الآخر خارج الموضوع، وكان من المداخلين كلٍ من: صلاح السعيد، د. رشيد هارون، د, علاء الشمري، عبد الأمير صبار، الاستاذ باسم، عماد محمد، نبيل بربن، غالب العميدي، سيف الحسيني. وقد تم تقديم شهادة تقديرية من قبل الشاعرة وداد الواسطي لكل من الباحث محمد الزهير ومقدم المحاضرة نبيل الربيعي.

43
العراق تراكم لمكونات جوهرية رافدينية وليس قوميات ومذاهب طائفية
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    إن جوهرية العراق ليس القومية والطائفة، فهو مكونات عابرة ومتغيرة، فالعراق ليس تجمع بل كينونة ثقافية تراكمت تاريخياً وأدت إلى تكوين جوهره الخاص. وهو جوهر ثقافي تاريخي وليس قومي أو عرقي. لأنه تراكم في ظل مكونات جوهرية ثلاث هي حلقات تاريخية كبرى، وهي المرحلة الرافدينية، ثم العربية الإسلامية ثم العراقية.
    والعراق في جوهره مكونات ترتقي في اغلبها في مصاف الرؤية الثقافية. والعراق أكبر واعظم واعرق من مجرد حداثة عابرة بمعايير الثقافة والمستقبل. اما مفهوم الأقلية فمن غير الجائز أن نطلقها على المكونات، ففي العراق لا توجد اقليات بالمعنى الضيق والمغلق، وهو واقع مرتبط بطبيعة الأقليات فيه، ومن الأفضل استعمال المكونات التاريخية والثقافية وليس كلمة الأقليات، وهو خلاف جوهري، لأن الأقلية هي بقايا، فالكلد آشور مكون عراقي وهم اصل أصوله، وجذر من جذوره. والتركمان مكون تاريخي وثقافي للعراق، والنصارى واليهود والإيزيدية والشبك والكاكائية، أما الأكراد فإنهم الأقلية الوحيدة في العراق، حديثة التكوين بمعايير الدولة والقومية، وضعيفة من حيث مكوناتها التاريخية والثقافية، أصولها من خارج العراق وتكونها العصري فيه، وقد صنعوا تاريخاً وهمياً عبر حفريات في كل شيء وليس في الدم، ويؤكد البروفسور ميثم الجنابي في كتابه (العراق حوار البدائل) ص100 (كون الأكراد أقليات متناثرة في دول الجوار، وبالأخص تركيا وإيران وسوريا وارمينيا وأذربيجان وقليل في فلسطين ومصر والدول الاسكندنافية!! والمقصود بهم أساساً في الدول الثلاث الأولى إلى جانب العراق. وهي حالة تجعل منهم معشر وليس قوماً ولا شعباً ولا قومية ولا أمه. من هنا فإن طابع الأقلية فيها جزئي وعابر بوصفه مكوناً محتملاً لارتقاء لاحق في قوم ثم شعب ثم قومية ثم أمة).
    لذلك مما سبق نستطيع التوصل إلى أن مشكلة الأقلية في العراق لا ينبغي النظر إليها بمعايير الكمية أو الانتشار الجغرافي أو الدين أو العرق، بل بمعايير الاندماج ومستوى التصيّر التاريخي الثقافي في العراق. فالأقلية الوحيدة في العراق هي الأقلية الكردية، فمشكلة الأقلية ثقافية سياسية. والأكراد في العراق فقط اخذوا يتحولون إلى قوم لكنهم ليسوا قوماً موحداً بعد، بسبب ابتعادهم عن فكرة الاندماج مع الشعب العربي والازدهار العلمي والاجتماعي والثقافي.

44
الإمام المختفي من قاضي السماء إلى أحمد بن الحسن اليماني
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    تعد ظاهرة المنقذ والمخلِّص أحد المهيمنات الأساسية في المذهب الشيعي، وقد تجلت تلك الظاهرة بنماذج مختلفة واشكال متعددة وسرديات متنوعة، وهي في المحصلة النهائية فكرة متعلقة بنهاية التاريخ ومتداولة عند مختلف الديانات الإبراهيمية تؤطرها أُطر ميثيولوجية دينية سياسية. وفكرة ظهور المنقذ ليست وليدة أفكار القرون الوسطى بل إنها فكرة اعتقادية لدى كل المجموعات الخلاصية بدءاً من المانوية البابلية وانتهاءً بالطائفة الشيعية؛ ولكن أخيراً بعد عام الاحتلال الأمريكي 2003م بدأ معظم مؤسسي الجماعات المهدوية بالادعاء كلٍ حسب رغبته واعتقاده أنه المنقذ أو اليماني أو السفياني، وهم عندما تبحث عن اصول مجتمعاتهم تجدها مجتمعات قروية أو مدن صغيرة هامشية في انتاج المعرفة الدينية وفق العلاقات والروابط الأفقية العضوية التي تدور حول التصورات المهدوية الجديدة بين أفراد تلك الجماعات.
    صدر عن دار لندن للطباعة والنشر للكاتب والباحث يوسف محسن كتابه الموسوم (الإمام المختفي.. من قاضي السماء إلى أحمد بن الحسن اليماني)، الكتاب من الحجم الوزير وبواقع (850) صفحة، وقد كُسر الكتاب بمقدمة ومدخل، وعالج الكتاب الجماعات والحركات المهدوية أو (المهديون الجدد) وتموضعها في الحقل الشيعي، حيث سلط الضوء على القوة التوليدية والتصورات التي تمتد أبعد من مسألة المهدي، وتتعلق بالهوية والمخيال وتقويض صور المهدي الكلاسيكية، حيث درس الكاتب بنية المجال الديني وبالذات المجال الشيعي وأدوار الجماعات المهدوية، وتحديد ملامحها من خلال أدبياتها وممارساتها السياسية والطقسية، وركز على سبع حركات مهدوية كونها جماعات مشكلَّة وتمتلك أدبيات ونصوصاً.
    والجماعات السبعة هي:
-     حركة المهديون المولوية والجماعات السلوكية (الشيخ حازم السعدي، الشيخ عمار السعدي، الشيخ عايد الصدري).
-     قاضي السماء ومهدوية علي بن علي بن أبي طالب، وهم جماعة الشيخ ضياء عبد الزهرة كاظم الشباني الكرعاوي.
-     المواطئون أو الإمام الرباني، وهم جماعة الشيخ فاضل عبد الحسين الحسيني الهاشمي.
-     الإمام التوأم، واختلاف الإمام المهدي عند (أصحاب القضية) وهي مهدوية السيد مقتدى الصدر كما يزعمون.
-     القحطانيون، أو جماعة أبي عبد الله الحسين القحطاني، وزير الإمام المهدي الشيخ حيدر مشتت المنشداوي.
-     الإمام الغنوصي، جماعة الولي حبيب الله المختار ابو علي المختار، كما يطلقون على انفسهم (ثورة الحب الإلهي) المتمثلة بخالد عبد الهادي الرؤاف.
-     وأخيراً الدعوة اليمانية، المتمثلة بأحمد بن الحسن اليماني، رسول ووصي الإمام المهدي الشيخ أحمد إسماعيل كاطع السويلمي.
   في هذا الكتاب سلط الكاتب الضوء على مفاتيح نظرية ظاهرة الجماعات والملل المهدوية في العراق فقط، والتي تزداد يوماً بعد آخر تعقيداً من فرط التشعبات في المرجعيات الدينية والثقافية والسياسية، وسعى الكاتب من خلال هذا الكتاب الذي اجده مهم في فهم الجماعات التاريخية المهدوية، وقد كشف عن الايديولوجية/ الدينية المنتجة و(المفرخة) لظاهرة المهدوية منذ حقبة تسعينيات القرن الماضي ولغاية اليوم، ثم يعود الكاتب لتسليط الضوء على الأسس المختلفة للعوالم الرمزية داخل المجال الشيعي الإمامي، وكذلك القيام بعملية تفكيك سوسيولوجي للبنية الرمزية والسياسية وحفر بنية السرديات للجماعات المهدوية.
    فضلاً عن ذلك نزعة الكاتب النقدية في دراسته المجال الشيعي الإمامي وتفكيك القداسة عن لحظة انبثاق الحركات والجماعات المهدوية، والاسهام في تركيب قاعدة معلومات فكرية لدراسة هذه الحركات والجماعات. وقد استخدم الكاتب في كتابه انماط متعددة من المقاربات في التحليل والقراءة المقاربة للوقائعية التأريخية مقاربة لتحليل النصوص والكشف عن التمثيلات المضمرة في خطاب تلك الجماعات؛ على الرغم على مرور فترة زمنية طويلة على آخر مواجهة عسكرية مع جماعات الدعوة اليمانية عام 2007م واعتقال الإمام الرباني والمختار وقتل قاضي السماء الذي (حلق بأجنحة من ورق مع جنده). فظلت تلك الجماعات المهدوية محجوبة ولم يتم الكشف عن المعلومات في الأرشيف الرسمي لأجهزة الأمن والشرطة العراقية.
    كما ضم الكتاب سلسلة من الملاحق، منها: بيانات الدعوة اليمانية، وسلسلة من الحوارات مع أحد ابرز رجال الدعوة اليمانية ومنظّر الجماعة (د. ابو محمد الانصاري)، كما اجرى الكاتب الحوار مع المكتب الاعلامي للداعي الإمام الرباني عبر وسائل الاتصال الاجتماعي ومن خلال السيد سعد جاسم التميمي، وحوار مع السيد حيدر الجيزاني أحد تلاميذ السيد ابو عبد الله الحسين القحطاني عبر شبكة النت. كما تضمن الكتاب فتاوى العلماء والمراجع الدينية في النجف وقم بشأن الجماعات المهدوية العراقية.
    يهدف الكاتب يوسف محسن من خلال كتابه هذا للعمل على جمع الأرشيف الانثربولوجي لتلك الحركات والممل والجماعات والمبعوثين المهدويين خوفاً من الاندثار الناتج عن الصراع العنيف مع المؤسسة الدينية الشيعية الرسمية التي تهيمن على سلطة انتاج المعرفة كما جاء في صفحة 20/21 من الكتاب، وكذلك للوصول إلى الحقل الديني الشيعي العراقي وبالذات العلاقة بين ظهور الشرعيات الدينية المهدوية للمبعوثين المهدويين والدور الذي قامت به المرجعية الدينية في النجف بوصفها حارسة الايمان ووظيفتها توحيد رأسمال السوق الديني.
    فعملية دراسة بنيات الظاهرة المهدوية الشيعية تتطلب أولاً التحرر من السياسات والانساق المركزية الشيعية ومن ثم تحليل تلك الجماعات كظواهر تاريخية، حيث أن بعض الحركات المهدوية اعتمدت التعبئة الجماهيرية وشكلت اجنحة مسلحة فاعلة، فضلاً عن ذلك اشيع عن هذه الظواهر المهدوية وبالذات عن الجماعات السلوكية أن اصحابها يمارسون اللواط ويدعون للرذيلة في المجتمع حتى يستفزون الإمام المهدي بالخروج، وهذا خطأ شائع ليست له علاقة بالواقع وجزء من التسقيط الفكري. فضلاً عن ذلك أن هذه الحركات المهدوية الشيعية تعرضت إلى الانكار والتفسيق في التاريخ الشيعي الحديث فلجأت إلى التصوف والعرفان لتخفي اعتقاداتها ولتحافظ على سرية افكارها ولذلك تعتبر من الفرق الباطنية، حيث انهم يتبنون الفكر السلوكي والسلوك إلى الله عبر التصوف والعرفان العملي عند الشيعة، لذلك تعد فلسفة (الاتحاد والحلول) هي الركن الفكري المركزي عند السلوكيين المهدويين لأنها تبني تصرفاتها على مخيال عقائدي وفكرة ثورة جاهزة.
    إلا أني أجد في الكتاب الكثير من الأخطاء المطبعية فعلى الكاتب في طبعات الكتاب مستقبلاً تفاديها، وهي أخطاء لا تغيير من معاني الجمل إلا انها تؤثر تأثيراً بسيطاً على القارئ في التصحيح واعادة الجمل إلى صحتها.
    ولنعود لنسلط الضوء على سيرة الكاتب والباحث يوسف محسن، فهو من مواليد العراق 1961م، وحاصل على شهادة البكالوريوس للعلوم السياسية، وعلى شهادة دبلوم عالٍ في الاقتصاد السياسي، وعضو الاتحاد العام للكتاب في العراق، وباحث في الحقل السياسي وصحفي حر. صدر له ثمان كتب منها:
-     استعمالات فهم الدين (نقض احتكار الرأسمال المقدس والهيمنة على تأويل الخطاب).
-     الفائضون المثقفون، الدولة، المجتمع في العراق.
-     جدل في التوتاليتارية العراقية (تشريع الظاهرة الصدامية).
-     التجربة الخلاقة (من الطوباوية الثورية إلى التأليفات الفلسفية والصوفية).
-     أحمد القبانجي (من نقد اللاهوت إلى نقد السياسات الدينية).
-     ترميم صورة الزعيم.
-     الحرب الأهلية الطائفية في العراق. النزاع المسلح بين الميليشيات الشيعية والمتمردين القوميين السنّة والسلفيين الجهاديين- نزاع الايديولوجيات الشوفينية (2003- 2017) في 4 مجلدات.
-     الإمام المختفي، من قاضي السماء إلى أحمد بن الحسن اليماني (دينامية الحركات والجماعات المهدوية الجديدة في العراق أو تصدع السردية الشيعية الكلاسيكية).

45
الاحتلال الأمريكي للعراق واستفحال المد الطائفي والعرقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
    إن احداث التاسع من نيسان 2003م هي من بين الأحداث التاريخية الكبرى بالنسبة للعراق، فالجسد العراقي كان جسداً مريضاً في بنيته التحتية في مجال الدولة والسلطة والنظام السياسي والعلاقات القومية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، أي في كل مكوناته التي كانت تعاني من أمراض مزمنة.
    فما جرى يوم التاسع من نيسان إن كان تحرراً ففي نفس الوقت كان احتلالاً، فهو احتلال بذريعة التحرر، ولولا انعدام الحرية وضعف الدولة والمجتمع لما حدث الاحتلال. وبما أن العراق يحتوي على قوميات واعراق وأديان ومذاهب متنوعة بوصفها جزءاً من تاريخه العريق وتسامحه الذاتي وتقاليده الكونية، من هنا فإن ظهور الطائفية والعرقية الناتئ فيما بعد 3 نيسان 2003م كان أمراً طبيعياً. فقد كانت جميع المكونات تعاني من ثقل الدكتاتورية، وبالتالي ليس خروجها إلا تعرضها من حيث الرؤية المستقبلية إلى شمس المعالجة الأولى في تاريخه الحديث.
    إننا اليوم نقف أمام واقع انحطاط وتخلف للبنية الاجتماعية من جهة، وتصدع الفكرة الوطنية العراقية من جهة أخرى. وإذا كان من الممكن الإقرار نظرياً بأنهُ انحطاط وتصدع قابل للرأب، باعتباره نتاجاً لحالة سياسية أولاً وقبل كل شيء، بلغت ذروتها في سياسة الدكتاتورية المقبورة، فإن الأحداث التاريخية في مجرى السنوات بعد السقوط تشير إلى استمرار وإعادة إنتاج التجزئة بصورة منظمة، ولعل اخطرها الطائفية السياسية الآخذة في التحول إلى مرض مزمن شامل في الجسد العراقي.
    ووجدت هذه الحالة المتراكمة من الانحطاط استمرارها في إفراغ التاريخ العراقي المعاصر منذ الاحتلال العثماني للعراقي، واستمرت حالة التراكم في فكرة سياسية اجتماعية وطنية عامة، بمعنى استمرار الصراع الخفي بين مكونات العرب العراقيين، الذي تجسد في منظومة رجعية من حيث المكونات الاجتماعية والمواقف السياسية للسلطة بعد انقلاب 1963م، وهو انقلاب شكل خطوة إلى الوراء وجرى استكماله في انقلاب 17 تموز 1968 الذي ارسى أسس الدكتاتورية. وهي تقاليد أدت خصوصاً في مجرى العقدين الأخيرين قبل سقوطها إلى استفحال التجزئة الجهوية والقومية والطائفية للعراق والعراقيين في مختلف نواحي ومستويات الحياة. مما أعطى لهذه التجزئة ابعاداً مركبة ومتشابكة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والفكر والايديولوجيا ونمط الحياة والنفسية والاجتماعية. وهي تجزئة أخذ حجمها بالتوسع في مجرى التغيرات الراديكالية التي رافقت سقوط الدكتاتورية.
    لقد كان التاسع من نيسان 2003 انقلاب تاريخي هائل، ظاهره نقمة وباطنه نعمة، وذلك لأنه انقلاب أظهر حقيقة الاعماق الخربة للعراق، وطبيعة ونوعية أمراضه الداخلية والدفينة، ومستوى الخراب والانحطاط المادي والمعنوي، وبقايا العقد والمتحجرات القديمة التي نمت وتضخمت في ظل الدكتاتورية بطريقة تبدو مفزعة ومثيرة. فبعد عام 2003 كانت المرة الأولى في تاريخ العراق تشترك فيها جميع مكوناته بطريقة تحتوي على اقدار مختلفة من العقلانية واللاعقلانية، والواقعية وغير الواقعية في صنع تاريخ العراق الحديث. وهي حالة تتصف بقدر كبير من التخريب كما هو الحال في استفحال ظاهرة العرقية الكردية بشكل خاص، وبصورة أقل أو جزئية عند بعض الحركات التركمانية والكلدو آشورية.
    فالطائفية هي أما مرض وأما بقايا متحجرات، ومنهما عادة ما تتراكم مختلف مظاهرها، وشيوعها هو مؤشر على بقاء الأثنين في النفسية الجمعية ونماذج وعيها ونفسيتها وتقاليدها، ولو عدنا إلى صفحات التاريخ الإسلامي لنجد أن الأموية هي صانعة الفكرة الطائفية بوصفها سُنّة السلطة، أي القانون الذي يحكم سلوكها حالما تكون قوة مغتربة عن الأمة ومحكومة في نياتها وغايتها بقوة الجاه والمال، وهي صفات جوهرية جاهلية حاربها الإسلام المحمدي. وهو السبب الذي صنع خلاف العبارة في أهل الشام وأهل العراق، وهو افتعال السلطة، أي افتعال أموي.
    فالطائفية في العراق كانت منذ البدء ذات ابعاد سياسية، ولكن بالإمكان تذليلها السريع في حال الاتفاق على أولوية وجوهرية المصالح الوطنية العامة. لكن التمسك بالطائفية السياسية بما معناه استعادة الانغلاق والإلقاء في شرنقة الأنا المتبجحة بذاتها. والطائفية تتعارض بل تتضاد مع فكرة الدولة البديلة بوصفها دولة شرعية محكومة بالقانون والدستور.
    فالعراق في ظروف الانتقال إلى الدولة الشرعية وبناء الوطنية الجديدة يعاني من اشكالية الشعب والأمة. لكنه ليس مجموعة أو تجمع طوائف، فالعراق يحتوي على القوميات والأعراق والطوائف بسبب تاريخه العريق وبسبب قدرته على التعايش واستعداده على قبول مختلف المكونات وصهرها في بوتقته الثقافية. وللإرتقاء إلى رؤية التكامل البعيد المدى يجب رفع الوعي السياسي صوب الفكرة الوطنية العامة وتحريرها من عبودية السلطة وتوجيهها صوب فكرة الدولة بوصفها صانعة الوطنية الحقيقية.

46
فاضل البراك يستقطب بعض الشيوعيين العراقيين
نبيل عبد الأمير الربيعي
    ولد فاضل البراك في مدينة بيجي عام 1942م، وأكمل دراسته في تكريت عام 1960م ودخل الكلية العسكرية، بعد انقلاب 17 تموز 1968م، منح البراك رتبة نقيب وألحق في حماية الرئيس أحمد حسن البكر، ثم بعد خلافه مع زوجة البكر نسبه صدام حسين في حماية مقر الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية.
    عُين نهاية عام 1971م معاوناُ للملحق العسكري في السفارة العراقية بموسكو، وبقي في هذه الوظيفة حتى عام 1976، وليكون أيضاً مسؤولاً حزبياً عن تنظيمات حزب البعث في الاتحاد السوفيتي، وللحقيقة يذكر الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته (هارب من الإعدام) ص163/175 إن فاضل البراك (كان ممثلا لدوائر الأمن والمخابرات العراقية لدى المخابرات السوفيتية، أي كان عضو الارتباط بين التنظيمين. وانطلاقاً من وظيفته هذه فقد كان يتردد على المركز الرئيسي للمخابرات السوفيتية وسط موسكو لتنسيق العمل المخابراتي وتبادل المعلومة، وقد أخبرني بوظيفة البراك هذه مدير معهد الاستشراق السيد بابا جان غفوروف).
    وطيلة مدة بقائه في وظيفته بالسفارة العراقية، كان البراك مسؤولاً عن تنظيمات حزب البعث في عموم الاتحاد السوفيتي، حيث كان هناك العديد من الطلبة العراقيين من المبتعثين الحكوميين، يدرسون في الجامعات السوفيتية ومثلهم الكثير من العسكريين الذين كانوا يتلقون علومهم في العديد من المعاهد والكليات العسكرية وفي مختلف الجمهوريات السوفيتية .
    وفيما يتعلق بحصوله على شهادة الدكتوراه من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، فالحقيقة أن فاضل البراك لم يكن مؤهلاً علمياً لكتابة رسالة الدكتوراه، وإن قبوله لأعداد الرسالة من خلال معهد الاستشراق، جاء بناءً على طلب من لجنة العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي السوفيتي، وذلك تنفيذاً للاتفاقية الموقعة بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوفيتي والتي نصت على قيام المعاهد العلمية السوفيتية بإعداد مجموعة طلبة، وبالذات في مجال الدكتوراه وبمختلف العلوم دون الحاجة لحصولهم على المستوى العلمي الذي يؤهلهم لإعداد رسائل دكتوراه.
   ويؤكد الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته قائلاً: (خلال لقاءاتي في معهد الاستشراق مع فاضل البراك وكان من مهامي متابعة إعداده لرسالة الدكتوراه، حسب تكليف مدير المعهد الأكاديمي السيد بابا جان غفوروف. وفي مجريات المتابعة كان فاضل البراك يعرض عليَّ ما يعده من فصول لمتن رسالته، لأطالعها ثم أعرضها على رئاسة المعهد. وفي أحد المرات سلمني الفصل الثاني من رسالته، وحين أخذته وجدت بين طيات أوراقه رسالة صغيرة موجهة للبراك من مفكر حزب البعث الياس فرح، وقد جاء في تلك الورقة ما يلي: أبعث لك الفصل الثاني من رسالة الدكتوراه... وبدوري قمت بعرض وتقديم الرسالة وترجمتها لمدير المعهد السيد غفوروف فأجابني بضرورة أن يحتفظ بالرسالة وأمتنع عن أعادتها ليَّ). من خلال رسالة الياس فرح يتبين لنا أن أطرحة رسالة البراك كان الياس فرح وآخرين يكبوها لهُ وفق نهج حزب البعث.
    وبعد مناقشة رسالته عن حركة رشيد علي الكيلاني عام 1941 وحصوله على شهادة الدكتوراه وعودته إلى بغداد، واستلامه منصب مدير الأمن العام قام بطبع الرسالة على شكل كتاب حُذف منه كافة الإضافات والتعليقات النظرية التي وجهت له خلال مناقشة الرسالة وعدل عنوان الرسالة حين طبعت ككتاب، ليكون الكتاب في النهاية وثيقة قومية بعثية خالصة، سارع بعدها الانتهازيون والمتملقون لكتابة وتدبيج المقالات التي تشيد بالبراك ورسالة الدكتوراه، وتجاوزت تلك الكتابات الأربعين مقالا.
    ويعقب الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته قائلاً: (كان فاضل البراك وخلال وجوده في موسكو وعبر علاقته بمعهد الاستشراق وتكليفي بمتابعة إعداده رسالته للدكتوراه، شديد الوضوح والصراحة في بيان معاداته للشيوعية والشيوعيين وبالذات الحزب الشيوعي العراقي رغم معرفته بموقعي القريب من الحزب الشيوعي. وإن البراك وفي أحد المرات حضر احتفال منظمة الحزب الشيوعي العراقي في موسكو والتي أقيمت بمناسبة تأسيس الحزب، وخلال الحفل تم عرض صورة مؤسس الحزب الرفيق فهد لأجراء مزاد عليها، فقال ليَّ البراك بأنه يرغب بالحصول على الصورة بأي ثمن كان، وفعلاً بدأ بالمزايدة عليها ورفع المبلغ بما يؤهله الحصول عليها، وقد نال واستحوذ على الصورة، عندها طلب من سائقه وضع الصورة في الصندوق الخلفي للسيارة، وقد استرعى ذلك انتباهي، فسألته عن سبب رغبته باقتناء صورة الرفيق فهد وما عساه فاعل بها، أجابني بشيء من الهزء بأنه سيمزقها كونه لا يريد أن تكون من حصة أي عراقي).
    وفي فترة عمل البراك في السفارة العراقية في موسكو كان مسؤول تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي لعموم الاتحاد السوفييتي خليل الجزائري، ويذكر د. خليل عبد العزيز في ص173 من مذكراته قائلاً: (من خلال معرفتي بفاضل وجدت أن الكثير من أفعاله تبعث على الريبة، فقد استطاع بناء علاقات ليست بالبسيطة أو العابرة مع بعض الرفاق في الحزب الشيوعي العراقي، ولوحظ تقربه ولقاءاته الكثيرة بالبعض من هؤلاء، وبالذات خليل الجزائري(1). كان فاضل البراك ومنذ بداية قدومه إلى موسكو قد وضع نصب عينيه شخصية خليل الجزائري، وكان له حسب ما يدعي كرهاً شديداً، وقد ألمح لذلك أمامي، وكانت هناك فعلاً مماحكات كثيرة بين الشخصين، رغم أن تلك الفترة كانت فترة الجبهة الوطنية بين البعث وحزبنا الشيوعي، بعد فترة ليست بالقصيرة أخبرني بعض الرفاق في المنظمة الحزبية برؤيتهم لفاضل البراك جالساً في أحد مطاعم العاصمة مع خليل الجزائري، عندها سألت خليل الجزائري عن تلك الجلسة، فأخبرني بأن فاضل البراك قد دعاه على وجبة طعام فلبى دعوته، ودار الحديث بينهما عن طبيعة العلاقة بين الحزبين، والتطورات السياسية في العراق، وسألت فاضل البراك عن تلك الدعوة، فأخبرني بأنه أراد منها أن يكسر جناح خليل الجزائري ونعته بالسافل، بعد تلك الجلسة راح خليل الجزائري يتقرب من البراك ويدخل ويخرج من السفارة العراقية، ثم خرج من تنظيمات الحزب الشيوعي وسافر إلى براغ، وهناك عمل مع مجموعة النهج، ثم سافر إلى بغداد وشكّل هناك مع خالد السلام وماجد عبد الرضا مجموعة أراد حزب البعث تسويقها بديلاً عن الحزب الشيوعي، ولكن بعد مقتل فاضل البراك وصف صدام حسين هذه المجموعة من نتائج العلاقة مع فاضل البراك ومن عوائده الخاصة).
    كانت الزمالات الدراسية والحصول على المقاعد للدراسة في الاتحاد السوفييتي كتجارة رائجة، مما خلقت ظهور شخصيات من العراقيين، استطاعت توظيف علاقتها مع الجانب السوفيتي وكذلك مع أوساط منظمة التضامن الأفرو أسيوي ومجلس السلم السوفييتي، للحصول على المقاعد الدراسية بصورة غير سليمة، من خلال الرشى وشراء الذمم. فكانت تلك الشخصيات تقدم المغريات المالية للحصول على الزمالات الدراسية من الجانب السوفيتي، ومن ثم تقوم ببيعها لمن يدفع أكثر، وكانت بعض تلك الشخصيات تدير تلك الأعمال بشكل علني، ولكن تحت أنظار ومراقبة ورصد المخابرات السوفيتية وليس بعيداً عن دوائرها. يذكر الدكتور خليل عبد الكريم في مذكراته ص239 قائلاً: (كان هناك شخص اشتهر بعلاقته الوطيدة بالأوساط السوفيتية اسمه جبار حاجم، هذا الشخص بنيّ له شبكة من العلاقات المشبوهة مع الكثير من المسؤولين السوفييت، ودائماً ما كانت تثار حوله الشكوك ويتهم بالعلاقة بجهاز أمن الدولة السوفيتي (كي جي بي)، ويعزو ذلك لقدراته الفذة على الوصول إلى ما يرغب فيه والحصول على مبتغاه عبر شراء الذمم، وكان أيضاً يمتهن تصريف العملة بشكل غير مشروع... والمدهش في حياة جبار حاجم قدرته الغريبة للوصول إلى أي جهاز حكومي سوفيتي، فكانت أية قضية مستعصية للعراقيين عند الجانب السوفيتي، فإن تدخل جبار حاجم يضمن نجاح حلها. وكمثال على طبيعة تلك السمسرة، أذكر حادثة لها دلالة كبيرة عما كان يحصل. فقد كلفني أحد شخصيات الحزب الشيوعي العراقي بالاتصال بجبار حاجم لمعرفة كيفية حصوله على الزمالات وبيعها، بعد أن انتشرت أخبار قيامه بهذا الأمر. وحين اتصلت به أخبرني مباشرة بأنه كان يشتري بعضها من بعض الحزبيين في موسكو وكذلك من بعض الموظفين المتنفذين في المؤسسات السوفيتية. وحدثني أحد الأصدقاء عن عملية شراء كان يقوم بها شخص عراقي آخر محسوب على التقدميين، هو شاكر القيسي. حيث استدان منه مسؤول منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفيتي وقتذاك خليل الجزائري مبلغاً قدره 3000 روبل وكان هذا المبلغ بالنسبة للموظفين السوفييت ومثلهم الطلبة العراقيين، يعد ثروة كبيرة في ذلك الوقت. وحين استفسر الصديق من السيد شاكر القيسي عن كيفية استرداده للدين من خليل الجزائري، الذي لا يملك ما يوفي فيه هذا المبلغ الكبير، فأجاب القيسي ضاحكاً بأنه لا يفكر إطلاقاً باسترداد المبلغ وإن هذا الدين يعد من الديون الميتة، ولكنها وعلى المدى القريب سوف تحيي أموات. ولتفسير ذلك يستعرض القيسي الحال بالقول، دائماً ما تكون هناك زمالات فائضة، وفي تلك الحالة يقوم بالطلب من خليل الجزائري الحصول على عدد من المقاعد الدراسية من خلال معرفته وعلاقة الحزب بالمؤسسات السوفيتية، وكان ذلك يتم مقابل قسم من الدين، ويقوم الجزائري بإبلاغ الجهة المانحة موافقة الحزب على ذلك التخصيص، فيأخذ القيسي من خليل الجزائري المقاعد الممنوحة ومن ثم بيعها).
    مع كل هذا الفساد والإساءات لم يكن ذلك ليمنع من بروز اعداد ليست بالقليلة من الطلبة العراقيين بشكل جيد، وكان هناك الكثير ممن استطاع بجهود جدية أن ينال درجات علمية رصينة، وأن ينجحوا نجاحاً بيناً وباهراً في دراستهم. إلا أن البعض من الطلبة على مدى فترات قد نشأت علاقات غير سليمة بين الكثير منهم والأساتذة في الاتحاد السوفيتي، حيث بدأ الطالب يحوز على شهادته في مستوى البكالوريوس أو الماجستير وحتى الدكتوراه من خلال الهدايا العينية والمادية السخية التي يقدمها إلى الأساتذة، والتي كانت الرشاوى فيها تفقأ العين.
    كان للبراك الدور الكبير في انقلاب وردة حزب البعث عن الجبهة الوطنية، وقيامه بقيادة الهجمة الشرسة على الحزب الشيوعي العراقي، وقتله وتشريده للعديد من اعضاء الحزب. وبعد فترة طويلة من عمله الوظيفي ألقى القبض عليه واقتيد إلى مبنى الحاكمية في شارع 52 ببغداد، ووجهت إليه تهمتان، الأولى بوصفه جاسوساً لألمانيا الشرقية والاتحاد السوفييتي، والتهمة الثانية إثراؤه غير المشروع، والحصول على عمولات من تجار ورجال اعمال، أمضى البراك عامين في السجن وأصيب بالشلل ومن ثم أعدم نهاية عام 1993م.
    وللتعقيب عن استقطاب بعض رموز الحزب الشيوعي العراقي مثل خليل الجزائري وماجد عبد الرضا وحسين سلطان وعبد الوهاب طاهر وناصر عبود وآخرون، حيث تعاون البعض مع الحكم في العراق بقناعة سياسية منهم حول ضرورة عودة "التحالف" مع حزب البعث والتبشير بدعوات النظام حول الأخذ بالديمقراطية في إدارة البلاد. ولكن ما حدث هو أنه تم إعدام خليل الجزائري بدعوى تورطه في العلاقة مع فاضل البراك. إن خيار هؤلاء هو خيار ذاتي وموقف سياسي مسبق منذ أن بدأ الحزب التفكير في تعديل سياسته عام 1978، والانتقال إلى معارضة حكم البعث بسبب التحول الجذري في سياسة الحكم.
    بعد سقوط نظام البعث على يد الاحتلال الأمريكي عام 2003م وقد ظهرت الحقائق بالوثيقة كما يذكر ذلك الدكتور نزار آل إبراهيم المقيم في امستردام بمقالته الموسومة (إيضاح وتنوير حول مقالة ذكريات استاذ عراقي في جامعة عدن) على موقع (صوت العراق) ليوم 2021-11-28 قائلاً: (بعد ان أظهرت وكشفت وثائق وأرشيف المخابرات العراقية بعد السقوط المدوّي لحكم البعث عام 2003 والذي أضحى لحسن العاقبة بيد قيادة الحزب الشيوعي العراقي من أن ”خليل الجزائري” بالذات كان عميلاً لديها باسم توريه وهو ”توما”، وفي حوزتي وثائق مستنسخه من الاصل كان أن بعثها الراحل عزيز وطبان من المانيا، وبخط خليل ذاته، الذي لا يمكنني أن لا أعرفه إلاّ جيداً. هكذا، وفي الفم مرارّه، اقول من أن “خليل الجزائري ً استطاع وعن حنكّه ليس فقط أن يخذل رفاقه من الذين وثقوا به، وأنا منهم، اعترف بذلك بل وخذل تاريخه النضالي قبل ذلك، هكذا وبدفعة واحده. والشيء بالشيء يُذكر أيضاً كان ولا يزال لدي ملف بعنوان ”ملف خليل الجزائري” طال واستطال توثيقه لأمد ينوف عن 25 عاماً وما زلت متماطلاً في إظهاره إلى العلن لدواعي شتى. هذا الملف الذي تضخم بذكريات ووثائق ووقائع شتى ومقابلات حصرية مسجلة).
 
 
(1) د. خليل ألجزائري، سكرتير منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي، خريج معهد بليخانوف في موسكو، عمل آنذاك استاذاً في جامعة قسنطينة بالجزائر.

47
إبراهيم وحكاية العشق بين مسقط رأسه والأدب
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    سلام إبراهيم أديب وروائي عراقي استثنائي، فهو لدى مجايليه من الأدباء والروائيين السيرويين، وعند متذوقي إبداعه الروائي من المهتمين والقراء قائمة أدبية باسقة، وروائي فذّ من طينة الأدباء الكبار، وهو غزير في إبداعه، يمتلك مشروعاً إبداعياً سيروياً ذاتياً وهاجاً، قوامه إنتاج أدبي رصين ومتميز، بكل اجناسه وألوانه وتخصيباته الأدبية، رفيع وسامق وشامخ في دلالاته وغاياته وآفاقه، لا يمكن الاحاطة بكل أغواره وسير كل أسراره ودرره دفعة واحدة، نكتشف فيه كل يوم اللآلئ، وسنظل بحاجة إلى المزيد من التبحر لأكتشاف اسراره وكنوزه من خلال متابعة رواياته وآخرها (دونت سبيط أسطب)، فهو صانع العطاء وكريم وصبور، نذر نفسه ومعظم وقته لخدمة الكلمة وإعلائها، ثم كرسها عبر ابداعه ومختاراته في الرواية، لإبراز وترسيخ المعاني، بعيداً عن كل انكفاء أو تشنج أو تعصب ايديولوجي أو مذهبي أو سياسي خدمتاً للقيم السامية كالحرية والحب والجمال والبهاء والصفاء والسلام، وسعياً منهُ لإفشاء سلوكيات وثقافة التقارب والإخاء.
    فسلام كان منذ طفولته المبكرة يتوق إلى الحرية والخلوة بخواطرها عالياً، وبعيداً عن كل قبح وسوء وحقد وظلم مصدره الإنسان. منذ ذلك الوقت وهو يشعر أنهُ في بداية الطريق، لأن فك رموز الحياة من حولنا وهو السفر الذي لا ينتهي، إلا كي يبدأ من جديد. وقد وجد في الغربة الدنماركية من الشروط والحوافز والأجواء مما ساعده ويسّر عليه بسط جناحيه والتحليق عالياً في العُلى، فصار بما قدم ويقدم حتى الآن من غزير وبديع الأعمال الروائية، وبما تحبل به هذه الأعمال من جمال وقيم ورسائل إنسانية، كرسول للمحبة والسلام، ليكتسب بها كل يوم عقول وقلوب القراء والأصدقاء وعشاق الأدب، فهو هدية اكرمتنا بها آلهة الحب والفرح والعطاء كهدية لمتذوقي الأدب والكلمة الصادقة، ليقدم لنا كل هذا الجمال الأدبي والروائي، فهو تلك الشجرة الوارفة الظلال لتفيء بأغصانها عشاق الأدب والكلمة.
    من خلال هذا الموجز ومن خلال سابق الأيام كتبت على صفحتي في موقع التواصل الاجتماع، وتناقله موقع (مخيل عراقي) يوم 23/ 4/ 2023 ما يلي::- ((من خلال اطلاعي على اغلب روايات الروائي المغترب (سلام إبراهيم) أجده يسعى إلى توثيق سيرته الذاتية والأحداث التي حدثت خلالها، فضلاً عن توثيق الأحداث في مدينة الديوانية، مكان ولادته ونشأته، من خلال التفنن بعنصري الزمان والمكان، ومحاولة إعادة التشكيل وفق تقنيات متنوعة تنتظم في الترتيب والسرعة، ساعياً في القبض على اغلب المراحل الزمنية، متذكراً حوادثها من خلال النص الروائي الزمني في الدرجة الأساس، ومنحه ستراتيجية أوسع من المكان والانفعالات والأفكار والانطباعات من خلال منطق العلاقات وطبيعة الشخصيات.
    كما أجد في روايته الأخيرة (دونت سبيط أسطب) قد لعب الروائي بالأزمنة داخل الرواية، وهو عمل جمالي بحت من حيث الصياغة والترتيب، مما منح الرواية صورة اوسع وبناءً ونسقاً ادق، وعلى صعيد النص والصورة فقد وثق الروائي حياة عائلته وخاصة والده فيها والأحداث التي حدثت في تلك الأزمنة والأماكن أبان حكم البعث، مثل في ص236: "في مساء صيفي ساكن كنا نلتف حول صينية العشاء، أنا وناهدة وكفاح ,واصغر أخواتي "سهاد" قرعت الباب بضجيج ودون انقطاع، نهبتُ السلالم المؤدية إلى السطح بينما كنت في طريقك لفتحها، من حافة السلالم المؤدية إلى السطح رأيت على ضوء مصباح الشارع أكثر من عشرين مسلحاً يتوزعون على جانبي الباب، وأنت تخوض حواراً مع شخص بدا أنه مسؤول المجموعة")).
    من خلا النص اعلاه كان الروائي يخاطب والده، وقد جسد الروائي زمنية توقف حركة السرد لحظة وصوله نقطة ما، وفي هذا النص تجلى الزمن النفسي وضغط الأحداث وتقنينها في فضاء نصيّ صغير، بعد وقوعها خلال زمن طويل نسبياً.
    فسلام إبراهيم لا يملك إلا الكتابة الصادقة الشفافة، وعبر صفحاتها يفصح ويعبر عن ما يجول في دواخله من حديث الخواطر ونجوى النفس والذكريات الجميلة، يقضي وقته بين حروف حاسوبه، وبعض الأحيان بين الحبر والورق. فهو العاشق للحياة، والقلم أداة الوصال عنده، والورقة سريره، والحرف عروسته الفاتنة، والحب رحيق اللذة بينهما.
نبيل الربيعي
حلة 13/5/2023

48
ابو طبر وتحالف البكر/ صدام/ ناظم كزار
نبيل عبد الأمير الربيعي
    ولد حاتم كاظم هضم في مدينة المسيب التابعة إلى لواء الحلة عام 1938م، لعائلة فقيرة، كان والده عامل بناء، بعد اكماله مرحلة المتوسطة بتفوق انضم إلى سلك الشرطة برتبة مفوض في مديرية شرطة الحلة. بعد اكتشاف حالات الاعتداء الجنسي من قبله على موظفات المستشفى الملكي في الحلة والطبيبات المقيمات في دار الاطباء، طرد من سلك الشرطة بأمر من وزير الداخلية آنذاك.
    أكمل حاتم دراسته الثانوية وقدم أوراقه إلى مدرسة الطيران الملكية، بعد دراسة لثلاث سنوات متتالية طرد من مدرسة الطيران بسبب عدوانيته لزملائه ومحاولة تعطيل طائرات التدريب لأحداث الحوادث المميتة لهم. فهاجر إلى الكويت للعمل فيها كبواب في عمارة تابعة للشيخ نواف ذات الشأن في امارة الكويت، فاستقر حاله واطمأن قلبه وصلح شأنه، إلى أن حدث ما حدث من مقتل الشيخ نواف داخل العمارة التي كان يعمل فيها حاتم كاظم هضم، فوجد نفسه في ليلة ملؤها الرعب والخوف والعذاب في سجن أمن الكويت في ساحة الصفاة بتهم عديدة، منها قتل رب عمله والتمثيل بجثته. فنال ما نال من عذاب في مقر الأمن الكويتي في ساحة الصفاة الهائل والشديد الألم. فألقي في اليوم التالي على الحدود العراقية الكويتية وفي جيبه دينار عراقي واحد وجواز سفره. فكانت الحكومة الكويتية قد رأت تسوية فضيحة الشيخ نواف المنحرف، والذي تربطه شراكات مع اعضاء في الأسرة الأميرية الحاكمة، وكان من ضمن التسوية حاتم كاظم بالطرد خارج حدود الامارة.
    قضى عدة أيام داخل الصالحية والعشار وداخل بساتينها الغناء، فأطفأ لوعة عذابه واخماد بعض شهواته بغزوات على عقارات واملاك الكويتيين في مدينة البصرة من قتل وسرقة، حتى قناعته بحصوله على اموال مهدت طريقه للعمل في مدينة كركوك. فيمم وجهه شطرها وهي المدينة البعيدة عن كل مغامراته واخفاقاته وحياته السابقة، في هذه المدينة لكل الجنسيات والقوميات، وقد تضيع سيرته المعروفة في مدن أخرى أبان حكم الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959م.
    فحصل على وظيفة مدقق حسابات ومحصل أموال لدائرة وقف كركوك! كانت المدينة في اضطراب سياسي واجتماعي كبيرين بين البعثيين والشيوعيين والتركمان والأكراد. وكان عام 1959م قد شهد صراع قومي سياسي ديني، غذته عدة اطراف داخلية وخارجية، وألقت بكل ثقلها لزيادة اتونه والهدف للجميع هو اسقاط جمهورية عبد الكريم قاسم! في تلك السنة التي وطنتها قدم حاتم كاظم هضم (أبو طبر)، تحالف جمال عبد الناصر مع الامريكان والبريطانيين والسعوديين والكويتيين وشاه إيران والنظام العروبي السوري، ومع قوى داخلية متضررة من القرارات الوطنية لعبد الكريم قاسم، كرجال الاقطاع والملكية، والبعثيين والقوميين وبعض رجال الدين لأثارة الفتن والصراعات لإسقاطه.
    فوجد حاتم كاظم باستطاعته استغلال تلك الفوضى لاشباع هوسه وشغفه الذي لا يهدأ، أو يستقر على حال وهو فاتح فاه دائم الطلب، فقام بعدة غزوات ناجحة من قتل وسرقة لدور كبار التجار في المدينة، أضافت إلى استقراره الاجتماعي في كركوك مدداً آخر، فتزوج من امرأة تسكن محلة مام قاسم.
    كان حاتم كاظم يتلاعب في حسابات دائرة الوقف وتزويره لعدة وصولات حكومية، فوجدته محكمة كركوك الجنائية مذنباً، وحكمت عليه بالسجن لمدة سنتان ونصف السنة. ومن خلال سجن كركوك تعرف على مجموعات مختلفة لقوى تسيطر على السجن وتنفذ ما تريده بالقوة، فانضم إلى مجموعة في اسجن تمثل المافيا التركية. بعد انهاء عقوبة السجن هاجر إلى تركيا وتعرف على اعضاء المافيا فتم توفير مستمسكات له للهجرة إلى ميونخ والعمل مع المافيا الالمانية. فكلفته المافيا التركية/ الالمانية في بدء عمليات التهريب بين البلدين خلال طريق بري يمر برومانيا ثم اليونان فإلى تركيا وشمال العراق وسوريا.
    كانت تلك الأيام من اجمل أيام حياته، لكن القدر أبى أن يكون منصفاً معه، فتدخل وجهه القبيح لتحويل حياته إلى بؤس ومأساة. وفي ليلة نشوة خمر أخذت به إلى عالم السرور والانشراح، قام سائق شاحنة الماني بصدم شاحنته التي تحمل البضائع المهربة إلى تركيا، ومنها السلاح المختلف الانواع وقناني الويسكي، كان يمكن أن تمر الحادثة مرور الكرام إلا أن مرافق حاتم التركي الجنسية المخمور أراد غير ذلك، فهاجم بعنف وقسوة الالماني المخمور وكسر له عدة اضلاع.
   دخل مع شريكه التوقيف وحكم القضاء الالماني عليهما بالسجن عشرة اشهر والطرد من المانيا. وبعد اتمام فترة السجن عاد إلى العراق كالغريب عام 1970م، فعاد إلى مدينة المسيب وتزوج من فتاة تدعى ساجدة.
    ولبناء حياة جديدة انضم عن طريق أحد اقاربه إلى منظمة حزب البعث في المسيب، فوجد مسؤوله الحزبي في قادم الأيام عبد الوهاب كريم الأعور مسؤول تنظيمات الحزب في الحلة له نشاطاً كبيراً وخاصة في مراقبة الشيوعيين والقوميين وكتابة التقارير اليومية عنهم. فصنع له اضبارة حزبية في المسيب خالية من عدم المحكومية.
  ثم انتقل حاتم كاظم هضم إلى مدينة بغداد لممارسة هواية السرقة والقتل، ومن خلال عشقه لرياضة الزورخانة ابان حقبة الخمسينيات عندما كان في مدرسة الطيران تذكر أنه تعرف على شقاوات بغداد في تلك الحقبة، فعاود الاتصال بهم فتوثقت عرى الصداقة بينه وبين جبار كردي وسمير الشيخلي وصباح مرزا وخالد طبرة وفاضل جلعوط وحاتم باوي وكاظم باشا وكامل معلاك وعلي ماما ومحيي الدين مرهون وآخرين اشتهروا بسطوتهم على محلات الفضل وبني سعيد والدهانة والمهدية وباب الاغا والقشلة.
    بعد الاستقرار في العاصمة ألتقى ببعض من هؤلاء، وعند السؤال عنهم كان الجواب انهم انضموا إلى حزب البعث والتقرب من قيادته وتلبية ما يأمرون به. فاستقر به المطاف في مدينة العامل حي النفط القريبة من جامع ام الطبول. بعد ايام على انتقاله إلى بغداد سمع طرقاً على الباب، فلما فتحه وجد على عتبته حسن المطيري الساعد الأيمن لمدير الأمن ناظم كزار، فطلب منه ارتداء ملابسه لمقابلة مدير الأمن، فانتقل مع حسن المطيري بسيارة لاندكروز بيضاء حديثة كانت هي السمة المعروفة في العراق بأنها سيارة خاصة بالمخابرات والأمن.
    استقبله ناظم كزار بابتسامة عريضة واجلسه قربه، وطلب من حسن المطيري مغادرة المكان، طلب منه كزار أن تكون صلته به شخصياً فقط في أحد الأوكار، وحذره أن يخبر أحداً بهذه العلاقة. كان تحالف البكر/ صدام يعرف بالتحالف بين ناظم كزار وحاتم كاظم هضم، والذي بدأ مبكراً بتصفيات جسدية ليهود ومعارضين وغير معارضين يشك التحالف بولائهم للحزب والثورة.
    بدأت عمليات التصفية بعائلة قشقوش اليهودية بطريقة بشعة ودموية، كانت أول ثمرة التحالف الجهنمي بين ناظم كزار وأبو طبر! ثم بدأ ابو طبر بعمليته الثانية لتصفية عائلة عذراء مع امها في دارها الكبير في المنصور الذي ورثته من زوجها الراحل. كان ابو طبر يقوم بأعمال القتل والسرقة بمساعدة ابن اخته حسين علي حسون، وهو شريكه في معظم جرائم القتل. أما عملية القتل الثالثة فكانت بحق دبلوماسي تونسي، والهدف للسطو على حقيبته الدبلوماسية ومعرفة ما فيها من قبل مدير الأمن العامة.
    كان تحالف البكر/ صدام قد استخدم ابو طبر للتخلص من الغير مرغوب فيهم تارة، ولإثارة الرعب والخوف عند العراقيين تارة أخرى، أو في استكشاف اعدائه وخصومه حتى وإن كانوا دبلوماسيين عرب واجانب، وقد بدأ بذلك مبكراً عن طريق اذرعه كناظم كزار وصباح مرزة وكريم وآخرين.
    عمل حاتم ابو طبر مع ناظم كزار لتصفية عوائل وافراد كان كزار يعطي اسمائهم ومحلات سكناهم إلى ابو طبر، ويطلب منه تصفيتهم بالطريقة التي يشتهيها، وفي الوقت الذي يراه، وكانت منها عائلة قشقوش اليهودية وعائلة مدرسة الرياضة عذراء كما ذكرنا ذلك سابقاً. لكن بعد الاطاحة بناظم كزار في تموز 1973، بعد عملية الانقلاب الفاشلة التي قام بها وتصفيته فيما بعد، انتقل عمل حاتم ابو طبر إلى مساندته من قبل سعدون شاكر وصباح مرزا، فقد اختبأ ابو طبر في دار صباح مرزا في الأعظيمة لحين التوصل لقناعة تحالف البكر/ صدام بعدم الخوف منه واعادة اتصاله بمكتب العلاقات العامة ورئيسها سعدون شاكر.
    كانت ماجدة التميمي تتلقى من خلال هاتفها مكالمات من شخص يهددها بالقتل، وهو يقول أنه ابو طبر وسوف يذبحها ويغتصبها يوماً ما وعن قريب، اتصلت ماجدة التميمي بدائرة الاتصالات في بدالة المأمون وابلغتهم بذلك، كان يرأس دائرة الاشراف على اعمال الهاتف السيد مكي كبة، وكانت تشرف على مراقبة هواتف المواطنين دائرة التنسيق ومراكز البحث والتفتيش والتدقيق. مما تسببت شكوى ماجدة التميمي بإغلاق هاتف اتصال ابو طبر، وتبين في ما بعد أنه هاتف داخل مكتب مهم في القصر الجمهوري اتت منه مكالمة التهديد، كتبت جمانة مكي كبة في كتاب ذكرياتها (شاهد عيان ذكريات الحياة في عراق صدام حسين) أن ما حدث كان دليلاً لا يمكن دحضه أو رده بعلاقة ابو طبر بمخابرات النظام والقصر الجمهوري، استلم مكي كبة أوامر صارمة بنسيان ما حدث من مكالمة وتهديد واسم ابو طبر، وعدم التطرق إلى الهجوم من قبل عناصر المخابرات على بدالة المأمون والاعتداء الذي طال الموظفين فيها، وكان أكثر المتحمسين لنسيان الموضوع وعدم الاشارة له مستقبلاً هو منذر المطلك زوج أحد بنات أحمد حسن البكر.
   ألقي القبض على مكي كبة بعد نهاية الدوام الرسمي ليوم 15 كانون الأول 1973 واختفى الرجل في اقبية مقر المخابرات في برج الحياة بعد نقلها من قصر النهاية، إلى أن اطلق سراحه عام 1975م.
    بعد مكالمة التهديد بالقتل لماجدة التميمي من قبل أبو طبر، وجدت مقتولة في دارها في المنصور يوم 11 تموز 1973، وهي أحد سلسلة جرائم حاتم ابو طبر التي بدأت. كانت ماجدة التميمي في مقتبل العمر ومن عائلة ثرية، ورثت البيت الذي تسكنه مع زوجها المحامي رشيد مراد رشيد من اهلها. كان موقع الدار مقابل نادي الصيد، وقد جلب موقع الدار المتميز انظار البكر وصدام وخير الله طلفاح.
    كانت جريمة حاتم ابو طبر الاخرى بقتل التاجر اليهودي عزرا يعقوب جوري، كانت رواية حاتم ابو طبر للمحققين بقتله ليهودي يجهل اسمه، تبعه من سوق الشورجة إلى باب الشرجي ثم البتاوين حيث يسكن، وفاجأه داخل بيته وضربه على رأسه بأداته الحديدية الحادة وأرداه قتيلاً، وقد كانت تلك جريمته الأولى حسب أقواله للمحققين عن الجرائم التي نفذها.
    أما جريمة حاتم ابو طبر الأخرى فقد وقعت في دار قرب نفق الشرطة بتاريخ 4/9 / 1973، كانت الدار متواضعة من طابقين تضم عائلة عميد الشرطة المتقاعد بشير أحمد سلمان وزوجته بشرى أحمد خليل المعلمة في مدرسة الازدها وابنهما أحمد 12 عاماً وابن اختها الطالب الجامعي. كان العميد بشير أحمد سلمان أحد المبعدين فأحيل على التقاعد نهاية عام 1971م بسبب شك تحالف البكر/ صدام بولاء العميد للحزب والثورة.
    وكانت جريمة حاتم ابو طبر الأخرى في كرادة مريم داخل بيت على بعد 300 متر من بوابة القصر الجمهوري القريبة من جسر 14 تموز، يملكه الأرمني العراقي جان ارنست، وهو متخصص باستخراج النفط وتسويقه، ويعمل لصالح الحكومة العراقية في علاقاتها المتشعبة مع شركات النفط الاجنبية، وكان وكيلاً عن كولبنكيان في بناء مشاريع عملاقة هدية من عائلة الارمني الثري كولوست كولبنكيان صاحب نسبة الخمسة بالمائة من النفط العراقي، كانت هدية عائلة كولبنكيان للشعب العراقي ملعب الشعب ومدينة الطب وقاعة كولبنكيان للفنون.
   كان سبب تصفية الارمني ارنست من قبل الحكومة العراقية على يد حاتم ابو طبر أن في تشرين الثاني من عام 1971 ارادت شركة نفط العراق جس نبض ورد فعل حكومة البعث فخفضت انتاج النفط من حقول كركوك، كان ردت فعل حكومة تحالف البكر/ صدام قاسية، فطلبت منه السفر في يوم الثلاثاء 25/9/1973 والعودة إلى العراق قبل تشرين الأول 1973، ولكن الذي حدث في ظهيرة الجمعة يوم 28 ايلول 1973، أي قبل عودة الرجل إلى داره في كرادة مريم بيومين بقتل زوجته وخادمتها على يد ابو طبر.
    ثم قام حاتم ابو طبر بغزوات أخرى منها: سرقة دار الدكتور أحمد إبراهيم العندليب في المنصور، الذي كان في وقتها خارج العراق، وقتل حلاق وسرقة داره في النعيرية لأنه استهزأ بأبو طبر واسمعه كلاماً لم يعجبه!، ثم قام بمتابعة طبيباً فحص زوجته لأنه رفض بقائه في العيادة أثناء الفحص لغرض الانتقام منه وقتله، إلا أن الطبيب قد مات قبل ساعة أو أقل من تسلل ابو طبر إلى داخل بيته لغرض قتله.
    عاشت العاصمة بغداد أبان جرائم ابو طبر أيام مرعبة، بعد وقوع جرائم مخيفة تقشعر لها الابدان لعوائل بغدادية كاملة، لم ينجوا منها حتى الاطفال، فكان يتم ذبحهم من الوريد للوريد ويوضعون جنب آبائهم المقتولين داخل حمام الدار.
    في نيسان 1974 حيث ألقت شرطة بغداد القبض على ابو طبر في 30 آذار 1974 في منطقة 52 قرب ساحة الواثق في دار لطبيب عراقي يدعى يوسف بولص بيدروس، كان الدكتور مسافراً خارج بغداد. لكن حاتم ابو طبر عند اقتحامه للدار وجد البار الافرنجي الظريف في الدار، فلم يتمالك نفسه أمام غادة حسناء أو كأس خمرة فاخرة أو سيكارة، فيمم شطره نحو البار بما يحتويه من زجاجات مشعشعة حينما يخترقها الضوء، وجلس يتذوق كل ما في زجاجات البار العديدة.
    تم القاء القبض على حاتم ابو طبر من قبل شرطة مكافحة الكرادة ومن ثم نقله إلى مقر المخابرات، وبعد التحقيق والوعود له بالإمكان من نقله إلى خارج العراق، كي لا يعترف على تحالفه مع ناظم كزار سابقاً وسعدون شاكر حالياً، لكن حكومة البعث غدرت به وحاكمته حتى تاريخ اصدار الحكم عليه وعلى عائلته بالإعدام شنقاً حتى الموت.
    وقد حكمت المحكمة المشكلة بأشراف صدام شخصياً على الجميع بالإعدام، وتنفيذ الحكم في 18 حزيران 1976، رغم أن جرائم القتل قام بها حاتم ابو طبر وابن اخته حسين علي حسون، ولم يشترك بذلك باقي افراد العائلة من نساء ورجال بل كان دورهم بيع المسروقات أو مراقبة ووصف الدار المراد سرقتها.
    كانت الاشاعات كثيرة عن اطلاق سراح حاتم ابو طبر وجميع افراد عائلته المتورطين في جرائمه من السجن وتسفيرهم إلى أوروبا، لكن الطبيب وصفي محمد علي اخصائي الطب العدلي يكشف في مقابلة صحفية له في 20 آب 1980 أنه اجرى الفحص الطبي لجثث المحكومين بالإعدام بعد تنفيذ الحكم في سجن ابو غريب، وتأكد من موتهم جميعاً.
    كان يجب تصفية حاتم ابو طبر وعائلته لأنهم شهود غير مرغوب فيهم عن جرائم تحالف البكر/ صدام منذ عام 1970م ولغاية آذار 1974م وهي الفترة التي شهدت جرائم قتل وحشية لمعارضين وغير معارضين لإشاعة الخوف والرعب في المجتمع البغدادي والعراقي عامة.
 
المصدر: الدكتور عدنان عباس عبود، ابو طبر قصة قاتل، بغداد، دار ومنشورات جلجامش، ط1، 2023.

49
الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي (الحلقة الرابعة والأخيرة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
   
    مرت العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث في العراق بكثير من حالات التقارب والتنافر، وبخاصة بعد عودة حزب البعث الى الحكم ثانية في السابع عشر من تموز 1968، إذ دعا البعثيون في البيان رقم (1) الصادر صباح يوم السابع عشر من تموز 1968 الى تناسي خلافات الماضي. كما وعد البيان بتشكيل مجلس يمثل القطاعات الوطنية والشعبية كافة على أساس تكافؤ الفرص وسيادة القانون، ويبدو أن الدعوة الى تناسي خلافات الماضي كانت موجهة للشيوعيين أكثر من غيرهم.
    عقدت حكومة البعث في التاسع من نيسان 1972 معاهدة بالغة الأهمية مع الاتحاد السوفيتي، وكانت هناك ضغوطات من قبل السوفييت على قيادة الحزب الشيوعي العراقي بالتفاوض والموافقة على التحالف الجبهوي مع حزب البعث، وافق الحزب الشيوعي العراقي وقبل أن تخرج مباحثات تشكيل الجبهة بنتيجة، عرض البعثيون على الشيوعيين الاشتراك في الحكومة القائمة بوزيرين، فوافق الشيوعيون على العرض وتناسوا مقتل قياداتهم واعضائهم بشكل وحشي في الثامن من شباط 1963، وبناءً عليه عُين في الخامس عشر من ايار 1972 مُـرشحا الحزب الشيوعي كل من المحامي عامر عبد الله وزيراً للدولة، وعضو اللجنة المركزية للحزب مكرم طالباني وزيراً للري، وقد جاءت معظم أو كل هذه الإجراءات في سياق تقوية موقف الحكومة استعداداً لتأميم النفط، الذي حصل لشركة نفط العراق في الأول من حزيران 1972، ودعم الحزب الشيوعي خطوة التأميم بحماس، لكن تداعيات عملية التأميم قد تسببت بتوقف المفاوضات الخاصة بتشكيل الجبهة من دون التوصل الى اتفاق.
    وبناءً على ما تقدم يمكن القول ان العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث قد شهدت الكثير من حالات الشد والجذب، أو بمعنى أدق انها قد شهدت الكثير من حالات العنف والقليل من حالات العمل المشترك، الذي مهد الطريق لتشكيل ما سُميَّ بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) عام 1973.
    أصبحت الأجواء في خريف عام 1972 مهيأة لعودة الحوار بخصوص تشكيل الجبهة بعد نجاح عملية التأميم، لذا نشطت من جديد المفاوضات بين الحزب الشيوعي وحزب البعث من أجل الخروج بصيغة توافقية لتشكيل التحالف المنشود.
    برزت في أثناء المفاوضات التي نشطت من جديد العديد من نقاط الخلاف، لعل أهمها إصرار حزب البعث على قيادة الجبهة ورفض الحزب الشيوعي لهذه المسألة. لكن هذه الخلافات لم تجد طريقها للحل إلا بعد مرور عدة أشهر تعرض خلالها الحزب الشيوعي إلى العديد من الضغوط ومن عدة جهات في سبيل الموافقة على تشكيل الجبهة بشروط حزب البعث.
    حثت الدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي الحزب الشيوعي العراقي على الدخول في تحالف جبهوي مع حزب البعث من دون تحفظات، إذ بات لهذه الدول في العراق كثير من المصالح السياسية والاقتصادية، لذا سعت بقوة لتعزيز نظام حكم حزب البعث فيه، فيما ساندت الأحزاب الشيوعية العربية عموماً النظام البعثي في العراق، لانتهاجه بحسب ما ترى سياسة معادية للمصالح الغربية، وكان للحزب الشيوعي السوري دور مميز في الضغط على نضيره العراقي، ولا يبدو هذا الأمر غريباً إذا ما علمنا أن الأول قد دخل مع حزب البعث السوري في تحالف جبهوي بشروط مشابهة لما طرحه حزب البعث الحاكم في العراق مثل قيادة الجبهة واحتكار العمل السياسي في الجيش.
    تأثر الحزب الشيوعي العراقي كسائر الأحزاب الشيوعية في بلدان العالم الثالث بنظريات التحول اللارأسمالي نحو الاشتراكية التي كانت رائجة في الاتحاد السوفيتي أبان عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكان ينظر الى نظام حزب البعث بأنه متجه نحو الاشتراكية من هذا الطريق، غير أن بعض الباحثين يرى بأن تبني حزب البعث للاشتراكية لم يكن نابع من إيمانه بها، بل كان مقدمة لفرض سيطرته على الاقتصاد العراقي بشكل كامل، لأجل توطيد سيطرته السياسية في البلاد.
     ومهما يكن من أمر، فعلى الرغم من كل ما تعرض له الشيوعيين من ضغوط إلا أن قيادتهم ظلت مترددة، وغالبية قواعد الحزب كانت رافضة لفكرة التحالف مع حزب البعث، بسبب ما لها معه من ذكريات مؤلمة، بيد إن هذا الوضع حسم بضغط كبير مارسته موسكو على الشيوعيين العراقيين للقبول بالشروط التي طرحها حزب البعث للتحالف، وبعبارة أخرى إن الحزب الشيوعي العراقي ما كان لينضم إلى تحالف جبهوي يقوده حزب البعث لولا الضغط الكبير الذي تعرض له من جانب الاتحاد السوفيتي، الذي كان يفضل التعامل مع الحكومات أكثر من التعامل مع أحزاب المعارضة.
    اضطر قادة الحزب الشيوعي إزاء هذا الضغط الكبير إلى إبداء المرونة تجاه القضايا الخلافية وفي الجانب المقابل وافق حزب البعث على إعادة صياغة القضايا المختلف عليها في الميثاق، لكن الصياغات الجديدة لم تختلف من حيث الجوهر عن الصياغات القديمة باستثناء وضعها في أطر فضفاضة، وخصوصاً النقطة المتعلقة بقيادة الجبهة التي تم إعادة صياغتها بالشكل الآتي: (إن إقرار ميثاق العمل الوطني بصيغته اليوم، يعتبر الإعلان الرسمي لقيام جبهة الأحزاب.. ويحتل حزب البعث.. موقعاً متميزاً في قيادتها وهيئاتها، ويقود السلطة السياسية في الدولة كما يقود مؤسساتها الدستورية). وإن كانت هذه الفقرة لا تنص صراحة على قيادة حزب البعث للجبهة غير إنها تعني ذلك من حيث الجوهر، وإن موافقة الشيوعيين على هذا الأمر يعد خروجاً على مقررات المؤتمر الوطني الثاني للحزب الشيوعي، أي أنه خروجاً على الشرعية الحزبية، لأن المؤتمر الوطني يعد أعلى سلطة قرار في الحزب الشيوعي، مما يعني إن أي إجراء أو قرار مهم يراد اتخاذه خلافاً لمقررات المؤتمر السابق يستدعي عقد مؤتمر جديد وهو ما لم يحصل.
    أما بخصوص عبارة (تصفية الكيان الصهيوني) الواردة في ميثاق العمل الوطني لعام 1971 فقد عدلت على النحو الآتي: (النضال ضد الصهيونية كحركة عنصرية عدوانية وكنظام عنصري عدواني....)، وإلى جانب ما تقدم هنالك عبارة أخرى تخص الأكراد جاءت في ميثاق 1971 بالصيغة الآتية: (إن ممارسة الجماهير الكردية لحقوقها القومية المشروعة بما فيها الحكم الذاتي تتم ضمن إطارها الطبيعي الذي تجسده وحدة السيادة الوطنية ووحدة الأرض ووحدة النظام السياسي في الجمهورية العراقية.. كما تتم أيضاً على أساس الإقرار والإيمان بان العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي). وتم تعديل هذه العبارة بحذف الجملة التي تشير إلى أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، ولم أجد كباحث فيما توافر لديَّ من وثائق ومصادر شيوعية أي ما يشير إلى الاعتراض على ما جاء في هذه الفقرة من ميثاق عام 1971، وعلى ما يبدو إنها عُدلت لكسب ود الأكراد على أمل الموافقة على الدخول في التحالف الجبهوي المزمع تشكيله، وهكذا تم تجاوز أهم العقبات التي كانت تقف عائقاً أمام تشكيل الجبهة من وجهة نظر البعثيين والشيوعيين دون الأكراد الذين رفضوا التفاوض بشأن الجبهة أصلاً.
     عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي اجتماعاً في السادس من نيسان عام 1973، لمناقشة آخر مستجدات المشهد السياسي وفي مقدمتها العلاقة مع حزب البعث، وأشار التقرير الصادر عن الاجتماع إلى أن الحزب الشيوعي قد قدم بعض التنازلات من دون توضيح طبيعة تلك التنازلات، فيما أكد الفقيد زكي خيري بوصفه عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومن الذين حضروا الاجتماع على إنه قد تم التصويت في الاجتماع المذكور على نتيجة المفاوضات مع حزب البعث التي تم قبولها من أعضاء اللجنة المركزية للحزب بأغلبية صوت واحد من مجموع الأعضاء الحاضرين في الاجتماع، أما الحزب الشيوعي العراقي فقد ابلغ حزب البعث بموافقته على الدخول معه في تحالف جبهوي على وفق الشروط التي تم التوافق عليها بين الجانبين، غير إن حزب البعث أهمل الموضوع ولم يرد عليه إلا في تموز 1973، على أثر المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها مدير الأمن العام ناظم كزار في الثلاثين من حزيران 1973.
     كشفت محاولة ناظم كزار عن أن صراعاً مريراً كان يجري داخل حزب البعث الحاكم حُسم بالنهاية لصالح صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، الذي تبنى بنفسه بعد هذا الحدث حواراً سريعاً عجل بالإعلان عن تشكيل ائتلاف جبهوي مع الحزب الشيوعي، ليظهر صدام بمظهر الرجل الحريص على التعامل السلمي مع الأطراف السياسية الأخرى، ملقياً اللوم على ناظم كزار في ممارسة جرائم الاغتيال والتعذيب لكوادر الحزب الشيوعي أمثال كاظم الجاسم وستار خضير وشاكر محمود وأحمد الخضري، غير إن تحميل ناظم كزار لوحده مسؤولية الأعمال اللا أخلاقية التي كان يقوم بها جهاز الأمن مسألة من الصعب قبولها. كما ليس من السهولة بمكان التسليم بأن تلك الأعمال كانت تجري من دون علم القيادات الأعلى في الحزب والدولة.
     اُعدم ناظم كزار في السابع من تموز 1973، وبعد عشرة أيام صدر عن حزب البعث والحزب الشيوعي بياناً مشتركاً أعلن فيه عن الاتفاق على ميثاق العمل الوطني، ولم يختلف هذا الأخير عن الميثاق الذي أعلن عام 1971 باستثناء النقاط التي اشرنا إليها قبل قليل. وقع البيان المشترك في السابع عشر من تموز 1973 كلٌ من احمد حسن البكر بوصفه أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث في العراق وعزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وبهذا ولدت ما اسماها البيان بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، وعقب إذاعة البيان ألقى احمد حسن البكر كلمة بالمناسبة. وبقيام الجبهة انتقل الحزب الشيوعي من خنـدق المعـارضـة إلى قصر السـلطـة، الــذي حــل فيــه مجبراً أو مختــاراً ضيفــاً محدود الحركة والتصرف.
     ويبدو مما ذكره حسن العلوي بوصفه أحد الكتاب الذين كانوا على مقربة من مصادر القرار البعثية آنذاك، إن تحالف حزب البعث مع الحزب الشيوعي لم يكن نابعاً من الإيمان بسياسة إشراك الآخرين في الحكم، إذ أكد العلوي على إن القيادة القطرية لحزب البعث قد وزعت في اليوم التالي لإعلان التحالف مع الحزب الشيوعي تعليمات على الجهاز الحزبي تطلب فيها تقديم أفكار ومقترحات لتفتيت الحزب الشيوعي، وكان اخطر المقترحات التي قدمت وأخذ طريقه للتنفيذ هو دس عناصر من حزب البعث في صفوف الحزب الشيوعي، وأكد الشيء نفسه رحيم عجينة ممثل الحزب الشيوعي في اللجنة العليا للجبهة، مشيراً الى اكتشاف العديد من حالات الاندساس من عناصر بعثية بين صفوف المنظمات الشيوعية.
     يتضح مما تم استعراضه آنفاً إن الجبهة بالنسبة لحزب البعث كانت ضرورة آنية أملتها الظروف الداخلية والخارجية التي كانت تمر بها حكومة حزب البعث، ولم تكن سياسة التحالف يوماً منهجاً استراتيجياً نابعاً من إيمان حزب البعث بتلك السياسة، كما أكد احمد حسن البكر في كلمته التي ألقاها عقب الإعلان عن تشكيل الجبهة، بل إن المسالة معكوسة تماماً، إذ كانت الجبهة بالنسبة للبعثيين تمثل خطوة تكتيكية لعبور مرحلة معينة، ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للشيوعيين، إذ كان التحالف الجبهوي يمثل لهم مرحلة انتقالية نحو الاشتراكية لكنه تنازل تحت وطأة الظروف عما أفترضه من دور قيادي في المرحلة الانتقالية.
     وبصرف النظر عن هذه الرؤية أو ذلك التحليل، فقد توجه الحزبان بعد التوقيع على ميثاق العمل الوطني إلى استكمال الجوانب التنظيمية للجبهة، وبهذا الشأن برزت مسألة مهمة وهي طريقة اتخاذ القرارات داخل الجبهة هل تتم بالأكثرية أم بالإجماع، إذ كان الحزب الشيوعي يؤيد طريقة الإجماع وحزب البعث يرفضها ساعياً بكل حرص إلى تأكيد حيازته أغلبية المقاعد في الجبهة، على الرغم من أن السلطتين التشريعية والتنفيذية كانتا تحت سيطرته، ومع ذلك تم الاتفاق على مبدأ الإجماع من دون أن ينص الميثاق أو قواعد العمل في الجبهة على هذا الأمر، وإنما تم الاكتفاء بتعهد من صدام حسين باسم حزب البعث بالالتزام بهذا المبدأ. وفي السادس والعشرين من آب 1973 نشرت صحيفة (الثورة) البعثية النظام الداخلي وقواعد العمل في الجبهة من دون أية إشارة الى طريقة اتخاذ القرارات.
    إن سياسة التراجع التي انتهجها حزب البعث أكدت أن هذا الحزب كان يرمي من الجبهة أن تكون واجهة لنظامه، وأن يؤيد الشيوعيون جميع قراراتهم ولا يعارضونه. وفي ظل هذا التراجع، عقدت اللجنة المركزية اجتماعاً لها في آذار (مارس) عام 1978، وأصدرت تقريراً طالبت فيه وبإصرار من البعث بضرورة وقف حملات الاعتقالات والشروع بإرساء دعائم النظام الديمقراطي. وقد كانت الاعتقالات بصفوف الشيوعيين الذين أقاموا تنظيمات لهم داخل المؤسسة العسكرية العراقية وهو أمر محظور، وتم فعلاً إعدام 31 من العسكريين والمدنيين الشيوعيين لقيامهم بالإعداد لمحاولة انقلابية وفق مفهوم حزب البعث، ومن ذلك التاريخ بدأت الجبهة الوطنية تتآكل شيئاً فشيئاً حتى انهارت بعد بدء الحرب العراقية. الإيرانية ورفع الحزب الشيوعي شعار "انتهاء الحرب بإسقاط النظام"؛ فخرج الشيوعيون من العراق وعقدوا مؤتمرهم الرابع بعد تقليص عدد أعضاء اللجنة المركزية إلى 15 عضوا وترشيح 10 أعضاء ليكونوا قيادة الظل وهو ما أعتبره البعض إنهاءً للجيل القديم من القيادات الشيوعية ومن ذلك التاريخ أصبح الحزب الشيوعي العراقي ضعيف التأثير في محيطه وتعيش أغلب كوادره خارج العراق والقليل منها في منطقة كردستان العراق التي كانت تشكل حليفا استراتيجيا لهم، حتى جاء وقت احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا 2003م ليظهر الحزب الشيوعي مشاركا في النظام الجديد ومتحالفاً مع تيارات إسلامية كالتيار الصدري وسواه وهو ما أفقد الحزب الكثير من تاريخه النضالي الذي كان يرتكز على معاداة الإمبريالية ومناكفة الاستعمار.

50
بغداد مدينة الخوف بتحالف البكر/ صدام
نبيل عبد الأمير الربيعي
صدر عن دار ومنشورات جلجامش للطباعة والنشر كتاب الدكتور عدنان عباس عبود الموسوم (( ابو طبر قصة قاتل))، د. عدنان عباس عبود، تضمن الكتاب (450) صفحة من الحجم الوزيري ذات الطباعة الرائعة، والمزود بالصور والوثائق، والكتاب يتحدث عن حياة ابو طبر (حاتم كاظم هضم ودوره في نشر الرعب في مدينة بغداد، لكنني تمكنت من استلال موضوعي الموسوم من الكتاب تحت عنوان (بغداد مدينة الخوف بتحالف البكر/ صدام)...
كان لتحالف البكر/ صدام محاولة لترسيخ وتقوية أسس نظام البعث الذي استلم السلطة في تموز 1968م، وكان هذا التحالف يستخدم طرق ووسائل مافيوية عنيفة ووحشية لتصفية معارضيه! كان البكر قد أجاد اظهار الوجه الطيب والمسالم مستخدماً الحيلة والمكر التي جُبلَ عليها منذُ اشتغاله بالسياسة، وهو بعده ضابطاً صغيراً في الجيش العراقي، فيما كان صدام حسين يمثل الشر والقسوة والوجه المخيف لرجل العصابات، والذي يضم حوله قتلة ومجرمين مشهود لهم بالقسوة والتلذذ باستخدام العنف والتعذيب.
أسس صدام حسين منظمة اجرامية مافيوية تدعى (حنين)، جمع فيها اشقياء أزقة بغداد، كانت تهدف إلى تصفية وقتل من تعتبره شراكة البكر/ صدام يشكل خطراً عليها. ضم صدام حسين إلى المنظمة مجرمين لن يقتلوا أو يعذبوا معتقل أو شخصٍ ما لتلقيهم أوامر بذلك فقط، وإنما لتلذذهم وشغفهم ولهفتهم لرؤية الاجساد البشرية ممزقة، أو تلفظ انفاسها الخيرة، أو تتعذب أو تنزف.
اعضاء منظمة حنين اختارهم صدام حسين بعناية فائقة ومنهم: سعدون شاكر الذي اغتال قائد القوة الجوية العراقية العميد جلال الدين الأوقاتي فجر يوم 8 شباط 1963. وعبد الوهاب كريم الأعور، وخلف عبد وآخرين.
كان جهاز حنين بقيادة سعدون شاكر وعضوية سعدون غيدان وحسن المطيري وجبار كردي وسمير الشيخلي وصباح مرزا وخالد طبرة وفاضل جلعوط وحاتم الباوي وكاظم باشا وكامل معلاك وعلي ماما ومحيي الدين مرهون وغيرهم، فيما كان ناظم كزار مديراً للأمن العامة. كانوا جميعاً متفقين على مقترح صدام حسين على جعل الشارع العراقي لا يهدأ، ويجب إيجاد عدو خفي ومستمر بمحاولاته للقضاء على الثورة.
طلب صدام من جميع اشقياء بغداد المتنفذة لتصفية وقتل المعادين للثورة، فعمل ناظم كزار قوائم بالأعداد الافتراضية وتصنيفهم حسب الخطر الذي يشكلونه على الحزب والثورة، وإيجاد الوقت والفرصة للتخلص منهم بالترتيب، واستعمال القنص المباشر والغيلة والغدر بذلك.
كان ناظم كزار قد بات مديراً للأمن العامة وهو المشهور بطرقه الغريبة والشاذة في التعذيب وقتل المعارضين. اتخذ ناظم كزار من قصر الزهور الملكي مقراً لأعماله، والذي سميَّ بقصر النهاية، والذي شهد تعذيب وقتل العديد من رجال الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن محمد عارف، ومنهم رشيد مصلح التكريتي وطاهر يحيى وعبد الرحمن البزاز وآخرين.
في تلك الأيام عاشت بغداد تحت ستار من الخوف والرعب، وتفتقت اذهان مرضى الشر والحقد الأسود وكره الانسانية الذي لا حدود له عن اختراع خطر داهم تقوم به مجاميع يهودية عراقية عميلة للموساد الاسرائيلي، تعاونها مجاميع أخرى مسلمة ومسيحية عميلة للمخابرات الامريكية والبريطانية وفق مفهوم تحالف البكر/ صدام، فكانت تهمة الجاسوسية جاهزة لكل معارض عراقي. في شهر تشرين الأول من عام 1968 اعلن عن إلقاء القبض على 17 يهودي ومسلم ومسيحي يسكنون البصرة وبغداد متهمين بالتجسس لصالح الموساد الاسرائيلي، ومنهم 10 طلاب جامعيين. كانت هناك تهم جاهزة وموجهه إلى مجاميع اخرى منهم رفعت الحاج سري محافظ بغداد وفؤاد الركابي والوزير اسماعيل خير الله ورشيد مصلح التكريتي الحاكم العسكري لبغداد بعد انقلاب 8 شباط 1963 وآخرين حلوا جميعاً ضيوفاً على قصر النهاية. فصدر مرسوم جمهوري في اليوم التالي يوم 16 كانون الأول 1968 بتعيين العقيد الركن علي هادي وتوت كرئيس المحكمة الخاصة بمحاكمة الجواسيس والخونة.
كان المتهم في قضية التخابر والجاسوسية هو التاجر اليهودي العراقي الساكن في البصرة عزرا ناجي زلخا، وقد افحم القاضي وخلال اذاعة القوات المسلحة التي اصبحت بعد سبعة اشهر اذاعة صوت الجماهير بسؤاله للشاهد؛ أن يصف بيته من الداخل والخارج، فلم يستطع وصف دار المتهم بالتجسس عزرا ناجي زلخا من الخارج أو الداخل.
صباح يوم 27 كانون الثاني 1969 زحفت جموع تم نقلها من مناطق بغداد المختلفة بواسطة باصات وفرتها الحكومة إلى ساحة التحرير وهي تهتف بالموت للجواسيس. في الساحة نفسها انشأت عدة مشانق خشبية متقاربة علقت عليها جثث تسعة من اليهود العراقيين اللذين ادانتهم محكمة العقيد وتوت وحكمت عليهم بالموت شنقاً.
اقام تحالف البكر/ صدام حفلات الرقص على جثث الموتى في ساحة التحرير في بغداد، وساحة أم البروم في البصرة، بذريعة التجسس الكاذبة لسببين، أولهما أرضاء الكيان الصهيوني المتشدد في إسرائيل وذلك باشاعة الفزع وسط المواطنين اليهود العراقيين المشهورين بانتمائهم الوطني العراقي، وحثهم بل وارغامهم للهجرة إلى إسرائيل، وثانيهما ارهاب أية معارضة عراقية مستقبلية في الداخل العراقي لحكم البعث.
تفنن ناظم كزار بطرق تعذيبه للشيوعيين ومنهم عزيز الحاج، كان عزيز على اتم الاستعداد للأعتراف بكامل تنظيم الحزب الشيوعي القيادة المركزية وأوكاره واعضائه واماكن تواجدهم ومخابئ الاسلحة والطابعة والمتعاونين مع التنظيم من عامة الناس. وكانت نهاية كزار غريبة على يد صدام، الذي استعجل القضاء عليه بعد محاولة اغتيال البكر، التي يعرف الكثير من الذين عاصروا تلك الفترة انها من تخطيط صدام حسين وتنفيذ ناظم كزار ومجموعته.
ويعتبر الأخوين جبار الكردي وستار الكردي من افضل رجال منظمة (حنين) في تنفيذ جرائم القتل أو التعذيب. كان الأخوين من اصدقاء صدام حسين ويسكنان محلة الفضل في بغداد، واشتركا مع آخرين باغتيال ناصر الحاني أول وزير خارجية للحكومة الانقلابية البعثية في 17 تموز 1968. كان ذلك ضحى يوم 10 تشرين الثاني 1968. صفى صدام حسين الأخوين بارسال صبي صغير أردى جبار الكردي بعدّة اطلاقات في رأسه وبطنه، وارسل محمد فاضل لقتل ستار الكردي. قام صدام بعد عدّة سنوات بقتل ما تبقى من عائلتي جبار وستار الكردي جميعاً.
كانت مهمات الاغتيال والقتل تتم بسرية تامة لا يعرف بها اعضاء المنظمة الآخرين، وإن كانوا في نفس الخلية أو المجموعة. لم يعرف كامل معلاك من رافقه باغتيال حردان التكريتي قرب المستشفى الأميري في الكويت في الثامنة صباحاً من يوم 20 آذار 1971 إلا بعد التقائهم في طائرة وزير الخارجية العراقي عبد الكريم الشيخلي، الذي عاد بهم إلى بغداد بعد زيارة مفاجأة للكويت استمرت يوم واحد. في طائرة وزير الخارجية المتجهة إلى بغداد من الكويت عرف كامل معلاك أثنين من المنفذين واللذين تربطه بهما علاقة صداقة، همات محيي مرهون ومحمد فاضل.
في نيسان 1980 أردى قاتل تابع إلى منظمة حنين والتي عرفت آنذاك باسم مكتب العلاقات العامة برئاسة صدام حسين عبد الكريم الشيخلي قتيلاً في أحد شوارع الاعظمية، حينما كان صحبة زوجته واطفاله لتسديد اجور الماء لدائرة الماء.
فيما اصبح عضو منظمة حنين صباح ميرزا المرافق الاقدم لصدام، فيما عمل أخوه فلاح كمدير في وزارة التجارة، واحتل فاضل البراك رئاسة الأمن العامة والمخابرات، وكان قيس الجندي ضابطاً في الجيش العراقي، فيما عمل علي رضا باوة في السلك الخارجي، وبات سمير الشيخلي وزيراً للداخلية ووزيراً للتعليم العالي وأميناً لبغداد.
واستمرت عمليات الاجرام والتصفية من قبل تحالف البكر/ صدام بتصفية الخصم، ومنهم العقيد الركن عبد الكريم مصطفى نصرت الذي اتهم بميوله الشاذة مع خضير مذكور فهد، ومن ثم تصفية عبد الوهاب كريم الأعور، ومن ثم العقيد الركن محمد علي سعيد قائد الفرقة المدرعة العاشرة، وما تسمى بمؤامرة عبد الغني الراوي؛ فتم تصفية مجموعة كبيرة من الضباط والمدنيين بتهمة عملية الانقلاب، منهم اخصائي صناعة الاسنان حسن الخفاف زوج اخت سعد صالح جبر وجابر حسن الحداد محافظ كربلاء السابق وعبد الله خياط والبير نونو ومطاع الحسامي وسعد شاكر فهمي والعميد الركن المتقاعد محمد رشيد الجنابي، وتصفية عائلة قشقوش في كرادة مريم والقائمة تستمر حتى رحيل هذا النظام المقيت.
كان في نية تحالف البكر/ صدام تصفية الشيوعيين العراقيين، فتفتق تفكيره عن خطة شيطانية، اعطاها مدة زمنية من عام 1970م ولغاية عام 1978م، بدأت أولاً بتصفية كوادر شيوعية معارضة لإقامة جبهة تحالف مع حزب البعث، وتصفية كوادر بعثية معارضة أيضاً للتحالف مع الشيوعيين.
قرر تحالف البكر/ صدام تصفية من عارض أو يعارض تشكيل الجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي اعلن التحالف عن تأسيسها من أربعة احزاب في 17 تموز 1973. كانت الحوادث المميتة على قدم وساق، من تصفية شاكر محمود وأحمد الخضري وستار خضير وكاظم الجاسم وآخرين، لكن التصفيات الحقيقية والكبيرة قد بدأت بعد 1 تموز 1973، أي بعد مؤامرة ناظم كزار، وهي عمليات قتل ممنهج لكل من يشك التحالف بولائه أو معارضته لتشكيل الجبهة التي كان تحالف البكر/ صدام يخطط أن يكون تشكيلها بداية للتصفية والقضاء على الاحزاب التي انضمت إليها، وأولها الحزب الشيوعي العراقي خطوة خطوة!
المصدر:: ابو طبر قصة قاتل، د. عدنان عباس عبود، دار ومنشورات جلجامش، بغداد، ط1، 2023، ص237 وما بعدها.

51
الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    لأجل استجلاء بعض مما يحدث من تغيير أو اجتهاد في النظرية والتطبيق وما شاب ذلك من أحداث داخل الاتحاد السوفيتي والعلاقات التبادلية مع الأحزاب الشيوعية العربية على المتتبع الاطلاع على وثائق الحزب الشيوعي السوفيتي التي تم كشفها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
    كانت تتواجد داخل قيادات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي خصومات وصراعات كبيرة، وأيضاً أفكار وآراء مختلفة ومتضاربة داخل مؤسسات الأبحاث العلمية، ولكنها لا تظهر للعلن، وتلك طبيعة راسخة عند جميع الأحزاب الشمولية. ومن ضمن تلك القيادات يفغيني بريماكوف، وهو سياسي وصحفي سوفياتي، أوكراني المولد روسي الوظيفة، اشتغل بالصحافة خدمة للحزب الشيوعي فاكتشف الشرق الأوسط وألف عنه عدداً من الكتب، وعمل في جهاز الاستخبارات أيام الاتحاد السوفياتي وبعد تفككه، ثم أصبح رئيسا لوزراء روسيا. فكان يقدم للقيادة السوفيتية صورة سيئة جداً عن طبيعة الأحزاب الشيوعية العربية وعملها، في حين رئيس معهد الاستشراق السوفيتي السيد بابا جار غفوروف يحمل تصور آخر ويتحدث بالضد مما يقدمه بريماكوف. ولكن الغريب أن جميع هؤلاء فضلاً عن اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي حين يحضرون اجتماعاً مشتركاً تختفي النزاعات ونبرة الخلاف لصالح توحيد الخطاب الآيديولوجي لعموم الاتحاد السوفيتي.
    علماً كانت هناك رغبة عارمة تجتاح بعض معاهد الدراسات السوفيتية وأيضاً داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. تلك الرغبات والسياسات تعمل لأجل حل وإنهاء وجود الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية والنامية، وتعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية بالذات مع البلدان التي تسلك الطريق اللارأسمالي. فلم يكن هناك بين أوساط القيادة السوفيتية ايجابياً لجميع الأحزاب الشيوعية العربية، وكان يؤشر لحضور أعضاء قياداتها إلى موسكو فقط لغرض تلقي التعليمات والاستجمام.
    ودائم ما كانت القيادة السوفيتية تجد ما يصعقها ويثير استغرابها من تصرفات وأفكار غير واقعية يعرضها بعض قادة الأحزاب الشيوعية العربية. وبدورها فإن تلك الأحزاب كانت تؤله الحزب الشيوعي السوفيتي وتجد فيه المرشد والمعلم والأب الروحي الذي لا غنى عنهُ، ودائماً ما تجد فيه العصا السحرية لحل مشاكلها حتى الداخلية منها. وبدورهم كان السوفييت يدركون جيداً هذا الأمر ويتعاملون مع تلك الأحزاب بشيء من عدم المبالات، فتراهم لا يعيرون اهتماماً جدياً للآراء التي تقدمها الأحزاب الشيوعية العربية، وفي الغالب يهملون طلباتها التي لا تتوافق والسياسة العامة للدولة السوفيتية. وفي العديد من المرات تراهم يجدون في طلبات الأحزاب الشيوعية العربية ما هو غير واقعي لا بل لا يمكن تناوله والنقاش فيه أو حوله.
    وفي الكثير من الأوقات أهمل السوفييت علاقتهم هذه، ولهذا وضعوا موظفين صغار أغلبهم يعملون في أجهزة المخابرات وليس لهم مناصباً حزبية مؤثرة ليكونوا وسطاء بين الأحزاب الشيوعية العربية والحزب في الاتحاد السوفيتي. ولم يكن ليمر طلب لمقابلة أو اتصال أو التماس وحتى حاجة بعينها إلا من خلال هؤلاء. وعلى سبيل المثال يذكر السيد خليل عبد العزيز في كتابه (هارب من الإعدام ذاكرة شيوعي بين الموصل وموسكو) ص228 "فإن أحد هؤلاء كان يدعى (نيجكين) عمل في فترة ما بعد ثورة 14 تموز 1958 ملحقاً ثقافياً في السفارة السوفيتية في العراق. ثم عين وسيطاً مخابراتياً. نيجكين هذا كان يبتز مسؤولي الحزب الشيوعي العراقي ولا يوافق على إيصال طلباتهم إلى القيادة السوفيتية دون أن يقدم له رشا معينة، ودائماً ما كان يحددها هو وليس هم... وعند قدومي إلى موسكو قابلت الرفيق سلام عادل فنصحني بأن لا أقبل الذهاب إلى مصح أو منتجع لو عرض علي ذلك، فسألته عن السبب، فأجابني بأن ذلك يمثل شيء من الاستخفاف وعدم الجدية للمناضل العراقي".
    كانت القيادة السوفيتية تحمل الحساب للحزب الشيوعي الوحيد وهو الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق محجوب. فقد كان لهذا الحزب رأي حر ومستقل ودقيق وثابت وناضج في علاقاته مع السوفييت، ولم يكن ذيليلاً في يوماً ما خلال قيادة محجوب، ودائماً ما كان الشيوعيون السودانيون يوجهون نقداً حاداً للسياسة الدولية للسوفييت، وهذا الموقف كان يسبب صداعاً وحرجاً للقيادة السوفيتية، لذا كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وفي بعض الأحيان كانت تمتنع عن دعوة الحزب الشيوعي السوداني لحضور لقاءات الأحزاب الشيوعية العربية.
    وفي الجانب الآخر فقد كان أكثر الأحزاب الشيوعية خنوعاً وذيلية، هي بعض الأحزاب الشيوعية العربية مثل: الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش واللبناني بقيادة نيقولا الشاوي والحزب الشيوعي الأردني بقيادة فؤاد نصار وحزب التقدم والاشتراكي المغربي بقيادة علي يعته. فلم تكن لهؤلاء كلمة أو رأي يعتد به عند السوفييت، وإنما عرف عنهم الخضوع وقبول أي رأي يعرض عليهم، فقد كانوا في حالة موافقة دائمة ورضوخ لجميع ما يمليه عليهم الجانب السوفيتي.
    بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدت وثيقة هامة تم الكشف عنها، ويذكر خليل عبد العزيز في مذكراته ص230 قائلاً: "تشير لرسالة موجهة من قبل السيد خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري إلى زعيم الأممية الاشتراكية ديمتروف يطلب فيها اعتماده مسؤولاً مباشراً ووحيداً عن جميع الأحزاب الشيوعية العربية، وتحصر العلاقة به ومن خلاله في جميع ما يخص تلك الأحزاب، وبدوره فقد قام ديمتروف بإحالة رسالة خالد بكداش إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي (السوفيتي) الذي رفض طلب بكداش رفضاً تاماً".

52
الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    ظهرت بين أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات داخل لجنة العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي التي كان يرأسها وقتذاك بوناماريوف آراء جديدة حول العلاقات بالأحزاب الشيوعية في البلدان النامية وهوية العمل من أجل تحقيق الاشتراكية في تلك البلدان، وتبني التطور اللارأسمالي في بناء الاشتراكية.
    كان رأي بونوماريوف والأعضاء المحيطين به حول طبيعة الثورة الاشتراكية وطرق انضاجها أو القيام بها في البلدان النامية، يحمل الكثير من التشاؤم والتطيّر، لا بل كان مفرطاً باليأس ويستكثر على الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان النامية القدرة على تحريك الجماهير أو قياداتها للقيام بمهام الثورة، وإن التفكير بمثل هذا الأمر يبدو ضرباً من الخيال يستحيل تحقيقه,
    بعد فترة من الزمن وضمن حملة ممنهجة ظهر رأي بونوماريوف إلى العلن، وبدأ الترويج له داخل أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي، وأخذت حملة التنظير تتسع بعرض الفكرة القائلة عن إمكانية تحقيق الاشتراكية عبر النضال السلمي وطريق التطور اللارأسمالي، والتخلي عن التفكير بركوب موجة الثورات وضرورة قيادة الأحزاب الشيوعية لعملية تغيير أنظمة الحكم.
    وأخذت تطفو على السطح وبشكل واسع فكرة الضغط على الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية للأخذ بهذا التوجه دون سواه، رغم وجود آراء مخالفة لذلك عند العديد من السياسيين والباحثين السوفييت. كان حقل التجارب الأول في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، فقد كانت هناك داخل القيادة السوفيتية رؤية خاصة ايجابية عن شخصية الرئيس عبد الناصر، ولقيت خطواته التي اتخذها في طريق بناء مصر واستقلالها تقييماً إيجابياً، وبالذات حين رفع شعار الطريق نحو الاشتراكية العربية والتزامه بالنهج الثوري لتحقيق ذلك. وهذا ما أغرى البعض في القيادة السوفيتية بالرغم من كون خطوات عبد الناصر في تطبيقه للاشتراكية كانت غامضة، لا بل متقلبة بين العروبة والإسلام والطوباوية، وكانت لا تعدو سوى خطوات لا ترقى حتى للمربع الأول في طريق بناء الاشتراكية. فراحت بعض القيادات السوفيتية ومثلهم في بعض معاهد الدراسات والصحف وبجهود استثنائية تكيل المديح وتشيد بسلطة عبد الناصر، واعتبرت اتخاذه قرار السير نحو الاشتراكية بداية جيدة ممكن أن تفضي في النهاية ليناء الاشتراكية العلمية، وكان من أكثر المتحمسين لهذا الرأي بوناماريوف ويشاطره في هذا الرأي يفغيني بريماكوف وأيكربيلاييف، وهؤلاء كانوا مقتنعين بشكل ناجز بأن مصر تحت قيادة عبد الناصر تسير في الاتجاه الصحيح، وليس المهم التسميات إن كانت اشتراكية إسلامية أم عربية وإنما المهم هو الابتعاد عن سياسة السوق الرأسمالية وبناء الاشتراكية.
    وحين طرح مشروع الاتحاد الاشتراكي من قبل عبد الناصر أراد من الشيوعيين المصريين أن يتوافقوا كلياً مع رأي وتوجهات السوفييت في البناء السلمي للاشتراكية، ولذا عليهم أن يدخلوا طوعاً ومن ثم الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي. وبدورهم كان الشيوعيون المصريون لا يميلون لرأي القيادة السوفيتية ويترددون في تأييد جمال عبد الناصر، لا بل إن أغلب قواعد الحزب الشيوعي المصري والكثير من قيادته يعتقدون بأن حكم عبد الناصر كان حكماً عسكرياً دكتاتورياً، ودليلهم على ذلك تفرده بالقرار وتضييقه المستمر على حزبهم وحملات الاعتقال المستمرة لأعضائهم من قبل أجهزة السلطة. لكن الضغوط السوفيتية التي وجهت للحزب الشيوعي المصري لقبول الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي مما سرع بالدخول الطوعي كفصيل داخل الاتحاد الاشتراكي العربي، ومن ثم اقناع الشيوعيين المصريين بحل حزبهم.
    تبني هذا النهج في بناء الاشتراكية مما بذل القادة السوفيت بعيداً لتنفيذها في العديد من البلدان النامية، منها: غانا بقيادة كوامي نكروما وغينيا بقيادة أحمد سيكوتوري وأثيوبيا بقيادة منغستو هيلي مريام والصومال على عهد محمد سياد بري. ففي تلك البلدان أنشأت حكوماتها بمساعدة الحزب الشيوعي السوفيتي مدارس حزبية لإعداد كوادر وطنية وفق النظرية الماركسية اللينينية، وكانت تقدم لهذه المدارس مساعدات كبيرة لغرض تطوير الدارسين فيها وبناء قاعدة واسعة منهم تقود بلدانها مستقبلاً نحو الشيوعية.
    في المحصلة العامة، قاد «طريق التطور اللارأسمالي» إلى رأسمالية واضحة المعالم، وليست تحت أسماء أخرى، كانت فيها «السلطة» طريقاً إلى «الثروة» أو الأولى مظلة للثانية. هذا شمل القاهرة ودمشق والجزائر. في مصر، التي هي بوصلة العرب منذ عام 1919، قاد التحول من «رأسمالية الدولة» إلى «اقتصاد السوق»، إلى تحولات مرافقة في السياسة الخارجية وفي «الأيديولوجية الرسمية»، وفي اسم الحزب الحاكم. لم يحدث هذا بعد، ولأسباب عدة متشعبة، في دمشق والجزائر. وفي النتيجة ذهبت نظرية التطور اللارأسمالي لبناء الاشتراكية ادراج الرياح.

53
غالب العميدي مسيرة حافلة بالإبداع والعطاء
نبيل عبد الأمير الربيعي
     صدر عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع، كتابي الموسوم (غالب العميدي... مسيرة حافلة بالابداع والعطاء). كُسِرَ الكتاب إلى سبعة فصول، وتضمن الفصل الأول السيرة الذاتية للفنان غالب العميدي، أما الفصل الثاني فبحث في بدايات العميدي في مجال المسرح، و الفصل الثالث دورهُ الريادي في نقابة الفنانين في بابل، والفصل الرابع دوره الريادي في النشاط المدرسي، والفصل الخامس تجربته في التأليف، أما الفصل السادس آراءَهُ حول المسرح العراقي، وتضمن الفصل السابع ما قالو في السيد العميدي من الأدباء والفنانين، وأخيراً ملحق الكتاب الذي شمل جدول يمثل الأعمال الفنية في التأليف والإعداد والإخراج في المسرح والإخراج في فن الأوبريت، والتمثيل في المسرح والأوبريت والسينما والتلفزيون والإذاعة.
   اعتمدت في الكتاب على عدة مصادر من خلال اللقاءات وما زودني بها السيد العميدي من مؤلفاته في مجال المسرح والسيرة الذاتية. اتمنى أن يخرج الكتاب ليسد فراغاً في المدرسة العراقية والعربية في مجال المسرح. وأخيراً يطيب لي أن أقدم شكري الجزيل لكل الذين حاورتهم بشأن هذا الموضوع.
    ونتأمل لكل ما يجري اليوم في العراق من تحسن وإعادة عجلة الحياة بجميع مفاصله إلى ما كان عليه، وما يصبوا إليه لمستقبل موهوم، وهو الشيء الذي يجعله من ألفه إلى يائه نفياً لتبرير الفساد المستشري الآن بمختلف الصيغ والأشكال. ومن ثم، فإننا نقرأ فيه مشاعرنا واحاسيسنا ونقمتنا ورؤيتنا ورغبتنا وأشياء أخرى نضمرها ونسعى إليها.
    فالعراق ليس اسماً ومسمى، بل هو الأنا القابعة في كل فرد منا، وفي معرض تسليط الضوء على مسيرة الفنان المسرحي غالب العميدي الحافلة بالتأريخ الفني من خلال التمثيل والإخراج والتأليف، والعمل المهني في مجال نقابة الفنانين، نستعرض ملامح الأمل التي كثر فينا، والتفاؤل صوب إرساء أسس جديدة قادرة من حيث محتواها المعرفي واسلوبها الموضوعي والعلمي، على جذب الفنانين والأدباء والمثقفين من أجل تفجير الطاقات الفنية الكامنة والمكبوتة، بسبب العزلة الطويلة التي تعرض لها العراق بعد الإحتلال الأمريكي عام 2003م، وهي عزلة ما زالت تطبع بآثارها الحزينة أفئدة الجميع وهمومهم، وهو الحزن الكامن في الروح العراقي وفيما يسعى إليه.
    إننا نسمع ذلك الحزن في شكوى القصيدة وغناء الأمهات وحنين الصبايا والتضرع المعجون بالرغبة الصادقة في تقديم نذر للأسماء التي ترتقي إلى مصاف المقدس الذائب في الذكرى بعد عقود مريرة، مما جعلت العراق مهمشاً، وجعلت الفنان والأديب والمثقف مهمشاً أيضاً.
    كان الأمل في أن ينهمك الأغلبية بعد عام 2003م بما يسمى عام التغيير في إعادة بنائه بوصفه عراقنا نحنُ، دون أن تقع بحبائل التفاؤل المزيفة لأحزاب السلطة، أو اليأس المتباكي من تعاسة الواقع.
    نلاحظ بمنهجية الصبيان في تفننها البليد بتخريب كل ما لا يستجيب لذوقها، وكان ما كان للفن المسرحي والتشكيلي والفن النحتي من إساءة وإهمال، وهي حالة يمكن تفهمها حالما ننظر إلى المراهقين والصبيان.
    من يتأمل ولو عن بعد ما في تاريخ العراق من حقائق أدبية وفنية تاريخية، فإنه سيرى روحهُ تتبختر وعقلهُ يمتحن أمام مهمة البحث عن حكمة في كل ما جرى ويجري، من خلال استقراء مدارسه الفنية وأفراحه وأتراحه وصعوده وهبوطه للَضّم خيوطه الجميلة. فمن يقرأ تأريخنا، فإنه يقف بالضرورة أمام الحقيقة القائلة: بأن هوية العراق المدنية أعرق وأوسع من كل ما قيل فيه.
    فقد أنجب العراق العديد من الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين، وعدداً هائلاً من المفكرين والمؤرخين والأبطال على مدار السنين، فهم الكوكبة التي رسمت ملامح العراق الكونية وهويته الخاصة، وجعلت منهُ عالم القدرة الدائمة على العطاء والإبداع، كما جعلت منهُ مكان المأساة التاريخية الكبرى الحديثة، وهي مأساة لم تتحول بعد إلى موضوع العلم التاريخي والإبداع الروحي والأدبي والفني.
    إن مأساة العراق الحالية لا يمكن تأملها بمعايير البكاء على الأطلال، لأن العراق ليس أطلالاً، بل كوناً وكنزاً ولُغزاً. إننا بحاجة إلى أقلام تاريخية جبارة تفهم دروس الماضي، وتتأمل المستقبل بروية دون عجالة.
    فإننا بحاجة إلى مشروع واقعي وعقلاني، وهي مهمة ومسؤولية وواجب بقدرٍ واحد بالنسبة لنخبة الفكر الكبيرة. فالعراق ما زال أرض الممكنات الكبرى وميدان حل اشكاليات الوجود الخالدة، والعراق غائر في ذاتنا وروحنا شأن النخيل الغائر في أجسادنا، وعراقتهُ تقترب من اللغز في أرواحنا.
    فحقيقة العراق ليست جغرافيا، بل أكبر وأوسع وأعمق وأعرق، كما أنها ليست زمناً، بل تاريخاً. ومن خلال تتبع تاريخ العراق الثقافي والأدبي والفني والسياسي، نجد أن هناك تعثر استئثار العقل والفكر لنتأمل ما جرى ويجري من انحطاط مختلف مظاهر ومعالم الفقر العلمي والمعرفي اليوم بسبب الطائفية والعرقية. لكننا لا يمكن أن نعيش بهذه الأفكار السوداوية إذ علينا استحضار أرواح وحياة كل أولئك الذين وطئوا هذه الأرض المعطاء، ورسموا صورة الحضارة بأبهى اشكالها من خلال السجال الفكري والحضاري والفني الذي أثرى مكونات الحضارة العالية.
    ويبدو لنا من خلال قراءة التاريخ، أن كل المسارح العريقة قد تعرضت لضغوط الكنيسة التي تحكمت فترة من الزمن في القرار السياسي، فقد تعرض المهرجون في روسيا والذين يشكلون البداية الحقيقية للمسرح الروسي لمثل هذه الضغوط من قبل رجال الكنيسة. ولكن مؤلماً لنا جميعاً أن بلادنا العربية قد عرفت المسرح بشكله الحديث مؤخراً.
    أما في العراق فقد تأسس المسرح الديني على يد المدارس المسيحية في مدينة الموصل. وللصلة التي كانت تربط المدارس المسيحية بكنائس روما وباريس، حيث كان الرهبان يرسلون للدراسة هناك. وذلك واضح من خلال المسرحيات التي كانوا يقدمونها وهي تمثيليات معربة عن الفرنسية والإنكليزية كما يقول الدكتور علي الزبيدي؛ وهي تحمل الأسماء ذاتها مثل آدم وحواء ويوسف الصديق، وهو النوع الديني الأخلاقي الذي انتشر في القرون الوسطى، ولكن وجود المسيحيين في بلد إسلامي وضمن أكثرية اجتماعية ودينية إسلامية في مدينة الموصل وحتى العاصمة بغداد لم يحقق الانتشار الذي حظي به المسرح في أوروبا، لأن التمثيليات الدينية التي كانت تقام في روما وباريس وغيرها كانت تقدم في الميادين العامة الكائنة أمام الكنائس، أما في العراق فانحصرت في الكنائس والمدارس الدينية الملحقة به.
    ويبدو أن هذا النمط المسرحي الديني، والذي بقي حبيس الكنائس والمدارس العراقية، لم ينجح إلا حينما بادر المسرحيون إلى اختيار نصوص تاريخية تحاكي بها المشاعر القومية، ومثال على ذلك مسرحية بعنوان (الوطن) والتي قدمت عام 1908م، بينما عرضت على مسرح مدرسة الكلداني مسرحية بعنوان (نبوخذ نصر) عام 1889م لمؤلفها الخوري هرمز روسو المارديني، ومسرحية اجتماعية تربوية (لطيف وخوشابة) عام 1893م تأليف نعوم فتح الله سحار.
    أما ولادة المسرح العراقي فقد: "ولد المسرح العراقي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، على مجموعة من الرهبان المسيحيين في محافظة الموصل، فكانت البداية مسرحيات وعظّية لها علاقة بالمسرحيات التي قدمتها الكنائس في العصور الوسطى، وذلك للعلاقة الوطيدة بين الكنائس في مدن الموصل وروما وباريس، حيث كان الرهبان يرسلون للدراسة ثم يعودون إلى العراق للعمل والتدريس في المدارس المسيحية العراقية.
    وحين أسست الدولة العراقية عام 1921م وجد الفنانون العراقيون على قلتهم أن الاستعمار البريطاني يطوق عنق الوطن، فكان المسرح العراقي وطنياً. يقول الباحث والمخرج العراقي محمد سيف في حديثه عن وطنية المسرح العراقي "إن القدر العراقي قد خزن في أعماقه دراما لم تنجز، حتى أصبحت تراجيديا أسطورة قادرة على أن تنجز عملاً مسرحياً بمعناه الحقيقي، إن التراجيديا الأسطورية من وجهة نظري هي مكان أو بالأحرى عرض للعقيدة التي تتأرجح ما بين الواقع والخيال، فالمواجهة اختلاف يأخذ جذره من طقوس عاشوراء".
    بعد اطلاعنا على ما أنجزه الفنان غالب العميدي الذي كان نموذج كتابنا هذا، استطيع القول إنه بحق يمكن أن يكون عينة المسرح العراقي بجدارة لما حققه خلال أربعة عقود أو أكثر من الزمن، من حضور وانجاز متواصل وإضافات نوعية سواء من خلال أعماله المسرحية التي وجدت طريقها للجمهور، أو عبر ما كتبه في مجال التأليف، أو ما شارك به من خلال الإخراج الذي كان بمثابة المختبر لتنضج داخلها تلك الأفكار، وتتطور مواهب الممثلين أو تتلاقح فيها خبرات الفنيين، وتتعمق العلاقة بين طرفي الأرسال والاستقبال, ومن خلال الأعمال الكثيرة والتي أصبحت اليوم تشكل رصيداً في مسيرة المسرح العراقي لا يمكن تجاهله.
                             نبيل عبد الأمير الربيعي. حلة 2022م

54
قراءة في ديوان (أناشيد تشرين) للشاعر عبد الرزاق ناصر الجمعة
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    صدر حديثاً عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل لمطلع عام 2023 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع المجموعة الشعرية: (أناشيد تشرين)، للشاعر البصري (عبد الرزاق ناصر الجمعة)، والديوان يحمل في طياته (42) قصيدة، وبواقع (121) صفحة من الحجم المتوسط. وصورة الغلاف تجسد موقف لأحد الشباب وهو يحمل العلم العراقي؛ وهي أحد صور ثوار تشرين 2019، والشاب يقف بمواجهة قوات مكافحة الشغب. إلا أن القصائد تنبض بالمشاعر الجياشة عن حال أبناء العراق على مر التاريخ، ومن خلال تظاهراتهم المستمرة وهم يطالبون بحقوقهم الشرعية.
    النصوص الشعرية في الديوان تحمل طاقة لغوية تعبيرية، وخطاب مُثقل بالرموز والمشاعر الوطنية أمام كثافة المعنى وتعنُّت اللغة، وهو ما يمنح أثراً جمالياً مخصوصاً، في مجملها تنشد للوطن والناس والشهيد، ومنها: (خيمة الشوارع، مظاهرة، أم الشباب، النداء، المستحيل، الصبر، متى يعود، عقور تشرين، سورة الغضب، وحيدها شهيد، حظر التجوال، المشهد، وطني عراق، المصير، الحل، الإنذار، المرافعة، شباط، إلى المرحوم الدكتور عبد الجبار عبد الله، حتى الموت).
    مَثَلت القصائد أرفع درجات التعبير عن الناس والوطن، وهي علامات تتجاوز الإشارات والإيماءات، تنطق بصمتها وتسكت بكلامها، فتنشئ مداليات خاصة على صدور المتظاهرين والجرحى والشهداء. ولغة الشاعر عبد الرزاق الشعرية تمثل منتهى التزاوج بين جل العناصر اللغوية التي تشكل اللفظ وتحمله بما تفيض به من معنى.
    والشاعر عبد الرزاق ناصر الجمعة من مواليد مدينة البصرة عام 1937م، وهو من قرية الدورة ناحية البحار التابعة لقضاء الفاو، اكمل دراسته الأولية فيها وتخرج في دار المعلمين الإبتدائية للعام الدراسي (1959-1960م)، وبسبب نشاطه اليساري السياسي نُقل إلى عدّة مدارس ابتدائية، واعتقل وسجن في نقرة السلمان، وزامل عدداً من رفاقه الشعراء والأدباء منهم: سعدي يوسف، الفريد سمعان، فاضل ثامر، مظفر النواب، جاسم المطير وآخرين... وكتب المئات من القصائد التي لم تنشر إلى الآن، ويعتبر هذا الديوان (أناشيد تشرين) ديوانه الأول.
    وفي أول قصائد الديوان تحت عنوان (خيمة الشوارع) يقول الشاعر: يا خيمة الشوارع/ مأوى فتى يقارع/ تَحرْسُكَ القلوب/ في وَلَهٍ تذوب/ وأعينُ كومضة القمر/ تزين الوجوه/ تألقت توثباً ترقباً/ ضيوفك تخندقوا لغايةٍ كما المطر/ مُطَهِّرٌ وجهَ العراق/ فالتحفي السماء/ واستشرفي في الدعاء/ ضممتهم كما العرين/ هم فتيةً تعاهدوا/ ليغسلوا وجه العراق/ تحبُهُ النجوم/ وشمسُهُ تُقبل الجباه/ من أجل هذا يا خيام/ الليل لا ينام/ ينتظر القيام.
    من خلال هذه القصيدة نجد الكلمات ترسم الصوت والإشارة لكل عنصر من عناصرها، وهو النص الشعري الحديث بكل طاقاته اللغوية التعبيرية، وقدرته على انتاج المدلولات المتعددة. والقصيدة خطاب مثقل بالرموز ورقص الكلمات، وكثافة المعنى وتعنت اللغة، وهنا الشاعر يمنح أثراً جمالياً مخصوصاً، يمكن أن نميز به أسلوبه وطرائقه في كتابة القصيدة.
    والقصيدة أقرب إلى التقريرية بميسم حكائي للأحداث لصيغة المضارع، ليتحول بعد كل ذلك إلى الوصف التعبيري الانفعالي الذي يلج فيه إلى الأعماق ويتقمص الدور العاطفي الثوري، فيتحول معه السياق الشعري إلى خطاب تأثيري يجعله يأخذ على عاتقه الدور كاملاً.
    أما القصيدة الثانية التي احاول أن أختم بها مقالي هذا فهي قصيدة (مظاهرة)، الشاعر هنا ينتظر قارئاً جريئاً يفجر ثوابت الخطاب ليملأ الفراغ ويتسائل المعنى، وهو ما يظهر أساساً في طرائق توليف المعنى، وقد تبدو صورة القصيدة في مستوى تشكيلها؛ بسيطة في ظاهرها، لكنها تدعو إلى التفكّر والولوج إلى اعماق المسكوت عنه في القصيدة، ويقول الشاعر في قصيدته: طرت بها ودونما جناح/ بدمعة وحسرة مستعرة/ تلمست يداوي/ بيارق الكفاح/ محافل بين الخيام/ في وسط الزحام/ ليل الفتى يقتات من نهاره/ يفسر الأحلام/ لله در صبرهم!/ قد قارعوا جبابرة/ ليس لهم إلا وعودٍ خاسرة/ والزمر الملثمة/ تداهم الخيام/ يا فتية التظاهر/ هل تحلمون/ بصخرةٍ سجيل/ كما ترون/ بغيتكم كعلكة العجائز/ ما بين لا وجائز/ فهذه معادلة/ كم تقتضي من الزمن/ ما كل غيم يحمل المطر/ وانتم نيام/ قد ملت الخيام.
    أجد في هذه القصيدة شكل الوطن حالة خصوصية لدى الشاعر، لا سيما تظاهرات تشرين التي لم تفارقه، معلناً انتماءه إلى تجربةٍ قلقةٍ تحكي بسردية حوارية محتدمة شجنه لقضية وطن؛ من خلال مقاطع القصيدة. فالوطن والنضال والتظاهرة والسجن والاعتقال تعد عناية الشاعر عبد الرزاق الجمعة، في تجربته الشعرية الحداثية العالية اجدها متميزة أداةً وتشكيلاً ودلالة، وواعية وشمولية تمس مشاعر الفتى العراقي، تقوم على صراع الثنائيات في تصوير هاجس الوطن وأحاسيسه، فالواضح من قراءة قصيدة (مظاهرة) أن الوطن يسكن في وجدانه ويملأ حياته، ممعناً في هموم الإنسان وعلاقته بالمكان في رحلة الحياة. فالوطن روح وحضور بماضيه وحاضره، وآلامه وآماله التي تجلّت في ديوانه الذي يبرز شعريته الحالمة، فالمكان مرتبط بوجوده وقيمته، متوحداً معهُ حزناً ووهناً وهاجساً.

55
دراسة جديدة في جهاد السيد نور الياسري في ثورة العشرين

نبيل عبد الأمير الربيعي
    تعد دراسة (ثورة العشرين ودور السيد نور الياسري وجهاده فيها) من الدراسات الرائدة في تحليل ثورة ووطنية المجتمع العراقي، ليس بسبب الحيادية والموضوعية التي تميز المؤلف السيد عادل الياسري بها فحسب، بل لأن المؤرخ اعتمد رؤية جديدة عندما تيسرت لهُ الفرصة للاطلاع على السجلات والوثائق البريطانية، وتقارير الاستخبارات وملفات الأرشيف الوطني البريطاني للوثائق في لندن، ودراسة الصحافة البريطانية والعراقية والحجازية، ووثائق متحف ثورة العشرين في النجف، وعلى الكثير من رسائل المراجع الدينية وقادة الثورة، وعلى مئات المصادر العربية والعراقية، وعشرات اللقاءات الشخصية.
    كتاب (جهاد السيد نور السيد عزيز الياسري في ثورة العراق التحررية 1920 وصناعة الوطنية.. دراسة في وثائق الاستخبارات البريطانية) الصادر عن الدار العربية للعلوم- ناشرون في بيروت لعام 2018/ الطبعة الأولى، يعد من أهم ما قرأت من كَتَب عن ثورة العشرين.
    الكتاب كُسرَ على مقدمة وإحدى وثلاثون فصلاً مزود بملحق لوثائق الاستخبارات البريطانية، وجاء في مقدمة الكتاب بقلم الكاتب الياسري في ص9 ما يلي: (كان يوم 18 أيلول 1988 نبأً ساراً لكل من قرأ الخبر المنشور في جريدة الاتحاد البغدادية، وهو عزمي على القيام بدراسة عن دور السد نور السيد عزيز الياسري في الأحداث التي مرَّت على العراق. وجاء في الخبر أن تلك الدراسة سوف تتناول دوره من عام 1908-1932م. وكان المرحوم أحد أقطاب ثورة العشرين، وقد لعب دوراً مهماً كجهاده في حرب الشعيبة وثورة العشرين ومؤتمر كربلاء 1922م وغيرها من الأحداث التي مرت على العراق).
    ويؤكد الياسري في كتابه على ظاهرة الصراع بين السيد نور والمرجعية الدينية في النجف كظاهرة فردية في تاريخ المدرسة الأصولية، فضلاً عن اهمال دراسة الثورة العراقية الكبرى في جامعات إيران وتغييب دور الزعامات الوطنية العراقية في الصناعة الوطنية، وجواب السيد الياسري أن (السبب لأن المرجعية الدينية في العراق هي ملك موروث للإيرانيين ومدرستها الأصولية طعناً بالروح العربية الشامخة وعدول بعض قادة الثورة عن تقليد السيد كاظم اليزدي الإيراني الجنسية)، ولا ننسى الحال اليوم سبب تكفير التبريزي للمرجع العربي السيد محمد حسين فضل الله وهو أموال الخمس وعدول بعض تجار الكويت عنه وقلدوا فضل الله، فضلاً عن لعبة الغش والاختفاء من قبل بعض المؤرخين العراقيين لوثائق ثورة العشرين بسبب بعض الأمزجة السياسية كفريق مزهر الفرعون ومحمد مهدي البصير كما يذكر ذلك الياسري في ص12. فتغييب دور السيد نور الياسري القيادي في ثورة العشرين هو عمل رخيص من قبل المؤرخين، فالسيد نور كان سخائه في بذل المال لما يعادل ميزانية دولة (100 ألف ليرة ذهبية) من أجل نجاح الثورة وتحقيق استقلال بلده خير شاهد على وطنيته واخلاصه لقضيته دون تقاعس، ولم تغره الدنيا بغرورها في المناصب والجاه.
    الكتاب يسلط الضوء على مواقف السيد نور الياسري من الاحتلال البريطاني للعراق، ودوره في انتفاضة النجف 1918م، وكذلك دوره في الاستفتاء البريطاني في العراق، وصراعه مع المرجعية الدينية بعد الاحتلال، وانشطته العسكرية في ثورة العشرين وتمويلها، وموقفه من عودة بيرسي كوكس للعراق، وموقفه من تشكيل الحكومة العراقية، وهجرته إلى الحجاز، وموقف السيد النور من الإرهاب الوهابي في مؤتمر كربلاء لعام 1922م، ودفاعه عن عروبة الموصل، ورئاسته لمجلس الأعيان.
    في مقالي هذا سأسلط الضوء على انتهازية بعض المراجع والشيوخ الذي ذكرهم المؤلف في كتابه من خلال المفاوضات مع قادة الاحتلال البريطاني لأنهاء الثورة، فيذكر السيد الياسري في كتابه ص450 عن دور الشيخ علي مانع وانتهازيته وهو المحسوب على موالية الأتراك قائلاً (لا سيما أن الشيخ علي مانع عين قاضياً في النجف وخصص له راتباً شهرياً من قبل السلطان عبد الحميد... وبعد انتهاء الثورة ذهب المانع إلى إيران، ثم اعتزل التدخل في الأمور السياسية. كان عضواً في جمعية الهيئة العلمية التي كان جميع أعضائها من الإيرانيين والتي تأسست 1909.. وكانت العناصر الأقوى في حلبة الصراع هم العناصر الفارسية الإيرانية ذات الدوافع القومية الفارسية. ويأتي في مقدمتهم السيد أبو القاسم الكاشاني وحتى بعد انتهاء الثورة وهجرته إلى إيران). ويسلط الضوء السيد الياسري على الدعم المالي للأتراك في النجف لتغيير مسارها، واعتماد الياسري على التقارير البريطانية في ذكر هذه المعلومات. فكان للدور الفارسي في إطفاء نار الثورة من خلال العناصر المهرجة الإيرانية، وهم فئة من الروزخونية التي تتهم الآخرين بالجبن والخيانة عند قبولهم التفاوض، وكما يذكر الياسري في ص451 قائلاً (كان على رأس القائمة الروزخون الذي لم ينضج سياسياً الشيخ باقر الشبيبي. وقد ظل مهرجاً حتى قدوم الأمير فيصل من الحجاز إلى العراق ومعه زعماء الثورة، وعند زيارته إلى مدينة النجف؛ قام ونبز معارضاً لفيصل في وسط مجلس الاحتفال، حتى اندهش القوم كيف يرتّقوا فتقه أمام الأمير فيصل..!)، كان الشيخ الشبيبي معروف من خلال خطبه وقصائده المداحة يوماً للثورة ويوماً لفيصل الذي لم ينفعه، وكان رصيده في مناقشة المجلس التأسيس في نقاشاته بنك من الشتائم، ويؤكد ذلك السيد الياسري في هامش صفحة 452 متسائلاً (يا ترى ما هو السر في ذلك؟ والتساؤل هل يشبه دور الشيخ باقر الشبيبي في الإعلام دور محمد الصحاف أبو العلوج وزير الإعلام؛ أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق؟ ويروى أن الصحاف جاء للأمريكيين وقال لهم: أني أنا الصحاف وزير الإعلام؛ فقالوا له ما لنا شأن ...!)، فكان موقف الشيبي كموقف الصحاف من الاحتلال والحكومة.
    كما يذكر السيد الياسري في ص453 من كتابه فتوى الشيرازي بثورة العشرين عندما رقى المنبر السيد مرزة إبراهيم الزنجاني لقراءة الفتوى قائلاً (صلاة العلماء أفضل من دماء الشهداء حتى من أبي الفضل العباس (ع). فقامت قيامة العشائر والأعراب وكافة الحضور لو لم يتداركه عقلاء القوم بذكائهم لوقعت ما لا تحمد عقباه؛ بقولهم أن السيد مبتّل بمرض الاعصاب وتوجد خفة في عقله، وأخفوه عن الأنظار؛ وهكذا انفرط الأهلون وانتهى الاجتماع)، هذا موقف من مواقف بعض روزخونية الحوزة من شهداء ثورة العشرين، كما نقلها المؤلف لنا عن مذكرات محمود حلمي في كتاب (كربلاء في ثورة العشرين ص189) للمؤلف السيد سلمان هادي آل طعمة.
    فضلاً عن دو الشيخ حسن نجل شيخ الشريعة بعد وفاة الأخير واستغلاله الفرصة في مخاطبة الثوار، يوثق ذلك السيد الياسري بوثيقة حصل عليها من المتحف الوثائقي لثورة العشرين في النجف رقم (م ع/31 النجف)، فأراد الشيخ حسن أن يأخذ دوره في الأحداث (حيث أراد أن يقلد الشيخ محمد رضا نجل الشيخ محمد تقي الشيرازي في الزعامة ويأخذ دوره في الأحداث، لكن هيهات بينه وبين محمد رضا في التفكير والتدبير... فقد ألتفَّت العناصر الانتهازية من الإيرانيين الحالمين بالزعامة حول الشيخ حسن نجل الشريعة؛ ويمكن القول أنه كان {الختم المسروق}، أي أنه كان يكتب الرسائل إلى قادة الثورة الميدانيين وزعمائها الفعليين في الاستمرار بالثورة، وكأنه المرشد العسكري؛ والقائد الفعلي للثورة) ص453. ثم يربط الكاتب مواقف أبناء المراجع في ثورة العشرين ومواقف أبناء المراجع من الاحتلال الأمريكي بعد عام 2003 في هامش نفس الصفحة، فالكاتب جريء في تحليل المواقف ووضع النقاط على الحروف خدمةً للحقيقة في عالمنا اليوم الذي ابتلى الكاتب بمخاوفه من قول الحقيقة رهبة من التصفية والتغييب.
    وقد وثق الكاتب في كتاب دور السيد كاظم اليزدي المخالف لثورة النجف وثورة العشرين، ففي هامش ص454 يذكر عنه قائلاً (المجتهد الأكبر السيد كاظم اليزدي الذي كان يقبض المنح الكبيرة من الإدارة الملكية البريطانية)، وكان لذكر المعلومة هذه من خلال اعتماد الياسري على كتاب فيليب ويلارد ايرلند (العراق دراسة في تطوره الساسي ص194).
    أما رأي المؤلف في وثائق ثورة العشرين فيقول في ص456 وما بعدها (لا بد من القول ليست كل ورقة عثرنا عليها لحدث ما تصبح وثيقة في التاريخ. والسؤال الأهم لماذا لم يكتب المؤرخون عن الاجتماعات بين السيد نور وشيخ الشريعة أثناء الثورة، والتي استمرت أشهر وقد قضى السيد نور معظم أوقاته في النجف؟... ولا بد هنا من التذكير من مواقف شيخ الشريعة بعد انطلاق الثورة في الرميثة كان مهادناً وسلبياً على الثورة... وكان العنصر الأكثر خطورة على الثورة وفرص السلام، وقيادة شيخ الشريعة الاصفهاني الدينية باسم المرجعية الدينية التي أسهمت بالقضاء على الثورة في وقتٍ مبكر. ولا شك أن هذه العناصر أرادت أن يذبحوا {وثيقة وطن} وهي في المهد. لقد كان دور وعقلية شيخ الشريعة الاصفهاني في الثورة أشد وأخطر من دور أبي موسى الأشعري في التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب (ع) في معركة صفين)، وقد كان شيخ الشريعة يدعو الثائرين إلى إيقاف العمليات العسكرية حين انطلقت الثورة في اسابيعها الأولى، وحين أراد الثوار في الميدان السلم بعد الانتصارات المتوالية رفض دعوة قوات الاحتلال للمفاوضات. ومن المفارقات أن يكتب شيخ الشريعة فتح الله الأصفهان إلى بيرسي كوكس في صفر 1339هـ يطلب منه المفاوضات للسلام؛ وكان رد عليه الأخير عليه بالرفض. ومن المدهش حقاً أن يخير شيخ الشريعة رؤساء عشائر الرميثة بعد الانكسار في كربلاء رداً على رسالتهم؛ بين مفاوضات الحكومة وبين الرفض. وسؤال السيد الياسري أعلاه في غاية الأهمية، لكن هذا الموضوع لم يدرس بسبب تبوأ الطفيليين والانتهازيين والمرتجفين من الكتاب والمؤرخين مجالس الوراثة واخفاء الحقائق، ليظهر قادتهم هم الداعمين والممولين للثورة.
    وفي ص458 يجيب السيد الياسري عن سبب دعوة شيخ الشريعة والعلماء الإيرانيين لأستمرار الثورة قائلاً (كان استمرار الثورة يعني إرسال المزيد من قوات الجيش البريطاني من إيران إلى العراق. ليخفف العبء عن الإيرانيين وإيران في حالة الهيجان والثورة؛ وهذا ما كان يطمح إليه رجال الدين الإيرانيين في النجف فرفضوا المفاوضات؛ وضيعوا فرص السلام؛ وكسبوا المكاسب القومية لبلادهم وخسر العراقيون المصلحة الوطنية). وكان السبب الرئيسي لفشل الثورة هو الانشقاق الخفي بين المرجعية الدينية وزعماء العشائر وبداية الهزيمة للثوار، وكانت أول عشيرة خانت الثورة كما يذكر السيد في كتابه ص459 (آل مسعود في كربلاء بعد وفاة الشرازي. وكانت أحد أسباب فشل الثورة العراقية الكبرى؛ هي الخيانة والتخاذل من بعض رؤساء العشائر... وجاء في تقرير إدارة المسيب (البريطانية) لعام 1920-1921م: بقيَّ الشيخ علي الدليمي الغريري ورشيد العلي الجنابي مخلصين تماماً؛ ولم يشترك الشيخ عبد الله العزيز المسعودي بأي نشاط في العصيان المسلح. وبقي الجنابيون على ضفة الفرات اليمنى عدائيين نشيطين حتى (21) تشرين الأول عندما سيطر الجنود على المسيب... والجدير بالذكر ورد في التقارير البريطانية أن أهم الأشخاص الذين تزعموا حركة التمرد في المسيب والمحمودية وهم فيصل المغير والشيخ علوان الشلال وخضير عاصي الجنابي).
    من هذا العرض لكتاب الياسري نستدل على مدى جرأته وصراحته في التوثيق، من خلال الاعتماد على الوثائق وتحليلها ليخرج لنا بكتاب فيه المصداقية والحقيقة الواضحة للقارئ والمتابع لأحداث ثورة العشرين في العراق، وهنالك الكثير من الحقائق التي ذكرها السيد الياسري في كتابه هذا لا يسع هذا المقال ذكرها.
   

56
قاتل ورئيس عصابة سطو مسلح يتحول إلى شهيد
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    في دنيانا هذه، هناك أناس ليس من الأدب في شيء أن تبدو أمامهم بصفاتٍ لا يمتلكوها، هؤلاء هم الذين عناهم أبو الطيب المتنبي ببيتيه هذين:
ومن عرف الأيام معرفتي بها                   وبالناس روّى رمحه غير راحم
فليس بمرحومٍ إذا ظفروا به                     ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
    في بلدنا العراق بالأخص، هناك طباع تدفعنا إلى إخفاء العَيب واجتناب القول في كل ما يشين الذات والآخرين. ومن مظاهر هذه العقدة النفسية التي يعزو إليها علماء النفس ازدواجية الشخصية ظاهرة الخوف من ذكر الموتى بسوءٍ، وقد صار مبدأ وجرى به القول المأثور (اذكروا محاسن موتاكم بالخير). وأنا أقول: ليس هناك من خير يعادل ضرر تطبيق هذا القول في تسجيل الوقائع التاريخية، أو تناول أعمال الشخصيات التي أسهمت فيها. فكثير من الموتى قادر على إحداث أذى ما فعلهُ وهو حيّ، بمجرد الاغضاء عما أرتكبه إنقاذاً لسمعته.
    وما يحزنني أن اسمع وفي جلسة في دار السيد (س) مع نخبة من الباحثين والكتاب والأدباء لتوثيق مرحلة تاريخية مهمة في تاريخ حزبٍ عرف بسيرته، وما سمعته من والد رئيس العصابة القتيل (اليوم يدعى الشهيد)، أن ولده كان يقود عصابة سطو مسلح في عهد النظام البعثي السابق مع زمرة من رفاقه، وبتوجيه من والد رئيس العصابة بالقيام بعمليات سطو مسلح على المؤسسات المالية لدعم التنظيم الذي يقوده في منطقة الفرات الأوسط، ومن المحزن أن تسمع أن هذه العصابة المنحرفة بعد عملية السطو المسلح تقتل على يديها النفس التي حرم الله قتلها دون رحمة، ويلوذوا القتلة بالفرار والسكن في إحدى فنادق العاصمة بغداد، ويدعّي والد ما يدعى (أبو الشهيد) إنه هو من دعاهم للقيام بهذه الأعمال لدعم تنظيمه مادياً، لكن الأجهزة الأمنية بالمرصاد لهم ويتم إلقاء القبض عليهم ويساقوا إلى المحاكم ومن ثم إلى حبل المشنقة.
    ومن المؤسف والمحزن أن عائلة هذه العصابة المنحرفة ينالوا ثمن إعدام ابناءهم بعد سقوط النظام حقوق شهيد، ويعتبر ابناءهم ضمن قافلة الشهداء لذلك التنظيم، وترفع صورهم على جدران قاعة الاستقبال للضيوف، والأب يفتخر بولده كونه قاد تلك العصابة التي قتلت النفس، وسرقت المال العام.
    ولكن عندما يرتفع الوهم والإيهام، وتوضّح الحقائق في نصابها بانكشاف الغامض وما حوفظ سراً، وعندما تقضي الأمانة والذمّة من الكاتب والباحث إعادة النظر على ضوء ما أزيح الستار عنهُ في هذه الواقعة أو تلك، ثم ظهرت الحقيقة بعد حين.
    والمؤلم والمُعيب تجد قادة ذلك الحزب يتهيبون ويحجمون، ولا يجرؤون على خرق حجاب الخوف بإقدامهم على تعديل ما صدر منهم أو من غيرهم من أحكام خاطئة أو مبتسرة، أو ما ظل يجري عند الأغلبية مجرى المسلمات المقدسة التي لا يأتيها ريب. والمسألة لا تحتاج إلى كثير من الحيرة (وإذا كانت الأغلبية سُرّاقاً فإن الأمانة سيعاقب عليها باعتبارها جريمة).
    ويتأخر الزمن ببعض الواقفين على حقائق الأمور، بفضل المراكز التي كانوا قد احتلوها أولياء أمور القتلة سواء في التنظيم أو في المدينة، فضلاً عن الفرص المتاحة لهم، ويخفون الحقائق على الناس فلا يكشفونها إلا بعد أن يتم حصولهم على حقوق ما يسمى (الشهيد) وتحويرها لتبدو من قبيل المسلمات.
    ومن المخجل أن تثق بوالد الشهيد لتكتب عن سيرته النضالية، وكلما أتذكر ذلك يتصبب من جبيني عرق الذم والغم والألم، بعد أن عثرت على دليلٍ بأن هذا الشهيد كان في يوماً ما لصاً وقاتلاً منحرفاً، ومصاباً بلوثة في عقله، وإنه أعدم نتيجة ذلك.

57
تجربة ذياب آل غلام في قصيدة النثر (الحلقة الثالثة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    إن عمق الحالة الرومانسية وغناها الروحي؛ كانت وراء شعرية ذياب واغترابه بالرموز، التي جاءت عِبرَ حركة الموصوفاتَ وجمالية التركيب الاستعاري، وما تحمله في بواطنها من رؤى جديدة إنماز بها من خلال لغة الحداثة الشعرية، فهو ابن ثقافة بيئته التي تمرد عليها ولسان حال مجتمعه الرافض له ولمؤثراته، والشاعر كتب قصائده من خلال خزانته المعرفية، وكانت قصائده الأخيرة الثمرة اليانعة التي اقتطفها ومن ثم تدوينها قصائد رومانسية شفافة تحكي ما يمر به الشاعر، وهذا ما كان حواري معهُ يوم أمس الثلاثاء 29/11/2022 في مكتب الصديق د. نصير الحسيني. وقد وجدته قد ساهمت قصائده في تطوره الخيالي من خلال ميراث اللغة وثقافته الواسعة، ومؤثرات تجاربه المتراكمة، فتحقق ثمارها الإبداعي، وقد منحها بريقاً ورؤيا شعرية.
    وهذا مما يدلل أن الشاعر قد استوعب جهود الشعراء السابقين لسعة اطلاعه وقوة تبصره، وإدخاله بعض العناصر الوافدة إلى نصوصه على طريقته في لحن الصورة المنسجمة. وقد أدرك ذياب آل غلام اللجوء إلى الرومانسية الشعرية وفق لحنٍ واحد في إغناء تجربته، بنصوص رومانسية خصبة بكل طاقاته ورؤاه، ليدخلها في صميم الحالة الشعرية موضوعاً وجمالاً وفكراً وهدفاً، وابعادها عن التسطيح بالتكثيف الدرامي.
    ولو تأملنا في جميع نصوصه الشعرية نجد هناك غنائية تستحضر الماضي، إلى تطغى فيها الشخصية الشعرية من خلال نحت القصيدة والرسم لمتخيل تشكيلي يحل محل الشخص، وهو ليس موضوعاً يسيراً يستطيعه كل شاعر بهذه القوة والفاعلية، وإن من يطلّع على قصيدته (لقاء بعد فراق... كنتِ في أبها)، لنجد فيها عمق الإيحاء:
قالت تعال
حبيباً أو صديقاً تعال
ودّع خلفك كلماتك المثقلات بالحزن
قالت: تعال لأخبئك من الماضي... إلى الغد
يا شاعراً يعيد لي أجنحتي
يعدما اصطادها زحمة الأيام
لأحتسي معه بالحلم ترياقنا.. كأس نبذ أحمر
وربما فنجان قهوة أو شاي
هل ما زلتِ تذكرين صوتي
حين يهرول لكِ قبل خطاي
ليلتقي بكِ.. يُعانقكِ.. يُقبلكِ بلوعة ناي
هل تحتفظين بعد ببقايا عطري فوق نهديكِ
وتحمين ذاكرتها من النسيان
هل ما زلتِ تذكرين وصيتي يا أنثاي
   إن أول ما نلحظه في هذا النص كثافة المسميات (اجنحتي، ترياقنا، نبيذ أحمر، فنجان قهوة، شاي، ناي، عطري، نهديك)، وهنا جاءت الأسماء رغم تراكمها واقتناصها أدوار ورؤى متباعدة، ومسميات لتثير الشجن والحنين إلى منزل الحبيبة الذي غادره مرغماً ليعيش احتراقه، وكانت ذكراها ناراً تصطلي قلبه العاشق الغجري كلما ذكره أو مر في خاطره، ليشير من خلاله إلى شجنه، وحنينه المشبوب الذي لا يزال يغلي بين حناياه شوقاً وحنيناً موجعاً إلى أزمنة العشق وأمكنتها التي خلّفت في مخيلته ذكريات لا تنسى ومواجع لا تهدأ.
    وكانت طاقاته اللغوية المضاعفة تزيد من الرؤى قوة وفاعلية وتنوعاً، ومن خلال قوله:
اخلعي ألمكِ على بابِ عالمنا
وتعرّي تماماً إلا من شوقٍ لرشفة قهوة أو شاي
قلتُ: أذكركِ شطراً أكمله كل ليلة قصيدة وأنام
وأستيقظ لا أذكر سوى الشطر
وأنتظر المساء
أتذكركِ سوناتا غجرية بثلاث علامات
صولا في ضواحيها الكمانجات
وتكتمل كل مساء بالقرنفلات
حين تتلامس تلك الشفاه بنبيذنا
سأكتب كما عادتي وأقول لا أذكركِ مُشاكسة
كي تقولي أنا لا أُنسى..!؟
أنا حروفكَ أمنحكَ نفسي وقتما أشاء
لتصنع منس شعراً كما تريد
ثم أعود غجرية تروضني كي تكتبني خيالاً
    بهذا الإحساس الشعوري الفني أدرك ذياب آل غلام أهمية اللغة، وفاعلية الخصوبة والغنى الجمالي والفني للقصيدة، والارتقاء بها جمالياً من خلال عمق المنظور الإبداعي، وتنوعها وفيوضاتها العاطفية الدافقة، لوقع الكلمة جمالياً في النسق.
 
 

58
تجربة ذياب آل غلام في قصيدة النثر (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    ولعلنا لا نبالغ إن رموز الشاعر تنأى بتجربته عن التقليد، وهذا يدلنا على أن نبضه الجمالي، وحسه المرهف الإبداعي الذي ينقل رؤيته، وتوقه الروحي، واحتراقه الداخلي المشبوب بالعشق والصبابة. فتجربة ذياب آل غلام نابعة من الصميم والاحتراق الداخلي ممتزجة بالزخم الروحي المشبوب بالوله والشفافية والحنين الخالص، التي تبثها رموزه كتيار عاشق لا يهدأ، كما قوله في قصيدته (أتيتُ إليكِ... مطرا):
وأتيت إليكِ بتول
ألملم طيف الحبِّ
بفجّر الحنين داخل خطواتي
لأنثر أوراق الزهور
وأعصر رحيق العطر
لأشم روح متَّيم فيها
في هذه الأبيات يهب ذياب قصيدته عمقاً في الدلالة، ومحفزاتها الشعورية، وأبعاد رؤاها، فضلاً عن أن الشاعر لا يخفي عليه رمز حبيبته المشبعة بالحساسية، والتوق الروحي والشفافية، والفيض الروحي، والنزعة الشعرية المفعمة بالطمأنينة والهدوء، فتأتي رموزه معبرة عن الانسجام الروحي الدافق، وقمة الصفاء. فهو يقتفي أثرها في كل مكان ليصل إلى ظلها الممتد ونورها المطلق، فضلاً عن المؤثرات الفنية في قصائد ذياب الشعرية المحرضة، كما في قوله:
أتيت إليكِ بتول
أقتل غربتي
وسم وحدتي
هارباً... من جزر المنفى
لاجئاً... لأرض شريانك
أتيت إليك
لأسكن مقلتيك
أتلمح نور وفائي
المرصع ببريق النجوم.. يا نجمتي بتول
تعالي تعالي... مطراً، مطراً؟؟
   من خلال قصيدته هذه لا يعتمد فقط حركة الرمزية داخل السياق، وإنما يعتمد على الدلالة الرمزية أو الأسمية كما تبادر إلى الذهن، واعتمد على حركة الأنساق اللغوية، والطقس الإبداعي الذي أثارتني القصيدة في جوها الغزلي البحت، ونبضها الروحي المتوهج. ويتأكد أكثر بالمسميات والرموز المعتادة كرمز (بتول)، وقد يكون الأسم من المعشوقات الصوفية.
    أما في قصيدة (ياسمينة العشق.. سيدة دمشق بتول)، يذكر الشاعر في مطلعها كتيار روحي لا يهدأ أو يهدأ:
حبيبتي شجرة البتولا
بين أشواق الحبِّ والمعرفة
بين الحنين والودّ البعيد لهفة
بين حبي لكِ، أعرف إنكِ محال
لكني أهديكِ الخيال
يا شجرتي، سيدة الظلال الوارفة
فهل تقبلي أشواقي
يا نزهة أعماقي
في سطور أنتِ الحبِّ.. أنتِ الحنان
أقبل.. فآليت العمر يهدى! أهديكِ عمري
أحبكِ بكل ذكرياتي أقبلي آهاتي
هذا إهداءٌ بسيط عن حبٍّ عميق
***
الآن أقول وبأعلى صوتي
لا تنسين اللقاء تحت المأذنة الذهبية
أنني أحبك يا عبير الياسمين الدمشقي
وسأظل أحبك مهما كلفني الأمر
وسأظل أحبكِ كل لحظات العمر
    هنا الإشارة مرة أخرى للرمز (بتول) أو (البتولا)، وهي تمثل الفاعلية للنسيج الجمالي الذي تتخلله الرموز، من خلال الحركة الجمالية في القصيدة التي ارتكزت على المسميات (البتولا، شجرتي، سيدة الظلال، نزهة أعماقي، عبير الياسمين)، وهي رموزاً لمحراب جمال المحبوبة. فالقصيدة تعتمد على بكارة الرمز وفاعليته وجديته، من خلال التجربة الشعرية، المتضمن فيها الإبداع الحقيقي الذي يخلق الرمز المؤثر في تجربة الشاعر، وليؤكد خصوصيته الفنية في قصيدة النثر، وانفرادها برؤاها المعينة وبرموزها الخاصة، النابعة من الصميم لتحفز القصيدة والتعبير عن مدى الوله والعشق للشاعر، وشمولية إبداعه والقدرة على التوصيف.

59
تجربة ذياب آل غلام في قصيدة النثر (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    ذياب مهدي محسن آل غلام، من مواليد العراق، الشامية 1952م، فنان تشكيلي وكاتب وشاعر، وعضو جماعة فنانين النجف 1970م، وعضو نقابة الفنانين العراقيين 1975م، وعضو جمعية التشكيليين العراقيين 1975م، عضو جماعة أدب في النجف 1975م، وعضو جمعية حقوق الانسان العراقية-الأردن2002م، وعضو اتحاد ادباء وكتّاب العراق، ومشارك في الكثير من المعارض التشكيلية داخل القطر وخارجه، وله ثمانية عشر معرضاً تشكيلي شخصي ما بين 1970 – 2009م، وعضو اتحاد شعراء ملبورن/استراليا، وحائز على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية؛ فنية وأدبية.
   وله مجاميع شعرية صادرة، منها: (قطار الشوق (2ج) الصادر في عمان عام 2001م، حبايب ديوان شعر، حياة الأيام ديوان شعر، ليالي البنفسج الصادر في عمان عام 2002م، من سيرة الأيام الصادر في عمان عام 2004م، القرمطي لا يخلع صاحبة الصادر عن دار الفرات، سونيتة الغجر الصادر عن دار الفرات، المشي على أطراف الروح الصادر عن دار الفرات عام 2018م، عاشق مضرج بالنهد الصادر عن دار الفرات عام 2019م). فضلاً عن مؤلفاته (مقهى عبد ننه.. عن تاريخ النجف النضالي في الفكر الصادر عن دار الفرات في بابل عام 2018م، الإسلام والماركسية.. دراسة فكرية مقارنة الصادر عن دار الفرات عام 2017م، القرنفل الشقي.. أوراق من سيرة الأيام الصادر عن دار سما عام 2021م) وكتب العديد من الدراسات الفكرية والمقالات الأدبية والثقافية، ومقالاته التي تجاوزت (270) مقال على مواقع الكترونية وصحافة ورقية في مجالات متنوعة
    الحوار مع الشاعر ذياب مهدي آل غلاب يفسح المجال ويخصبه للنبش والحفر وتقليب أرضة القصيدة، لمعرفة عمقه بقصيدة النثر، وتجربة الشاعر ذياب تشكل بمجملها ظاهرة أدبية في حركة الشعر المعاصر في قصيدة الغزل، فديوانه الأخير (وشم على رئة التراتيل أناشيد تعتقها المنافي) الصادر هذا العام عن دار الفرات في بابل بالمشاركة مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع، وقد تضمن (59) قصيدة عشق للقرنفل الشقي ذياب آل غلام، جميعها تتحدث عن سيرة حياة عاشق، قرمطي النزعة والفكر، قديس اشبه بالملاك، يمتلك قلب طفل مدلل ومولع بالعشق الفطري. أول القصائد كانت بعنوان (استهلال)، تُشبه في اسلوبها تراتيل عاشق عاش أكثر من عقدين في الغربة وهو يحن إلى ظفائر حبيبته الأولى. وكانت مقدمة الديوان بقلم ابنته الدكتور (هلا) تحت عنوان (خطوة في الدرب... نحوك): قصيدة سومرية، أول معزوفةٍ سمعها البشر، زهرة رقيقة في قمة جبل، ماؤها ورحيقها... راهبة في محراب أنسها الوحيد أن تتلو ترانيم وتراتيل طفولتها وكأنها عزف منفرد على وتر اليقين)، ثم تختم الدكتورة المقدمة بكلمات رقيقة: (فلو كان للقلب فن يمارسه لكان الشعر والعزف... فكل قصائده وموسيقاه في صوتك وعينيك).
    واللافت لمن يقرأ قصائده في ديوانه الأخير يجد أن قلب الشاعر يخفق بعشق المرأة، ويقترب في أكثر قصائده من قلب النساء. فهو المبدع الحقيقي، والشخص الحساس والمغترب برؤاه وأفكاره وطموحاته وأحاسيسه القرمطية، وله طقوسه الخاصة، وأحاسيسه المشبعة عشق وغربة، ووعياً وإدراكاً، وتوتراً واحتراقاً، وحرقة وتأمل، فهو الشاعر الذي يختلف في نص قصائده عن الآخرين في فاعلية تأثيره في وسطه الأدبي.
    عرفته منذ عام 1988م من خلال الخدمة في العسكرية، انساناً شفافاً، مخزون بالإبداع والثقافة والموهبة، يمتلك ركيزة معرفية وثقافية حساسة، وهو الأكثر تأثراً وإحساساً، وبعد أن فرقتنا الأيام بعد الحروب والحصار الاقتصادي على العراق، كان لموقع (الحوار المتمدن) الفضل لإعادة علاقتنا الأخوية، بعد أن عرفت أنه مقيماً في استراليا، وقلبه ومشاعره ترنوا لأحداث بلده بعد الاحتلال الأمريكي، ومن ثم زياراته المتكررة للعراق، والإقامة لأكثر من ثلاثة أشهر في كل سفرة، فعاد تواصلنا وحواراتنا بين الاتفاق والاختلاف.
    وهو المبدع المغترب المستمر في حركة دائبة من الحراك الشعوري، والصدام مع الواقع وتحديه، والتمسك والتسلح بكل ما يحمله من روح الجديّة المعاصرة، واللجوء إلى الموروث للإبتكار. وما من شك في أن للرموز الوجدانية نجدها في نصوص الشاعر بحركتها المؤثرة في لغة الحداثة النثرية في قصائده عموماً، وهو الشاعر الأكثر احتفاءً بالرموز في نصوصه، إذ يخلقها خلقاً جديداً، ويمنحها الشفافية والعمق، والحركة والإيقاع، وقد لا نذهب بعيداً في قولنا: إن ابتهاله الهادئ يميل فيه إلى عمق المكاشفة والتأمل، كما في قوله:
ها أنا في الغربةِ وحدي
تحتَ عبءِ الهمومِ
أتلمّسُ نبضَكِ،
ضفائركِ
يا لحظةً جميلةً في ذكرياتي
***
أبحث عن سماءٍ تسقيني
غيثَ السلوانِ لروحي
ثم أغمضُ عيني
لأعانقَ أحلامي
    هنا يطالعنا الشاعر برموزه التي تكشف عن إيحاءاتٍ عميقة، من حيث الابتكار والشفافية والعمق، فهو يبتدع رموزه ودلالاته، ورؤاه الخاصة بعيداً عن مسالك السالفين، فهو الشاعر الذي يفاجئنا بأنساق تشي بالدلالة العميقة، والإيحاءات المبتكرة التي لم نعهدها من السابق عبر حركتها الرمزية المشتعلة قوة، وإيحاء وشفافية روحية وجمال روحي مفتوح الرؤى.
   
25/11/2022

60
لمحات عن النهضة الفكرية والسياسية في العراق
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    على الرغم من أن العراق يعتبر مهد أقدم الحضارات الإنسانية وأعظمها، منذ سقوط بابل عام 115م أحداث أول قطيعة حضارية استمرت حتى الفتح الإسلامي عام 625م، وبالكاد يؤسس الإسلام دولة وحضارة مزدهرة حتى أُسقطت على يد هولاكو. غير أن الانحطاط الحضاري والثقافي كان قد بدأ في الواقع مع دخول العسكر الرعوي السلجوقي إلى العراق، واجهاض الحركة التنويرية للعصر الإسلامي الوسيط، وهو ما شكل قطيعة حضارية أخرى استمرت حتى العصر الحديث، كان من نتائجها:
1-    دخول موجات بدوية واحدة بعد الأخرى.
2-   دخول إثنيات وطوائف ولغات مختلفة.
3-   حدوث أوبئة وكوارث وفيضانات ومجاعة مستمرة.
4-   دخول هجرات وجيوش غازية ومجموعات مرتزقة، وذلك لعدم وجود حدود وحواجز طبيعية للعراق..
    ويلاحظ الباحث الاجتماعي أنه كلما ضعفت الدولة المركزية في العراق خلال القرون الماضية، قويت شوكت القبيلة والطائفة وأخذت بالتمرد والعصيان، وأما المدن فيأخذ رؤساء الطوائف والمحلات بالخروج على سلطة الدولة وعدم طاعتها، ولم يشهد العراق حتى تشكيل الحكم الوطني في بداية القرن الماضي دولة قوية ذات سيادة وطنية وحكم مركزي.
    لكن الانتقال التدريجي من نمط الاقتصادي الذاتي إلى اقتصاد السوق وانتشار النقود ودخول البضائع والسلع الأوروبية إلى الأسواق العراقية في بداية القرن العشرين، أدى إلى ضعف الولاءات المحلية في المدن والولاءات العشائرية في الريف نسبياً، وأدى أيضاً إلى ولادة قوة اجتماعية جديدة، وإن كانت جنينية هي طبقة (الافندية) التي انجبت الانتلجنسيا العراقية، ومن الأفندية والانتلجنسيا معاً تطورت طبقة وسطى جنينية.
    وكان الحدث الأهم في عهد اصلاحات الوالي مدحت باشا (1869-1872م) نقطة تحول في تاريخ العراق الحديث، ومنها إصدار جريدة الزوراء باللغتين العربية والتركية عام 1865م. ومن الأعمال الإصلاحية المهمة التي دعمت النهضة الفكرية والسياسية تأسيس مدحت باشا أول مجلس للشورى في العراق، الذي شجع على نقد الموظفين ودفعهم إلى المطالبة بالإصلاحات الضرورية.
    وكان لحركة المشروطة التي اسهمت في نشر مفاهيم الحرية والمساواة وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ورفض الاستبداد تأثيراً كبيراً على استقطاب فئة المتنورين من الأدباء والشعراء ورجال الفكر وعلماء الدين ضد أنصار المستبدة الذين دعوا إلى بقاء الحكم الاستبدادي بدعوى حماية الدين. وساعد الانتماء إلى جمعية الاتحاد والترقي ثم إعلان الدستور العثماني عام 1908 على تطوير الحركة الفكرية والثقافية وصدور عشرات الجرائد والمجلات وطبع مئات الكتب، وكان من بينها جريدة بغداد التي أصدرها فرع جمعية الاتحاد والترقي، وجريدة الرقيب وبين النهرين ومصباح الشرق والنهضة ومجلة القلم ولغة العرب وغيرها، التي وضعت أساساً متيناً لحركة النهضة الفكرية والاجتماعية الحديثة في العراق، التي توَّجت بتشكيل الحكم الوطني في العشرينات من القرن الماضي.
    ومنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأت تتطور اساليب الانتاج الجديد وادواته، كانت قد أثرت في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وغيرتها، حيث أخذت الولاءات القبلية بالتآكل منذ إصلاحات مدحت باشا وفتح قناة السويس وحدوث تحولات تراكمية تحول بموجبها الاقتصاد الطبيعي القائم على الاستهلاك الذاتي إلى اقتصاد السوق القائم على الربح والإنتاج من أجل السوق العالمية، وهو ما أدى في الأخير إلى تفكك نظام الملكية القديم وكذلك نظام العشيرة، وأخذت العشائر العراقية بإنتاج يتعدى حدود الحاجة الذاتية إلى البيع في السوق الخارجية، حيث أخذ العراق منذ تلك الفترة حتى عام 1913م بتصدير الحبوب إلى الهند والشعير إلى فرنسا، وهذا ما قاد إلى الاستغلال وعدم التوازن والتكافؤ في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
    لكن مشروع بناء الدولة في أن يكون مصدراً لتوحيد الهوية الوطنية قد فشل بسبب الانقسام الحاد في الهوية على إثنيات وأديان وقبائل وطوائف، وإن جميع محاولات الدولة في بناء هوية وطنية من الممكن أن يحتضنها المجتمع كانت قد باءت بالفشل، لأن المجتمع كان يؤمن بهوية ثقافية إسلامية خارج إطار الدولة، وهو ما أحدث انفصاماً حاداً بين الهوية السياسية والهوية الثقافية الوطنية.
    وحينما حاول سكان المدن توليد السلطة وتأسيس دولة حديثة، انكشف ضعفهم وبانت هشاشة مقوماتهم الحضرية وتسربت العصبيات الإثنية والقبلية والطائفية والجهوية إلى قمة السلطة، وبدأت المنازعات العشائرية والانقلابات العسكرية، وهو ما يفسر إشكالية الدولة وعدم نضجها وتخلفها وضعفها.
    ومن الممكن القول بأن سكان المدن كانوا أكثر وعياً بإسلامهم من سكان الريف، على الرغم من تأثير المرجعات الدينية الذي كان تأثيره طقوسياً أكثر منه ألتزاماً بالشعائر الإسلامية، ومن جهة أخرى لم يكن الوعي القومي ناضجاً ولم تشغل القومية مركز استقطاب لمشاعرهم العربية ولا الأفكار الليبرالية أو الاشتراكية.
    وكانت النخب السياسية التي قادت العراق آنذاك تعود إلى أصول إثنية متعددة، في مقدمتهم عوائل تركية وعثمانية توطنت في العاصمة بغداد، وعوائل من أصول كردية وأخرى تركمانية وآرومية وفارسية وأذرية وقوقاسية وجركسية وافغانية وداغستانية وهندية وغيرها استوطنت وتعربت وأصبحت عربية بفعل استيطانها الطويل. ومن الأمثلة على ذلك ساطع الحصري الذي يتحدر من أصول تركية، وسامي شوكت من أصول قوقازية، ورشيد عالي الكيلاني من أصول كيلانية وغيرهم.
    لكن مفهوم الوطنية قد ظهر لأول مرة في العراق في العصر الحديث خلال ثورة العشرين، وفي المدن الكبيرة ولا سيما بغداد وعلى يد تجار المدن والوجهاء وعلى رأسهم جعفر أبو التمن، مؤسس الحزب الوطني، وكانت المدن قد اضطلعت بدور مهم في تطوير الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي، وفي تحريك الانتفاضات ضد سلطة الاحتلال الانكليزي. وقد ظهر تضامن أهل بغداد خلال الاحتفالات بعاشوراء في توحيد صفوفهم ونبذ الخلافات الطائفية بين السنة والشيعة، حيث قادوا أول تظاهرة دينية/ سياسية اطلق عليها المولد/ التعزية، التي كانت ايذاناً بولادة الروح الوطنية، وأقاموا احتفالات دينية تجمع بين المولد النبوي على الطريقة السنية ومجلس عزاء على الطريقة الشيعية في مساجد الشيعة والسنة في بغداد والكاظمية والأعظمية وغيرها على التعاقب.
    ومن الممكن الحديث عن النخب السياسية الأساسية التي سيطرت على الدولة بعد تشكيلها عام 1921م وهي الأفندية والعسكر وشيوخ العشائر، وقد تألفت فئة الأفندية من مجموعة من المثقفين الذين كانوا النخبة العراقية/ العثمانية قبل تأسيس الدولة العراقية، التي تكونت عناصرها من المنطقة العربية الشمالية السنية المتحالفة مع عناصر تركية وكردية وتركمانية استعربت. واعتمد الملك فيصل الأول على عدد من المثقفين العراقيين واسند إليهم مسؤوليات كبيرة في وظائف الدولة. وقد أطلق على هذا الجيل اسم الأفندية، الذي يرتدي أغلبه الزي الأوروبي ولبس السدارة الفيصلية. والأفنية كلمة يونانية الأصل، وهي لقب من ألقاب الشرف والعظمة.
    في هذه الحقبة الزمنية فتح التطور الحضاري الاجتماعي والاقتصادي والثقافي باباً واسعاً للدخول إلى الحداثة في العراق، وكوّن مرحلة تاريخية مهمة في تاريخ العراق الحديث، انجبت عدداً كبيراً من العلماء والمفكرين والفنانين والتكنوقراط والتجار والصناعيين الذين كونوا (الانتلجنسيا)، وحملوا على اكتافهم مهمات كبيرة لبناء العراق الجديد. وكذلك تميزت تلك المرحلة بتنامي الاتجاهات السياسية والايديولوجية المتصارعة التي تمثلت بالأحزاب القومية، كحزب الاستقلال، وتأسيس النوادي والجمعيات العروبية مثل نادي المثنى وجمعية الدفاع عن فلسطين وجمعية النهضة القومية ونادي الجزيرة وجماعة العقداء الأربعة وغيرهم، وأسست أحزاب يمينية وليبرالية مثلت بعضها الطبقة الحاكمة، كحزب الاتحاد الدستوري الذي ترأسه نري السعيد، وحزب الأمة الاشتراكي الذي ترأسه صالح جبر. وتنامت الأحزاب السياسية ذوات الطابع الوطني/ الديمقراطي والاشتراكي. فقد مثلت جماعة الأهالي تياراً وطنياً ديمقراطياً معارضاً، وكان من أبرز روادها الأوائل عبد الفتاح إبراهيم، وأصدرت جريدة الأهالي عام 1932م، وفي عام 1932 أسست جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار التي كانت تمثل البوادر الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934م، الذي نمى خلال الأربعينيات والخمسينيات، وأصبح حزباً جماهيرياً واسعاً، وبقيّ سرياً حتى ثورة تموز 1958. كما أسست جمعية الجوال القومية منتصف الثلاثينيات (نادي المثنى فيما بعد) وأسس الحزب الوطني الديمقراطي عام 1946م، وأسس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1953م، وأسست جمعية الأخوة الإسلامية بقيادة محمد حامد الصراف عام 1960م (فيما بعد الحزب الإسلامي).
    لذلك سبق تأسيس الأحزاب العراقية تأسيس النقابات والمنظمات الجماهيرية، ويعود السبب في ذلك إلى أن الديمقراطية ليست إفرازاً فكرياً وتاريخياً طبيعياً، فهي تحتاج دائماً إلى مقومات اجتماعية واقتصادية وثقافية. وبقدر ما شكل المثقفون فئة اجتماعية تتعامل مع منظومة الأفكار، فإن تحديد علاقاتهم مع الفكر الديمقراطي تتطلب بطبيعة الحال تحديد مفهوم المثقف ثم متابعة أصول نشأة الفئة المثقفة العراقية، ومن ثم تعيين حجمها الاجتماعي ودورها السياسي والفضاءات التي تتحرك فيها.
    ومن هنا نستطيع القول إن عقد الخمسينيات من القرن الماضي كان يعد من أخصب العقود في تاريخ العراق الحديث وأغناها من حيث التقدم الفكري والاجتماعي والثقافي، ومن حيث التسامح الاجتماعي والديني والسياسي من جهة، وتوسع المؤسسة العسكرية وبداية صعودها إلى السلطة من جهة أخرى. وإن ثورة 14 تموز 1958 الوطنية كانت قد أجهضت على يد المؤسسة العسكرية، على الرغم من أهمية انجازاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وساعدت على ضرب الأحزاب التي تمثلها من جهة وصعود الأحزاب الشمولية ذات النزعة الثورية، التي ساعدت بشكل أو بآخر على ضرب الحركات الديمقراطية التي أخذت تنمو منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهاء الأحزاب الوسطية، مما دفع إلى الإبطاء في تكوين مؤسسات المجتمع المدني، وتأخير التحول إلى الديمقراطية، ثم صعود دولة البعث في شكلها الأولي إلى السلطة([1]).
    وكما لعبت المقاهي دوراً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً مهماً، وذلك عن طريق مشاركة الطبقة المثقفة في حياة المقهى ودوره الجديد، حيث لم يعد المقهى مجرد مكان لشرب الشاي والدردشة، وإنما أيضاً للعب دورٍ ثقافي وسياسي جديد يعبر فيه المثقفون عن نشاطهم وانتاجاتهم وطموحاتهم وتبادل الخبر والتجارب فيما بينهم.
    أما اليوم فتعد الطبقة الوسطى التي كانت لها الدور الفكري والثقافي والسياسي، فقد اصبحت نموذج هش لدولة المحاصصة السياسية والانقسام الإثني والطائفي المتعايش على ريع النفط، ودولة استهلاكية مناطقية تتحد مع سوق العولمة وتغترب معها. ومهما ضعفت الطبقة الوسطى وضمرت وتشتت قسم منها في المنافي، فغن المخزون الفكري والاجتماعي والاقتصادي لها يبقى غنياً وثرياً لوعيها الطبقي العام والنسبي.
 
المصادر:
1-    ستيفن لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق، بغداد، 1952، ص358
2-   إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، بيروت، دار الساقي، ط2، 2015م ص184.
3-   حنا بطاطو، العراق (الكتاب الأول) الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، ط2، 1996م، ص32.
4-   سيار الجميل، البنية الثقافية العراقية/ محاضرة في قاعة ماجد في أبو ظبي، موقع إيلاف الالكتروني يوم 15/2/2007.
5-   إبراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء، مصدر سابق، ص377.
6-   عامر حسن فياض، الطبقة الوسطى والتحول الديمقراطي (حوار)، الثقافة الجديدة، العدد 321، ص28
7-   إبراهيم الحيدري، الشخصية العراقية، البحث عن الهوية، بيروت، دار التنوير، 2013، ص153.
8-   إبراهيم الحيدري، الطبقة الوسطى في العراق نشوؤها- نموها- ضمورها، دار مكتبة عدنان، بغداد، ط1، 2022.


________________________________________
[1] إبراهيم الحيدري، الشخصية العراقية، البحث عن الهوية، بيروت، دار التنوير، 2013، ص153.

61
الصحافة اليهودية في العراق (1863-1945م)

نبيل عبد الأمير الربيعي
   يعتبر يهود العراق من أقدم الطوائف الدينية التي كانت متواجدة فيه، حيث يرجع تأريخ وجودهم إلى أكثر من 26 قرناً خَلَّت، واستطاعوا رغم مناخ العراق وتقلبات الظروف وترادف الغزوات والحروب أن يتشبثوا بترابه إلى وقتٍ متأخر. حتى أنهم شكلوا في أواسط القرن التاسع عشر نصف سكان بغداد، وتمتعوا دائماً بمكانة اجتماعية مرموقة، وأمسوا يشكلون الدالة الاجتماعية المتبغددة المترفة، ويجسدون روح وذوق بغداد الفني والجمالي.
    وجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن اليهود تواجدوا في كل المدن العراقية وشكلّوا جزءاً منسجماً في سياق الحياة الاجتماعية لها، فكانت البصرة تضم إلى صدرها الرحب المتسامح بالفطرة أعداداً غفيرة ترد بالمرتبة الثانية بعد بغداد، والحال سيّان مع مدائن الموصل وكركوك وتكريت والعمارة والناصرية والحلة والديوانية ولا سيما الكفل، وكما أنهم شكلّوا حتى عام 1951م حوالي ربع سكان مدينة سامراء، وما زال حيَّهم وكنيسَّهم يقبع في غرب المدينة على بعد خطوات من روضة الإمامين العسكريين.
      وفي أيامنا الحالية يعيش في العراق أقل من ستة أفراد، بعضهم يعيشون قرب كنيس طويق في بغداد وأغلبهم من المسنين، وبتاريخ 10/8/2008م رحلت الدكتورة فيوليت شاؤول طويق ودفنت في مقبرة الحبيبية على أطراف مدينة الثورة في بغداد، وكانت الدكتورة مديرة مستشفى الواسطي في بغداد. وبتاريخ 27 آذار 2021 توفى طبيب وجراح العظام المعروف ظافر فؤاد إلياهو الذي لقب بـطبيب الفقراء، وكان يعمل أيضاً في نفس المستشفى، وهو واحد من آخر اليهود العراقيين الذين ما زالوا يقيمون في بلادهم، ودفن في مقبرة الحبيبية أيضاً، بعد وفاته عن عمر ناهز 62 عاماً. وكان إلياهو قد رفض عروضاً للهجرة خارج العراق على مر السنين، وفضّل البقاء في بلاده.
    ولقد استرعى انتباهنا أنه على الرغم من اهتمام العرب خلال الحقبة الماضية بالدراسات التي تتعلق بإسرائيل واليهودية والصهيونية العالمية، إلا أنهم لم يوجهوا اهتمامهم نحو دراسة الصحافة اليهودية ودورها في إيقاظ النشاط الصهيوني في العراق، بل أن المثير للدهشة أن معظم المثقفين العراقيين الذين عاصروا اليهود اثناء وجودهم في العراق قبل حرب 1948م لا يعلمون شيئاً عن طبيعة تلك الصحافة، بل أن بعضهم أبدى اندهاشه عندما علموا أنه كانت تصدر في العراق صحفاً لليهود وكان بعضها يدعو للصهيونية، وإزاء ذلك عقدت العزم على دراسة صحفهم ومجلاتهم ومطابعهم أملاً في أن أسهم بنصيب في خدمة بلادي، وفي أثراء المكتبة العربية بكتاب في أشد الحاجة إليه، ليلقى مزيداً من الضوء على بعض الجوانب المجهولة من تاريخنا مما قد يكون مفيداً لنا في مسيرتنا القادمة.
     وقد خضعت الصحافة اليهودية أسوتاً بالصحافة العراقية عامة وكل العاملين فيها طيلة الحكم العثماني وأبان الاحتلال البريطاني للعراق والعهد الملكي لمشيئة السلطات الحاكمة المستبدة. ولم يكن هناك صحيفة واحدة تستطيع التعبير بصدق عن حوائج الناس ولو ظاهرياً، فانعدمت اهميتها في وقت حتّمت عليها التطورات السياسية ونمو الحركة الوطنية الاستقلالية واتساعها وأن تلعب دورها التأريخي في هذا المجال.
    ولم تنل الصحافة اليهودية العراقية العناية الكافية في الدراسات التي تناولتها الجامعات والمراكز البحثية العراقية، بالرغم من أنها تشمل مسيرة هذا التاريخ منذُ أن بدأ اليهود العراقيون في احتراف الصحافة بكل أنواعها، فمن الضروري أن نتذكر تاريخ الصحافة اليهودية في العراق ودورها في دعم الجانب السياسي والاقتصادي والأدبي، إلا أن بعض الصحفيين استغلوها لدعم النشاط الصهيوني ومنظماته في العراق، ولم أجد من خلال متابعتي إلا كتاباً يتيماً عن تاريخ الصحافة اليهودية في العراق للدكتور عصام جمعة أحمد المعاضيدي المعاضيدي الصادر عام 2001م.
    إن الغاية من هذه الدراسة هي تبيان المراحل المختلفة التي مرت بها الصحافة اليهودية في العراق ضمن واقعها السياسي والفكري والفني. وتبيان التقدم الذي احرزته إلى حد ما في أطارها وفق الفترات الزمنية مع بعض المآخذ عليها والحلول لتلك المآخذ على النطاق الفني والفكري. فالدراسة المتعلقة بالصحافة اليهودية العراقية تتحدد بمولدها منذ عام 1863م ثم تطورها وتقدمها حتى تاريخ افولها، وتدخل فيها العناصر التأريخية المحددة، والعناصر المادية الملموسة.
    إن المصادر التي اعتمدتها في هذه الدراسة هي مصادر رئيسية وثانوية. وأقصد بالمصادر الرئيسية الشخصيات الصحفية القدامى من الطائفة اليهودية الذين يعتبرون ثقة في الموضوع الذي نحن بصددة. ومن ناحية أخرى، فأن المصادر الثانوية تتألف من مجموعات الكتب التأريخية والصحف اليهودية العراقية. وقد احتوى الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول، تضمن الفصل الأول أوضاع اليهود في العراق، أما الفصل الثاني فقد كُسِرَ بنشأة الصحافة اليهودية وتطورها، والفصل الثالث سلط الضوء على أعلام الصحافة العراقية من اليهود.
وقد صدر الكتاب عن دار الفرات في بابل
                                           نبيل عبد الأمير الربيعي
                                             الحلة 1/10/2022


62
نجمة حمراء في سماء العراق
نبيل عبد الأمير الربيعي
    صدر حديثاً للمؤلف جون فرانزن كتابه الموسوم (نجمة حمراء في سماء العراق- الشيوعية العراقية ما قبل صدام)، وبواقع (403) صفحة من الحجم الوزيري، والكتاب يشير إلى تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. وقد ترجم الكتاب الأستاذ سعود معن الكاتب والصحفي من مواليد الموصل 1994م. وتقديم للكتاب من قبل الكتور الراحل كاظم حبيب. والمؤلف جون فرانزن: محاضر في مادة سياسة الشرق الأوسط في جامعة "ايست انجليا" ومؤلف كتاب "تاريخ العراق الحديث". ويحمل المؤلف شهادة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، وقد نشر العديد من المقالات والدراسات حول السياسة والتاريخ في العالم العربي.
    لقد اختار المؤلف موضوع الحزب الشيوعي العراقي بعد أن تعرف على تاريخ العراق والصراعات السياسية والفكرية التي اقترنت به منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة، لكن السيد فرانزن اتهم الحزب الشيوعي العراقي بكتابه بـأن الحزب هو (حزب قومي يساري خلال فترة اغتصاب صدام حسين للسلطة عام 1979)، وأجد أن فرازن ليس على حق بهذا الاتهام، لأن الحزب الشيوعي العراقي حزباً أممياً في نظرته للشعوب والقوميات دون اسثناء، كما أن الحزب لم يجد يوماً تناقضاً كونه أممياً وفي شعبٍ مكون من عدة قوميات يحترمها جميعاً.
    ويمكن القول إن الحزب الشيوعي العراقي هو أهم منظمة سياسية في الشرق الأوسط لم تصل قط إلى سلطة الدولة، ولا شك في تأثيرها الهائل على مسار التاريخ العراقي والشرق الأوسط الحديث، ومنذ تأسيسه عام 1934م وحتى زواله التنظيمي في مواجهة اضطهاد البعث عام 1979م، شكل الحزب أحد اللاعبين السياسيين الرئيسيين في العراق، وأثرَّ على السياسة بطرقٍ عدة.
    وفي موقع آخر يشير الكاتب فرانزن إلى أن هناك (كانت النجاحات السياسية والايديولوجية للحزب الشيوعي العراقي، هي التي تسببت في سقوطه النهائي. وكونه منظمة سياسية واجتماعية واقتصادية وايديولوجية كانت الأفضل من أي حزب آخر في العراق... مما جعلته منظمة معرضة للخوف والحسد والنسخ والتقليد لمجموعات أخر).
    صحيح أن التحالف الجبهوي مع حزب البعث للفترة (1973-1979م) قد أخطأت قيادته في إقامة هذا التحالف مع حزب البعث ونظامه السياسي الديكتاتوري في عام 1973، وخسر كثيراً من جماهيريته ورؤية الناس له ولدوره السياسي، إذ كان الناس يخشون على الحزب من حزب البعث الذي ذبح قادة الحزب وقواعده عام 1963م، لكنه تمكن من استعادة روحه النضالية الجريئة بعد عام 1979وبمصداقية الناس به.
    لكن الحزب بقيَّ لفترات طويلة مختلفة من تاريخه النضالي الطويل من حيث القوة والشعبية والدور المهم في قيادة النضال، حاملاً رايته عالياً وشعاره الوطني والديمقراطي الشعبي ما زال فاعلاً في وطن حر وشعب سعيد، ولم تأفل نجمته الحمراء، بل ستبقى مشعّة في سماء العراق، مع واقع استمرار ملاحقة الحزب طيلة وجود حزب البعث في السلطة حتى عام 2003م.
    واليوم يمر الشعب العراقي بمحنة ما بعدها محنة في ظل نظام سياسي طائفي فاسد في العراق، أجد على قادة الحزب بضرورة مراجعة ودراسة متأنية للإخفاقات التي حصلت خلال مسيرة الحزب، وخاصة تحالفاته الغير مدروسة مع الجهات الإسلامية المتطرفة التي سببت للحزب فقدان جزء من شعبيته وابتعاد البعض عنه من رفاقه واصدقاءه.
    واتمنى من ضرورة الاطلاع والقراءة المتمعنة لهذا الكتاب لما اجده من نظرة نقدية مؤيدة او رافضة لمسيرة الحزب لتطوير واغناء الأفكار والمواقف؟

63
الفرهود - ظاهرة اجتماعية عامة في المجتمعات الغارقة في التخلف - العراق انموذجا

نبيل عبد الأمير الربيعي

صدر حديثا عن دار الفرات للثقافة والاعلام - العراق - بابل 9-9-2022 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع كتابي الموسوم : ((الفرهود - ظاهرة اجتماعية عامة في
 المجتمعات الغارقة في التخلف - العراق انموذجا)) وهو اول دراسة لظاهرة الفرهود في العراق. الكتاب تضمن (612) صفحة من الحجم الوزيري، وكُسِرَ على (11) فصلاً.
الفصل الأول تضمن الفرهود في العهد السلجوقي، أما الفصل الثاني كُسرَ بواقع حال الفرهود في العهد المغولي، كما احتوى الفصل الثالث الفرهود في عهد الدولة الإيلخانية. أما الفصل الرابع فقد وضح حال الفرهود في العهد العثماني الأول في العراق، والفصل الخامس دَونَّ الفرهود في العهد العثماني الثاني، والفصل السادس أوضح حالات الفرهود في العراق نهاية القرن الثامن عشر. أما الفصل السابع فقد سلط الضوء على حالة الفرهود وغارات الوهابيين على العراق. أما الفصل الثامن فقد تضمن حالات عمليات الفرهود في عهد سليمان الكبير. أما الفصل التاسع فقد أحتوى حالات عمليات الفرهود في عهد العراق الملكي. والفصل العاشر سلط الضوء على حالات الفرهود في حقبة نظام البعث 1968-2003م، أما الفصل الحادي عشر فقد نقل واقع حال الفرهود بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003م، وفي النهاية اختصار حالات الفرهود في العراق لما ذكرنا في الكتاب واحتوته الخاتمة.
غالباً ما يسعى أرباب الحركات الوضعية التغييرية إلى إحداث تغيير جذري ينقلب فيه على واقع الشعب نظاماً ومنهجاً وسلوكاً وقيماً، لأنهُ يتحرك في حدود الفعل وردة الفعل المبنية على تفاعلات فكرية وعاطفية وعصبية وثأرية، بما يمس صميم إنسانية الإنسان وخطوط مسيرته التكاملية، فيلجأ إلى العمل على تحديد نُظم حياة جديدة بحسب رؤى ومتبنيات بشرية قاصرة ومقصرة تدفعها الميول والأهواء والمصالح والعواطف والرغبات والعصبيات والتحزبات، فتمارس لأجل تحقيقها سياسة الترغيب والترهيب والحيلة والخداع والوعود الزائفة، من أجل خطف إرادة الشعب وتذويبها ضمن إرادة دعاة التغيير، التي لا تخرج في واقعها عن تسييس المجتمعات وفق أهداف ضيّقة تُمزق وحدة المجتمع مرة بعد أخرى، وبالتالي تسلب (تفرهد) منه ثرواته وإرادته.
حينما نتكلم عن العراق بموضوعية في إطار زمن محدود لا يُمكن لنا أن نتجاوز المحطات المفصلية المؤثرة في طبيعته عبر التاريخ، لأنّ لها دوراً تراكمياً كبيراً في تركيب شخصيته، وتغيير بوصلة اتجاهه تبعاً لقوة جاذبيتها المتسلطة عليه ولو في جهة من الجهات، وقد ثبت أنّ حركة الأمة متغيرة بفعل ما يطرأ عليها من حوادث واقعة عليها قهراً أو بمحض إرادتها، سواء كانت من الداخل أم من الخارج، وواقع الحال يكون التغيير مختلفاً بطبيعته من جهة إلى جهة باختلاف مناهجه وقوة تأثيره ومساحة بسط نفوذه، وآليات عمله ومدى استجابة الجماهير له. وعلى ضوء ذلك تتم عمليات تسقيط التوجهات السابقة واستبدالها بأخرى، لتحديد هوية جديدة، وانتماء ذي طابع مغاير لسابقه، فتجد حينئذ تغيرات حاصلة في المبادئ والقيم والأخلاق والنُظم، بل حتى المعتقدات والشعائر العبادية والطقوس والرجال الدعاة، ومن هنا يجري توظيف قادة وزعامات جُدد يتفاعلون مع هذه المتغيرات، حتى تكتمل عندهم دائرة التحول الاجتماعي داخل الأمة، ضمن إطار الهوية الحديثة، وهذا البناء الجديد للأمة والصياغة المستحدثة لها، تبعاً لإرادة جديدة مهما كان توجهها، لا تقوم عادة كما هو الواقع التاريخي إلا بتحطيم الرموز القديمة، وتهديم بنائهم ونظامهم بكل الوسائل الممكنة، ورفع أنقاضه، ووضع خارطة عمل وبناء يتناسب وتطلعات الحركات التغييرية القائمة بالأمر، والتي لا يعني أنها تعتمد التغيير الايجابي الذي يتناسب مع تطلعات وطموح الشعب، تبعاً لتطور الزمان وتغير المكان بل غالياً ما كان التغير سلبياً، لأنه يسير وفق قناعات الجماعات الحاكمة المستبدة التي تسعى جاهدة لتغيير البُنية الاجتماعية لدى شعوبهم، وفق إرادة وإيمان الحاكم القاصر والمقصر، وبفعل قوة الحاكم الذي يتسلط على إمكانيات الدولة من الجيش والشرطة والقضاء والسجون ومنافذ الحياة الاقتصادية المهمة، وكذا خشية الجماهير على مصالحها وحقوقها من الضياع والمصادرة وشعورهم بالضعف اتجاه الحاكم وزبانيته وتجنبهم ضرره حتى صار الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون على دين ملوكهم.
وهكذا مرَّت أدوار هزيلة على الشعب العراقي عبر التاريخ وإلى يومنا الحاضر، لكونه عاش أدواراً متضادة ومتناقضة في صميم حياته الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية، ففي كُل دولة من الدول المتعاقبة تتبنى غالبية الجماهير وجهة نظر تلك الدولة حتى أثَّر ذلك على طبيعة الشعب وسلوكه وتصرفاته وسهولة انقلابه وتغيره وكأنه اعتاد وتطبع على هذا المنهج في التحول، واستساغ حالة التقمص ولعبة الأدوار المختلفة وازدواجية المواقف والتحالف مع الأضداد. ونأمل أن يكون هذا الكتاب قد ساهم برفد المكتبة والمجتمع بدراسة عن مراحل الفرهود في العراق، لعلها تكون نافعة بتوثيق بعض المعلومات، وبيان الواقع الغالب على طبيعة المجتمع العراقي.
الفرهود كما جاء في لسان العرب لابن منظور: ولد السبع وقيل ولد الوعل، ويقال أيضاً للغلام الغليظ، وصرفوه فقالوا: تفرهد إذا سمن. وهو مصطلح غريب في اللغة العربية، لم تذكر القواميس العربية هذا المصطلح ولكن الفرهود يعني السلب والنهب وهذه صفة ملصقة بالمجتمع البدوي حسب تفسير العلامة علي الوردي، بأن البدوي نهاب وهاب، وقد يكون نهاب فهذه الطبائع موروثة بشعب العراق دون غيرة، وتشير بعض الدراسات منها للمهندس البريطاني وليم كوكس: (إن أحداث الفرهود هي من خصال الشخصية العراقية وطبيعة وادي الرافدين في معرض تمييزه لها عن نهر النيل، وما أشار إليه من اختلاف في مناسيبها التي ترتفع بصورة مفاجئة وخلال فترة السنة. فتدمير للمحاصيل الزراعية وتحطيم للسدود وقنوات الري، الأمر الذي يؤجج الصراعات والتنازع بين السكان والعداء والاقتتال)، إن تعرض الإنسان المعاصر في العراق لمثل هذا التناقض الصارخ والمتعارض مع الحقيقة التاريخية المثبتة التي تؤكد أن بلاد الرافدين هي المكان الذي نشأت وكُتبت وطبقت فيه منذ أكثر من أربعة آلاف سنة أولى القوانين في التاريخ البشري لحماية حقوق وحرية الإنسان مثل قانون اشنونا وقانون لبث عشتار وقانون أورنمو وقانون حمورابي والقوانين الآشورية وغيرها، وهنا تبرز الحقيقة المفجعة فأقدم القوانين قد ظهرت في العراق بينما هدر الحقوق والكرامات يتواصل في العراق، وهذه الدراسة لم تستبعد السلوكيات للمجتمع العراقي وخاصة المجتمع البدوي الذي بدء أبناؤه ينسحبون إلى المدن وينقلون عاداتهم وتقاليدهم الغير صحيحة معهم في التجمعات السكانية، وأعمالهم في الدوائر الحكومية والتنظيمات السياسية في العراق الجديد وسلوكيات أبناء المجتمع البدوي.
تضمن الكتاب على المقدمة والتمهيد والخلاصة وإحدى عشر فصلاً،
لا بد من توجيه الشكر وأسمى آيات العرفان إلى كل من الصديق صباح السماك، والباحث محمد علي محي الدين لمراجعة الكتاب والتصويب والتعديل والتنقيح، إذ كان لهما الأثر الواضح والحميد في مواصلة العمل لإخراج هذا الكتاب إلى النور ووضعه في متناول القراء.

نبيل الربيعي/ حلة/ 6 ايلول 2022

64
دور الهيئات الاقتصادية للأحزاب في تدمير العراق (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    لدى (الهيئات الاقتصادية) لهذه الأحزاب باباً آخر للتربح، من خلال سيطرتها على المنافذ الحدودية والموانئ والمطارات، فضلاً عن تهربها من أي محاسبة، بفضل هيمنتها على مناصب المدراء العامين في الدولة. وما تقوم به هذه الهيئات من عمليات غسيل للأموال من خلال تهريبها وتحويلها إلى دول الجوار، إلا أن بعض هذه الأموال قد ذهب ادراج الريح بعد انهيار عملة تلك البلدان (تركيا، لبنان، إيران). وخير دليل على ما ذكرته كلمة رئيس الجمهورية (برهم صالح) في كلمته يوم 23 ايار 2021، والتي جاءت خلال اطلاقه مشروع قانون (استرداد الأموال المهربة)،وتأكيده على تهريب أكثر من (150) مليار دولار خارج العراق.
    أما وزارة الصناعة في العراق فقد أصبحت معطلة وبوابة للنهب، إذ تقوم الوزارة سنوياً بشراء مكائن ومعدات بملايين الدولارات، لكنها تبقى معطلة، وتقوم بعض الشركات الصناعية الحكومية باستيراد بضائع اجنبية وابدال غلافها وجعلها من صنع الشركة الحكومية لبيعها للمواطنين، وهذا ما اكده وزير الصناعة منهل الخباز في برنامج (لعبة الكراسي) من على شاشة قناة الشرقية ليوم 7 شباط 2021.
    كان لهذه (الهيئات الاقتصادية) الدور في محاربة القطاع العام والخاص من خلال توقف عمل (73) شركة صناعية حكومية، وتوقف أكثر من (30) ألف مصنع أهلي، من خلال تدخل دول الجوار وعملائها في الوطن لتعطيل تلك المعامل العراقية مثال ذلك معمل الحديد والصلب في البصرة.
    كما لا ننسى لأقليم كردستان الدور السلبي في تدهور الصناعة العراقية من خلال فتح الحدود أمام البضائع الاجنبية التي يدخل أكثر من 60% منها إلى العراق عن طريق هذا المنفذ، فضلاً عن دخول بضائع من بقية المنافذ الحدودية التي تسيطر عليها العشائر والميليشيات.
    من هذا نستدل أن النظام الحالي بعد عام 2003م قد مارس سياسة الاستحواذ على إيرادات الدولة لتسيير أعمال أحزابه، فمن خلال التعيين في دوائر الدولة مثالاً على ذلك. كان عدد الموظفين عام 2004م نحو مليون موظف يتقاضون رواتب تقدر بنحو (2) مليار دولار سنوياً، فخلال الفترة التي سبقت الانتخابات البرلمانية لعام 2010م جرى توظيف (600) ألف شخص على الملاك الدائم في القطاع العام وأكثر من (400) ألف شخص بصفة متعاقدين وأجور يومية، حتى يرتفع اجمالي الرواتب من (2) مايار دولار إلى (43,7) مليار دولار في عام 2020م، وتحولت الانتخابات التعيينات موسماً مقابل الحصول على أصواتهم.
 

65
دور الهيئات الاقتصادية للأحزاب في تدمير العراق (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    تشكل واردات النفط نسبة 93% من اقتصاد العراق الريعي، الذي تهيمن عليه الدولة بشكلٍ كامل، وهو رابع أكبر احتياطات نفطية مؤكدة في العالم، وثاني أكبر بلد منتج في منظمة أوبك، ولم يستفد هذا البلد من التقلبات العالمية لارتفاع السعار، بل استفحل الفساد المالي والإداري في دوائر الدولة، وبعد انهيار اسعار النفط عامي 2014م و2020م نجده يتلكأ في تسديد رواتب الموظفين وإكمال انجاز المشاريع المحالة على الشركات والمقاولين. فضلاً عن امتلاك هذا البلد خمس مؤسسات لمكافحة الفساد (المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، هيئة النزاهة، ديوان الرقابة المالية، لجنة النزاهة في البرلمان، مكاتب المفتشين العموميين في الوزارات)، بيد أنه يحتل المراتب الأخيرة في مؤشر مدركات الفساد (162 من اصل 180 بلداً) الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، كل هذه المكاتب اعتبرها حلقة زائدة في الحرب على الفساد، فضلاً عن التلكؤ في تقديم اغلب الوزارات للحسابات الختامية أو انعدامها في بعض السنوات المالية.
    والفساد في العراق هو منظومة حكم، ولم يكن أمراً طارئاً، فأحزاب السلطة بعد عام 2003م شرعت الفساد من خلال (الهيئات الاقتصادية)، فضلاً عن اتخاذ نظام اقتصاد السوق مذهباً اقتصادياً لإدارة البلاد، وجعل الاحزاب تحصر بيدها جميع السلطات وهيمنتها على مشاريع الدولة عبر شركات تعود غالبيتها لسياسيين، واتخاذ مبدأ من يحظ بالمنصب فعليه تنفيذ اجندات تخدم مصالح البلدان المجاورة، كون هذه الاحزاب المتأسلمة تبعيتها وميولها لتلك البلدان، إضافة إلى ذلك دور عناصر وقيادات هذه الأحزاب في تعطيل المشاريع الانتاجية والسيطرة على أموال النفط، لذلك أصبح البلد مستورد من دول الجوار (تركيا، إيران) لا مصدر.
    أما هدف (الهيئات الاقتصادية) لأحزاب السلطة الحاكمة هو نهب البلاد بكل الطرق المشروعة وغيرها، وهذه الهيئات عبارة عن شبكة اشخاص واسعة يشرف على إدارتها قيادات تلك الأحزاب، وخير دليل على ذلك توزيع المناصب الوزارية والإدارية في مؤسسات الدولة بالاعتماد على نظام المحاصصة الطائفية، ليصبح الوزير موظفاً لدى رئيس الحزب الذي رشحه.
    ولدى (الهيئات الاقتصادية) لهذه الاحزاب نظاماً للتربح من مشاريع الاعمار والاستثمار، فيتم بيع المشروع لأحد اقرباء الوزير أو المستثمر وتتداول عمليات بيع المشروع والمتاجرة بها لغاية عدم قابلية المستثمر الأخير من انجازه بسبب ما دفع من نسبة 10% إلى 20% من تكلفة المشروع فيعلن افلاسه، لذلك تجد هذه الوزارات تضع تلك الشركات والمقاولين أو المستثمرين في القائمة السوداء، أما المشاريع فتوضع ضمن المشاريع المتلكئة أو المنفذة بشكل سيء، أما إذا تم اكمال المشروع فتجده دون المستوى المطلوب من خلال الغش في التنفيذ. واليوم نجد أغلب المحافظين في المحافظات اصبحت لهُ اليد الطولى في بيع هذه المشاريع أو أن يتقاسم تنفيذها مع المستثمر، والشواهد كثيرة دون ذكر الاسماء.

66
الدكتور علي إبراهيم ونقدية القص العراقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
  وصلتني هدية الدكتور علي إبراهيم بواسطة الصديق محمد علي محيي الدين، كتابه الموسوم (دراسات نقدية في القص العراقي). ونقدية القص العراقي يثير إشكالية حول دقة المصطلح الذي يعني النصوص القصصية المتكونة للرواية، والنقد فاعلية سِمتُها المداومة والتحري والتمحيص والنظر والتمثيل. وهذا ما وجدته من خلال متابعتي لكتابات د, علي إبراهيم من على الصفحات الثقافية لبعض الصحف العراقية، ولأنه ترك آثاره على الساحة الثقافية لاسيما ما يخص بعض المفاهيم والاتجاهات النظرية صار مهماً تثبيته لتاريخ الوعي الأدبي.
    الكتاب عبارة عن مسح نقدي للقصة العراقية الحديثة، ومنها: (حصار العنكبوت، الركض وراء الذئاب، أسرار عائلية، ريادة المرأة للقصة والرواية، فتاح فال) فضلاً عن مقالات في السرد والنقد العراقيين، ويتضمن الكتاب (162) صفحة من القطع المتوسط تزينه لوحة للفنان بديع الألوسي.
    وفي الكتاب حاول الدكتور علي إبراهيم رد الاعتبار النقدي للقصة العراقية التي نالها بعض الحيف من قبل نقاد تخصصوا فيها أو وضعوا ببلوغرافيات أو انطولوجيات في مجاميعها. هذا إلى جانب ما للقصة العراقية من تاريخ غني تجلى في تقاليد فنية واضحة وراسخة. ويضاف إلى ذلك الحالة المرضية لأولئك النقدة الذين أوغلوا برطانة الاصطلاحات والمفاهيم وصاروا يحللون النتاجات الأدبية بعشوائية جامعين التعميم بالتعتيم والفضفاضية بكليشيهات جاهزة حين الطلب فلا كتابة نقدية بل ضياع الذوق الأدبي فنياً وتلاشي الاتقان الجمالي فكراً ونباهةً.
   تضمن الفصل الأول نقد لكتاب الدكتور عبد الله الغذامي (الأنساق الثقافية في الرواية)، وقد تطرق الدكتور علي إبراهيم لمدخل نظري لمصطلح (الأنساق الثقافية)، معززاً رأيه في ذلك، فضلاً عن التطرق لثقافات الأقوام وكيفية تطورها، كما سلط الضوء على مفهوم الثقافة وأقدم تعريفاته، ةعلى فلسفة تلاقح الحضارات، أي المظاهر الناصعة والمنسجمة مع التطور والتنوير الفكري، إضافة إلى تعريف الأنساق الثقافية وتنوعها، وما ذكره الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه (الأنساق الثقافية في الرواية)، وقد عارض الدكتور علي إبراهيم رأي الدكتور الغذامي بقول الأخير (أرى أن النقد الأدبي... قد بلغ حد النضج أو سن اليأس)، ويرى الدكتور إبراهيم قائلاً ص16 (ولا أدري كيف ساوى الدكتور الغذامي بين زمن النضج وسن اليأس المتناقضتين). إلا أن الدكتور علي إبراهيم يرى أن هذه الدراسة لم تلتزم بمنهج النقد الثقافي.
    أما في ص21 فهو تحليل النص الروائي لكريم كطافة (حصار العنكبوت)، ويذكر د. علي إبراهيم قائلاً (يعد عنوان الرواية عتبة نصية مهمة تنتمي إلى النسق الثقافي، فلقد وجدت أن العنوان منسجم مع النص)، والرواية قد ركزت على الأيام الأخيرة بعد توقف الحرب العراقية- الإيرانية، وحاول الكاتب في مقدمة مقتضبة جداً أن يمهد لحدثها، ويؤكد الدكتور إبراهيم في ص22 وما بعدها (مع اختيار المؤلف لتلك الأيام لتكون الحدث الرئيس في روايته كان موفقاً جداً... في الرواية نتلمس الأنا المتضخمة في ذات النظام المقبور بعد إيقاف الحرب عام 1988م وإقدامه على سياسة إنهاء الحركة الأنصارية في كردستان). وقد أكد د. علي إبراهيم على أكثر من نسق في الرواية، ويراها قد استطاعت توصيل رسالة منصفة وموضوعية عن أحداث دامية مرت في جزء صغير من كردستان العراق، لكن د. إبراهيم يرى أن هذه الرواية من خلال الروائي كريم كطافة قد حاول التمرد على الالتزام الفكري والحزبي الصارمين في الرواية، ويرى أن الروائي ملتصق بالماضي وهو نبع منجزه الإبداعي.
    أما في الفصل الثاني فقد وظف صفحات كتابه في نقد رواية علي بدر (الركض وراء الذئاب)، وقد عرف إبراهيم القراء بسيرة الروائي علي بدر، وشخص في ص32 أن رواياته تدور (في بغداد وتتخذ من الطبقة الوسطى موضوعاً لها)، ويرى أن الروائي قد وظف المعلومات الشخصية لسيرته، واستطاع عبر رواياته أن يجسد معاناة العراقيين ص35 (مختاراً نماذج من السياسيين السابقين في الحركة اليسارية في العراق)، فرواية الركض وراء الذئاب تعتمد على المعلومات الواقعية المترابطة مع بعضها، ووجد د. علي إبراهيم في رواية علي بدر أن تغيير (الزمكان) يرتبط بتغيير المعلومات، إذ يتشكل عبر سرد الراوي - الذي هجر بلده قسراً إلى أمريكا- مكان عاش فيه أكثر من أربعين سنة)، لكن د. إبراهيم في ص 43 يجد في رواية الركض وراء الذئاب (تعميمات غير منطقية، ولا تستند إلى الوقائع التاريخية، فهي من خيال الكاتب ووهمه وفقدانه لبوصلة تحليل المعلومات، فيصل إلى صورة مقلوبة تماماً وإلى مفارقات غير واقعية) ولا أعرف كيف ذكر في ص35 إنها مختارة لنماذج من السياسيين السابقين في الحركة اليسارية في العراق، وبين ما ذكر في ص43، لكن الروائي علي بدر يجد أن الشيوعيين في عهد الاحتلال الأمريكي هم شركاء في الحكم بعد عام 2003م.
    مع هذا يجد د. علي إبراهيم أن هناك أخطاء في المعلومات الاقتصادية في الرواية ص44 (فهو لا يدري لأي قارئ يريد أن يبسط مصطلح البرجوازي والبروليتاري). لكن د. إبراهيم ص46 وما بعدها يجد الرواية قد (أسبغت على نفسها طابعاً توثيقياً بنسبة معينة، وأعتقد بأن الجانب التوثيقي في أي عمل روائي يتطلب من الكاتب أن يكون موضوعياً وحيادياً أيضاً... وهنا يتطلب الابتعاد عن النقل الحرفي لأحداث الرواية بمكانها وزمانها وشخصياتها، خوفاً أن يتحول العمل إلى سرد تاريخي جامد يسوده الجفاف... المقارنة بين الاستعمار والثورة أخذت طابعاً تعسفياً)، وفي هذه النقطة أتفق مع الدكتور علي إبراهيم.
    لكن رواية علي بدر أراد من خلالها أن يدين الركض الغير الواعي وراء السلطة، لكن الرواية تضمنت مفارقات منطقية ونقيضها مثل ص52 (العراق هو الآخر ركض، ركض وراء قاسم أو وراء صدام حسين حتى انزلقنا شيئاً فشيئاً وأصبحنا في الوحل).
    ويعلق د. علي إبراهيم على أن الرواية ص54 (تجمع بين الواقع والخيال، هي سرد فني في مسيرة الشخصية في الحدث المتخيل... تجربة علي بدر تحتاج دراسة واسعة تشمل منجزه الكامل، وربما أكثر من دراسة... من الممكن أن تكون الرواية التي تؤكد على فنية السرد وابتعادها عن النصوص الواقعية البحتة).
    أما الفصل الثالث فتخللهُ {التجريب في رواية (أسرار عائلية) للروائي علي بداي}، الصادرة عن دار ميزر في السويد عام 2019م، وقد عرف الدكتور علي إبراهيم بالروائي كونه شاعراً وصحفياً ومتابعاً للشأن الثقافي، ويسلط الضور على الرواية في ص59 (تبدأ الرواية في التجريب منذ الصفحة الأولى حيث يضع الكاتب مهندساً لروايته ويعطيه الملف الكامل لأسراره العائلية وهي بين الواقع والتخيل). لكن د. إبراهيم يجد في الرواية أن المقدمة والخاتمة حلقتين زائدتين، في ص60 قائلاً (يكفي ما موجود من أصوات تعبر عن نفسها بشكل مباشر).
    وفي ص61 يؤكد د. علي إبراهيم أن الروائي علي بداي في روايته (جاء متأثراً بالرواية الغربية... ولهذا جاءت نتاجاته السردية متأثرة بما أنتجه الغرب، وهذا ليس عيباً)، ومن خلال المقال يعرف د. علي إبراهيم التجريب من خلال عدة تعاريف لعدد من الكتاب، لكن في ص64 يرى د. علي إبراهيم (أن هذه الرواية تنتمي إلى مصطلح قصص الرواية) ثم يعقب في ص73 أن الرواية (بغض النظر عن تلك الملابسات والهناة تعد من الروايات المتميزة بقصتها ولغتها وحوارها وتجريبها. وإن كاتبها متمكن من هذا الفن). لكن رسم الشخصيات في الرواية والأحداث كانت رائعة ومشوقة ومتداخلة.
    وفي الفصل الرابع كُسر الكتاب بمقال حول (ريادة المرأة للقصة والرواية في العراق.. سافرة جميل حافظ اختياراً)، وفي المقدمة يذكر د. علي إبراهيم قائلاً ص78 (لم تتواجد المرأة في البدايات منذ أن انطلقت تجربة قصص الرؤيا (1909-1921م) كان جميع كتابها رجالاً... ولا بد من التنويه؛ إن شكل قصص الرؤيا ليس عراقي المنشأ بل جاءنا من تركيا عند انتشار رواية الرؤيا للأديب التركي نامق كمال... وفي الحقيقة لم أجد قصة لأي امرأة ترافقت مع المرحلة التي ذكرناها عدا قصة واحدة يتيمة لـهيام الوسواسي اسمها (بين اليأس والرجاء)، وجاءت متأخرة أيضاً حيث نشرت في 22 كانون الثاني 1923م)، ويؤكد د. علي إبراهيم بأن (الريادة لا تعني الأسبقية في النشر) ص80.
    لكن في مجال ريادة الشعر الحر يذكر د. علي إبراهيم في ص80 قائلاً (حسم النقاد الأمر عندما جعلوا من السياب الرائد الأول بناءً على غزارة ما كتبه ونوعيته، ولم يبخسوا حق نازك الملائكة ولا بلند الحيدري ولا عبد الوهاب البياتي، فهم الرواد الأربعة للشعر الحديث).
    في ص84 يذكر د. علي إبراهيم رائدات القص العراقي بعد القاصة هيام الوسواسي التي كتبت أولى قصصها عام 1923م، ومن تلك الرائدات: مليحة أسحيق، حورية هاشم نوري، حربية محمد، ناجية أحمد حمدي، سافرة جميل حافظ، ليلى عبد القادر، بدور درويش.
    وقد سلط الدكتور علي إبراهيم الضوء في مقاله على القاصة العراقية سافرة جميل حافظ من خلال مجموعتها القصصية (دمى وأطفال وقصص أخرى)، إذ يؤكد الدكتور في ص88 قائلاً (عندما نبدأ بالقراءة نجد أننا أمام تجربة مختلفة، معاناة إنسانة تشعر بالضجر، فتخرج للشارع وفي داخلها حوار داخلي)، ثم يسلط الضوء على بقية القصص منها: حصة الكلب، بائع الدوندرمة، أولاد المساحي، ثمن الجنين، لكي نعيش، قبل الفجر، وما هو ماء.
    في ص96 يستنتج د. علي إبراهيم من بحثه هذا إن (دراسة جميع منجز المرأة في مجال القصة والرواية ليس سهلاً، بسبب ضياع الكثير منه في الصحف والمجلات القديمة... تأخر المرأة عن زميلها الرجل في بلد مثل العراق، ما زالت الأمية سائدة فيه... يعزي بعض الباحثين أن سبب غياب المرأة عن ريادة زميلها الرجل، يكمن في ضعف كتاباتها، أو أن ما كتبته لا يستحق الدراسة)، ثم يعقب د. علي إبراهيم في ص 97 قائلاً (تعد سافرة جميل حافظ الرائدة الأولى بناءً على ما كتبته من قصص فنية وظفت فيها جمالية اللغة العربية والأساليب الحديثة).
    اما الفصل الخامس فقد احتوى على عنوان لرواية جديدة (تعددية الرواية في رواية فتاح فال) للقاص عباس الحداد، وقد بدأ الدكتور في مطلع الفصل بالتعريف بـ(تعددية الرواة والرواية) مبتدأً بـ(باختين وهنري جيمس) وآخرين، من هذا نجد أن رواية عباس الحداد (فتاح فال) فيها خمسة أصوات منها (صوت نورا، صوت سعدون، صوت شريفة، صوت بلقيس، صوت الروائي)، وقد اطلعت على الرواية قبل عامين، وأجدها رواية ناجحة في المنهج، وتجربة رائدة، لكن الروائي عباس الحداد قد جعل من صوته صوتاً خامساً.
    يذكر د. علي إبراهيم حول الرواية في ص104 أن الروائي بدأ (من النهاية عن موت بطلها سعدون المتخفي بشخصية سعاد... موت بطل الرواية في بداية القصة ليس اسلوباً جديداً في الرواية)، كما يضع الدكتور علي إبراهيم على موضع الخلل في الرواية فمن خلال قوله في ص118 وما بعدها (لا أجد ضرورة لصوت الراوي لأن الرواية مكتملة من خلال الأصوات الأربعة التي غطت كل جوانب الحدث... يربط الروائي بين نصه وحادثة موت جيرانه... وهذا اقحام على النص ليس له مبرراً فنياً أو منهجياً وبنائياً... نسي الكاتب أن النهاية بدأت في بداية الرواية.... لم يكشف الكاتب شيئاً جديداً بكتابته... لم يضف الكاتب شيئاً كبيراً لشخصية بلقيس... ما أورده الكاتب في نهاية الرواية كان زائداً، أساء لمنهجية الرواية وفشل في أن يجعل من نفسه صوتاً خامساً إلى جانب الاصوات الربعة)، لكن الدكتور يعقب في ص121 قائلاً (الرواية من الروايات الناجحة على مستوى اللغة والقص والحوار ورسم الشخصيات والحدث... ونجح الكاتب في توظيف الحلم والأغنية والشعوذة والعهر والرذيلة والخيانة، والطيبة والكفاح الشخصي في إظهار أبعاد شخصياته الروائية).
    أما في الفصل السادس من الكتاب فتضمن (مقالات في السرد والنقد العراقيين)، وهي مجموعة قراءات لمؤلفات الكُتاب العراقيين منها: قراءة في مذكرات د. شجاع مسلم العاني (من أصداء الماضي)، قاسم عبد الأمير عجام قاصاً، قراءة في رواية هم أو يبقى الحب علامة للروائي محيي الدين زنكنة، إبراهيم الخياط مقالياً، في اصغر قصة قصيرة في العالم، اشكالية الراوي في رواية هروب الموناليزا.
وفي النهاية لابد من القول أن الدكتور علي أبراهيم استطاع من خلال منجزه هذا أن يبرز منهجيته النقدية، ورؤيته التي زاوجت بين الحداثوية في النقد والمدرسة الانطباعية التي تطورت في العصر الحديث وهو الى جانب هذا قارئ جيد للنصوص ومحلل تمكن من سبر أغوار الروايات والقصص التي تناولها وبذلك أوجد له مكانا مائزاً بين نقاد الرواية الذين اتبعوا المناهج الحديثة في النقد.
   

67
عبد الرضا عوض المتصوف الذي عشق الكتاب ومدينته الحلة
نبيل عبد الأمير الربيعي
خسرت مدينة الحلة الوادعة التي تغفو على نهر الفرات قبل أقل من عام قلمٌ جريء، كان صادقاً في تعاملهُ، وحياتهُ أقرب إلى متصوف عشق مدينته، كما عشق الكتاب والكتابة والبحث والتمحيص والتدقيق والتحقيق، إنهُ أخونا وصديقنا وأستاذنا د. عبد الرضا عوض رحمه الله.
إنَّ تدوين أحداث ذلك التاريخ وتطوراته وتقديم مادته للباحث محفوظة بمؤلفات مهمة تكون منطلقاً صحيحاً لدراسة علمية في ميدان اختصاصهم, يقف في مقدمة أولئك المؤرخين والمدونين والباحثين والمحققين والموسوعيين المعاصرين الدكتور عبد الرضا عوض رحمه الله، الذي انصبَّت جهوده بشكل رئيس منذ ستينيات القرن الماضي وباجتهاد ذاتي منهُ على تدوين مفردات تاريخ مدينته الحلة وتاريخ العراق إبان العهود السابقة واللاحقة, ومنها العهد العثماني والملكي والجمهوري الأول والثاني والثالث, وعهد ما بعد التغيير عام 2003م, أو عهد الاحتلال الأمريكي، وما رافقه من بؤس وانحلال سياسي واقتصادي واجتماعي, وتدمير للبنية التحتية ومؤسسات الدولة كافة, والتدمير المعنوي والوطني لشخصية الفرد العراقي مدوناً يومياته في سفر (كلٌ يبغي حاجاته).
كما أن الباحث والمحقق عوض عاصر وتابع أحداث العراق فأثمرت جهوده عن العديد من المؤلفات المهمة التي تبحث في التاريخ والأدب والاقتصاد والتحقيق وتراجم الرجال, والتي تجاوزت مؤلفاته أكثر (51) مؤلفاً, بين التأليف والتحقيق, خصوصاً كتابه المعروف (الحوزة العلمية في الحلة, نشأتها وانكماشها الأسباب والنتائج 562هـ - 951هـ) والتي نال من خلاله درجة الدكتوراه, فضلاً عن أنهُ علماً من أعلام نهضة العراق في عصرنا الحديث, ذاع اسمهُ وانتشر في الأوساط الثقافية العلميّة والمحافل التاريخية والبحثية داخل العراق وخارجه.
تمثل كتاباته في عرض المعلومات التي جذبت العديد ممن رجعوا إليها لتوثيق بحوثهم ودراساتهم, وهو المعروف في مؤلفاته بأنهُ لا يكتب في مجال كُتب فيه الآخرين, ولا ننسى دورة الريادي في إصدار مجلة (أوراق فراتية) ومجلة (العشرة كراسي), فضلاً عن دوره في تأسيس (مركز تراث الحلة)، ودوره في بذل الجهود مع ابناءه في (مهرجان تمصير الحلة) واستذكار (لواقعة أو دكة عاك).
ومن خلال مطالعتي لمؤلفاته ومنهجه في التدوين التاريخي وجدت نفسي أن أسلط الضوء على سيرة هذه الشخصية المهمة ومؤلفاته ومنهجه في التدوين التاريخي من خلال كتابي (الريادة في مؤلفات عبد الرضا عوض) الصادر عام 2017, عرفت فيه الاستقامة والنزاهة والعفّة والغيّرة والشفافية والوداعة والتسامح وطيبة القلب المتناهية.
الراحل الدكتور عبد الرضا عوض بَثَّ فينا الدعم المعنوي للاهتمام بالتاريخ, وقد طرح بعض الأفكار والآراء العلمية في تحليل الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فكانت اشارته لي أن أكتب تاريخ مدينة الديوانية السياسي والاقتصادي والاجتماعي منذ التأسيس عام 1747م ولغاية عام 2003م، وقد صدر عام 2015م بثلاثة أجزاء، وكتاب حول توثيق انتفاضة آذار عام 1991م في الديوانية، وكتاب آخر عن حياة آخر علماء الحوزة العلمية في الحلة الشيخ إبراهيم القطيفي المتوفى عام 945هـ/1538م، وقد تحقق ذلك وصدرت تلك المؤلفات بتوجيه الراحل.
يمتلك الدكتور عبد الرضا عوض أخلاقاً امتداداً لأخلاق العلماء الصالحين, ومن خلال سلوكه الطيب انتزع احترام الناس حتى أولئك الذين كانوا يختلفون معهً في الفكر والرأي, فهو ثقة, متواضعاً, عفيفاً, كثير الحياء, محتملاً للأذى, محباً للعلم والتاريخ, ناشراً لهُ, صبوراً على البلوى, مناظراً بارعاً, باحثاً دؤوباً, كثير التأمل, يغور بعيداً في أسرار التاريخ، دمث الأخلاق, حيث انتزع ثناء الناس واحترامهم لهُ من خلال ما يحملهُ من أخلاق عالية, يثق بهِ الأصدقاء والمقربون, فضلاً عن كونه موسوعة جامعة لتاريخ مدينته الحلة, متنوع النتاج في التأليف, يتمتع بقوة الملاحظة, ودقة الاستدلال, من يطالع مؤلفاته يكون أكثر إحاطة بمعالم شخصيته.
في جميع مؤلفاته الصادرة حديثاً ألفته قد انبثق من حب أصيل في ذاته لدخول المجاهل, وتتبع الخفايا, والاهتمام بالمهملات, فالتاريخ دونهُ مؤرخو العرب قديماً تاريخ رجال, لا يظهر للمرأة أثر في واجهته حتى لكأنه يؤرخ مجتمع الرجال, تعيش المرأة فيه على الهامش, مما دعا المؤرخ عوض إلى تقصي أخبار الأديبات والشاعرات من النساء, تناول سيرهنّ ممن دخلن مجال الشعر والأدب، وتمّ تكريمهنّ في ملتقى العشرة كراسي من قبله.
كما اهتم بتأريخ الأماكن التي اهملها التاريخ, فكان التلميذ المؤرخ بلا استاذ, والأستاذ بلا تلميذ, وتلك هي الشخصية الفذة زادها منها ولا يقوى أحد على هضم ما تقدَّم من زاد. وكانت له تنبيهاته ومثال ذلك توثيق (تاريخ مدارس الحوزة العلمية في الحلة) و(وقعة السفاح عاكف), فكانت من مآخذه عليهم.
كان لانكبابه على البحث والتوثيق والتحقيق الذي اوتى به حباً لا يكافئه حب, فأتخذ منه خدناً وعشيقاً ونديماً, ينبع من هوى نفسه وشغاف قلبه, يقوم الليل قيام الزهاد المتبتلين ليكحل عينيه الكرى غارقاً بين كتبه ودفاتره وأقلامه, وينهض في البكور فلا يفرط بساعة من النهار, وكم كنت أراه في الصباح في مكتبته دار الفرات وآثار السهر والإعياء بارزات في رسوم وجهه وعينيه التعبتين, فيطبق جفنيه احياناً, ويسترخي في اغفاءه قصيرة من حيث لا يشعر, ثم ينتفض ويعود إلى كتاب يقرأه أو إلى حاسبته ليصحح ويراجع ما كتبه, والمرء بطبيعته إذا طاوله الجهد والإرهاق استرخى, واستروح إلى الراحة, وسكن إلى الهدأة, لكن المؤرخ عوض كان من ألد أعداء الكسل والالتذاذ بالراحة, إلا إذا اصابه المرض.

68
تاريخ المراسيم العاشورائية في مدينة الديوانية
نبيل عبد الأمير الربيعي
      تعتبر الظواهر الدينية والممارسات الطقوسية انعكاس لعقيدة المجتمع, وهي سلوكيات تبحث عن طريقة جلد الذات وفق مفهوم التدين الشعبوي, والفهم الاجتماعي للتدين وفق نمط الطقوس العاشورائية التي تحدث في الأيام العشرة الأولى من محرَّم, والتي أثرَّت هذه المشاهد على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمناطق الفرات الأوسط والجنوب العراقي عامة ومدينة الديوانية خاصة, والسبب هو الثقافة الشعبوية في تلك الطقوس من خلال تجديدها وتفاعل المجتمع المحلي مع الرموز المظلومة التي سفكت دمائها لقسوة الحكام في العهد الأموي, وقد انتقلت هذه الطقوس لاشعورياً من جيل إلى آخر وفق مفهوم قدسية الدين والتدين الشعبوي المقدس.
    وموضوع مقالنا هو موكب عزاء السوق في مدينة الديوانية مطلع القرن الماضي وأواسط السبعينيات منهُ، وهي من مدن مناطق الفرات الأوسط، قبل حلول شهر محرم بأيام تتشح الدينة بالسواد، تنتصب الرايات السود لترفرف على سطوح المنازل وأبواب محلات السوق التجارية، ويرتدي عامة ابناء المدينة اللون الأسود، وتعلق نشرات القناديل لتملأ الشوارع ومحلات المدينة منها (الجديدة، الفاضلية، العتيجة، السراي، صوب الشامية).
    ويعتبر موكب عزاء السوق من أقدم المواكب وأول موكب حسيني في محلة السوق في تاريخ الديوانية، تأسس حوالي عام 1854م، في محلة (العتيجة)، وكانت تسكن هذه المحلة أقدم عوائل المدينة. وكان المرحوم الحاج محمد صادق وأولادة كل من: (الحاج عبد الحسين والحاج عباس) وهم من أوائل دعائم الشعائر الحسينية في المدينة، وبعدهم جاءوا اولادهم كلٍ من: (الحاج جعفر والحاج عبد الحميد  والحاج عبود)، والأخير رفع السلاح بوجه القوات الانكليزية فقتل في أحداث ثورة 1920م.
    في الليلة الخامسة من عاشوراء تخص مقتل مسلم بن عقيل وهو ابن عم الحسين ورسوله إلى أهالي الكوفة، وقد استشهد قبل المعركة، وليلة اليوم السادس تخص مقتل حبيب بن مظاهر وهو من صحابة الحسين، والليلة السابعة تخص العباس بن علي أخا الحسين من أبيه، وليلة الثامن تخصص للقاسم بن الحسن، والحسن هو الأخ الأكبر للحسين، والليلة التاسعة تخصص لعلي الأكبر ابن الحسين، وأما الليلة العاشرة فتخصص للأمام الحسين، أما الأيام الأربعة الأولى المخصصة لعزاء الامام الحسين، هي بداية للمواكب في المدينة التي يتزعمها القراء الحسينيون الذين يقدمون فيها قراءة مبسطة لقصة المقتل ومدح آل بيته.
    وكان الموكب الحسيني يخرج من دار الحاج حميد الكعبي في شارع العلاوى، وكانت تخرج السرايا أولاً وتحمل الرايات الخضراء والسوداء، و الهوادج الملونة والدمام والنقارة (التى كان متخصص فيها المرحوم جابر مشروطة)، وفى الفترة الاخيرة من عام 1968 كانت تتصدر الموكب راية كتب عليها كلمة يا حسين، والراية كبير جداً مرصعة بالذهب، وفي اعلى الراية رمانة تحمل كف العباس،  يحملها المرحوم رزاق الأخرس، وهي نذر من قبل المرحومة ملة بدرية، لتحمل كل عام، وبعد الراية تلتحق التشابيه والتي تخرج من بيت المرحم عبود المغفى، وهناك عزاء للتشابيه يخرج من دار السيد علي السيد راضي، وكذلك يخرج عزاء التطبير من بيت الحاج قربن الحاج عباس وآخر من بيت منديل الغنام، وكان عزاء الزنجيل يخرج من دار صاحب عكموش، ويدار الموكب من قبل عوائل الديوانية وبالخصوص المرحوم ابو حنتوش والمرحوم الحاج عبد الحسين المضمد وبيت الوحاش، وبعد خروج عزاء الزنجيل تخرج كورسات اللطم التي تمثل كل شباب الديوانية في ذلك الوقت، والتي كانت تحمل القصائد السياسية وكل كورس يتكون بين 100-150 شاب، فضلاً عن خروج عزاء الكورسات من مكتبة الحكيم الدينية، وكان (الرادود) السيد حياوى السيد هادى ينهي العزاء بقصيدة قرب دار السيد الشرع بعد مرور موكب العزاء بشارع السراي وبناية المحافظة القديمة، وكان الراحل اسماعيل النداف يقوم بدور زين العابدين (السجاد)، ويقوم بدور شمر بن ذي الجوشن غازي الخزعلي، وبعض الأحيان يقوم بهذا الدور هادى البو محيسن أو أحد ابناء السادة الفؤاديين.
    كان التجار هم من ينفقون الأموال على مراسيم عاشوراء، فالطباخون يعدون الطعام ليقدم مجاناً في الساحات العامة في المدينة، وخاصة ليلة اليوم العاشر، حيث يوجد رجال متخصصون لإعداد طعام يكفي جماهير كبيرة من الناس، وهذه مسرة للعوائل الفقيرة لأنها لا تحتاج إلى الطعام طوال أيام عاشوراء، ما دام الطعام يوزع مجاناً. فيسهر الناس في هذه الليلة الحزينة حتى صباح اليوم التالي وتسمى (الحجة).
    هذه هي أكثر أيام السنة التي يلتزم فيها عامة الناس بفرائض الدين الإسلامي، فيتخلى أغلب الشباب عن ارتكاب المعاصي من تناول الخمور ولعب القمار الخ. حتى المجرمون واللصوص يمتثلون لحب الحسين في هذه الأيام، فنراهم يرتدون الملابس السوداء، وتتبدل هيئتهم ويتصرفون كباقي الناس، بل أنهم يبالغون في مشاركتهم ويظهرون حماساً كبيراً في المواكب الحسينية، وفي هذه الأيام يتنافس التجار في إعداد المواكب لأنها مكلفة مادياً، ومن منهم سيحصل على احسن قارئ، فالشيخ القارئ لا يأتي مجاناً، وإنما له سعره، حسب حب الناس له، ومستوى شهرته، كما لو كان نجماً في السينما العصرية. وقد اصبحت هذه المواكب كمجالس التعزية رمزاً للوجاهة، فالرجل الذي يترأس موكباً أو يمشي أمامه أو ينوح فيه، يشعر بشيء من الشموخ والأبهة من جراء ما يحيط به من جماهير تنظر إليه، وتزداد الأبهة لدية أضعافاً عندما تكون النساء في صفوف المتفرجين، فإن صراخهن يجعل الرجل المشارك في المواكب كأنه فاتح يقود جيشاً عظيماً.
    وكانت تجرى مجالس التعزية الحسينية يوميا في دار الحاج حميد الكعبي في العشرة الأولى من شهر محرم؛ بعد ان تكسوا جدران الدار بالقماش الأسود، وتوضع الجداريات الاثرية عل الجدران، والتي عمرها وقتذاك اكثر من 200  عام، وهي تمثل ثورة المختار الثقفي على قتلة الحسين بن علي، وكان يقيم مجلس حسيني للمرحوم الشيخ عباس الليباوى والمرحوم الشيخ عزيز الشيخ كاظم.
    واستمر ابناء الحاج محمد صادق في طريق الخير والتقوى في بناء الحسينيات وخاصة حسينية أهالي الديوانية في محافظة كربلاء، وبناء المساجد؛ وخاصة المسجد الكبير في سوق التجار، وتعمير مرقد الامام ابو الفضل، والتبرع بمساحة أرض كبيرة لبناء مستشفى الديوانية العام.

69
محمد عبد الجبار النفري ومراحل الفناء
نبيل عبد الأمير الربيعي
    التصوف هو ذروة ما توصلت إليه الثقافة الإسلامية ضمن حدود الإسلام الثقافي، أي ليس الإسلام الدموي، فهو ال"إبداع الإسلامي المحكوم بفكرة الثقافة العامة والخاصة وليس الديني، أي بالتاريخ الواقعي وليس اللاهوتي، بالحياة وليس بالآخرة(1).
    فالتصوف فلسفة من حيث تناوله إشكاليات الوجود وما وراء الطبيعة، والأخلاق وقضايا المعرفة وغيرها. والإسلام الثقافي بوصفه التعبير المناسب عن مختلف مظاهر أنا الحق، بل التصوف وتمثله في حكمته النظرية والعملية، وليس طرائقه، بل تحرره من ثقل تقاليد العقائد المقدسة والمذهبية الضيقة والتقليد، والتصوف هو حركة حرة للقلب، والعقل والحدس، جوهرها البحث عن طريق للحقيقة. وإيجاد الظاهر الإسلامي والباطن الإنساني.
    إذ أن كل ما يتناوله التصوف هو فلسفة دون شك. وخصوصية التصوف تقوم على فلسفة المطلق. أي الفلسفة النظرية والعملية في البحث عن المطلق، وهي تجربة تتسم بقدر كبير بالإصالة، والتصوف الكبير هو فلسفة المطلق في حدوده المحتملة، والتصوف هو علم وعمل صرف، لاستظهار الوجود لحقائق المنطق واستبطان أخلاقي لحقائق المعرفة الكبرى. ولذلك فأن كل فيلسوف كبير هو صوفي بالضرورة، كما أن كل صوفي كبير هو فيلسوف بالضرورة، وكلاهما ينتميان إلى الروح الإنساني المتسامي،  عموماً كلاهما جوهريان للتاريخ الانساني بشكل عام وتاريخ الحقيقة بشكل خاص، هما خزين الذاكرة التاريخية واسلوب شحذ وعيه الذاتي.
   ومهما يكن الأمر فقد عرفوا التصوف بأنهُ (التخلّق بالأخلاق ال"إلهية)(2). أو هو (مذهب الغرض منهُ تصفية القلب من غير الله، والصعود بالروح إلى عالم التقديس، بإخلاص العبودية للخالق، والتجرد عما سواه)(3).
   والتصوف بمفهومه العام هو ممارسة الانقطاع والتقشف والرياضات الروحية، فإنه لم يكن وليد البيئة العربية الإسلامية وحدها، بل أن تاريخ الشعوب يثبت اهتمام الأمم به منذ أقدم العصور، كالبراهمة والصابئة والبوذية والمانوية والمسيحية، كلٌ على طريقته. لكن التصوف عندما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن، دخل في دور جديد، فتبلور في مدرسة الحلاج (309هـ) في الحلول، وفي مدرسة النفري (354هـ) الشهود أو رؤية الحق بالحق، وفي مدرسة الغزالي (505هـ) ومدرسة شهاب الدين السهروردي (587هـ) بالإشراق، وفي مدرسة ابن عربي (638هـ) بوحدة الوجود والحقيقة المحمدية، وغير ذلك من المدارس الفكرية والمقولات الفلسفية التي وجدت بذورها الأولى في الديانات القديمة.
   ومؤلف كتاب المواقف هو محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري الصوفي. والنفرّي منسوب إلى بلدة نفَّر، وهي من اعمال الكوفة، وقد نسب إليها قوم من الكتّاب الأجلاء كما ذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان ج5/ 295. ولعل نفرّ تعريب لكلمة (نيبور) المدينة التاريخية التي شيدت في ضفاف الفرات قبل أكثر من ستة آلاف سنة، حين كان يمر فيها الفرات، وهي اليوم ناحية تابعة إدارياً لمحافظة الديوانية، وتقع على بعد ثمانية عشر كيلو متراً شرقي مركز مدينة الديوانية، ولمدينة نفرّ الأثرية أكثر من عشرين موقعاً أثرياً، منها منارة نيبور التي ما تزال تشمخ بين تلال المدينة.
    نسبهُ بعض الباحثين إلى التشيع بسبب ذكره المهدوية في آخر كتابيه (المواقف والمخاطبات) ص215، وذلك في قوله (تظهر كلمة الله، فيظهر الله وليه في الأرض، يتخذ أولياء الله أولياء، يبايع له المؤمنون بمكة، أولئك أحباء الله، ينصرهم الله وينصرونه، وأولئك هم المستحفظون، عدة من شهدوا بدراً، يعملون ويصدقون، ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولئك هم الظاهرون). وقوله بالغيبة في كتابيه اعلاه ص216: (فلست أغيب بعد هذه إلا مرة، ثم أظهر ولا أغيب، وترين أوليائي القدماء يقيمون ويفرحون). لكن النفري لم يقل اسم المهدي وكنيته في سائر تراثه، كما يعتقد به الشيعة اليوم. وأمر آخر يؤمن به النفرّي وهو يعارض عقائد الشيعة، أي إيمانه بالرؤية التي يرفضها الشيعة جملةً وتفصيلاً.
    فالنفرّي يحدس المستقبل بقلبه ويقينه، فيرى الآتي، ويكشف لنا عنه بصور هي أقرب إلى السحر أو الكرامة، ويرتقي بها إلى مستوى المعجزة.
    كان النّفرّي غير معروف في عالم التأليف في عصره، وفضّل أن يعيش في عالم خاص بعيداً عن الأضواء، سائحاً لا تستقر به أرض، وأن يكون مجهولاً مغموراً من أبناء جلدته وكتاب عصره من المتصوفة. ويعزو يوسف سامي اليوسف ذلك إلى أسباب اجتماعية تتمثل في الأزمة التي اعترت التصوف بعد محنة الحلاج المقتول سنة (309هـ)، حيث التزم أهل التصوف بعدها مبدأ الحذر والتستر بالكتمان والتقية الشديدة على ما يكتبون ويعتقدون، هذا فضلاً عن التخوف من الفقهاء الذين كان دأبهم تكفير أهل السلوك وتفسيقهم وتحريض السلطات على قتلهم. من هنا كانت اللغة الحرة هي ملاذ النفرّي، فجمع (المواقف والمخاطبات) بعد موته يُبرئ النصوص من التوجه إلى قارئ، ومن ثم يبرئه من مراعاة أية قوانين خارجية.
    يقول النفري في موقف (مالا ينقال): (وقال لي: المواجيد بالمقولات كفر على حكم التعرف. وقال لي: لا تسمع فيّ من الحرف، ولا تأخذ خبري عن الحرف. وقال لي: الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني؟! وقال لي: أنا جاعل الحرف والمخبر عنه. وقال لي: أنا المخبر عني لمن أشاء أن أخبره)(4).
    وموضوع مقالنا حول كتاب المواقف للنفّري هو تعبير عن أعلى مراحل الفناء، لذلك قيل فيه (هو إخلاص وجداني، يبتدئ بالسماع للحق، وينتهي بخلق الأنا الكونية)(5). ويعتقد أن نظرية الفناء الروحي قد وفدت إلى رحاب التصوف الإسلامي من خلال الفلسفة الهندية، وأن أول من قال بها أبو يزيد البسطامي (261هـ) ومن بعد الجنيد البغدادي (297هـ)، ثم انتقل الجنيد من القول بالفناء إلى فكرة الاتحاد، وهي أن يصل المتصوف إلى درجة تتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بعلّة الوجود عن طريق الشهود، وتصير الذاتان واحدة، وذلك بالتجرد عن حول العبد وقدرته إلى حول الله وقدرته، فيقوى بذلك وتتلاشى شخصيته البشرية(6). وغالباً ما تتألف عبارة الشطح من كلمات ما قاله النفّري في موقف بين يديه (أوقفني بين يديه وقال لي:... سبحانك! أنا أسبّحك فلا تسبّحني)(7).
    والمراد بالوقفة في اصطلاح الصوفية (الحبس بين مقامين لعدم استيفاء حقوق الذين خرج مه، وعدم استحقاق دخوله في المقام الأعلى، فكأنه في التجاذب بينهما، بمعنى آخر التوقف بين المقامين لقضاء ما بقي من حقوق الأول، والتهيؤ لما يرتقي إليه بآداب الثاني. ولقد بدأ النفرّي بالمواقف اعتقاداً بأن الوقفة مع الله تعالى تتيح للسالك أن يرى ربه بقلبه في الحياة الدنيا، وطبيعي أنه بعد الوقفة تأتي المخاطبة، والمخاطبات على ذلك كانت التالية على المواقف. والمخاطبات فهي إحدى أدوات التلقي، وهو أخذك ما يرد من الحق عليك، بطريق الخطاب أو غيره.
   والسياحة عند النفرّي ليست عبوراً للمكان، بل هي اكتشاف ضيق الوجود وضيق المفاهيم التي تعبر عن هذا الوجود، وهي رحلة تطلّع ولهفة إلى مكان لم يوجد بعد على الأرض، ومفهوم لم يوجد بعد في اللغة، ومن هنا تأتي غزارة لغة النفري التي تميزه عن سواه من المتصوفة.
   وقد أثار النفرّي بعض الفقهاء ضد الصوفية في قوله (أوقفني وقال لي)، ويعتقد ابن تيمية في رده على النفرّي أن الشيطان يتمثل له، ويقول: أنا ربك، فيخاطبه ويظنه ربه، وإنما هو الشيطان. انظر نعمة الذريعة في نصرة الشريعة: لإبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي، ص47/48. ويبدو أن النفرّي يغلو في مقام الوقفة، فيجعله فوق مقام النبوة من حيث المعرفة بالله، لقوله (وقال لي: رسول رحمة لا يحيط بمعرفتي، ورسول عقوبة لا يحيط بمعرفتي)، والمقصود برسول الرحمة ورسول العقوبة الإشارة إلى قوله تعالى : (وما ترسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين).
    وللنفري آثار أدبية منقولة عنه في غير الكتابين (المواقف والمخاطبات)، منها: كتاب موقف الموقف كتب سنة 366هـ. وكتاب أجزاء متفرقة. كتب في النيل سنة 354هـ. وكتاب قسم الحكم، كتبه في المدائن سنة 354هـ. وكتاب مواقف ومناجيات، كتبه في البصرة سنة 359هـ. وكتاب باب الخواطر، ومقالة في المحبة، كتب بعضاً منها سنة 352هـ، وبعضها في واسط سنة 252هـ.
     وللنفرّي تسع وخمسون مقطوعة شعرية مبثوثة في أثناء (الأجزاء المتفرقة)، و(الحكم)، و(المواقف والمخاطبات)، تدور مضامينها حول الصفات الإلهية والحكمة الصوفية، والحب الإلهي، وتحدث فيها عن مواجيده وأشواقه.
    والنفرّي في كتاباته يفجر طاقات اللغة، ويراعي النغم، والتناسق الصوتي والجمالي في تجربته النثرية التي تكاد تقترب من الشعر، بل قد تكون شعراً موزوناً، نحو قوله (أنت معنى الكون كله). ويمكن تحديد الأنواع الفنية للنثر في عصر النفرّي بالخطابة، والترسل، والاحتجاج، والحديث.
 
المصادر
1- د. ميثم الجنابي، العراق حوار البدائل، حاوره مازن لطيف، مؤسسة المرتضى للكتاب العراقي، مطبعة جعفر العصامي، 2009، ص36.
2- محمد على التهانوى، موسوعة كشف اصطلاحات الفنون والعلوم، سلسلة موسوعات المصطلحات العربية والإسلامية، تقديم واشراف ومراجعة: رفيق العجم، تحقيق: علي دحروج، ترجمة: جورج زيناتي، مكتبة لبنان، ناشرون، ط1، 1996، ج1، ص456.
3- محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة، ط3، 1971م، ج10، ص585.
4- محمد عبد الجبار بن الحسن النفري، المواقف، تصحيح واهتمام: أرثر يوحنا اربري، مطبعة الكتب المصرية في القاهرة، 1934م، ص60 الموقف 34.
5- د. ميثم الجنابي، حكمة الروح الصوفي، دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2007، ص338.
6- د كامل مصطفى الشيبي، الصلة التصوف والتشيع، دار المعارف بمصر، ط2، ص339.
7- كتاب المواقف للنفري، مصدر سابق، ص72.

70
المنبر الحر / فهد وأطياف العتمة
« في: 17:52 28/06/2022  »
فهد وأطياف العتمة
نبيل عبد الأمير الربيعي
    للواقع مساره الخاص، ولاستيعاب الماضي عوضاً عن جميع الشتات، من اجل بناء التاريخ المتصدع، نلاحظ عنجهية صبيان السياسة، في تفننهم البليد بتخريب البلد، وفق كل ما لم يستجيب لذوقهم بعد عام 2003م، عام الاحتلال الأمريكي وما زال. فالعراق مهما طالته يد الغدر سيلجم خونته من اصحاب الصوت النشاز، الذي يجعله من ألفه إلى يائه نفياً للتبرير بمختلف الصيغ والاشكال، العراق ليس اسماً ومسمى، بل هو الأنا النابعة في كل فردٍ منا، التي وجدت انعكاسها لما يستثير واقعنا المؤلم، والحزن الكامن في روح العراقي وفيما يسعى إليه.
    إننا نسمع العراقي في شكوى القصيدة، وغناء الأمهات الثكالى، وحنين الصبايا، والتضرع المعجون بالرغبة الصادقة في تقديم النذور للأولياء الصالحين، التي ترتقي إلى مصاف المقدس، لكن المقدس الذائب في الذاكرة سرعان ما يتحول إلى هاجس البحث عن بديل لما نمر به من انحطاط بعد عقود مريرة من الدكتاتورية، تلك العقود التي جعلت من العراق كياناً مهمشاً، فضلاً عن ما يمر به العراق من زيف الاحزاب، واليأس وتعاسة الواقع.
    أما المحاولات الخائبة لتفضيل العراق على قدر ما فيهم من أعراق وطوائف لا عراقة فيها ولا أطياف جميلة، فمن يقرأ تاريخنا يتبين له أن الأسود هو ليس لون الحزن فقط، بل وجمال العينين، ولنقف أمام الحقيقة القائلة بأن الهوية العراقية اعرق واوسع من كل ما قيل فيه، فالماضي هويتنا التي نفتخر بها، بكل ما مر به البلد من مأساة تاريخية كبرى، وآلات الدكتاتورية قد دمرت صرح التاريخ العراقي، واصبح الابتذال والركض وراء المكاسب والمصالح سر المهانة العقلية للحياة الفردية والاجتماعية، لذلك نجد اليوم قد تلاشى التاريخ والعلم بسبب الهجمة التي نالت من اسم وسمعة بلدنا بسبب ما تمر به من تدهور في المنظومة الاخلاقية وتخريب لمؤسسات الدولة بسبب استشراء الفساد في جميع مفاصلها.
    العراق يبقى كوناً وكنزاً ولغزاً مهما كانت مأساته الحالية، فمن غير الممكن البكاء عليه بمعايير الاطلال، فمكونات العراق محفورة في العقل والذاكرة والحدس، لكننا بحاجة إلى اقلام تاريخية تفهم دروس الماضي، وتتأمل المستقبل بروية ودون انفعال وعجالة، نحن بحاجة إلى معاول الفكر الحادة وحاسة الشم القوية من الأعماق الدفينة، من اجل ألا تكون الجهود ركضاً وراء السراب. نحن بحاجة إلى رؤية تقترب من اليقين لانقاذ العراق الجريح، ويقين المشروع الواقعي والعقلاني في كتابة التاريخ، وهي مسؤولية نخبة الفكر الكبيرة.
    العراق بحاجة إلى فهم علمي وإنساني ليرى العراق ماضيه في حاضره، ومستقبله في مشاريع النهوض، نحن بحاجة إلى حوار الروح والعقل والحس والحدس من اجل مواجهة العراق لذاته، ليتأمل مستقبل ابناءه كما نريد. فالعراق عبارة عن طبقات من عصور متراكمة لا يمكن فك رموزها دون الشعور الصادق بالانتماء إليه، من خلال استيعاب الحقيقة التاريخية العقلية للعراق، فمرجعنا الأول والأخير والأبدي للعراق من خلال انتماء المرء الحالم الذي يشعر بما حلَّ بالعراق، كي نعمل من الأعماق لفكرة الخلود والإنسانية، رغم كل مراحل الشقاق والاختلاف والانحطاط. لكن العراق يبقى أرض الممكنات الكبرى وميدان حل اشكاليات الوجود الخالدة.
    فالعراق يبقى المعترك الذي جعلت آثاره غائرة في جباهنا، وعروقاً غائرة شأن النخيل في اجسادنا، وعراقة أرواحنا، وابطاله وعلمائه شعاعاً ينير خفايا العقل والروح والضمير بأطياف التضحية والبطولة والابداع. والهوية العراقية هي بصمة الرؤية الواقعية والعقلانية، وعصمة الخروج من مأزق الانحطاط والتمزق الحالي، فما يراه الآخرون من قطيعة بين الماضي والحاضر، إنما هو امتداد مع كبوات لها اسبابها ومقدماتها. وحقيقة العراق ليست جغرافياً، بل اكبر واوسع واعمق واعرق، وليست زمناً بل تاريخ. إننا نأمل خروج العراق من مأزقه الحالي، مشبعاً بنابض القلب الحي لكي يستمر حياً كريماً بما في ذلك من ظروفه القاسية، من السقوط والتشاؤم، فعلينا أن نسعى لتحقيق هدف العراق السامي في ادراك خبايا المجهول في مواجهة التاريخ وبرودة الزمن.
    ليست هناك أمور جزئية أو ثانوية بالنسبة للبحث الرصين. غير إننا نعرف صعوبة احتواء كل شيء، خصوصاً حالما يجري الحديث حول بدايات فهد (يوسف سلمان يوسف) وحياته الشخصية. والقضية ليست فقط في صعوبة الحديث عن كل شيء، ولاستحالته. من هنا سوف اسعى بالشكل الذي يجعل القضايا الشخصية عامة، والعامة شخصية، أي إيجاد النسبة المعقولة، والقادرة على تحويل المعلومات إلى فكرة.
    الذكرى ليست أثراً بالضرورة، فالجميع تتمتع بذكرى. بينما هناك ذكريات قليلة قادرة على أن تصبح أثراً، وخصوصاً حالما يجري الحديث حول التاريخ. فالعراقي يتذكر ابن زياد والحجاج ومعاوية ويزيد ونوري السعيد، وقد يتذكر فيما بعد صدام حسين وأمثالهم، غير أنه ليس أحداً منهم قادراً على أن يكون أثراً في الوعي والعقل والضمير مثلما نتذكر تأريخ القائد الشيوعي فهد.
    فالتاريخ حالما ننظر إليه من حيث كونه مسار الأيام والأشهر والسنين هو مجرد تيار الأبد. لكنه يتحول إلى تاريخ حالما يتجسد في قيم ومفاهيم ومؤسسات قادرة على إبداع التراكم الضروري بالنسبة للحياة المدنية. ونضال فهد هو جزء من تاريخ الصراع الذي لا يكون الزمن هو الحاكم كما لا ينبغي للفكرة أن تكون أسيرة الوقت الضائع. فالبحث عن الحقيقة لا يستغني عن التفاصيل والجزئيات لنضال فهد، بل يعتمد عليها، وهي رؤية ذات أهمية بما في ذلك بالنسبة للحديث عن حياته الخاصة، وذلك لأن حياة المرء تفاصيله.
    وميدان الفكرة هي القضية التي تصبح إشكالية، وذلك لأن الجزئيات تصبح حينئذٍ تفاصيل التدليل والتأسيس والتشكيك والنقد وغيرها من المواقف. وهو أمر ينطبق على حياة فهد والحزب الشيوعي العراقي والحكومات المتعاقبة منذُ تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934م ولغاية كتابة هذه المفردات. لكن الحياة العادية تقاس بجزئياتها، والتاريخ بنتائجه الكلية، وهو اختلاف في الرؤية والمواقف وليس في الحقيقة.
    فتاريخ العراق الحديث، وبالأخص تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين، هو إحدى المراحل الأشد تعقيداً وديناميكية وتخريباً أيضاً. فقد ولد فهد في بغداد في 8/7/1901، من عائلة كادحة من قرية (برطله) التابعة لمحافظة نينوى، ونشأ وترعرع في تلك المرحلة التي ميزت انتقال العراق من الحكم العثماني إلى الملكية، مع ما رافقها من تحولات عنيفة واساليب راديكالية أبقت عليه حتى تاريخ اعدامه في ميدان الصراع العنيف، يفتقد في اغلب جوانبه للنزعة العقلانية والأبعاد الاجتماعية السليمة.
    ومن البديهي أن تتراكم شخصيته الفردية والاجتماعية (الخاصة والعامة) ضمن مسار تلك الأحداث، التي تصنع الجميع وتعيد إنتاج تصوراتهم واحكامهم ومواقفهم وقيمهم، ومن ثم فأن الاختلاف فيها وحولها هو أيضاً جزء من الحياة العامة. فعاش يوسف سلمان يوسف (فهد) تحت تأثير تلك الأحداث تماماً بالقدر الذي يسمى التغيير، على الأقل من خلال تأسيس الأفكار العقلانية والمستقبلية في ظل الاحتلال البريطاني، انطلاقاً من يقين الراحل فهد من أن العراق الممكن هو عراق المستقبل، وقواه الأحزاب السياسية في تلك الحقبة الزمنية، وهو سر المعاناة العراقية سابقاً وفي الوقت الحالي، ومعاناة فهد الشخصية.
    فكان اهتمام فهد بمستقبل بلده وشعبه وكل ما تكون الحياة والمجتمع والدولة والبناء وحرفته المباشرة، لا يمكنه إلا يعاني، أو بصورة أدق يشاطر الحياة العامة همومها، فحقيقة الراحل فهد الإنسان كان يعاني من تلك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية على قدر مساهمته في الحياة العامة ومشاطرته لهمومها الكبرى والصغرى، من هنا كانت حياة العراق العامة من صلب اهتمامه، فعبرها ومن خلالها تراكمت شخصيته الفردية، وحكمت على وجوده الواقعي والفعلي والعقلي والإبداعي.
    والمشكلة الأهم في أن فهد ولد وعاش مراحل الصغر والصبا والفتوة في أوقات جرى قلب التاريخ فيها رأساً على عقب، فكان ينتمي لعائلة كلدانية تهتم بتربية اطفالها وتعليمهم، وعند بلوغه سن السابعة انتقلت عائلته طلباً للعمل إلى البصرة، وادخل مدرسة السريان الابتدائية، وبعد تخرجه منها دخل مدرسة (الرجاء العالي) الامريكية. وبعد سنتين اضطر إلى ترك الدراسة بسبب الاوضاع الاقتصادية للعائلة، وفي عام 1916م اضطر للعمل في معمل صغير للثلج يعود لأخيه داود في مدينة الناصريه. وعاد ثانية إلى البصرة ليعمل كاتباً في إدارة توزيع الكهرباء في الميناء، وتعرَّف على احوال العمال وظروفهم في مشروع كبير، ويروي شقيقه "داود سلمان يوسف" أحد قادة الأضراب الذي اعلنه عمال المسفن "الدوكيارد" في البصرة صيف 1918م في حديثه لعزيز سباهي وكان الأثنان معتقلين في معتقل أبو غريب عام 1949م، (أن فهد وكان وقتذاك شاباً يافعاً قام بصياغة وكتابة العريضة التي قدمها العمال لإدارة المسفن. ثم انتقل للناصرية واشتغل عاملاً في معمل الثلج والطحين العائد لأخيه، وفتح مكتبة في الناصرية لبيع الكتب والصحف بالأشتراك مع "مهدي وفي).
    كانت فكرة الزمن والمؤقت منه بالأخص، هي القيمة الكبرى السائدة، كما تقول الفلاسفة، في الأذهان والأعيان، أي في أفكار الناس ووجود الأشياء. وهي الحالة التي عايشها فهد مع العائلة. فقد كانت حياة عائلته في العهد الملكي تنقلاً في المكان ومواجهة مع السلطة، وفي وقت لاحق مطاردة وهي تلاحق ابنائها من مكان إلى آخر، كانت من حيث مظاهرها أقرب إلى الفراق الأبدي.
    عاش فهد الولادة في بغداد، والطفولة في البصرة، والصبا في الناصرية وقليل في بغداد، والفتوة بين البصرة وبغداد، ويمكن القول أن بغداد والناصرية والبصرة هي أكثر المناطق تأثيراً في حياته. وليس اعتباطاً أن اشكاليات حياة فهد الفكرية والسياسية من الممكن ربطها باشكاليات العراق الحالية، كما إذا عدنا لتاريخ الناصرية فهي المنطقة الجغرافية والتاريخية والروحية التي تربى فيها، تماماً بالقدر الذي شكلت من حيث الجوهر ماهية العراق والعراقية. فظروف تنقل عائلته السابقة كانت تعكس في أحد جوانبها انعدام الاستقرار، لكنها كانت بالنسبة لفهد فضيلة، فهو يشعر بأنه ابن مدن العراق ومعاناة ابناء شعبه، إلا أن ذلك كان مرهقاً بالنسبة لهُ، لكن هذا التنقل علمهُ القدرة على مواجهة الجديد، وجعلت من المفاجئآت أمراً مقبولاً، لأنه جزءاً من الحياة والإرادة. فتنقل العائلة من مدينة إلى مدينة عادةً تتأثر بالحياة السياسية وهذا بالأحرى ينعكس على تكوين شخصية فهد ليس معزولاً عن حياة المجتمع والدولة، فضلاً عن كونه حياة العائلة ومصيرها، لكنها بالنتيجة أدت إلى تكون قوة العائلة وافرادها الفاعلة في المجتمع، وهي الصفة التي ميزت أفراد عائلته.
    كانت عائلة فهد وثيقة الارتباط بالحياة والإنتاج في مدينة الناصرية، فهي المدينة التي عمل فيها وتكونت شخصيته المستقلة وانبثقت فيها أفكاره الماركسية، كان أخيه البكر صاحب مبدأ في دقة عمله وإخلاصه فيه، وأمانته فيما يقوم به، بل كان يضاهي في عمله في تنفيذ مهامه.
    فكانت حياة فهد هي حياة أخيه وعائلته، ومهما كانت الكلمة الممكنة هنا، فإنه يمكن أن يطلق عليها بداية العمل الأزلية، فكان يتعامل معها كما هي، لأنها ذات قيمة مطلقة بحد ذاتها، فحياتهم على قد ما فيهم من مآسي وأفراح ورذائل، المهم كانت تنظر إلى جمالية الإنتاج ووحدة العمل من أجل مستقبل العائلة، فالإنسان محصور بين صيحتين، ومفارقاتها، يولد باكياً وأهله يتضاحكون، لكن فهد صنع حياته السياسية بدون دموع ولا صياح ولا معارك صغيرة من الجهر والعلانية، فربط جذور عائلته التاريخية بالفكر الماركسي.
    جذور فهد الأبدية ترتبط بولادته ونشأته في العراق، أي أنها اختزلت فكرة الأزل لتعيد ترتيب الأشياء بالشكل الذي جعل من كل المعاناة التي عاشها فهد في ميدان البحث عن الحقيقة وتأسيسها في مختلف الميادين، وخاصة من خلال تأسيسه منظمة مكافحة الاستعمار والاستثمار وهي النواة الأولى للحزب الشيوعي العراقي.
   المعاناة التي عاناها فهد في مقتبل حياته كانت تمتص رحيق الوجود الحياتي واشكالاته وتاريخه وآفاقه. وهي لا تنفصم عن معاناة أي فرد وطني في العالم العربي، بل تمحور فيه ومن خلاله، وهي الحلقة الأولية والطور الضروري للانطلاق صوب الفكر الماركسي. فجميع من تبنى هذا الفكر التقدمي يشترك بهذه المقدمة الضرورية لوجود ذلك الحزب وما يحمل من هموم أبناء بلده، لكن الشيوعي في هذه اللحظة يختلف عن الآخرين فقط في كيفية تحسس وتأمل إعادة الإنتاج والابداع وكيفية توظيف الفكر الماركسي في حل وتحليل واقع حياة المجتمع العراقي.
    فالجذور الفكرية هي في الحقيقة ما يتوصل إليها الفكر الحر في مجرى معاناة الإشكاليات الكبرى ومشاطرة الهموم الجوهرية للأمة والدولة والمجتمع، فبمرور الزمن ومن خلال توسع ادراك الفرد مما يؤدي إلى معرفة الحقيقة بشكل أعمق وأكبر من أن يربطها بزمن وجوده، أي الانتقال إلى ادراك قيمة التاريخ في وجوده، وتاريخ المرء هو تاريخ الأمة والدولة والثقافة، وهي مكونات ليست محلية بل وعالمية، وضمن هذا السياق للفكرة، يمكنني القول بأن جذور فهد الفكرية أعمق من تاريخ العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، رغم شخصيته الواعية التي تبلورت في مجرى عقوده الدامية، فكانت ميول فهد إلى جانب اليسار وإلى الفكرة التقدمية والحرية والنزعة الإنسانية والمدنية، وهي جذور اعرق من أن تربط بمرحلة دون أخرى، لكنها كونت شخصيته وفكره وتوجهه العام.
   

71
مظفر النواب وانقلابه على القصيدة العامية (الحلقة الثالثة)

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    والنواب في قصائده له طريقة في التوكيد على الفعل، خصوصاً قد لا يلتفت إليها المتلقي في حرية انتقاء الفعل المناسب الذي يطابق حالة التكثير ويثريها:
هاي بيوتنه وذولاك أهلنه
والچواير گطه
ودخان المعامل واصل التالي الشلب
والشلب ناهبله گصيبه من الشمس
                   گبل الصبح
                       بسكون
ويگولولك إحنا نموت!!!
   هاي الدنيا ما يبنيها غير أهلك..
      وميتنا أَرد أگلك: من تشيله الناس..
         يدير العين للديره بمحبّه وهوّه بالتابوت..
           ويگولولك، العفنين، إحنا نموت!!!!!!!
    تأمل الصورة التشكيلية لرسام تشكيلي مجيد كم يعرف عنهُ، فالنواب يضخم حالة التكثير بدرجة صادمة، يزيد دقتها في التماثل اللوني والكتلي للجانبين، كما بإمكان الشاعر، فكان الخيار مفتوحاً أمامه بين فعلين (نهب) و(باگ) أي سرق، والمتخيل يتخيل السرقة كعمل عدواني، لكن النهب عمل عدواني عنيف، فهو العنف النوابي، وبصمت خلال اغفاءة الشمس المهيبة يتولى السرقة.
    فالنواب يبذل جهداً هائلاً في الصبر ليس على كتابة القصيدة بل تخميرها من المبنى والمعنى، والمفردة الواحدة، وأحياناً الحرف الواحد، لينتج لنا أروع أنواع الشعر الساحر المذهل، ليرفعنا إلى  سماوات قصيدة النشوة الصوفية المترفعة، وهذا ما نجده في قصيدة (زفة شناشيل):
انا يعجبني ادور عالگمر بالغيم
ما احب الگمر كلش گمر
يا عمر كلك مطر
يا فرح جنك قهر
منين اجيسچ تاخذ الختلات روحي..
الگه عنبر..
الگه مشمش..
الگه غرنوگين يصلن
الگه شي ساكت مثل فرخ الحبر
الگه شي ضايع نهر
دشداشه گمره
اثنين بالمشمش..
وإذا العصفور يزقزق...
فوگ...
نسحب البستان..
نتغطه شهر.
صنطه لشناشيل
صنطه العگد
نام الدف على امخاديد الجوارين
وحصان العمر مسرع ورا الگمره، عبر
گنطره وماي الگمر
گنطره ونوم وعشگ جاس النهر
گنطره وجانا المطر
    لذلك من خلال قصائد النواب نجده قد فجر المفردة العامية وأطلق طاقاتها المحتبسة، منطلقاً من الفهم الخلاق لدور الشعر، وهو يمنح المفردة دوراً جديداً باهراً، ومعانٍ جديدة باذخة، تتجاوز معناها القاموسي التداولي، فيقول النواب:
جفنك جنح فراشة غض
وحجارة جفني وما غمض
يل تمشي بيا ويا النبض
روحي على روحك تنسحن
حن .. بويه حن
    وهنا ينشئ النواب علاقة بين جفنين: الأول جفن المحبوب، والثاني جفن المحب العذب. وتأتي الدهشة دائماً من الألم الفائق، لحضور الموت وليس من الحياة المحضة الرتيبة، وفي قصيدة للنواب (ولا زود) يقول:
جثير گزازك بروحي،
وأگولن
هاي حنيّة
وأگلّك
وين هالغيبة؟
سنه
وبالحلم منسيّة
يَاطيف
شوية عاشرنه
الصبح دنياك، مگضيّة
    من خلال ما تقدم نجد المنجز الشعري الابداعي العامي للنواب بمفرداته قد صدأ واندثر تحت طبقات من غبار بلادة الاستعمال، لكن قد جسد النواب في شعره الحجر إلى ذهب من تلك المفردات: الغرشة، ليطة، مدگگ، نگش، اللجعة، زحير، ناموس، شگبان، اتغرنگت، الرزّة وغيرها.
    فينتقي النواب المفردات في تصوير مشاعره وانفعالاته وافكاره، فاستخدام المفردات من قبل النواب تشكل اختباراً حقيقياً لقدراته على الخلق وتحويل تراب المفردة إلى ذهب القصيدة، ومثال ذلك مفردة (گزاز)، لا أجد شاعراً قبل النواب قد استخدمها في الشعر العراقي العامي، فالمفردة تعكس درجة تمزق روح الشاعر، الذي بلغ حدوداً سادية في ذلك الكم الهائل من الوجع حباً، وأخيراً رحل النواب بعد ذلك الوجع جسداً لا روحاً، فقد جسّد روح العاشق لبلده وشعبه وشعره، من خلال قصائده، فجاءت سكتة الاكتئاب واليأس، ورحلت إلى الأبد تلك الشقاوة النازفة، لتعقبها خطوة اكثر مباشرةً واقتراباً من دائرة الخيبة والاحباط بعد احتلال بلاده من قبل الامريكان، الذي كان النواب يتمنى أن يتحسن حال بلده من بعد ذلك الانتظار والوحدة والأمل.

72
مظفر النواب وانقلابه على القصيدة العامية (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    ولهذا تتحطم مشروعات الثوار في قصائد مظفر النواب رغم عظمتها لأنهم يفصلون الحس الشعري عن الدهاء السياسي لمشروعات رجال الدولة، بمختلف ألوانهم رغم أنها ذات طبيعة أرضية ماكرة، يتضح ذلك من الفارق الشاسع في الأوصاف السيئة:
أمد صبري اعله صبرچ
وأحفر سراديب..
لو صرتي..
زبل من زود المزبلين.
لو داروا عليچ سياف طينتهم
                يا حلوه سنين
    لقد فتح مظفر عينيه على الحياة وأرضه ترزح مُذّلة تحت أكوام تاريخية من أزبال الطغاة (المزبلين)، ومختنقة الأنفاس بفعل (سيان) الاضطهاد والحرمان والموت والخراب. لكن مظفر في الواقع يعذب ذاته في تأكيد ولاءه لحبيبته الأرض، وهي تصبح نفاية من نفايات المتسلطين، ويغرقها سيان الغادرين المستذئبين.
    ووسط الأزبال التي كتمت أنفاس الحبيب يقف مظفر فوق اطروحات الرؤية والرؤيا على حدٍ سواء، في تعبير بسيط:
أگولن گاعي وأعرفها
أگولن گاعي
يتنفس بريتي ترابها...
   وجها... وبصلها... والشمس... والطين.
باعوني عليها
    وخضرّت عيني بدمعها
                     وماني بايعها
    من خلال قصائده اثبت مظفر أن اللغة مطيِّة اللاشعور الخلاق، يتلاعب بها كيف يشاء، وخصوصاً في مجال الوحدة العضوية الصوتية واللغوية. فأبتكر مظفر طرقاً كثيرة خلاّقة للحفاظ على وحدة هذه القصيدة، منها أنه يتنقل من بيت إلى آخر محتفظاً بالمفردة المركزية التي تتحرك في أدوارها من مفردة قافية إلى مفردة استهلالية للبيت:
وحگ الشطر الأحمر
     والليالي الغبرة
     يگويعة
     أموتن وانتي حدر العين
                   تتونسين.
    القصيدة تدور حول العين التي سيخفي فيها مظفر عين الوجود، المحاط بالتهديدات الموغلة في الأذى، تحت طياتها العظيمة المؤذية قاسماً بالشطر الأحمر، فالنواب هو أول من أعاد للقصيدة روحها الأمومية/ الأنثوية، روح الخصب والنماء والرحم الفردوسي الكريم، فضلاً عن الاستهلال الذكوري في القوة والجسارة مثل مفردة (أواكح) أو وكاحة:
نُبگ حجام
    والحاجب نسر فارس جناحينه
                  بوكاحة يطير
    فالنواب باسلوبيته الجديدة متيقظ ومتحفز في ذروة نشوة الخلق، لا تغيب هذه النشوة لدى الشاعر:
أواكح
چني إيد تفوچ
       مگطوعة أصابعها.
    ويكرر النواب في قصائده المفردة نفسها في أكثر من بيت، من دون أن يشعر المتلقي بحالة التكرار:
عين الماتشوف احبابها الطيبين
                 ماهي عين
                  ولا هي تشوف
                 ولا هي بعمه
                      ولا هي تنام
    كما أن النواب هو أول شاعر ادخل الرسم العددي في القصيدة، في ريادة اسلوبية مضافة، وذلك في قصيدة (جد أزيرج) يقول فيها:
صريفتنه رقم6
صريفه13 دم
صريفه 14 سل وخنازير
صريفه15 ناز ومزامير
صريفه17 مذبح عرض بنته
    فكل حركة في قصيدة مظفر مدروسة ومخطط لها، فإنه يستخدم مفردة سنة أو عام لوصف عمر الفتاة، استخدم لفظة (سنبلة) مقابل الألف المسلحين الذين لم تخف منهم من ناحية، وبالتضاد مع أخيها حچام. حچام هو ابن الشعب، ويمكن أن يكون كبير الشلب الذي يجسد في مقطع الصدى الصوتي المدوي: يا... ح... چ... ا ...):
رّد الهور:
     إسمع يا جبير الشلب، يا حچام
                يا حچام.. يا حچام.. يا.. ح .. چ.. ا.. م
    فالنواب يستخدم العين السينمائية الحركية كشاعر بالعين الفوتوغرافية الناسخة:
فزّت گبله البرنو
لگطها بساع:
يالوحدچ شريفة
     وبيّت الضيم بزمرها
     وخطن العينين سچة تميط
                   فگ الماي
    سكة الغيظ مماثلة للسكة الحديدية على وجه الماء، كلقطة سينمائية مميزة، وهي السمّة الحركية لمظفر، وللنواب طريقة أخرى في التوكيد على الفعل خصوصاً قد لا يلتفت إليها المتلقي، وتتمثل في استثمار القدرة التوكيدية لحرف النون وإلحاقه بالفعل كما في: أفرّن، أگولن، أموتن. لكن النواب مُخرِج شديد الاقتدار في تصوير الحدث الدرامي:
والتاف
     وشبگ گلبه
          وراحن حدر الگصب والطين
                      ما مش للرصاص أخبار مشتاگين
    وهنا تتجلى الرؤية في حرية انتقاء الفعل المناسب، الذي يطلق حالة التكثير، لكن النواب في هذا المجال هو الشاعر العراقي العامي الوحيد الذي احتفظ بنبرته التفاؤلية في تعامله مع الحياة وهو يواجه الموت، في السجون والمعتقلات، وفي تجربة النضال المسلح، والتي جسدها شعراً في قصائد تسلّحت بها قطاعات واسعة من الشعب العراقي، مناضلين وقادة سياسيين، شيوعيين وغير شيوعيين، وبعضهم مناهض للتيار الشيوعي بل معادية له.
 
 

73
الديوانية مدينة النشأة والذكريات
نبيل عبد الأمير الربيعي
أبصرتُ النور في منتصف القرن الماضي، بعد ثورة 14 تموز 1958 بأربعة أشهر، وبعد أنْ رحل النظام الملكي المرتبط بالاستعمار البريطاني، الذي غزا العراق تحت ذريعة نشر الديمقراطية، فكنت شاهداً على تجاوز بلدي مخلفات الماضي، وسيرهُ قدماً نحو ما بدا لنا بوصفه مستقبلاً واعداً مُشرقاً.
حدث كل ذلك في العراق البلد الذي كُنتُ سَعيداً فيه، ومتنعماً وسط مجتمعي الطيب المتآلف مع جيرانه بمختلف طوائفهم، كان العراق بلداً فاتناً، يفوح منهُ عبير الذكريات الأثيرة، لكن بعد الأحداث المثيرة التي جرت بعد ذلك حيث الإنقلابات والحروب وآخرها الإحتلال الأمريكي عام 2003، طُمست معالمهُ وكأنَّ ممحاةً قد أزالت خطوط الطباشير من على السبورة لكتابة قصة لمأساة جديدة.
عشت في مدينتي الفراتية (الديوانية) سعيداً متنعماً وسط مجتمع متنوع المكونات من (يهود ومسيح وصابئة مندائية ومسلمين)، وكذلك الكُورد المبعدين إلى منطقة الفرات الأوسط، ذلك المجتمع المتآلف مع جيرانه من شتى الأديان والقوميات، كانت مدينتي فاتنةً، تفوح منها رائحةُ رزِّ العنبر وعبير الذكريات الأثيرة، وهنا أنا أراها اليوم وقد تغيرت كلياً وطُمست معالمها.
نشأ نظام البعث من تحت رماد الأحداث التي مررنا بها قبل ستة عقود، وتسبب الإستبداد بزلزالٍ أسفر عن تشظّي المكونات الأخرى في المجتمع الديواني، ما زلت أرتعد كلما برقت في ذاكرتي فظاعة ما مررنا به، لكنني أعود فأذكّر بنعمة النجاة من المحنة التي خرجت منها يوم إعتقالي بعد إنفراط عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية كما يطلق عليها، بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي عام 1978م على يد مفوض الأمن حمزة علي ومعاون أمن بلدة الديوانية النقيب محمد عباس.

كتبت الدكنورة أسماء غريب عن كتابي الموسوم الديوانية مدينة النشأة والذكريات) ما يلي

رجلٌ من أقصى المدينة

د. أسماء غريب

سَلامُ اللهِ عليكِ يا أرضَ الأولياء والأنبياء، سَلامُ قلبٍ عارفٍ بتُرابكِ الأوّل ومائكِ الشّافي، وخُبزكِ الدّافئ وحَرفِكِ الخفيّ. سلامُ اللهِ على ملائكتكِ المُرَفْرِفين في سمائكِ والطَّائِفِينَ بعرصَاتكِ، والحاضرين معي لزيارتكِ. سلامُ اللهِ عليكِ يا نيبور في الأوّلين، ويا أيّتُها الدّيوانيّة في الآخرين، سلامٌ على زقّوراتكِ ومعابدكِ، وكنائسكِ ومساجدكِ. وأسواقِكِ ومقاهيكِ، ومدارسكِ وحدائقكِ، وبيوتكِ ومقابركِ. سلام الله على هذا الرّجل الّذي رفعَ قلمَهُ ليكتُبَ بماء العشق والذّكرى عنكِ وعن أبنائكِ، فجاء حرفُه حرفَ العارفين بمكانتكِ وجاهكِ وسلطانكِ، يا ابنة الفرات وسيّدة سومر وبابل وآشور، ويا أرض السّواقي والمشافي والفيافي والمنافي. سلام الله عليكِ يا أمّ النّفريّ ويا خازنةَ العجائب والأسرار، سلامٌ عليكِ وأنتِ تطرقين باب نبيل الرّبيعي، فتوقظين في قلبه الذّكريات وتهمسين لهُ بحرفِ الذِّكْر قائلةً بصوتكِ الآتي من أعماق طَمْيِ الماء الحيّ الخصيب: "إنّما أنتَ مُذَكِّر لَسْتَ عليهم بمُسَيْطر!"، فينتبهُ من سكرتهِ ويفهمُ للعُمقِ دورَ رسالة الحرفِ بين يديْه، ويعرفُ كيفَ أنّ مسيرة الإنسان ملخَّصَة كلّها في عمليّة التّذكُّر هذه، فطوبى لمن يستطيعُ أن يُفَعِّلَها في فؤاده، ويُلهبَ نورها وأنوارها بين أنامله ويُقدّرَ الذّكْرَ بفِكره حقّ قدره!
سلام الله عليكِ يا أرضَ التّين والزّيتون، والشّموع والقناديل، والدّماء الزكيّة والأرواحِ البهيّة، سلامٌ عليكِ وأنتِ تأخذين بيد ابنكِ البارّ نبيل الرّبيعيّ وتشرحين له كيفَ أنّ الإنسانَ لا يُمكنه أن يكونَ غير ماهُو عليه فعلاً وحقيقةً، وأنّ كلَّ ما وقع عليه إلى الآن من تغيير هو تعسّفٌ حقيقيٌّ على شخصيّته الحقّة وفكره الخالص، وكيف أنّه لا خلاص لهُ من هذه المآزق كلّها إلّا بالخروج عن ثقافة القطيع. وهو الخروج الّذي وجدتُهُ يتحقّقُ في كتابه هذا، ورأيتُ كيفَ أنّه حينما اشتعلَ عشقُكِ في قلب نبيل أيّتُها المدينة النبيّة، ذهب إلى أقصى ركنٍ فيكِ ليتذكّرَ بكلّ ما أوتيَ مِن قوّةٍ مَن يكونُ، ومِنْ أينَ أتى، وإلى أينَ هُو ماضٍ؟!
وأنتَ أيّها القارئ العزيز، إذا كُنتَ الآن تقرأُ هذا الكتاب، فاعلم أنّكَ مقصودٌ أيضاً بخطاب الذّكرى والتذكُّر الّذي بين دفّتَيْهِ، ومُلزَم بتوليده في قلبكَ وفِكْرِكَ وبالرّحيل إلى أقصى ركنٍ في مدينتكَ، بالضّبط كما فعلَ كاتبُهُ! واعلم أنّكَ سترى كيفَ أنّ نبيلاً عاش الكثير من الأحداث في حياته، وقابل العديدَ من الشّخصيّات داخل وخارج العراق، وسافر إلى أماكن عدّة، وقرأ ما لا يُعدُّ ويُحصى مِن الكُتُب، وألّفَ في التّاريخ والأدب، ولكنّه اكتشفَ أنّهُ على الرّغم من كلّ هذه الأشياء الّتي قام بها فإنّه مازال يشعر بأنّهُ لم يكتمل بعدُ، وأنّه ثمّة شيءٌ مازال ينقصه، بل ثمّة صوتٌ بعيد يأتيه من أعماقه الدّفينة ويقول له: "عُدْ إليَّ، تعرفني وتعرف نفسكَ". إنّهُ صوتُ المدينة الّتي أبْصَرَ فيها النّور، صوتُ الدّيوانيّة!
ولأنّ الذّكرى وجعٌ ونزيفٌ، فلا بدّ أنّكَ ستجدُ نفسكَ تتساءلُ عمّن يتذكّرُ مَنْ في هذا الكتاب، بل مَن يسترجعُ مَن؟ ومَنْ يُضَمِّدُ ويُبَلسمُ جراحَ مَن؟ المدينةُ الّتي رأى الكاتبُ فيها النّورَ أمِ الوجوهُ الّتي تتراقصُ في قلبه وعقله والآتية من أعماق الماضي السّحيق؟ ولأنّ الجواب يعنيني كما يعنيكَ فإنّي وجدتُ نفسي ما إنْ وقعَ الكتابُ بين يديَّ أتصفّحُ على عجلٍ أوراقَه الواحدة تلو الأخرى فوق قارئيَ الإلكترونيّ، متوقّفةً من حينٍ لآخر أمام صُوَرِ شخصياته العديدة وعناوينه العريضة، وبالسّرعة ذاتِها وقبل أن أقرأهُ قرّرتُ إغلاقهُ، ثمّ سحبتُ نفَساً عميقاً من الهواء المُنعشِ، وأغمضتُ عينيّ لأسمحَ للنّور الّذي في حروف نبيل الرّبيعي بالتدفّقِ إلى كلّ خليّة في دواخلي، وفجأةً بدأتُ أرى، وشرعتِ المشاهدُ في الانصبابِ على مخيّلتي إلى أن استقرَّتْ منها أمامي ثلاثة مَشَاهِد تتحرّكُ فيها ثلاثُ صُوَر: صورة والد الكاتب، وصورة خاتم والدته العقيق، وصورة الدكتورة ماهي كجه جي. ابتسمتُ وأنا أرى سؤالاً عريضًا يرتسمُ في قلبي ويقول: مَنْ ذا الّذي حرّضَ الكاتبَ على خوضِ هذه المغامرة العجيبة، وهُوَ يعْلمُ جيّداً أنّه ليس من السّهل أبداً أن يكتبَ الإنسان سيرةً قدْ تختلطُ فيها الأوراقُ والأحداثُ، وتتكاثرُ فيها الشّخصيّاتُ والأماكن لدرجة أنّه يصعبُ فيها على القارئ أن يميّزَ بينَ مَنْ يكتبُ مَن، ومَن يُؤَرِّخُ لمَن؟ المُؤلِّفُ أم مدينتُهُ، أمْ هُما معاً؟!
وقبلَ أن يستقرَّ في فؤادي الجوابُ الفصلُ، وجدتُ نفسي أقرِّرُ أن أقرأ هذا الكتاب بطريقتيْن معكوستيْن، وذاك ما كانَ بالفعل، بحيثُ قرأتُ في البداية الكتابَ من صفحاته الأخيرة إلى صفحاته الأولى، ثمّ بعد ذلكَ قرأتهُ من الصّفحات الأولى إلى الصّفحات الأخيرة، وفي كلتا المرّتيْن كنتُ أرى الكاتبَ ماثلاً أمامي بوضع مقلوبٍ ورأسهُ إلى الأسفلِ وقدماه إلى الأعلى. فتأكّدَ لي أنّ هذا هو ثمنُ البحث الحقِّ في المكان والزّمن والذّاكرة. إذ كان لا بدّ لنبيل الرّبيعي أن يرى مدينته لا كما يراها الآخرون، وأن يعشقَ وطنه الكبير لا كما يعشقه الآخرون، وأن يغوص في حياته لا كما يغوصُ فيها الآخرون، وأن يكتبَ بحرفٍ يمشي على رأسه لا على قدميه، لأنّه يكتبُ تلك الحقائق الّتي تغضُّ الطّرفَ عنها العديدُ من الأقلام، ولأجل هذا سُجِّلَ في كتاب الوجود، بالمُؤَرِّخ المُتخصِّص في شؤون الأقلّيات الدّينيّة بالعراق. وهي الصّفة الّتي لم تُمْنَحْ لهُ إلّا بعد أنِ اخْتُبِرَ في امتحان العشقِ: عشقِ الله المتجلّي في الإنسان بغضّ النّظر عن ديانته أو اعتقاده أو عرقه. والمؤرّخُ العاشقُ كالمُصَوّرِ الّذي يعشقُ كلّ وجه يقفُ أمامه لأنّه يرى فيه إبداع الخالق، ولا يُميّزُ في عشقه هذا بين كبير أو صغير، ولا بين غنيّ أو فقير، ولا بين خادم أو سيّد، ولأجل هذا جاءت كلّ الشّخصيّات التي جسّدها لنا نبيل في كتابه هذا ساحرةً خلّابة، نابضة بالحياة والحقيقة في كلّ تجلّياتها السعيدة والشقيّة. ولأنّ الإنسانَ هو المكان الّذي يولدُ وينشأ فيه، فإنّ شخصيات نبيل وأماكنه كانت هي مدينتُه، الشّيء الّذي يعني أنّ الكاتبَ وهو يؤرّخ لمدينته، إنّما كان يُؤرّخُ لأهلها، وبالتّالي لنفسه وذاته. وهذا ما يُفسّرُ كيف أنّه في كتابه هذا اختلطت الأجناس بين تأريخ مونوغرافيّ، وسردٍ بيوغرافيّ وثالثٍ روائيّ أدبيّ، فظهرتْ مدينةُ الدّيوانيّة بصورة غير تلكَ الّتي ظهرتْ في كتابات مؤلّفين آخرين، صورة مفعمة بالحياة والحقائق المُوَثَّقَة، والنّابعة من حياة الكاتب نفسه وهو يصف الأشياء الّتي رآها وعرفها شخصيّاً بطريقة أعاد من خلالها ترتيب الأحداث والوقائع علّ القارئ يستطيع أن يُكَوِّنَ رؤية جديدة وإضافية لما كانت عليه وما أصبحته هذه المدينة.
وأنتَ بينَ دفّتيْ هذا الكتاب، ستراودكَ ولا شكّ أسئلة عديدة، من قبيل هل هذه المدينةُ هي ناسها وسكّانها حقيقةً؟ وإذا كانت كذلكَ فكيفَ أثّروا فيها وفي أمكنَتِها وأزمِنَتِهَا؟ وكيف واجه الكاتبُ وهو ابنها البارّ صعوبة الاختيار بين الأحداث والذّكريات؟ هل قال كلّ شيء؟ وهل تركَ كلّ شيء؟ وهل ما قاله كان كافياً لتكوين صورة معيّنة عن الدّيوانية؟ أم هل ما لم يقله كان الأجدر بالكتابة والتّدوين؟ وهل ديوانيّتُه هي نفسها المدينة الّتي يعرفها غيره من الدّيوانيّين؟ كثيرة هي الأسئلة وكثيرة ومتنوّعة هي الأجوبة أيضاً، ولكن ثمّة شيء أكيد بين السّؤال والجواب، وهو أنّ المؤرّخ نبيلاً الرّبيعي وهو يكتبُ عن مدينته إنّما كان مشغولاً بواجبٍ وطنيّ كبير يرنو من ورائه إلى إعادة الاعتبار للتّاريخ المحلّي عبر التّاريخ السّيرذاتي، محاولاً في هذا تجاوز عمليّة التّأريخِ السّياسيّ والعسكريّ بمفهومه الكلاسيكيّ وإعادة الاعتبار للمجتمع العراقيّ من أجل فهم مُكوّناته وشروط معيشته وديناميّته وذاكرته بحيثُ يُصبحُ كلّ شيءٍ لحظة الكتابة تاريخٌ ووثيقة بما فيها حياة الكاتب وذكرياته والتي أظهرتْ لنا كيف أنّ الأستاذَ نبيلاً في مُؤلَّفه هذا لم يكُن مجرّدَ جامع للمصادر والأخبار، ولا حاطب ليلٍ في غابة الوقائع والحكايات والأسرار، بل هو مؤرّخ ينقلُ الأحداث ويدعمها بالدلائل والصّور والأفكار، ويحلّل المجريات ويربطُ بينها وينتقد بعضها ليُبرزَ لنا الذّات المحليّة لمجتمعه الدّيوانيّ، ويضمّها إلى بنية الذّات الوطنيّة العراقيّة الكبرى، ثمّ إلى الذّات العالمية والكونيّة.

74
تاريخ مدينة الديوانية بين وداي العطية وسامي ناظم المنصوري
نبيل عبد الأمير الربيعي
اختلفت آراء الباحثين في تحديد تاريخ نشأة وموقع مدينة الديوانية، فبعضهم أعاد تأريخ نشوئها إلى عام 1671م وحدد موقعها في بلدة لملوم وهي عاصمة إمارة الخزاعل من جنوب الحلة وحتى العرجة في المنتفك، مدللاً على ذلك بأن أمارة الخزاعل كانت هذه حدودها، حيث كانت تختلف في مظهرها العام وتركيبتها السكانية عما هي عليه في الوقت الحاضر قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه من التطور النوعي والحياتي. وبعضهم يُرجع نشأتها إلى عام 1688م وهو تاريخ تدفق نهر ذياب (نهر الديوانية حالياً) مستنداً بما موجود من آثار وشواهد تاريخية حية ما تزال شاخصة إلى يومنا هذا، وهناك رأي يؤكد أن تاريخ تأسيس مدينة الديوانية يعود إلى عام 1747م، بدلالة بناء الشيخ حمد آل حمود شيخ الخزاعل ديوانه على الجانب الغربي من نهر الديوانية، وهذا رأي الشيخ والمؤرخ وداي العطية.
وتبدو هذه الروايات الثلاث أكثر وضوحاً، إذ أشارت إلى تاريخ مباشرته في بناء المدينة، ثم بدأ توسع المدينة، إذ تم بناء المساكن والدور وقد قصدها التجَّار فصارت من أفخر بلاد العراق واحسنها في مجال الزراعة والمنتجات الزراعية.
لكن في الوقت الراهن اختلفت الآراء حول تاريخ مدينة الديوانية، فقد ظهرت بعد الاجتماع الذي عقد في مقر أو ديوان الحكومة المحلية في مدينة الحسكة في بداية عهد حاكمها الضابط علي آغا خلال توليه الإدارة فيها للمرة الأولى سنة 1738م أن ديوانية الحسكة كما يؤكد ذلك د. سامي المنصوري في كتابه (21 كانون الأول 1701، من هنا بدأت حكاية مدينة ديوانية الحسكة) في ص64 وما بعدها قائلاً: (وعدَّت مدينة الحسكة من أهم مدن أيالة بغداد، فأزدهرت خلال عهد حاكمها علي آغا الذي كان يمثل أعلى سلطة رسمية، فكان ديواناً حكومياً يساعده في إدارة شؤون تلك المقاطعة الكبيرة التي يحكمها، وكانت حدودها الإدارية تمتد أحياناً حتى مدينة البصرة، فذاع صيت ذلك الديوانية وصار يعرف بديوان الحسكة حتى طغت تسمية الديوان على تسمية الحسكة وصارت تعرف بديوانية الحسكة، أو الديوانية، وكان أول ذكر لتسمية الديوانية وردت في الوثائق العثمانية فكانت في سنة 1760م، وبصيغة (حسكة ديواني سي).
فإن أصل تسمية مدينة الديوانية هو الديوان: أي مقر ضابط البلدة وحاكمها ومكان الموظفين الحكوميين، والمجلس الحكومي. والحسكة والديوانية تسميتان لمدينة واحدة، فالمدينة التي نشأت سنة 1701م في مقاطعة الحسكة سميت باسم المقاطعة أي (الحسكة)، وبمرور الزمن كثر إطلاق اسم الديوانية مجردة عن الإضافة حتى نسي اسم الحسكة وصارت المدينة تعرف باسمها الجديد (الديوانية).
والحسكة: هي عُشبة تضرب إلى الصفرة لها شوك مدحرج، وقد وصفها ابن منظور وصفاً دقيقاً، وجاء في لسان العرب: قوم الحسكة قوم اشداء، ذو مراس وعزة. ويؤكد د. سامي المنصوري في كتابه اعلاه أن (نشأت مدينة الحسكة بدافع عسكري خلال الحملة العسكرية الكبرى بقيادة والي بغداد (دالطبان مصطفى باشا) سنة 1701م، فكانت النواة الأولى للبلدة هي السوق العسكري الذي أقيم على أرضها في 21 كانون الأول سنة 1701م، ثم بناء قلعة عسكرية فيها. والسوق هو النواة الأولى لنشأة مدينة الديوانية، وكان السوق يقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وقد ضم عدداً من الحمامات، والمقاهي، والدكاكين التي كان يعمل فيها عدد من البقالين، والخبازين، والقصابين، والقزازين، والعطارين، وكانت السفن تأتي من بغداد والحلة إلى مقاطعة الحسكة محملة بأنواع مختلفة من المواد الغذائية لقوات الجيش ورجال العشائر المشاركين في هذا العمل، وكان الهدف من انشاء السوق هو تلبية احتياجات أفراد الجيش ضمن تلك الحملة.
أما بناء السور كما يؤكد د. سامي المنصوري في كتابه يرجح بناء سور بلدة الديوانية مع نشأتها في أواخر سنة 1701م، وكانت أول إشارة واضحة لذلك السور خلال عهد والي بغداد حسن باشا الذي قاد حملة عسكرية ضد الخزاعل في سنة 1705م. وقد وصف الرحالة إيفرز سنة 1779م سور الديوانية قائلاً: (بها سور طيني ليس متيناً ولا قوياً جداً، لكنه يكفي لتأدية المهام التي صُمم من أجلها، لمنع أي هجوم مباغت قد يقوم بع العرب "العشائر"، ولصد الفرسان القوة العسكرية المهمة الوحيدة في تلك الأنحاء).
وما ذكره الدكتور سامي المنصوري في كتابه هو بحث جديد في غاية الأهمية لتوثيق تاريخ المدينة، غير ما ذكره الباحث وداي العطية في كتابه (الديوانية قديماً وحديثاً) الذي أكد فيه تاريخ تأسيس المدينة سنة 1747م لنشوء الجانب الغربي من الديوانية، والدكتور المنصوري اعتمد في كتابه على الوثائق العثمانية في التوثيق، بينما العطية اعتمد على كتب الرحالة الأجانب في تاريخ نشأة المدينة.




75
قراءة في رواية قيلولة للقاص والروائي سلام حربة

د. نصير الحسيني
 
    تشكل رواية قيلولة للقاص والروائي والسيناريست سلام حربة رؤية فنية جديدة في نقد الواقع بلغة لاذعة مستورة تروي احداث مرت على الشعب العراقي، وتحديداً في ظل ظروفٍ غامضة سواء أثناء الغزو الامريكي أو بعده، حين تتسلل مجموعة من الذئاب الى سدة الحكم ، لتحول الخراب الذي حدث أثناء الغزو وما قبله من حصار، الى أكثر من خراب، بل قل تهديم اما تبقى من اسس، من أجل المال والسلطة والوجاهة، وهذا الثالوث كان مفقوداً في وجودهم السابق، وعثروا عليه سواء بإعداد مسبق، أو ربما جاء للبعض مصادفةً بسبب القدرة على التلون مثل حرباء، ولكون الحدث انقسم الى مراحل متعددة دامت عقود بين  قرنين من الزمان مختلفان في التردد، وعلى أية حال فالروائي يرتدي قميصين ، أو ربما قميص بلونين ، ليبوح من خلالهما بأفكاره ومعتقداته، ويفرش عليهما المشاكل السياسية والاجتماعية، فالقميصان يشكلان مع بعضهما الشخصية الحقيقية للراوي، وهي شخصية متمردة رافضة للواقع جملةً وتفصيلاً، لا بل ثائرة عليه، وفاضحة للواقع الذي يرتدي عباءة الدين، ولكن ثائر بلا سلاح مسلوب الارادة !!
  ينسج حربة روايته بأشخاص محليين من منطقة الوردية، المنطقة التي نشأ وترعرع فيها ، متذكراً كثير من شخصياتها التي اثرت فيه بطريقة ( الفلاش باك) معتمداً على ذاكرة متقدة فيها بعض التحريف والاخفاء لأبطالها الحقيقيون، غير انه كان ميالاً لأفكاره اليسارية، بشخصية تخلط بين البدوية والتحرر، وخاصةً في موضوع العلاقة مع المرأة، التي تبرز في علاقة فرات بعائدة، أو من خلال علاقة عظيم بهدى، علاقتان فيهما من التناقض الذي يفضح التناقضات في الشخصية العراقية . وعلى أية حال فكما يقول الراوي : " عقول الناس مختلفة ولو كانت واحدة لما حدثت الحروب والمجاعات ولا كره الإنسان اخاه الانسان " ص٥٤ .
   تجري الرواية حين يقوم الطبيب مجيد بتجميد فرات بغاز النايتروجين لمدة اربعين عاماً، وهي مدة طويلة لا تتناسب وعتبة النص ( قيلولة) التي تشير الى زمن قصير، ليكون شاهداً وراوياً لأحداث سوف تقع في المستقبل، وهي تمثل واقعنا الراهن الحالي، والموضوع يحاكي فكرة سبق وان مثلت في فيلم أسمه آلة الزمن، وهو فيلم خيالي علني انتج عام ١٩٦٠ من قبل شركة متروكان وتم انتاجه واخراجه من قبل جورج بال، واستند الفيلم الى رواية هربرت جورج ويلز عام ١٨٩٥ بذات الاسم، واعيد انتاجه عام ٢٠٠٢ بفيلم امريكي من انتاج سيمون ويلز وغو فيرينسكي، وهذا السؤال الازلي في البحث عن الحقيقة أو قل المعرفة لما سيحدث في المستقبل، والذي يقلق الانسان مثلما يقلقه حدث الموت . ومثل فكرة مشابهة الفنان الكوميدي عادل امام في دور حرفوش بن برقوق الدكبدار في فيلم رسالة الى الوالي عام ١٩٩٨ مع الفنانة المتألقة يسرا . والموضوع بحد ذاته ربا يوحي الى قصة اهل الكهف في القرآن الكريم .
يسطر الراوي الاحداث بطريقة أشبه بالدراما عندما يقرر فرات بالمضي بالتجميد وبتشجيع من صديقه عظيم وكأنه ذاهب في نزهة أو سفرة، ويقرر توديع الاهل والمعارف،  ولعل أكثرها حزناً عندما يقرر ان يودع عائدة الحبيبة الي لم يصارحها بحبه لها الا بعد اتخاذه القرار الذي لا رجعة فيه ويقول لها : " عائدة لا استطيع فقد حسمت امري، انا ابحث عن عالم أكثر نظافة من عالمنا القذر هذا، ان عدت الى الحياة لن اتزوج غيركِ .." ص٨٤ . ويصر فرات على المضي في قرار التجميد بالرغم من تمتع الحبيبة عائدة بواصفات مغرية فوق العادة، فهي بالاضافة الى الجمال والغنى والحسب والنسب والشرف، فهي مثقفة وتحبه حد العشق الذي لا يمثل شيئاً عند فرات امام افكاره المشوشة والمتناقضة في فهم قوانين الحياة وطبيعتها، حين يعدها بالزواج ان عاد بعد اربعين عاماً !!
ومما يلفت النظر في الرواية ما دار من حوار بين فرات وعظيم وحمزة رجل الدين الذي ينقصه الراوي باللواط والفقر في آن واحد .. وكان باستطاعتك الراوي ان يجعل من الحوار موقع قدم يزيد من حبكة الرواية ليكشف المستور الذي جعل من الدين قضية مركزية ولاحقاً يصبح بها حمزة ذو شأن متناسياً دور فرات معه !! ويعرج عظيم على الواقع المر الذي اسسته تلك الجماعات المنحرفة من خلال ما دار من حوار بين عظيم وابن اخ فرات : "
-      وانا اقلب الكتاب ومأني اراه لاول مرة، سألته
-      عصام - من أية كلية تخرجت ؟
-      من كليةً الاداب، فلسفة وعلم نفس ..
-      وماذا تعمل الان ..؟
-      أطلق عصام ضحكة مجلجلة، قال بانفعال ..
-      أعمل في السوق، حمال، لدي عربة يدوية انقل بها بضائع التجار .. ص٩٦
ثم يطوف الراوي حول حال اشواق اخت عصام التي فقدت زوجها في القتال مع داعش معرجاً الى حال الاب متعدد الزوجات، وابتعاده عنهم ليعيش في تركيا متنعماً بما تركته زوجته الثالثة من ميراث مع الزوجة الرابعة !! بعيداً عن ابنائه !! غير ان الراوي هنا يجتاز فترة مهمة ومؤلمة هي مرحلة الغزو الامريكي، ومن ثم يرمي بالعتب واللوم على الشعب العراقي على انه هو السبب وليس نتاج سبب !!
يمكن القول ان الرواية اقرب الى العمل المسرحي، وربما كانت عبارة عن عمل مسرحي أو مسرحية حولها السيناريست الى رواية !
ثم يندهش مصدوماً فرات المجمد بالنايتروجين من وضع المجتمع على حد وصف صديقه عظيم الذي يرثي المجتمع بتغيره السلبي وتنقلاته نتيجة ضعف الدولة او تهرئها، ولا يشير الى الغزو ويعزو السبب الى تفكك النظام الاشتراكي السوفيتي وسيادة النظام الرأسمالي !! ثم حين يصل فرات بطل الرواية الى مقبرة السلام ويعرف عن موت عائدة حبيبة الامس واصفاً المنظر من قبل عظيم :
"ما ان انهيت كلامي حتى جثا فرات على الارض باكياً وبدا يهيل التراب على رأسه وهو ينحب بأعلى طاقة النحيب واطلق، كالمصاب سهماً في قلبه، اصواتاً مكلومة مجروحة، تيقظ لها ساكنوا المقابر من الموتى ومن زائيريهم الاحياء ."ص١٣٦
وفي المقطع (١٤) من الرواية تظهر شخصية الراوي العليم المتمردة والرافضة لهذا الواقع الذي يزداد تعقيداً كلما دخل مفصلاً من مفاصل حياتنا التي تغيرت نتيجة كشف المستور عن الرأسمالية التي اظهرت ان كل من يتغطى بغطائها عريان، وربما دون ان يدري، وحين يدري لا مفر من سلاسلها !! وتدور الاحداث عند دخول فرات وعظيم العاصمة التي يصفها بواقع مر تحولت من معلم حضاري الى سيطرات واحزاب وكتل سياسية وقبائل وعشائر وتمرد وضعف لأجهزة الدولة وسواها من أوجه الخراب المزروع في كل جوانبها. خراب يطرز كل أشكال الحياة، بل قل ينخرها باليأس وفقدان الامل، متخصصون يزرعون الخوف في كل مكان وجيل اخر سينشأ على الخوف والحياة منزوع القيم والتقاليد، وربما الدين، أو قاب قوسين من الالحاد !!
غير ان بطل الرواية يقوده اليأس الى نهاية معلنة في بداية قراره بالقبول بالتجميد بالغاز، والعملية بحد ذاتها استسلام ويأس ! وحين يقوم صديقه دكتور عظيم بتعريفه على صديقه الشاعر عرفان موسى الذي يقول عن فرات :
" نعم اعرفه، كان شاعراً جيداً.. لقد مات منذ زمن بعيد، لقد اشاعوا بأنه اختفى في الغاز وسيظهر بعد زمن، دعايات اطلقها النظام السابق، اتضح انه حوض تيزاب للتخلص من المعارضين، لقد مات فرات وانتهى .. لم أكن اريد له هذه النهاية البائسة ..ص١٦٦
وعلى اية حال الرواية تمثل تسجيلاً لأحداث شتى مرت على العراق بين سبعينيات القرن الماضي وبداية لعقدين من القرن الواحد والعشرين غافلاً الكاتب لكثير من الجوانب، ومركزاً على ما يراه عبر نظارة كان يرتديها بعدستين، عدسة عظيم السلبية التي لا تجيد سوى النظر والاستسلام، وعدسة فرات العاطفية المتأثرة غير الفاعلة والتي ينهي حياته بالشنق !!
وقعت الرواية بستة عشر مقطعاً بواقع ١٦٨ صفحة من القطع الصغيرة والصادرة من مؤسسة ابجد للترجمة والنشر والتوزيع في العراق /الحلة عام ٢٠٢٢ .   
 
عمان 4/5/2022   

76
قراءة في رواية (قيلولة) للدكتور سلام حربة
نبيل عبد الأمير الربيعي
    كل رواية يكتبها الروائي د. سلام حربة؛ يخوض فيها بامتحان جديد لقدرته على الإبداع، ويكمن ذلك في سحر الكتابة والمفردات التي يستخدمها الروائي حربة من خلال تجربته الطويلة في هذا المجال، فيتحدى نفسه في كل مرة، وفي الحقيقة يدفع ذلك ثمن الإبداع غالباً، إنهُ يموت مراراً من اجل ذلك في حياته. إذاً فهو يكتب كما لو هو يموت غداً، وحينما يحدث له ذلك وقد يعجز عن الكتابة، وهو البلاء الذي يلبى به أكثر من مرة في الماضي، فيرى نفسه معلقاً من رأسه في الفراغ، شاعراً بدنوا أجله، فالروائي سلام حربة يعيش من أجل أن ينجز مشروعه الروائي، وهو أجمل أحلام وآماله.
    صدرت عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر في بابل رواية الدكتور سلام حربة تحت عنوان (قيلولة) وهي بواقع (168) صفحة من الحجم الوسط، تضمنت (16) مرحلة من مراحل الرواية، بطباعة أنيقة، وورق آرت جميل، وغلاف ذات لوحة أجمل؛ لم يذكر لأي فنان ولكنها من عمل وحي للتصميم. والرواية تحاكي واقنا المُرَّ أبان التحالف الجبهوي وانفراطه عام 1978م، عندما عقد قادة الحزب الشيوعي العراقي عزمهم على الهروب والخروج من البلاد وترك قاعدته المتمثلة برفاقه، فحكمت حكماً قاسياً على هروبهم، كان الحزب القوة الوحيدة في البلد المؤهلة لوقف الخراب، لكن جبن قادته والهروب دون تفكير لما يؤول له البلد والحزب، فتركوا اعضاءه عزلاً، فتطافر الكبار وتبخروا وتلاشوا في لمح البصر، كانوا ابطالاً بالهروب، لم يصمدوا بوجه العاصفة.
    ما يرغب به بطل الرواية الشاعر فرات من الغياب بتجميده بغاز النيتروجين في إحدى مستشفيات بغداد لفترة (40) عاماً تحت اشراف الدكتور مجيد وصديقه الطبيب عظيم؛ عسى ولعل الحال يتغير، فيعود للحياة ويجد أن حال العراق والعراقيين من السيء إلى الأسوأ، من حكومة نظام قمعي دكتاتوري، إلى حكومات لا وطنية تنتمي إلى اتجاهات سياسية طائفية موالية للمحتل الامريكي ولدول الجوار.
    أجد في رواية د. سلام حربة الأخيرة (قيلولة)، يرغب فيها الروائي أن ينقل لنا كشاهد على زمانه، وقد كتب لنفسه قبل أن يكتب لأي أحداً آخر في العالم، فهو ادرك خراب العراق نتيجة طبيعية للفشل الشامل المستمر مُنذُ عقود عدة في العثور على جوابٍ صحيح لإشكاليات مجتمعنا. في ص9 يذكر في روايته قائلاً: (ولدنا سوية في محلة الوردية عام 1955م، فرات يسبقني بشهرين ولكن دفاتر نفوسنا تؤشر، كحال معظم ولادة العراقيين، إننا رأينا النور في 1/7/1955... كان أبي لديه علوة للحبوب في الصوب الصغير من مدينة الحلة مركز مدينة بابل وأبو فرات صاحب محل عطارية لا يبعد عن علوتنا سوى مسافة محلات قليلة... سُجلنا في سنتنا السادسة، في مدرسة الفيحاء الابتدائية الواقعة في محلة كريطعة القريبة من محلتنا الوردية). ثم يسرد الروائي حياته وحياة زميله الشاعر فرات بشكل مفصّل كأنه يسرد سيرته الذاتية في تلك الفترة، فالروائي سلام حربة اغلب رواياته تنتمي للمدرسة الواقعية التي تمتّ بصلة طبيعية لواقع مجتمعنا العراقي.
    يتساءل هنري ميلر في أحد كتبه: (من هو البطل؟) ثم يعلق: (إنه ذاك الذي يقهر خوفه). كل كتابة حقيقية هي كتابة وجهة ضد الخوف، ولكنها، وهي تفعل ذلك ستثير في الوقت ذاته الخوف عند الكثيرين اللذين لا يجرؤون على الحرية. مثل هذه الكتابة هي تمثل كتابة روايات سلام حربة، فهي لا تثير شكوك الحاكمين وحدهم وإنما أيضاً أعداء كل العاجزين عن الحرية. لأنها تجرؤ على القول بقدرتهم على أن يكونوا أحراراً وإن تخلوا عن خوفهم الذي يفتك بأرواحهم.
   يذكر الروائي في ص27 من روايته حياتهم الدراسية إذ يقول: (دخلنا إلى الجامعة عام ثلاثة وسبعين وتسمعائة وألف، فرات قُبلَ بكلية الآداب قسم اللغة العربية وأنا في كلية الطب، لم ننقطع يوماً عن اللقاء، كان يزورني باستمرار إلى الكلية وأنا أبادله الزيارة، كانت المسافة بين كليتينا، ما بين باب المعظم والوزيرية نقطعها بحسبة تأمل أو شطحة خيال واحد من التي تعتري الشعراء والقصاصين وما أكثرها من شطحات). فالروائي يجسد في روايته حياته الجامعية وتطلعاته أن يكون روائياً مستقبلاً فضلاً عن مهنة الطب، كذلك فرات الذي يتطلع إلى أن يكتب قصائده كشاعر يحمل هموم أبناء بلده.
    وبعد تخرجهما تبدأ طبول الحرب بالعزف الدائم على الحدود العراقية الإيرانية، في ص48 يذكر الروائي قائلاً: (طبول الحرب في عزف دائم على الحدود بين العراق وإيران بعد سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي وقيام الدولة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني. لقد حاول الطرفان التنصل من كل المعاهدات والاتفاقيات التي كانت بينهما ومنها معاهدة الجزائر بين الطرفين عام 1975م والتي بسببها انتهى التمرد الكردي في شمال العراق).
    يؤكد الروائي في روايته على الأحداث التي مرت على العراق ومنها التمرد الكردي والحرب العراقية الإيرانية التي حدثت بسبب تأزم العلاقات بين البلدين، فالرواية توثق مرحلة مهمة من تاريخ العراق.
    كانت رغبة فرات أن يغيب عن البلد فترة (40) عاماً كي يبتعد عن المعاناة التي يعيشها في ذلك المجتمع كونه شاعر ويحمل الفكر الماركسي وأحد أعضاء الحزب الشيوعي العراقي، مما اقترح عليه صديقه الطبيب عظيم أن يجمّد جيلاً كاملاً، لأنه يعتقد أن الشاعر فرات يسبق الآخرين جيلاً كاملاً، في ص51 يؤكد له قائلاً: (لقد اتفقت مع استاذي في المستشفى الدكتور مجيد أن نجمدك أربعين عاماً، أي ما يعادل جيلاً كاملاً، ثم نعيدك إلى الحياة، أكيد في الزمن القادم ستكون أكثر سعادة، والناس تفهمك وتتغنى بأشعارك). وافق فرات على تلك التجربة وأثبت له صديقهُ بنجاحها ودليل ذلك حيث تُحفظ الانسجة والحيوانات المنوية والبيوض في غاز النيتروجين، وفي الخارج أجريت على البشر ونجحت. وكان فرات يتوقع أن يعود للحياة بعد أربعين عاماً حتى الصحة ستكون غير التي هي الآن، قد تختفي الأمراض ويعمر الإنسان أكثر، فالتاريخ يمضي دائماً إلى أمام، وفرات على يقين ستكون الحياة مختلفة والمجتمع سليماً، وقد لا يحتاج إلى الطبيب ولا إلى القاضي لأن المجتمعات جميعاً تعيش بسلام، لا حروب ولا أمية ولا استغلال. فتم تحديد الأول من حزيران من عام 1980م موعداً لإجراء التجربة، وهو تاريخ معروف لدى العراقيين بيوم تأميم النفط من قبل الحكومة العراقية، وقد جمع الروائي هذا التاريخ كتجربة لمشروع التأميم مع مشروع تجربة التجميد في ذلك اليوم كما اعتقد.
    ودّعَ فرات عائلته المتكونه من الأخ جاسم وأخت هدى ووالديه قبل أن يجمد بغاز النيتروجين، ثم ودّع من كان يرعاهم ويساعدهم مادياً وهم كلٍ من: جابر السماك والد حامد المنغولي، كما ودع أم طارق الخبازة وولدها المعروف بخفة يديه في السرقات طارق، كما ودع شيخ مسجد الوردية الشيخ سلمان الذي علمه كيفية زرق الأبر كي يكون مصدراً آخراً يساعده في المعيشة. كان فرات قد حسم أمره لإجراء التجربة وهو يبحث عن عالم أكثر نظافة من العالم الذي يعيش فيه.
    فرواية (قيلولة) أجد فيها ذلك النص المستكشف في رحلة الروائي سلام حربة بعد عام 2003م، ذلك العالم المجهول بعد الاحتلال الأمريكي، فلا يعرف المبدع نفسه كروائي في كثافة أدغاله المتشابكة، إلا بعد أن كان منجزه واضح القسمات، بعد عناء الروح وغربتها لبطل الرواية (فرات)، فيفتح الروائي ذراعيه لاستقبال قاطني بلده من التردد، ليمسكوا بمجساتهم المرهفة، فدهشة الروائي وحلمه في تجاوز ما هو كائن، فالكتابة تناسل وحبل، ومن ثم ولادة نصوص. ففي ص5 يذكر الروائي في روايته قائلاً: (الزهو المفرط بأنفسهم شعارهم الدائم الوحيد وإن كانت الأرض تدور على قرن ثور كما هو سائد في الميثيولوجيا الدينية فهم يصححون الأمر ويقولون إن الأرض تدور على قرن ما يهوون ويرغبون ويقتنعون به، يعتقدون أن كلامهم لا يأتيه الباطل لا من قريب ولا من بعيد بل هو الحقيقة بعينها إن تجسدت الحقيقة كلاماً يوماً ما، هذا ما يفكر به النرجسيون والطغاة والملوك والقادة المتجبرون وحتى المرضى النفسيون). نجد في هذا النص يعاني الروائي من واقع حال ما يعيشه المجتمع العراقي مع الطغاة والقادة المتجبرون بالأمس واليوم. وبطل الرواية الشاعر فرات هو من الشعراء الذي يعاني من واقعه المُر بسبب عدم تفهم قصائده من قبل الآخرين، فيعيش المحنة والانعكاف. ففي ص6 وما بعدها يدور حوار حول قصائده فيقول له الرائي: (فرات، أنت إنسان وشاعر كبير ليس هذا ما أقوله أنا بل هو ما اجمع عليه كبار النقاد، ولكن ما يميز شعرك أنه مكتوب بلغة فلسفية عالية وبألفاظ لا يفهمها إلا الأدباء والمثقفون، أما بسطاء الناس فأن هذا الشعر يبدو لهم كالطلاسم، هذا ما يقوله النقاد وهم يتناولون شعرك بالفحص والدراسة والتفكيك). وما أكثر الشعراء اليوم من يكتب بالطلاسم ولا يفهمهُ حتى المثقفون والأدباء.
    ومع ذلك فإن الروائي سلام حربة لا يستطيع إلا أن يكتب. إنه قد يكتب لنفسه قبل كل شيء ولكن طموح الاعتراف بموهبته لن تفارقه، وهو اعتراف يظل في الحقيقة أبعد من طموح الحصول على المال، يتعلق بالمعنى الذي يضفيه على نفسه وعلى كتابته. فالاعتراف به يعني الاعتراف بدوره الاستثنائي داخل المجتمع. ومهما بدا زاهداً بالمجد فإن المجد يأتي تالياً للاعتراف به (أنت شاعر كبير ولكني أرى أنك خلقت في الزمن الخطأ، أنت تعرف موقف السلطة الجاهلة منك كونك ضيفاً لدائرة الأمن بعد كل قصيدة تنشرها أو صولة ضد من يشتبهون بمعارضتك لهم، أنت تسبق الآخرين جيلاً كاملاً، من حق الآخرين أن لا يفهموا أشعارك).
    فالأدب الروائي قبل كل شيء يجب أن يكون أدباً حقيقياً. وحين يكون كذلك يكون للشعب أيضاً. ويصعب عليَّ هنا أن أقدم ملخصاً للبنية المركبة للرواية وبناء فصولها، إذ ما يهمني هنا هو الإشارة إلى الروح الملحمية التي تكتنف السرد، حيث يختلط الواقع بالأسطورة، والحقيقة بالحلم، والبطولة بالفكاهة، والبشر بالملائكة والشياطين.
    يذكر الروائي في روايته (قيلولة) في ص93 ما آل إليه بطل الرواية الشاعر فرات بعد أن يخرج من ذلك التجميد ليرى ما حصل بعد أربعين عاماً من التجميد بمادة النيتروجين حيث يقول الطبيب عظيم صديق الشاعر فرات: (اليوم الأول من حزيران عام 2020م حضرت إلى المستشفى مبكراً، وقد استوطنت وجهي، لا تفارقني طيلة اليوم، كمامة زرقاء بسبب جائحة كورونا التي غزت العالم منذ حوالي تسعة أشهر. عند باب قسم الولادة والعقم والأعضاء البشرية وجدت العشرات من مراسلي القنوات الفضائية... يصطفون عند باب القسم وهم مدججون بكاميراتهم الحديثة ويحملون بأيديهم ناقلات الصوت المعممة رؤوسها بأسماء القنوات التي فاق عددها الخمسين قناة. ما أن رأوني مقبلاً على القسم حتى هرعوا نحوي وهم يوجهون الأسئلة حول ساعة خروج الكائن الحجري). هذه الصورة ينقلنا فيها الروائي لما حدث بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وفوضى القنوات الفضائية وكثرة عددها، وانتشار فايروس كوفيد 19 (كورونا). ويطلق مراسلو القنوات الفضائية على الشاعر فرات (الكائن الحجري)، لكن لا يعرف هؤلاء ما سيصدم به فرات لواقع حال العراق، فينقلنا الروائي سلام حربة إلى الواقع المأزوم الذي نعيشه، وقد يصطدم به الشاعر فرات بعد أربعين عاماً من الغياب وتتبدد أحلامه.
    ما يهم الروائي سلام حربة ليس الشهرة ولا حتى المجد الذي تجلبه الظروف الطارئة، كما هو عليه الأمر في عالمنا، وإنما قناعته هو نفسه بالعمل الذي يكتبه. ويشكل موضوعة الرواية في مجال الضحية والجلاد جوهر تأريخها الإنساني كله، فثمة دائماً جلاد وضحية، ليس في السياسة وحدها وإنما في كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية، بقدر ما يهدم الجلاد الضحية؛ تهدم الضحية جلادها. هذا هو ديالكتيك التاريخ نفسه. إذ كل رواية جديدة للروائي سلام حربة في الحقيقة هو امتحان جديدي لقدرته على الإنجاز.
    ينقلنا الروائي إلى حالة ممن تركهم فرات بعد رحلة أربعين عاماً من التجميد وكيف تحولت أحوالهم من حال إلى حال، وهو يصفهم بأسماء وهمية لقيادات تحكم العراق اليوم تحت ظل اسماء احزاب أصبحت لها سطوة على مؤسسات البلد، كما ينقلنا في ص107 وما بعدها إلى حال العراق قائلاً: (البنايات الجديدة التي نبتت على أكتاف الشوارع المغلقة بقطع الكوبوند المعدني وألوانها القبيحة التي تؤذي العين ويلوث معمارها الرديء البصر. أعداد السيارات الخرافية التي يفوق عددها عدد البشر. مظهر الناس غريب لحى كثة في وجوه الرجال وملامح غائمة بالحزن... ما أثار استغراب فرات أنه لم ير أحداً في الشارع يتأبط كتاباً. أما النساء فأنهنّ أكوام من ظلام تمشي على الأرض تلف أجسادهنّ العباءات السوداء... تبدو النساء كأسراب موتى يُبعثنّ على خشبة المسرح... هاتف ظهر في بداية القرن الواحد والعشرين تستطيع أن تتصل به في كل أنحاء العالم... الشوارع هي هي لم تتغير بل العكس فأنها شاخت وامتلأت بالحفر وزينت أكتافها الأوساخ والقمامة... حال الطبيبات اللواتي اعتدن على مشاهدة مئة مريضة في اليوم لا وقت لديهن للابتسامات والمجاملات، بل قد نسينها في زحمة العمل في المستشفى والعيادة... هربت النوارس واللقلق المسن الذي تركه وحيداً على ساعة البلدية... مرغت هيبة الدولة بالوحل... دولة خاوية أهرق الكارهون والعملاء زيت قوتها وجبروتها... انهيار الاتحاد السوفياتي وتسيّدت امريكا على العالم... تمزق النسيج الاجتماعي بالأحقاد المذهبية والعرقية... ها هي منارة الكفل. أخبرته أن هذا المَعلم اليهودي القديم أصبح بعد عام ألفين وثلاثة مسجداً إسلامياً). كل ما ذكره الروائي سابقاً وما شاهده الشاعر فرات العائد من الانجماد كان يحلم فيها بالعودة إلى النيتروجين ولا يرى بلده على هذا الحال هو حقيقة ما نعيشه وليس خيال.
    ثم ينقلنا الروائي إلى حال الأشخاص الذين كان يعطف عليهم الشاعر فرات ويساعدهم مادياً قبل أن يجّمد في غاز النيتروجين، في ص138 وما بعدها يذكر الروائي قائلاً عن لسان صديقه الطبيب عظيم: (أعلم ما تفكر به الآن، أحاول أن أريك مصير الأشخاص الذين يزدحمون في ذاكرتك (تأمل فرات الصور الكبيرة المنتشرة على جدران البيوت في المحلة (الوردية) وجلب انتباهه أن ابناء المحلة طبعوا نفس الصورة على فانيلاتهم البيضاء ونقشوها على جلودهم وقريبة من نبض قلوبهم... دكتور عظيم أين نحن ذاهبان؟ ( الجواب) لزيارة حامد في منزله)، حامد هو الشخصية التي كان يعطف عليه فرات ويساعده مادياً سبعينيات القرن الماضي، بعد لقاء فرات معه تنكر حامد المنغولي لمعرفته به قائلاً (حبيبي لا اتذكره يومياً يأتي لزيارتي آلاف الأشخاص... حبيبي أخبر المكتب مالي اشتحتاج وآني أحاول اساعدك، يبدو عليك مسكين، منظرك يبكيني)، كان جواب حامد المنغولي لفرات وتنكره لمعرفته. أما طارق السارق ابن الخبازة فقد زاره فرات مع الدكتور عظيم، الذي كان فرات يعطف عليه أيام طفولته اصبح اليوم مسؤولاً ومشرفاً على أموال البلد ووزارة المالية، يذكر الروائي في ص148 قائلاً: (لا يخرج دينار من الخزينة دون أن يكون له حصه فيه. هو يعيش في العاصمة ولكنه يأتي إلى مدينة الحلة بين الحين والآخر لزيارة زوجته الثانية التي تسكن في أحد قصوره الباذخة). انها حالة يوثقها الروائي لما آل إليه البلد بشكل روائي، ففي ص150 يذكر الروائي على لسان ابن الخبازة طارق السارق قائلاً: (أين أبي وأمي الفاضلة التي كانت توزع أكلها إلى الجياع من جيراننا. أمي لم تنم يوماً وهناك بطن جائعة... إنها لا تقل شأناً عن ماما تيريزا، دام كوري، انديرا غاندي لو لا الجاحدون لحصلت ربما على جائزة نوبل كأعظم امرأة). ويقصد الروائي بالنص السردي (كانت توزع أكلها إلى الجياع من جيراننا)، هو عملها كخبازة وتبيع الخبز على عوائل المحلة، فأي تسويف للحقائق في هذا الزمن.
    وينقلنا الروائي إلى حال شيخ مسجد الوردية الشيخ سلمان كيف تبدل حاله من حال إلى حال، كان فرات يحمل همّ هذا الشيخ كيف سيعيش أبان التسعينيات حتى علمه كيفية زرق الأبّر للمرضى كي يعيش، حيث انتخب رئيساً للوزراء وهو اليوم يسكن كرادة مريم في بغداد، يذكر الروائي في ص156 قائلاً: (شيخ سلمان أصبح رئيس الوزراء. هل تعّلم معك زرق الأبّر... أصبح وكيلاً للأمن في زمن النظام السابق وكتب تقارير عن الذين يصلّون في المسجد واستلم راتباً آخر مدعياً أنه مصاب بمرض نفسي، تم ارساله للعلاج في الخارج وكان محط رعاية السفارة العراقية. بقيّ هناك لفترة نقاهة وحين سقط النظام ادعى أنه سياسي مطارد... بعد 2003 لم أره إلا وهو رئيس للوزراء... الفقير الجاهل الذي لم يحز في حياته ديناراً واحداً ويسمع بالدولار ولم يره وفجأة تسلمه خزائن بها عشرات المليارات من الدولارات، سيصاب بالشيزوفرينيا وعدم الاتزان، سيبقى شاعراً بالفقر والعوز ولن تَغنيّه أموال الدنيا كلها ويتصرف في مواقف كثيرة كأي متسول).
    في روايته سلام حربة يقدم ثلاثة نماذج تطبيقية فريدة من السياسيين العراقيين. ومن روايته (قيلولة) التي يتكون عنوانها من كلمة واحدة، حيث اعتاد الروائي على استخدام عناوين تتكون من أكثر من كلمة، وإذا ما طال العنوان كلما كان الروائي قلقاً من ناحية إيصال فكرته الأساسية في الرواية إلى القارئ من ناحية، وكتعبير عن الدقة المفرطة التي تتستر خلفها مخاوف الشعور بالتقصير من ناحية أخرى. وهو هنا يقوم بتصغير المعضلة التي تنتظرنا من خلال استدراجنا ببعض لنفاجئ مع توغلنا في مسار النص السردي إننا أمام جبل هائل من الهموم المميتة التي تحاصر الشاعر فرات صديق الراوي. والرواية تسرد بضمير لنا رغم أن البطل الفعلي هو الشاعر فرات والراوي.
    إن الحدّة الوصفية لطريقة حركة لسان صديق الشاعر فرات كمبضع يسري في لحم الأيام، وكنصل يشق وجه الماء تسهم في تهيئة استعدادنا النفسي لاستقبال ضربات الآلام المقبلة. ولو امعنا النظر في هذا الوصف فسنجد الانتقالة الموفقة التي تحقق من خلال التناقض بين فعل استعادة الصديق فرات لكتلة جسمية من الانجماد في غاز النيتروجين الخانقة والموجعة، وبين عودته كصديق للحياة وانفلاته بالحكي المحموم الذي ينطلق انفجارياً وببساطة تشبه السهولة التي يشق بها النصل وجه الماء.
    من عادة سلام حربة أنه لا يترك ثيمّة أو موقفاً أو وصفاً في مسار السرد إلا ويعتصره عصراً من خلال الطرق المتكرر، وعلى مفاصل مختلفة مرة، إلى أن يفككها تماماً، وهذا ما وجدته في روايته (قيلولة).
    هذا السياق الذي يفرضه تبلّد شعور الشاعر فرات الذي يوصله إلى توقعات قاتمة تتسق مع خواء وجوده ولا اكتراثه بسبب غيابه الطويل عن ما يحصل في الواقع، في حين أن تكشف الحقائق أمامه كرجال فاسدين يسرقون باسم الدين، يأتي كرجفة حسيّة حياتية ملتهبة تجهض بلادة الاستجابة. لكن السمّة التأملية لما يحدث في واقع الحال بعد عام 2003م هي من أهم خصائص السمات الأسلوبية لسلام حربة في خصائص الفن السردي بوضوح باهر في روايته. ولعل ما يميّز الرواية كجنس سردي إبداعي من الفنون السردية في سعة التأمل لتتحول الرواية إلى سرد فوتوغرافي خارجي في فن الرواية، فهو روائي ومحلل نفسي إذا ما جاز التعبير.
    وما يميز الرواية هو التداعيات التأملية الدفينة التي تعكس موقف الإنسان من الحياة والمجتمع والوجود، واستجاباته الانفعالية العميقة تجاه التحولات التي تجتاح كيانه، وتحاول تهشيم أواصر ارتباطاته بالآخرين والمحيط.
    بعد هذا الموجز مما تركه الشاعر فرات في غيبوبته في التجميد بدأ يلوم نفسه، ففي ص160 يقول الروائي على لسان فرات: (لو لم أهرب أنا في بطن العلم والآخرون إلى الخارج وتركنا البلد فارغاً لهؤلاء اللصوص لما أصبح حامد المنغولي مَثَّل البلاد الأعلى في العقيدة والفكر، ولن يقدر طارق أن يضع يده على خزائن البلد، ولن نسمح لسلمان أن يقود البلد لأكثر من دورة رئيساً للوزراء، وهو مريض ووكيل أمن. يجب أن أعدم وفي ساحة عامة كي أكون درساً لكل من يهرب بجبنه ويتجرد عن وطنه... الخلل فيَّ وليس في الناس. كان يجب أن أكتب بوعي الناس وبلغة يفهمونها، لا مترفعاً عنهم وشِعري زخرفة ألفاظ. الشعر ليس بالإبهام، الشعر روح، وروح الشعب حيّة وبسيطة وليست معقدة تعرفها من نظرات عيونهم السمحة.. أنا شاعر فاشل ولا استحق الحياة).
    ثم ينقلنا الروائي على ما حصل في العراق من احداث من مطالبة بعض النساء بقانون أحوال شخصية جديد يدعو إلى عصر الرق والعبودية، وخروج جموع من المتظاهرين في بغداد والمحافظات للمطالبة بالإصلاح في تشرين 2019، حتى وصل حال فرات إلى أن يشنق نفسه في مروحة غرفته بيت أهله. ففي ص 168 يذكر الروائي حال فرات عن لسان أخته هدى طليقة صديقه الطبيب عظيم: (دخلت نظرت إلى سريره الفارغ لكن ظلاله السوداء صفعتني وهو يتأرجح مشنوقاً متدلياً من مروحة الغرفة برقبة طويلة كرقبة بعير ووجه أزرق كامد من الاختناق ولسانه يتدلى طويلاً من فمه يسخر من حياة خسرها في السابق ومن موته الشنيع الذي لن يرثيه أو يتذكره أحد بعده).
     والروائي سلام حربة يصل بروايته (قيلولة) مستواً هائلاً في مجال قلب الظاهرة البسيطة على وجوهها المختلفة التي تتيح له مساحتها السردية بحرية كافية. لكنه لا يفّوت أي فرصة يظفر بها في روايته ليقدم تأملاً سريعاً عميقاً لا يؤثر في كثافة النص وتركيزه في الرواية كجنس مغاير محكوم بمحدودية المكان والزمان ومساحة التداعيات.
    وفي النهاية يدعو الروائي سلام حربة إلى انتحار بطل الرواية فرات بسبب ورود أفعاله النفسية تجاه محنته، فينبغي عليه أن يموت استجابة لضرورات أمنية ترتبط بسلامة أفراد عائلته في وطنه. ويضاعف هذا الموقف النفسي المدمر حالة الموت الداخلية المفزعة التي بات يشعر بها تدريجياً وهي تنسج شبكتها العنكبوتية السوداء شيئاً فشيئاً حول وجوده الهش في بلده.

77
قراءة في ديوان الشاعرة نور الهدى كناوي (الخامسة وخمس دقائق)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    أزفت الساعة الخامسة وخمس دقائق، فشهدت شاعرتنا الشابة (نور الهدى كناوي) مجمع ديوانها الوليد عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في بابل هذا العام، من القطع المتوسط وبواقع (1650) صفحة ذات طباعة جيدة وغلاف جميل، فدعانا الصديق حسين نهابة رئيس مؤسسة أبجد لحضور حفل توقيع الديوان في قاعة المؤسسة، حتى تعرفنا على الشاعرة وعائلتها، وطالعتنا بقصائدها الجميلة وإلقائها الأجمل، فسمعت أبياتاً جميلة آنستني بعض منها بلون قصائدها. وانصرفت إلى الاستماع لباقي قصائدها مع تعليقات ونقد بناء من صديقي د. نصير الحسيني.
    ترى الشاعرة نور الهدى في العنوان اسماً خاصاً يميز ديوانها من غيره، وقد لا يثير العنوان إلا عدداً من القراء، والعنوان يقتصر على جملة لغوية توضع على غلاف الديوان، أو تعتلي نصاً من النصوص، وغالباً ما كانت الشاعرة تسعى إلى عنوان جمالي اهتماماً بدلالته، فالتقطت عنواناً باعتماد ذائقتها وحدسها وحساسيتها، وأكثر ما كان يحصل ذلك عند الشعراء الرومانسيين، إلا أن الشاعرة نور الهدى اختارت عنوان ديوانها (الخامسة وخمس دقائق)، فهو ساعة الوقت لنهوضها، ولتعلن للآخرين إن الساعة أزفت لنشر قصائدها. فكان الوعي بالعنوان قد ظهر ضمن معطياتها أخيراً، فكانت لإحدى شفرات النص الذي ينطوي عليه موجهات فعل القراءة والتأويل.
    وعلى غلاف الديوان (الخامسة وخمس دقائق) يحمل هماً أو قلقاً أو تأملاً، وكان العنوان ملائم لصورة الغلاف، فالصورة هي دلالة إضافية إلى العنوان، والصورة هنا تتضامن مع العنوان اللغوي، وتنضم إليه في تأسيس كثافة علاماتية لدلالة العنوان. فاختيار العنوان رسالة تواصلية ومعرفية وجمالية، يستقبلها القارئ ويعمل على تفكيكها، واستنطاقها بلغته، فالعنوان قد يخلق القصيدة، ففي الدراسات السيميولوجية يكون العنوان عنصراً مهماً للنص لا زائداً، فهو مفتاح إجرائي ضروري في انتاج القصيدة، وهذا ما وجدته في جميع قصائد (نور الهدى)، وبوعي تام لإشاراتها ولدلالاتها لتلك الإشارات.
جائتنا قصائد الشاعرة فاطربتنا بمطلعها (قفص الحمائم):
أريد التحدّث
عن الحمائم التي مات عشها
بين أضلعي..
عن الظل الذي بات يأخذ
مكاني في الشارع..
الترتيلة التي فرطت من العِقد
عن الصمت الذي يكتب قصائده
مكاني..
أريد أن أتحدّث
عن الأطياف التي تحدّق بي
ونتبادل اللا شيء كلغة
....
أريد التحدّث
عن شيء ليس له حروف تكتب.
   إن قصائد نور الهدى أجدها محملة بالهموم والموت، بل شعرٌ رصين ما مسّ قط إلا الفصاحة، وجيد الشعر لولا الاكثار من (متى) في قصيدتها (قافلتنا) التي قد تستسيغها أذني في النظم، ويكاد يغص بها حسي:
متى تسير قافلة أصابعي
على جسدك العاشق
متى نروي ظمأ الحقيقة
للروح الساكنة في عمق الغابة
على سور الحديقة الحزينة
بربيع الأيام الغائرة الحزينة
............
متى تسير رحلة الكشافة
متى ينحدر الوادي بطريقة.
    أما في قصيدة (وجع المدينة)، فيها حياة فنية لا حد لها، والشاعرة تصدق دائماً حين تحدثنا عن قلبها، فهذا الشعور الذي تحسه في شعرها اليوم يأتينا بنبأ أكيد عن احتضار هذا القلب.
وجع المدينة المختنقة
بعوادم السيارات يسكنني..
كلّ الشقوق في الأسفلت
كلّ الندوب في الجدران
تعب صخور الضفاف
من صفع الموج لها
جزع المآذن من أصوات النفاق
فتات زجاج السكارى على الأرصفة
تعب الجراء من انتظار أمهاتها قادمة
بفتات الأغنياء.
    كما جائتنا قصائد الشاعرة فاطربتنا بمطلع ديوانها قصيدة بعنوان (شيبات وطفل):
طفل يلحقني.. يناديني ماما
وهو لا ينتمي لي
يحدّق عميقاً لما أخفيه
اهرب منه فيطاردني
وفي لعبة الكرّ والفرّ
لا أدري من منا الطفل
........
ثلاث شيبات وطفل
وربيع غائب في خريف الوطن
وحبّ يفرّ في سفر
وأنا وأنتم في انتظار الموت.
    وفي قصيدة (بقعة) التي بنيت فيها الشاعرة صور وألوان زرقاء، ومعانٍ راقصة كالفراشات حول ثغور الليالي، فسار على رسله ذلك المتسرب من القمر على شراشفها والبقعة الزرقاء:
بقعةٌ زرقاء
تتجولُ في جسدي
من الشمال إلى اليمين
في الليالي الباردة تعلق
في صدري فتخنقني
لكني أنجو بفضل الضوء
المتسّرب من القمر على
شراشفي المرقوعة.
بقعةٌ زرقاء.
    وفي قصيدة (هو الحب) تطالعنا القصيدة ببحر الشباب الذي يعج ويصخب، أما لغتها الشعرية التي تعتمدها، وتتغلب على صوره وألفاظه على سرد الأخبار. فالأبيات مطمئنة هادئة، وأكاد أراها باسمة، رغم ما صوّرت لنا من أهوال، لكن قصائدها لدى المتلقي يحب أن يقرأها، ويحب أن يحتذى بها الشباب، فلا هو بالغامض الممقوت، ولا بالواضح المكشوف، فأنا اهنئها بقصائدها هذه والتي زجتها في معترك الشعر.
(هو الحبّ)
في المساء تترنّح الكلمات سكرا
إذ هي تذوق حلاوة الوجدِ
وقد جدّ الوجد حتى أجاد
لفتنا بخيوطه الناعمات.
ناعم مترف هو الحبّ إذا خط
بقدمه اليمنى أبوابنا مباغتاً
لنتغنى بقداسته المبجلة.
مفرط لعوب يعبث بنا
لذيذ إذا تعانقت النظرات
قصير وقته إذا التقينا
....
وما أجمل ليل الحبيب
إذ تزين بالعناق والقبلات
هاجرين رثة الحياة وأهلها القساة.
    وقصارى الكلام: اعجبني من ديوان الشاعرة نور الهدى قصيدتها (مرجان)، فأجد فيها مسحة الشعر، وفيها رائحة الخيال الذي هو ملاك الشعر، وإذا أردت تلخيص رأيي في هذه القصيدة قلت: أرادت نور الهدى أن تحكي شعراً فحكت، وابدعت ومشى قلمها رويداً رويدا ليظهر جمال الشعر، وجمال النفس يشعُ من الألفاظ كالخمرة في كأسٍ بلورية، فتتحد الألفاظ بالمعاني اتحاداً كلياً فيصير كخمرة وإنائها. ومن هذا الجمال الذي لا تحيط بوصفه الكم والكيف يأتيه السناء الفائق كالذي يلوح في المحيا الساحر بارقاً، من هذا اقول سمعت شعراً باكياً مؤلماً لشاعرة تبكي وتبكينا معها لأنها صادقة الشعور والمشاعر في صورها الشعرية.
في مستشفى مرجان
اطياف الجثث تقف مذهولة
الطبيب الذي يجلس خلف الطاولة
يلعب ويشير بالإيماء
الآخر الذي يشعل ناره
للممرضة تكدس الأخضر والأحمر
لدخان سيجارتها
أم أحمد ورقصات الطبخ
المتواري خلف الباب المقفل
الأرواح تستغيث والأحياء تبكي
يتيم آخر يرفع رسائله مع ساعي البريد
كتاب كهذا لا يدين أحد إلا الموت.
    من خلال مطالعة قصيدة (مرجان)، أجد موضوعة الموت يهيمن على هذه القصيدة، ويرجع ذلك إلى ساعة رحيل والدتها المبكر، فضلاً عن مخاطبة والدتها في قصيدة (الثقب الأسود)، فالموت لدى نور هو الذئب في شراسته وقسوته وغدره، فترى في الموت نهاية للحياة كلها، فتتأمل الموت بعقلانية وحكمة، وترى الموت جزءاً من النظام الكوني كالميلاد، والحديث عن الموت يبعث على الكآبة والمخاوف، والقلق والاضطراب من زوال الوجود الذي يصيب الإنسان.
   أما قصيدتها (اللقاء)، فأرى للمكان والزمان مذاق، ومذاق في الرؤيا، حينما يتجول المكان والزمان من بصرك إلى بصيرتك، من خلال عقارب الساعة، ويفقد أبعاده المادية، وتتجلى روحه، ويتأسس نصاً، وتبدأ قراءته، فموضوعة المكان والزمان مهيمنة في عدد من قصائدها، وأصبح المكان تضع عليه أحزانها وأحزان الآخرين، وعلى الزمان سعادتها وسعادة الآخرين.
(اللقاء)
نهرب من عقارب الساعة
نختبئ في دائرة الأميال
أهيمُ في ملامحك طويلاً
أراقبُ مساحة الأوطان
في فضاء وجودك المدوي
أسرح في شفتيك
واقترب.. اقترب
في محاولة لسرقة الزمان
فأتذكر العيون حولنا.

78
قراءة في رواية (أفاعي الشيطان) للروائي البحريني ناجي جمعة
د. نصير الحسيني
    عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، صدرت رواية (أفاعي الشيطان) للروائي البحريني ناجي جمعة، واستقرت الرواية على (90) مقطعاً، واستهلها بالإهداء: (إلى قلوب عصرها الدم، لترتوي بالطهارة).
    تدور احداث الرواية عن جرائم داعش وما آلت إليه أفكارها من خراب طال شتى الميادين، ويبدأها بالشباب الذي انحرف ومال إلى الأفكار المتطرفة التي قادته إلى مسرح الجريمة، ويبدأ جمعة روايته بالمقطع الأول بظهور الشاب فائز الذي ينحر زوجته في أول ليلة من زواجه لأنها اعترضت على العمليات التي يقومون بها ووصفتها بالإجرامية، بينما هو يحاول اقناعها بأن هذا العمل هو عمل جهادي استشهادي الغاية الاساسية منه التطهر من العهر، ويستدير الروائي في المقطع الثاني من روايته إلى كيفية تجنيد الشباب ومن ثم غسل ادمغتهم مستغلين وضع العراق تحت الغزو الامريكي، وحين تسأل الأم ولدها فائز بدهشة:
-      هل صحيح تم سفك دم حَصبة؟
-      نعم يا أمي، ولم يكتفي بنحرها، فيقول إنه حاول حرقها لولا سماع الجيران لصراخها، ومن ثم ينقلها إلى المشفى بعد تركيب الرأس المقطوع على ذلك الجسد البريء.!!
    وفي هذا المقطع يكشف لنا عن سادية تتجاوز الحدود، ومن خلال مجرى الاحداث يتسابق المغرر بهم من الشباب للحصول على الجوائز التي رسمت لهم بفتاوى مظللة من رجال دين مشكوك في أمرهم وفي صلاتهم بحجة العقيدة، وكأنها فخ مسبق الاعداد.
     غير أن الصراع يستمر بين مفاهيم معقدة تتناول التفسير والتأويل للنهج الديني في فروض العقيدة، كتبرير لاستخدام العنف المفرط.
    يظهر لنا عمار ياسر على مسرح الأحداث ومن ثم يتسلل إلى المسرح كاشفاً المستور عن الاحداث، ولعل أهمها رغبة الشباب العربي بالهجرة للخلاص من واقع الخراب ناجياً بنفسه عن وطنه دون أن يحاول التغيير، وهنا يحتار إلى أي البلدان يهاجر وأمامه الخيارات، تظهر مفتوحة إلى امريكا أو لندن وباريس، كونه من سكنة الخليج العربي وتحديداً من البحرين؟ ليصل أخيراً إلى المحطة التي سمع عنها وقرأ عنها وتغافل عن عمد عن ذكر تاريخها المليء بالدم والقتل والاستعمار، واصفاً إياها ببلد الحرية! ويبدأ عمله نادلاً في أحد المقاهي، وهذا الأمر يحيلنا إلى الحيرة كون الشباب العربي عندما يهاجر مستعد للعمل بمهن مختلفة ربما لا يعمل بها في وطنه، باعتبارها وضيعة، وهذا ما يثير تساؤلاً أخراً غير معلن الاسباب!! وحين يتعرف بفتاة بريطانية يقع في أول مطب لا يخلو من التعقيد والتساؤل: "وبمجرد أن عرفت بأني عربي انقلب وجهها، وانكشفت الوانه، ارتجفت شفتها السفلى، فزلزل ثغرها، فأبرقت وارتعدت" ص23.
    وعبر الحوار معها تكشف له عن سبب كرهها للعرب وللمسلمين وللدين الإسلامي، والحقيقة أنه ازاح الستار عن قوة الإعلام الغربي الذي يقود الآخر إلى ما يريد، ويحول الحقائق ويحرفها بما يتفق مع مصالحه الاستراتيجية. ويظهر هنا الاعلام قوة فاعلة ومؤثرة لا بل نهجاً رأسمالياً.
    واثناء سير الاحداث تظهر شخصية جديدة على مسرح الاحداث صديقته الانكليزية ميري التي تتحول من شخصية انكليزية متعصبة إلى داعية إسلامية، وتغير اسمها إلى سهيلة ثم أم القعقاع، التي تقوم بتجنيد الفتيات وتشجيعها على جهاد النكاح، وقبل كل هذه الاحداث تؤمن له العمل في صحيفة الاندبندت مراسلاً صحفياً، وتهاجر إلى الرقة لتشترك في عملية انتحارية وتموت مثيرة عدة تساؤولات!!
    وسرعان ما تظهر زولا الفتاة الانكليزية التي تعمل في شؤون الارهابيين إعلامية ليتزوجها، ومن ثم يفترقا بعد كشفه خيانتها له وعلاقتها بالماسونية. ينسج عمار ياسر الاحداث بالسرد ويبين فيه كيف دخلت داعش إلى العراق عام 2014م واحتلالها لأجزاء واسعة من العراق وسورية، وما جرى من احداث مؤلمة غير مشيراً إلى المسؤولين عن الاحداث. ويلتقي بزوجته اللبنانية من الجنوب عن طريق أخيها، ومن ثم يدور الحديث بينهما عن الماسونية وتاريخ نشوؤها والصراع الدائم بين الإيمان والإلحاد، وولادة ابنهم هادي وحصوله على الجنسية البريطانية التي تؤمن له سهولة الانتقال بين العراق ولبنان وفرنسا وغيرها من البلدان، ليكون هو شاهداً على احداث داعش وما ارتكبته من جرائم يندى لها الجبين.
    ويقوده عمله الإعلامي من خلال شخصية جاسم الكربلائي الذي يظهر صديقاً لما تقوم به داعش من قتل وخطف واغتصاب ورق واستعباد للنساء والاطفال، وتجنيد الصغار ونشر السلب والنهب ليظهر ذلك في كتاب عن البنية الفكرية للجماعات الارهابية عن اسرار الارهاب ليقع في مطب الشهرة ويكون هدفاً للاغتيال الذي يزيده اصراراً على مواصلة العمل؛ من اجل كشف الحقائق، ويلتفت الروائي اثناء ذلك إلى مأساة الاقلية الايزيدية وما تعرضت له وتحديداً نساءهم، وتتحول الصورة برمتها إلى دهشة انسانية بالغة الخطورة، وهي تعيد تركيب الاحداث وفق اسس منحرفة لا تمت للإنسانية بصلة ما، وعلى أية حال جرى ما جرى من حزن واسى يقف وراء تلك الصورة المدهشة لنظام عالمي اشتهر بوحشيته تحت مسمى العولمة التي لا تعرف سوى المال وتجارة السلاح، غير أن بطل الرواية يكشف لنا فجأة عن وجود تعاون بين ضابط الجيش العراقي رفيع المستوى اللواء عبد الجبار الكرخي وضابط المخابرات البريطانية في كشف حلقات التنظيمات السرية في لندن، التي تقوم بكسب وتجنيد الشباب العربي المتجنس أو المقيم في بريطانيا وغيرها من الدول الغربية وارسالهم إلى العراق تحت مسمى الجهاد، حيث يشير الموقف إلى الدهشة والغرابة، ثم يستدير إلى تاريخ العراق المليء بالمآسي والغزوات والحروب، ويسرد لنا قصة هولاكو ويعرج من خلال ذلك إلى قصة مؤيد الدين العلقمي ورجل الدين نصير الدين الطوسي.
    إلا أن الرواي يقوم بالتعريف بالأماكن المهمة في بغداد بالنسبة له، وتحديداً في بغداد ميالاً إلى الضفة العراقية، عاكساً حب أهل البحرين لهذا البلد، ثم ينتقل إلى قساوة الاحداث التي جرت على صديقه قاسم حين قتلوا زوجته وابنه أمام عينه دون رحمة، وهي صورة من صور لا عد لها قد ارتكبت، ويعرج السارد العليم إلى الخلاف القائم بين الملل الإسلامية والمحاولات التي جرت للتقريب في وجهات النظر في مؤتمر بغداد.
    يستغل السارد مهنته الاعلامية كصحفي لينتقل بين الاحداث المرعبة التي حدثت في العراق ولبنان وسوريا، ثم ما جرى من تفجيرات في فرنسا وبلجيكا وسواها من البلدان. وكل تلك الاحداث اساءت للإسلام وللمسلمين الذين تعرضوا إلى هجمة شرسة طالت الكثير من الابرياء.
    يقول الراوي في المقطع (85): بعد أن قضيت اسبوعاً اضافياً في العراق عدت إلى ارض الحرية لندن، فأستقبلتني سكينة (زوجته) استقبال الفاتحين" ص222.
    يحيلنا هذا المقطع إلى تساؤلات لا تخلو من شكوك عن الدور البريطاني والامريكي في صناعة الاحداث!!. ربما يشكل موضوع الرواية تسجيل صحفي لأحداث ظهور فقاعة داعش على مسرح عدة دول، ويكشف عن التساؤل عن اسباب ظهور هذه الحركة الفاشية، التي تطورت من تنظيمات سابقة مثل القاعدة ودمرت بلدان كاملة مثل العراق وسوريا، وازاحت الستار عن صور سيئة في الاديان، وتحيلنا إلى سياسة الآخر وادواره المتناقضة وهو يدرس تاريخنا بعناية ليصل إلى ما يفرق بين الأخوة والمؤمنين بدين واحد، ويفرقهم إلى ملل متناحرة.
    وعلى أية حال كل ما ذكره الروائي ناجي جمعة في روايته وقعت بين السرد والتقارير الصحفية التي وثقت احداث مهمة مرت علينا وحفرت اثاراً بل قل انهاراً من المآسي الواقعية سجلها وجمعها في قصص شتى في عمل روائي لا يخلو من متعة ودهشة لمجرى الاحداث، وقعت في 223 صفحة من الحجم المتوسط.
 

79
قراءة في رواية ابتهال كسار (تشرين الغريب)
نبيل عبد الأمير الربيعي
  كل رواية أو كتاب اطالعه يزيدني معلومة أو جملة جميلة، أو حكمة اتعلمها من خلال تلك القراءات، ورواية (تشرين الغريب) للروائية ابتهال كسار هو الدرس الذي أفدته من خلال مطالعتي تلك الرواية، والرواية هي تعديل وإضافة معرفية مدعومة بحقائق وقرائن في مجال احداث تظاهرات تشرين عام 2019م. ما يدهشنا في شخصيات الرواية البراءة والبوح وشدَّة المعاناة، فشخصيات الرواية معذبة تكاد تنفلق على نفسها لحدة صراعها مع واقع العراق المؤلم وما يحدث من سطوة القوى الغير منتمية للوطن، همّها الأول المناصب والامتيازات وسرقة المال العام.
    على الرغم من الوضع المضطرب الذي يعيشه العراق اليوم، ومن غير الممكن اغفال منجزات شباب شباط وشبات تشرين في تظاهراتهم اليومية التي حققت جزءاً من أهدافهم المعلنة، ومن خلال الدعوة لتغيير حكومة عادل عبد المهدي وقد فعلتها، تلك الحكومة التي استخدمت السلاح وقنابل الغازات المسيلة للدموع ضد المتظاهرين، من خلال قواتها الأمنية وعناصر الميليشيا الموالية لها، فاستخدمت جميع صنوف الاضطهاد من قتل وخطف وتغييب واعتقال داخل أوكارهم السرية. وقد وثَقَّ الكثير من الأدباء والباحثين تلك التظاهرات ومنها كتابي الموسوم (يوميات الانتفاضات الشعبية في بابل "2011-2021" دراسة ميدانية)، ورواية الأديبة ابتهال كسار الموسومة (تشرين الغريب) الصادرة عن مؤسسة ابجد للترجمة والنشر والتوزيع في بابل لهذا العام وبواقع (235) صفحة من الحجم المتوسط ذات الطباعة الراقية والغلاف الجميل والورق الناصع (شامو)، تلك الرواية التي حصلت عليها من الصديق حسين نهابة رئيس مؤسسة أبجد، إلا أن كل منجز لا يكتمل إذا ما لم تصيبهُ بعض الهنّات، اتمنى أن تعالجها مستقبلاً الروائية، منها: الاهتمام بالفارزة بين الجملة، والنقطة في نهاية السطر، ونقص نقاط الشارحة، وتحتاج بعض الجمل إلى إعادة صياغة بشكل افضل. مع هذا الرواية جميلة ومفعمة بالأحداث والتوثيق لتظاهرات تشرين 2019م، والأجمل تسلسل الاحداث والتنقل بين ساحة التحرير وجسر الزيتون في الناصرية وساحات التظاهرات في مدن الفرات الأوسط والمدن الجنوبية.
    وتكشف هذه الرواية على مستوى رائع من حضور الشخصيات وفكرة ومضمون ما حدث. إذ تتحدث الروائية كسار عن فصول يوميات انتفاضة تشرين ومشاركة بطلتها مها، مهندسة الحاسوب ذات (29) عاماً مع اخوتها في تلك التظاهرات. كما تنقلنا الروائية كسار بين عناوين فصول الرواية التي تجاوزت (40) عنواناً، بين يوم الجمعة، وعاشق بغداد، وساحة التحرير وزيارتها الأولى للساحة، وما يحدث في منزلها من احوال، وعدم رغبة والدتها للمشاركة في التظاهرات، وتشرين الأبيض، وجسر الزيتون في الناصرية، الطرق المقطوعة، والموصل أم الربيعين، والكثير من عناوين الرواية.
    في بداية الرواية هناك حوار بين مها وأمها، وهناك حوار آخر بين مها وزميلتها رزان، وهناك حوار لمها واخوتها (روان، مصطفى، أحمد) حول اهمية مشاهدتهم لأفلام الكارتون عبر التلفاز واختيار الافضل، فتتحدث الروائية في ص19 عن معنى كلمة (كبرت) في مجتمعاتنا أي تقول بمعنى (العمر البايولوجي سوف يمضي، لا تسمح لروحك أن تمضي معه لأنها لن تعود). وفي ص20 تؤكد الروائية على الوضع العام في مركز العاصمة بغداد، من تقطيعها بالحواجز الكونكريتية، وكثرة نقاط التفتيش العسكرية، ووضع المطبات الصناعية، وهذا حال جميع مدننا العراقية، ففي الرواية توثق الروائية هذا الواقع المر لما تمر به مدننا الحزينة الكئيبة.
    ثم تؤكد الروائية في ص21 من الرواية حول حبها وعشقها للعاصمة بغداد قائلة: (ملعون من سرق بريقك بغدادي، لا أسكنه الله فسيح جنانه؛ من العصور الغابرة إلى يومنا الحاضر). هذه اللعنة قد وجهها جميع الشرفاء الذين يدعون بها لما حلَّ بمدننا من بؤس وخراب وتدمير.
    اعتقد الرواية هي عبارة عن سيرة ذاتية للروائية، فتذكر الروائية في بداية صفحاتها كيفية التحاقها بالمتظاهرين ومخيمات المتظاهرين في ساحة التحرير دون علم أهلها، وتحدد الروائية ذلك في بداية تشرين الأول من عام 2019م، وهو تاريخ انطلاق التظاهرات المنادية بهتافات المتظاهرين (نريد وطن)، أي نريد أن يعود وطننا المسروق من قبل قوى الإسلام السياسي بدعم أمريكي ودول الجوار.
    وتعلق الروائية عن اعتزازها بنهر دجلة وماؤه في ص22 تقول (لم يكن من عادتي ولم يعجبني ابداً أن ارمي بالحصى على هذا النهر العاشق الوديع المسالم، برغم من حبي للحلقات الاهتزازية التي تتشكل من ارتطام الحصى بسطح النهر). وقد وصفت الروائية في ص25 ساحة التحرير بشكل مفصّل، وما حدث بين المتظاهرين من تآلف وتعاون وانسجام، وتوفير ربات البيوت الطعام لهم. وفي ص26 تذكر الروائية تفصيل جميل لنصب الحرية وهو من اعمال الفنان جواد سليم، وماذا يعني كل جزء من النصب.
    وفي ص27 توثق الروائية الهتافات التي ارتفعت عبرَّ حناجرهم في ساحات التظاهرات والحراك الشعبي في العاصمة بغداد والنجف والناصرية والمحافظات الجنوبية. فضلاً عن دور الاسعافات الأولية والطبابة والأطباء والممرضين المتطوعين لإسعاف المتظاهرين المصابين، وتوصف الروائية موقف قوات مكافحة الشغب في الساحة واطلاقهم الرصاص المطاطي وقنال الغازات المسيلة للدموع في ساعات الصباح الأولى، فضلاً عن كيفية معالجة الشباب لتلك القنابل والغازات السامة من خلال مزج الخميرة والماء وغسل العيون.
    اجمل ما في الرواية الحوار الذي دار بين مها وبين امرأة خمسينية ترتدي غطاء الرأس الشيلة السوداء، فذكرت الحوار في ص30 وما بعدها. فضلاً عن الوصف الدقيق للمسعفات وطرق معالجتهن للمصابين، ووصف ما يدور في الخيم من تقديم الطعام والشراب والراحة للمتظاهرين من قبل النساء. أما دور وسائل الاعلام والمصورين فتؤكد الروائية على دورهم المهم في نقل المعلومة الصادقة عدا وسائل الاعلام الحكومية ومن تبعها. كما تنقل بشكل مفصل لقاءات هذه الوسائل الاعلامية بالناشطين في التظاهرات ومطالبهم ومواقفهم من حكومة عادل عبد المهدي. اضافة إلى الوصف الجميل لتشييع أحد شهداء تظاهرات تشرين من خلال نقله بسيارة كوستر ليمر بالمكان الذي سقط فيه شهيداً وهذه وصيته.
    وقد تميزت فصول الرواية بملامح جعلتها تختلف عن ما طالعته من روايات؛ بدءاً بتطور لغة الروائية التي مالت إلى التركيز والابتعاد عن الانشائية، كما يتجلى هذا التطور في استخدام الرواية ابتهال كسار للهجة العراقية العامية في الحوار لبعض النصوص، مما اضفى على الرواية جواً محلياً متميزاً زاد من أثرها على القارئ، كما فاقت الرواية من بعض الجملة التي تعتبر من الحكمة، حيث التركيز والتحليل، واعتقد الرواية هي سيرة حياة الروائية ودورها في انتفاضة تشرين كما ذكرت ذلك سابقاً، والتي تنتمي لعائلة بغدادية شديدة التعلق بأفرادها، والقارئ للرواية يجد آثار الكُتّاب الواقعيين الاجتماعيين، والتي ترى في البيئة والمجتمع عاملين هامين في تحديد تطلعات الإنسان وتفكيره لمستقبل البلد.
    لذلك اتسمت الرواية بالواقعية، عبرَّ نقل الواقع بفعل تأثر الروائية بالواقع السياسي والاجتماعي، منطلقة من اتجاه علماني يقترح الحلول في معالجة ما يحدث من فساد وسرقة للمال العام وانتشار البطالة بين الشباب. كما ترى الروائية في الاخلاص للوطن حلاً لمشاكل البلد.
    وتنقلنا الروائية في ص68 إلى موقف المرأة العراقية الداعم للتظاهرات مادياً ومعنوياً، فضلاً عن أن هناك اشخاص غير جادين في دعم التظاهرات. اضافة إلى الضغوط التي مارستها الجهات السياسية والميليشياوية لهجرة وتهجير بعض الشباب إلى خارج العراق بسبب التهديد والوعيد لهم عبر وسائلهم الخاصة. ومن خلال الحوار الذي دار بين بطلة الرواية مها وزميلتها أو صديقتها رزان حول هجرة صديقتها ندى بسبب التهديد الذي وصلها، فتذكر الروائية ذلك قائلة: (في الظاهر العالم يتقدم، وفي الباطن تراجع انساني فضيع وبشع، لقد فاقوا كل المحتلين، استقبلت رزان الخبر بدموع لم تتوقف منذ البارحة، بعد أن اخبرتها أن زائر الليل الشاب مجهول الاسم والهوية قد غادر أيضاً، اختار منفاه بنفسه من قساوة الأقدار).
    من هذا نجد الروائية ابتهال كسار قد كتبت روايتها بضمير المتكلم، وهو الضمير ذو السيادة المطلقة في منجزها (تشرين غريب)، وتعبر فيها عن دور الشباب في الانتفاضات الشعبية والتظاهرات، وتعني في نهاية الرواية إلى هجرة الأحبة خسارة كبيرة للأصدقاء والوطن، وتوصف بقسوة الانسان وتوحشه، فمعاناة الروائية في روايتها يمكن أن تعاني منها أي شابة أو شاب عراقي عاش في العراق بعد عام 2003م، في ظل التدهور الاقتصادي والاجتماعي والامني، واستشراء الفساد وسرقة المال العام. لكن الروائية تتحدث عن رحمٍ دامٍ بعيد هو الوطن؛ هو العراق، وكوننا متلقين عراقيين مما تجعلنا الروائية أن ندرك أننا نتقلب في بلدٍ عبارة عن فوضى، لم يحقق الشباب فيه احلامهم بين الاستقرار والعمل والأمان والانتماء، كل ذلك يؤكد على خسارة المستقبل في بلادك بأكمله وإلى الابد.
    لكن معضلة الروائية الاساسية المستعصية على كل حال هي معاناتها الموجودة التي لا تنقطع، مراهنة على قبضة الطغيان المتمثل بالأحزاب الحاكمة، ليحظى من تبقى بفرص العيش المنعَّم والسلام والطمأنينة.

80
الحنين إلى نجمة وتمائم حميد سعيد
نبيل عبد الأمير الربيعي
    الشعر الحقيقي هو ما لا تستطيع أن تفصله عن صاحبه، ولو حللته في مختبر اللغة، وما يخرجه ويذيعه الأديب على الملأ يصبح ملك الجمهور، يحق لكل مفكر أن يقول كلمته فيه، ولا حسد ولا حقد ولا غيرة هناك. فإن أصاب الناقد أفاد، وإن أخطأ هزئ به الناس، وهل يكترث النقاد في الشعر البارع والنثر الممتع؟ هناك يتميز الأديب بكثرة منتقديه، فترك النقد عندهم منقصة وسُبّة.
    اليوم أصبح النقد يسير عندنا وخاصة الخصوم منهم في الفكر والعقيدة؛ فتُختم المأساة بأكل اللحوم ونبش ما بين السطور! فمن هواة النقاد نقول لهم كونوا منصفين، فهل من نقاد للأدب لا يحابون كاتباً ولا يمالئون شاعراً، فلا يكيلون الثناء إلا لمن يعتقد بما يعتقدون من حزب وفكر وعقيدة، فليترك النقاد هذه الطلاسم التي يحتار بها قرّاءها، وتنفخ بالأدباء حتى يصبحوا كالقطن المنفوش. والبلية إنكَ إذا اصدرت كتاباً جديداً، وقلت كلمة في أحد المؤلفين والأدباء الجديرين بالكتابة عنهم تغامزوا جميعاً عليك وقالوا: حسداً، أو يواجهك البعض ممن يحمل روح الكراهية بذلك. وهكذا ينجوا المتلبسون والحساد بالجري.
    مطلع الشهر الماضي أهداني الصديق الأديب حسين نهابة كتابه الموسوم (تمائم حميد سعيد) الصادر عن دار نينوى في دمشق عام 2018م، وبواقع (212) صفحة من الحجم المتوسط ذات الطباعة الجميلة والغلاف الأجمل، والكتاب يذكر فيه الشاعر والناقد حسين نهابة سيرة الشاعر حميد سعيد، واستعراضاً نقدياً لإصدارات الشاعر مع بعض ما عُلن وخفي من سيرته الذاتية، بالارتكاز على المصادر المتوفرة وبعض المحادثات الهاتفية بين حسين نهابة والشاعر المغترب حميد سعيد.
    ومطلع هذا الشهر أهداني الأديب الشاعر شكر حاجم الصالحي كتابه (حنين بابلي.. مختارات من ابداع الشاعر العراقي حميد سعيد)، الصادر عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع والصادر لهذا العام 2022م، وبواقع (110) صفحة من الحجم المتوسط ذات الطباعة الجميلة وتظهر صورة الشاعر بقلم فنان تشكيلي على غلاف الكتاب، والكتاب احتوى على قصيدة للشاعر الصالحي بحق الشاعر حميد سعيد، وسيرة ذاتية للشاعر، و(19) قصيدة للشاعر حميد سعيد، وكلمات محبة من الأدباء والفنانين: كامل حسن الدليمي، ومالك مسلماوي، إنصاف قلعجي (ناقدة أردنية)، والموسيقار علي عبد الله، محمد المحاويلي، غالب العميدي، عباس خليل العاني.
   كما حمل لي الصديق الكاتب والأديب د. نصير الحسيني هدية الشاعر حميد سعيد في زيارته الأخير للأردن ديوانه الأخير (نجمة.. بعد حين)، الصادر هذا العام عن دار دجلة، وبواقع (102) صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن الديوان (18) قصيدة حديثة للشاعر، فضلاً عن كتاب آخر وهو دراسة نقدية للأديبة الأردنية إنصاف حسن خيرو قلعجي) تحت عنوان (تَطواف في حدائق الموريسكي عن الشاعر حميد سعيد)، الصادر عام 2021م عن دار هبة، وبواقع (97) صفحة من الحجم المتوسط.
    وقفت عند هذه الكتب بين ديوان الشاعر حميد سعيد ونقد أدبي كُتب بحق قصائد الشاعر حميد سعيد؛ وقفة النابه والمتردد كوني باحثاً بعيد عن النقد والدراسة الأدبية، ولولا أن هناك عنواناً في قلبي ومكانة للشاعر والأصدقاء والإهداء لما قرأت تلك القصائد والنقد، وبرد قلبي. فالشاعر حميد سعيد لهُ مقاماً في نفسي وبين الشعراء والأدباء العراقيين والعرب، كمقامه فترة الصبا والشباب  بأرض مدينته الحلة المزيدية والعاصمة بغداد التي غادرها، وظللت أروح وأجيء حتى خفت أن يموت الوقت ولا أقول كلمتي، ولا سيما أن الكتب تتكاثر على رفوف مكتبتي، فأخذت تلك الهدايا الجميلة؛ فما كدت أمسك القلم حتى أقلتّه. لا أفكر بما أقول في تلك الهدايا القناديل، حتى تراءى لي شبح الشاعر حميد سعيد اللذيذ فأتمثل نظراته التائهة البريئة، فوقفت كالغريب في مفترق الطرق حائراً. وبقيت هكذا حتى قالت لي نفسي: ما تراه يكون لو ضحيت بوقتك اخلاصاً للشاعر واصدقائه؟ ثم ما قيمة العاطفة السامية وهي سكوت ونوم؟ ولماذا أهدى إليك الشاعر ديوانه والأصدقاء تلك الكتب؟ أليس لتقول كلمة فيها؟ فقهرت عاطفتي وألقيت قاربي في أمواجه، فعسى ألا أغضب الشاعر كما أغضب سواه من رفاق وأصدقاء.
    حقاً إن ديوان حميد سعيد نجمة فيها كل شيء، وما أشبهه بليل امرئ القيس. حميد سعيد وشعره فيه فناً يثقّف بنيّات القرائح ويهذبها. ومشى القلم رويداً رويداً فأخذت اقرأ ديواناً أهداه إليّ، وقد خرج هذا الأثر من يده وصار ملكاً للأدب العربي، فعلينا أن نصدق صاحبه القول، كما نصدق النصيحة سواه، وشعره العتيد مستقيم له من الفن والشاعرية، فالشاعر لا يحيى بلا فن للقصيدة.
    وسألت نفسي: أتعرفين يا هذه، بماذا يجرف حميد سعيد الشعراء اجمعين؟ فعيّت جواباً. فرحت اتساءل: أبالمواضيع؟ انها وحدها، لا تعمل شاعراً، فقد يكتب ناثراً أروع منها، أبالنظم؟ فهو يعترف أنه لا يصنع شعره بل يرسله كما خلقتني يا يا رب. فقد كتب الشعر منذ شبابه أيام عاش في مدينة الحلة، وعرف أغراض الشعر وأنواعه. وفي مرحلة مبكرة من قراءاته الأولى التي توزعت على ثلاثة مصادر، مكتبة المدرسة والمكتبة العامة في الحلة، وما كان يقتنيه خاله من كتب ومجلات، وخاصة مجلة الرسالة، وجد نفسه ميالاً إلى قراءة الشعر، ومن ثم في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي كانت له محاولات في كتابة القصيدة ومقطوعات من الشعر، نشرت بعضها في الصحف آنذاك.
    الشعر موسيقى قبل كل شيء، والنثر خير منه وابقى، فليس للناقد أن يعرض الشاعر في اغراضه، بل أن ينظر فيها، فرأينا أن العناصر التي تتألف منها شخصية حميد سعيد في ديوانه (نجمة.. بعد حين) ليست جديدة، فهو لم يكتشف اقليماً جديداً ولكنه يوسّع وبتبسط في وصف أقاليم عرفناها فأتانا بشعرٍ صادق النسيج.
    إن أكثر الذين حدثونا عن حميد سعيد وعن شاعريته لم ينظروا إلى فنه بل عبروا لنا عن تأثرهم بأغراضه. ينبئنا سعيد أنه يعنى بشعره، ولشعره لغة خاصة في الخلق والإبداع، وليس في الأغراض وفي المعاني فقط بل في التعابير التي تتغذى على حياتنا المعاصرة. ومن تلك القصائد: زهرة الكوجرات، خضراء، ذاكرة مشاكسة، من أيام الفقير إلى الله، رؤى بغداد، فرائض الأطلسي، ما يتذكره عن بستان عبد الله، ودعتنا الرياح المضيئة واستقبلتنا المراثي، نخلة الله، من حميد سعيد إلى سعدي يوسف، نجمةً بعد حين، رَقيمٌ مَوصلي، أطفال الماء، في انتظار فضة الصباح، البحر يفك أزرار قميصه، مآلات غجرية.
    أجد مهمة الشعراء شاقة جداً، ولهذا لم أتعجب حين قرأت ما وصلني من ديوان الشاعر حميد سعيد، نحن في حاجة إلى اقلام لا تراعي في المنام خليلاً، وأول واجباتها تقدير الشعراء الكبار، كالشاعر حميد سعيد مثلاً، فهو المبدع مبنى ومعنى، والمدافع عن الأدب ضد الدجالين المغرورين، فشعره متدفق، والأفكار الصور فيه تتوالد باستمرار، ومحروسة بوحدة عضوية واحدة، ومنها قصيدته (زهرة الكوجرات)، جاء فيها:
أقول لسيدتي.. زهرة الكوجرات..
أهذا الذي لا يفارقني.. أنتِ؟
كنّا أقمنا معاً في الثواني
وفيها كتبنا معلّقةَ الريحِ..
يوم أعدنا إلى مدن العشق..
ما ضاع منها.
    أما حبيبة الشاعر حميد سعيد العاصمة بغداد، ومعشوقته لا شيء سوى بغداد، يقول الشاعر في قصيدة (رؤى بغداد):
توقظه بغداد صباحاً..
يفتَحُ عينيهِ..
يَراها..
فَيُقَبلُ جبهتَها..
ويَشُمُ عَراَ جدائِلِها وقُرُنفُلَ ضحكتِها..
وأريجَ صِباها
سمَعُ وَقعَ خُطاها
في الروح.. من البابِ الشرقيِّ إلى الميدانْ
يا ما كانْ
    أما قصائد الشاعر في ديوان (حنين بابلي)، من اختيار وتقديم الشاعر شكر حاجم الصالحي، فقد احتوى على قصيدة للصالحي تحت عنوان (قالوا..... وقلتُ!!) مهداة للشاعر المغترب حميد سعيد، جاء فيها:
مالكَ يا ابن الحلة قالوا:
أطلقت صهيل عتابك
في مضمار الورقِ
وأقمت طويلاً مندهشاً
ما بين شراك الظنِّ
وبين بيوض القلقِ
وأشار قليلُ الحظِّ.
أنّ سهامك طاشت
فأصبت محبيّك بوابلها.
    من خلال القصيدة اعلاه أجد أن الشاعر شكر حاجم الصالحي قد أوفى عهده مع صديقه الأقرب إلى نفسه الشاعر حميد سعيد.
    وجماع الكلام أن الناقد النزيه كالصقيل الماهر يبدو جوهر السيف تحت أنمله شيئاً فشيئاً، أو كالمرشد الأمين يجذبك إلى متحف مليء بعرائس الفنون، ويدلك عليها واحدة واحدة، ويشرح لك معاني جمالها. وما كان النقد الأدبي قد؛ منذ كان إلا معواناً على رقي الفنون، وشاعر لا يسمع غير التقريظ لا يبدع، والماء إن لم تصفّقه الرياح ركد وأسن.
   لقد آمن طه حسين وقال: "إن إمارة الشعر ستكون في العراق بعد شوقي"، ويقول مارون عبود في كتابه (على المِحك): "لولا الشاعر لماتت الآلهة"، فالشعراء خالدون ومخلدون، لا نعني بالشاعر ذلك الصاف للكلمات، الغوّاص على درر الألفاظ، فمن يعجز عن التفكير والابداع يعتصم بالفصاحة الجوفاء، فالشاعر الجدير بالكتابة عنه يقول الشعر متى جاش صدره، وهذا إلا شاعر وجد نفسه. ومن خلال متابعتي لقصائد الشاعر حميد سعيد وجدته جدير بوصفه الشاعر الجياش للمشاعر والأحاسيس، فهو الشاعر الرقيق الذي عود أوتار شعره على أن يصفف ألفاظه ويصلحه ليخرج اللحن الذي يود.
    إن مخيلة الشاعر المبدع كالراديو يلتقط حديث عوالم الأثير، وقريحته راديوم يشع نوراً خالداً، فعبثاً يحاول قرع باب الفن إن لم يكن في عونه قلب متقد وعين ثاقبة، وإن فعل فهو كالنادبة تُبكيّ ولا تبكي.
    أما الشاعر والأديب حسين نهابة فقد اعطى الشاعر حميد سعيد حقه في كتابه النقدي (تمائم حميد سعيد)، فالكتاب دراسة نقدية وافية لقصائد الشاعر حميد سعيد. ومن خلال متابعتي للكتاب خرجت بنتيجة أن الشعر هو الحلم، حلم اليقظة الذي يتمتع بها شاعرنا حميد سعيد، ويمتلك عين ترى وقلب يشعر وإذن تسترق، وعقل يحلم، فهو الذي يصغي ليسمع صراخ نفسه من خلال قصائده، وقد وضحت من خلال قصائده قمة فن الشعر. حقاً أن في الكلام رقى وقد خلدته اسطر قصائده كلها، فشعره فيه فن وألفاظ جميلة، ومتعة الاطلاع على قصائده كمتعة مشاهدتي لشمس المغيب وألوانها، وقد خلدت قصائده عبقريته في اختيار الصور الفنية.

81
أحمد سالار أيقونة المسرح الكُردي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    عُرفَ عن الكاتب والباحث الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي اهتماماته الجادة في مجال تاريخ المسرح العراقي والعربي، وقد اتاح له تواجدهُ وانشغاله المبكر في الساحة الثقافية أن يَطلّع على خلفيات واساسيات حركة الفن المسرحي عراقياً وعربياً، بسبب تشوقه الدائم للاطلاع وأخذ المعلومة من مكامنها، ومحاولته الدائبة للإسهام في بحوثه ودراساته المتخصصة في مجال المسرح، الذي ما فتأ أن يظهر ملامحهُ منذُ بداياته في العراق.
    يتضح من كل ذلك أن الدكتور علي الربيعي لا يستكين إلى منجز بعينه، ولا لحالة تعبيرية محددة، بل تجتذبهُ مساحات التعبير المفتوحة والتي تبقى مسرحاً لرؤياه وتشوقاته، وهذا ما جعل من مسألة انفتاح مجال التوثيق نتيجة اهتماماته. غير أن البحث في ذلك يستلزم جهداً كبيراً وهو ما يصعب الامساك به في زمنٍ عسير، مربك، كهذا.
    صدر عن وزارة الثقافة والشباب في حكومة اقليم كوردستان عن مديرية الإعلام والطباعة والنشر في أربيل للدكتور علي محمد هادي الربيعي كتابه الموسوم (أحمد سالار أيقونة المسرح الكُردي)، الكتاب صادر بدعم من حكومة إقليم كوردستان، ذات طباعة راقية خالية من الأخطاء الإملائية والطباعية، وبواقع (400) صفحة من الحجم الوزيري، طبعة مزيدة بالصور والشهادات من قبل الفنانين والأدباء بحق الفنان أحمد سالار. وهو الكتاب السادس والعشرون من مؤلفات الربيعي.
    استهل الربيعي الكتاب بمقدمة وخمس فصول وملحق ثبت فيه اسماء المسرحيات التي قدمها الفنان سالار طوال مسيرته الفنية التي تجاوزت أكثر من خمسة عقون (1968-2020م)، وبواقع (102) مسرحية. وتخلل الكتاب مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي كانت معادلاً وثائقياً لا غنى عنها.
    والفنان أحمد سالار من مواليد عام 1947م، ولد في كنف أسرة ثقافية في مدينة السليمانية، الكثير من ابناء أسرته اكملوا التعليم الديني الذي كان شائعاً في المجتمع الكُردي شارك ادوار شخصياته بحذاقة عالية، طرق باب التأليف وأنجز كتابة (92) نصاً مسرحياً ونشر 92 كتابا عن المسرح وفن الدراما، وهو أحد المخرجين الذين تركوا لمساتهم الفنية على حركة المسرح الكُردي في اقليم كوردستان، أسس فرقة مسرحية في مدينة السليمانية (فرقة مسرح سالار) واختار الدخول في اكاديمية الفنون الجميلة، رغم تفوقه الدراسي الذي أهلّه لدخول الكليات المهمة، ومع أنه لم يكن يجيد اللغة العربية، إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة في العروض المسرحية التي كان يقدمها طلبة اكاديمية الفنون الجميلة التابعة لجامعة بغداد، ونذكر من اساتذته، د.إبراهيم الخطيب، الاستاذ إبراهيم جلال، الاستاذ أسعد عبدالرزاق، الاستاذ جعفر عمران السعدي، الاستاذ سامي عبدالحميد.
    وقد اشار الربيعي في الصفحات ص7/10 لشهادات المثقفين والفنانين التي كتبت بحق الفنان سالار، ويعتبر هذا الكتاب هو الثاني الذي صدر عن حياة وأعمال سالار الفنية، إذ صدر الكتاب الأول تحت عنوان (أحمد سالار... رائداً ومؤسساً للمسرح الاحتفالي الكردي المعاصر) للدكتور كمال غمبار الذي طبع في دار الثقافة والنشر الكردية عام 2015م.
    ذكر الربيعي في الفصل الأول السيرة الشخصية للفنان سالار ومراحل ترعرعه وتكوينه، أما الفصل الثاني فقد تضمن الأخبار والريبورتاجات الصحفية التي تناولت سيرة سالار ونشاطه التأليفي في فضاء النص المسرحي والتي تجاوزت ستة نصوص، كما وثق الربيعي نشاط سالار التأليفي المطبوع والذي تجاوز (26) نصاً و(97) مقال، وفي الفصل الثالث وثقّ الربيعي المقابلات صحفية التي اجريت مع الفنان سالار والتي نشرت في الدوريات باللغة العربية والتي تجاوزت (23) مقابلة صحفية. أما الفصل الرابع فقد دون الربيعي المقابلات النقدية التي تداولت منجز سالار المسرحي والتي كانت (32) نقد مسرحي، وقد نقل الدكتور الربيعي نص الناقد والمفكر ياسين النصير. والفصل الخامس والأخير تصدى فيه الربيعي إلى استعراض الدراسات البحثية التي غطت النشاط المسرحي للفنان سالار والتي تجاوزت (6) دراسات.
    احتوى الكتاب ملحقين، كرس المؤلف أولهما لنص الكلمة التي حملت عنوان "العلاقة العربية الكُردية من المنظور الثَّقافي"، التي ألقاها الفنان أحمد سالار في تجمع للحوار العربي الكردي أقيم في جمهورية مصر العربية عام 1998. والكلمة بقيت حبيسة الأدراج ولم تنشر، وآثر المؤلف نشرها في هذا الملحق حتى يطّلع عليها القراء، وقدم في الملحق الثاني ثبتاً شاملاً بـ"أسماء المسرحيات  التي قدمها أحمد سالار طوال مسيرته الفنية" منذ العام 1968م.
    والكتاب يعد جزءاً مهماً من تأريخ المسرح الكُردي، لأنه يستعرض سيرة الفنان أحمد سالار الذي وضع بصمته الواضحة في الفضاء الإبداعي الفني، وما قدمه من إسهامات وتأليفات نصية في مجالي التمثيل والإخراج، وما جاد فيه على طلبته في الدرس الأكاديمي من فيوضات علوم المسرح.

82

ونعم القول ما قال النبيل
شكر حاجم الصالحي
تفصح مدونة الصديق الباحث نبيل عبد الأمير الربيعي هذه دربة وقدرة استثنائية ومهارة في ملاحقة وتمحيص منجز الدكتور نصير علي الحسيني، عِبرَ صفحات مسهبة وتفصيلات موثقة، وأرى جهد الربيعي هذا يحتاج إلى وقفة منصفة، تؤكد مسعاه في رصد ما يراه ضرورة نافعة في عرض آراء الحسيني وأفكاره، على اتساعها وتعددها، واختلاف مناهجها وتباين مضامينها، فهل استطاع الباحث أن يقود القارئ إلى فك اشتباكات التنوع والاستمتاع بلذائذها واكتشافاتها المعرفية، لا سيما وأن معظم ما لاحقه الباحث في مدونته يتناول إرث العراقيين المشترك في حضارتهم البابلية المجيدة، التي أهملتها العقليات الحاكمة على مر دهورها وأمزجتها، وربما يسأل أحدهم عن أسباب اهتمام الربيعي بما حققه الحسيني من حضور ثقافي عبرَ ما نشره من مؤلفات جديرة بالقراءة، فأجد أن فعلته تحرص قبل كل شيء على توكيد منهجهُ القرائي/ الأخلاقي في قول ما تستحق هذه المنجزات من إشادة وتثمين وتعريف، ومن ثَمَ السعي لتعزيز منهج القراءة الجادة في زمنٍ تراجعت مستويات التلقي بفعل شيوع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي حاصرت الكتاب والقراء معاً، وتركت آثارها الملموسة على الاهتمام الجدي بمصادر الثقافة وشؤونها، وهنا لا بد من الغوص في موجبات الربيعي لبذل كل هذا الجهد والمضي في تسخير طاقاته ووقته لكي يمنحنا هذه المدوْنة بما فيها من خلاصات نادرة وكشوفات معبرة عن حرص ودقة ووفاء، وأزعم أن نبيل الربيعي أراد بجهده الكبير هذا أن يقول لمن يقرأ: علينا أن لا نتوقف في زوايا العطالة وانشغالنا بما هو عابر في حياتنا الراهنة، وما علينا إلا أن نستعيد عافيتنا بالقراءة المنظمة بتخصيص ما تستحق من وقتٍ ومحبّة، فليس لنا غير الاستزادة بالعلم والمعرفة وبهما نطارد شبح الظلام والتخلف والجهل، ونحقق حياتنا التي نتمنى، وهنا أود أن أشير إلى أن:
نصير الحسيني.. سيرة وشواهد في دروب الإبداع
أضافت لي شخصياً الكثير من المعرفة النوعية بتاريخ وتراث مدينتي العظيمة بابل، وجعلتني افتخر أن هذه المدينة ما زالت منجماً للأبداع ورحماً طاهراً وولوداً للأبناء النجباء، وزاد من حنقي أن قائد الجيش البابلي (أوكبارو) الذي ينحدر من أصل آشوري انضم إلى الجيش الأخميني الغازي، ولعب دوراً مهماً في التهيئة للغزو الأجنبي، بعد أن اصبح القائد الفعلي لجيش الغزاة الذي قام بدخول مدينة بابل واسقاط الحكم الكلداني فيها، عاد كورش إلى بلاده عقب معركة (أوبيس)، وهذا الفعل الشائن يذكرنا بأدلاء الخيانة الذين تعاونوا مع غزاة القرن العشرين ودمروا بلدنا الجميل.. وهكذا هو العراق الدساس ينتقل في الجينات، والشيء اللافت الذي أثار أعجابي ما اورده الربيعي من حوار شامل أجراه في مدونته هذه مع الدكتور المهندس نصير علي الحسيني، والذي ورد في الصفحات (127-180)، وفيه الكثير المفيد من أفكار وآراء الحسيني ومقترحاته المهمة..
وأخيراً
أجدد وافر الثناء للصديق الباحث نبيل عبد الأمير الربيعي، الذي لولاه لما أمتعنا بهذا الفيض المعرفي الذي غمرنا به الحسيني..
ومن هنا
أحرّض على قراءة هذا الجهد البحثي الأصيل
نصير الحسيني.. سيرة وشواهد في دروب الإبداع
وأدعو إلى التعريف به وإضاءة جوانبه المختلفة، ففي ذلك إسداء لتعميم الفائدة وتثميناً لائقاً لجهد المبدعين وكشوفاتهم المعرفية، ومن الله السداد والتوفيق...


83
نصير الحسيني سيرة وشواهد في دروب الإبداع
نبيل عبد الأمير الربيعي

صدر اليوم عن دار الفرات في بابل، كتابي الموسوم (نصير الحسيني.. سيرة وشواهد في دروب الابداع). الكتاب بواقع ٣٩٨ صفحة.
تضمن الكتاب على خمسة فصول ومقدمة وخاتمة، وتناول الفصل الأول، وهو بمثابة مدخل توضيحي لحياة الدكتور نصير الحسيني مُنذُ مرحلة الطفولة والشباب وتاريخ أسرة الحسيني، فضلاً عن دور والده ووالدته في نشأته منذُ الطفولة على المحبة والود والعطف على أخوته وعلى أقرانه، فضلاً عن تعليمه لعشق المطالعة ودروسه المدرسية الأولية والثانوية. وكرسنا الفصل الثاني باتجاه تكوين مرحلته في الدراسة الجامعية في الاتحاد السوفياتي وحصوله على شهادة البكالوريوس والماجستير بدرجة شرف في مجال هندسة العمارة. وتطرقنا في الفصل الثالث إلى إكمال دراسته العلياة (الدكتوراه بامتياز) والعودة إلى مدينة الحلة والعمل في مجال تخصصه، ومنجزاته في التأليف والتحقيق، والسُمات التي تميز بها الدكتور نصير الحسيني وأهم أعماله، والشهادات التقديرية والتكريم التي حصل عليها ودروع التكريم، فضلاً عن رأي الكُتّاب والأدباء في ملفات الدكتور الحسيني.
وسعينا إلى تسليط الضوء في الفصل الرابع على البحث في جدلية العمارة من خلال طرح بعض الأسئلة المهمة التي تخص جدلية العمارة الحديثة على د. نصير الحسيني. وتناول الفصل الخامس تسليط الضوء على مؤلفات نصير الحسيني، منها: مقالات في العمارة، العمارة في مدينة الحلة، العمارة ما بعد العولم.. وتداعيات الخطاب المعماري في المدينة العراقية المعاصرة، التطور في الفكر المعماري وأسس التصميم، والفنادق وأسس تصميمها، المعبد في وادي الرافدين، بوابات بابل، صور ناطقة، سلسال الكلام، والشاعر المفقود (رواية). وارتئينا أن نجمع تلك التفصيلات ضمن فقرة الخاتمة، وهي بمثابة الخلاصة بما سبق إضاءته في مسيرة الحسيني التعليمية وخبراته في مجال هندسة العمارة وفي مجال الكتابة والتأليف.
فمنجزات الدكتور الحسيني تشبه النبتة غير المنفصلة عن أرضية التراكمات والخبرات في مجال عمله وتخصصهُ، وقد توجَّها الحسيني من خلال جهوده المضنية في مسيرته واخلاصه في عمله وفي مجال التأليف وكتابة المقالات وحضور المنتديات الأدبية والثقافية داخل العراق وخارجه. وقد اعتمدت في هذه الدراسة على جملة من الكتب والمصادر وبعض مؤلفات الدكتور الحسيني، وهي التي عززت هذا الكتاب وكانت في غاية الأهمية، وكانت مساهمة الحسيني في لقاءاتي معه والاستفسار عن كل شاردة وواردة في غاية الوضوح والتعاون ليخرج هذا المنجز الذي يوثق سيرة حياة أحد اعلام مدينة الحلة المعروفين في مجال الكتابة والبحث والدراسة والتأليف.


84
أحمد الناجي وبواكير النهضة النسوية في العراق
نبيل عبد الأمير الربيعي
     كانت أول بواكير للنهضة النسوية العربية قد بدأت في خضم بعض البوادر الفردية التي ظهرت في مصر مطلع القرن العشرين وبشكل تلقائي، من خلال المفكر ونصير المرأة قاسم أمين، ومن ثم بعض النساء العربيات المتعلمات التي كان نضالهن أول الأمر اجتماعياً يتعلق بالتعليم والعمل، وكانت هناك صور داعمة لرجال امتلكوا التفكير الواعي بالمرأة ونصرتها، واعين بأهميتها ومكانتها في المجتمع وبروح تنويرية وإصلاحية، ومن هؤلاء الرجال وقاسم أمين والشيخ محمد عبدة ومرقص فهمي والزهاوي وحسين الرحال ومصطفى علي ومعروف الرصافي، وهكذا بزغ التفكير النسوي العربي وصار الوعي به مسلكاً مهماً لارتياد مزيد من مظاهر التقدم الفعلية وبخطوات عملية وواقعية وفي مختلف مجالات الحياة العربية.
    صدر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق كتاب للباحث والكاتب أحمد الناجي تحت عنوان (بواكير النهضة الفكرية في العراق)، الكتاب بواقع (319) صفحة من الحجم المتوسط، ذات الطباعة الراقية دون أخطاء إملائية أو طباعية وبغلاف جميل، حيث سلط الناجي من خلال الكتاب الضوء على بواكير النهضة النسوية في مصر والعراق. كُسِرَ الكتاب بمقدمة وخاتمة وسيرة ذاتية وثمان فصول، حيث سلط الناجي في الفصل الأول من الكتاب على أهمية دور المرأة في فكر رواد النهضة العربية، وفي الفصل الثاني مكانة المرأة العراقية في العهد العثماني، والفصل الثالث خصصه الناجي لدور المرأة العراقية في عهدي الاحتلال والانتداب البريطاني، وفي الفصل الرابع سلط الضوء على جدلية السفور والحجاب، أما في الفصل الخامس فأخذ الناجي نهوض المرأة العراقية في عقد الثلاثينيات في العراق، وفي الفصل السادس مكانة المرأة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية، وخصص الفصل السابع لنضال المرأة العراقية في عقد الخمسينيات، أما الفصل الثامن فسلط الضوء على تطورات حقوق المرأة السياسية.
   يذكر الكاتب أحمد الناجي في كتابه  عن دور المفكر قاسم أمين الذي كان يدعو في مطلع القرن التاسع عشر إلى نهضة المرأة وتحررها حيث قال: (نحن لا نكتب طمعاً في أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس... وإنما نكتب لأهل العلم، وعلى الخصوص للناشئة الحديثة، التي هي مستودع أمانينا في المستقبل، فهي التي بما اكتسبته من التربية الصحيحة، يمكن أن تحل مسألة المرأة المكان الذي تحله من العناية والبحث). فالصراع حول تعلم المرأة في مصر بين قاسم أمين ورجال الدين قد أثار حفيظة رجال الدين في العراق وصراعهم حول تحرر المرأة ومناداة كل من الرصافي والزهاوي ودعوتهما من خلال الشعر والمقالات إلى منح المرأة حقوقها.
   فيذكر الكاتب أحمد الناجي في كتابه ص52 حول أول مدرسة افتتحت رسمياً في العراق قائلاً: (حينما جرى سنة 1896م افتتاح أول مدرسة رسمية للبنات في ولاية الموصل في محلة (جامع خزام) وهي مدرسة رشدية تدرس فيها بالإضافة إلى المواد الدراسية بعض الدروس التي تخص البنات).
    ويؤكد الكاتب أن لدور جريدة (صدى بابل) التي صدرت في آب 1921م حسب كان الدور في نشر ابيات لشاعر لم يذكر اسمه، كما ذكر في ص64 مساهمة الشاعر جميل صدقي الزهاوي بمقال حول الرجل وما باله بأنه ناقص بدون المرأة، ويقول الناجي في ص115 "أن منتدى التهذيب الذي أسس عام 1922م ومن خلال انشطته في تلك الأثناء كانت بمثابة إلقاء حجر في بحيرة الثقافة الراكدة، التي وجهت الأنظار صوب عددٍ من قضايا المرأة العراقية كان يصعب تداولها في امكنة أخرى". لا شك أن منتدى التهذيب كان له الدور في تأسيس الفكر النسوي الذي أخترق ترسانة الفكر الذكوري والنظرة الموضوعية للمرأة وهي تواجه التحديات محاولة اجتياز القلاع متحصنة.
   وفي ص140 من الكتاب يؤكد الكاتب أحمد الناجي على "أن البرقع والنقاب ليسا من الإسلام" معتمداً على ما ورد في مجلة المنار، فقد ذهبوا إلى أن الوجه والكفين ليسا بعورة، ويجوز للمرأة كشفهما؛ لأن الوجه واليدين يحتاج إلى كشفهما عند المعاملة فكان في كشفهما ضرورة لا تتفق لغيرهما من البدن فأبيح كشفهما، وبقي ما عداهما على المنع إلا القدم ففيه روايتان؛ فقيل هما ليسا من العورة أيضاً كالوجه واليدين لضرورة الخدمة والحاجة إلى كشفهما في الخدمة، وكان الحجاب لسنوات عديدة مشهداً نادراً في المناطق الحضرية في معظم أنحاء المنطقة.       
    ويذكر الناجي في ص186 أن "في بواكير السفور أول سيدة خلعت الحجاب السيدة ماجدة الحيدري عام 1933م زوجة الأستاذ رؤوف الجادرجي، فيما أشار آخر إلى ذلك السيدة عقيلة السياسي المعروف حكمت سليمان، ولكن حنا بطاطو ذكر بأن السيدة أمينة الرحال هي أول مرأة عراقية تخلت عن الحجاب". إلا أن الناجي أكد في ص188 على الصحف المعارضة في تلك الحقبة لظاهرة السفور. وقد شاركت أمينة الرحال في أول مؤتمر نسائي منعقد في دمشق للفترة من 3 إلى 6 تموز 1930.
    كما سلط الناجي في ص127 الدور الريادي للصحافة فالدعوة للتحرر وخاصة (مجلة ليلى) الرائدة في العراق، وهي أول مجلة نسائية تنشر في العراق في عام 1923، وكانت تتناول مسائل جديدة آنذاك ومفيدة ذات صلة بالعلوم، والفن، والأدب، وعلم الاجتماع، وخاصة بتربية الأطفال وتعليم الفتيات، وصحة الأسرة، وغيرها من المسائل المتعلقة بالاقتصاد المنزلي، كما أوردت أخبارا عن الثقافة، والتعليم، وشؤون الأسرة، واهتمت المجلة أيضا بالبحوث الطبية، والشعر، ونشرت أعمال الشعراء العراقيين المعروفين كالرصافي والزهاوي. سجل إصدار ليلى بدايات الصحافة النسائية في العراق ويُعزى إليها الفضل لكونها من العوامل المهمة في ظهور الحركة النسائية العربية. نُشرت المجلة تحت شعار "على طريق نهضة المرأة العراقية"، وقادت حملة من أجل تحرير المرأة. واشتملت افتتاحيتها على مقالات مثل "بوتقة الحق" و"أخبار الضرائب" و"ركن ربات البيوت" و"الأخبار الغريبة"، و"حلقات من أوتار سحرية" وسِواها. ومن أهم المقالات التي نشرتها المجلة كانت افتتاحية العدد 6 الصادر في 15 أيار 1924، والموجهة إلى الجمعية التأسيسية في العراق، تطالبها بمنح المرأة حقوقها. وقد نُشرت ليلى في 20 عددا فقط. وتضمنت في عددها الأخير، بتاريخ 15 آب 1925، مقالة حزينة شرحت للقراء الوضع المالي الصعب للمجلة. وبعد ذلك بوقت قصير، غادرت صاحبة المجلة بولينا حسون العراق وتوقفت المجلة عن الصدور.
    ولا ننسى دور المرأة ومشاركتها في اغلب التظاهرات المطالبة بتحسين الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمطالبة بحقوقها، فساهمت المرأة العراقية في تظاهرات عام 1946 وعام 1948 ضد معاهدة بورتسموث، وتظاهرات عام 1952م وتظاهرات عام 1956م، ويؤكد الناجي في كتابه ما للمرأة من دور في تأسيس رابطة المرأة العراقية يوم 10-3-1952 في بغداد وتحت اسم رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية وحددت اهدافها: النضال من اجل السلم والتحرر الوطني والديمقراطية. النضال من اجل حقوق المرأة ومساواتها. النضال من اجل حماية الطفولة وسعادتها.   
    كما سلط الناجي الضوء في ص250 من كتابه على نضال المرأة العراقية في عقد الخمسينيات "في ظل الزخم المتصاعد للحركة الوطنية، شكلت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (اللجنة النسائية) حيث ضمن في عضويتها كل من: نزيهة الدليمي، ثمينة ناجي يوسف، بشرى عبد الجليل برتو، مادلين مائير عزره، زكية شاكر الحسني، ناهدة العبايجي. وعلى أثر تطور عمل هذه اللجنة جرى تكليف نزيهة الدليمي للتداول مع عفيفة رؤوف رئيسة جمعية الرابطة النسائية لإعادة نشاطها. ويختتم الناجي كتابه بدور ثورة 14 تموز 1958 في منح المرأة حقوقها. وقد أثار نشر خبر مشروعي القانونين موجة واسعة من الآراء ووجهات النظر المتناقضة حول قوانين الأحوال الشخصية، حيث لا تزال الذاكرة العراقية، وخصوصا القانونية والسياسية، طريّة وتحتفظ بسجالات وصراعات حادّة، لا سيّما ما تركه القانون رقم 188 لعام 1959 من إشكالات، لا تزال ذيولها مستمرة حتى الآن، وهي تنام وتستيقظ بين الحين والآخر.
     كما ذكر في نهاية الكتاب المعارك الفكرية والفقهية والسياسية التي دارت حول مضمون القانون رقم 188، حيث اعتبره البعض خطوة متقدمة في حينها بشأن مقاربة حقوق المرأة، أما الفريق الآخر فقد اعتبره خروجا على الشريعة الإسلامية، حتى يمكن القول إنه واحد من أسباب الإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم عام 1963.
    وظلّت قضية حقوق المرأة والموقف من القانون رقم 188 لعام 1959 نقطة خلاف جوهرية وإشكالية تكاد تكون مستعصية بين الفاعليات والأنشطة السياسية والثقافية منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، وبعد انقلاب فشباط 1963 صدر القانون رقم 11 الذي ألغى الفقرة الخاصة بسريان أحكام القانون بخصوص المواريث، وأجريت عليه تعديلات لاحقة.
    وأخيراً اعتبر كتاب الناجي (بواكير النهضة النسوية في العراق) هو دراسة وافية لنهضة المرأة العربية والعراقية والظروف السياسية والصحفية التي ساهمت في نهضتها، واليوم قد تراجع دور ومكانة المرأة العراقية بسبب الظروف السياسية التي تمر بها. أشد على يد الكاتب والباحث لهذه الدراسة المهمة التي ظهرت في وقت نحن بأمسّ الحاجة لها بسبب تردي الأوضاع على جميع المجالات بعد عام 2003م. لذلك يؤكد الناجي قائلاً: "يؤسفنا أن نقف اليوم، والدهشة تعلو وجوهنا، ونحن نهجس مواضع أقدامنا، وهي تقطع العتبات الأولى من العقد الثالث في الألفية الثالثة، أمام التحديات نفسها التي كانت تشغل فكر رواد النهضة العربية، وعيوننا المملوءة بالأمل والثقة، تلتفت مضطرة، تعود بنا إلى الوراء نحو أواخر القرن التاسع عشر، لأجل عرض أفكار أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي، واستدعاء كتابات المفكر قاسم أمين، وتنظر نحو مطالع القرن العشرين".
   والكاتب أحمد الناجي من مواليد مدينة الحلة 1955م، وعضو الاتحاد العام لأدباء وكتاب العراق، وعضو اتحاد المؤرخين العرب، نشر العديد من البحوث والدراسات والمقالات في الصحف والمجلات العراقية والعربية، وصدر له أكثر من (11) مؤلف في مجال الاجتماع والتاريخ والسيرة والدراسة.
 
الحلة – 21/2/2022
 

85
الحياة الثقيلة التي ادركت الروائي سلام إبراهيم منتصف العمر
نبيل عبد الأمير الربيعي
    الحوار صنعة متخيلة، والكلام اليومي يخاطب من الحيز الواقعي، فقصاصو الواقعية وقفوا أمام موضوعية الحوار طويلاً، وذهبوا إلى أن الواقعية في الحوار لن تتحقق إلا باللهجة (العامية والفصحى)، ملائمة للمستوى العقلي والفكري والثقافي والطبقي للشخصية القصصية معاً، لهذا أجد روايات سلام إبراهيم تنتمي للرواية الواقعية.
    تستهويني قراءة روايات سلام إبراهيم لأنها لا تكتفي بحياة كاتبها، بل تتسع، لضرورات تتعلق بما يرويه، إلى طبيعة حياته ومجايليه ممن كان له تأثير في ثقافته تلك الحقبة، بهذا تُطلعني هذه الروايات على مشهد واسع لتلك الأيام الخوالي، ولا تقف عند حياة كاتبها وحده. ويلجأ سلام لاتخاذ من سيرته الذاتية رواية، معبراً من خلالها لتفريغ ما هو محظور في الشخصيات الروائية وفضائها، وقد نحا الروائي نحو إدراج سيرته الذاتية في اشكال نصوص، اتخذ لكل نص عنواناً خاصاً به، وغالباً ما يستغرق سلام برواياته من خلال سيرته الذاتية، الولادة، الطفولة، المراهقة، الشيخوخة، والتي جعلت منهُ روائياً واقعياً مبدعاً، وقد وصف مثل هذه الروايات ليتون ستراشي (بأنها أدق فنون الكتابة).
   في زيارتي الأخيرة لمؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع أهداني الصديق حسين نهابة رواية (حياة ثقيلة) للروائي الصديق سلام إبراهيم، وقد علمنا الروائي إبراهيم برواياته الواقعية التي تحكي سيرته الذاتية من خلال فن الكتابة والرواية وهي: (رؤيا اليقين، رؤيا الغائب، سرير الرمل، الأرسي، الحياة لحظة، في باطن الجحيم، إعدام رسام، طفلان ضائعان، كل شيء ضدي).
    رواية (حياة ثقيلة) تسرد شخصية الروائي المركزية وما كان يقوم به من خلال تجواله في مدينته الديوانية، وحياته الجامعية في بغداد، يبدأ الرواية من خلال سقوط بصره من خلف النافذة، فيستهل في القسم الأول من روايته والمعنون (لبناء عالم جديد) في ص5 بالقول: "أجلسُ على حافةِ الستين. خلفَ النافذة، الليل أبيض. خلف النافذة تهبط الأضواء وندف الثلج من سماء بيضاء. تهبط بروية وهدوء وكأنها تنسج مأساة وحدتي، أسترخي على كرسيّ الهزاز وسط الصالة أمام نوافذها الزجاجية الثلاث العالية المشرفة على امتداد الشوارع البيضاء ونفسي منقبضة فرط البياض، يقال أن المحتضر يرى قبيل رحيله، في اللحظات الأخيرة شلالاً من الضوءِ الأبيض الذي تعشي له العيون. هذا ما أفضى به من توقف عن الحياة للحظات وعاد بتدخلٍ طبي. الشوارع خالية. زوجتي تنام في الغرفة الأخرى. صرت قليل الكلام بعد أن كنتُ لا أملُ منه". محاصرا ببقاياهم/ صورهم: "أحملق في جدران الصالة التي امتلأت بصورهم. حشدٌ من الأحباب. حشدٌ من الوجوه المنيرة الضاحكة. حشدٌ غادر الواحد تلو الآخر هناك بعيداً في الرحم الدامي". وهو يقول: "كنت أظن قبل سقوط الدكتاتور بأن همومي كلها ستزول بزواله فأتمكن من زيارة الأهل والأحباب، أرى أمكنتي الأولى وأشم هواء وتراب مدينتي".
    يتذكر بلقطات فلم سينمائي بطئ لحياته في الديوانية والعاصمة بغداد، ويعبّر عن حالة اكتئاب شديدة تقلب استجابة الراوي فيه المسلمات العامة الثابتة في السلوك البشري، برغم أن الأدب يقلب هذه المسلمات عادة. ويغلق روايته بموت صديقه حسين، فكانت عبارة عن ذكريات الشباب التي انطفأت ولم تعد، وهكذا تصبح الرغبات في شيخوخة العمر والذكريات، فمعاناته من الوحدة والاكتئاب وأزمة الستين من العمر يمكن أن يعاني منها أي شخص، فالعمر يجري مثل النهر لا يقف لحظة، واصبح مسافراً تستهديه دهشة العالم. كأن العالم يتجمع من حوله مثل عجينة تستحيل في كل لحظة إلى هيئة أخرى.
    الروائي في روايته (حياة ثيقلة) يعبر عن ممارسته لطقوس حلمه وأشواقه مع ذاته بصورة سرّية، في المكان المقابل لحيهم السكني القديم، ففي ص6 قال: "كنت أمارس طقوس أشواقي السرية دون بوح، فكنت أتخيلني وأنا أرمي نفسي في حوض السباحة كأنني أقفز إلى نهر الديوانية وأغط فيه، فأرى وأشم وألمس بقلبي وأنا في غمرة الماء بيوت (حي رفعت) وحدائق المعسكر في الجهة المقابلة ناسياً ما حوليّ من نساءٍ مثل جنيات القصص بلباس السباحة يعومّنَ ويقفزن ويخرجن من حوض الماء الناصع الزرقة". ومن هنا يبدأ باستعادة وعرض شريط ذكرياته مع (أحمد) الذي دعانا إلى مرافقته في مهمة زيارته في بغداد. لقد تعرّف عليه ايام كانا طالبين في إعدادية زراعة الديوانية. كان أحمد أكبر منه بأربع سنوات بسبب تأخيره في مرحلتي الدراسة الابتدائية والمتوسطة.
    وفي ص18 من الرواية قال: "خرجتُ مهزوزاً من الحياةِ نفسها،  فبينما كنتُ قبل الاعتقالِ أقاومُ المحيط ومؤامرات الرجال الذين يحاولونَ اغتصابي متباهياً في نجاحي وصلابتي، وجدتُ أنّ في استطاعة رجال الأمن فعل كل شيء في جسدي الموثوق في غرفهم الموحشة والمخيفة". فيسترجع الروائي سلام أفكاره ومشاعره، يستعرض اسماء اصدقاءه سعد وثامر أمين وأخيه الشهيد كفاح وأحد وحسين وهاشم، يستعرض اللقاءات والتجوال بين مدينته والعاصمة بغداد بمسحة شعرية محفزة، كنت أبصر الاعجاب من خلال سماته وابتسامته، وهو الراوي وأحد شخصيات الرواية الرئيسية، أصبح أسير الليل يتتبع عتماته في الرواية، وفي حافات الأمكنة، لقد أصبح الليل هو الزمان الوحيد، ولم يعد غيره، إلا زماناً تابعاً له. الليل اضفى على حكاياته جواً ساحراً، يحلم بالهروب مع صديقه أحمد من خلال القطار المار بمدينته. الليل كان صديقه في لقاءات الأصدقاء والهروب والاختباء، فكان الليل ماكراً وداهية.
    يذكر في صفحات الرواية ص36/ 38 قائلاً: "كنّا في حالةِ نشوةٍ نودُ الطيرانَ إلى مكانٍ غير مدينتنا لمعانقةِ فقراءِ الأرض المجهولين، مفعمينَ بروح الأمميةِ التي رضعناها من الكتب الماركسية وحكايات المناضلين الأكبر سناً الذين يقصونها علينا في المقاهي. وقتها لم نكن قد سافرنا خارج حدود "الديوانية". وفي لحظة جنون قال بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ: لنشرد بالقطار! صرختُ بنشوة: هيا بنا.. هيا بنا!. كان قطار حمولة يقترب ببطء قادماً من بغداد في طريقة إلى البصرة، توقف على بعد أمتار من وقفتنا، فهتف بصوت عالٍ: هيا إلى الحرية!. وصعدنا عربةً من عرباته المكشوفة. لم نهدأ، نصرخ ونصرخ... لم نكف عن الدوران في مساحة حوض العربة، والصراخ في نشوة: (لبناء عالم جديد ولقبر مشعلي الحروب   في هدى أكتوبر العظيم سائراً موكب الشعوب) كنا نصرخ بحماس ونشوة.. نصرخ بالكلمات الحالمة فيضيع صراخنا في ضجة القطار والظلام والبرية الممتدة على يميننا حتى الحدود السعودية، نقطع النشيد ونطلق أصوات مبهمة، نرقص، ندور، نهتف: المجد للطبقة العاملة.. المجد للفلاحين! تدمع عيوننا، نكاد نبكي حماسةً، ونروح نغني أغنية أممية أخرى: أنا.. أنا يا سيدي أسودٌ كالليلِ.. كأعماقِ أفريقيا، كأعماقِ أفريقيا.. أنا.. أنا.. جندي أحمل في يميني سفر جيفارا وفي يساري أقمار گاگارين. أقمار گاگارين. لا لالا... لالي لالي لالي. 
   كما يسلط الضوء الروائي عن علاقته بوالده، ومشاركته في زيارة ورشته في شركة سكابانيوس، فيتذكر عندما يناديه والده فجراً قائلاٌ: (بويه إگعد.. وقتي ضيق!. صوتهُ يشي بحنانٍ قديمٍ غريزي، بدا قادماً من طفولتي البعيدة. كانت قسماته قوية نشطة رغم شربه الليلي. البيت ساكن. أجبت بخفوت: صار بويه!. وأسدلتُ أجفاني سامعاً خطواته الحذرة المبتعدة وهو يتجه نحو المطبخ ليعد الفطور، كان ذلك في سحر يومٍ من خريفِ 1974 وقتها كنتُ في سنتي الجامعيةِ الأخيرةِ، أعود من بغداد إلى المدينة في عطلة نهاية الأسبوع وفي العطل الرسمية. شدّني البعد والتأمل إليها، فلأول مرة أفارق الديوانية والمحلة والعائلة، فمع بدءَ خفوتِ تمردي الصاخب على كل شيء، شعرتُ بالآسف لبعدي عن أقرب الناس إليّ، لا ليس أقرب بل طلعتُ من جسديهما فرعاً، عزوتُ ذلك إلى ظروف الحياة، عنفها، فقرها، طبيعة ونمط وتقاليد البيئة العراقية، عدد الأبناء غير المعقول، فنحن عشرة؛ ست بنات وأربعة أولاد كنا نتكدس شتاءً في غرفةٍ من حجرٍ وننتشر صيفاً في ساحةِ البيتِ الفسيحةِ، لا وقتَ لديهما للكلامِ معنا، فهو في الدكانِ يعمل من الصباحِ حتى المساء، وهي في شؤون العشرة الصاخبين في ضيقِ المكان، فعدتُ أقضي وقتاً أطول مع أمي في البيتِ. والبارحةَ طلبتُ من أبي مصاحبته إلى مكانِ عمله في ورشةِ نجارة شركة "سكابانيوس اليونانية" التي كانت تقوم بحفر قنوات بزلٍ لاستصلاح الأراضي الزراعية من الحلة وحتى الناصرية، وكان مقرها في مدخل المدينةِ الشمالي على الطريق القديم الذاهب نحو العاصمة. نهضتُ وأديتُ طقوسَ الصباحِ. تناولنا فطورنا. بيض مسلوق، وجبن، وخبز حار جلبته من فرن "حاج جاسم" الكائن عند مدخلِ شارعنا. تخطينا عتبةَ الدارِ، فرشقتنا نسمات خفيفة. لم يطّر الفجر بعد. سحبنا دراجتينا الهوائيتين إلى حافةِ الرصيف، ركبناها وسرنا من حي العصري إلى شارع سينما الثورة في صوب المدينة الصغير، مخترقين مركز المدينة. كان الصمت والفضة وحفيف أقدامنا وهي تدوس على دواسةِ الدراجةِ الهوائية تجعلني أطوف في هوام اللحظة حالماً، شاعراً بغبطةٍ لم يزل طعمها غضاً في روحي وجسدي وأنا أكتب الآن. كنا نخترق الأمكنة بذكرياتها. مررنا على محّله القديم خلف بناية البريد حيث قضيتُ طفولتي في ذلكَ الشارعِ المكتظِ بالباعةِ والحدادين والتنورچية وبائعي الخمور، والحلاقين. أحسستُ، ونحن نخوض في فضة الفجر على ترابِ قصتنا، بأننا نصل إلى أقصى السعادة بهذه المصاحبة وكأننا ننبثق من جديد كعلاقة مع انبثاق الفجر، في يومٍ بدا غير عادي، خضنا بصمتٍ مغمورين بمزيج الفضة وبقايا العتمة، كنت مخدراً برائحتهِ التي رسختْ في شمّي منذ الطفولة، مزيج فريد من نشارة الخشب والعرق العراقي الصرف. وحمدتُ ربيّ على يقظتي الباكرة بالتفكير بجوهر علاقة الابن بالأب، كانت تلك المسافة من أسعد المسافات التي قطعتها بصحبته كل عمري. كانت مرةً وحيدةَ، لم نكررها، فالحياة أخذتنا إلى مناحٍ لا مجالَ فيها للتأمل، فقد تحولتْ إلى مجردِ ركضٍ لاهثٍ للحفاظ على الكينونة الفيزيقية فقط وكأننا في غابةٍ. ركنّا دراجتينا على رصيف شارع فرعي يجاور قاعة سينما الثورة. وصعدنا حافلة الشركة. قدّمني أبي بفخرٍ إلى زملائه العمال: هذا أكبر أبنائي.. طالب بالجامعة).
    كما يروي سلام في روايته ساعات اعتقاله مع ثلة من اصدقائه في بغداد، عندما يقبض عليه مع صديقه هاشم، وهم يحتسون الخمرة في أحد بارات بغداد. فيضع سلام في روايته وسارد قصته في العاصمة بغداد وزياراته المتكررة لها من خلال اللقاء بصديقيه أحمد وحسين حتى ينقلنا أخيراً لتحول أحمد من مناضل يحلم بوطن حر وشعب سعيد، إلى رجل خائف مع زوجته فيوقعا على المادة (200) ويهربا للسكن في بغداد وتحول افكارهما من اليسار إلى اليمن، أصبح إسلامياً ملتحياً يعتاش على بيع كتبه من خلال دكانه المستقطع مساحته من داره في حي الشعب.
    يزور الروائي بغداد متأملاً مع جو بارات بغداد وصديقه حسين اجوائها وزحمتها، فسارد الرواية في بهجته وطمأنينته وتماهيه، فتعتريه نشوة غامضة بسحر الليل والطبيعة معاً، مسترخياً بمقعده، متذكراً في أول لقاء بصديقه حسين، عندما تعرف عليه في ورشة والده للنجارة في مقر شركة سكابانيوس اليونانية في مدينة الديوانية...... يقول في أحد صفحات روايته (حياة ثقيلة): (وقبل أن ندخلها أقبلَ شابٌ جميلٌ نحونا مبتسماً، فتوقفَ والدي ضاحكاً وقال بصوت عالٍ: هذا "حسين" من جماعتكم!.
    "والجماعة" شفرة سرية يفهمها كل يساري عراقي، وهي أيضا مفتاح يجعلك تثق بالمشارِ إليه، فتبوحَ برأيك دون خوفٍ، والبوح وقتها يتعلق بالموقف من سلطة البعث تحديداً!. ضجّا معاً في ضحكٍ صاخبٍ على تعليقاتهما حول مواقف وأشياء مبهمة بالنسبة لي، تعليقات بلغة العمال الصريحة الواضحة والتي تضيع لشدة سطوعها عليّ أنا المدله بالخط والجمل الفلسفية والقيم العليا التي كنت وقتها أجدها هي الحقيقة قريبة ودانية لكن لا يراها البشر وهذا ما ضيّع عليَّ بهجة ذلك الضحك العاصف الخاطف الذي وجدته آنذاك ساذجاً وأنا أتأمل "حسين" بوجههِ المدور المصبوب صباً بدقة خالقٍ تأنى طويلاً في رسمِ قسماتهِ المتناغمةِ. عينان واسعتان عميقتان تسبر غورك، عينان فيهما من نظرة الصقر الشدة، ومن عين العاشق الرقة، أنيق الملبس رغمَ أنه ذاهبٌ إلى العملِ، كما علّق أبي وهو يعرفني عليه وسط صخب تعليقاتهم وضحكهم، بلا شوارب، أطلق شعره حتى غطى أذنيه، نحيفاً رشيقا، متوسط القامة، فبدا وكأنه لعبةً جميلةً في ذلك الفجرِ الذي سيعصف في حياتي:  أي فجر ذاك.. إلى أين أفضى بنا وأنا في توالي العمر!.. أي فجر صاخب بضحكة أبي وضحكة "حسين" وذهولي!).
    تعود ذاكرة سلام إبراهيم بما يجري من حديث حول اختطاف ابنة صديقه حسين الشابة فيروز. ثم لزياته مع حسين مشرحة بغداد، فينقلك الروائي سلام من خلال حروف كلماته إلى تلك الأجواء المرعبة، وأجواء اغتيال صديقه أحمد داخل مكتبته، وأجواء موت صديقه حسين في حديقة داره، ما يعني أنه يريك أجواء الرعب ووجه حبيبته، ومعاناة والده ساعات اعتقاله من قبل رجال الأمن له في الديوانية ومرة أخرى في العاصمة بغداد.
    يستعين الروائي سلام في روايته بأسماء اصدقائه وزوجاتهم الصريحة، وخيانة زوجة صديقه سعد وزواجها من ضابط أمن الديوانية والسكن في بغداد، فمن يعرف عوائل المدينة يعرف من يقصد الروائي، فرواياته تصنف ضمن الروايات الواقعية.
   الروائي سلام ثري في سحره، وما يروي في اعماق ما تحت الحروف، فروايته ملأى بالاقتتال والصراع، تزحف على الاصقاع عتمة تمتد وتتسع وتنبسط كأنها الوسادة فوق عالمنا. يتسلى الروائي بعواطفنا فأجد نفسي اتعاطف مع ابطال رواياته وأخاف عليهم كخوفي على ابنائي، فهو يتجول معهم ويسرق للهاربين من العسكرية منهم دفاتر الخدمة العسكرية للمؤجلين من دائرة تجنيد الديوانية، كما يسرق لهم الهويات والمستمسكان كونهم مطلوبين للسلطات بدواعي فكرهم اليساري.
    كتب الروائي سلام إبراهيم عن جماليات المكان، يستعرض المكان الذي ينجذب نحوه والاستجابة إلى جماليات البيت، والحجرات السرية، والأدراج والصناديق، استرجع الزمن الذي كتب عنه سلام كشريط سينمائي بطيء، فأشعر به واعايشه، اتعايش مع اصدقائه وأماكنهم، صوراً متتالية باستدعاء حر وابتداع واقعي باهر وانسجام تم بعقلانية، استرجع رائحة الأماكن وجو حجرته في بيتهم القديم فيعيد لي الزمن الذي عاشه الروائي، وصور عائلته المعلقة على جدار داره في كوبنهاكن.
    من خلال روايته يسرد لنا ساعات الاعتقال عندما يفترش أرض الزنزانة في أمن بغداد بملابسه وحذائه وهو معصوب العينين ومشدود اليدين، دون فراش ينام عليه، يتابع كامرات المراقبة في ممرات المعتقل، وهو يهمس في اذن صديقه المعتقل ليتفقا على جواب لأسئلة رجال التحقيق، الأرض تمتد كما لو كان جسد المعتقل راقداً بطوله الآن، المكان يرهب زائريه، ومعادياً وخصماً، كل ما يحيط به يبعث على الاستيحاش والفرار من المكان.
    حتى هروبه كمقاتل في الجبل يصورها الروائي من خلال كلماته بعين سينمائية، يصف خلالها الأماكن والاشخاص والطرق والهروب والركض مع زوجته والاختفاء، الشك واليقين، الخوف والرهبة، العناد والمحبة. يتميز اسلوب الروائي بتراكم المفردات، وخصوصية تراكيبه وبناء جملهُ، وهندسة الأسلوب، ورشاقة العبارة، وتتجلى خصائصه في بنائه اللغوي ونظم تراكيبه وتأكيده للمعنى الواحد في صياغات لغوية مختلفة. فيكتب بلغة تتطلبها قوانين السرد والحوار المنطوق الذي يجري بين شخصيات الرواية، والحوار الصامت الذي يتداعى بتيار الوعي، فسلام هنا يزيح ذاته ليسمع لشخصياته الواقعية أن تحكي وتروي بلغتها وبمستواها العقلي والفكري واللغوي، حتى حافظ على طابعها اللغوي تبعاً لمستوى تلك الشخصيات في انتمائها إلى الطبقة الاجتماعية وتحصيلها الثقافي، والمهن التي تزاولها. فأجد هناك وشائج ظاهرة فرضها النوع الأدبي واشراطها في الرواية.
    ادرج هنا الاهداء الموضوعي في رواية (حياة ثقيلة)، ما كتبه سلام من إهداء (إلى عبد الحسين داخل/ أبو أمير. وناهدة جابر جاسم القزمري). فسلام في إهدائه يسعى إلى الحفاظ على علاقة الإهداء بعضوية النص وعلى العلاقة الواقعية للمهدى إليه، بعيداً عن احكام معيارية تتناول مستوى الإبداع.
    تتصف روايات سلام إبراهيم بالاعترافات والسيرة والمذكرات من خلال نصوص رواياته، في جوهرها بوح بالعوامل والأسباب والحوافز التي جعلت من الكُتّاب الكبار أعلاماً في الحياة الثقافية، وغالباً ما تتضمن تلك المؤلفات عادات الكتابة وطقوسها، وأجد في الروائي سلام إبراهيم يكتب اعترافات لسيرته الذاتية.
    ومن خلال متابعتي لروايات سلام إبراهيم اجدها تهيمن عليها موضوعة التعذيب والموت، وهذا ما مرَّ به من مواقف صعبة التي أوصلته في بعض الأحيان إلى طريق الإعدام، أو الموت خنقاً من خلال تعرض فصيله في الجبل إلى الضربة الكيمياوي. وعندما اعود بذاكرتي لما طالعته من كتب عن الإنسان البدائي فهو لم يفقه جوهر الموت أو يخيفه بعد، كذلك أجد ذلك في روايات سلام إبراهيم، فهو يتخيل الموت نوماً مستديماً كما جاءت في أقدم الوثائق في ملحمة كلكامش مثلاً، حينما اكتشف كلكامش مصيره الآتي بموت صديقه أنكيدو، وسلام إبراهيم واجه الموت بموت صديقه حسين في روايته (حياة ثقيلة)، لذلك هيمن موضوعة الموت في روايته، وهذا هو احساس المبدعين ورهافة أمزجتهم، وحكمتهم الفلسفية وتأملاتهم العميقة، فيقول الجواهري:
من منكم رغم الحياة وعبثها
لم يحتسب للموت ألف حسابِ
أنا أبغض الموت اللئيم وطيفهِ
بُغض طيوفَ مُخاتلٍ نَصّابِ
ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبهِ
دمُ إخوتي وأقاربي وصحابي
    الموت عند الجواهري هو الذئب في شراسته وقسوته وغدره، وكذلك الروائي سلام إبراهيم يجد بغدر الموت وقسوته كغدر الذئب. ولا ننسى الشيخوخة ونهاية قطار العمر، فعندما تأتي الشيخوخة تأتي الحكمة هدية للعمر، ويبلغ الإنسان نهايته فيرفض امتداح الحياة، فكما أن الحياة قد هجرته فإنه يسعى إلى هجرها أيضاً، وهذا ما عبر عنها الروائي بشخصية صديقه حسين في (حياة ثقيلة)، والروائي سلام جعل المتلقي لنصوصه مسحوراً بما يقرأ.
 

86
قراءة في كتاب نصير الحسيني (سلسال الكلام)

نبيل عبد المير الربيعي

    في معجم المعاني يأتي معنى كلمة السَّلْسَالُ: بمعنى الخمرُ اللينةُ، أي شَرِبَ ماءً سَلْسالاً: بمعنى ماءً عَذْباً صافِياً. ويُقالُ ماءٌ سلسالٌ: أي سهلُ المرور في الحلقِ لعذوبتِه وصَفائِه. وكذلك شراب سَلْسَل وسلسال، قال امرؤ القيس:
قليلة جرس الصوت إِلا وساوسا *** وتبسم عن عذب المذاقة سلسالِ
   وقد اختار د. نصير الحسيني عنواناً لكتابه (سلسال الكلام) أي بمعنى الكلام السهل المرور والفهم للقارئ الكريم، والكتاب يتضمن (219) مقالة قصيرة حاكى الحسيني واقع الوطن المأزوم، ويحاكي به المواطن لما يمر به البلد من مأساة وتخلف ومصائب، نشرها على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي للفترة من 2/8/2019 ولغاية يوم 15/9/2020 في اماكن متفرقة بين استقراره في مدينته الحلة أو سفره إلى عمان، ثم جمعها في هذا الكتاب.
    الكتاب صدر بطبعته الأولى  عام 2020م عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة بواقع (297) صفحة من الحجم الوسط بغلاف جميل وورق آرتي، وبكلمات لم تخترقها الأخطاء المطبعية أو الإملائية. وعناوين مقالات الكتاب متنوعة شاملة، وهي ومضات يعالج فيها الحسيني بعض الأمور من مواقف يمر بها الفرد العراقي أو المواطن العربي سواء كانت طريفة أو حقيقية واقعية، ونختار من تلك العناوين ما يلي: مكتبة، عمل شعبي، ونَّه، شهر عسل، حيرة، استنساخ، بوري، امرأة، بطالة، برلمان، ذنب، كاكا حمه، سيارة، بريد، كوجيتو، رقص، بروفا، القلق، رئيس الجمهورية، جنود، عنف، الوداع، مندسون، استقالة، إله الصدفة، تاريخ الكذب، أموال مهدورة، نزاهة، جباية، مجلس شقندحية، بريمر، كنك زادة، القضاء الأعرج، جمال خاشقجي، غاز، محاكمة، وزير، رئيس الوزراء الجديد، تهافت الصبيان، السيد حلاّل المشاكل، أبو نهب، مؤتمرات، التعليم العالي، قلّة ذوق، مدرسة للفساد، سكراب، تسعير الأدوية، الشيطان الأسود، سرقة، من مذكرات الصبا (1-17 حلقة)، مديرية الجوازات، عندما يموت الموت، مظاهرات، مصائب، المظاهرات السلمية، نريد وطن، كورونا، كوفيد 19، نمرود، يوميات محجوز، هيته.
    العناوين اعلاه هي مجموعة من النصوص والهواجس والانتقادات كتبها الحسيني دون رتوش، بعضها موجع لما يمر به البلد من أوجاع وهدم ونهب وعواصف صفراء، وجيوش متخلفة تنهب وتحرق وتسرق وتغتصب وتقتل وتُغيب من يقف في طريقها، وبعضها ذكريات في زمن مضى يلتقطها الحسيني ويكتبها وتنشر كي يقرأها المتلقي بسبب ابتعاد الشباب اليوم عن المتابعة والقراءة.
    من خلال مقالات ونصوص الدكتور نصير الحسيني دائما ما تجتذبني هذه النصوص التي تنشر على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي، اعشقها، إنها تُسكب في عينيَّ لمعان صقالتها واختيار عناوينها المثيرة لمشاعري ومشاعر القارئ، فالكتابة فنٌ وتناسلٌ وحَبلٌ، ومن ثم ولادة نصوص، فالحسيني خير خلف لخير سلف، فوالده الشاعر والناقد علي الحسيني.
    مفردات مقالاته تستنطق الضمير المستتر وتعتريني الرغبة الجامحة بالتعليق دون شعور. مقالاته تخرجني من خرسي إلى القول النابه، فهي محاولات لجر القارئ إلى معرفة ما يدور في فلك العراق والدول الأخرى، وكل مقالة قصيرة تتجمل عن سابقاتها، وإحداها تغيظ الأخرى، وتسعى مناكدة لتمنح صاحبها براعة المكتوب وكمال الصنعة.
    فالكتابة لدى الحسيني لا تأتي إلا في لحظةٍ استثنائية، تحلُ بلحظة فجأةً فيدونها من خلال حروف الموبايل دون أن يترك لها مجالاً للهروب، ودون أن تذوب كالثلج بسرعة، فيخترق بمقالاته قشرة الواقع، ويشرّع بحواسّهُ لاقتناص ذلك، فينوع بمقالاته أبهى أشواقهِ صفاءً ونقاءً، ذلك هو نصير الحسيني، فسواد حروفه هو الملح الذي لا يفسد، ولكن يثير من يتابع ما يكتب اعصابه ومشاعره لما يحدث في هذا الوطن المحتل، المحتل من قبل الامريكان وخفافيش الظلام، وعصابات المافيا المنظمة وسراق المال العام، والمحتل من قبل ساسته القصيري النظر.
    موبايل الحسيني عبارة عن سجلٍ صغير، يسجل فيه كل شاردة وواردة، ويأخذ به الحال إلى سياحة القارئ بين سطور مقالاته، فألتقيه في مكتبة ودار نشر الفرات في الحلة، يهمس بأذني لأطالع ما كتب من لقطات ذلك اليوم، أعتقد أنا أول من يطّلع عليها قبل النشر، فأجد بذلك بهجةً وزيادة معرفة ومعلومة لما يدور حولنا، ابدأ بالعنوان، فهو جدير باختيار العنوان، العنوان السُلَم الذي يرتقيه الحسيني في النص أو المقالة، وكأنه يجيب عن كل سؤال، اختيار العنوان يمثل نصف المقال أو النص، فالحسيني جدير بما يكتب من نصوص إبداعية ناقدة لاذعة، فيصوغ نصوصه من خلال العنوان.
    يعتبر العنوان عنصراً مهماً في كتابة المقالات أو النصوص، والعنوان مفتاح إجرائي ضروي في انتاج الدلالة، ولن تتم القراءة ما لم يكن العنوان ممراً إليها، فالحسيني أجده بوعي تام يختار العناوين بدقة لتكون دليلاً لنصوصه ومقالاته.
   أما الإهداء فأرغب من خلال حروفي هذه أن اذكر أن جميع مؤلفات د. الحسيني يمسك نفسه بوظيفة الإهداء على المستويين العام والخاص، أي الإهداء مطبوعاً في الصفحة التي تلي صفحة العنوان عند اصدار مؤلفه، فيعتبر النص قاصراً من دون واحة الإهداء. فأرى عتبة الإهداء في الكتاب ينبغي تفعيلها بعد انجاز الكتاب إلى من يعرف قيمة المنجز، لا لمن لا يهتم ويركن الكتاب على جانب، وهذا كان حوارنا أنا والحسيني والأديب شكر حاجم الصالحي في جلسة من جلسات بي دي سي مول، وكان الصالحي ينبه ويشدد على ذلك. والإهداء الخاص لمنجزه المطبوع بخط يده وتوقيعه إلى عددٍ لا يحصى من الصدقاء والقراء، وإلى عددٍ من المؤسسات الثقافية والجامعات والمكتبات العامة داخل البلد وخارجه سواء في مصر أو الجزائر أو عمان. بُنية الإهداء هي حالة ملازمة للحسيني، وتعد ضوء ينير عتبة كتبه ومؤلفاته فضلاً عن دعمه للأدباء لانجاز مؤلفاتهم، كذلك السعي وبجد لإنجاز ما تركه والده من منجزات ونصوص شعرية.
   والإهداء لدى الحسيني لم يعد شكلاً زخرفياً ولا لفظاً اعتباطياً، إنه يختار الأشخاص الذي يعرفهم بإشارة قصدية، والإهداء الخاص هو دالاً على معرفة الحسيني بصاحبه وما يجمعهما من مشتركات في الكتابة وغيرها فهو يسعى للحفاظ على علاقته بالصديق.
    تجد الحسيني يسجل ما علق بذاكرته من مذكرات الصبا التي وصلت حتى سبعة عشر حلقة، صاغ مفرداتها بشكل قصصي جميل لحياته مع عائلته وزملائه في مدرسته، ومعلميه وجيران محلته، وعشقه للنهر والسباحة ودار جدته. وبعنوان مقالاته القصيرة يومض فنار مقالاته الذي يلجأ إليها من خلال ضياءه إلى سفينة الكتابة لتهتدي بضوئه. وشبكة الحسيني تصيد في ذلك اليوم لقطات أو مواقف ما تصادفه أو عثر عليها في لقاء أو خبر عبر قنوات التلفاز، فيصنع جملة إنشاء الكلمات من خلال حروفها المقروءة، فيجد متعة وراحة في كيمياء حروفه، وأخيراً يكون الإقفال ملائماً لمقالته القصيرة.
    من خلال متابعتي ما يكتب أجده ذلك المبدع الفطن الناصح والمرشد، يمتلك الحدس والدهشة الدائمة، ومقالاته هي رحلة استكشافية إلى قارة المجهول، ليختار من خلال كثافة الأدغال المتشابكة بعض نصوصه. فيجعل عيون قارئيه ترى العالم بعينيه هو، لا بأعينهم هم، من خلال نصوصه التي جمعها في كتابه (سلسال الكلام)، فمقالاته صادمة للقارئ، وقد تترك جرحاً عذباً لدى المتلقي عندما يطالع ما يحدث من فساد وأحداث في وطنه المحتل.

87

علي الحسيني أديباً وباحثاُ

نبيل عبد الأمير الربيعي

صدرت الكتاب, في طبعتة الأولى عام 2021م عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة, وبـواقع (263) صفحة من القطع المتوسط ضمن إصدارات مهرجان تمصير الحلة السابع، تحت تسلسل (20). الكتاب تقديم الشاعر حميد سعيد، وجمع واعداد ولده البكر الدكتور نصير الحسيني، وتضمن الكتاب على مقدمة وتقرير حول تمثيل الشاعر الراحل علي الحسيني (1938-1991م) رحمه الله في المؤتمر الثاني لاتحاد أدباء الحلة في المؤتمر الثاني لأتحاد الأدباء العراقيين عام 1959م، حيث أسس الراحل مع زملائه هذا الاتحاد بنفس العام وهم كلٍ من: علي الحسيني (رئيساً لفرع اتحاد أدباء الحلة)، الشيخ يوسف كركوش، جليل كمال الدين، مهدي العبيدي، رياض العبيدي، خالد الدليمي، حمزة صالح، حمزة الباقري، بدر كاظم الحبيب، حسن عوينة.
كما تضمن الكتاب ثمان فصول وهي عبارة عن مقالات نشرها الراحل للفترة من عام 1965م ولغاية عام 1989م. والشاعر والأديب والناقد الحسيني له نتاجات أدبية وشعرية ونقدية كثيرة موزعة على صحف ومجلات عراقية وعربية، أما اصداراته الأدبية فقد تجاوزت (15) كتاباً منها: أعراس تموز (ديوان شعر)، الميلاد (ديوان شعر)، سفر عبد الرحمن الداخل، آمنت بالعراق (ديوان شعر)، لؤلؤ الجنوب (ديوان شعر) دفاتر المحبة (ديوان شعر)، مصادر الأصفهاني (دراسة)، امهات اللغة العربية (دراسة)، أغنية حب سومرية (ديوان شعر)، حيدر الحلي.. سيرته وشعره (دراسة)، الملك البديل (مسرحية)، سنبلة الحنطة العجيبة (قصص للأطفال)، في الأدب المنسي، رحلة الإنسان مع الأبراج، وقد تمت دراسة منجزه الأدبي وحياته في رسالة ماجستير للأستاذ صفاء الحفيظ في كلية التربية في جامعة بابل عام 1999م.
ويشيد الشاعر حميد سعيد في نص تقديم الكتاب ص9 وما بعدها من الكتاب قائلاً: "ترك في توجهاتي الشعرية أثراً غامضاً، فهو الشاعر الوحيد من الشعراء الذين كانوا يكتبون القصيدة الجديدة، الذي كنت ألتقيه بشخصه، أتحادث معه ويستأثر باهتمامي... أما القصيدة التي قادتني إلى الاقتراب من علي الحسيني شعرياً، فهي قصيدة (أعراس تموز) التي نشرتها مجلة الآداب البيروتية... لقد أفصحت هذه القصيدة عن شاعر مثقف، وعلى وعي بالتراث الرافديني القديم، عرف كيف يستلهمه مبكراً، في نص شعري معاصر... علي الحسيني في مجال البحث، يفصح عن رصانة فكرية وقدرات في الحوار والتدقيق". ولا ننسى أن الدكتور نصير الحسيني فضلاً عن اصدار هذا الكتاب لنتاجات والده الأدبية بعد رحيله، قد أصدر له أثني عشر كتاباً، فضلاً عن اصدار رواية تحكي عن حياة والده واستشهاده في موقف وطني مجيد تحت عنوان (الشاعر المفقود) الصادرة عن دار الفرات في بابل عام 2021م.
احتوى الفصل الأول من الكتاب على بحث تحت عنوان (التعليم في وادي الرافدين في العصور القديمة) وهو عبارة عن دراسة عن تاريخ التعليم في وادي الرافدين نشرت في مجلة الأقلام العراقية في العدد 9 الصادرة بتاريخ 1 سبتمبر 1965، اعتمد فيها الراحل على ثمان مصادر مهمة توثق تاريخ التعليم في حضارة وادي الرافدين، بعضها عربية وأخرى مترجمة. وكان الفصل الثاني يخص حمَاد الراوية الذي قدم هذا العربي خدمات جلّى في روايته للمعلقات السبع، وقد ذكر الحسيني اسمه ونسبه ولقبه في البحث وولادته وحياته الأولى وقوة حافظته وذيوع اسمه، ومرحه ومجونه وحماقته، وهل كان شعوبياً وأخيراً وفاته، وقسم الحسيني هذا البحث إلى ثمانية نقاط بما تخص حماد الراوية معتمداً على (28) مصدراً عربياً مهماً.
أما الفصل الثالث من الكتاب فقد تضمن بحثاً دقيقاً عن صلات حماد الراوية بالخلفاء الأمويين والعباسيين والأمراء، مقسماً البحث إلى أربع نقاط، فضلاً عن اعتماده على عدة مصادر مهمة في البحث. والفصل الرابع كان تحت عنوان (حَماد الأديب)، وقد وضح الباحث في بحثه هذا على مآثر حماد العلمية ومؤلفاته وشعره وروايته ومعلقاته، وقد كسر البحث بأربع نقاط بحثية معتمداً على أكثر من (18) مصدراً مهماً، وقد رفع مع البحث فهرست بالأعلام تم توزيعهم حسب الأحرف الأبجدية.
أما الفصل الخامس فكان عنوان البحث فيه (آراء أدبية)، وهو عبارة عن دراسات ومقالات متنوعة كتبها الراحل خلال مسيرته الأدبية الحافلة بالأحداث السياسية المعقدة، ورغم موته المبكر كما يذكر ولده البكر د. نصير الحسيني في ص107، "حيث لم يكمل الثانية والخمسين، لكنه ترك أرثاً أدبياً غير قليل، وربما تعذر علينا جمعه كله لأسباب شتى، منها تقلب الحكم في العراق عدة مرات، فهو عاصر النظام الملكي ومن ثم الجمهوري وتقلباته لعدة مرات، وعلى أية حال سنسمي ما تيسر جمعه بالأعمال المتفرقة". وقد كسر هذا الفصل بست دراسات أدبية للراحل علي الحسيني.
وفي الفصل السادس كان عنوان البحث (قراءات في تراث وادي الرافدين)، وقد نشر في جريدة الجمهورية العراقية بتاريخ 9 تشرين الأول 1989. وهو دراسة عن ملحمة (انمركار وبلاد ارانا) والتي تعود كما يذكر الحسيني إلى سنة 1700 ق.م والتي عثرت عليها بعثات الآثار وهي وثيقة سومرية هامة، تؤرخ تاريخ المجتمع الذهبي الذي كان موجوداً في بلاد سومر. أما الفصل السابع فكان تحت عنوان (مقالات متفرقة)، وهي عبارة عن (15) مقالة، نشرت في جريدة الثورة ومجلة الأقلام وجريدة القادسية وجريدة الجمهورية باعداد عدة.
أما الفصل الثامن فكان تحت عنوان (المنشورات الأدبية)، وهي عبارة عن مقالات أدبية وقصائد شعر نشرت خلال خمسينيات القرن الماضي، ونشرها الراحل في مجلة الأديب اللبنانية للفترة من عام 1957 ولغاية عام 1962، فضلاً عن مقالات عدة نشرت للراحل في مجلة المعرفة اللبنانية، ومجلة الآداب اللبنانية ومجلة المعارف اللبنانية، وقد نشر خلال هذه المجلات الراحل مجموعة غير قليلة من الدراسات والمقالات عن شعراء العراق والحلة تحت عنوان (العراق- الحلة- علي الحسيني)، ومن تلك المقالات (شاعرية فدوى طوقان).
والأديب علي الحسيني عرف كشاعر وناقد أدبي ومتابع، قدم نتاجاته الأدبية منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، وجميعها غنية بالمعلومات، فكانت دراسات أدبية ذات قيمة عالية، وفوائد جمّة أغنت المكتبة العراقية والعربية، وأضافت له دراسات من الدقّة في مجال الشعر والأدب، فقد كتب بشجاعة وصدق، فهو أديب غني عن عطائه، ممتع في اسلوبه، ورقيق في مشاعره، عذب في حديثه، جميل في معشره، طيب القلب لا يخشى في الحق لومة لائم. عندما تطلّع على قصائده كما يؤكد ذلك مجايليه من الأدباء.
وهذا الكتاب يحتوي بين ثناياها مجموعة متنوعة بين مقال أدبي ودراسة نقدية جمعها واعدها ولده د. نصير الحسيني تحت جلد واحد خشية ضياعها وتبعثرها في بطون الصحف والمجلات، فقدمها د. الحسيني كفاكهة بستان الأدب النضر لتكون مصدراً يعتمد عليه فيما بعد الباحثون وليتحف بها المكتبة العراقية والعربية، وليطالعها القراء لما فيها من تنوع ثَرّ وتوثيق أمين تقادمت عليها الأيام.
ومن يطالع نتاجات الراحل علي الحسيني رحمه الله يجده طاقة من الإبداع في نتاجاته الأدبية المتنوعة، بين مقال ودراسة ونقد أدبي وقصيدة شعر لما لا حدود له، وهو أديب نادر في زماننا هذا قد رحل مبكراً وكان خسارة فادحة لفقدانه في حربٍ طاحنة، ولكن هكذا هو القدر، وهكذا قدرهُ الذي كتب الكثير ورحل.
والأديب علي الحسيني تناول بقلمه الرفيع ودوّنَ في قراطيسه مقالات صالحة للقراء، واستعرضها في الصحف والمجلات العراقية والعربية، فكان لبعضها صدى مؤثر ساعد في تهييج الذاكرة واستحضار الحديث.
ومن مزايا هذا الكتاب الصادر عن دار الفرات في الحلة خلوه من الأخطاء المطبعية، وهذا أمر نادر الحدوث في المطبوع العراقي سابقاً، تستحق عليه هذه الدار الحمد والثناء.
الحلة/ الأربعاء 16/2/2022

88
المنبر الحر / صور ناطقة
« في: 21:41 18/02/2022  »
صور ناطقة
نبيل عبد الأمير الربيعي
صدر الكتاب بطبعتان، الطبعة الأولى عام 2017م، والطبعة الثانية عام 2018م عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة, وبـواقع (297) صفحة من القطع المتوسط. والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات القصيرة تجاوزت (162) مقالة، لصور ناطقة تحمل في طياتها هموم الكاتب وهموم المواطن العراقي بما يحدث من خراب في هذا البلد الذي يتطلع شعبه بعد عام 2003م للتغيير، إلا أنهُ وبفضل قادته السياسيين الحُكماء يعود بنا إلى ما قبل المربع الأول من خراب ودمار وسرقات وقتل وخطف وانتشار العصابات المنظمة للأتجار بالاعضاء البشرية والمخدرات بجميع اصنافها.
عودنا الدكتور نصير الحسيني منذ فترات طويلة على اقتناص المواقف والأحداث التي مرَّ بها ويمر بها المواطن، لتنظيدها من خلال حروفه الجميلة والساخرة والمبطنّة التي لا تتجاوز صفحة أو صفحتان من القطع المتوسط أو أكثر، وهي مقالات أثارها الحسيني بذكاء ليطلّع عليها القارئ عِبرَّ شاشة الموبايل أو اللابتوب، لأنه في عصر العولمة أصبح شبابنا يمّل من المطالعة ويبتعد عنها أو لا يتابع المقالات الطويلة بصفحاتها.
ويعجبني الحسيني عادةً في اختيار عناوين لمقالاته، واختيار مفرداته وحروفه الناطقة التي تصور لنا حال العالم من تطور ورفاهية وحال ما حلَّ بعالمنا العراقي من خراب، ففي ص9 كان عنوان مقالته (شكراً ماما أمريكا)، وهو عنوان ساخر قائلاً في ص10: "لكل ما جلبته أمريكا للعراق من خراب ودمار وضياع، وتحويل المنطقة إلى (قطعة كيك)، تنزف بالنفط الأسود وتطفو على سطحها الدماء، التي لوّنت الجدران والطرق والأنهار، نقول: شكراً ماما أمريكا"، هذا الخطاب تجد بين طياته الكثير من سخرية القدر لما وعدت به أمريكا العراقيين من بناء واعمار وإعادة عجلة حياة العراقيين نحو الرفاه الاجتماعي.
فنجد في مقالات الحسيني القصيرة الاحترافية في اختيار الموضوع والعنوان والكلمات الدقيقة والقصيرة؛ لنقل المتلقي من خلال شاشة الموبايل إلى عالم الصورة من خلال المتخيل العقلي دون ضبابية، إنها صورة بالالوان أي (سكوب ملون) كما تذكر ذلك الأفلام على شاشات السينما. من الصعب أن يقدم الحسيني تلك الصورة إلا وهي تنطق للمتلقي وتوضح له ما بداخل الحسيني من هموم في عمله وهموم المواطن العراقي.
فكثيره هي الصور الناطقة التي منها لا تتعدى إلا ما يشعر به المواطن، من خلال لغة الإيحاء التي أتخذ منها عنواناً لمقال بثلاث صفحات، فيقول في ص12: "ولغة الإيحاء تقترب كثيراً من لغة الهمس، واعتقد أنها من العلوم التي يجب أن تُدّرَس في كليات الإعلام والعسكرية وغيرها". أو مقال تحت عنوان (زلة لسان) لتصريح لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أولبرايت، أو عنوان آخر (الديمقراطية أكبر كذبة في العالم)، أو ما اتهم به المواطن المصري اسلام بحيري بتهمة ازدراء الأديان، ومقال تحت عنوان (الاستثمار ما بين الاستعمار والاستحمار!)، وهو يصور البلد كأسير للحكومات المحلية التي لا يعرف على وجه التحديد ما معنى لوجودها، ويتساءل في ص18 "هل هي لتخريب البلد؟ حيث أغلبهم مجموعة من الدلالين يروجون لمصالحهم رغم أن كثيراً من الذين صوتوا لهم لا يفهمون لماذا انتخبوهم؟"، أو مقال تحت عنوان (وشاية)، أو مقالته حول واقع حال (تربية بابل)، ففي ص23 كتب "سألني موظف في تربية بابل وأنا اراجعها، منذ متى لم تراجع التربية، قلت له منذ عام 1979، أجاب حيّل!، والحقيقة حين دخلت إلى الدائرة شعرت بالأسى والشجن، لأن هذه الدائرة قد تأخرت كثيراً في الأداء ويكفي ذلك حديثاً". وكلنا يعلم أن جميع دوائر الدولة قد تخلفت في الأداء، والمواطن يشعر بالأسى وحمل الهموم عندما يراجع دائرة حكومية لما يجد من تردي الخدمات واهمال الموظف لواجبه في أداء الخدمة للمراجعين لهذه الدوائر.
على نمط هذه العناوين يكتب الحسيني صوره الناطقة، والكثير منها لو تطلّع عليها لتجده يحمل عين مصور يلتقط الصور يومياً ويرتبها بحروفه الجميلة الناطقة، فهي يوميات لمواطن يلتقط الصور كما يلتقط الطير الحبوب ليستمتع بغذائه، فالكتابة بالنسبة للحسيني غذاء الروح، ولم يمر يوماً إلا وتجده كتب مقالاً أو اقتنى كتاباً من مكتبة الفرات في الحلة أو في شارع المتنبي، فالقراءة والكتابة همهُالشغل الشاغل للحسيني، فهو المقاول الذي توقفت شركته عن العمل وتوقف منح الحكومات المحلية المشاريع لها بسبب مبدأيته في رفض المشاريع التي تحال مقابل نسبة لمسؤول أو موظف مرتشي يحددها مسبقاً بنسبة 10% على قيمة المقاولة، أو عند استلام المبالغ وهي على شكل دفعات، فالمواطن والمقاول النزيه في عالمنا هذا ووسط هذا الخراب من الصعب أن يعمل.
وعندما ذكرت مقالاته الكثيرة والمتنوعة في كتابه هذا فمن الصعب أن تحتويها هذه الوريقات القلية التي انضد حروفي عليها، ولكن سأذكر بعضها، ومنها: فيلم ملون، لا منتصر، لا هذا فاد ولا ذاك فاد، كلمة اعتذار، ما لم يقله السارد عن العرافة، صرخة، اللعبة، ألا يخجلون؟، مرةً أخرى يخطئون، رجل طيب، طير حمام، طبيب، أم بريص، فيزة، مشاجرة، صحة صدور، مدراء، ساعة، قلق، حَمام، خدمات الطريق السريع، وجاهة، جزية، شخصية، انهيار أمريكا، مشفى، الديك، نقابة، بذور الشر، انتخابات، مكسي مول، تصريح، أسى، فساد (2)، العتاوي، الستار الله، مطلوب عشائرياً، فصل عشائري، مراجعة، لوح الأقدار، القط والفأر، دبلوماسي، مخدرات، تحرش، اجتثاث، أحزاب، حلم الرئيس، جثة الرئيس، قضاء، يا لسعادتنا، تشهير، أبو علوش، تخ... طيط، عجيب غريب، أطباء، جريدي، طرفة.
هذا التنوع في العناوين يمنح القارئ اللبيب الكثير من الخيال والتطلّع لقصص وأحداث واقعية عاشها الحسيني من خلال زياراته للدوائر الحكومية أو متابعته للتلفاز والأخبار أو ما يحصل في حياته وحياة المواطن اليومية من مواقف. حروف الحسيني الجميلة لم تسلم منها الذكريات الحزينة التي ترسم المكان والواقع والرغبة والتفاؤل والمرح والبسمة والسُخرية، تلك الحروف الناطقة للمستقبل الموعود، ولوطن القهر والظلام والفساد والخراب والظلم والتهريب.
يذكر الحسيني عن صفة الصور الناطقة قائلاً: "صور ناطقة عن حجم الفوضى التي مرَّ بها العراق بعد عام 2003م، وهي عبارة عن هواجس شخصية لصور تتحرك يومياً عبر حياة مليئة بالغرابة والدهشة والانفعال، وتجعلنا نعيش حالة من الاغتراب الذاتي، ونحلم بجرعة من الأمل بأن القادم ربما سيكون أجمل! الصور تسلط الضوء على تحولات المجتمع في ظل ظروف أتسمت بالتحولات الرافضة للتبعثر الاجتماعي وفساد الفعل عبر البوح المعترض".
ومهما كانت الظروف بحسنها وقبحها يبقى العراقي يركض كل العمر على مدى صراخه الدامي في وطن يموت ابنائه كالشجر لم يشهد تاريخ الشعوب مثيلاً له، ولكن صراخ العراقي لا يسمعه إلا ابن الوطن المهموم والمجروح، ومن يتحاشى هذا الصراخ، وبفضل الفاتحون الأمريكان غمروا تراب هذا الوطن بدماء الأبناء ودموع الأمهات الثكالى، ليجلسنّ على ترابه المقدس ببركة التغيير والسلام والعالم الجديد المنتصر.
هذه الاطلالة التي كتبتها لقراءة بسيطة لكتاب الحسيني (حروف ناطقة) اعتقد أن لها صور أخرى ناطقة سينشرها الحسيني على صفحات التواصل الاجتماعي في ايامه القريبة، فمداد قلمه لا يتوقف ما زال هناك خراب في هذا الوطن المحتل والجريح

89
في ذمة الله مؤلف تاريخ الحوزة العلمية في الحلة
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    لا يمكن الحديث عن الواقع الثقافي والتاريخي والأدبي في مدينة الحلة الفيحاء إلا وتسليط الضوء على دور الباحث والمرخ والمحقق الراحل د. عبد الرضا عِوض، عرفته قبل أكثر من عقد من الزمن، صادق المشاعر، حلو اللقاء، يعتبر لدى المثقفين والباحثين والمؤرخين المرجع والعرّاب، ومحل التساؤل عن كل شاردة وواردة، فقد أرخ تاريخ مدينة الحلةُ الفيحاء ووثّق سيرة علمائها، مُنذ النشأة وحتى يومنا هذا.
    بذلَ الراحل عِوض جهده في إظهار الطوبوغرافيا العلمية لتاريخ مدينة الحلة، وتسليط الضوء على جملة الانجازات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي حصلت في الحقب الزمنية السابقة، فضلاً عن الغوص في أعماق التاريخ والخروج بسِفره الثمين وهو (تاريخ الحوزة العلمية في الحلة)، لتحتل وبجدارة موقعها التاريخي والفكري في المكتبة العراقية والعربية، حتى نال درجة الدكتوراه في منجزه هذا.
    في صباح يوم الخميس الموافق الحادي عشر من تشرين الثاني 2021 وبتمام الساعة الثانية رَحلً المؤرخ والمحقق والباحث د. عبد الرضا عوض، تاركاً خلفهُ أثراً طيباً وأرثاً ثقافياً وأدبياً. فقد رثاه الكتّاب والأدباء والصحافة والمنظمات المهنية والاجتماعية، لكن الحكومة المحلية في بابل تَنّكَرت لهذا المؤرخ الكبير ولم يحضر أي مسؤول مجلس الفاتحة المقامة على روحه، والذي لم تذهب شاردة أو واردة عن تاريخ مدينتهُ إلا ووثقها في مؤلفاته. عاش الراحل النابغة حراً أبياً صادقاً مع نفسه ومع الآخرين. كان ينبه ابناء مدينته بأفكاره الحُرّة، ويلهب مشاعرهم بالدعوة لعقد المؤتمر التأسيسي الأول لوقّعة عاكف، والدعوة لعقد مهرجان تمصير تاريخ مدينته (الخامس والسادس والسابع) بعد أن اهمل من قبل الحكومات المحلية المتعاقبة، ومؤسساتها الأدبية والثقافية، فغضب محافظو بابل المتعاقبين منهُ، وأغضبوا عليه. كما فنّد الراحل هذه الحكومات في عهد الاحتلال الأمريكي المشؤوم، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماع كان يهاجم سياستهم بشجب واستنكار، وجعل مما ينشر مجالاً واسعاً لإنهاض أبناء بلده من غفلتهم وإفاقتهم من عثراتهم، مع هذا لكن الراحل كان لهُ مكانه كبيرة في قلوب محبيه، حيث كان يعبّر عن شعورهم أصدق تعبير.
    ساهم الراحل عِوض بشكل فعّال في دعم الثقافة والتاريخ من خلال مؤلفاته وإصداراته التي تجاوزت (50) مؤلفاً، فضلاً عن مجلة أوراق فراتية، ومجلة اسديون، ومجلة العشرة كراسي، كذلك دوره في تأسيس ملتقى العشرة كراسي في مقر مكتبته، ودورهُ في صناعة الكتاب من خلال دار النشر (دار الفرات للنشر والدعاية والإعلام) في بابل، هذه الدار التي ساهمت بشكل مميز ومهني في الطباعة والتوزيع لكتابات بعض أدباء ومثقفي الحلة والمدن المجاورة، لا أبالغ حينما أصف الدكتور عبد الرضا عوض بمساهمته وثراءه للمنتج الثقافي العراقي، وهو أحد روّاد الثقافة، وأحد أعلام وفرسان الحركة الثقافية العراقية، وإذا كان لدالة الثقافة رمزيتها المحورية فأحد أركانها الدكتور عوض، وهو المعوّل عليه في مدينة الحلة في هذا المجال.
    كان رحمه الله من الفاعلين والمساهمين في الثقافة الكتابية والمهتمين بحركة الفكر والنُخب الثقافية والأكاديمية، تتوق لهُ الخواطر من معشر الكُتّاب، حتى يضرب اللقاء في داره أو مكتبته العامرة مكتبة دار الفرات في الحلة، المكتبة التي شَكّلت الرئة والمتنفس للمثقفين والمتابعين للإصدارات الجديدة، حيث يعد دالتها.
    كان للدكتور رحمه الله موقعهُ المميز في الأجواء الحلية، فهو الملم بالتاريخ والثقافة والأدب والإصدارات الثقافية، حتى بعض الأحيان احتكم لهُ بعض الباحثين في التحقيق والتدقيق والتوثيق التاريخي، وثق الكثير من أعلام مدينة الحلة وأديانها ومؤرخيها.
    وكان في ساعاته الأخيرة وهو ينازع الموت قد أوصى ولده (علي) أن "يُبّلغ اللجنة العليا المشرفة على مهرجان تمصير الحلة السابع ورئيسها السيد غالب العميدي أن يعقد المهرجان مهما كانت الظروف والأسباب". حتى دوى نبأ رحيله المرعب واضطرب من اضطرب وحزن من حزن وسرَ من سر بساعة فراقه للحياة وإعلان وفاته من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. فالراحل عَوض قد أوقف حياته لمدينته وتاريخها والمجتمع إيماناً ومحبة وعشق لها، فكانت خلود الحياة وخلود الميتة.
    أبا حمدي فقدناك سنداً وأخاً عزيزاً، ومُعلَماً ومعيناً لا ينضب، رحلت وانت كما عهدتك قوياً للصعاب ونداً لها. لم تمت موتك الأبدي فأنت معنا نتذكر كلامك ونتصفح أرثك الثقافي الذي تركتهُ والذي كان عوناً للباحث الذي يبحر في صفحاته، لكن المدد لم يكن ينبوعاً جارياً فلا بد أن ينضب ويجف ويشح يوماً.
    رحمك الله أخينا أبا حمدي، نُم قرير العين يا أخي، فقد انعمت علينا نحن أصدقائك بنعمة تجمعنا يومياً تحت مظّلة حوارك الجميل، وتجمعنا اسبوعياً تحت مظلة ملتقى العشرة كراسي في مكتبتك العامرة، كنت شغوفاً بتوثيق تاريخ الحلة، وقد اقترن اسمك مع اسماء أعلام مدينتك خاصة والعراق عامة. كان مجلسك اليومي في مكتبتك عامراً ومزاراً لكل صديق وأديب ومثقف وباحث. لذلك بقيت اخبار سيرتك العطرة بعد رحيلك الصادم لنا تدور على افواه ومسامع أبناء المدينة الذين يعرفوك ويعرفون افعالك الطيبة كل ما ذكر اسمك. تركت بعد رحيلك إرثا واثراً طيباً، تلك مآثرك وخصالك التي نعرفك بها. فليرحمك الله، والرحمة لروحك الطاهرة، وخالص العزاء للوسط الثقافي، والتضامن والمواساة لعائلتك الكريمة، وللأهل والمحبّين الصبر والسلوان.

90
قراءة في كتاب الناقد التشكيلي صلاح عباس (بشير مهدي فن اللوعة والولع)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    تعرفت على الفنان بشير مهدي العبيدي عام 1975م في مدينة الديوانية من خلال صداقتي الدائمة لأخيه محمد مهدي رحمه الله، كُنت في حينها طالباً في الثانوية ونعمل سوية مع أخيه محمد في اتحاد الطلبة العام، وكانت زياراتي المتكررة لداره الواقعة في الحي الجمهوري ومتابعتي لأعماله الفنية وخاصة لوحته الغير مكتملة التي تركها معلقة على حائط إحدى غرف دارهم وسافر إلى خارج العراق، فكنت اسأل أخيه محمد عن وضعه وأعماله الفنية في بلد الغربة إيطاليا، وكان يوافيني بكل مستجد عنهُ. والتقيت به مؤخراً عندما استضافته دار الود للثقافة والفنون في بابل يوم الجمعة المصادف 20-4-2012، وقدمهُ للجمهور الحلي الفنان صلاح عباس، فقد عرض الفنان بشير أعماله الفنية للجمهور الحلي من خلال جهاز (الدات شو) موضحاً أسماء ومضمون لوحاته الفنية. 
    من خلال متابعتي لأعمال الفنان بشير مهدي أجد فيها قد سلط اللون وتدرجاته وعناصر الضوء وقيّم النور والظل في اللوحة، وخاصة لوحته الحديثة (اللوعة والولع) التي حملها معهُ من هولندا مكان إقامته إلى العراق والتي أبهرت الفنانين والمهتمين في الفن، وتعتبر أغلب أعمال الفنان بشير مهدي ذات أسلوب رومانطيقي وبعضها سريالي، من خلال الخطوط والأحجار، عن طريق التلاعب بدرجات اللون التي تعطي للعمل الفني بعداً تشكيلياً وبصرياً هو خليط من المتعة والتفكّر في لوحاته، وهنالك دوماً مكان بعيد يأتي من الحكايات والأفكار، وهنالك مكان شاغر لشخص لا يظفر المتلقي بوجهه ولكن يلمس حضوره، منها في السرير الفارغ الذي يمثل الولادة والحياة والموت، إضافة إلى الحقيبة المعدة للسفر والمسمار الصدأ على الجدار، والحجر الأزرق بسبع عيون وتماثيل صغيرة للحيوانات، وبعض الرموز التاريخية.
    لذا نرى في لوحات الفنان بشير مهدي بقايا لوجود إنسان على شكل جمجمة، وبعض لوحاته ذات طابع درامي تكويني إلى درجة تشعر بالخوف والوحشة والبرد، ومتناقضات الحياة بين الولادة والموت والمرض والحياة والأحلام والسعادة. الفنان بشير يبحث في الروح البشرية وألغازها وآلامها، كما أُدخلَ على لوحاته فلسفتهً الخاصة والمعاصرة في الحياة. 
    قبل ايام صدر للفنان والناقد التشكيلي صلاح عباس كتابه الموسوم (بشير مهدي فن اللوعة والولع) وهو إعداد وتقديم وليس تأليف، والكتاب خلاصة الملفات الصورية، وملفات النصوص الأدبية والنقدية التي يعتز بها الفنان بشير مهدي وحافظ عليها طيلة سنين، ونجد بين المتون نصوصاً لكتاب وفنانين عراقيين، والكتاب من تصميم الفنان سمير مرزة، وعنوان الكتاب كما ذكر الناقد والفنان صلاح عباس جاءت لولع الفنان بشير مهدي بعشقه الأول واللوعة تأتي بعداً، اللوعة من الفراق المرّ الذي قَض عليه مضجعه، وأرقه، الكتاب صدر بواقع 137 صفحة من الحجم الكبير (A4) دون ذكر اسم بلد ودار الناشر.
    وفي المقدمة ذكر صلاح عباس علاقته وتواصله مع الفنان المغترب بشير مهدي منذ عام 1992م من خلال نشره مقالاً مستفيضاً عن تجارب الفنان بشير مهدي المقيم حالياً في هولندا في جريدة (العرب) اللندنية. وذكر صلاح عباس عن تاريخ الفنان مهدي الفني منذ انشغاله مع الفنان الايطالي (لويجي دوني) في مشغله في ايطاليا لمدة طويلة من الزمن، وكان ساعده على انجاز لوحاته من التأسيس اللوني وحتى رسم الوحدات الصورية والأجزاء والتفاصيل الدقيقة المتداخلة في بنى اللوحات. ولا ننسى دور صلاح عباس في المساهمة مع جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ببغداد من تفعيل مسابقة الفنان بشير مهدي الأولى والثانية وكانت من خلال وزارة الثقافة ودائرة الفنون العامة، وإن حسابات الكلف للمسابقة بما فيها الجوائز بقيمة ألف دولار امريكي للفائزين الثلاثة الأوائل، كانت تستوفي من الفنان بشير مهدي بعد أن يتم جمعها من الراتب التقاعدي للفنان الذي يتقاضاه من محافظة الديوانية، وبفضل الاستاذ حسين صالح مهدي ابن أخ الفنان بشير مهدي حققت هذه المسابقات نجاحاً ملموساً واعلاماً جدياً. ويذكر صلاح عباس في ص4 من الكتاب دور بشير مهدي ((في صناعة الاشكال، ومن ثم ضخ أعلى قدر من الطاقة الحسّية والتفكيرية لقيّم التضامن التي يتناولها في لوحاته الفنية، مما دفع الناقد الهولندي (خريت لاودخا) للكتابة عن تجاربه وتأليف كتاب فني أنيق عن مجمل الاتجاهات الفنية التي اشتغل عليها (بشير مهدي) وطبع هذا المجلد الجميل باللغة الهولندية)).
    الكتاب تضمن عدّة مقالات جمعها الفنان بشير مهدي والناقد صلاح عباس والتي نشرت في تواريخ سابقة، منها مقال للناقد والفنان التشكيلي صلاح عباس تحت عنوان (بشير مهدي بين المؤهلات السردية والمحاكاة الحلمية)، والذي جسد الناقد عباس في المقال مؤهلات الفنان بشير مهدي السردية في لوحاته بمنتهى الاتقان من جوانبه الفنية المتعددة وعناصرها الاساسية شكلاً ومضموناً، واكساب اللوحة الفنية بعداً ثالثاً من خلال مقدرة الفنان الهائلة على التجسيد. فقد عني بشير مهدي برسم التفاصيل وابراز الأجزاء بطريقة الرسم الواقعي. كما اشار الناقد صلاح عباس في ص12 من الكتاب على اسلوبية الفنان مهدي من خلال العناصر الثلاث المشتركة (العمل على المضاهاة والخلق الابداعي، وإلاء المنظور البصري اهمية استثنائية مدعمة لتجسيد مساقط الضياء وانكسارات الظلال والتحسس بالمديات، والتأكيد على تشارك عناصر الطبيعة مع البيئة)، وبهذا نرى لوحات بشير مهدي تتخللها الغرف الصغيرة والستائر وزجاج النافذة المطل على الفضاء الخارجي، فقد استغل بشير طاقة الرمز والمفردات الصورية المفارقة في لوحاته.
    أما في ص18 من الكتاب فقد وثّق صلاح عباس حياة والد الفنان ومكان تولده ومهنته. وفي ص20 من الكتاب فقد تضمن مقال للناقد ياسين النُصيّر تحت عنوان (عالم بشير مهدي، الطبيعة بحساسية شعرية)، وهو مقال يجسد مشاركة بشير مهدي بمعرض مع فنانين آخرين في كاليري (اوترخت) في هولندا يوم 6/9/2008، وقد أكد النصير أن لوحات بشير مهدي قد هيمنت على قاعات (الكاليري الثلاث، وبدت الصالة كما لو أنها تحتفي بالفن العراقي لوحده، حيث غاب الفنانان الهولنديان عن الحضور، ويستمر المعرض لفترة شهر لينتقل بعدها إلى مدن هولندية أخرى. بشير مهدي الذي تعافى أخيراً من مرض، يطل علينا هذه المرة بروحية جديدة، هي تجسيده لرؤية الأفول، فيلجأ للعتمة والظلال الحادة والضوء القوي، ليصنع فيها الأمكنة الآفلة وانكسارات الأشياء والمواقع الخربة والروح المنسجمة والبيت مطفأ الأضواء).
    أما مقال الناقد الراحل قاسم عبد الأمير عجام في ص28 تحت عنوان (بشير مهدي لوحات تجسد لغة الغياب)، يعلق الراحل عجام على لوحات الفنان بشير مهدي قائلاً: (الإدهاش الذي تحدثه مهارة التحكم بالضوء واستثمار مساقطه للكشف أو رسم الظلام. وإنطاق المكان بلغة الغياب. واللوحات في الحقيقة هي رسومات أو صور تعتمد منطق الفوتوغرافي في تحديد الشكل وأبعاده ولكنها تشحن الشكل بالتعبير من خلال العلاقات التي يقيمها الرسام بين محتويات اللوحة).
    وقد استثمر الفنان بشير مهدي الضوء والظل في اغلب لوحاته من خلال تكوينها وشحنها بالمعنى، وقد اثث لوحاته بالعديد من التشكيلات والعلاقات التي ترمز للإنسان المغادر والتي تنطق بلغة الغياب، ومنطق الاستيحاش الذي تبرزه اللوحة.
    أما مقالة الشاعر المغترب الراحل فوزي كريم في ص30 وتحت عنوان (بلاغة بشير الباهرة)، من خلال اطلاع فوزي كريم على صور لوحات بشير مهدي والتي يقول في مقاله (الفنان بشير مهدي وصلني شيء من لوحاته المصورة في البريد، مدهش في اكثر من معنى.. لوحاته ساعية إلى الكمال في التقنية الشغوفة بأشياء الواقع في ذاتها، في استلهام الضوء، في التوازن، في القصيدة التي وراء اختير الموضوع، في الشكل، والنسيج، واللون، وأخيراً في المضامين المفتوحة التي تغذي كل بصيرة فردية بما تريد).
    لذلك تتميز لوحات الفنان بشير مهدي بالصرخة المكتومة والأزهار المجففة والشرشف والضوء الخافت والسفر والعمود الحجري والبطانية المطعجّة، فلوحات بشير رصينة وجادة ولها كمال فني مسكونة بهاجس التحرر والحرية من عناصر الشد والابداع، وتحرره من اسلوبيته المعروفة.
    أما الفنان والأديب الراحل حامد الهيتي في مقاله (نظرة في اعمال الفنان العراقي المغترب بشير مهدي) يؤكد في ص34 قائلاً: (في لوحة بشير مهدي الجديدة يترك وظيفته كرسام ليتحول إلى مُنقّب آثاري ليكشف لنا عن موجودات تاريخية، عراقية أصيلة). لذلك نجد بشير مهدي قد اهتم بتوازن اللوحة وتناظر كتلتيها في الأثر والعمق، فبشير يرسم انعكاس الواقع وكأنه يتكلم بصمت عِبرَّ بُنية النص الفني وتجليه المنفي والرمزي.
    وقد كتب الناقد حسين السكاف مقال بعنوان (عن صراع الروح البشرية بين اللوعة والمتعة وفلسفة الألم) والتي تضمنها الكتاب في ص38 قائلاً أن اعمال بشير مهدي (تمنح المشاهد أنه سرعان ما يكتشف رموزاً ودلالات متداخلة مع بنية العمل تشير إلى حداثة وتفرد بأسلوبٍ وفلسفةٍ خاصة). فأعمال الفنان بشير فيها لوعة وألم مشحون في الأمل يجسده في قماش اللوحة، فضلاً عن اعتماد بشير على الدقة في الرسم، وكفنان محترف ومحب له، وشغوف به، مما يلتمس المشاهد الدهشة في فلسفة اعمال بشير الفنية. وقد وظف بشير اعماله الفنية لخدمة الإنسان والطبيعة والكون لاعتماده باستخدام قيّم الفلسفة والجمال.
    أما الأديب والناقد جاسم عاصي فَلهُ مقال تحت عنوان (المكان... الجدل الحضور والغياب، الرؤية الفلسفية للمكان في لوحات الفنان بشير مهدي) فيذكر في ص51 من الكتاب أن (لوحات الفنان بشير مهدي مكرسة لتجسيد صور الأمكنة، بما تحتويه من مكونات وأشياء، وهي في الأساس منزلية أو تحتوي على حيز مهجور من منزل، من هذا المشهد تنطلق اللوحة لتقيم علاقة جدلية بين هذه المحتويات والإنسان الغائب جسدياً، والماثل أثراً). ثم يستدرك حول عالم بشير مهدي الذي يجسد من خلال لوحاته (الضوء والظل والفراغ واللون والانكسار والأشياء الهامشية والمتروكة في الزوايا للتعبير عنها من خلال اللوحة، ومن خلالها يحدد العلاقة بين الإنسان كذات وبين الآخر وهي رموز دالة على تعيين السرد البصري في كشف المعاني، وهي وسائل تمتلك إدامة المسافة التي يرصدها الفنان بشير).
    أما الفنان التشكيلي عاصم عبد الأمير في مقاله (المكان الخالي)، يذكر في مقاله في ص60 من الكتاب بأن الفنان بشير مهدي (يبدأ خطاباته من المكان الخالي كمركز طرد قوي ومصدر للضجر الذي لا نهاية له، لهذا وبرغم وفرة الجمال ومصدر الراحة التي يشيّ بها المكان غير أنها ليس إلا فضاء تخنقه الجدران، لذا فليس هناك من فرصة مؤاتية لممارسة حريتها، فالجدران والأرائك والكراسي والخزانات والسلالم النظيفة لا تصنع إلا معاناة وحياة مهجورة ليس لها شبيه إلا في المنافي، فالمكان عنده دال على مفارقة ومبعث التعاسة اللانهائية، ثمَّ أنه وفي جانب واسع النطاق يحتفظ بسريته). لذلك نجد لوحات بشير مهدي تحمل هويتها المفردة من سرية الأشياء التي تحمل ماهية الوجود ومماثلة للموجودات والبحث عن الحرية، فينفتح الفنان بكل مدركاته الحسية والعقلية الكامنة في الأشياء مثل الآثاث والجماجم والغرفة وجدرانها، والكائنات المحنطة والأجساد والفضاءات ورموزها الدلالية لحياتها المعاصرة.
    أما الدكتور جواد الزيدي في مقاله (بشير مهدي.. استعارات متحف الذاكرة الصورة) فيؤكد الزيدي في ص66 من الكتاب قائلاً: (أن مهدي يحتفي بالمهملات والموجودات اليومية التي غادرتها الحياة الحضارية مثل الأباريق والكراسي المهشمة وزوج احذية قديم وآنية الماء ذات الاستخدامات المتعددة التي تحفر موضعها داخل غرفة النوم أو غرفة المعيشة مزدوجة الأغراض في الحياة العراقية البسيطة، ليؤسس علاقة بين الأثر القادم من عالمه العقلي إلى وجوده الجديد عالم اللوحة الذي تعتاش عليه الذاكرة مرة أخرى؛ بعد إعادة هيكليته بصورة فنية جمالية تترك أثرها داخل سياق التلقي في ضوء الاحتفاء بهيبة المكان الروحية أو المكان الأجمل الذي غادره بشكل فعلي).
    فالفنان بشير مهدي لا زال من خلال لوحاته يجسد ما كان يعيش بداخله من الفواصل الزمنية المتصلة للمزاوجة بين الأمكنة المتعددة في صورتيها البدائية والمعاصرة، مما يعمد الفنان في جميع أعماله إلى توظيف رمزية النافذة التي تفصل بين صورة عتيقة كامنة في الذاكرة وأخرى معاصرة من خلال الستائر الشفافة التي يكرس من خلالها فحص الماضي والنظر إليه بعين متكاملة مفتوحة على المستقبل.
    أما الشاعر والأديب مالك مسلماوي في مقاله (بشير مهدي محترف الضوء وصانع الوحشة)، ففي ص71 من الكتاب يقرأ مسلماوي لوحات بشير مهدي (وفق نظرة تتخطى الوجود المحضّ إلى ما يمتلكه هذا الوجود، ومن رؤيا عابرة للمحاكاة ومستندة إليها في الوقت ذاته... وللوهلة الأولى تبدو معظم الاعمال ذات ولَع واقعي، وتمثل للظاهرة ذات البعدين، وإن هناك ارجحة بين الواقعية والانطباعية تتولى اهتماماً بيناً بالطبيعة والمكان التقليديين المسكونيين بالبراءة والهدوء والوحشة، وخلوها غالباً من الحضور: إنسان/ حيوان). لكن لوحات بشير مهدي تعطينا انطباعاً انها لوحات سريالية في بعضها، منها لوحة الطفل والجمجمة والثور، فضلاً عن انها تترجم مساحة الغياب الطاغي والصمت ونوع من السريالية.
    إن تواجد السرير في اعمال بشير مهدي هو رمز للولادة والحياة والموت، ففي هذا السرير يولد الإنسان ثم يرحل إلى الآخرة على هذا السرير، لهذا يظهر السرير تجسيد لمعظم لوحات بشير وإضافة للكرسي الفارغ الصغير الغير متساوي الأرجل في لوحة (لوعة الإنسان)، وقدح الماء الذي يمثل الاستقرار والتوازن والأمل، ونلاحظ دائماً رمز النبات في أعمال الفنان وهي تدل على استمرار الحياة وتدفقها، كذلك نجد في بعض لوحاته دائماً بقايا لوجود إنسان أو جمجمة رغم غيابه للوحة .
   إن جميع أعمال بشير فيها عنصر الإبداع والشَدّ، فهو فنان ينقًب في آثاره، وينحت في أعماله لتظهر لوحاته كأحد الكنوز المكتشفة حديثاً، لكن نلاحظ في بعض لوحاته التناقض والتجاذب بين القديم والجديد المعاصر، والفرح والألم، فهي أعمال تدل على جمالية متجانسة وموضوعية لحياة مؤجلة تمنحها السلام والأمان، لكن في بعض لوحاته نجد دلائل على الحوار بين الإنسان والكون والطبيعة والذات، أما مدن بشير الحزينة التي تسكنها الرمال والغرباء والصعاليك والخراب، كما في بورترية قد ظهرت في خلف اللوحة مدينة الديوانية الطينية الخربة، وقد صورها كمدرسة مهملة ما بعد التغيير، لقد تعب الفنان بشير في سنواته الأخيرة وضعف إنتاجهُ الفني بسبب إصابتهُ بالجلطة الدماغية، فقد ضعف نطقه وأصبح ينتج اللوحة الفنية بمدة زمنية لثمانية أشهر هذا ما صرح به خلال زيارته الأخيرة لمدينة الحلة.
    وفي الكتاب هناك مقال لحسين صالح مهدي في ص75 وهو ابن أخو بشير يوثق السيرة الذاتية للفنان من تاريخ الولادة والمكان والدراسة والعمل والمعارض التي شارك بها الفنان وهواياته حتى تاريخ سفره إلى ايطاليا للدراسة عِبرَ طريق القائم. أجد هناك اخطاء إملائية متكررة في هذه السيرة، فكاتب المقال يكتب كلمة (الظروف) بهذه الشاكلة (ضروف)، علماً أن هنالك مشرف لغوي للكتاب وهو الأديب مالك مسلماوي، فلا اعرف كيف فاتته هذه الأخطاء المكررة في هذا المقال. مع أن هذا الكتاب صدر بشكل جميل واحتوى على (90) لوحة وصورة شخصية ذات الألوان والطباعة الراقية وبحجم يستحق التقدير والثناء لهذا الجهد الراقي، وقد شكل الغلاف الأمامي لوحة للفنان بشير مهدي، أما الغلاف الثاني فكانت قصيدة لأخيه الشاعر حبيب تحت عنوان (عروة بن الورد هدية إلى (الشاقول بشير):-
شراك يبن الورد
أخالك نجماً والسماء في كَبد
أحلم إني :
وزعتُ الخبزة والخمرة  والشقُ بلا عدد
وجلست على كرسي الشمس إلى الأبد
نثرتُ الغيمة.....
وسقيتُ بدم حروفك خد الوردِ
أستميحك عذراً يا بن الورد
 
لذلك نقول يستحق الفنان المغترب بشير مهدي هذا المنجز الرائع.
الحلة ليلة الأربعاء الموافق 27/10/2021

91
ما هكذا تورد الإبل يا سلمان

    قبل أكثر من شهرين صدر كتابنا الموسوم أنا والباحث محمد علي محي الدين تحت عنوان ((النضال إن حكى.. تاريخ الحزب الشيوعي في بابل)) بجزأين وبواقع ((860)) صفحة من الحجم الوزيري، والصادر عن دار الفرات في بابل بالاشتراك مع دار سما في السليمانية، الكتاب أخذ منا جهداً كبيراً وتجاوزت المدة أكثر من الأربعة أعوام، وكان هدفنا توثيق تاريخ الحزب في بابل قبل الضياع منذ عام 1937 ولغاية عام 2003م، فضلاً عن نيتنا اصدار الجزء الثالث للحقبة ما بعد عام 2003م، تضمن الكتاب ((268)) مصدر بين كتاب مترجم وكتاب باللغة العربية ورسائل دكتوراه ومذكرات، فضلاً عن ((48)) رسالة شخصية ولقاء شخصي مع قيادات الحزب والأعضاء القدماء، ومن ضمن المصادر كتاب لإسماعيل محمد سلمان تحت عنوان ((تاريخ الحركة الشيوعية في الهندية 1940-1970م)) الصادر عن المركز الثقافي للطباعة والنشر في دمشق الطبعة الأولى. وقد اعتمدناه كمصدر في توثيق منظمة الحزب في قضاء الهندية، وقد ذكر هذا المصدر في الجزء الأول في الصفحات ((131، 248،336)) فضلاً عن مصادر أخرى لكُتّاب غير شيوعيين وكباحثين معتمد عليهم لأنني كباحث كتبت ووثقت بحيادية.
    بعد هذا الجهد الذي أخذ من صحتي ووقتي وراحتي الكثير، وعندما صدر الكتاب كانت المفاجأة أن يرسل لي عضو في الحزب وفي محلية بابل للحزب المدعو ((إسماعيل محمد سلمان)) رسالة على الماسنجر تتضمن تجاوز واتهام غير مبرر له، وقد تضمنت الرسالة ما يلي: ((اخي نبيل بصراحه طالما ترقبنا اصداركم الجديد مثل هلال العيد وحينما قرأت ما كتبته عن الهندية اهملته بالرفوف العالية لأنه مليء بالكذب والتحريف والتشويه والمغالطات التافهة والمخجلة اصلاً وهذا ما توقعته لأنك خالفت وعدك بالاطلاع عليه قبل الاصدار... عذرا لأني كنت صريحاً ومحبا لكم ليس هكذا يكتب التاريخ جداً عيب.. تحياتي واحترامي الكبير لك شخصيا وشكرا))، فهل هذا الرد من قبل إسماعيل محمد سلمان جزاء التعب والإحسان.
    وكان ردي بعد أن اطلعت على الرسالة بوقت طويل بعد أن ارسل إسماعيل أحد اصدقائه ولقائي به بمكتبة ودار نشر الفرات في الحلة ليبلغني أن أطلع على رسالته، وفي يوم الخميس الماضي الموافق 26/8/2012، اطلعت على الرسالة وكان الجواب من قبلي ((يا إسماعيل كُن مهذباً في الرد والكتابة معي))، وتم حظره من قبلي من على صفحة الفيس بوك وإلغاء صداقته، إلا أنه تمادى في التجاوز وتصرف بعيداً عن الأخلاق وُسنهُ الكبير الذي تجاوز ((70)), عاماً ونشر في يوم الجمعة الموافق 27/8/2021 ما يلي: ((ملاحظات نقديه حول كتاب (نبيل الربيعي) عن تاريخ الحزب الشيوعي في بابل... من المعروف لدى الجميع ان التاريخ النضالي لا يكتبه سوى المناضلين القدامى والمعاصرين للأحداث السياسية والتنظيمية حصرا وليس شاب من الديوانية هرب من العراق قبل عشرون عاما وعاد بعد السقوط ولن تكون لن ارتباطات حزبيه ولا مشاركات نضالية تذكر  مع الحزب في كردستان العراق ولا منظمات الحزب بالخارج فضلا عن انه لحد الان يرفض الارتباط  بالحزب لشعوره بالانوية والتعالي على الاخرين والتفرد ...
    وبعد صدور كتابه الاخير والاطلاع عليه لاحظت هناك الكثير من المغالطات والكذب والتسويف وغياب اسماء من المناضلين البواسل امثال (جعفر اللبان وعلي عجام وهادي كاظم وكثيرون تطول القائمة) واخذ معلومات مغلوطه من اناس بعيدون كل البعد عن الحزب طوال حياتهم ومن المدعين زورا ..
   لذلك كان لزاما علينا تنبيه الكاتب  وتبيان الحقائق  وللأسف كان رده عنيفا وقاسيا بعيدا عن الروح الديمقراطية والاخلاقية واحترام الرأى المقابل رغم علاقتي الصداقية الوثيقة معه بالذات وتقديم له النصائح والارشادات برسالته نصا لنا.. اسلوبك كان غير مهذبا يا اسماعيل مع الكاتب نبيل ومن هذه الساعة سيتم حضرك) ياللحماقة هل هذه اخلاقية واسلوب الباحثين والكتاب المحترمين حينما يتعرضون للنقد والنصيحة ..لذلك كان لزاما علينا ان نرد اولا دفاعا عن كرامتنا كرحل كبير ابكد ابوه وشيوعي قديم يعرفني الجميع. واقول له ان (الكلام صفه المتكلم) فيا (نبيل الربيعي) لا تشرفني بعد اليوم ان تكون لي صديقا وحبذا لو بقيت على كتاباتك عن اليهود والصابئة وتبتعد عه هذه المسؤولية التاريخية لأنك ليس من مستواها وغير اهلا لها مو شغلتك ..وبهذه المناسبة اود التوضيح ان من جمع هذه المعلومات بجهود استثنائية بفضل رفيفنا العزيز (ابو زاهد .محمد علي محي الدين ) وتحركاته النشيطة باللقاء مع الاخرين ومع ذلك كنت انانيا ومصرا ومصرا بعدم ذكر اسمه بالكتاب. (رحم الله امرىء جب الغيبه عن نفسه) لان الغرور والمغالاة والتشنج ليس من صفه المثقفين والباحثين والكتاب المرموقين والمتنورين. بل العكس ضرورة احترام الرأى الاخر وسعه الصدر اذا كان كل من ينتقدك او يقدم لك معلومه جديده وصحيحه تتجاوز عليه وتعتبره غير مهذب وتحضره بالوقت الذي كتابك ينطبق عليه المثل الشعبي القائل (تهبش عويز وحده بالهاون ووحده بالجاون) لذلك كنت انت الغير مهذب ولا مؤدب  للأسف الشديد ..فيا نبيل كن نبيلا واحترم الآخربن واعرف حجمك وحدودك ... والسلام اسماعيل محمد السلمان)).
    وانا اتساءل هل هذه بصدق ملاحظات نقديه حول كتاب، فهل البحث والتوثيق يعتمد على ((المناضلين القدامى فقط)) كما يذكر حضرة إسماعيل، فإذا كان كذلك فالكاتب والباحث حنا بطاطو قد وثق تاريخ العراق السياسي في كتابه علماً أنه مؤرخ فلسطيني مختص في تاريخ المشرق العربي الحديث. ربما يكون الأكثر أهمية بين أعماله الأكاديمية بحثه التاريخي الاجتماعي عن العراق الذي يعتبر أهم مرجع عن تاريخ وتطور العراق الحديث. واذا كنت من مدينة الديوانية فأنا اتشرف بذلك. وسؤالي فهل هذا اسلوب للرد على كاتب وباحث مثلي قد خدم الحزب منذ عام 1973م وتعرض للاعتقال في مدينة الديوانية وترك مدينته واستقر في مدينة الحلة ثم هاجر خارج العراق واستقر في مملكة الدنمارك عام 2001م حتى سقوط النظام، ثم عام مباشرةً بعد سقوط النظام في شهر آب من عام 2003م، علماً أن الكتاب كان مشتركاً بيني وبين الباحث محمد علي محيي الدين، فلماذا لم يرسل رسالته كذلك إلى محمد علي محيي الدين، ولماذا أنا المقصود؟ علماً أن اتصالي بالحزب فردي ومستمر على دفع التبرعات للحزب، وهل كان إسماعيل محمد سلمان قد يتقصدني شخصياً؟ علماً أنه أكثر من مرة طلب حذف اسم الباحث محمد علي محي الدين من الكتاب ويدعي أنه غير ذات ثقة، لكني رفضت وكان هذا التصرف الغير مسؤول من قبل إسماعيل محمد سلمان، وهل هذا تصرف شيوعي جدير؟
    فأما أن يتحول الكلام إلى مهاترات وردود غير مفهومة فيها احقاد وغيرة وحسد في طرحها الغير فكري، وهذا لا يليق بشيوعي مثقف مثل إسماعيل ولا يليق بتاريخ الحزب، وان قلت أنك اكبر من والده هذا سن عمري فأنا من مواليد عام 1958م وعمري اليوم تجاوز (63) عاماً، وليس له علاقة بالتدوين التاريخي مطلقاً ولا بالتسلسل الحزبي أو التدرج في المسؤوليات الحزبية وكلنا نخطأ لكوننا خارج العصمة والخطأ حينما نعمل، يعني نحن مستمرون في النضال وفاعلون فمن لا يخطئ لا يعمل. كلامي هذا كشيوعي استعمل فيه النقد والنقد الذاتي من الآخرين.
    فالأخ إسماعيل كان متسرعاً بالرد في موضوعة التوثيق لمنظمة الحزب، وقد تطرف بطرحه، وهذا التطرف لم يكن في مكانه الصحيح مطلقاً. وما علاقة الكتابة عن الأديان ودس هكذا مفردات غير لائقة فيما يريد إسماعيل أن يقوله. وكان من الاجدى أن يتكلم مع شريكي في الكتاب محمد علي محيي الدين، فنحن معاً منذ ((4)) سنوات ندون ونوثق بهكذا مشروع، ولكن إسماعيل غض الطرف عن محمد علي محيي الدين ولا اعرف السبب. والاجدر بإسماعيل أن يبادر حينما بدء مشروع التدوين لمنظمة الحزب في الحلة، وأن يشد حزامه وساعده بالقلم والذكريات معنا قبل أن يصدر الكتاب، ونحن لسنا بعيدين عنه. وهل من المنطق أن يكيل المفردات الغير سليمة ويشير ليَّ بالتشهير، بأني غير صادق وغير أمين، وأنا معروف لدى الجميع بعيداً عن الشخصنة والأنويات. وكان الأجدر من إسماعيل أن يبادر بالكتابة بخصوصيته وما يتذكره ويعرفه، وليكن كتاب منفرد فيه دعم اقواله وسند لدفعه في تصحيح أو تنقيح ما جاء في هذا السفر الشيوعي الرائع، وكما فعل رفيقنا جاسم الحلوائي عندما صوب في رده وتصحيحه لما كتبه ودونه الراحل الرفيق عزيز سباهي وغيره ممن رفدوا توثيقهم عن فترات الحزب.
    وكما ذكرت كان كتاب إسماعيل محمد سلمان أحد المصادر، فإذا كان يشكك في المعلومة وكما ذكر في رسالته ((لأن الكتاب مليء بالكذب والتحريف والتشويه والمغالطات التافهة والمخجلة))، فهذا يدل على أنه يقصد كتابه الذي اعتبرناه مصدراً في التوثيق. لكن إسماعيل كان متجني ومفتري عليَّ وعلى الكتاب، علماً في موضوعة التوثيق لمنظمة الحزب قد بذلنا جهداً كبيراً مع محمد علي محيي الدين، وقد نشرت على صفحات التواصل الاجتماعي طالباً من الرفاق والأصدقاء ممن لديه معلومات أو وثائق عن منظمة الحزب أن يرسلها على البريد الالكتروني أو على الماسنجر، إلا أن إسماعيل محمد سلمان قد تطرف بطرحه هذا وتجاوز علينا، وهذا إن دلَّ على شيء فهو تطاول وتجاوز على مسيرة الحزب. فأنا أطلب من حضراتكم في محلية بابل اتخاذ الاجراء اللازم أو مقابلتنا بحضور سكرتير وأعضاء محلية بابل. ولكم فائق الشكر والتقدير.
    بعد اللقاء الذي دعانا إليه نائب سكرتير اللجنة المحلية في بابل الرفيق بهجت الجبوري يوم الخميس 2/9/2021، والإطلاع على محتوى رسالة إسماعيل محمد سلمان ومطالبته بحذفها من على صفحات التواصل الاجتماعي، وإدانته بتجاوزه الغير مبرر، كان قرار الحزب أن يقدم اعتذار على صفحته في الفيس بوك للكاتب والباحث نبيل الربيعي، إلا أنه يخشى أن يقدم الاعتذار، وكتب (تنويه) وبما يلي: ((بعد اللقاء المشترك وباشراف الحزب بيني وبين الكاتب (نبيل الربيعي) تم الاتفاق على معالجه نقاط الخلاف بروح الحرص على مصلحه الحزب اولا وقطع الطريق امام المتربصين والحاقدين والتعاون على انجاح موضوع البحث وتنقيه المعلومات وتعزيز الجهود المبذوله لتوثيق تاريخ حزبنا المناضل... وشكرا تحياتي للجميع ..)).
فما أقوله لإسماعيل محمد سلمان (ما هكذا تورد الإبل يا سلمان).

92
كتابي الصادر بعنوان (المسيحيون في  العراق بين عراقة التاريخ وأزمات التهجير)
نبيل عبد الأمير الربيعي
     انتشرت المسيحية الشرقية بين عدة قبائل عربية في العراق منذ القرن الأول الميلادي، إذ أسس مار ماري حوالي سنة (49م) كرسيه في العاصمة المدائن، والذي امتدت بشارته إلى الراذان، وكسكر، ومن بين القبائل التي انتشرت فيها المسيحية، قبائل الحيرة والأنبار وعين تمر وميشان وعاقولا (الكوفة)، وجرجاريا، وكلواذي، والموصل، والبصرة، وحدياب، والمرج (مركا) وكرخ سلوخ (كركوك) وتكريت، وغيرها من الأماكن العديدة في العراق. فضلاً عن قبائل العباديون في الحيرة، وبنو عجل من قبائل بكر بن وائل، والاياديون، والمضريون، والتنوخيون، وبنو لخم، والطائيون، وبنو سُلَيم، وقبيلة تغلب الشهيرة، والشيبانيون، وبني عقيل والأزديون، إضافة إلى متنصرة الآراميين (السريان الشرقيين النساطرة، والسريان الغربيين اليعاقبة)([1]).
    أما الحيرة التي أقامها الفرس إمارة على الضفة اليمنى من نهر الفرات، وعرفوا باللخميين أو المناذرة، لتكون همزة وصل بينهم وبين العرب، وكان الرومان قد أسسوا إمارة الغساسنة العربية في بلاد الشام للهدف نفسه، وفي القرن الخامس أصبحت الحيرة أبرشية مشرقية ولها أسقف اسمه هوشع، اشترك في مجمع اسحق عام 410م([2]).
      كان للمناذرة أثر ٌ كبير في بناء الأديرة، وانتشرت المسيحية في شبه الجزيرة العربية وبلدان الخليج، وخصوصاً بلدان الشاطئ الغربي التي كانت تعرف ببيت قطرايا، وأعطت كتاباً مشهورين، كأيوب القطري واسحق النينوي وجبرائيل وإبراهيم. فضلاً عن تمتع أبناء الديانة المسيحية في الخلافة الإسلامية بسقف من الحرية، وفرَّ لهم الاسهام في بناء صرح الحضارة العربية والإسلامية، التي عدوها جزءاً من تراثهم وتفاعلوا معها، لا سيما في حكم العباسيين الأوائل، وبوساطتهم نقلت الثقافة والفلسفة العالمية آنذاك إلى العربية، ومنها إلى الغرب([3]).
      عندما جاء العرب المسلمون إلى ما يسمى اليوم بالعراق، كان تقريباً نصف سكانه من مسيحيين، وظلت المسيحية مزدهرة في العراق وصارت فيها مؤسسات من مدارس ومستشفيات (بيمارسانات) وأديرة، ذكر الأب هنري لامنس اليسوعي عن انتشار لغة السريان قائلاً: "من عجيب الأمور أن انتشار لغة الآراميين بلغ في عهد السلوقيين مبلغاً عظيماً، فأصبحت اللغة السائدة في كل آسيا السامية، أعني في سوريا وما بين النهرين وبلاد الكلدان وجزيرة العرب... وكان العرب المسلمون ايضاً يدرسونها لكثرة فوائدها.. ولا نظن أن لغة أخرى، حتى ولا اليونانية، جارت السريانية في اتساع انتشارها، اللهم إلا الانكليزية في عهدنا". أما سليم مطر، فيبين مدى تأثير السريانية على العربية قائلاً: "اللغة العربية طورت نفسها، وكونت نحوها من خلال تجربة اللغة السريانية... كما أسهم المسيحيون في بغداد اسهاماً واسعاً في خلافة بني العباس عند تشييد بغداد مدينة السلام عام 762م في الرصيد الحضاري والاقليمي والعالمي مع العرب، وكان لهم الدور الكبير في دواوين الخلافة، وشكلّوا حالة متميزة في تاريخ التفاعل الثقافي في العراق، كما كانوا عنصر إبداع حقيقي من خلال خبرتهم ومعارفهم في تطوير العلوم، كما ساهموا في الإلهيات والفقه والفلسفة والمنطق والطبيعة والرياضيات وعلم الفلك والطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والبناء والموسيقى والأدب والزراعة والتجارة، ويشهد على أهمية هذا الدور اتساعاً وتنوعاً ما جاء في كتاب ابن جلجل الاندلسي (طبقات الاطباء والحكماء) وفي (الفهرست) لأبن النديم، وفي باب الفلسفة والعلوم القديمة، كما اسهم المسيحيون في عهد الخليفة العباسي المأمون في الاتصال بـ(بيت الحكمة) الذي كان يتردد إليه المسلمون والمسيحيون بجميع مللهم"([4]).
   ما زل المسيحيون جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي والتاريخي العراقي، ولعلَّ واحداً من سرّ جمال التكوينات الثقافية العراقية، لكن كان واحداً من المشاهد الدرامية التي زادت الصورة قتامة في العراق بعد عام 2003م، هو تفجير أربع كنائس مسيحية في بغداد، وكنيستين في كركوك، راح ضحيتها العشرات من المواطنين الأبرياء والعزّل.
   لقد تعرّض المسيحيون في العراق إلى أنواع شتّى من التمييز والاضطهاد، فقد عانوا لكونهم جزءاً لا يتجزأ من النسيج العراقي المسالم، الذي يعاني من تمزّق طائفي واحتلال وإرهاب، ومن جهة أخرى لكونهم مسيحيين إذ ينظر إليهم باعتبارهم (فئة أدنى) بعيداً عن حقوق المواطنة والمساواة، خصوصاً في ظل الاحتقان الطائفي والإثني والمحاصصات والتقسيمات التي جاء بها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد الاحتلال([5]).
    وتعرّضت الكنائس المسيحية، لا سيما في بغداد وكركوك إلى تفجيرات، وتعرض المسيحيون في البصرة والموصل إلى ضغوط شتى، حين جرت محاولات لإجبار النساء على ارتداء الحجاب أو قتل رجال الدين أو إغلاق الكنائس، أو صدور فتاوى زائفة من بعض رجال الدين المتأسلمين لإجبار المسيحيين على دفع الجزية (250) دولار شهرياً مقابل السماح لهم البقّاء في بيوتهم كونهم من أهل الذمة، أو عليهم إشهار إسلامهم. وبسبب هذه الأعمال هاجر آلاف المسيحيين العراق إلى دول الجوار أو الهجرة إلى أوربا لغرض الاستقرار والحفاظ على حياتهم.
     يشمل الكتاب الأهداء ومدخل ومقدمة وثمان فصول وخاتمة،  تضمن الفصل الأول الجذور التاريخية للديانة المسيحية في بلاد الرافدين، والفصل الثاني العبادات من ما يشمل الصلاة وقبلة الصلاة لدى المسيحيون، وأعيادهم، والصيام، والفرق بين النصرانية والمسيحية، والأناجيل الأربعة، والأناجيل المنحولة، والطوائف المسيحية في العراق.
    أما الفصل الثالث قد احتوى الكنائس والأديرة المسيحية في العراق، والأقوام التي تبَنت الديانة المسيحية، والتبشير المسيحي في مملكة حدياب، والتبشير المسيحي في مدينة الرها (أورهاي)، والتبشير المسيحي في مملكة الحيرةـ وسياسة الساسانيين تجاه المسيحية، ودور النصارى في نشر الخط العربي، وموروث الكنيسة في بلاد الرافدين.
    أما الفصل الرابع فقد شملَ المسيحية في ظل الإسلام، والمسيحيين في عهد الخلفاء الراشدين، والدرجات الكنسية للكنيسة الشرقية، والمسيحيين في عهد الخلافة الأموية، والمسيحيون في عهد الخلافة العباسية، والمسيحية في عهد المغول، والمسيحية في العهد الجلائري.
    أما الفصل الخامس فقد أحتوى على دور المسيحية في ظل الدولة العثمانية، وحياة المسيحيين في الموصل، والكنيسة الشرقية وواقع حال الطوائف المسيحية، ومعالم الحياة الاجتماعية لمسيحيي العراق، واضطهاد المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية، والمذابح العرقية للأرمن، وأماكن تواجد مسيحيي العراق.
    أما الفصل السادس فقد تضمن دور مسيحيي العراق في العهد الملكي، وما حصل من اضطهاد للآشوريين في العراق، من معركة ديرا بون، ومجزرة قرية سُميّل. ومسيحيي العراق ودورهم في المجلس النيابي.
    وقد شملَ الفصل السابع مسيحيي العراق في العهد الجمهوري الأول والثاني والثالث، ومذبحة صوريا 1969م في عهد نظام البعث، والمسيحيون في عهد صدام حسين 1979م.
    واحتوى الفصل الثامن والأخير وضع المسيحيين بعد عام 2003م وما تعرضوا له من اختطاف وتفجير لكنيسة سيدة النجاة، وتهديد ورعب من قبل الارهاب وداعش عندما اجتاح الموصل، وتأثير زيارة البابا الأخيرة للعراق.
    استعانت الدراسة والتوثيق على العديد من المصادر ولا سيما الدراسات والكتب العربية والمترجمة التي تناولت تاريخ مسيحيي العراق منذُ القرن الول الميلادي، فضلاً عن المقالات المنشورة في الصحف والمجلات. على الرغم من الجهود المضنية لغرض انجاز هذه الدراسة وتقديمها في الوقت المناسب بصورة لائقة، أرجو أن أكون قد وفقت فيما اصبوا إليه، وفي بلوغ ما رميت في جهدي هذا، الشكر موصول لكل من أبدى المساعدة في اتمام هذا الكتاب.
 


________________________________________
[1] شيماء عبد الباقي محمود. المسيحيون في العراق حتى أواخر القرن السابع الميلادي. دار الحكمة. بغداد. 2014. ط1. ص4.
[2] سعد سلوم. المسيحيون في العراق. التاريخ الشامل والتحديات الراهنة. مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية. بغداد. بيروت. 2014. مقال لبطريك الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم. تحت عنوان مسيحيو العراق في ظل الحكم العربي الإسلامي. ص157.
[3] المرجع السابق. ص158.
[4] المرجع السابق. ص160.
[5] عبد الحسين شعبان. أغصان الكرمة المسيحيون العراق. مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية. ط1. 2015. ص213.

93
عطشان ضيول ودوره في تنظيمات القوات المسلحة (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    ساهم عطشان في جميع الانتفاضات الشعبية حقبة الخمسينيات، كما عمل في لجنة العمل الديمقراطي والمنظمات المهنية. فعطشان ضيول كان مثقفاً ثقافة محلية بإطارها الأممي التقدمي ذات البعد المتطرف، وبخاصة عن عمله عضواً في اللجنة المركزية تحت قيادة بهاء الدين نوري أولاً، واللجنة المركزية التي كانت بقيادة حميد عثمان ثانياً؛ بسبب اساليب الأثنان الاستالينية في إدارة الحزب منتصف خمسينيات القرن الماضي.
    وقد اشرف عطشان ضيول على منظمة الحزب (اتحاد الجنود وضباط الصف والضباط) عام 1955م، ومن ضمن الضباط الذين اشرفوا على التنظيم كلٍ من (محمد عبد الرحيم، وإبراهيم حمودي الغزالي، وكاظم مرهون، وطه صالح السلطان، وعدنان محيي الدين الخيال، وأحمد حسن، ونور إسماعيل وآخرين(1).
    وكان للحزب علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعددٍ كبير من الضباط بين هؤلاء (الزعيم الركن داود الجنابي، والزعيم الركن هاشم عبد الجبار، والعقيد حسن عبود، والعقيد عبد الرضا عبيد، والزعيم إبراهيم الجبوري، والمقدم موسى إبراهيم، والعقيد طه السلمان والعقيد سلمان الحصان، والعقيد فاضل عباس المهداوي، والعقيد الركن ماجد محمد أمين، والعقيد الركن كافي النبوي، والزعيم الركن عبد الله سيد أحمد، والعقيد جلال بالطة، والرئيس الأول المتقاعد فاتح الجباري، والرئيس رسول مجيد، والمقدم لطيف حسن، والمقدم محمد عبد الغفور، والمقدم إبراهيم الغزالي، والرئيس غازي الدخيل، والرئيس الأول عربي فرحان، والعقيد عبد الباقي كاظم، والعقيد الركن مجيد علي، والمقدم محمد علي كاظم، والمقدم جواد كاظم التعيسي، والمقدم كاظم عبد الكريم، والمقدم إبراهيم كاظم الموسوي، والمقدم عمر فاروق، والمقدم عبد الرزاق غصيبة، والرئيس الأول سعيد مطر، والمقدم علي شريف، والرئيس الأول مصطفى عبد الله، والرئيس حامد مقصود، والرائد فاضل البياتي، والرئيس إحسان البياتي، والرئيس الأول نوري الونّه، والملازم الأول رشاد سعيد، وآخرين(2).
    إلا أن عطشان ضيول الأزيرجاوي قد انخرط بالفعل السياسي في المؤسسة العسكرية منذ انتسابه إلى الكلية العسكرية لحين ارساله إلى الاتحاد السوفياتي للدراسة الحزبية عام 1961م، وهي طريقة لإبعاده عن الساحتين السياسية والعسكرية عامة والحزبية خاصة، بعد صدور أمر إلقاء القبض عليه من قبل الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي ومن مديرية الأمن لعامة.
    وفي عام 1954م ساهم عطشان ضيول في حركة انصار السلام منذُ عقدها لمؤتمرها الأول في بغداد رغم مرور (4) سنوات على انشاء لجنتها التحضيرية، نتيجة متابعة الشرطة السرية وما مارسته من قمع مادي ومعنوي إزاء الحركة.
    وفي حزيران عام 1955م تمت إعادة انتقاء عطشان الازيرجاوي إلى عضوية اللجنة المركزية، في اللجنة الأولى لسلام عادل والتي كانت قوامها (9) أعضاء هم كلٍ من: حسين أحمد الرضي، عامر عبد الله، عبد الكريم أحمد الداود، فرحان طعمة، جورج حنا تلو، محمد صالح العبلي، هادي هاشم الأعظمي، عطشان الازيرجاوي، وناصر عبود(3).
    كما حافظ عطشان ضيول على ذات المركز في اللجنة الثانية بعد نجاح سلام عادل السكرتير الأول للحزب في توحيد المنظمات والشخصيات الشيوعية التي انشقت في فترات سابقة عن الحزب؛ وبخاصة في الاربعينيات ومطلع الخمسينيات (راية الشغيلة) حتى عادت للتنظيم في حزيران 1956م. وعلى أثر الكونفرنس الثاني الذي تم عقده في ايلول 1956م، ارتفع قوام اللجنة المركزية ومرشحيها من (9) أعضاء إلى (18) عضواً، وهي التي قادت العمل الحزبي لغاية ايلول 1958(4).
    وقد شارك عطشان ضيول في الكونفرنس الثاني للحزب الذي انعقد في ايلول 1956م، لكن هناك رأي حول إخراج عطشان من قوام اللجنة المركزية في العام 1957م، ودون ذكر أسباب إخراجه(5).
    إلا أن عطشان ضيول كان ضمن قوام اللجنة المركزية الثالثة لحسين الرضي (ايلول 1958- تشرين الثاني 1961) باعتباره أحد المسؤولين بصورة مباشرة عن التنظيم العسكري للحزب، وربما أعيد عطشان ضيول إلى عضوية اللجنة المركزية بعد انتهاء موسع أيلول 1958(6).
    في حين لم يورد اسمه ضمن قوام اللجنة المركزية الرابعة لحسين الرضي (تشرين الثاني 1961- شباط 1963) بسبب ايفاده للدراسة في الاتحاد السوفيتي في مدرسة الكوادر الفلاحية في طشقند، بعد إصدار الحاكم العسكري ومدير الأمن العامة أوامر إلقاء القبض عليه(7)، كما ذكرنا ذلك سابقاً.
المصادر:
1- ثابت حبيب العاني. صفحات من السيرة. مصدر سابق. ص179.
2- عزيز سباهي. عقود نت تاريخ الحزب. مصدر سابق. ج2. هامش ص250.
3- صلاح الخرسان. صفحات من تاريخ العراق السياسي الحديث "الحركات الماركسية" 1920 - 1990. بيروت. مؤسسة العارف للمطبوعات. ص76؛ حنا بطاطو. ج3. ص14.
4- حنا بطاطو. العراق. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ترجمة عفيف الرزاز. مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت. ط2. 1995. ج3. ص18/20.
5- صلاح الخرسان. صفحات. مصدر سابق. ص79/81.
6- صلاح الخرسان. صفحات. مصدر سابق. ص89.
7- حنا بطاطو. العراق. مصدر سابق. ج3. ص18 وص160 وص271.

94
قراءة في كتاب نبيل الربيعي (المسيحيون في العراق بين عراقة التاريخ وأزمات التهجير)
د. نصير الحسيني
    المسيحيون في وادي الرافدين لهم تاريخ موغل في القدم، ويمثل جزءاً من حضارة وتاريخ العراق عِبرَ عصوره المختلفة، ويتحفنا الباحث الجاد نبيل الربيعي بمؤلفه الجديد (المسيحيون في العراق.. بين عراقة التاريخ وأزمات التهجير)، متنقلاً بين عراقتهم التاريخية وأزمات التهجير التي عانو منها  نتيجة تقلبات الوضع السياسي المعقد في العراق عِبرَ التاريخ، ورسم كتابه في ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة وأكثر من (250) مصدر ومرجع جمعها في 258 صفحة من الحجم الوزيري.
    تناول الربيعي في الفصل الأول الجذور التاريخية للديانة المسيحية في بلاد الرافدين، ومنهجهم اللاهوتي، والثالوث المقدس، وبحث عن السيد المسيح (ع)، وتطرق الربيعي إلى مفاهيم التنزيه، والتشبيه، وصفات الله عندهم، وحرية الإنسان، فضلاً عن التوحيد، إضافةً إلى النسطورية، واليعقوبية، والملكية.
    ثم يتطرق الباحث في الفصل الثاني من كتابه إلى العبادات، والصلاة والأعياد، والصيام والفرق المسيحية، والأناجيل الأربعة، والأناجيل المنحولة، والطوائف المسيحية في العراق. تمثل الصلاة في المسيحية صلة الشخص بالله، وتتلخص في القول صفحة 40: (فمتى صليت فادخل إلى مخدعكَ وأغلق بابكَ وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك في الخفاء يجازيكَ علانيةً). وتكون الصلاة بطهارة القلب والتطهير من الشهوة، وغض البصر والابتعاد عن (الحسد والكره، والحقد، والكبرياء، والغيرة، والغش، والخداع، والكذب وإلى غير ذلك. ثمَ يعرج إلى أعيادهم الطقسية عبرَ سبعة أزمنة تختلف في مدتها، ومن أعيادهم: عيد الميلاد، وعيد معمودية يسوع في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، وعيد الفصح (البباسكا) عيد القيامة، وغير ذلك من الأعياد، ويتطرق إلى الصيام – والصيام في المسيحية يعد فترة انقطاع عن الشهوات الجسدية والروحية، وينقسم الصيام إلى الصوم الكبير، ويتم صيامه قبل عيد القيامة، والصوم الصغير ويتم قبل عيد الميلاد. ويمثل الصوم عمل تعبدي وليس فريضة، والهدف منه التذلل والتواضع بين يدي الله.
    وكسرً في الفصل الثالث من كتابه على الكنائس والأديرة في العراق والأقوام التي تبنت المسيحية مروراً بالتبشير، وعلماء مملكة حدياب، ويذكر الباحث في صفحة 65 يقول: (انتشرت الأديرة في أواخر القرن الرابع الميلادي في أطراف العراق، وقادها عراقيون ربطوا بين الإيمان والعلم)، ويمر الباحث على بعض الكنائس، مثل كنيسة بابيرا، وكنيسة قصر سويج، ومصيفنة، وخربة دير سيتون، وبازيان، والخضراء، وكنيسة مار جرجيس، والطقوس الدفينة، والعبيد، والبو عجيل، وعُمر كسكر، وسواها من الكنائس والأديرة المختلفة والمتناثرة في العراق.
    ويعرج الباحث نبيل الربيعي في الفصل الرابع على المسيحية في ظل الإسلام، وما تلاه من عصور وصولاً إلى العهد الجلائري، ويذكر دورهم الثقافي في الأدب والترجمة وإلى غير ذلك من الاهتمامات. ويشير في صفحة 125 إلى بعض ما أشارت له المصادر المسيحية التي أهملها المسلمون لأسبابٍ عديدة منها بسبب كتابة موروثهم باللغة السريانية. ثم يتطرق إلى علاقتهم بالإسلام، وصلتهم مع نبي الرحمة محمد (ص)، ثم ينحو إلى وضعهم في عهد الخلفاء الراشدين، والأمويين، والعباسيين، وبعدها إلى درجاتهم الكنسية حسب لوائح الكنيسة الشرقية.
    يتناول الربيعي في الفصل الخامس المسيحية في ظل الدولة العثمانية وحالهم وطوائفهم ومعالمهم الاجتماعية ومكانتهم في دستور عام 1874م، ودورهم في التعليم، وأماكن تواجدهم، ويمر على المسيحيين في الموصل، ويعدها من المناطق المهمة للمبشرين المسيحيين، ويتحدث عن دور الكنيسة الشرقية وواقع طوائفها.
    ويلتفت الباحث إلى معالمهم الحياة الاجتماعية العراق ويقول في صفحة 218: (عندما جاء عبد المجيد عام 1856م أصدر مرسوماً تضمنت بعض فقراته نصوصاً في حقوق الطوائف غير المسلمة وفي مقدمتها اليهود والنصارى)، ثم يوضح الباحث دور دستور عام 1874م الذي أدخل مفاهيم الديمقراطية الجديدة أبان حقبة الدولة العثماني.
     ومن المسائل المهمة التي يعرج عليها الربيعي مذبحة الأرمن في عهد السلطان عبد الحميد، حيث يقول في صفحة 235 بين عامي 1894م و1896م حدثت سلسلة من المذابح الدينية من قبل قوات الدولة العثمانية ضد كل من الأرمن والآشوريين المسيحيين والمعروفة باسم المجازر الحميدية، ويختم فصله بدورهم في التعليم وأماكن تواجدهم في العراق.
    ويتطرق الباحث في الفصل السادس "إلى مسيحيو العراق في العهد الملكي وما عانوه من اضطهاد فضلاً عن اضطهاد الآشوريين في العراق، ويلتفت إلى معركة ديروان وهي قرية تقع على المثلث الحدودي بين (تركيا، سوريا، العراق)، ويصف ما جرى فيها من سفك للدماء، وتهجير، وإلى غير ذلك من المحن التي لاقوها. ومن ثم يكشف الربيعي الغطاء عن مجزرة سُميل التي وقعت في زاخو عام 1933م.
    ويتحدث الباحث عن دورهم النيابي لاحقاً وأبرز النواب المسيحيين في المجلس النيابي، ويقلب بعض من أوراقهم مثل ثابت عبد النور والخوري يوسف خياط الموصلي وسليمان غزالة ويوسف غنيمة ويوسف عبد الأحد، ورزوق غنام وسليم حسون ويوسف حبيب ، ويوسف سركيس ورفائيل بطي، ويعقوب مراد الشيخ ووديع جبوري وتوفيق السمعاني وعبد الأحد عبد النور، ومتي فتح الله سرسم، وحنا خياط ونجيب الصائغ وعزت مراد الشيخ ويوسف رسام ولطيف حكيم.
   ويكسر الربيعي فصله السابع عن مسيحيي العراق في العهد الجمهوري، حيث يمر على حركة الشواف في الموصل، والمسيحيون في العهد العارفي وما تلاه من عهود مجحفة بحقهم، ويلتفت إلى مذبحة صوريا عام 1969 في عهد حكومة البعث، ويختم فصله بما عانوه من حيف وصولاً إلى عام 2003م، حيث الاحتلال الأمريكي للعراق.
    ويرسي الربيعي قاربه البحثي في فصله الثامن عن المسيحيين بعد عام 2003م، والأزمات الكبرى التي عانوا منها من اختطاف وتهجير وعبث عناصر داعش الإرهابي بمدينتهم الموصل، وصولاً إلى زيارة البابا الأخيرة إلى العراق. ويعدد الربيعي عدد الكنائس والمزارات التي فجرت قبل منتصف عام 2014م وعدد القتلى المسيحيين، وعدد النازحين والتهجير وما عانوه من تطهير عرقي.
    صدر الكتاب عن دار الفرات للثقافة والإعلام بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر عام 2021، ويعد الكتاب التاسع عشر للباحث الربيعي بعد إصداره مجموعة غير قليلة من الكتب، تناول فيها تاريخ يهود العراق، وتاريخ الديوانية واعلامهم، وتاريخ الصابئة المندائيين في العراق، والديانة البابية والبهائية، فضلاً عن أنه كتب عن عدد غير قليل من الأعلام مثل الشيخ إبراهيم القطيفي، وأنور شاؤول فضلاً عن كتابه التوثيقي عن الانتفاضة الشعبانية في الديوانية، وعن الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية وسواها من المؤلفات التي تهتم بالجوانب التاريخية والدينية؛ وإلى غير ذلك من البحوث الكثيرة التي تهتم بكتابة وارشفة تاريخ الأقليات في العراق.
    أبارك للباحث نبيل عبد الأمير الربيعي هذا الإنجاز، ومما يجدر الإشارة إليه أن للربيعي مجموعة مخطوطات تنتظر عرس ظهورها.
 
العراق- الحلة – الأول من تموز 2021

95
(القرنفل الشقي.. أوراق من سيرة الأيام)
نبيل عبد الأمير الربيعي
  كان هذا الشقي يمتلك الجرأة في كسر الحواجز، وصنع الصورة المكثفة، من خلال إرادته وعبثيته وعدم مبالاته بمصائر الأمور، فالسرد كان صادم ومستفز أحياناً، لكنها إرادة أديب أراد أن يتمتع بحرية بعيداً عن كل القوالب الجادة، واعتبر نفسهُ إنساناً يستحق أن يفعل بإرادته كل ما يرغب فيه من تنازعات الجسد والرغبات والغريزة، ذلك هو الأديب والكاتب والباحث والشاعر ذياب مهدي محسن آل غلام، الذي جسد كل أموره الصعبة في كتابه الموسوم ((القرنفل الشقي.. أوراق من سيرة الأيام)) الصادر هذا العام عن دار سما للطباعة والنشر والتوزيع وبواقع (486) صفحة من القطع الوزيري ذات الطباعة الراقية والغلاف الجميل، وقد تضمن الكتاب أكثر من (60) قصة قصيرة عن مغامرات القرنفل الشقي.
    عندما بدأت بقراءة مذكرات أخي وصديقي ذياب آل غلام وجدتها تستفز رغبة الإشارة إليها بين صفحة وأخرى تجعل الكتابة عنها من الأمور الصعبة، لكني سأتحمل مجازفة الاقتراب من هذا الشقي في مذكراته التي كتبها لمرحلة طويلة من حياة الشباب، عائداً ولائذاً بذاكرته لحقبة السبعينيات وما تلاها حتى أيامنا هذه، كانت ذاكرة الشقي ذياب النشطة تمتلك خزيناً من السرد العجيب لوقائع واحداث حقيقية مرَّ بها هذا الشقي، وقد سرد تلك الأحداث بطريقة غير مألوفة لدى الروائيين والأدباء بسبب ما يمتلك من جرأة ومصداقية في نقل الحدث، فأحداث الكتاب يجعلك كأنك تشاهد فلماً سينمائياً واقعياً، فتشدك حتى تجد نفسكَ أحياناً كأنك طرف في هذه الأحداث الرومانسية، وهذا ما اتقنه الشقي ذياب ببراعة الكاتب وحبكة تظل تتساءل كيف قام بها خلال مرحلة الشباب بين الوعي واللاوعي في الأفعال والنزعات مهما تغيرت الظروف والأماكن.
    في قصصه القصيرة ينقلنا إليها الشقي وكأنها روايات كاملة لدى كُتّاب آخرين، وجرأة الكاتب وانغماسه في واقع المعاشرة بلا رتوش ولا تهذيب ولا محاباة. هذه الروايات التي تجاوزت (60) يعتز بها الكاتب، فهي جزء من حياته وعنفوان الشباب والرجولة، ومن خلال فكرته ورواياته يضعنا أمام تساؤلات تتجمّل فيها طريقة سلوكه لحياة جميلة طَيّعة من أفكار وأفعال وإغراءات وضغوطات وانهيار لكل مقومات الحياة من حوله، وكذلك نجده يعري حواء بقلمه ومبضع العمليات الذي يمتلكهُ، فيصفها ويرسمها ويشرحها، يجعلها ملكة جمال أحياناً ويدعونا لعشقها بعض الأحيان، فوسط هذا الكم الهائل من الروايات القصيرة والسرد الحقيقي، لا بد لنا أن نذكر تلك هي الحقيقة الممتزجة بالواقع والأكثر جرأة على التحليل والفهم، ومشاكسة النفس ذاتها في بعض الأحيان.
    فالأديب ذياب آل غلام قد انفرد بسلسلة أقاصيصه التي اتخذت عنوان (القرنفل الشقي)، وكان السَبّاق في هذا الإنجاز الأدبي المائز، وبنصوص السرد القصصي الغني بالصورة العميقة، ولكني اتساءل هل اختزل الشقي ذياب الأنثى مجرد أداة جنسية تحرض آدم على المعصية؟ أم أنه أخرجنا من قيود أساطير الكتب الدينية لعالم الأنثى بعيداً عن الكتب والروايات الكلاسيكية؟ قراءة كتاب (القرنفل الشقي) دفعتني للتأمل بعقلية الرجل الشرقي الواثق من نفسه. جزيل الامتنان والشكر للأديب ذياب آل غلام لكتابه الماتع هذا والذي أخرجنا من كآبتنا وأمراضنا النفسية ونظرتنا للأنثى إلى عالم الرومانسية والإمتاع الجميل.
   ولا ننسى أن الأديب ذياب مهدي آل غلام قد صدر لهُ في سنوات سابقه عدّة إصدارات في مجال الشعر منها: ليالي البنفسج، وحياة الأيام، والقرمطي لا يخلع عهده، وسونية الغجر، والمشي على أطراف الروح، وعاشق مضرج بالنهد. أما في مجال البحث فقد صدر له من المؤلفات ما يلي: مقهى عبد ننة إرث نجفي عراقي حضاري، والإسلام والماركسية دراسة فكرية مقارنة.

96
مدن في حياة الباحث والمترجم صلاح السعيد
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    عرف العرب أدب الرحلات منذ القدم، وكانت عنايتهم به عظيمة في سائر العصور. وأدب الرِّحلات هو نوع من الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور أثناء رحلة قام بها لأحد البلدان. وتُعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر، مما يجعل قراءتها غنية، ممتعة ومسلية.
    فالذاكرة بطبيعتها تختار وتحسنُ الاختيار، وتخلق من حياة كل امْرُؤٌ طرفة فنية رائعة، وما يكتبه الكتّاب عن مجرى حياتهم منذُ أن درجوا على السفر، أو في أية بقعة وطئتها أقدامهم، أو ما احاط بهم من أحداث تقاذفتهم أو مرّوا بإزائها، وسال قلمهم مصوّراً لها على أديم الورق اعترافات بحسب مقاصد الكاتب، ومحتوى منجزه، وفيها لون من التجانس، وإن كان أكثرها ضبطاً ما حرّرتهُ يراعة الكاتب يوماً بعد يوماً، ومع ذلك إن لون كتابة اليوميات نجدها أرضاً خصبة؛ بذر فيها الكاتب تجاربهُ وأحلامهُ ورؤاه، وهذا ما سجله الكاتب والباحث والمترجم صلاح السعيد في كتابه الموسوم (مدن في حياتي)، الصادر هذا العام عن دار الفرات للثقافة والإعلام مع دار سما للطباعة والنشر، فقد سجل السعيد اعترافات عن حقبة من تاريخ رحلاته المتعددة، الذي عاشها باصراً وبصيراً، ووسم كتابه بـ(مدن في حياتي) وهو المصطلح الأجمل والأشمل والأدق في أدب الرحلات، ولا ريب أن هذا العمل مما ينفع القارئ ويمكث على رفوف المكتبات ليستعين به الباحث والقارئ فيم يستطيع من بحث أو كتابة، ولا سيما ذوو الشأن ممن يشرئبّون إلى معرفة الأحداث والشخوص بلا تزويق.
    الكتاب صدر بواقع (230) صفحة من الحجم الوسط ذات الطباعة الجميلة، وغلاف رائع من تصميم الكاتب نفسه، إذ وثق الكاتب فيه زياراته خلال مسيرة حياته لـ(47) دولة ومدينة، وما حصل من خلال سفراته هذه من احداث ومواقف منذُ شبابه وحتى العقد الثامن من عمره، ومن خلال اطلاعي على هذا السفر الجميل الذي ينقلنا من خلال كلماته من مدينة إلى أخرى؛ وكأننا في سياحة مع الكاتب، واقول حقاً هذا الجنس الأدبي الذي أتى من خلال الحوادث والصور المتتابعة بحسب حركة الحياة، يأتي من خلال يومياته وشغفه في سرد ذكرياته خلال رحلة سفره، وهو نمط الأدباء والمؤرخون الذين يلجئون إلى تدوين ذكرياتهم في هذا العمل، وهم ينثرونها في آثارهم، وأنا اوالي قراءة هذا العمل الجميل يتجاذبني منهج واسلوب المبدعين الذين يمتدون في الزمان والمكان والاتجاهات، ولغة الكاتب السّمحة النافذة المعبّرة تجعل من المترجم أديباً، هذا العمل الممتع المفيد يجمع بين التاريخ والاجتماع والأدب والجغرافيا، وهو سجل توثيقي بارع منسوج على منوال عربيّ اللسان يعبق بأريج المدن حيناً بعد حين.
    الكتاب عبارة عن جملة من التجارب التي ديفت بعطر تراب المدن والعشق للترحال والاستجمام، لقد سرّني هذا العمل الجاد الذي يؤرخ لحقب من حياة الكاتب صلاح السعيد، ولكن نتلمس بارتياح ما فيه من خفّة الروح والحكمة البالغة والنكتة البارعة لسفرتهم إلى الكويت، مما يرد عفو الخاطر من خلال سفراته إلى المدن ليعلل حياته الرغيدة. هذا العمل الأنيق والعميق والودود؛ فيه الخبرة والعبرة والاستمتاع بما يقرأ وينتفع.
    لا ننسى أن الكاتب والباحث والمترجم صلاح مهدي السعيد من مواليد مدينة الحلة عام 1945م، وحاصل على شهادة البكالوريوس في كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية؛ وشهادة الدبلوم باللغة الانكليزية عن المعهد البريطاني في بغداد، ومارس مهنة التعليم في المدارس الثانوية العراقية ومعاهد المعلمين حتى التقاعد عام 1991م، وهو رئيس اتحاد ادباء وكتاب بابل لدورتين، ومترجم للكتب ولعشرات المقالات التي نشرت في الصحف والدوريات العراقية، وحائز على الجائزة الأولى لوزارة الثقافة العراقية/ دار الشؤون الثقافية في مجال بحوث العقائد والانثروبولوجيا عن كتابه الموسوم (طقوس وعقائد ما بعد الموت)، وصدر له أكثر من (30) كتاباً بين التأليف والترجمة منذُ عام 1987م ولغاية صدور هذا الكتاب الذي يعد من أدب الرحلات.

97
قراءة في كتاب فلسطين المتخيلة للدكتور فاضل الربيعي
نبيل عبد الأمير الربيعي
   صدر عن دار الرافدين في بيروت كتاب الدكتور فاضل الربيعي (فلسطين المُتخَيلَّة.. أرض التوراة في اليمن القديم) بمجلَدَين، ويحتوي الأول على على (446) صفحة من الحجم الوزير مدعوم بالصور، كما يتضمن المجلد الثاني على (560) صفحة، الكتاب يخوض في الأساسيات التاريخية في الرواية الدينية التي تخص فلسطين، وتفتيت زعم اليهود والحركة الصهيونية بأن القدس قد انزلت فيها التوراة، بينما يؤكد د. فاضل الربيعي في كتابه هذا وفق الأدلة الدامغة أن التوراة أنزلت في أرض اليمن، كما ينفي الربيعي السبي البابلي لليهود في فلسطين. الكتاب نشره سابقاً باللغة العربية والروسية. والكتاب مليء بالمواقف المختلفة التي تصاحب المغامرة، تمتزج فيها مشاعر الحب مع الأحداث المأساوية في حياة الشخصيات. ويطرح هذا الكتاب في ميدان البحث موضوعاً مثيراً جداً، يبعث على التساؤل والدهشة، هل حقاً أنزلت التوراة في أرض اليمن بدل فلسطين؟ هل الأسماء التي نعرفها للمدن والمواقع في مكان من فلسطين ليست هي، ولكن أيضاً ما الأدلة التي يقدمها المؤلف؟ ما المعطيات التي يستند إليها؟ الموضوع عميق جداً يأتي من عمق التاريخ وعبقه، من النصوص المكتوبة. وتُعد أطروحته "فلسطين المتخيلة" من أهم المؤلفات التي قدّم فيها الربيعي مراجعات المسلّم به في كتب التاريخ، والتي نفى فيها أن يكون الملك داوود حارب الفلسطينيين. ويواصل الباحث في نسفه للموروث التاريخي: "سفن سليمان لم تمخر عباب المتوسط، والحقيقة التي لا مناص من التمعن فيها اليوم: إنّ القبائل اليهودية اليمنية العائدة من الأسر البابلي هي التي أعادت بناء الهيكل في السراة اليمنية وليس في فلسطين، والهيكل لم يُبنَ في القدس قط، وليس ثمة هيكلٌ لسليمان تحت قبة الصخرة".
    كما اعتمد د. فاضل الربيعي في كتابه هذا على كتاب عبد الرحمن الشابندر (المقالات) الصادر في دمشق عام 1993 من اعداد محمد كامل الخطيب تحت عنوان (الاعمال الكاملة.. قضايا وحوارات النهضة العربية)، وفي الكتاب مقالة تعود لعام 1936م فيها إشارة إلى التماثل والتطابق بين المصدرين (الهمداني والشابندر) بالدليل على أن مملكة إسرائيل القديمة لم تكن قطّ في فلسطين.
    ويؤكد الكاتب الربيعي في ص15 قائلاً: "أن المصريين والآشوريين لم يشتبكوا فوق أرضٍ قط، وسفن سليمان لم تمخر عباب المتوسط، ولم ترسُ في أي وقت من الأوقات في موانئ صوّر اللبنانية، وإلى هذا كله، فإن الملك داود لم يحارب الفلسطينيين". كما ينفي الربيعي في كتابه هذا زعم اليهود أنّ الهيكل بُنيَ في فلسطين، وإنما في السراة اليمنية، ودليله على ذلك ما اكتشفه الهمداني بكتابه (الإكليل وصفة جزيرة العرب)، فيؤكد بالقول: "إن القبائل اليهودية اليمنية العائدة من الأسر البابلي هي التي أعادت بناء الهيكل في السراة اليمنية وليس في فلسطين. ومن ثَمَّ؛ فإن الهيكل لم يُبنِ في القدس قط، بل أنّ أسوار أورشليم التي أشرف نحميا على إعادة ترميمها لا وجود لها هناك أصلاً؛ وفوق ذلك ليس ثمة هيكل لسليمان تحت قبة الصخرة، فيما نجد الهياكل في السراة اليمنية، كما وصفها الهمداني، بالتلازم مع ذكر أسماء القبائل اليمنية اليهودية، ودليله على ذلك أن اليمنيين يسمون آثار الأبنية القديمة وحتى هذا اليوم بالهياكل. وبوجه العموم؛ فالقبائل اليمنية اليهودية العائدة من الأسر، هي التي أعادت ترميم أسوار أورشليم انطلاقاً من موضع تسمية التوراة (شعر)، وهذا اسم جبل شهير من جبال اليمن".
    من خلال هذه الادلة يؤكد د. فاضل الربيعي في صفحة 17 من كتابه بأن مملكة إسرائيل اليمنية القديمة شرقي صنعاء أو في نجران وانها لم تكن قط في فلسطين (المصدر عبد الرحمن الشابندر. مجلة الرسالة المصرية العدد 192 في 8 آذار ص5). كما اعتمد د. فاضل الربيعي على كتاب د. كمال صليبي (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، ويؤكد د. الربيعي "أن أحداث وقصص ومرويات التوراة دارت في فلسطين هي مجرد اكاذيب وأوهام مختلفات لا يمكن تعليقه عن وجود مملكة إسرائيل القديمة في نجران (حسب ما يعتقد يهود اليمن)؛ أكثر من مجرد دليل ظرفي قابل للمراجعة. فالهمداني والشعر الجاهلي يقدمان سلسلة لا تكاد تنقطع من البراهين والأدلة أن مرويات التوراة دارت في اليمن. فالتوراة لم تذكر فلسطين بالاسم قط، كما لم تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى فلسطين.
    إن القدس التي ذكرها د. الربيعي في ص19 من كتابه قائلاً: "أما القدس التي يزعم أن التوراة ذكرتها، فإن النصوص العبرية، وبدعم من نصوص الهمداني والشعر الجاهلي على حدٍ سواء، تشير إلى ثلاثة مواضيع تدعى قدس – قدش، ليس من بينها ما يمكن مطابقته على صعيد التوصيف مع القدس العربية.
   كل ما ذكرت سابقاً هو رأي الكاتب فاضل الربيعي، وفق ادلة هو يعتقد بمصداقيتها، وقد يكون مصيب أو مخطئ إذا ما تمَّ البحث عبرَّ مصادر التأريخ حول النقاط التي ذكرها في مؤلفه.


98
رواية بوشكين (عربي القيصر) ترجمة : د. نصير الحسيني

نبيل عبد الأمير الربيعي

    حياة الكسندر بوشكين (1799-1837م) فيها نزعة التمتع بالملذات وبالحرية التي يصبوا إليها الروس أحياناً، في غفلة من النسيان، وتخطئ دوماً بإنجاب الشباب الروس الغض، وتتجسد فيه منذ الأعوام الأولى لظهوره في أوساط المجتمع، ولن يمارىي أحد بأن ابن الجبل بزيه الحربي الحر وعاشق للحرية، وهو بالنسبة لنفسه القاضي والسيد، يكون أكثر تألقاً، وكلما كانت المادة عادية تتطلب أن يكون الشاعر أكثر سمواً ورفعة بغية أن يستنبط منها ما هو غير مألوف، ومن أجل أن يصبح الاعتيادي غير المألوف، فهل جرى تقييم آخر لأشعاره بعدالة؟ وهل قيم وفهم أحد ما أعماله؟ إن بوشكين يبدو في اعماله الرائعة وفي هذه الإنثولوجيا الرائعة، متعدد المواهب الأدبية والأبعاد بصورة غير عادية، وهو أكثر سعة ورحابة من أشعاره.
    صدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما رواية الاديب الروسي الكسندر بوشكين (عربي القيصر) ترجمة الدكتور نصير الحسيني، وتقديم د. أسماء غريب. تضمنت الرواية (127) صفحة من الحجم المتوسط، اعتمد فيها المترجم على الرواية الصادرة باللغة الروسية الغير مترجمة، وباعتبار الدكتور الحسيني من المتقنين للغة الروسية، ويمتلك لغة عالية في العربية والروسية من خلال دراسته في الاتحاد السوفيتي سابقاً للهندسة المعمارية، والذي صدر له أكثر من منجز ادبي وكذلك في مجال الهندسة المعمارية، وقد تجاوزت مؤلفاته (13) منجز. فنجد في ترجمته الرائعة لرواية بوشكين بما تتمثل بشيء من البساطة والتألق، فهي ترجمة دقيقة مائزة، تجسد كل شيء في حياة الراحل بوشكين من رواية وشعر، ومن خلال هذا الإصدار الرائع تجد نفسك تحتاج أن تقرأ جميع أعمال بوشكين عدّة مرات، في حين هذه الخصال مفقودة في الأعمال التي تتراءى فيها الفكرة الرئيسية فقط، ويمكن اعتبار هذه الترجمة الرائعة حجر الاختبار الذي يُمكّن المترجم د. الحسيني ترجمة بقية اعمال اعلام روسيا، من خلال جمالية اللغة ودقة الترجمة، والتعبير والنقل الجيد دون إضافة أو حذف، فهي ترجمة بسيطة ومتزنة وساطعة وملتهبة وماتعة، وفي الوقت نفسه ذات نقاوة في اختيار الجمل في الترجمة.
    فالشاعر والروائي بوشكين كلما صوّر بقدر أكبر المشاعر المعروفة للشاعر وحده، تتقلص بشكل ملموس دائرة جمهوره الملتف حوله، وفي نهاية المطاف تصبح صنيعة بحيث يمكن أن يُعد على الأصابع عدد متذوقيه الحقيقيين.
    إن الكتابة عن بوشكين الملقب بأمير شعراء روسيا ليست بالمهمة اليسيرة، كذلك الترجمة، فقد كُتبت عنه مئات المجلدات، ولهذا أن الرواية المترجمة (عربي القيصر) تعكس عبقرية بوشكين، فهو مثل غيره من كبار الأدباء والشعراء أبدع في النثر بقدر لا يقل عن إبداعه في الشعر، وقد اختار الدكتور نصير الحسيني من اعماله تلك والتي لم تترجم بدقة سابقاً (روايته عربي القيصر)، فضلاً عن ترجمة بعض الأعمال النثرية له من قبل المرحوم غائب طعمة فرمان وأبو بكر يوسف وراجعها مستعربون روس، فهي أصدق من غيرها من حيث المحتوى. ولا بد لي من الإشارة إلى أن الترجمة من لغات أخرى غير الروسية إلى العربية كثيراً ما تتضمن أخطاء المترجم الأول الانكليزي أو الفرنسي وتضاف إليها أخطاء المترجم العربي.
    ويلاحظ في العديد من التراجم الأخرى تحوير في الأسماء الروسية، وأن الاسماء اللاتينية حين تطلق على الشخصيات الروسية تفقد هذه الشخصيات صورتها في جو القصة أو الرواية. والقصة المنشورة (عربي القيصر) يروي فيها بوشكين قصة جده الأكبر إبراهيم الذي أرسله القيصر إلى فرنسا لدراسة العلوم العسكرية؛ وعودته إلى روسيا بعد سلسلة من المغامرات في إسبانيا، حيث حارب إلى جانب الفرنسيين وعلاقته الغرامية في باريس مع كونتيسة فرنسية من النبلاء التي أنجبت منه صبياً تم إخفاؤه عن زوج الكونتيسة وبعيداً عن باريس.
    ويتحدث بوشكين عن كيفية اتخاذ بطرس الأكبر قراره أن يتزوج إبراهيم من ابنة أحد النبلاء الروس بغية أن يوطد مركزه في مصاهرة أحدهم. والقصة كلها من بنات خيال بوشكين، حيث أن جده الأكبر لم يتزوج ابنة نبيل روسي بل ابنة تاجر يوناني. ويقول نيقولاي غوغول بحق بوشكين ما يلي : "عندما يذكر اسم بوشكين تنبجس على الفور الفكرة حول وجود الشاعر القومي الروسي. وفعلاً لا ضاهيه له في هذا أي أحد من شعرائنا ولا يمكن تسمية أحد غيره بالشاعر القومي: فهذا الحق يعود إليه حصراً. وتجسد فيه، كما لو كان معجماً لغوياً، كل غنى وقوة ومرونة لغتنا".

99
يوميات الانتفاضات الشعبية في بابل 2011-2021 ) دراسة ميدانية
نبيل عبد الأمير الربيعي
صدر حديثا عن دار الفرات للثقافة والاعلام - العراق - بابل 19-5-2021 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر  والتوزيع كتابي الموسوم ( يوميات الانتفاضات الشعبية في بابل 2011-2021 ) دراسة ميدانية. تضمن الكتاب (292) صفحة من الحجم الوزيري. الأهداء: كان.. إلى ثوار انتفاضة تشرين 2019م الباسلة...إلى شهداء وشهيدات الانتفاضة الخالدين.
    لقد شمَّلَ الكتاب مقدمة وخمسة فصول، متفاوتة في عدد الصفحات، تناولت في الفصل الأول مفهوم الانتفاضة وحق التظاهر القانوني، ومعنى الانتفاضة لغوياً، والألفاظ ذات الصلّة، والانتفاضة وفق القانون العراقي، والتظاهرات واتفاقية حقوق الإنسان، وحرية التظاهر في القانون العراقي، ونبذة تاريخية عن الانتفاضات الشعبية في العراق وفي مدينة الحلة خاصة.
    وعُنيَّ الفصل الثاني بالانتفاضات الشعبية بعد عام 2003م، واحتوى هذا الفصل على مبحثان، المبحث الأول احتجاجات 25 شباط 2011، والمبحث الثاني احتجاجات تموز 2015م، وأهداف المتظاهرين، ويوميات الاحتجاجات لعام 2015م، واسباب اجهاض الانتفاضة.
    أما الفصل الثالث فقد تضمن المظاهرات الاحتجاجية لعام 2016م، واحتوى على ثلاث مباحث، المبحث الأول تضمن اسباب فشل أي عملية اصلاحية في العراق، والمبحث الثاني تضمن المظاهرات الاحتجاجية لعام 2017م، والمبحث الثالث احتوى المظاهرات الاحتجاجية لعام 2018م.
    وتضمن الفصل الرابع الانتفاضة الاحتجاجية لعام 2019م ودوافعها. واحتوى الفصل على مبحثان، المبحث الأول يوميات انتفاضة تشرين الأول 2019م، والمبحث الثاني المظاهرات الاحتجاجية لعام 2020م، ويوميات الاحتجاجات لعام 2020م.
   وتضمن الفصل الخامس اسباب الانتفاضة وما حققته من مكاسب وتحديات المتظاهرين للسلطة المركزية، فضلاً عن أسباب وتداعيات الانتفاضة في العراق، والتعامل مع الانتفاضة، وسيرة ذاتية لشهداء انتفاضة تشرين الأول/ اكتوبر 2019م، وشعارات المتظاهرين، وتأثير الانتفاضة على الشأن السياسي والرأي العام، والإصلاحات الحكومية لأمتصاص غضب المتظاهرين، وتقرير بعثة الأمم المتحدة لانتهاكات المتظاهرين، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في دعم التظاهرات، ودور المرأة البابلية في التظاهرات السلمية.
    استعانت الدراسة والتوثيق للاحتجات السلمية التي حصلت في محافظة بابل على العديد من المصادر ولا سيما الكتب التي تناولت الحركة الاجتماعية الشعبية السلمية، فضلاً عن المقالات المنشورة في الصحف ومواقع الانترنت، إضافة إلى التقراير عبر القنوات الفضائية وتقارير المنظمة الأممية في العراق والمقابلات، ولقاءات عن المساهمين في الانتفاضة وذوي الشهداء؛ وصفحات التواصل الاجتماعي لقادة التظاهرات والتنسيقيات، وبالأخص صفحة (الفيس بوك) للدكتور سلام حربة، لأن ما ينشره الدكتور مصدر ثقة. على الرغم من الجهود المضنية لغرض انجاز هذه الدراسة وتقديمهُ في الوقت المناسب بصورة لائقة. أرجو أن أكون قد وفقت فيما اصبوا إليه، وفي بلوغ ما رميت في جهدي هذا، الشكر موصول لكل من ابدى المساعدة في اتمام هذا الكتاب: د. عدي غني الأسدي، د. عبد الرضا عوض، الدكتور سلام حربة، الباحث صلاح السعيد، الباحث محمد علي محيي الدين، السيد حسن الخزرجي، السيد غالب العميدي.
    تعتبر الانتفاضات والتظاهرات والاعتصامات والإضرابات أدوات شعبية ومؤسسية مهمة في الدول الديمقراطية، للضغط على الأحزاب والحكومات من أجل تنفيذ وعودها وإجبارها على تحقيق حاجات المجتمع الضرورية، لكنها بقيت أداة غائبة عن دوائر التأثير المباشر على السلطة في العراق لسنوات، وذلك لاعتبارات طائفية وإثنية وسطوّة السلاح والميليشيات، والحلول الأمنية، وانتشار الفساد وحداثة التجربة الديمقراطية، وفشل العملية السياسية، إلاّ أنها كانت حاضرة بقوة في التظاهرات المؤيدة لنهج الحكومة أو الأحزاب المتنفذة، خاصة إذا كانت تابعة لتيار أو حزب لديه ميليشيا تحميه من الإعتداءات وقمع الميليشيات الأخرى؛ أو الأجهزة الأمنية.
    التظاهرات أداة صحيَّة لإصلاح اختلالات واعوجاج النظام السياسي وفساده، ففي العراق ومع انطلاق تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر 2019م استخدم النظام العنف المُفرَط، والرصاص الحَيّ، وقنابر الغاز المسيل للدموع القاتلة، والقناصة والخطف والاغتيالات والاعتقالات، إلخ، لكنها ورغم الدماء التي سالت، حققت إنجازات لأول مرة في العراق، وذلك من خلال العامل الشعبي الوطني في عراق الطائفية والمحاصصة والمصالح المكوناتية.
    منذ عام 2005م والعراق يعاني من أزمة الطائفية والإثنية التي فرضتها الإدارة الأمريكية؛ وأيدتها الطبقة السياسية والأحزاب بمبدأ المحاصصة، ورسختها الميليشيات والتطرف بفرق الموت والتهجير والاعتقالات العشوائية، والجثث مجهولة الهوية، إلخ، فظهرَت الهويات الفرعية بقوة وغابت الهوية الوطنية، وأصبحت محل سُخرية الكثيرين، فلا نكاد نلاحظها إلا في مباريات كرة القدم للمنتخب الوطني العراقي.
    إلاّ أن ما فعلته تظاهرات تشرين الأول 2019م هو الدفع باتجاه إحياء الهوية الوطنية، وانتقاد الأداوات التي جلبتها إلى العراق كـمبدأ المحاصصة والميليشيات، وذلك بالدعوة لحصر السلاح بيد الدولة، وترشيح شخصيات مستقلة للوزرات؛ وبعيدة عن الأحزاب المكوناتية، وإلغاء مبدأ المحاصصة، وبناء مشروع وطني جامع لكل العراقيين، وهو ما جعل السياسيين الذين يعتاشون على المحاصصة؛ يعيدون إحياء شيء من خطابهم الطائفي، خوفًا على مستقبلهم ومصالحهم التي تضمنها المحاصصة والطائفية.
    بقيت المعادلة السياسية العراقية مقتصرة الدور على الأدوات السياسية والعسكرية داخل العملية السياسية وخارجها، إلاّ أن إصرار تظاهرات تشرين الأول على الاستمرار رغم تقديمها المئات من الشهداء وآلاف الجرحى والمعاقين، جعلها تدخل دائرة التأثير المباشر على الطبقة السياسية والحكومة العراقية، فلم يكن أحد يحلم أن تُسقط التظاهرات حكومة عادل عبد المهدي مهما كانت ضعيفة، وتفرض مجموعة مطالب إصلاحية على الأحزاب، فبإصرارها أجبرت البرلمان على سَنّ قانون جديد للانتخابات ومفوضية جديدة.
    كما أنها ساهمت بشكل أو بآخر في فرض تغييرات جزئية على معايير اختيار الكابينة الوزارية؛ ومرشح رئاسة الوزراء الذي لم يستطع مواجهة مصالح الكتل والأحزاب، واعتذر عن التكليف رغم أنهُ كان ممن شارك بالعملية السياسية؛ ومرفوض جماهيريًا أيضًا، وكانوا يحاولون استخدامه كواجهة مثل رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي.
    استغلت الأحزاب الدينية والميليشيا الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية، فتهدد وتتوعد كل من ينتقد رجل دين، أو يكشف فساد الأحزاب السلطوية ومافيات الفساد في مؤسسات الدولة، وقد نفذت مئات الاغتيالات والاعتقالات والخطف؛ ولا تزال ضد أي ناشط مؤثر يتجرأ على انتقاد أو قول رأي مخالف لمصالحهم.
    ما فعلته تظاهرات تشرين الأول 2019م أنها كسرت حاجز الخوف وجعلت الجميع تحت مشرحة النقد، فزعامات الميليشيات لم يكن أحد يتجرأ على الحديث ضدهم داخل العراق، ولا يستطيع أحد رفض سلوكيات بعض البعض، ولا صمتهم على الفساد أو مشاركة بعضهم فيه، كما أصبح زعيم ميليشيا القتل والخطف محل انتقاد دائم، كذلك زعيم إحدى التيارات يُنتَقد أيضاً، بعد التقلبات في المواقف من أجل تمرير رئيس الوزراء المكلَّف.
    من جهة أخرى، الغضب الشعبي من الأحزاب الدينية وانتقاد رجال الدين وتعدي جميع الخطوط الحمراء في ذلك، دفع المرجعية الدينية في النجف إلى النأي بنفسها عن دعم أي مرشح لأي حكومة قادمة، ولم تعد تتدخل سلباً أو إيجاباً؛ إلا سراً في تشكيل الحكومة الجديدة، بل قطعت الاتصال بجميع الأحزاب والقوى في هذا الملف لكي لا تتحمل فشل الحكومة القادمة وفسادها، فقد كان تشكيل أي حكومة لا يمر إلا بمباركة المرجعية ودعمها وغطائها الديني.
    أخيراً، لقد أصبح العامل الشعبي والرأي العام العراقي يُحسب له ألف حساب في اتخاذ أي موقف سياسي، خاصة داخل البيت الشيعي بعد أن كان خارج المعادلة تماماً في السنوات الماضية، كل ذلك بفضل التظاهرات الشعبية التي لا تزال مستمرة ومصرَّة على تحقيق مطالبها بالإصلاح والتغيير.
    تدور هذه الدراسة حولَ ما مرَّ به العراق من انتفاضة احتجاجية شبابية وشعبية سلمية؛ تدعو للإصلاح ومحاربة الفساد والمفسدين، وقد بدأت بتوثيق يوميات الانتفاضة منذُ يومها الأول عام 2011م ولغاية انتفاضة تشرين الأول/ اكتوبر 2019م حتى تاريخ رفع سرادق المحتجين السلمين في المحافظة بعد الاتفاق مع مدير شرطة بابل اللواء علي كوة.

100
سليمان غزالة رائد المسرح الشعري في العراق
نبيل عبد الأمير الربيعي
    من ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق صدر كتاب الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي (غزالة رائد المسرح الشعري في العراق)، الكتاب من الحجم الوسط ويتضمن (205) صفحة، مزود بالصور ونصوص الراحل غزالة الخاصة بالمسرح الشعري مع بعض مقالاته المنشورة في الصحافة العراقية مطلع القرن العشرين. تضمن الكتاب ثلاثة فصول، اختص الفصل الأول بحياة د. سليمان غزالة، والفصل الثاني دراسة مسرحية (لهجة الأبطال)، أما الفصل الثالث فتضمن دراسة مسرحية (الحق والعدالة).
    يذكر الدكتور علي الربيعي في ص10 كيفية البحث والتقصي عن مسرحيات الراحل غزالة قائلاً: "ورحتُ أُدور في مكتباتٍ عامة وخاصة في العراق ولبنان ومصر عن هذه المسرحيات مؤملاً النفس بالعثور عليها. واستغرق البحث سنوات من دون أن أحظى بها، إلى أنْ عثرتُ في أثناء رحلة التفتيش هذه عن قسمٍ من مؤلفاته في المعارف والأدب يتقدمها كتابه (حياتي الشخصية والوظائفية) المطبوع في دار الطباعة الحديثة ببغداد سنة 1929م، الذي سرد فيه قصة حياته. وأشغلن الموضوع سنواتٍ، وأقبلَ الحظُ نحوي قبل سنتين إذ عثرت على نص مسرحية (لهجة الأبطال)، والمسرحية طبعت في مطبعة الشركة العثمانية المشتركة في القسطنطينية (اسطنبول) في سنة 1329هـ الموافق سنة 1911، وهذه المسرحية تكون قد سبقت مسرحيات الشاعر أحمد شوقي في طباعتها. وتبسَّم الحظ لي مرة ثانية وعثرت على نص مسرحية (الحق والعدالة) في إحدى المكتبات المفترشة في شارع المتنبي في بغداد، والمسرحية طبعت في دار الطباعة الحديثة ببغداد في سنة 1347هـ الموافق سنة 1929. أما النص الثالث المعنون (علي خوجة) المطبوع في مطبعة الشركة العثمانية المشتركة في القسطنطينية سنة 1913 فلم أعثر عليه حتى الانتهاء من هذا الكتاب".
    ويعتبر الدكتور سليمان غزالة هو اول من كتب المسرحية الشعرية العراقية، فقد طبع في الإستانة عام 1911 مسرحية (لهجة الابطال)، ويعني بهذا انه قد سبق الشاعر احمد شوقي في ريادة كتابة المسرحية الشعرية، إلا ان محاولته بقيت محليه ولم تنتشر، لربما بسبب ان سليمان غزاله كشاعر لم تكن قامته بحجم قامة شوقي في الشعر او تمكنه من الحبكة والبناء الدرامي كانت ضعيفة مقارنة بإمكانيات شوقي، او لأسباب اخرى غير معروفه، الا ان هذا لا يقلل من قيمة انها كانت المحاولة الاولى في كتابة المسرحية الشعرية.
    وقد سلط الضوء الدكتور علي الربيعي على سيرة حياة غزاله في كتابه هذا وأحياء نصوص مسرحية شعرية من تأليف غزالة. الربيعي عرف بدوره الريادي في إحياء اسماء وأعلام من ادباء العراق، كانت لهم بصمة في تاريخ الادب والثقافة والمسرح العراقي.
    ولد الدكتور سليمان عبد الأحد بن جرجيس بن يوسف غزالة في بغداد في الحادي والعشرين من شهر ايلول سنة 1853م لأسرة مسيحية عريقة تصعد بنسبها وجاهها إلى نحو أربعمائة سنة كما اثبتته مستندات محفوظة في مكتبة الآباء الكرملين في بغداد... انصرف غزالة منذ صغره إلى التعلم والتعليم والدرس، ودخل مدارس بغداد ولما يزل عمره أربع سنوات، ورغب في العلم رغبة كبيرة وراح يسعى وراءه بجد ونشاط. وعندما بلغ العاشرة من عمره أرسله والده إلى مدينة الموصل للدراسة في مدرسة الآباء الدومنيكيين. وحال عودته سنة 1869 عُين معلماً ثانياً في مدرسة الكلدان، فكان يعمل في الصباح معلماً بمعية المعلم سليمان بن القس الياس الموصلي، ويشتغل في المساء في مهنة تجليد الكتب التي تعلمها في مدرسة الآباء الدومنيكيين في الموصل. هذا ما ذكره الربيعي في ص17 وص18 من كتابه.
    كما قام "غزالة بتدريس اللغتين الانكليزية والفرنسية في مدرسة الإليانس اليهودية. حتى عام 1879م شد الرحال إلى بيروت عند الآباء اللاتين، وفي الوقت نفسه كان يعمل معلماً للعربية في مدرسة اليسوعيين. وبعد أن أتم دراسته وجد في نفسه رغبة لدراسة الطب، فتوجه من بيروت صوب بريس والتحق طالباً في مدرسة (سان لوسيان)". ثم يعقب الدكتور الربيعي في ص19 قائلاً: "بعد اتمام المقررات الأولية التي تؤهله لدراسة الطب انتسب طالباً في جامعة الطب الباريسية في شهر كانون الأول سنة 1880م. وتسنى له أن يدرس العلوم الطبية على أيدي أطباء مشهورين أمثال شانتمس وبوزي ولويس باستور، فقدروا ذكاءه ونشاطه وتقدمه في الدروس مدة خمس سنوات".
   بعد أن انجز غزالة دراسة الطب وعيّن طبيباً في الآستانة مشرفاً صحياً على جميع الولايات العراقية واتخذ مقره في مدينة الحلة. ثم أسندت إليه مهام صحية في طور سيناء، واسطنبول وطرابلس الغرب في ليبيا وباريس وطهران حتى عاد إلى مسقط رأسه بغداد عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. ويذكر الربيعي في ص23 حول دور غزالة في مجال السياسة قائلاً: "فناصر بجد قيام المملكة العراقية في سنة 1921 ، وهلل لاعتلاء الملك فيصل بن الحسين عرش العراق، وخصه بقصيدة عصماء بعنوان (القصيدة الفيصلية)... والزمه الواقع الجديد أن ينخرط في الحياة السياسية بشكل مباشر هذه المرة، فانتخبه مسيحيو البصرة ممثلاً عنهم في المجلس التأسيسي العراقي في سنة 1923م... أصيب غزالة بمرض عضال اثر عمله المضني خلال سني حياته وتحمل المرض مدة طويلة بروح رياضية عالية، إلى أن وافاه الله في الثامن عشر من تشرين الأول سنة 1929، وله من العمر سبع وسبعون سنة قضى السنوات الأكثر في خدمة الطبابة".
    نشطت حياته الفكرية والإبداعية بعد زواجه من زوجته الفرنسية، التي كانت مؤلفة وروائية ورسامة، فكانت حافزاً إيجابياً لتوجهه الأدبي. له كتب وكتيبات مطبوعة، في جوانب معرفية مختلفة، تتطرق إلى الاجتماع والأخلاق، ثم النظم السياسية، من أهمها: سوانح الفكر في ما يسامي العشق من عبر- طهران 1915، وسوانح الكلم- طهران 1915، والمعضلة الأدبية ومزاولة أصلها تاريخياً- بغداد 1927، والعشق الطاهر- 1925، والهوى- 1926، والحب البشري نظراً إلى الحياة الاجتماعية- 1926، وخلاصة الأدب الرياضي العملي- 1927، والأدب النظري العمومي- 1927.

101
سيرة المناضل عبد الجبار علي جبر الشمري (أبو هادي)‬


صدر حديثا عن دار الفرات للثقافة والاعلام - العراق - بابل 5-2-2021 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع كتاب (سيرة المناضل عبد الجبار علي جبر الشمري (أبو هادي) / بابل تغسل ظفائرها عند نهر الفرات ) مراجعة وتحقيق: الأستاذ نبيل عبد الأمير الربيعي والأستاذ محمد علي محيي الدين. علما ان الكتاب صدر بعناية شقيقه (أسعد علي جبر الشمري) .
الكتاب يقع في (300) صفحة من الحجم الوزيري مزود بالصور والوثائق المهمة الخاصة بالفقيد عبد الجبار علي جبر الشمري، وهي سيرة مناضل قدم شبابه من أجل وطن حر وشعب سعيد، تنقل بين عدة سجون ومعتقلات، ساهم في عملية حفر نفق سجن الحلة وفي عمليات هور الغموكة، حكم عليه بالاعدام ولكن شاء القدر إن يشمل العفوا ويعود إلى عمله وعائلته.
((لوحة الغلاف للمناضل الراحل عبد الجبار علي جبر، بريشة الفنان والشاعر الكبير مظفر النواب، رسمها داخل سجن الحلة المركزي بمادة الباستيل نهاية عام 1966م)).
وما نقول إلاّ أن الحياة في نظرنا هي الصورة الحيّة للكون الذي نعيشه، والتعبير عنها هو موقف، وفي الوقت نفسه هي كشف لإيضاح ذلك الموقف، فالموقف يأتي من فهم الحياة فهماً علمياً ووعياً للزمن الذي يؤطرها بدايةً ونهايةً، وارتباط الفهم بحركة الإنسان وقضاياه المصيرية، وعلاقتها بالقيم والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية. كما أن الإحساس بالجمال الطبيعي حلقة ضرورية لإكمال تلك الصورة، عبرَ ما توفره الطبيعة من إبداعات الإنسان فيها، أما كشف وإيضاح الموقف فيأتي في تحديد مساحة النمو في قدرة الإرادة الفاعلة والمؤثرة في تغيير تلك المساحة عِبرَ المراحل الزمنية للإنسان ومدركاته الحسية والمادية التي تعكس أفعاله وممارساته ونضاله.
في البداية لا بد لنا من إبداء الشكر الجزيل إلى الكاتب والباحث أحمد الناجي الذي زودنا بأشرطة التسجيل التي كانت بصوت الفقيد الراحل، وهي التي اعتمدناها في مراجعة وتحقيق هذا الكتاب، والشكر موصول للأخ والصديق أسعد علي جبر الشمري الذي تفضل مشكوراً بتزويدنا بالوثائق والصور الخاصة بأخيه المناضل الفقيد عبد الجبار علي جبر الشمري (أبو هادي)، وقد ارتأت عائلة الفقيد أن يكون عنوان المذكرات (بابل تغسل ظفائرها عند نهر الفرات)، كون الراحل كان في حقبة زمنية معينة وأيام النضال السري يلقب بـ(عبد الجبار البابلي).
المذكرات هي عبارة عن محطات من سيرة المناضل عبد الجبار الشمري (أبو هادي) التي قام بتسجيلها الراحل على عدة كاسيتات قبيل وفاته، ومن ثم تمّ تحريرها على الورق، وكان تاريخ تسجيلها يوم 8/10/1999 ولغاية الثالث عشر منه، وكان عملنا في إعداد هذه السيرة استنادنا إلى ما جاء في المذكرات حسب تسلسل الأحداث التي ذكرها الفقيد (أبو هادي)، وزيادة التوضيح في الأحداث التي جاءت فيها واعتمدنا أسلوب صاحب المذكرات مع إضافة ما رأيناه مناسباً في تحرير الواقعة، كما تمَّ مراجعة وتحقيق المذكرات من قبلنا وتوضيح بعض الأسماء والأماكن والوقائع والمنظمات المهنية ليخرج الكتاب بالشكل الواضح، كما راجع الكتاب لغوياً الأستاذ عدي حاتم الخفاجي، فله جزيل الشكر والتقدير.
لقد تشرفنا بالإسهام بمراجعة وتدقيق وتحقيق مذكرات الفقيد عبد الجبار الشمري (أبو هادي)، في جزءٍ متواضع من الجهد الذي بذله في إعداد هذه المذكرات التي تتحدث عن فترات نضالية مختلفة كان للفقيد اسهامه المباشر فيها، وأحداث عصيبة مرَّ بها الحزب الشيوعي العراقي بما واكبه من انشقاقات واختلافات، وللفقيد (أبو هادي) أدوارٌ رئيسة في الحركة وموقع واضح في مسيرتها، وكان من ضمن المشاركين في عملية الهروب من سجن الحلة، والقتال في هور الغموگة.
من مذكرات عبد الجبار علي الشمري تعرفنا على الدور البطولي لأثنى عشر مناضلاً قادوا الثورة المسلحة في هور الغموگة، وبما يعرف جماعة (القيادة المركزية). ومذكرات لبطل تلتهب عنده الأحداث، وتتوقف عنده الاضطرابات، إذ كان زمن اعتقاله مع رفاق السلاح في الدواية أيضاً مضطرباً، يحمل متغيرات كثيرة، غير أن جباراً يسوقه قدره الفطري للثورة المسلحة.
الدار التي نشأ فيها الفقيد الراحل عبد الجبار علي جبر الشمري هي العالم والحياة كلها، فنشأ فيها الحُب والأمل والنجاح، لأن كُل هذا الكُل يصبح بعدئذ التراث الشخصي للفرد، فليس مجداً أن يذكر الإنسان تراث قومه ويدافع عنه فحسب، ولكن المجد أيضاً أن يتذكر تراثه الشخصي، وينطلق منه إلى المدى الأبعد في تراث الجماعة وتطويره فكراً وإرادة، لكي ينتج في المستقبل عملاً مؤثراً سواءَ كان ذلك في الساحة الاجتماعية أو في الساحة السياسية على وجه الخصوص. وهكذا بين البدء من النقطة الأولى إلى نهاية المسيرة يسجل الإنسان تاريخاً لحياته من نتاج تلك الحركة وممارساته فيها، وهكذا كان الراحل قد سجل تأريخه السياسي بحروف من ذهب، تاريخ مشرق ومشرف لعائلته، بصموده ومواقفه البطولية في سجون الأنظمة المتعاقبة، في كفاحه ومساهمته في حفر نفق سجن الحلة المركزي، ومساهمته مع نخبة من الأبطال في هور الغموگة، كان لا يهاب الموت لأنهُ عرف موقفه مع الشعب لا مع النظام الظالم.
ولا ننسى دور المرأة سواء كانت الأخت أو الأم التي نالت دوراً نضالياً رائعاً فتجاوزت كل المخاطر في إدخال الرسائل والكتب إلى داخل السجن، وكُنَّ بحق حلقة الوصل بين السجناء في الداخل والقيادات في الخارج، وكانت هناك أسماء لامعة من تلك الفتيات والنسوة اللاتي آثرن أن ينزوينَ بعيداً عن الأضواء بعد رحلة الكفاح والنضال تلك، ولكن يبقينَّ أسماء لامعة في تاريخ الحركة الوطنية التي لا بد أن تُشرَّف وتُكرّم على تلك الروح النضالية التي كن يتمتعن بها.
هذا التحدي أسهم في طمس أو منع العقل العراقي من التعرف على ذاتيته، التي كانت تتطلب إعادة انتاج للسردية التاريخية. هذا ما كان قد حدث على مدى أكثر من (51) عاماً المنصرمة، منذ اليوم الذي توقف فيه الرصاص على أطراف جزيرة سيد أحمد الرفاعي.
في هذه المذكرات كان للفقيد تأثيره الفاعل فيها، وما له من وجود فاعل في كثير من المحطات النضالية التي واكبت المسيرة الشيوعية منذُ التحاقه مؤيداً ومؤازراً حتى نيله شرف العضوية، وإسهامه في التنظيمات المختلفة وسعيه لبناء الحزب على أسس متينة من الضبط الحديدي والاستنارة بالفكر الشيوعي الخلاق، وما تعرض له من محاولات اغتيال واعتقال وسجون جراء مواقفه التي كان فيها مثالاً للشيوعي الحقيقي الذي لا ترهبه الأخطار أو تقف في وجهه العقبات، وظلَّ سائراً في طريق الشيوعية، وبعد هذا الكفاح والنضال الطويل استقر وتزوج ورزق بأولادٍ وبنات، وهم كُلٍ من: سنا (دكتوراه صيدلة)، هادي (بكالوريوس كيمياء/ جامعة بابل)، دنيا (بكلوريوس لغة عربية- حالياً مشرفة تربوية في تربية بابل)، بيادر (ماجستير زراعة/ جامعة بابل)، علي (مقيم حالياً في أميركا)، ابتهاج (خريجة معهد).
بعد أصابته بالمرض الذي أنهك جسمه، رحل رحمه الله يوم 17/12/1999، تاركاً وراءه مذكراته التي كان يحلم أن تجد النور، وبعد أن أدى ما عليه من واجب اتجاه شعبه وحزبه الشيوعي العراقي وعائلته.
المذكرات هي شهادته عن زمنٍ امتد لأكثر من سبعين عاماً، يضع المناضل (عبد الجبار علي جبر الشمري) رقابةً صارمةً على ذهنه وضميره، فلا يدلي برأيه عن حدثٍ أو شخصٍ أو تنظيمٍ إلا بعد أن يستعيد كل الشرف الذي يحمله، ويتجرد ويقنع القارئ أنه بأعلى درجات اليقين والتجرد والعفاف، فمن خلال مراجعتنا مذكراته رحمه الله اكتمل عندنا خيط الأحداث، حتى كأن نظرنا إلى الزمن والأبطال والنتائج والضحايا، معايشين لهم في دروب نضالهم وفي زنازينهم، واقتربنا من معاصمهم لنطل على أصفادهم وحمرة اللحم المشوي تحت آثار السياط والحديد في مقرات الحرس القومي في ناحية المحاويل( ) وفي مركز الحلة دار (أنور الجوهر)، وقساوة المجرم ناجي الدليمي وآخرين.
إن (أبو هادي) في مذكراته، يكتب رواية تترنح بين الحزن والرجولة، وبين الاعتداد بالنفس والخسران الرخيص، هو ينظر للماضي حيث توزعت البطولة على مستحقيها من الأفذاذ، وامتحنت الرجولة على حواف المحن والابتلاءات، فكان يرى الأولى مبهوراً، مقداماً ومشاركاً، ويرى الأخرى فيغرق بلجاج حسراته ولوعته، أسيراً لبواطن ذكرياته المحتدمة في معركة هور الغموگة، هكذا تكون انتفاضة الهور التي وقعت ضمن أخطر المنعطفات التاريخية في تاريخ العراق، منذ وجوده مع بداية الحضارة، وهي بهذا المعنى المؤشر النوعي المبكر، على وقوع الانعطاف وابتداء نضج أسبابه. فلم يكن أولئك الذين انتسبوا لتلك التجربة أبناء أي من سياقات ما قبل تلك اللحظة، إلاّ أنهم كانوا لا يملكون ما هو لازم لهم، لقول كلمتهم التي تنتمي لمفهومهم هم، مبرأة من وطأة الماضي من جهة، وغياب المستقبل الذي سيظل طي المجهول لعقود بعد ذلك التاريخ.
إلى الآن كلما تحدّث عن انكسارات المشاركين في تلك الأسفار من الاعتقال على يد أحد ابناء عمومته يونس جزر، إلى الهروب من سجن الحلة المركزي، والمشاركة في القتال مع الأبطال في هور الغموگة، يغص باللوعة وتتمزق أوصاله، بعد أن جاوز عمر الكهولة من عمره الفاتن بذاكرة لا تدانيها ذاكرة القرن ذاته.
إنه يقلّب الجمر تحت الرماد، كي يرينا أعداد الضحايا التي قدمها الشعب العراقي، ويقدم إلينا صورهم وما مكتوب في بطاقاتهم الشخصية، هو يقلب الجمر لأنه يدركُ بعد تلك السنين الطويلة أن ذاكرة الناس والمجتمع قد تُبلى، أو تُنسى أو تَتنَاسى لأنهم لا يكترثون، ولأنه بإصراره العجيب يريد أن تقف شهادته بين وريقات الزمن لتشارك التاريخ قصته الحقيقية في النشأة، وتقتطع تلك الأيام البهية أو النازفة لتضعها في صفحة عمر العراق من التأريخ.
كان (أبو هادي) شجاعاً، والشجاعة قد استلهمها من القصص التي كانت ترويها له والدته، عن الأبطال والشجعان، ومن القصص الشعبية، أمثال (بلبل هزار)، وقصة (الشيخ الذي لديه 10 أولاد) وكل ولد كان شجاعاً بشجاعة مائة رجل، وقصة (قطاع الطرق الشجعان)، وغيرها من القصص عن الأبطال الأسطوريين، التي زادت من شجاعة وتمرد عبد الجبار علي الشمري على الواقع المؤلم.
شهدَ الراحل عبد الجبار علي جبر الشمري أحداث أغلب الانتفاضات والانقلابات والثورات التي قامت خلال العهد الملكي، بل وشارك في العديد من المظاهرات الشعبية الصاخبة كونه وطنياً مخلصاً، وشيوعياً يسارياً بامتياز، كما عايش الانقلابات التي حدثت بعد قيام النظام الجمهوري في العراق، فأودت به إلى غياهب السجون والمعتقلات، وقد أتاح له كل ذلك التعرّف على شخصيات وطنية، وخاصة في معتقل سجن الكوت وسجن نقرة السلمان وسجن الحلة المركزي وسجن الرمادي وسجن بغداد المركزي، إلا أنه لم يرَ بأُم عينه احتلال العراق في عام 2003م من قبل القوات الأمريكية المحتلة، وما آل إليه الوضع فيه، وإلاّ لحزّ في نفسه وهو يرى أن وطنه أصبح بيد القوات الغازية، وما حصل للعراق من نهب لثرواته الغنية، وقتل الآلاف من أبنائه البررة من علماء وأطباء ومثقفين وأدباء وعسكريين وصحفيين ووجهاء، وتدمير لمعظم البنى التحتية، وتشريد لعشرات الآلاف من العراقيين والتجائهم إلى العديد من دول العالم.
نود أن نُعبر عن جزيل شكرنا وامتناننا إلى الأصدقاء كافة الذين وفروا لنا العديد من المعلومات الضرورية لإنجاز هذه المذكرات، ونخص بالذكر رفيقه في النضال طالب جابر كاظم (أبو مشتاق)، والدكتور محمد جواد فارس، والشاعر عبد الرزاق كميل ألبو هات (رحمه الله)، والدكتور عدي غني الأسدي، والأخ المغترب ذياب مهدي آل غلام، والأخ العزيز أسعد علي جبر الشمري والأستاذ شريف الزميلي، وشكرنا الجزيل لعائلة الشيخ حسن علي جبر الشمري لما أبدوه من دعم الكتاب بالصور.
ليتَ القارئ اللبيب عندما يقرأ هذه المذكرات يتقبل وجهات النظر التي وردت فيه، ويرتبط بعضها بمكونات مهمةٍ من تاريخنا، فلا يعترضون بالمطلق ولا يتقبلون باليسرٍ.
نبيل عبد الأمير الربيعي محمد علي محيي الدين

102
صدور كتابي الموسوم ( الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية في العراق 1945-1946 ).
نبيل عبد الأمير الربيعي

صدر حديثا عن دار الفرات للثقافة والاعلام - العراق - بابل 29-1-2021 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع كتابي الموسوم ( الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية في العراق 1945-1946 ).
الكتاب يحتوي على (440) صفحة من الحجم الوزيري، كما يتضمن سبعة فصول ومقدمة وخاتمة. الفصل الأول يسلط الضوء على البذور الأولى للنشاط الصهيوني في العراق، والفصل الثاني يتضمن دور آهرون ساسون معلم في نشر الفكر الصهيوني في العراق عشرينات القرن الماضي، أما الفصل الثالث يوضح منظمة عصبة مكافحة الصهيونية ودورها في فضح التنيمات الصهيونية في العراق من خلال صحيفتها (العصبة)، والفصل الرابع سلط الضوء حول الأسباب الرئيسية للهجرة والتهجير القسري لأبناء الديانة اليهودية من العراق إلى فلسطين والدول الأوروبية حقبة الأربعينات من القرن الماضي، ودور الصحف الصفراء في الحملة على منظمة العصبة.
أما الفصل الخامس يوضح موقف الحزب الشيوعي العراقي من قرار التقسيم، وموقفه تجاه القضية الفلسطينية، وموقف الاتحاد السوفيتي بخصوص التقسيم، وموقف الحزب الشيوعي العراقي من إسرائيل كدولة. أما الفصل السادس فقد أوضحنا فيه حول صفقة الهجرة الجماعية ليهود العراق إلى إسرائيل ودور الحركة الصهيونية في تهجير يهود العراق عام 1950م/1951م. أما الفصل السابع فقد احتوى قائمة النسيان لشهداء يهود العراق من الحركة اليسارية العراقية (شاؤول طويق، يهودا إبراهيم صديق، ساسون شلومو دلال)، وأخيراً خاتمة الكتاب والملاحق التي تتضمن وثائق عصبة مكافحة الصهيونية وقائمة باسماء يهود العراق من أعضاء منظمة عصبة مكافحة الصهيونية وحزب التحرر الوطني التي يشرف عليهما الحزب الشيوعي العراقي. فضلاً عن الصور التي زود بها الكتاب.
يهود العراق كانوا يقطنون بلاد الرافدين قبل بدء الدعوة الإسلامية ومن ثم استمر تواجدهم في البلاد فترة الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية، وفي ظل الهيمنة الفارسية على العراق والدولة العثمانية حتى عهد الدولة الملكية في العراق، ففي ظل هذه الدول المتعاقبة للسيطرة على خيرات العراق تعرض يهود العراق إلى شتى الاضطهاد الديني والتمييز السياسي والاجتماعي والاستبداد والقسوة، وفي بعض الأحيان تمتعوا بالحرية الدينية والوضع الاجتماعي الجيد في ظل الدولة العثمانية، لكن الدولة الإسلامية كانت تعتبرهم من أهل الذمة ليدفعوا الجزية السنوية والخراج، ولا ننسى إن كل النظم الإسلامية بشتى أنواعها والتي حكمت العراق قد مارست شتى أنواع التمييز الديني والاجتماعي بحق اليهود والمسيحيين والصابئة المندائيين والأيزيديين لأنهم كانوا يشكلون أقليات دينية مضطهدة.
لقد مرَّ يهود العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921م حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين بمراحل متباينة، وتمتع يهود العراق في هذه المرحلة بحياة هادئة وهانئة ومشاركة نشطة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي النشاط السياسي في ظل دولة ملكية ذات دستور ديمقراطي وملك كان حريصاً على التعامل مع أبناء الشعب بالمساواة، بالرغم من وجود العراق تحت الانتداب البريطاني حتى العام 1932م.
لقد شكل يهود العراق جزءاً أصيلاً من المجتمع العراقي وفاعلاً حيوياً فيه، ولم ينعزل عن بقية أتباع الديانات والمذاهب في "گيتوات" خاصة به، بل كان سكنهم في مناطق عديدة من بغداد ومدن العراق ومعه عاش المسيحيون والمسلمون، من سنة وشيعة. وكانت تركيبة المجتمع اليهودي لا تختلف عن تركيبة بقية المجتمع من الناحية الاجتماعية أو الطبقية، فكان هناك بعض كبار الملاكين والتجار الكبار والبرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة، ولاسيما المثقفون والحرفيون، ثم العمال، وكذلك الفلاحون المعدمون الذين كانوا يعملون في أراضي الأغوات الكرد، وخاصة بإقليم كردستان العراق، والباعة الجوالة والفقراء الذين كانوا يعانون من شظف العيش، كالغالبية العظمى من شعب العراق حينذاك. ولا بد من الإشارة إلى أن ببغداد مثلاً تعانقت جوامع أو مساجد المسلمين مع كنائس المسيحيين وكُنس اليهود، وفي مدن أخرى وجد المندي بجوار المسجد. وحصلت زواجات بين أتباع الديانات العديدة بالعراق أيضاً. كان هناك شكل من اشكال الاعتراف المتبادل بوجود هذه الديانات وحقها في ممارسة طقوسها الدينية وحياتها الخاصة إلى جانب حياتها العامة فيما بين جميع أتباع الديانات والمذاهب. ولا يشك الإنسان القارئ للتاريخ عن احتمال وجود نظرة تمييزية مستترة غير مكشوفة تماماً لدى بعض الجماعات المتدينة بشكل خاص.
والحالة الوحيدة التي تظاهر فيها العراقيون في هذه الفترة، ولم تكن ضد يهود العراق، بل شارك يهود بغداد فيها، كانت حين قام الوزير البريطاني والداعية الصهيوني المعروف السير ألفريد مورتس موند Alfred Moritz Mond "1868م-1930م" في العام 1928م بزيارة للعراق بدعوة من الملك فيصل الأول.
بعد توقف ثورة الشعب الفلسطيني في الفترة 1936م- 1939م وعجزها عن تحقيق الأهداف المنشودة، بسبب دور بريطانيا وسياستها في تأييد هجرة يهود العالم إلى فلسطين، وصل إلى العراق الحاج محمد أمين الحسيني مفتي القدس وبدأ يعمل مع المجموعة القومية، وبضمنهم رشيد عالي الگيلاني ويونس السبعاوي، الذي قام بترجمة ونشر كتاب كفاحي لهتلر.
وفي ذات الفترة برز نشاط أوسع لعناصر قومية متطرفة "صهيونية" حاولت بكل السبل أن تستثمر فاجعة الفرهود ضد اليهود في الأول من حزيران 1941م، لتؤكد لليهود أن لا مستقبل لهم بالعراق وأن عليهم مغادرة العراق. ولكنها لم تجد تجاوباً واسعاً ولم تحصل هجرة واسعة بل مهاجرين قلّة عبر إيران. ومقابل هذا النشاط الصهيوني ونشاط القوى القومية العربية المتطرفة، دعا الحزب الشيوعي العراقي إلى تشكيل منظمة مناهضة للصهيونية أطلق عليها "عصبة مكافحة الصهيونية" التي أسسها الحزب الشيوعي العراقي وقادتها كوارد شيوعية مثل رئيس العصبة الأستاذ هارون يوسف زلخة، وسكرتيرها العام يعقوب مصري، ومديرها المسؤول القيادي الشيوعي محمد حسين أبو العيس، التي قامت بنشاطات كثيرة منها المحاضرات والندوات وإصدار الكراسات التي تندد بالصهيونية وأهدافها. وفي البداية أيدها نوري السعيد، ولكنه حاربها بعد أن تم الأتفاق على خطة عدوانية ضد الوجود اليهودي بالعراق.
لقد امتدت هذه الفترة من عام 1942م حتى العام 1947م وتميزت بالإيجابية والنشاط السياسي الحيوي ليهود العراق ضمن الأحزاب الوطنية العراقية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي، وفي الصحافة العراقية والنشاط الثقافي والأدبي العام، ولكنها اقترنت بظواهر سلبية ايضاً ومحاولات جادة لإلحاق الأذى باليهود وتنكيد عيشهم ونشاطهم من جانب جماعات قومية ورجعية صغيرة.
وقد نالت القضية الفلسطينية الجزء الكبير من أدبيات الحزب الشيوعي العراقي منذُ تأسيسه، وعدّها من أهم القضايا المحورية في نشاطه السياسي على الصعيدين العربي والدولي. ومرَّ الحزب الشيوعي العراقي هو الآخر بتغييرات تنظيمية مستمرة بسبب الملاحقة المستمرة من قبل أجهزة التحقيقات الجنائية، واعتقال قادته المؤسسين مما أوقع الحزب في أرباك وفوضى بفعل تعدد القيادات لتحديد موقفه من القضايا المهمة كالقضية الفلسطينية التي رافقت إعدام قادته "فهد، صارم، حازم، ماجد" وأصبح الحزب يقاد من خلال القادة غير المؤهلين للقيادة والذين ادخلوا الحزب في فوضى داخلية نتيجة لمواقفهم اليسارية التي اتسمت بالراديكالية "المتطرفة" في أحيان كثيرة.
من القضايا التي أثيرت حول الحزب الشيوعي العراقي هو موقفه المؤيد والمساند لقرار تقسيم فلسطين بل وقرار قيام دولة إسرائيل الذي جاء متناغماً مع القرار السوفيتي، والذي أوقع الحزب في حيرة من أمره بين الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقهُ في أرضهُ وبين موقفه المؤيد لقرار السوفيت، والذين يعدون قراراتهم بأنها الانضج فكرياً، بل وتبنّوا كراس "ضوء على القضية الفلسطينية" الذي رفضه سكرتير الحزب فهد في سجنه، لكن قيادة الحزب المكلفة بإدارة الحزب من قبل فهد تبنت هذا الكراس والذي احدث انقسام في صفوف الشيوعيين أنفسهم.

103
الطفولة واللسان والفطرة
نبيل عبد الأمير الربيعي

    نشرت جريدة الزوراء البغدادية في عددها ليوم 30 كانون الثاني 2019 عن الطفل الصيني ذات الـ 23 يوماً يتكلم ويصدم الجميع… فماذا قال؟
    "يبدأ الرضيع العادي النطق عندما يبلغ العام تقريبا، لكن رضيعا حديث الولادة في الصين نسف هذه القاعدة المسلم بها، بعدما صدم أمه وممرضاته بلفظه على ما يبدو كلمة «ماما»، في عمر 23 يوما فقط.
ورغم اعتراف الأم أن رضيعها لفظ بالكلمة دون قصد على الأغلب، فإنها شعرت وعائلتها بالإعجاب الممزوج بالذهول عند سماعها، حسبما نقلت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية. ونطق الطفل «لأول مرة» في مركز لرعاية ما بعد الولادة، في مدينة تشانغتشون بمقاطعة جيلين شمالي الصين، في 20 كانون الثاني الجاري. وتم تصوير المشهد في لقطة فيديو وثقتها والدة الرضيع، وشاركتها عبر وسائل التواصل، وفي الثانية العاشرة من المقطع، يظهر الرضيع وهو نائم على طاولة بينما تدلك ممرضة ظهره بلطف. وفجأة، يسمع المولود الجديد يقول  aiya، فعلقت أمه بلهفة: «هذا الطفل مضحك جدا». لكن بعد ثوان ينطق الرضيع فجأة «ماما»، تاركا والدته وطاقمه الطبي في حالة ذهول. وقالت والدة الرضيع لمحطة تلفزيونية إن ابنها أنهى درسا في السباحة في ذلك اليوم، وإنها لم تطعمه سوى القليل من الحليب قبل التمرين لمنعه من التقيؤ، لذلك ربما يكون الجوع سببا وراء تلفظه بأصوات غير عادية. ويمكن للرضع التفوه بكلماتهم الأولى ما بين عمر 12 إلى 18 شهرا، وحينها تبلغ المفردات من 10 إلى 20 كلمة. وتعليقا على مقطع الفيديو، قال طبيب من مستشفى «تشانغتشون» للأطفال، إن الرضيع أصدر صوتا بكلمة ماما دون قصد".(1)
    والسؤال هنا هل طفحت اللغة الصينية على لسان الوليد حين تلامس الروح العقل في مكمنه الخفي الأول. وحدث أن "نشرت جريدة الزوراء البغدادية عام 1996 عن طفل عراقي بدا لأهله مشاكساً وغريب الأطوار حينما بدا شغفاً برطانة وتكرار الكلمات بمهمة لا يفهمها أحد، وما أثار حفيظتهم أن الأمر تصاعد إلى أن يكون حواراً ذاتياً بين سائل ومجيب، حينما غاب المحاور، ممّا حدا بعائلة الطفل أن تعرضه على طبيب نفسي كونه يوحي بمسّ من الجنون أو الهلوسة.
    وكانت مفاجأتهم كبيرة عند الطبيب، حينما أخبرهم بأن ما يتفوّه به الصبي هي لغة قائمة بذاتها، وليس هلوسة أو أصواتاً شاذة. واقترح عرضه على خبير ألسنة، علّه يجد عنده الإجابة الشافية. فتصاعدت المفاجأة أكثر حينما قال لهم الخبير اللغوي بأن ما يتكلمّه أبنهم لغة قديمة منقرضة، كأنها تبدو (أكدية) المخارج، والكلمات، بما يعني أن ابنهم يتكلم لغة انقرضت بما لا يقل عن ثلاثة آلاف عاماً خلت"(2).
    يعتقد علماء اللسانيات أن لسان الطفل حينما تلامس الروح العقل في مكمنه الخفي الأول هنا قد انطلقت وطغت اللغة الأكدية على لسانه، وحدث أن انطلقت من عقالها وحبسها لتصدر صوتاً لسانياً من السليقة الطفولية، سرعان ما يختفي بعد أن يتطور الوعي لدى الطفل، ويأخذ عقله يتقولب مع إملاءات البيئة اللسانية المحيطة.
    وهذا يفتح خيالنا إلى كم الجمود الإبداعي واللساني الذي يمكن أن يصيب الشعوب المقهورة، أو التي عانت من الضيم والطغيان كما العراقيون. وهذا أقرب للعقل والصواب، حيث أننا ما زلنا نجد أن حروفاً في اللغة هي مستوحاة من تكرار أصوات مصدرها الطبيعة أو الكائنات، كما هو الحال خرير الماء وتأوّه الإنسان من الألم وصدور كلمة (آخ) وغيرها.
    وحسب ما أمسى به العالم الأمريكي (نعوم شومسكي) حيث قال (إنه أمر مستحيل أن يتعلم الطفل اللغة الأم بالتقليد، إنما بملكة موجودة في الدماغ تسمى Language Acquisition Device حين يكتمل نموها. وأثبتت الدراسات المفصّلة على اكتساب الأطفال اللغة يتبع جدولاً زمنياً تفصيلياً من حيث أن الطفل يبدأ بالتصويت، ثم بالمناغات (الملاغات) فالكلمة الواحدة، فتنغيم الجملة ما، ثم الكلمتين معاً، ثم بجمل تبدو غير صحيحة، وهذا بعد مروره بعدة مراحل تطورية. وخاصة تطور الدماغ والتوصل لقدرات تمثيل وترميز الدافع بأفكار مناسبة. وهذا كان أهم عوامل حدوث القفزة التي ميزتنا عن باقي الكائنات الحية، وهي القدرة على التخاطب الفعّال بواسطة الإيماءات والاشارات أو الأهم تمثيل الواقع بلغة محكية، ثم مكتوبة متطورة.
    يذكر د. علي ثويني في كتابه (الألسنة العراقي) قائلاً: "فمنذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة بالكوّن باختراع الكلمات، وتطوّرت لتصبح كما هي عليه الآن خلال 150 ألف سنة. كانت أهمية اختراع الكلمات في التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدقّ من الإيماءات، يتمّ تعليمها للصغار بسهولة. لقد سهّلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدة التعقيد"(3).
    لذلك فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحيّة الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس بواسطة رموز لغوية فكرية، وهي الكلمات. فتطورت كثيراً طرق وأساليب الترميز والتمثيل لدينا نتيجة نشوء اللغة المحكية، فبواسطة اللغة التي هي ترميز ثانٍ للرموز الحسية الخام (البصرية والصوتية وغيرها) تم تمثيل أو ترميز واردات الحواس المختلفة بلغة أو رموز واحدة، وأيضاً تمّ تمثيل أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا بتلك اللغة.
    فاختراع الكلمات وسّع حدود العقل والوعي وتطورت طريقة ربط الأفكار، هذا مما أدّى لنموّ الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغير مسبوق. فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطير بالشكل والتداول بين أفراد الجماعة.
    لذلك عندما تشكلت اللغة المكتوبة وهي بداية التاريخ المكتوب تمّت قفزة أخرى سمحت بتناقل المعلومات والأفكار دون التواصل المباشر، وبذلك نشأ التاريخ نتيجة التواصل بين البشر الذي حدث نتيجة اللغة المكتوبة.
    وقد نشأت اللغة المحكية من خلال الإشارات والإيماءات إلى لغة محكية ثم مكتوبة بدلالة إعطاء الأوامر وذكر الحوادث والقصص والروايات. وكان لنشوء الثقافة والحضارة نتيجة التوارث الاجتماعي للأفكار والمعلومات والتصرفات والتقنية بكافة اشكالها الدور الأساسي الذي جعل تفكيرنا مختلفاً عن باقي الكائنات بكافة اشكالها.
 
المصادر
1-   جريدة الزوراء البغدادية ليوم 30 كانون الثاني 2019.
2-   د. علي ثويني. الالسنة العراقية.. أمالي الشجون في الذاتية الثقافية. دار ميزوبوتاميا. ط1. 2013. ص55.
3-   نفس المصدر السابق. ص58.

104
قراءة في كتاب جمهرة الألفاظ العامية العراقية للباحث والمترجم صلاح السعيد
نبيل عبد الأمير الربيعي
    صدر عن دار الفرات في مدينة الحلة بالاشتراك مع دار سما للكاتب والباحث والمترجم صلاح السعيد كتابه الموسوم (جمهرة الألفاظ العامية العراقية) الطبعة الرابعة مزيدة ومنقحة، الكتاب تضمن 352 صفحة من الحجم المتوسط ذات غلاف وطباعة جيدة، وقد تمت فهرست المفردات حسب الحروف الأبجدية مع الإهداء والمقدمة وما كتبه الكتاب حول الكتاب من اعجاب واستحسان، ويعد الكتاب مرجعاً مهماً للمفردات والألفاظ العامية العراقية. وقد اضاف السعيد لهذه الطبعة 765 مفردة عامية جديدة إضافة للمفردات السابقة ليصبح الكتاب يحتوي على 1930 مفردة عامية عراقية مستخدمة في الوسط الاجتماعي. والكتاب ممتع وقد تضمن الكثير ومن الأمثال الشعبية وأبيات الشعر الشعبي العراقي.
    الكاتب والمترجم صلاح مهدي السعيد الحلي تولد مدينة الحلة عام 1945م، حاصل على شهادة البكالوريوس في كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية، عمل مدرساً داخل وخارج العراق، وهو عضو نقابة الصحفيين العراقيين وعضو جمعية المترجمين العراقيين ورئس اتحاد أدباء وكتاب بابل، وقد ترجم الكثر من المقالات وصدر له أكثر من (20) مؤلف بين الترجمة والبحث والتأليف، وحائز على الجائزة الأولى لوزارة الثقافة العراقية لعام 2022م في مجال بحوث العقائد والانثرولوجيا عن كتابه الموسوم (طقوس وعقائد).
    تمكن الباحث من جمع الكثير من المفردات العامية العراقية وتعتبر هذه المفردات مدخلاً لديباجة المعجم اللساني العراقي، وقد سلط الضوء الباحث على المفردات التي تطورّت وتشعّبت ونمت وتنقّلت وتبدّلت، وكأنها تحاكي روحاً وحالة عضوية قائمة، بما يوحي لنا بأن ما نقله ووثقّه السعيد هو علم يُعتّد به، ويُفخر بمكوثه. وهي مفردات نتداولها من خلال الاسترسال التراكمي من الحراك اللساني الممتد في عمق التاريخ، بعض أصول المفردات الماكثة من ألسنة لعدوّ أو محتّل سابق أو لاحق بصيغ مركبّة أو محرّفة أو مختزلة، لا تشكّل انتقاصاً من تاريخنا، لكن التوثيق يؤكد بعدم سلامة لهجاتنا من العجمة، ويمكن أن نقتبس بعض المفردات ليس للحصر مثل، أوجاغ، آهين، جادّة، جغان، عافرم، جطل، جشمجي... الخ. ونقرّ هنا أنه لا توجد لغة في الدنيا خالية من الاستعارات والتلاقحات حتى النائية منها، فالمفردات حُبلى بكلمات اللغات القريبة والبعيدة، وحتى من مصادر اللغات العراقية القديمة والعربية.
    نجد إن اللغة العراقية الحالية منجم لغوي يمكن من خلاله الوصول إلى كثير من خفايا التاريخ اللساني البشري، وأن خامته تشرَئب إلى السومرية والأكدية، أو ربما أبعد من ذلك حتى اللغات الفراتية الأولى.
    فإن دور الباحث السعيد في تدوين الألفاظ العامية العراقية سمّة لبيبة، يخشى البعض عن ضياعها وكذلك الباحث، وكم أنا ممتن للأستاذ صلاح السعيد للريادة التي قام بها في معجمه هذا (جمهرة الألفاظ العامة العراقية) التي تم اصدارها بأربع طبعات. لكن اليوم هناك مفردات دخيلة دخلت على المفردات العراقية العامية لم يسمع بها جيلي من قبل  ولا الباحث صلاح السعيد ومنها : علاس، خمط، نگري، حواسم، دفتر، بوري. فقد حدثت انقلابات جذرية في مفردات العامية العراقية، فالطبقة الحاكمة اليوم لا تأتي بعاداتها وتقاليدها فحسب، بل تأتي بلغتها ولهجتها وألقابها أيضاً، وتفرضها على المجتمع بمرور الوقت حتى يصبح الشارع صدى كلام هذه الطبقات، وثمّة من يسخر من هذه وتلك، فيحصل خلط وعجب عجاب، كما هو حاصل اليوم. فقبل عام 2003م كان الحاكم البدوي قد حوّل الشارع العراقي إلى ثكنة عسكرية ترطن بمفردات الصحراء والسلاح، واليوم جاء الفلاح بكل ترسّبات الريف، وألقى حمولته اللغوية بلهجتها الثقيلة والصادمة في الطريق. حيث يقال اليوم في الشارع العراقي للمرأة الجميلة (صاكة)، وهي مفردة عامية تطلق على الأشياء المسبوكة جيداً، و(صكه) أي صفّاه جسدياً، و(المصكوك) المغتال أو القتيل. فضرورة تدوين كل تلك التخرّصات والشطحات لتشكّل سمة مرحلة تفيد الدارسين مستقبلاً. ودراسة الكلمات تصّب في فهم سمات الناس وطبيعة زمانهم وخصوصيتهم العقيلة.
    وأخيراً نقول كثرة المفردات العامية التي جمعها الباحث صلاح السعيد لرمزية ثرائها وتراكم تجاربها وما اضاف لها من أمثال وقصائد شعبية تشكل متعة للقارئ والمتابع. وفي السابق نجد كلمة (حريشي) المتداولة في الجنوب العراقي تعني بالآرامية (السكوت أو الخرس) وتعدّ من الشتائم كدعوة للخرس، ونجد إحدى عشائر الجنوب (الحريشية) التي تعني الخرسان. وما زلت أتفحص باستغراب وفضول المفردات والأمثال التي ذكرها الاستاذ السعيد أجد بعضها سومري أو آرامي أو مندائي أو تركي أو فارسي، وحري القول بأن للكلمات روحاً ومدىً، مثلما هي الكائنات، فإن كُتب لها البقاء، فهي ماكثة، وإن وهنت، فهي فانية وبائدة، ووراء ذلك أسباب تتعلق بالجهد البشري. وتمكث المفردات رهينة يُبذَل من طرف أهلها، ولا يمكن لها أن تُعين نفسها بنفسها، وتقف شامخة دون تدخل بشري.
    وقد ذكر الباحث في ص17 من الكتاب قائلاً: "اللهجات الدارجة نجدها في كل لغات العالم تقريباً"، وهذا ما نجده في اللغات الأخرى من التركية والانكليزية والالمانية والدنماركية والسويدية، فهناك اللغة الفصحى وهناك اللغة الدارجة كما هي في اللهجات العراقية العامية.
    وثمة من يجد في الاختلاف بين اللهجة والفصحى مثلبة، وأنا أجدها مكرمة، أولها أن العامية حافظت على الموروث، والثانية أنها تضطلع على اسلوبين للتفكير يساعدنّ على تطوير ملكات العقل، كما هو حال من يتعلم لغتين، أو يعرف ثقافتين، بالرغم من أن الفرق فيما بينهما بسيط، وعن المثقفين يقلّ حتماَ، حتى تتطابق عند البعض، وهنا نقرّ أنه لا توجد لغة في الدنيا إلى صنفين إحداهما مثقفة والأخرى عامية، لذا فمن يتعلم إحداهما يفهم الأخرى.
    لكن هناك بعض الملاحظات على بعض المفردات العامية التي استخدمها العراقيون في حياتهم اليومية، وقد شرحها الباحث صلاح السعيد بغير ما هي معروفة لدى الآخرين ومنها: أستكان وهي لفظة انكليزية وتعود إلى الانكليز والهنود ومع الاحتلال البريطاني للعراق وما زالت بعض المناطق شمنال العراق تسمي الاستكان (بيالة)، لكن بعض الجنود الانكليز كانوا يتناولون الشاي بالكوب، وهو الفنجان الزجاجي الكبير، وتميزاً لقدح الشاي الهندي (البيالة) عن الكوب الانكليزي اطلق هؤلاء على القدح اسم استكان، وهذا ما اكده د. علي ثويني في كتابة (الألسنة العراقية) ص 318.
   كما اعتقد أن الباحث فد ترك سهواً بعض المفردات استخدمت في الالفاظ العامية العراقية مثال ذلك مفردات (أيجّات) وهي بمعنى الخيول المعمرة في سباق الخيول (الريسز) و(أيجه) تُطلق على المرأة التي تجاوزت فترة الشباب كذلك. فضلاً عن مفردات من الممكن إضافتها للكتاب منها: أطرقجي (بائع السجاد)، بازهر (طارد السم) وهي كلمة فارسية، بخّ بمعنى الذبح، برجم وهي كلمة تركية بمعنى (المسامير الحديدية المقببة، برداغ أي بمعنى كوب الماء وهي من لغات الشرق القديم، بلشتي (الحيلة) وقد اشتقّت من كلمة بلشفي، بلشه (ورطة)، بنجرجي، تنباك وهي لفظة هندية تلفظ على النحاس وفي التركية تعني تبغ النرجيلة، توثية (عصا)، جام كلمة تركية بمعنى الزجاج وكذلك هي كلمة من لغات البلقان، جراويّة أي غطاء الرأس وقد استعملها السوريين، جرخجي أي الحارس، جفجير، جفيان، جلاق، جلبي، جلّت أي بمعنى كلّت أو اكتفت، جمالة، جيب، جيجان بمعنى الشيشان الذين جاؤوا إلى العراق أيام الاحتلال العثماني، حايط انصيص، حبنتري، حسوه من الحساء، حمامجي، حسجة، الحرمدان أي حقيبة السفر، الجزدان كلمة تركية، البازبند وهي كلمة فارسية، خاتون وهي السيدة من اصل تركي ومغولي، خازوق من اصل تركي ويعني الوتد، خاصكي أي حاشية السلطان، خراب البصرة، خرگة ويقال للرجل خرگة وخنيوة وخنجة، خوجة أو خواجة، خنده وهي فارسية بمعنى السيد، دامرجي، داية ، الدربند فرسة بمعنى سنبلة من الحديد، درو فارسية بمعنى الألم، وهكذا هناك الكثير من المفردات بالإمكان للباحث اضافتها للكتاب ليعتبر معجم للألفاظ العامية العراقية.
    مع كل ما ذكرت سابقاً أنا اشكر الباحث صلاح السعيد لهذا الجهد الذاتي الذي بذله لإخراج هذا الكتاب الذي يضم مفردات عامية قد تندثر ويطويها الزمان على النسيان.

105
حلو ومر السنين.. استنهاض للذاكرة المشتعلة

بقلم: د. عبد الرضا عوض

إن فن كتابة المذكرات أو السيرة الذاتية هو نوع من الاجناس الادبية النثرية المؤثرة مجتمعيا والتي تفرض على كاتبها الترتيب الزمني للأحداث بمنطقية تكشف عن وعي منتج لها مستعيناً بذاكرته.. وفي هذا السياق يفترض الالمام – جهد الامكان - بمطلق المراحل والتركيز على الاهم فالمهم مما يندرج ضمن السيرة الشخصية ، وقبلها يعد ويرسم الاسلوب الذي يمكن توظيفه في صياغتها والاحاطة بها لتقديم تجربة ابداعية تعيد انتاج حياة شخصية تشغل حيزها المؤثر بما تقدمه من ابداع يستفز الذاكرة فيترك بصمته المؤثرة بفعله وتفاعله مع القارئ ..مركزا على تسجيل منجزه وتحليله والتعليق عليه بقصد الافادة المعرفية وتحقيق المتعة المنبثقة من ثنايا التجربة التي تعتمد البناء الفني واضفاء عنصر التشويق وجودة السرد ودقته .. لذا فهي ليست تاريخا لحياة الفرد بالمعنى الدقيق بل هي جزء من التاريخ الانساني...وهي نص يتميز بالموضوعية ويكشف عن جرأة كاتبها في عرض ما يرتبط بحياته ..وها هو السيد العميدي يبوح بأسراره وسفره الماتع..

" حلو ومر السنين " سياحة أدبية استنهض بها الأديب الفنان غالب العميدي ذاكرته وسطر لنا سفر رائع من ذكريات عصفت بحياته الشخصية متداخلاً مع مفردات وذكريات من مدينته الحلة الفيحاء التي انجبته وتربى في ازقتها ، فعلى مدى ستة عقود من عمره التقط شذرات من تلك المعاناة لينثرها علينا ، وفي هذا الحين تختلجني الفرحة مباركاً لصديقنا العميدي على ذاكرته في سرده لهذا السفر المنفرد باسلوبه التوثيقي.

 عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة صدر كتاب (حلو ومر السنين) من تأليف الفنان غالب العميدي مكون من (360) صفحة من الحجم الوزيري وقد زينه بالعديد من الصور التذكارية ، وطرز مقدمته الأستاذ الدكتور علي الربيعي بكلمات رائعة اختصر فيها رحلة العميدي بقوله: (يبوح العميدي في مذكراته هذه عن تفصيلات حياته التي جاوزت السّتين بأربع سنوات، سنون سرد فيها وقائعًا سردًا دراميًا مونودراميًا مؤثرًا، تلوّنت صيَّغها بين مُعلن الأحداث وخفيّها، بين أيام حلوةٍ ومريرةٍ، بين تفاؤل وابتسامات واشراقات وبين خيبات وكدرات وعذابات، بين الأخذ والجود، بين .. بين.. الخ.) ص7 .

وقبل أن نتوغل في ثنايا الكتاب لابدّ لنا أن نقول أن الفنان والأديب الأستاذ العميدي عرف عنه شخصية قيادية ناجحة ، دؤوباً في عمله يشهد له بذلك القاصي والداني ، محباً لمدينته ، - وقد لمست ذلك عن قرب حينما أوكلنا اليه مهمة رئاسة مهرجان تمصير الحلة الخامس والسادس – ويحمل افكاراً وطنية معتدلة ، فضلاً عن منبعه الحسن الذي تمثل بإنتمائه الى سلالة آل محمد(ص) حمل صفات حسنة وقويمة ميزته بالتزامه الوظيفي صفة قل أن نجدها بين المدونين ، لقد نهل وشيد لنفسه خلفية المثقف الواعي من خلال نهمه في قراءة كل ما يقع بيده من كتب الأدب والفنون والتاريخ غائراً الى أعماق التاريخ ، فقد نشأ في بيئة لامست التطور التقني وعاشت مرحلة التطور الاجتماعي وراقب ولاحق التطور وتقلبات العصر ، فالمحلة التي غرف من تقاليدها القيم الإنسانية الأصيلة ألهمته الصبر والقناعة ، مواكبا لكبار الشخصيات الاجتماعية والأدبية فجاءت كتاباته في هذا السفر مغلفة بوجهات نظر إنسانية من جهة ، ومكملاً لإبداع مهنته المسرحية التي ابدع بها من جهة ثانية ، فقد درس الفنون ومارسها بحياته العملية، وتابع مناشطة الفكرية متابعة متحفظة بعد رحلة طويلة في اخاديد طبقات المجتمع وأصحاب القرار الإداري والوظيفي في مدينته، فعمله الوظيفي كان يفرض عليه متابعة وتعقيب لما يطرح من افكار ، فهو يتمتع بوساعة المعرفة ، ومتابعة فذّةٌ في المحورين الاجتماعي بجانبيه – الوظيفي والمدائني-  ثم الثقافي ، ولا نغالي أن قلنا انه مثقف سليط شجاع ، لم يتنازل عن مبادئه التي آمن بها .

هذا المنجز كتاب مميز لأنه تعامل مع الحقائق بطريقة مجردة من الأهواء فهو يسلط الضوء على بعض المعاناة نتيجة التحولات الفكرية والتطورات العلمية والانقلابات السياسية ، وفي تدوينه لم يعتمد الأسئلة المباشرة لإنجازها ولا الأجوبة الغيبية لانحسارها، وإنما آثر أن يتخذ طريقاً مغايراً من خلال تماهي الطرح بالأسئلة وهذا ما لمسناه في ذاكرته الوقادة فهو يستهل مدونته بمقدمة جميلة  جاء فيها : (التجاربُ الإنسانيةُ دروسٌ وعِبَرْ، ولكلِّ إنسانٍ تجربتُه التي يمرُّ بها مخيّراً كان أو مسيّراً، والعراقيون وبخاصَّةٍ منهم من هم من جيلي، ربّما يكونوا أكثرَ الناس الذين مرّوا بتجارب مريرةٍ لم يمرَّ بها غيرُهم من الأجيال، فجيلُنا هو جيلُ الإنقلابات العسكرية، جيلُ الحروب والحصار والإحتلال، جيلُ المفخخاتِ والإنفجاراتِ والقتل على الهوية...) ص17 .

ثم يأتي في مكان أخر واصفاً منبعه الاجتماعي من خلال لمحة عن حياة والده الكادح بصدق قائلاً: (كان على الرغم من فُقْرِه ذو حضور اجتماعي مميّز، وكان وجهاً من وجوه منطقته، طولُه الجميل وسحنتُه الحنطيّة واستقامةُ جسده، منحتْهُ هيبةً ووقار وهو يرتدي الكوفية والعقال بعد انتهائِه من عمله وتوجُّهه لأداء واجب اجتماعي ما، لأنَّه كثيراً ما كان يُستعان به في التوسّط لحلِّ مسألة ما أو إنجاز عمل يهمُّ الجميع لما يمتاز به من حِنكَة ومنطقٍ وهدوءٍ وعقلانية).ص21

 لقد دون الكاتب في اول يوم دخوله المدرسة بعد أن احس باقترابه من عادات المجتمع ان الحدود بين شخصية الفرد المعاصر، وشخصية ما تلقاه من أسلافه عبر الحكايات الليلية تشكل تبايناً حلمياً قائماً على التخييل، وان تبادل الأدوار بين الجيلين تبادل اقتضته طبيعة الحياة ، وهذا ما تناوله لنا مثلاً في اول سني دراسته بقوله :(أحببت مدرستي، واظبت على الالتزام بالدوام وأداء الواجبات المدرسية رغم العوز الكبير وعدم توافر أبسط مقومات الحياة البسيطة، إذْ أنَّ بيتنا الذي نسكن فيه ما هو إلاّ غرفةٌ واحدة تم استئجارها للسكن، تُجاورها غرفٌ عدَّة استؤجرت هي الأخرى من عوائل لا تمتُّ لعائلتي بصلة، سوى أنَّهم من طبقة واحدة هي الفقراء.)ص48.

ويصف لنا محلة المهدية رغم ما نتحفظ عليه من توصيف جغرافي فالمحلة ولد وترعرع فيها متنقلاً بين حاراتها وازقتها العتيقة ومقاهيها الشعبية واهلها بمختلف توجهاتهم.ص30 فهو يسرد الينا ، بحضور جاد أحياناً ، وساخر أحياناً أخرى ، ذلك الحضور الذي يسلط الضوء وينير للقارئ العادي الطريق في محاولة فك الاشتباك بين الطباع والتطبع0 وماولة تشكيل فريق لكرة القدم الذي حمل اسم (الطلائع الثورية) بعد أن شُخص احد الحزبيين ليكون مشرفاً عليه:ص66 ،  ثم بما عايشه من خلال خدمته في التعليم بمدارس على حافات المياه وفندق (الحميضي الذي ما يزال عالقاً في ذاكرته بغرفه الواسعة و..... ص103، أو الخدمة العسكرية في غرب البلاد في منطقة نائية حدودية كنتُ قد عايشتها في تلك الحقبة.

ولو حاولنا أن نعطي توصيفاً مختصراً شمولياً لمحاور وطبيعة هذه المذكرات لما استطعنا الى ذلك سبيلا ، لأنها شكلت حزمة متأرجحة من حياة تقترب من الحلم فكان مسار الأحداث مساراً مؤلماً يقترب من مرارة قد ألف الكاتب بعضها من قبل في مستهل صباه، كما رسم هو ليقول كلمته وتركها في نهاية الأمر.

ورغم ساعة تداخل البعدين الزماني والمكاني في تلك الحقبة نتيجة التقلبات السياسة التي اعتاد عليها المواطن العراقي فقد بقيت الأسئلة عند غالب العميدي لا جواب لها ،ففي عام 1970 يستذكر الكاتب مفارقات سياسية مضحكة حين يشتم الاعلام السياسي جمال عبد الناصر ثم يرثيه بعد دقائق ،وبذلك نراه قد وجه نقداً لمؤسسات الدولة كان المفترض أن تبني الإنسان الجديد في العراق وهذا ما طرحه عن بداية تجربته الفنية فيقولً: (على الرغم من الاهتمام الكبير منّي لكلِّ ما يجري من أحداث يمرَّ بها البلد في عام 1973، إلاّ أنَّني كنتُ متواصلاً في ممارسة الهوايتين اللتين أحبهما (المسرح وكرة القدم)، فهذا العام شهد التجربة الأولى لي للصعود على خشبة المسرح ومواجهة الجمهور، إذْ كانت المسرحية الغنائية (أفراح السلف) لكاتبها (هادي التميمي) ومخرجها (سلمان نعمة) هي أول مسرحية أشارك بها ....) ص72.

 إلا أنني وجدت نفسي منسجما ً مع تطلعات الكاتب بالرغم من وجود اختلافات بسيطة أحياناً فهو ينظر دائماً الى أن أنموذجه الإنساني غائباً بكل ما اعتمل حياته من تقلبات اجتماعية وفكرية وروحية ، وبكل ما صنع لنفسه من طموحات أوصلت به الى هذا المنحى من الأدب فقد أصبح رجل ناضج ، وشكل لديه ذلك بعداً أخر يلمسه المتابع وما أسميته البعد الروحي الذي يتماهى في كتاباته التي شكلت سبيكة أدبية وحوارية ماتعة اعتمدت في بناء أبعادها على أطراف من ثقافته الموسوعية وحين المتابعة في القراءة تستمر وكأنك تقرأ نصاً حواريا مسرحياً الذي اعتاد الكاتب على ممارسته طوال نصف قرن مضى ، فمن المؤكد أنه يكون استثمر خلفيته ابتداءً من سرديات ألف ليلة وليلة وانتهاءً بكتابات من سبقه من مؤلفي المسرحيات ، فنتج هذه السبيكة الأدبية التي تقاربت مع الذاكرة والتنوع الواقعي والتجانس الثقافي في صناعتها وهنا يقودنا الى توصيف جميل للفندق الوحيد في قضاء سوق الشيوخ (فندق الحميضي)ص103 ، ويسرد ذكرياته التي لم تبرح ذاكرته ، وقد لا يجد لها مثيلاً هذه الأيام.

وقد نجح الكاتب في ابراز تقلبات المجتمع وتشخيص الأمراض المزمنة التي تلبسته بفكر متسلسل واضح لم يهمل فيه جانباً ، واعتمد على تواصلية الزمن وتنوع اساليب المعيشة قديماً وحديثاً ، فقد وصف لنا بإسهاب عادات المجتمع سواء كانت في الريف من خلال عمله بالتدريس في مناطق جنوبية نائية من العراق أو في المدينة التي ولد وترعرع فيها ،معرجاً على الظرف الأمني الذي تعيشه تلك المناطق والطرق التعسفية المزمنة المؤثرة في تطبيق قوانين الدولة.

ينتقل الكاتب الى مرحلة الخدمة العسكرية أيام الحرب العراقية الايرانية فيوثق تاريخ خدمته قائلاً : (الأول من شهر آب 1982، هو اليوم الذي التحقتُ فيه بالخدمة العسكرية بعد انتهاء مدة التأجيل، لأجدَ نفسي مع زملائي الذين تخرجوا معي من معاهد ودور المعلمين من كلِّ محافظات العراق في ساحة التدريب (العرضات) لمركز تدريب مشاة الحلة، كانت تجربةً جديدةً ومختلفةً عن تجاربي السابقة، فلا حركة دون أمر، ولا تصرّف إلاّ بتوجيه، والأوقات محدَّدة على وفق جداول زمنية، وهنا لا فرق بين متعلِّم وأمي، لا فرق بين ابن مدينة أو قرية، فالكلُّ ينفِّذُ أوامرَ تبدأُ من آمر الحضيرة مروراً بآمر الفصيل وصولاً إلى أعلى الرتب العسكرية، وأيُّ خطأٍ من أيِّ شخص يتحمَّلُه الجميع، تحت شعارات كثيرة منها (الجيش مصنع الأبطال) و (عرق التدريب يقلِّل من دماء المعركة).

إنَّ هذا التناغم والانسجام والتماهي والتداخل شكل الأساس الذي قام عليه الكاتب فهو فخور بنهجه، فقد رسمَ صوراً من النضال الحقيقي وهو يعيش أتون التجربة العراقية القاسية القائمة على المحو والتهميش والخذلان للرموز الوطنية الصادقة في حبها للوطن متناول تجربته القيادية الجماهيرية من خلال رئاسته لنقابة الفنانين فرع بابل أو الوظيفية في ادارته لمديرية النشاط المدرسي فهو يتذكر لابل الموضوع راسخ في ذهنه : (رنَّ الهاتف الأرضي وكان المتحدثُ سكرتير مدير عام تربية بابل، طالباً منّي الحضور إلى المكتب لمقابلة السيد المدير العام للتربية، وكان حينها الأستاذ (عامر محمود الناجي) كان هذا في شهر آذار عام 1998، توجَّهت إلى هناك وعند مقابلتي له، فوجئتُ بطلبٍ من المدير العام لملأ استمارة الترشح لمنصب مدير النشاط المدرسي، أخبرتُه بأنَّي لم أتوقعْ هذا الأمر، ورجوتُه إعطائي فرصة للتفكير،..) .!!ص249 .

 لقد قدم بتأني يرافقه التحفظ نقداً ساخراً للعديد من الظواهر المستحدثة والغريبة على اخلاق المواطن البسيط ، فهو يصوغ سبيكته بهدف المقارنة بين الواقع القسري بما فيه من احتلال مع واقعنا العربي قديماً ، وهو يتلمس ويدرك بقاء اوطاننا حبيسة الخرافة والتخلف والموت والظلامية التي جاء من يقودها الآن – آسفاً - الى واقع أسوء من الظلامية الدامسة والقهر القديم فيرصد ويذكر تلك التناقضات بعد أن أصبحت له أمراً عابرا.!!، ثم القهر في سوء ادارة الدولة والتفجيرات والعمليات الارهابية التي حلت بوطننا وحصدت ارواح الأبرياء،ص273م.

وخلاصة الأمر فإن الواقع العراقي القاسي يشكل المحور الأساس الذي بنيت عليه سيرة العميدي ، واستطيع القول ان ما اقدم عليه الكاتب ما هو إلا جزء من ملحمة إنسانية من ملاحم شعبنا العراقي المقهور الذي أضحى في متاهة لا قرار لها..

هذه مقدمة ودعوة لقراءة الكتاب لاستيضاح حقيقة شخصية رجل مارس اعمال شتى في حياة تراوحت بين الصخب والفتور والجد والهزل ، وبكتابته هذه أصبح يشكل أنموذجاً أدبياً ثقافياً وابداعياً ومدنياً بقوة الوعي الذي يسكنه، فبورك له ولنا هذا العطاء المائز..

 مع الامنيات الخالصة بالتوفيق والابداع المميز .

 

د. عبد الرضا عوض

الحلة - ليل 6 / ك2/2021

 


106
المنبر الحر / طقوس الحب المقدس
« في: 22:40 05/01/2021  »
طقوس الحب المقدس

نبيل عبد الأمير الربيعي

    يقول علماء اللغة أن العرب اشتقوا مصدر (العشق) من طبيعة نبتةٍ تنمو في بواديهم هي (العَشَقَة) نبتةَ نحيلةُ الساق تشبه نحول المحبَّ. ومن طبيعتها أنها تتعشّقُ الشجرةَ فتلتفُ عليها كالتفاف المحيَّنَ مع بعضهما. وقال ابن دريد: زَعَم ناسٌ "إن العشقةَ هي (اللبلابةَ)، وزعم الزجَّاج أن اشتقاق العاشق منها.

    أما لغة القُبلة لدى شعوب العالم، لم نجد شعباً من شعوب العالم لا يولي هذه العملية اهمية كبيرة، فهي تعني لغةُ الأنسَنَةِ والتعاطف ورمز التوحيد والترابط، بواسطتها يستطيع الواحد أن يظهر مكنون اعماقه من العواطف الجيّاشة، وبها يمكنه أن يُعبر للآخرين عن عديدٍ من الدلالات التي تعنى عنها الكلمة.

    ونذكر من جملة الشعوب القديمة التي استخدمتها بشكلٍ واسع أهل بابل، فقد جاء في النصوص المسمارية أن العوائل البابلية كانت تُقبلُ أحدهما الأخرى عندما تلقى تحية الصباح.

    وتورد نصوص التوراة مجالات عديدة تتخذ فيها القُبلة كتعبير عن حالة اجتماعية معينة، كقُبلة الولد لوالده أو والدته أو حميّه أو الوالد والوالدة لأولادهما واحفادهما. وقُبلة الأقرباء والاصحاب وقُبلة ذوي المرتبة الواحدة للصداقة أو التظاهر بها. وقُبلة المختلفين رتبةً على نوعٍ من التنازل أو الوقار، وجعلت القُبلة احياناً كعلامة على المصالحة.

    وكان المسيحيون الأوائل يحيّون بعضهم بالقُبل وهي (قُبل السلام)، وعندهم ما يسمى بالقُبلة المقدسة ولا تزال باقيةً في تقاليد الروم الكاثوليك، كأن يُقبل أسقف كاهناً جديداً وهو نفسه كان قد قُبل عندما كُرس لمنصب الكهنوت. وكان من تقاليد الفرسان في العصور الوسطى تقبيل بعضهم عند منحهم اللقب.

    وقد تستخدم (قُبلة الأنف) عندنا في العراق ولكن ليس أنفاً بأنف بل أنفاً بخدَ، حيث يقوم الواحد بعد المصافحة بوضع انفه على خدَ الشخص الآخر ويستنشق بقوة. وإذا كان هذا الآخر ممن يألف هذه العادة فأن الاثنين يتبادلان التحية بتبادل الاستنشاق.

    وقد ظهر في الدراسات أن هذا النوع من التقبيل مألوف لدى الساميين الاوروبيين (أي اليهود)، ولدى الشعوب في الجنوب الشرقي من الهند حسب ما ذكرته الموسوعة البريطانية.

    نجد في الكتاب المقدس – الذي يضمُ بين دفتيه التوراة والانجيل – ذكراً لأنواع عديدة من القُبل معززة بوقائعها التاريخية أو غاياتها الاجتماعية أو الدينية. ونظراً لكون التوراة هي الأقدم في التاريخ فإننا نعثرُ بين ثناياها على أحافير آثارية من ممارساتٍ للتقبيل كانت الشعوب التي سبقت اليهودية أو التي عاصرتها تؤديها اثناء عباداتها كالشعوب التي عبدت (البَعْل) - أي السيد أو المالك أو الرب – فأنها كانت تقدم له الاضاحي البشرية وتجثوا أمامه وتقبّله حسبما جاء في سِفر الملوك الأول.

    وقد انتقلت هذه الشعيرة إلى اليهود أنفسهم في زمن النبيّ (إيليا) (بحدود سنة 880-850 ق.م)، حيث ارتد قسم كبير منهم عن ديانة التوحيد وعبدوا البعل وسجدوا له. وقد جاءت الاشارة إلى ممارسة تقبيل الأيادي للشعوب التي عبدت الأجرام السماوية، فكانت طريقة عبادتها تجري بمد اياديهم نحوها ثم يقبلونها وكذلك يفعل عبدة القمر. وهذه الممارسة قد اشار لها في سِفر (أيوب) عندما تضرع إلى الله قائلاً: "فلتسقط كتفي من كاهلي ولتنكسر ذراعي من مفصلها إن كنت نظرت إلى الشمس حين سطعت أو إلى القمر يسير بالبهاء، فافتتن قلبي سِراً وأرسلت يدي إليها قُبلةً من فمي، انها جريمةٌ ترفع إلى القضاة لأني اكون قد كفرت بالله العلي".

    كما نجد في التوراة اشارة تفيد بأن اللحية علامة من علامات الافتخار وكرامة الإنسان. فإذا أُريد تقديره قبّلوا لحيته ولذلك كانوا يعتنون بها وكان اهمالها عندهم دلالة على تشويش أو خَلَلٍ عقلي. ولكنهم كانوا يطلقونها في حالات الحزن، كما انهم ينتفونها أو يجزونها دلالة على الحداد، فعندما وصل إلى سمع النبي (عزرا) (العُزَير) إن شعبَ إسرائيل وكهنتهم تزوجوا من نساء اجنبيات واختلط نسلُهم بأمم الأرض عَمَد إلى ثيابه فمزقها ونتف شعر رأسه ولحيته.

    وكانت أكبر اهانة توجه إلى الإنسان عندما يعاقب بحلقِ نصف لحته، كما فعل ملك العموريين بعبيد داود. فأنه أهانهم إهانة كبيرة عندما حلق أنصاف لحاهم. وتعتبر إهانة اللحية عند الساميين بشكل عام من أعظم الاهانات التي لا تغتفر أما تقبيلها فهو من علامات التقدير والاحترام والأجلال.

    وفي نشيد الإنشاد أي (شيرها شيريم لي شلومو) ويعتقد النشيد للنبي سليمان، وهو أحد الاسفار الشعرية الخمسة التي يضمها العهد القديم (التوراة) وهي: أيوب والمزامير والأمثال والجامعة والخامس، والأخير هو نشيد الانشاد الذي هو عبارة عن قصيدة غزلية مطولة تقوم على اساس السرد الجواري بين عاشقين فتحا نفسيهما للحب، فتدفقت احاسيسهما عبر الابيات الشعرية الجميلة بحرية مطلقة، غير عابئة بالالتزام بأصول الحشمة الواجب التزامها في كتاب ديني. ولذلك قيل أن القصيدة مخلة بالآداب لما جاء فيها من اوصاف دقيقة للمواضيع المحرمة من جسد المحبوبة وبعض المواقف الشبقية التي تفصح عن وقوع الممارسة الجنسية اثناء خلوة الحبيبين.

    ولهذا السبب فَقدَّ النصُّ صفة القداسة عند البعض فصار النشيد يقرأ في الخمارات وكأنه اغنية خمرية. اسمع مثلاً (بنات أورشليم) ينادين في النشيد:

"كلوا ايها الخلاّن

اشربوا حتى الانتشاء ايها المحبون".

    ولكن علماء التوراة نظروا إليه نظرة تقديسية بالغة التطرف فقال عنه (رابي عقيبة) في القرن الأول: "إن سائر الكتب كلها مقدسة أما النشيد فهو قدس الأقداس.

    تعرف هذه القصيدة بأنها من نظم سليمان بن داود، ويعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد، لكن عند الاطلاع على القصيدة لا نجدها تصدر من نبي، وقد تكون قد صدرت من ملك يدعى سليمان أو شلومو، ولذلك نستبعد أن تصدر مثل هذه القصيدة من الله سبحانه وتعالى. فالنشيد لا يعدوا كونه إلا قصيدة غرامية بين فتى وفتاة مارسا الحب فيما بينهما.

    اما شارحي التوراة فقد اعتقدوا أن الذي حصل بين عروسين هما النبي سليمان والعروس شلوميت (سلمى)، وقد تزوجها بعد معاناة غرامية وملاحقة مجهدة مما أدى إلى افتتاح قريحته بهذا النشيد الموحى إليه من الله. لكننا نجد أن النبي سليمان قد أقحم في النص وهذا ما يؤكده العالم الاثنولوجي (ج. ج. فتشتاين). فالنص من ضمن الموروث الشعبي اليهودي الذي يغنى في الأعراس الشعبية من قبل الشعب اليهودي في فلسطين، ولا يزال هذا التقليد جارياً بين الفلاحين واهل القرى في سوريا وفلسطين ولبنان.

   ونختتم مقالنا هذا بالقول أن ما ذكرته الكتب السماوية عامة والتوراة خاصة حول العشق والحب والقبلة المقدسة ما هي إلا روايات متناقلة عبر السنين وقد فعل بها تقادم الزمن مما اعتقد البعض انها من النصوص المقدسة وقد نزلت في الكتب السماوية.

المصادر:

1-   الكتاب المقدس.

2-   عمر كحالة/ الحب/ ص8.

3-   جورج كونتنيو/ الحياة اليومية في بابل/ ص122.

4-   جورج يوسف/ قاموس الكتاب المقدس/ مادة قُبلة.

5-   حسين علي الجبوري. القُبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحب والدين والسياسة. دار آراس. اربيل. ط1. 2012. ص25.

6-   حسين علي الجبوري. القُبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحب والدين والسياسة. مرجع سابق. ص33.

7-   حسين علي الجبوري. القُبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحب والدين والسياسة. مرجع سابق. ص47.

8-   آن ماري بلتيبة. نشيد الأناشيد. ص8.

9-   صموئيل نوح كريمر. طقوس الجنس المقدس عند السومريين. ص129.


107
تاريخ الديانة المسيحية في الموصل
نبيل عبد الأمير الربيعي
      تشير المصادر إلى أن (مار ماري) عمل أوّل إنجاز إنجيلي في بلاد الرافدين عندما خدم فيها كرسول تبشيري، إذ أرسله (مار ماري) من أديسا إلى الشرق فوصل أولاً إلى نصيبين ثم تحرك إلى أربيل عاصمة أديابين (حدياب) في كردستان العراق، فعمل على تنصيرها وتنصير كثير من بلاد الفرثيين كما مذكور في سفر أعمال الرسل 9: 11.
      تؤكد الوثائق التاريخية الكنسيّة أن المسيحية دخلت إلى بلاد الرافدين في القرن الأول الميلادي، إذ قال جاثليق المدائن طيمثاوس الأول المتوفي سنة 832م ما معناه "كانت الديانة المسيحية منتشرة لدينا بعد صعود المسيح إلى السماء بنحو عشرين عاماً"، كما أن أول نص مكتوب عن وجود المسيحيين في بلاد الرافدين جاء من كتاب برديصان، إذ قال: "إن المسيحية نودي بها في الشرق منذ القرن الأول الميلادي"، وفي شمال بلاد الرافدين قبل غيرها من المناطق، يؤيده التقليد الذي يروي أن مار أدي بشّر بالمسيحية وتمكن من تعميد رجل إسمه (فقيذا) نحو سنة 99م، وهو من فقراء أربيل، وألتحق بمار أدي الذي كان يكرم في أمارة حدياب (أديابين) لمدة خمس سنوات، ثم عيّن (فقيذا) أسقفاً لأربيل سنة 104/114م، وأن مار أدي ومار ماري كانا أول مبعوثين بشرا بالمسيحية في مدينة كرخ سلوخ (كركوك حالياً) والمناطق المحيطة بها .
      وقد ذُكرت بلدة الموصل لأول مرة في التاريخ عام 570م، حين شيّد الراهب النسطوري إيشو عياب بر قسري في حصن عبرايا (هيكلاً كبيراً وديراً)، وأصبح دير إيشو عياب يعرف اليوم بكنيسة ما أشعيا، وفي عام 590م شيّد الملك كسرى الثاني أبرويز دوراً كثيرة حول الدير للسكنى فيها، وفي عام 627م دحر كسرى الثاني الإمبراطور البيزنطي هرقل في معركة دارت قرب نينوى فتحولت هذه القصبة من فارسية إلى رومانية، وخضعت لإدارة أنطيوخس حاكم تكريت، وأخيراً استسلمت المدينة عام 637م إلى العرب المسلمين من دون قتال، يومئذ صارت تظهر عند الجغرافيين والمؤرخين باسمها الحالي الموصل (أي نقطة الإتصال).
      وقد عرف في مدينة الموصل دير يونان بن أمتاي أو دير يونس، وهو معبد آشوري ثم أصبح ديراً، وإن الشخص المدفون في النبي يونس هو الجاثليق الشرقي حنانيشوع الأول، الذي أنشأ ديراً في هذا المكان في القرن الرابع الميلادي في إثر الانتشار المبكر للديانة المسيحية في مدينة نينوى المندثرة، وحين توفيَّ حنانيشوع الأول دفن في الدير وليس النبي يونان المذكور في العهد القديم (سفر يونان)، الذي لم يأت قط إلى هذه البلدان، وقد التبست هويته لدى البعض لأن ثمة ديرين آخرين باسم دير النبي يونس أو يونان، أحدهما قرب دمشق والآخر قرب الأنبار، فقد فتح قبره سنة 1350م وظهر جسده محفوظاً وكأنه نائم، والجامع الحالي لا يُرى متجهاً نحو مكة، بل نحو الشرق كما كان شأن كل كنيسة قديمة، حتى أن حجر التجديد الذي وضعه إبراهيم الخاتوني سنة 1365م بمثابة المحراب تحتّم وضعه عرضياً بالنسبة إلى الجدار الذي هو في صدر الجامع، وذلك لتحديد القبلة الجديدة، كما أن المدخل الرئيس هو مقابل جدار المذبح، شأن باقي الكنائس.

المصادر:
  1- المطران اسطيفان بابكة. أبرشية حدياب عبر التاريخ. مجلة بين النهرين 31. عام 1980. ص274/275.
  2- رفائيل بابو إسحق. تاريخ نصارى العراق. من انتشار النصرانية في الأقطار العراقية إلى أيامنا. مطبعة المنصور 1948. ص3/4.
  3- فرست مرعي. انتشار المسيحية في كوردستان. مجلة الصوت الكلداني. دهوك. 2005. ص11.
  4- الأب جان موريس فييه. الآثار المسيحية في الموصل. ترجمة نجيب قاقو. مراجعة وتنقيح وتصحيح الأب البير أبونا. بغداد 2000. ص13/15
  5- تافرنييه. العراق في القرن التاسع عشر. ترجمة وتعليق بشير فرنسيس وكوركيس عواد. بغداد 1944. ص143.


108

الزواج والعلاقات الاجتماعية عبرَّ التاريخ

نبيل عبد الأمير الربيعي

    تتباين النصوص القديمة في مسألة اكتشاف الإنسان القديم لأعضائه التناسلية، وللعملية الجنسية ولمفهوم الخطيئة. فبعض هذه النصوص تحمّل حوّاء سبب الخطيئة الأولى، ونصوص أخرى تلقي اللوم على آدم لأنه أوقعها في الغواية. ورغم تضارب الآراء حول علاقة آدم بالجنس، فإن بعض المصادر تشير إلى أن آدم غشي حوّاء على الأرض، بعد أن اجتمعا في الأماكن المقدّسة. ومصادر أخرى تشير إلى أنه قد غشيها في الجنة قبل أن يهبطا إلى الأرض، وحملت له بقابيل وتوأمته. وفي هذه الاحتمالات كان الاكتشاف الأول للجنس أيضاً. وجاء في كتاب (المرأة والأسرة) لـ(عبد الهادي عباس) بأن أغلب النصوص القديمة، قد اجتمعت على أن آدم وحواء اهتديا إلى الجنس على الأرض، وتوالدا عليها.

    واجتمعت تلك النصوص على اعتبار الأعضاء الجنسية عند الرجل والمرأة سوءةً. وهي مرتبطة بسوءتها. لذلك منح الإنسان الثياب ليواري بها سوءته. وكذلك تعتبر إفرازات الأعضاء التناسلية من النجاسة. وكانوا يسمّونها (الماء المهين). وإن صفة (المهين) ليس على أنها السائل نفسه، بل بسبب خروجه من نهاية الجهاز البولي. بمعنى أنه (مهين) لخروجه من نفس مكان خروج البول. وورد في رأي بعض فقهاء الإسماعيلية في كتاب (كشف الأسرار الباطنية) لليماني: بأن المني ليس بنجس، ومنه خلق الله الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة، وهو مبدأ خلق الإنسان. وقال الشافعي أيضاً: إن المني طاهر، وما جاء في الحديث عن عائشة أنها كانت تفرك المني من على ثوب الرسول، ثم يصلّي به(1).

   أما موضوع الأسرة والزواج فقال ديورانت في الصفحات الأولى من كتابه (تاريخ الحضارة): "إن الزواج هو أحد اكتشافات أجدادنا الحيوانات. وإن بعض أنواع القرود تعيش بشكل أُسرة تتكون من الذكر والأنثى والأولاد". بمعنى أن مفهوم الأسرة في التاريخ قد ظهر قبل الإنسان كشأن غريزي وطبيعي، لا علاقة له بتطور المدنية. وخارج محيط الأسرة يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق الاجتماعية والطبيعية، خصوصاً في مجالات العلم والعمل. والذي على أساسه يبرز التميز بين المجتهد والمبدع والأكثر اتقاناً واستعداداً، وبين المهمل والأقل إبداعاً وإنتاجاً وابتكاراً. وبفعل هذه النتائج يحصل الأفراد رجالاً كانوا أم نساءً على حقوق مكتسبة غير متساوية فيما بينهم.

   ذكر ياقوت الحموي في المعجم الجغرافي عن مدينة سماها (مرباط) ما نصّه: "إن نسائهم تخرج كل ليلة إلى ظاهر مدينتهم، يسامرن الرجال الذين بلا رحمة، يلاعبنهم ويجالسنهم، حتى يذهب أكثر الليل. فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمّته. وإن هي لاعبت رجلاً آخرَ، عرض عنها ومضى إلى امرأةٍ أخرى". وذكر ابن بطوطة ما يشبه ذلك، عن عاصمة عمان (نزوا) ما نصّه: "كنت يوماً عند سلطان عمان أبي محمد بن نبهان، فجاءته امرأة صغيرة السن، حسنة المظهر، بادية الوجه، فوقفت بين يديه قائلة: "يا أبا محمد، لقد طغى الشيطان عليّ.. فقال لها: أذهبي واطرديه. فقالت: لا أستطيع وأنا في جوارك يا أبا محمد. فقال لها: اذهبي وافعلي ما شئت... وقيل لي مثل هذه إذ تذهب إلى الفساد ولا يستطيع أبوها أو ذوو قربتها من منعها أو قتلها. وإن فعلوا، قتلوا بها، لأنها في جوار السلطان"(2).

    ويروي الأستاذ (عمر كحالة)، عن قبيلة أسترالية تدعى (الكاملية) بأنها مكوّنة من أربع عشائر، وكل رجلٍ في العشيرة الأولى يعتبر نفسه زوجاً لكل امرأة في العشيرة الثانية. وكل رجلٍ في الثانية هو زوج لكل امرأةٍ في العشيرة الأولى، وهكذا بالنسبة للعشيرتين الثالثة والرابعة. فإن التقى رجل من العشيرة الأولى بامرأة من الثانية، ناداها باسم الزوجة، وعاملها معاملة الزوجة، دون أن يعارضه أحد(3).

   وفي بعض المدن الهندية، كانوا يزّوجون البنت عند بلوغها السادسة عشرة، من غلام لم يبلغ الخامسة أو السادسة من العمر فقط. ومتى تزوّجت البنت، حقّ لها أن تضاجع من تشاء، من أقارب أمها لا من أقارب أبيها. وذلك لتحريم مصاهرة أقارب الأب عندهم. وعادةً ما تنتقى المرأة خالها أو ابن خالها أو أبا زوجها، ليصبح لها زوجاً مضاجعاً. وما يلدن من الأبناء ينسبون إلى زوجها الصغير. وحين يبلغ ذلك الزوج الصغير أشدّه، ويجد زوجته في فراش غيره، يبحث عن قريبةٍ له في مثل سنه فيضاجعها، وإن حملت هذه الأخيرة وولدت، يُنسب المولود إلى زوجها الصغير، كما حدث مع مضاجعها حين كان صغيراً(4).

    وفي بلاد (التيبت)، تبحث الأمهات عن رجال يفضون بكارة بناتهن. وعند بعض قبائل الفلبين، يقوم موظف خاص بهذه المهمة، لقاء أجر بسيط معلوم. لكن بعد أن سادت سلطة الرجل في الأسرة والمجتمع لفترات طويلة، تلك الفترات التي جعلت من مفهوم (العفّة الجنسية) للمرأة، امتداداً ضمنياً لإحساس الرجل بالسلطة والنفوذ والتميز. فازدادت قيمة البكارة عند المرأة، ولم يخطر ببال الرجال أن يقيّدوا أنفسهم بهذا القيد. ولم نجد أيَّة جماعةٍ في التاريخ، كانت قد أصرّت على (عفّة الذكر)، بل نجد في أيَّةِ لغة من اللغات، معنى كلمة الرجل البكر.

    وورد أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب (ع) قائلاً: تزوجت امرأة عذراء، فوجدتها غير عذراء، فقال له علي: إن العذرة تذهب من الوثبة والقفزة والحيض والوضوء وطول التعنيس وغير ذلك.

    أما مفهوم العائلة السائد والمتداول بيننا اليوم قد مرّت بأشواط تاريخية متغيرة وطويلة قبل أن تتبلور على ما هي عليه الآن. لكن العائلة العربية الأولى ارتبطت بشبكة معقدة من العلاقات العميقة البدائية، لذلك فالعائلة الأولى قد تطورت بروابط الأجيال، وانتقلوا من عفوية وطلاقة الاتصال الجنسي إلى مرحلة الصيغة الجديدة للعائلة، وبدأوا بتحريم العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة ممن يرتبطون بعلاقة قربى دموية. ومن ثم ضاقت دائرة الاتصال الجنسي لتشمل غالبية الأقارب تقريباً. فتلاشى مفهوم العائلة الجماعية ليحل بديلاً عنها المفهوم الأول لتعدد زوجات الرجل الواحد. ومما سبق ارتباط المولود بأمه وانتسابه لها. ثم بدأت تبرز سلطة الذكر في المجتمع البدائي مقابل تراجع دور المرأة القيادي، فأصبح للمولود الجديد أب محدد بعد أن كان له أم فقط.

    لذلك نستنتج من خلال الزواج تتكون الأسرة ومفهومها، ومن ثم تتكون القبيلة والمجتمع، ومن ثم تتكون المنظومة المجتمعية والدينية من خلال التحكم بالعائلة بشبكة من القواعد والقيم والأعراف. لكن بكل ما جلبته العولمة والحداثة المعاصرة من تطورات تبقى العلاقات العائلية مرتبطة بشكلٍ ما بأسس العائلة القديمة من خلال سن الشرائع الجديدة التي تتحكم بعلاقة المرأة بالرجل. لكن بسبب تطور وسائل وقوى الإنتاج بات بسيطرة القمع والاضطهاد للمرأة عبر المراحل الاقتصادية من مرحلة المشاعية إلى مرحلة الرق والعبودية ثم مرحلة الاقطاع ومرحلة الرأسمالية المضطهدة للشعوب مما تراجع دور المرأة ومصيرها ومستقبلها، وأخذ يرتبط برغبة الرجل وسيد العمل. وبدأ التناحر الاجتماعي والطبقي ضمن دائرة العلاقات الاقتصادية والملكية الفردية، مما أدت إلى فقدان الأسرة صفتها الإنسانية الحرة.

   لكن اليوم ونحن في القرن الحادي نجد أن العائلة العربية عامة والعائلة العراقية خاصة بدأت ازمتها من خلال التفكك العائلي وضعف الأسس الزوجية، وما يعكسه ذلك على علاقة الأولاد بهما، وفيما بينهم أيضاً. وإهمال الأبناء لآبائهم عند بلوغهم سن الشيخوخة، وكثرة نسبة الطلاق في المجتمع. وفي الأيام القريبة الماضية نسمع من خلال القنوات الفضائية عن المشاكل الزوجية التي وصلت إلى الانتحار والحرق والقتل ورمي الأطفال في الأنهار.

المصادر:

1-   الشافعي. كتاب الأم. ج10.  ط2. 1983. ص74.

2-      سمير السعدي. أصل العائلة العربية وأنواع الزواج القديمة عند العرب. الزيجات الإلهية. زواج المتعة. نسبة القبيلة إلى الحيوان. دار سطور للنشر والتوزيع. بغداد. ط1. 2020. ص70.

3-   المصدر السابق. ص72.

4-   المصدر السابق. ص73.


109
غالب العميدي ومذكراته (حُلوٌ ومُر من سنواتِ العُمْر)

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

    إن أغلى ما يملكه المرء في خريف حياته، ذكرياته، وأهم الذكريات وأغلاها هي التي لا تقتصر على الشؤون الخاصة بل تتجاوزها إلى الحياة العامة، فظلاً عن أن المذكرات تعتبر مصدراً مهماً من مصادر التاريخ.

    في السنوات الأخيرة صدر في العراق عددٍ غير قليل من المذكرات، وخاصة من العاملين في الجانب الفني والإداري والتاريخي والأدبي والثقافي، ومن هؤلاء الأستاذ غالب العميدي في كتابه الموسوم (حُلوٌ ومُر من سنواتِ العُمْر) الصادر عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع، الكتاب يتضمن (342) صفحة من الحجم الوزيري مدعوم بالصور الملونة، وقدم للكتاب أ. د. علي محمد هادي الربيعي.

    ومذكرات الاستاذ غالب العميدي تعتبر سيرة ذاتية وفنية وإدارية لحقبة زمنية مهمة بدأت مطلع السبعينيات وانتهت نهاية عام 2020 وما زالت مستمرة بالعطاء، وثق فيها الأستاذ العميدي حياته منذُ النشأة وحتى تاريخ احالته على التقاعد في مديرية النشاط الفني المدرسي في بابل، وتعتبر هذه المذكرات وثيقة تاريخية سجل فيها العميدي سلسلة حياته الفنية والأدبية والإدارية، منذ عام 1973 عندما كان عضواً في الفرقة المسرحية لمركز شباب الحلة ولغاية ادارته لمهرجان تمصير الحلة الخامس والسادس عام 2020، فضلاً عن دوره في إدارة النشاط المدرسي في بابل، ورئيس منبر ابداعنا ضد الحصار، ورئيس اللجنة التحضيرية لمهرجان المسرح البابلي بدوراته الخمس، ومؤسس ورئيس فرقة مسرح المسلة الاهلية للتمثيل، ورئيس تحرير مجلة (انكي)، ورئيس تحرير مجلة (أضواء)، ومؤسس ورئيس مهرجان ألق الحسين المسرحي، كما ألف واعد العميدي للمسرح (34) نصاً مسرحياً، وألف خمسة أوبريتات، وألف مسلسلاً تلفازياً بالاشتراك مع الراحل حامد الهيتي، وكتب العديد من المسامع الإذاعية، كما مثلَّ في العديد من العروض المسرحية، وأشرف على انتاج أكثر من (700) عرضاً مسرحياً مدرسياً في تربية بابل، وهناك العديد من الإنجازات والمشاركات المسرحية، والشهادات التقديرية التي حصل عليها، فتأريخه حافل بالإبداع والمنجزات الرائعة.

   تعتبر مذكرات الأستاذ العميدي وثيقة تاريخية فنية، وحسناً فعل ذلك من خلال اصدار هذه المذكرات في الوقت الحاضر. إن مذكرات العميدي تقف بحق في مصاف قائمة هؤلاء الذين خدموا وطنهم وقدموا للبلاد إخلاصهم. وإن حياة هذا الرجل وما مرَّ بها من أحداث ووقائع في تاريخ الفن المسرحي البابلي، تضفي على هذه المذكرات لا القيمة التاريخية حسب بل والقيمة الفنية والوطنية والأدبية والاجتماعية أيضاً.

    إذ كان العميدي أحد الناشطين في الحقل المسرحي البابلي والعراقي، وكونه من المخلصين الصادقين في هذا الحقل من اجل تحقيق المثل الأعلى فيه. لذا تعد حياته صفحة من صفحات العمل الفني والوطني، فهو الذي عاصر وساهم في بناء النشاط الفني المدرسي في تربية بابل وفي نقابة الفنانين فرع بابل، وله الدور الريادي في العمل الإداري والفني فيهما، إلا أنه ندرَ وجود أمثاله في هذا المجال في بابل بوصفه شخصية فنية اجتماعية ثقافية خيرية قيادية، كما له الاسهام في مجال التبرع لها... فقد كان دوماً يجسد بأعماله أروع حالات المواطنة الصالحة، فإذا أمعن المرء النظر في المذكرات وما ورد فيها بدقة، يقتنع بصدق هذا الرجل وإخلاصه ونظره الثاقب إلى المستقبل، ويتأكد من أن سجل حياته كان حافلاً بالعمل المجدي والكرم الإنساني... بحيث يمكن القول: ما أكثر الذين كانوا يلجأون إليه في مجال الاسهام في إدارة المهرجانات واللجان العليا، كما له الدور الريادي في الإدارة المؤسساتية والفنية، وخير دليل دوره الريادي في إنجاح مهرجان تمصير الحلة الخامس والسادس الذي كان رئيساً للجنة العليا للمهرجان، فضلاً عن دور د. عبد الرضا عوض المشرف العام على المهرجان وبقية أعضاء اللجنة.

    فالعميدي عرف في الوسط الفني والادبي والاجتماعي عوناً وقت الملمات والضيق، وما أسرع ما كان يمّد إليهم يد العون والنصيحة، فهو يمكن أن يوضع في طليعة من يدعو إلى التسامح، وتشهد على كل ما قلناه في سيرته العملية ومذكراته الذاتية، بالإضافة إلى شهادات شهود عيان من شخصيات ثقافية وفنية واجتماعية لهم مكانتهم ويعوّل على اقوالهم وآرائهم ومكارم أخلاقهم.

    لقد جاءت مذكراته بصورة مفصلة نوعاً ما اقتضتها طبيعة شخصيته، ولكل ذلك أرى نفسي سعيداً جداً لأنني تمتعت بمطالعة مذكراته، هذا العمل المضني الذي وثقه في كتابه هذا. ومن خلال قراءة سطور المذكرات أجد أن الحلة مدينته الجميلة تعيش في تلافيف روحه.


110
البْابِية والبَهائية في العِرّاقُ ... دراسة مَعَ نَصْ كِتابْ أَقْدَسْ

نبيل عبد الأمير الربيعي

صدر اليوم عن دار الفرات للثقافة والاعلام - العراق - بابل بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع كتابي الموسوم (البْابِية والبَهائية في العِرّاقُ ... دراسة مَعَ نَصْ كِتابْ أَقْدَسْ). الكتاب من القطع الوزيري وتضمن (334) صفحة، مزود بالصور والاحصائيات والجداول.

الكتاب تضمن مقدمة وستة فصول ولكل فصل ثلاثة مباحث أو أربعة، تضمن الفصل الأول تاريخ الشيخية والكشفية ومن هم علماء الشيخية؟ وعقائد الشيخ أحمد الاحسائي، ومعتقدات السيد كاظم الرشتي، والأسباب التي أدت إلى تكفير صاحب الجواهر للرشتي، فضلاً عن أحداث كربلاء ولقاء محمد علي الشيرازي بالسيد الرشتي.

أما الفصل الثاني فتضمن تاريخ ظهور البابية، ولقاء حسين البشروئي بالباب

ظهور البابية، ومن هم حروف حي؟ والأسباب التي أدت إلى إعتقال وإعدام الباب ، وما حدث في مؤتمر بدشت، ومحاولة أغتيال الشاه، وحوادث البابيين الدامية، فضلاً عن دور حواريو الباب في الدعوة، منهم: الملا حسين البشروئي والحاج محمد علي القدوس والملا علي البسطامي وحياة قرة العين، وقرَّة العين ومحنتها بغداد والأسباب التي أدت إلى مقتل قرة العين، ورأي الدكتور الوري بقرَّة العين، وقرَّة العَين في الأدب والفنون.

اما الفصل الثالث فتضمن سيرة حياة بهاء الله وأسرة بهاء الله، ودور بهاء الله في نشر دعوته في بغداد، وماهية كتابا الكلمات المكنونة والإيقان، وما حدث لبهاء الله في حَدِيقَة الرّضْوَان، وساعة إعلان بهاء الله بأنه الموعود، ومن ثم تسفير بهاء الله إلى استانبول، والنزاع الذي حدث بين البابية والأزلية، وسجن بهاء الله في عكا، ودور عباس أفندي الملقب بـ(عبد البهاء) في الحركة البهائية، وعبد البهاء ورأي المفكرين العرب، وساعة وفاة عبد البهاء، ودور شوقي أفندي رباني وإنجازاته في الديانة البهائية،

أما الفصل الرابع فقد تضمن عن واقع حال وحياة البهائيون في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة حتى عام 2009م، كما احتوى الكتاب على تاريخ الكعبة البهائية الأولى، والبهائيون في عهد الاحتلال البريطاني، والبهائيون في العهد الملكي، والمؤسسات البهائية في العهد الملكي، وحظيرة القدس في منطقة السعدون، والبهائيون في العهد الجمهوري ، والبهائيون في حكومة عبد السلام عارف، وساعة إلقاء القبض على عبد الرزاق العبايجي، والبهائيون وحكومة البعث، ودور السيد موسى الموسوي وموقفه من البهائيين، وحادثة إعدادية المأمون للبنات، ونص قرار حظر الديانة البهائية

حملات إعتقال البهائيين، وواقع حال البهائيون في حكومة صدام حسين، ولقاء ضابط الأمن خالد الدوري في منزل الباحث عبد الرزاق العبايجي، والبهائيّون بين علي الوردي وعبد الرزاق الحسني، وواقع حال البهائيون بعد عام 2003م والحقوق الضائعة لأبناء الديانة البهائية. وحياة البهائيون في كوردستان العراق وأماكن تواجدهم، وأرقام وإحصائيات نفوسهم.

اما الفصل الخامس فقد تضمن معتقدات البهائية والعبادات والمعاملات، وموقفهم من التوحيد والذات الإلهية والرسل والنبياء والجنة والنار والثواب والعقاب وموقفهم من الشيطان والاسراء والمعراج.

أما الفصل السادس فقد تضمن أهم كتبهم المقدسة، كما تضمن عباداتهم وقبلتهم وصلاتهم وحجهم وزكاتهم واعيادهم وتقويمهم السنوي. ومعاملاتهم في الزواج والطلاق والوفاة وقانون الأرث وعقوبة الزنى وحد عقوبة القاتل وعقوبة شارب الخمر والمخدرات ولاعب القمار، وحرمة العمل السياسي، ودعوتهم للمساواة بين الرجل والمرأة، وموقفهم من الربا، وموقفهم من العلمانية.

تعتبر البابية والبهائية حركة دينية اجتماعية مجددة بحدود ما تبنته من تعاليم جديدة، عرفت بين أعدائها بنسخ الشريعة، والبابيّة Babism فرقة دينية منسوبة إلى (الباب) الذي يعني في المعتقدات الشيعية الوسيط بين الله، أو الوليّ المقدس من نبي أو إمام وبين العبد. وقد أطلق عليها بالحركة البابية كونها حركة جديدة مشتقة في الأصل من المعتقدات الشيعية، والتي ظهرت في إيران في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، وتصاعدت في دعواها إلى أن أعلنت نفسها ديانة جديدة مستقلة عن الديانات والمذاهب الأخرى السابقة لها. وهي في اعتقاد أصحابها، أسمى وأرقى منها جميعاً بموجب ناموس الأرتقاء الديني المتفق مع التطور. وهي باعتقادهم أيضاً ذات قيمة نسبية مؤقتة خاضعة للتطور، ولذا لم تقرر البابية عن نفسها أنها آخر ما يُعطاه الإنسان من الوحي الإلهي، أو ما تستحقه الإنسانية من الأنوار السماوية.

كان المتصدي لنسخ نصوص الشريعة قُرَّة العَين، حيث تركت أماكن النساء وخلعت الحجاب واتصلت بمؤيديها من الرجال، في وقت كان الحجاب يعتبر مكمّل لعفة المرأة. لكن عندما نتابع تأريخ تطور الحركة البابية نجد أن أنصارها من علماء الدين الذين تأثروا قبلها بحركة الشيخية أو الكشفية. وقد كشف البابيين اللثام عن أسرارهم وحروفهم منها (حروُف حَي) ذات الرقم (18)، وهم حواريو الباب والمختارون من الله ليكونوا رموزاً يتجلى للبشر عبرهم، فالحاء تعادل العدد ثمانية والياء تعادل العدد عشرة، فيكون المجموع ثمانية عشر، وبإضافة الباب يصبح تسعة عشر، وهم أطياف الله المقدسين. فضلاً عن أن عدد حروف (البسملة) (بسم الله الرحمن الرحيم) تسعة عشر.

والبابية والبهائية "أحد الفرق التي انشطرت من داخل رحم الإسلام وظلت تراعي الشهادة الإسلامية والتي هي عبارتي: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)، والإقرار بلقرآن كآخر كتاب ينزل من السماء، واعتماد الحديث النبوي بما يصلح شأن هذه الفرقة أو تلك، لا سيما وأن رواية الحديث ومصدرها مختلفان من فرقة إلى أخرى"( ). وفكرة البابية ظهرت في إيران كعقيدة لأن من طبع الشعب الإيراني أنه سريع التأثر، مغالٍ في آرائه ومبادئه، ولذلك غرست بذورها في إيران وانتشرت في بقية البلدان.

وحركة البابية والبهائية ابتدأت عرفانية من خلال مسايرة الشيخية نسبة للشيخ أحمد الأحسائي في الكشف عن الأسرار، دون أن تدَّعي النبوة لمؤسسها، ثم تدرجت من العرفانية إلى نيابة الإمام المهدي المنتظر إلى باب الله، وإلى المبشر ببهاء الله، وهو مثله مثل يحيى المعمدان وعيسى بن مريم. كما بادرت البابية عبر تأويل شخصية المهدي والجنة والنار والإسراء والمعراج، من خلال كتبها (البيان) وأجزائه، و(كتاب أقدس)، وكتب أخرى، التي أدعت إنها رسالات سماوية، فكانت مخيلتهم التي أطلقوا لها العنان فتجوب السماء وتأتي برسالاتهم وكتبهم ووصاياهم وأحكامهم.

كانت دعوتهم أن يكون العالم قطب واحد ولغة واحدة ودين واحد، لأن الإنسان جعل أبنائه من امرأة ورجل، مع العلم أنها افترقت إلى فرق وهي بالمهد. كانت دعوة البابية والبهائية لتخليص المرأة من الدونية في حقوقها مع الرجل، كما اعترفت بفضل المعلم عن طريق إشراكه بالميراث، وكانت دعوتها لأثرياء العالم بانصاف العمال. إلا أن الفتاوى التي اصدرها مراجع الدين قد حرمت الإنتماء لهذه الفرقة، وتحكم على أتباعها بعقوبة الإعدام.

تعدّ "العائلة البهائية في العراق أنموذجاً لوحدة الإنسانية التي يدعون لها، فهم ينحدرون من أديان مختلفة وأعراق متنوعة، تربطهم علاقات وثيقة بعوائلهم المسلمة، أو المسيحية، وأصدقائهم وأقربائهم وجيرانهم، وهم بذلك يتداخلون مع جميع الأديان والجماعات والأقليات. ينتشر اليوم البهائيون في مختلف مدن وبلدان وقرى العراق من الشمال وحتى الجنوب. وقد استقر كثير منهم في السنوات الأخيرة في كردستان العراق، لا سيما في السليمانية، بسبب الاستقرار الأمني والاجتماعي هناك.

وبسيب غياب الاعتراف الرسمي بهم وبمؤسساتهم والصعوبات المقترنة بإحصاء أعداد أتباع أي دين في العالم، لا يوجد إحصاء دقيق لعدد البهائيين في العراق بحسب مناطق انتشارهم، إلا أن عددهم يقدر بعدة آلاف تنتشر في المناطق المختلفة للبلاد، لكنهم بكل تأكيد يشكلون نسبة قليلة من سكان العراق. وبحسب مواقع حيادية أخرى معنية بمقارنة أتباع الأديان، يصل عدد البهائيين في العالم إلى (7) ملايين. وعليه فهم يعتنقون أكثر الأديان انتشاراً بحسب المناطق. إلا أن أهم وجود لهم في الهند وإيران والولايات المتحدة.


111
بذور الفكر الصهيوني في العراق

نبيل عبد الأمير الربيعي

      إن المسألة اليهودية نشأت أولاً في مناطق الإمبراطورية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, لكنها تعود أساساً إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي راحت تدق الأبواب في روسيا القيصرية, نتج عن ذلك ما أطلق عليه في ذلك الوقت المسألة اليهودية, وذلك بسبب الشروع في مضايقة اليهود ومعاداتهم من قبل الروس, نتيجة مشاكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الروسي, التي جعلت من الصعب على اليهود بتركيبتهم الثقافية الاستمرار فيه, وهو ما قد يحدث من دون وعي من أفراد المجتمع الروسي الذي يعيش فيه اليهود في ذلك الوقت, لكن اليهود هناك بدلاً من إدراك تعدد الظروف الاجتماعية وتطورها, لم يغيروا من طبيعتهم ولم يساهموا في ركب تطور المجتمع الذي كان يسعى إلى خدمة أفراده, وهو ما أدى إلى خلق مشكلة بين اليهود والأكثرية الأخرى, رأى فيها اليهود أن الآخرين يكرهونهم أو بما صار يطلق عليه باختصار معاداة السامية, مما جعل المشكلة اليهودية تصبح أكثر عمقاً في المجتمع الروسي, هو أن اليهود كأقلية لم يحاولوا أن ينظروا حولهم لكي يعرفوا الأسباب, فيعدّلون مسارهم بما يتوافق مع المجتمع الذي يعيشون فيه. من هذا يمكن القول أن البذور الأولى للصهيونية قد نشأت بين يهود روسيا حينما أصبح اليهود في روسيا ثلاثة تيارات, التيار الأول رأى أن الحل هو الهجرة إلى دول أوروبا الغربية والعيش هناك, وتيار ثاني هو الأقلية المثقفة من الثوريين التي رأت بأن علاج المسألة اليهودية هو أن يناضل هؤلاء الثوريين مع الروس لأجل تغيير المجتمع الروسي إلى الأفضل بحيث يكون لليهود مكان مقبول فيه, لكن هؤلاء كما ذكرنا كانوا أقلية بين الجالية اليهودية, أما التيار الثالث فقد رأى أن يهاجروا إلى فلسطين فهي مهد اليهودية حيث عاد إليها اليهود في سابق الأزمان قبل أن يطردوا منها أكثر من مرة, ومن أصحاب التيار الثالث العيزر بن يهوذا الذي دعى إلى الهجرة إلى فلسطين وقد ذكر هذا في كتاب الباحث كونور كروز أبريان.

      أما الصهيونية (Zionizm) بمدلولها السياسي كفكرة تنطوي في جوهرها على دعوة العودة إلى صهيون, أي مناشدة اليهود في العالم للعودة إلى (أرض إسرائيل) بحدودها التي وردت في الكتاب المقدس (التوراة). بينما الصهيونية بمفهومها السياسي وطابعها القومي اليهودي كناية عن حركة سياسية عالمية منظمة تستند إلى مفاهيم شتى, انطلاقاً من المفاهيم الدينية إلى المزاعم التاريخية والنيات الاستعمارية.

      أسس فريق من اليهود الروس بعد سنة 1870م جمعية تدعى (حب صهيون), وقد عرفت فيما بعد بأسم (أحباء صهيون), التي كانت بمثابة حلقة وصل بين طلائع الاتجاهات الصهيونية في أواسط القرن التاسع عشر وبداية الصهيونية السياسية التي تبلورت على يد هرتزل في أواخر القرن. ودعت هذه الجمعية إلى حل المسألة اليهودية في روسيا وشرق أوروبا عن طريق (عودة اليهود إلى أرض الميعاد). إلى جانب هذا النشاط الصهيوني السياسي العملي, كان هناك نشاط يهودي أخر اتخذ طابع العمل الخيري الديني العام, وتوجه إلى الاهتمام بأوضاع اليهود الاجتماعية والاقتصادية وبالهجرة, وفي إطار هذا النشاط أسست جمعية الإتحاد الإسرائيلي العالمي (الأليانس) سنة 1860م في باريس وحدد أهدافها بالعمل من أجل مساعدة وتحرير اليهود وتقدمهم الفكري.

      والصهيونية ظهرت لأول مرة كفكرة موثقة في العصر الحديث في الكتاب الذي أصدره المفكر الصهيوني الألماني ناتان بيرنباوم ونشره عام 1893م تحت عنوان (البعث الثقافي للشعب اليهودي في أرضه كوسيلة لحل المشكلة اليهودية), وقد استعمل بيرنباوم لفظة الصهيونية بدلاً من عبارة القومية اليهودية التي كانت سائدة آنذاك في كتابات المفكرين والكتاب الصهاينة الأوائل, دعاة تأسيس الدولة اليهودية, وفي هذا الكتاب كما في صحيفة (التحرر الذاتي), أعاد بيرنباوم طرح الأفكار التي سبقه إليها عدد من دعاة الصهيونية.

      والصهيونية كفكرة تنطوي في جوهرها على مناشدة اليهود في العالم للعودة إلى (أرض إسرائيل) بحدودها التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس(التوراة). وهي بالتالي حركة أوروبية الجذور نشأت وترعرعت وسط القومية الأوروربية في القرن التاسع عشر, وتأثرت إلى حد كبير بجو عصر القوميات الذي ساد أوروبا آنذاك, فجاءت وليدة العقد الأخير من القرن الماضي عندما بلغ التوسع ذروته.

      يؤكد الدكتور أحمد سوسة:«إن إدعاءات الصهيونية في أن اليهود المعاصرين هم أنسال بني إسرائيل القدماء يحاولون بذلك الربط بين حركتهم السياسية وتاريخ بني إسرائيل, الدين القديم في فلسطين لتبرير ما يهدفون إليه من إقامة دولة وكيان قومي لهم في فلسطين إدعاءات باطلة زائفة لا تستند إلى أساس علمي أو واقع تاريخي ولا يقرها المنطق, لأن اليهود المعاصرين هم أبعد ما يكونون من بقايا يهود الشرق. والدليل على ذلك أن إسرائيل الصهيونية تنظر إلى يهود البلاد العربية نظرة بها تمييز وتفرقة».

      لهذا نعتبر أساس المشكلة اليهودية قد نبعت بسبب الهجرة اليهودية من الشرق, من روسيا وغيرها أى أوروبا الغربية, وبسبب بروز التناقضات بين الجاليات اليهودية وبين الناس في المجتمعات الأوروبية التي أصبح يعيش فيها المهاجرون اليهود, مما أدى إلى تعرض الجاليات اليهودية في دول مثل بريطانيا وفرنسا واسبانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها إلى عملية اضطهاد منظم, وهكذا وقع اليهود في الشرق وفي الغرب بين نارين, نار المذابح التي كانت تتم لهم في روسيا وفي بولندا وغيرهما, ونار الاضطهاد العنصري في دول أوروبا الغربية, من هنا نشأت المشكلة اليهودية, وارتبطت في القرن التاسع عشر بمشكلة أخرى اسمها المسألة الشرقية, حيث أن المسألة الشرقية كانت تطلق على دولة الخلافة العثمانية التي كانت في ذلك الحين تسمى رجل أوروبا المريض, المسألة الشرقية بالنسبة للغرب الاستعماري كان المقصود منها كيف يمكن تقسيم تركة دولة الخلافة العثمانية, لهذا تصدرت المشكلة اليهودية مع المسألة الشرقية اهتمام الدول العظمى في ذلك الزمان.

      من هذا فقد بدأ يتواصل مبعوثون كثيرون من فلسطين إلى العراق, وهؤلاء لم يبيعوا الصكوك فقط, وإنما جمعوا التبرعات للمؤسسات الخيرية في المدن المقدسة الأربع : القدس, الخليل, طبريا وصفد, لقد حظي المبعوثون بتكريم عظيم بفضل مجيئهم من فلسطين. واستمر المبعوثون بالتوافد على العراق وبالتجول بين مدنها وقراها حتى العشرينات من القرن الماضي, وقد أورث بعض اليهود العراقيين ممتلكاتهم ليهود فلسطينيين, مثل يعقوب تسيمح الذي توفي في بغداد في أوائل الأربعينات من القرن التاسع عشر.

      وفي عام 1854م هاجرت من العراق مجموعة من تلاميذ مدرسة اليشيفاة وعائلاتهم لإيمانهم بأن الاستيطان في فلسطين يدني ساعة الخلاص, من بينهم كانت عائلات مني, يهودا, اغا بابا وغيرها.

      يذهب المفكر محمد عزة دروزة إلى اعتبار نشأة الحركة الصهيونية في أواسط القرن التاسع عشر, جاء نتيجة لما وقع على اليهود في أوروبا من اضطهاد. فمنذ شتات اليهود في القرن الأول الميلادي تشير المصادر التاريخية إلى أنهم قد عاشوا في أحياء خاصة معزولين عن غيرهم من الملل الأخرى.

      لهذا استغل زعماء اليهود واقع حال الدولة العثمانية وانهيارها وتوجهوا أولاً إلى بريطانيا فطالبوها بحل مشكلة اليهود, وتحدثوا بالدعاوي الإنجيلية والكتب المقدسة, فلم يستمع إليهم أحد, فوجد اليهود أن أفضل وسيلة هي محاكاة الإمبراطورية البريطانية عن طريق المصالح المشتركة, وأمام إغراءات زعماء اليهود المقدمة إلى بريطانيا, جعلوا مصالحهم اليهودية تلتقي مع مصالح الإمبراطورية في مسألة المشكلة اليهودية, فكان ذلك مقابل ثمن يقدمه زعماء اليهود, وتم إنشاء بعض المستعمرات اليهودية في فلسطين, وتم تهجير بضعة آلاف من اليهود إلى تلك المستوطنات في تلك الأيام, فضلاً عن ذلك كان هناك عدة قرارات اتخذت كمستوطنات لتوطين اليهود منها في مصر وليبيا وأوغندا والعراق, لكن كان قرارهم الأخير أرض فلسطين حسب مفهوم الحدود الإنجيلية.

       عام 1878م تم إنشاء أول مستوطنة يهودية في فلسطين تدعى (بتاح تكفا), وبعد فترة من الزمن كانت هناك مساعي حثيثة لنشر كتاب هرتزل (دولة اليهود) عام 1896م, ثم تم عقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م, في بازل بسويسرا, حيث تم تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية, والقرار بتشجيع الاستيطان الصهيوني في فلسطين, وتيودور هرتزل(1860م-1904م) كان يرأس المنظمة حتى وفاته, وفي عام 1901م عقد المؤتمر الخامس في بازل من 26 ولغاية 30 كانون الأول 1901م وصدر قرار بالإجماع على إقامة (الكيرن كييمث) الصندوق القومي اليهودي وهو يهتم بمصالح اليهود في دولة إسرائيل.

      حسب تقديرات الكثير من الخبراء أن الهجرة اليهودية تمت من خلال ثلاث موجودات رئيسية, وآخرون يذهبون في التوضيح أكثر فيقولون كانت هناك خمس موجات للهجرة اليهودية, الموجة الأولى من سنة 1882م إلى 1903م بتعداد 25000 نسمة, والموجة الثانية كانت من سنة 1904م لغاية 1918م بحوالي 35000 نسمة, وأما الموجة الثالثة عام 1919م ولغاية 1923م بحوالي 35000 نسمة, والموجة الرابعة من عام 1924 ولغاية 1931م بحوالي 85000 نسمة, والهجرة الخامسة عام 1932م ولغاية عام 1944م بحوالي 265000 نسمة, وكانت المنطقة العربية مفتوحة أمام اليهود إذا ما أتيحت الفرصة فيما بعد لتوسع في المنطقة الممتدة ما بين النيل والفرات وهذا كان شعارهم في كتابي التلمود والتوراة.

      بعد الحرب العالمية الثانية, كان هناك نقطتين محوريتين فيما يخص الصراع العربي الصهيوني, الأولى الإمبراطورية البريطانية المنتصرة في الحرب بقيادة ونستون تشرشل, والثانية كانت حكومته متعاطفة جداً مع أماني اليهود, وكان تعاطف تشرشل مع اليهود ليس له حدود, بل وكان تشرشل صهيوني غير يهودي إلى أبعد الحدود.

      لقد استمد الفكر الصهيوني المعاصر جذوره من ثلاثة مفاهيم رئيسية هي :  (صهيون وإسرائيل والتوراة), أي أرض الميعاد في فلسطين والشعب المختار والرسالة, وقد نجحت الحركة الصهيونية من الناحية الواقعية في تحقيق اثنين من هذه المفاهيم وهما : العودة إلى صهيون بعد اغتصاب فلسطين, وتمثل بقيام الدولة اليهودية والعمل على استمرار الهجرة اليهودية لإعادة تجميع (شعب إسرائيل).

      أما ما يخص بوضع دولة إسرائيل الحالية فيحاول الصهاينة أن ينفوا عن كون حكومة إسرائيل حكومة دينية, في حين أن جميع الظواهر الاجتماعية والثقافية وحتى القضائية منها قائمة على الدين, ففي ذلك تقول الكاتبة الفرنسية مارتين مونو : «إن دولة إسرائيل تنفي عن نفسها أنها حكومة دينية, ومع ذلك فإن حياة المواطنة فيها مدفوعة بالدين. فإعلان الاستقلال متشرب بالديانة كما أن مؤسساتها الدينية وعاداتها وقوانينها الدينية تفرض نفسها على كل شيء بل ولا يوجد سواها في أغلب الأحوال. فدراسة التوراة إجبارية في المدارس اليهودية لست ساعات في الأسبوع بالنسبة لتلاميذ السنة الثامنة, أي الذين يتراوح سنّهم بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة مقابل أربع ساعات للرياضيات وأربع ساعات للغة العبرية. ويلتزم مدرسوهم بتقديم عرض أسبوعي يستغرق ساعة كاملة حول الموضوعات التالية : الحركة الصهيونية منذ سبعين عاماً, الروح اليهودية وحرب الأيام الستة والنصر, تاريخ القدس, المدينة اليهودية منذ ثلاثة آلاف سنة».

      يمكننا القول بإن الصهيونية منظمة أسست بهدف تشجيع الهجرة الصهيونية نحو فلسطين وهي كحركة دينية تهدف إلى تمكين العنصر اليهودي من تملك أرض فلسطين وقهر جيرانها الأعداء, وتركيز لسلطة العالم الروحية والحضارية في صهيون.

      الحقيقة أن الحركة الصهيونية هي استثمار للتراث اليهودي الثقافي والديني, وإن مشكلة اليهودية نشأت داخل المجال الأوربي تحديداً, وإن الدولة الصهيونية المُقامة في فلسطين دولة عنصرية وإنها ارتكزت في قيامها على جدلية الإجلاء والتوطين, فإن هذا القول هو استجماع وإيضاح لحقائق عديدة تسعى الحركة الصهيونية إلى إخفائها.

 

المصادر:

1-   عبد الكريم الحسني. الصهيونية, الغرب والمقدس والسياسة. دار شمس للنشر والتوزيع . القاهرة. ط1. 2010. ص70.

2-     سعد سلمان عبد الله. النشاط الدعائي لليهود في العراق. مكتبة مدبولي.ط1. 1999. ص22/23.

3-   أحمد سوسة. أبحاث حول الصهيونية. الأردن.ط1. 2003. ص95.

4-   حاييم كوهين. النشاط الصهيوني في العراق. منشورات الرضا, بيروت. ط1 .2013 . ص33.

5-   بنيامين هنشي.(الثاني) ـسفار إسرائيل, لايك 1959.1858م. ص53.

6-   دافيد اييشر. أوائل المهاجرين للبلاد. في (معرخاه), آب 1963م. 5-8 أيلول 1963.ص10/11.

7-   محمد عزة دروزة. مختارات قومية لمحمد عزة دروزة, بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية, 1988. ط1. ص539.

8-     د. محمد ربيع. أزمة الفكر الصهيوني, بيروت, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1979, الطبعة الثانية. ص59.

 

 


112
هادي جبارة الحلي رائد المسرح الشعري الشعبي في العراق

نبيل عبد الأمير الربيعي

   ضمن إصدارات مهرجان تمصير الحلة السادس لعام 2020م، المقام على ساحة متحف الحلة المعاصر يوم الجمعة الموافق 30/10/2020، وبحضور الجمهور الحلي من الأدباء والمثقفين والكتاب، وبغياب الحكومة المحلية عن هذا المهرجان. صدر كتاب مهم ودراسة رائدة عن حياة الشاعر والكاتب المسرحي الراحل هادي جبارة الحلي ودوره الريادي في مسرح الشعر الشعبي العراقي تحت عنوان (هادي جبارة الحلي رائد المسرح الشعري الشعبي في العراق) للأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي، الكتاب يقع بـ(95) صفحة من الحجم الوزيري ذات الطباعة الأنيقة الخالية من الأخطاء المطبعية واللغوية، والمزود بالصور الخاصة بالراحل هادي جبارة، وصور لمخطوطاته المهمة حول المسرح الشعري.

    والأستاذ الربيعي كما كتبت عنه سابقاً (دائما يفاجئ القراء بدراسة جديدة لم يتطرق لها أي من الباحثين والكتاب سابقاً، ويجعل جهده البحثي مقصوراً على الأدب المسرحي العراقي، فضلاً على كتابات ثرَّه وانيقة نشرت في المجلات والصحف العراقية في مجالات ثقافية مختلفة). وقد امتاز الربيعي بأسلوب جميل في البحث والكتابة، تجعلك تجد في مؤلفاته بعض ما تستحق أن تقرأ وتتابع منجزاته في التأليف، ولغة الدكتور الربيعي جميلة وأنيقة، وهو من الكتاب القلّة الذين يهتمون بتحريك الأحرف والجمل بجدارة، فهو يمتلك لغةٍ عربيةٍ جيدة تفوق أساتذة اللغة العربية في تصوير الجمل الماتعة التي تحلق بالقارئ في عالمٍ جميل، وجاءت هذه اللغة الرائعة نتيجة قراءاته المعمقة في كتب التاريخ والأدب المسرحي ومصادره.

   الكتاب يعتبر واحداً من المصادر النادرة لما حصل في مسيرة المسرح الشعري الشعبي في العراق، بعد أن اقتفى الربيعي أثر الشاعر جبارة وتعقب شعره وسواحل حياته وجده الرائد المسرح الشعري الشعبي في العراق، ويذكر الربيعي في كتابه صفحة 12 قائلاً: "لقد مرت سنون على قراءتي لتراث هادي جبارة الحلي بجزئه وكله (الشعر المطبوع منه والمخطوط) وهي متعةٌ وفرها لي ابنه الفنان المسرحي ثائر الذي مَنَّ عليَّ به، وأعارني إياه. وهالني العجب عندما وجدت بين طيات دواوينه سِتَ مسرحيات شعرية: ثلاثة منها نشرت في احشاء ثلاثة دواوين مطبوعة، والأخريات نُضدت في ثلاثة دواوين غير مطبوعة ولم يطلع عليها أحدٌ من قبل). ولستُ مبالغاً أن قُلت بأن مؤلف الربيعي يعتبر من أهم الكتب التي تناولت هذا اللون الإبداعي في الشعر المسرحي الشعبي في العراق، فكان لدار الفرات للثقافة والإعلام في باب مهرجان تمصير الحلة السادس السبق في النشر، لإطلاع القارئ والمهتم بالشعر والمسرح العراقي.

    تصدرت الكتاب ابياتٍ من الشعر للدكتور أسعد النجار توثق دور الشاعر هادي جبارة في مجال الشعر والمسرح. ويشير الدكتور الربيعي في بداية كتابه القيّم هذا إلى تلك الأهمية التاريخية التي امتاز بها هذا اللون الإبداعي بدلالة المصادر التاريخية المهمة الممتدة لحضارات وآداب رافدينية ضاربة في قدمها، فضلاً عن إشكالات اللهجات العربية التي كتبت هذا اللون وما امتازت به اللهجة العراقية التي استمدت معظم مفرداتها من القاموس السومري، معتمداً على مصادر مهمة وثقّت تاريخ الشعر الشعبي في منطقة الفرات الأوسط ومدينة الحَسَكَة.

    تناول المؤلف بشيء من الدقة والموضوعية في الفصل الأول تاريخ الشعر الشعبي ومفاهيمه، أما في الفصل الثاني فتناول الربيعي حياة الراحل هادي جبارة ودوره الريادي في الشعر المسرحي الشعبي ونتاجه في الشعر ودواوينه التسعة المطبوعة في ألوان الغزل والرثاء والوصف والوعظ وغيرها، الصادرة في مدينة النجف في المطبعة الحيدرية ومطبعة النعمان ومطبعة الغري، ومن دواوينه (الشعبيات، الحليات، الريفيات، الحسينيات، الربيعيات، أغاريد الريف، الغراميات، الفاطميات، الغاضريات)، وله ثلاثة دواوين مخطوطة منها (مضيف الريف، نسمات الربيع، الهاديات). أما منجزه في مجال المسرح منها المسرحيات التي بلغت (6) باللغة العامية النابعة من مفردات الريف، متفاعلاً مع موسيقاها وايقاعاتها وأوزرانها، مقرباً الشاعر جبارة المواقف الدرامية إلى القارئين.

    يذكر الدكتور الربيعي في صفحة 34 من كتابه "ومن الميزات الأخريات، إن الشاعر أظهر مقدرةً في رسم الشخصيات المسرحية وتصويرها، ومكَنَّ القارئ في التعرف على أبعادها وسبر أغوارها وكنهها من الظروف المعطاة التي مدَّها في حوارات المسرحية). نرى من خلال اطلاعنا على منجز الشاعر الراحل هادي جيارة في مجال الشعر الشعبي المسرحي أنه قد صَوَرَّ شخصياته بالدقة الدرامية، وتخلص في مسرحياته من الزخرفة والحشو الغير ضروري.

    يشير الدكتور الربيعي وبوضوح إلى ريادة الراحل هادي جبارة الحلي في حركة التجديد في الشعر المسرحي الشعبي العراقي كمتغير ابداعي تحقق على يَدهُ، وقد خلَّصها من غبار المضامين وأتربة الأشكال التقليدية. ويبقى كتاب الصديق الدكتور علي محمد هادي الربيعي من أبرز وأهم المراجع التي درست المسرح الشعري الشعبي في العراق، من خلال رائدها الراحل هادي جبارة رحمه الله.


113
الدكتور رشيد معتوق طبيب الإنسانية



نبيل عبد الأمير الربيعي

ولد د. رشيد معتوق في لبنان جونية/ كفر حلدا/ البترون يوم 13 شباط 1894م، تلقى دروسه الابتدائية في مدارس القرية ومدارس أديار المنطقة، أكمل دراسة الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1917م، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى سافر إلى النمسا والتحق بجامعة فينا، حيث أنهى اختصاصه في الجراحة العامة، عاد إلى لبنان وكان ذلك في نهاية الاحتلال التركي له وبداية عصر الانتداب الفرنسي.

باشر عمله الإنساني كطبيب بخلفية خلقية انسانية حاملاً هم الفقراء وأحقيتهم بالحياة الكريمة، ناصب العداء للإقطاع في منطقة البترون ولبنان وبقي مع الشعب مطالباً بالعدالة والحرية، ناضل بدون هوادة ضد الانتداب الفرنسي مع شلة من اصدقائه ورفاقه أمثال المغفور لهم : عبد الحميد كرامي، حميد فرنجية، كمال جنبلاط، أنطوان ثابت، الشيخ عبد الله العلايلي، جورج حنا، حسين مروة. اشترك في عدة معارك أهمها معركة ميسلون إبان المقاومة السورية للانتداب الفرنسي، وحاول انقاذ البطل يوسف العظمه حيث جرح في تلك المعركة الشهيرة لكنه استشهد بين يديه.

انحيازه الوطني للبنان لم يثنيه عن انحياز مماثل للامة العربية ولقضايا السلم العالمي، نفي إلى العراق أثر ملاحقات كثيرة، عام 1933م عمل طبيباً جراحاً في المستشفى الملكي ومستشفى صحة الطلاب في الديوانية وعرف بالطبيب الروماني كم ذكر ذلك وداي العطية في كتابه (تاريخ الديوانية قديماً وحديثاً)، كان من ضمن اجرى له عملية في مدينة الديوانية عالم الديوانية الشيخ حسين محمد موسى الأسدي، كما عمل طبيباً جراحاً في الشامية والكوفة والمستشفى الملكي في الحلة وبغداد ومناطق الفرات الأوسط، ممارساً حياته في العراق كما في وطنه لبنان.

وكان إذا جيء به إلى مريض في أحد الأكواخ في مدينة الديوانية يدور بعينه في الكوخ وفي البيت، ومن هذه الدورة كان يعرف ما يحتوي عليه البيت وما لا يحتوي، ولا يمكن أن يدخل كوخاص أو بيتاً إلا ويسأل عن طريق لا تستلفت النظر عن عمل صاحب البيت وما يزرع وما يحصد إن كان فلاحاً، وما يكسب ويجني إن كان عاملاً، وعن عدد الأولاد في هذا البيت، مما يكوّن له فكرة عن حال المريض وأهل بيته الاقتصادية، وما الذي يعوزهم في دنياهم، فهو فضلاً عن إنه لا يتقاضى الأجرة المفروضة فإنه يوصي بمراجعته في المستشفى في وقت خاص، وهناك يكون قد أحضر للمريض الدواء المعين، ثم عدّة أمتار من القماش الصالح لتفصيل الثياب، وبعض الأغطية والأفرشة التي يكون (مراسله) قد جهزها من السوق، وفي ظرف من ظروف المكاتب يضع المبلغ المناسب حتى إذا جاء أهل المريض دفع كل هذا لهم ودعا لكريضهم بالشفاء، وإن هذه المناطق التي عمل فيها الدكتور معتوق تتناقض معيشة سكانها تناقضاً عجيباً، فهي مساكن الفلاحين والعاملين الفقراء لحد العري، كما هي مساكن الأغنياء الذين تتجاوز ثروتهم الحدود المعقولة، ولشهرة الدكتور معتوق الطبية فقد كان مرجعاً للفقراء والأغنياء في التطبيب، فكان يأخذ أجوره من الأغنياء فينفقها على الفقراء.

والدكتور معتوق لبناني مسيحي ومن سكان جونية الواقعة شمال بيروت وعلى البحر المتوسط، وحين حان موعد انتخاب النواب للبرلمان اللبناني كتب إليه أهل بلده يخبرونه بأن رأي البلد قد توحد في ترشيحه للنيابه، وعليه أن يعجل بالعودة، فقدم الدكتور معتوق استقالته للحكومة العراقية، ولكن لم يكن لديه أي مبلغ يكفي لانتقاله وانتقال عائلته إلى مسقط رأسه بلبنان، فباع بيته واتخذ منه العون في الرجوع إلى جونية.

كان مناضلاً بارزاً في سبيل السلام وقد انتخب عضواً في مجلس السلم العالمي الى جانب كبار الشخصيات الوطنية العالمية، بعد عودته النهائية الى لبنان أنشأ أول مستشفى في دوما منطقة البترون، وعالج فيها المرضى حتى وفاته. طالب بانشاء الضمان الصحي، ومارسه بشكل متقدم شبه مجاني، طالب بإنشاء جامعة وطنبة لبنانية، ومدارس إجبارية مجانية، تلقن العلم والوطنية وتناهض الاستعمار بجميع أشكاله، طالب الاهتمام بالزراعة ومساعدة الفلاحين.

وقبل أن تخطو قدمه عتبة البرلمان اللبناني راح ضحية دهس لسيارة فلت مقودها من يد سائقها في الطريق العام في منطقة العاملين وهو في طريقه إلى بيروت، فتوفى في أيلول عام ١٩٥٦ إثر هذا الحادث، فبكاه الناس بلبنان كما بكاه عارفوه من الفقراء وغيرهم في العراق، ودفن معه جانب كبير من الإنسانية في قبر واحد. وتخليداً لذكراه أقيم له تمثال في ساحة فسيحة أنشئت خصيصاً للنصب. له مقالات عديدة في الصحف والمجلات العراقية والعربية واللبنانية في مجال اختصاصه.

المصادر

1-    رشيد معتوق: الطبيب الانسان. منشورات دار الثقافة، 1997.

2-    الحزب الشيوعي اللبناني. منظمة البترون. منظمة سياسية. 13/ كانون الأول/ 2015.

3-    جعفر الخليلي. هكذا عرفتهم. ج7. ص160.


114
قراءة في كتاب المعبد في وادي الرافدين للكتور نصير الحسيني
نبيل عبد الأمير الربيعي
تميز الانسان في وادي الرافدين بحاجاته ونزعاته الطبيعية المتزايدة مع الزمن، وتفاعله مع بيئته واحواله الحياتية، ومع ذلك فحو يعبر عن مشاعره ويظهر حاجاته ويستجيب للأخرين والاشياء المحيطة به، وفي هذه الاحوال يأتي الدين والمعبد ليلعب دوراً فعالً في اشباع هذه الحاجات الاساسية، وهذا يعني ان للمعبد وظائف استوجبت بقاءه منذ وجوده واستمراره، اذ ان من المتفق عليه ان الشيء الذي لا وظيفة له لا ضرورة لبقائه. حاجة الانسان الى الدين تنتج عن حقائق اساسية للوجود البشري، فالانسان يعيش في احوال غير ثابتة ومحاطاً بظروف وحوادث مهمة لسلامته وبقائه لكنها فوق طاقته وبصيرته. وهذا هو حال الفرد العراقي القديم الذي صور لنا صراعه مع محيطه وبيئته الطبيعية وكيفية التغلب عليها كما جاء في اساطير وملاحم بلاد الرافدين.
عن دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة صدر للأديب الدكتور المهندس اصدار جديد يحمل عنوان (المعبد في وادي الرافدين)، يقع الكتاب في (392) صفحة من الحجم الوزيري، وقد حشدَّ له (101) بين مصدر ومرجع وطرز بعض صفحاته بالرسوم الوثائقية والتخطيطات الهندسية للمعبد، فالكتاب انجاز جديد فيما يخص (المعبد في وادي الرافدين، قد بين الدكتور الحسينب في كتابه تاريخ الدين وبدائته في حضارة وادي الرافدين ودور الآلهة في حضارة بابل في دعم وترسيخ هذا الدين، ثم ينقلنا في ص155 إلى أهمية المعبد للفرد وانواع المعابد وطريقة بنائها والتخطيط لها. ويأتي تخطيط المعبد في  بلاد الرافدين أذ يتميز عادة بكون جدرانه وخاصة الواجهة مزينة بالطلعات والدخلات وهي ظاهرة معمارية قديمة عرفت في معابد عصر(العبيد) وظلت ملازمة للمعبد في مختلف الادوار الحضارية اللاحقة .كان مدخل المعبد يؤدي عادة الى حجرة صغيرة يمكن ان تسمى ب( حجرة المدخل ) التي تؤدي الى فناء او صحن واسع كان الناس يجتمعون فيه لاقامة الاحتفالات الدينية ويدخل المرء من هذه الساحة الى حجرة تؤدي بدورها الى ما يعرف ب( حجرة الهيكل ) و التي كانت من اهم واقدس اجزاء المعبد لأن فيها محراب الاله وتمثاله .وكان تمثال الاله يوضع عادة على دكة في المحراب وفي حجرة الهيكل هذه يوجد ايضا ( دكة المذبح ) التي كانت تقدم عليها الاضاحي، والملاحظ ان ابواب حجرات المعبد هذه تكون باتجاه واحد فالواقف في حجرة المدخل مثلا يستطيع ان يرى تمثال الاله في محرابه، غير ان بعض المعابد كانت فيها حجرة الهيكل واقعة الى الجانب وذلك من اجل ان يبقى تمثال الاله بعيدا عن انظار الناس، وكان المعبد يحتوي بطبيعة الحال على حجرات اخرى لخزن الادوات والاثاث والالبسة والاطعمة ويضم ايضا مكتبة لحفظ الوثائق والمؤلفات على اختلاف انواعها.
ثم يسلط الضوء الدكتور الحسيني على دور الفتاح فال والساحر والكاهن في المعبد، والطقوس التي تجرى في المعبد من صلاة وصوم وطواف وتطهير، فضلاص عن طقوس الزواج والولادة والبناء وطقوس ما بعد الموت. ويرى الدكتور الحسيني في ص157 ان المعبد قد لعب في حضارة وادي الرافدين دوراً فعالاً في التكوين الحضاري وتطور المعرفة والوعي، وكان المعبد أحد أهم معالم المدينة، حيث بدأ في المستوطنات البشرية مركزاً مهماً للفعاليات المختلفة التي تجمع الناس من حوله، وان أول ظهور للمعبد كان على شكل مصطبة عالية تطورت إلى برج مدرج يعرف باسم الزقورة. فالكتاب يعتبر من أهم الكتب التي كتبت وبجرأة عن تاريخ تطور المعبد عبر التاريخ وما يصحبه من مستلزمات النذور والكهنة ورجال الدين والسحرة سابقاً وهذا ما نجده في دور العبادة لاحقاً.

115
عصمت طه كتاني ممثل العراق في الأمم المتحدة سابقاً
نبيل عبد المير الربيعي
ولد عصمت طه عبد العزيز عبد اللطيف كتاني عام ١-;-٩-;-٢-;-٧-;- في قرية كاني سنج- قضاء العمادية محافظة دهوك، وهو بن ثائر كردي في قضاء العمادية، اكمل دراسته الاولية (الابتدائية والمتوسطة) عام ١-;-٩-;-٤-;-١-;-م في أربيل، كان والده الحاج طه عبد العزيز عبد اللطيف أحد مقاتلي المرحوم الملا مصطفى البارزاني، ولمس الطفل عصمت قسوة الحياة الجبلية، وظروف الثورة الكردية. شارك والده في ثورة بارزان الثانية، وابتلعه سجن الموصل لسبع سنوات ومن السجن يطلب من ابنه ليعيش مع عمه علي عبد العزيز الذي كان ضابطا في الجيش العراقي برتبة عقيد في الديوانية. فأكمل عصمت دراسته الاعدادية في ثانوية الديوانية للبنين لدى عمه، ويتوج الأول على العراق في امتحانات البكالوريا للمرحلة النهائية ليحصل على بعثة دراسية في الولايات المتحدة الامريكية عام 1947م، كان من اساتذته في الثانوية (أحمد الشيخ علي الأسدي، عبد الأمير مصطفى العميشي)، شارك الطالب عصمت مع الطالب سامي عبد الحميد في الاعدادية بعدة مسرحيات باشراف الشهيد سلام عادل (حسين أحمد الرضي) منها : مسرحية (أميرة الأندلس) عام 1944م، ومسرحية (البخيل) عام 1944م، ومسرحية (رصاصة في القلب) عام 1945م.
ويدخل جامعة كنوكس في ولاية كاليفورنيا ليحصل على شهادتين مرة واحدة، احداهما في اللغة الانجليزية والثانية في العلاقات الدولية عند عودته إلى العراق عام 1951م يصبح مدرساً للغة الانجليزية في مدينة اربيل الكردية، ولكن طموح عصمت لم يقف عند هذا الحد، فطلب والده من وزير الداخلية آنذاك سعيد قزاز التوسط لعصمت لدى الخارجية العراقية لتعيينه دبلوماسيا في وزارة الخارجية، لكن سعيد قزاز الذي اشتهر بإتباع الطرق القانونية نصح عصمت ان يؤدي الامتحان الخاص بالوزارة وفي حال اجتيازه يكون مؤهلا للعمل في السلك الدبلوماسي، وبالفعل ادى عصمت الامتحان وكان من الاوائل، ولم يحتج بعد ذلك إلا لمباركة قزاز الذي ادى خدمته دون القفز على القوانين المرعية، تم تعيين عصمت كملحق دبلوماسي في ديوان الوزارة، ومن ثم انتقل الى فضاء العلاقات الدبلوماسية خارج حدود العراق بعد تعيينه في القاهرة بدرجة سكرتير ثالث في السفارة العراقية، والى جنيف بعد ذلك في البعثة العراقية بدرجة سكرتير ثان، وفي عام 1958م تم انتدابه للأمم المتحدة،
بدأ مسيرته مع الأمم المتحدة عندما تم تعيينه قائما بأعمال الممثل الدائم للعراق لدى مقر الأمم المتحدة، وفي عام 1961م تم تعيينه بمنصب الممثل الدائم للعراق لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف، وفي عام 1964م عاد كتاني الى نيويورك ليعمل موظفاً في الأمانة العامة للأمم المتحدة فشغل مناصب عليا مع خمسة من الأمناء العامين (يوثانت، كورت فالدهايم، دي كيولار، بطرس غالي ثم كوفي عنان) بما في ذلك تعينه مساعدا للأمين العام كورت فالدهايم عام 1973.
ففي العراق تم تعيين كتاني رئيسا لدائرة المنظمات والمؤتمرات الدولية في وزارة الخارجية العراقية في الفترة من 1975م إلى 1980م، وبعد ذلك عين مندوبا دائما للعراق في الامم المتحدة السيد عصمت كتاني (العراق) رأس الدورة السادسة والثلاثون عام 1981م، كما رأس الدورة الاستثنائية الطارئة التاسعة عام 1982م والدورة الاستثنائية الثانية عشرة في العام ذاته.
توفي عصمت كتاني في جنبف بداء السرطان في البروستات ونقل جثمانه الى بغداد فالعمادية و وري جثمانه في قرية كاني سنج مسقط راسه .عام ٢-;-٠-;-٠-;-١-;-م. وشاركت الحكومة العراقية ممثلة بوزارة الخارجية كما اقيم له مجلس عزاء في قاعة المناسبات المجاورة لضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني في بغداد.
المصدر: مقال للكاتب بدري نوئيل يوسف. عصمت كتاني.. من اعلام الدبلوماسيه في تاريخ العراق. في 11/1/2019.

116
جعفر الخليلي شاعراً وأديباً وروائياً وصحفياً
(1904م-1985م)

نبيل عبد الأمير الربيعي
 أديب وصحفي عراقي. ولد جعفر أسد حسين الخليلي بمدينة النجف سنة 1322هـ/ 1904م. في بيت يوصف بانه (بيت علم وادب) وفي اسرة عرف عنها اتقانها (للطب الشعبي)، فوالده الشيخ أسد الخليلي من رجال الفضل والأدب والطب القديم، وكان من أساتذة علم المنطق المعروفين. وأخيه الاستاذ عباس الخليلي الشاعر السياسي والأديب المتمكن من اللغتين العربية والفارسية، الذي استطاع أن ينجو من مشنقة الانكليز في ثورة النجف عان 1336هـ/1918م. درس جعفر الخليلي في المدرسة العلوية التي تأسست في النجف الأشرف، كانت أول مدرسة عصرية فتدرّس فيها اللغات الفرنسية والانكليزية والتركية والفارسية إلى جانب العربية، وعالج جعفر الخليلي الشعر وهو تلميذ في المدرسة. عُين بعد اكماله الدراسة الجامعية منتصف عشرينات القرن الماضي في التعليم في الحلة والنجف وسوق الشيوخ والرميثة التي كانت تابعة للواء الديوانية، ثم نقل إلى الكوفة في فترات، واستقال من المعارف في السنة التي توفي فيها والده عام 1930م، وكان آخر ما عمل في المعارف مدرساً للتاريخ والجغرافيا في ثانوية النجف مدة ثلاث سنوات تقريباً.
 بعد استقالته اصدر جريدة (الفجر الصادق) في النجف عام 1930م وكانت اسبوعية، واوقفها لازمة ادارية، وأصدر جريدة (الراعي) عام 1932م وعاشت سنة فأغلقتها الحكومة، ثم كانت مجلة الهاتف الأسبوعية الأدبية في العام 1935م والتي بدورها لم تكن دار اصدار مجلة فحسب بل كانت بمثابة نادي ثقافي وفكري ارتادته النخبة من اعلام العراق وخارج العراق واستمرت بالصدور إلى العام 1954م، الكثير من المهتمين بشؤون الثقافة والفكر والأدب وكتاب السيرة يعتبرون الخليلي ذا نمط متميز في الكتابة والقصة وبلغ القمة في تصويره لشخصيات الأعلام والعظماء والمتميزين في كل المجالات.
اشتهر الخليلي بالصحافة والأدب والشعر والنقد والتاريخ ولكنه تميز بالقصة القصيرة التي يعد رائدها الأول في العراق، منها (التعساء 1921م طبعت في مطبعة النجف، حبوب الاستقلال 1927، السجين المطلق 1928م، خيال الظل 1929م، حديث السعلى 1930م)، له مجموعة قصصية منة قصة (في قرى الجن). وكما طرحه المستشرق الأمريكي جون توماس هامل في جامعة مشيغان عام 1972م في اطروحة للدكتوراه (جعفر الخليلي والقصة العراقية الحديثة) .
اصدر اكثر من (43) مؤلفاً وثلاثة صحف وعدّة قصص، وكان من أهم مؤلفاته واصدارته موسوعة العتبات المقدسة، هكذاعرفتهم، كنت معهم في السجن (القصة التي اثارت جدلاً واسعاً واصبحت مادة مهمة في علم الاجتماع)، القصة العراقية قديما وحديثا (يروي فيها تاريخ القصة ويثبت عراقة القصة على مستوى العالم)، ومن الكتب كتاب العرب واليهود في التاريخ للكاتب الكبير المهندس أحمد سوسة وقد طلبت الحكومة العراقية في السبعينات من الخليلي تلخيص الكتاب لإعداده كمادة دراسية لطلبة المتوسطة، فكان العنوان (الملخص لكتاب العرب واليهود في التاريخ)، ولكن الحكومة تخلت عن راأيها لاسباب مجهولة، ويوميات (صور مختلفة عن الحياة العامة)، الضائع (قصة)، عندما كنت قاضياً (حيث استعرض مقتضب للأحوال الشخصية العراقية من زواج وطلاق ومواريث واوقاف)، قرى من فوق الرابية (مجموعة قصص قصيرة متنوعة)، وتسواهن، وعلى هامش الثورة العراقية (حقائق لم يسبق نشرها)، وأولاد الخليلي (مجموعة قصص)، ومجمع المتناقضات (قصص موضوعة ومترجمة)، واعترافات (مجموعة قصص)، ومقدمة في تاريخ القصة العراقية وهؤلاء الناس جغرافية البلاد العربية (للدراسة المتوسطة)، آل فتله كما عرفتهم، نفحات من خمائل الأدب الفارسي، حديث القوة (مجموعة قصص).
عام 1985 توفي الأديب والصحفي العراقي الرائد جعفر الخليلي في الإمارات العربية المتحدة٬ عن واحد وثمانين عاما ومسيرة حافلة بالإنجازات الأدبية الجديرة بالتقدير والإكبار( ).

117
باسم عبد الحميد حمودي ناقداً وباحثاً فولكلورياً
نبيل عبد الأمير الربيعي
ولد الكاتب والناقد والباحث في الفلوكلور الشعبي العراقي باسم عبد الحميد حمودي النعيمي في قضاء أبو صخير التابع للواء الديوانية سنة 1937م، أكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها، ثم أكمل الدراسة الجامعية سنة 1960م في كلية التربية قسم التاريخ، عُين في ناحية الدغارة مدرساً، حيث قضى فيها سنوات طويلة مدرساً، ثم عاد إلى بغداد ليستقر فيها لغاية يومنا هذا.
وأول مقالة نشرها بعنوان (الفراغ) في جريدة (بغداد المساء) سنة 1954م، وهو ناقد أدبي وباحث فولوكلوري، درس جماعية البطل في الرواية المعاصرة ورموز الكاتب العراقي وإفادته من التراث الشعبي، نوه عن دوره نقاد كثيرون، كالدكتور علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس، تصدى في نقده إلى كتابات الدكتور علي الوردي، والفلسفة البنيوية، حضر معظم المؤتمرات الأدبية التي عقدت في القطر منذُ عام 1968م، ينتمي إلى اتحاد الادباء في العراق( ). تولى رئاسة تحرير مجلة الاقلام التي تعني بالادب الحديث، وكذلك رئاسة تحرير مجلة الثقافة الاجنبية التي تعني بالثقافة والفنون بالعالم. وعمل محررا في مجلة التراث الشعبي وكان مدير الدار انذاك القاص الراحل موفق خضر وتولى الاستاذ باسم عبد الحميد ادارتها لفتره وكاله، وتولي رئاسة قسم النشر في دار الشؤون الثقافية، سكرتير تحرير مجلة الرواد التي تعني بادب الرواد، تولى رئاسة تحرير مجلة التراث الشعبي وتعنى بالدراسات الفلكلورية ونشر العديد من البحوث والدراسات، وكان من أبرز مؤلفاته كتابه (سحر الحقيقة) فقد ضم دراساته المنشورة في مجلة التراث الشعبي. ويقول عن منهجه : (إني أؤمن بالإنسان هدفاً والحرية ممارسة وعدالة).
ومن أبرز مؤلفاته:
- عادات وتقاليد الحياة الشعبية العراقية (إعداد وتقديم).
- كتاب التراث الشعبي. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1986م.
- الزير سالم. سلسلة الموسوعة الصغيرة. بغداد 1989م.
- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. دار الشؤون الثقافية. بغداد 1989 (الطبعة الأولى).
- التراث الشعبي والرواية العربية الحديثة. الموسوعة الصغيرة. بغداد 1998م.
- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. هيئة قصور الثقافة. القاهرة عام 2000م. (الطبعة الثانية).
أما الكتب المشتركة:
- أبحاث في التراث الشعبي. كتاب التراث الشعبي رقم 2. بالاشتراك مع د. أحمد مرسي/ د. حصة الرفاعي/ د. محمد رجب النجار وغيرهم عام 1986م. بغداد.
- سحر الحقيقة. شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي. دار ميزوبوتاميا. بغداد. الطبعة الثانية عام 2014م( ).
ولد الكاتب والناقد والباحث في الفلوكلور الشعبي العراقي باسم عبد الحميد حمودي النعيمي في قضاء أبو صخير التابع للواء الديوانية سنة 1937م، أكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها، ثم أكمل الدراسة الجامعية سنة 1960م في كلية التربية قسم التاريخ، عُين في ناحية الدغارة مدرساً، حيث قضى فيها سنوات طويلة مدرساً، ثم عاد إلى بغداد ليستقر فيها لغاية يومنا هذا.
وأول مقالة نشرها بعنوان (الفراغ) في جريدة (بغداد المساء) سنة 1954م، وهو ناقد أدبي وباحث فولوكلوري، درس جماعية البطل في الرواية المعاصرة ورموز الكاتب العراقي وإفادته من التراث الشعبي، نوه عن دوره نقاد كثيرون، كالدكتور علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس، تصدى في نقده إلى كتابات الدكتور علي الوردي، والفلسفة البنيوية، حضر معظم المؤتمرات الأدبية التي عقدت في القطر منذُ عام 1968م، ينتمي إلى اتحاد الادباء في العراق( ). تولى رئاسة تحرير مجلة الاقلام التي تعني بالادب الحديث، وكذلك رئاسة تحرير مجلة الثقافة الاجنبية التي تعني بالثقافة والفنون بالعالم. وعمل محررا في مجلة التراث الشعبي وكان مدير الدار انذاك القاص الراحل موفق خضر وتولى الاستاذ باسم عبد الحميد ادارتها لفتره وكاله، وتولي رئاسة قسم النشر في دار الشؤون الثقافية، سكرتير تحرير مجلة الرواد التي تعني بادب الرواد، تولى رئاسة تحرير مجلة التراث الشعبي وتعنى بالدراسات الفلكلورية ونشر العديد من البحوث والدراسات، وكان من أبرز مؤلفاته كتابه (سحر الحقيقة) فقد ضم دراساته المنشورة في مجلة التراث الشعبي. ويقول عن منهجه : (إني أؤمن بالإنسان هدفاً والحرية ممارسة وعدالة).
ومن أبرز مؤلفاته:
-عادات وتقاليد الحياة الشعبية العراقية (إعداد وتقديم).
-كتاب التراث الشعبي. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1986م.
-الزير سالم. سلسلة الموسوعة الصغيرة. بغداد 1989م.
- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. دار الشؤون الثقافية. بغداد 1989 (الطبعة الأولى).
-التراث الشعبي والرواية العربية الحديثة. الموسوعة الصغيرة. بغداد 1998م.
-تغريبة الخفاجي عامر العراقي. هيئة قصور الثقافة. القاهرة عام 2000م. (الطبعة الثانية).
أما الكتب المشتركة:
-أبحاث في التراث الشعبي. كتاب التراث الشعبي رقم 2. بالاشتراك مع د. أحمد مرسي/ د. حصة الرفاعي/ د. محمد رجب النجار وغيرهم عام 1986م. بغداد.
- سحر الحقيقة. شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي. دار ميزوبوتاميا. بغداد. الطبعة الثانية عام 2014م( ).


118
نجيب علوان الأسدي في ذاكرة صديق
نبيل عبد الأمير الربيعي
من أبناء الديوانية الكرام، هو نجيب علوان فرج الاسدي، ولد في مدينة الديوانية عام ١٩٤٧م، واكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها، تزوج من ابنة الوجيه الحاج عبد الامير الحاجم، ورزق منها من الاولاد هم (ظافر وعلوان ونجيب وثلاثة بنات). من أسرة وطنية اعتنقت الفكر الشيوعي اربعينات القرن الماضي، كان شقيقه البكر المهندس والمقاول طه علوان أول من اعتنق الفكر الماركسي، ومن المشاركين في انتفاضة عام 1948م و1952م و1956، وهو أحد أعضاء اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في مدينة الديوانية منذ ثورة تموز 1958م ولغاية شباط 1963م.
تعرفت على الراحل نجيب علوان الأسدي من خلال لقائنا قرب محله في سوق الديوانية الكبير ومن ثم عملي كعامل في محلة منذ سنة 1975 ولغاية عام 1979م، حتى الالتحاق بالدراسة الجامعية في كلية الادارة والاقتصاد جامعة بغداد.
أول ما لفت نظري من أدبه وإنسانيته، كونه الداعي للخير والمحب للناس جميعاً، وتفيض المحبة من خلال علاقاته فيضاً، يؤثر صدقه ووفائه ومروئته في المقربين منه، فهو لطيف في وده ولا يعرف التبجح والاستعلاء شأنه شأن الذين طهرت نفوسهم من الخبائث، فهو من أهل الخير، ومن أجمل ما تحلى به نجيب هو الصدق، والبعد عن الخداع والغش والمجاملة الكاذبة، أو أن يثني على أحد ويؤيد فكرة لا يؤمن بها، أو يجاري عناصر الأمن والبعث بداعي المجاملة، وإنما هو مجامل ضمن الحدود والأخلاق التي توجب أن يكون الانسان بشوشاً لطيفاً متواضعاً.
كان يثق بيَّ ثقةٍ عالية بسبب تقارب الفكر والمبادئ، منها إيداعه أسراره، وروئيته لمستقبل التحالف بين البعث والحزب الشيوعي، فهو غير مطمأن لهذا التحالف، فضلاً عن اسرار امكانياته المالية، فكان يكلفني بالذهاب إلى مصرف الرافدين في الديوانية للسحب والايداع في حسابه الجاري، علماً إنني عامل اعمل بأجر شهري لديه.
لذلك خُلق أبا ظافر صريحاً، والخُلق الذي يرفع عنه التحدي والتعالي، أما أن غضب أبا ظافر فهو لطيف يَنمّ عن نفسٍ وديعةٍ وذات طيبة رائعة. في محلاته لبيع الأحذية في سوق الديوانية الكبير عمل الكثير من العمال، منهم من هاجر ومنهم من اكمل دراسته واصبح استاذاً جامعياً، ومنهم من بقي ولم يطور حالته المادية، اتذكر منهم رعد محمود القولجي ومصدق جلال غريب (مقيم حالياً في روسيا/ الاتحاد السوفيتي سابقاً) وعماد عبد الكريم عبد المهدي (ابن شقيقته)والدكتور مازن مكي (استاذ في المعهد التقني في النجف الأشرف) وحسن حسين الحمداوي  (صاحب محلات للألبسة الجاهزة في سوق الديوانية الكبير) وأنا.
قبل انفراط عقد الجبهة مع حزب البعث كان أول من سقط سياسياً من اعضاء محلية الديوانية للحزب جواد رضا الخالدي ومن ثم المحامي عبد الأمير ناصر، لا نعرف الدافع الذي أخذ الأستاذ جواد رضا الخالدي للأنضمام لحزب البعث والاعتراف على التنظيم، ثم بدأت الاعتقالات، وأول من اعتقل الاستاذ أحلام عبد الكريم، مسؤول التنظيم الطلابي في منظمة الحزب في مدينة الديوانية، بعد ثلاثة أيام من اعتقاله خرج من دائرة امن الديوانية، وبدأت حملات الاعتقالات في صفوف اعضاء التنظيم، كان اعتقالي من قبل مفوض الأمن (حمزة علي) من محل نجيب علوان في شهر تشرين الثاني 1978م، كان ضابط التحقيق الذي حقق معي في مديرية أمن البلدة النقيب (محمد عباس)، دام اعتقالي اكثر من (12) ساعة من ممارسة التعذيب والضغط والنتيجة التوقيع على المادة (200)، أي توقيعي على اعدامي المؤجل اذا عدت وعملت في تنظيمات الحزب الشيوعي بعد التوقيع... وهذا ما حصل فقد وقت على المادة.
عند خروجي من امن البلدة التي موقعها في بناية المحافظة القديمة، وعودتي إلى مقاعد الدراسة ومن ثم العمل، كان أبا ظافر يشجعني على أن لا يؤثر اعتقالي على سلوكي ونفسيتي، واستمر العمل في محله، كان يزودني بجريدة طريق الشعب السرية بعد انفراط عقد التحالف، وكراس نشرة (مناضل الحزب) السرية الخاصة بالأعضاء، كانت هناك الثقة العالية المتابدلة بيننا، يعتبرني أخيه الأصغر في تعامله، كان في كل مناسبة عيد هديته لعماله قاط رجالي نختار قماشه من محلات حاتم الدعمي رحمه الله وخياطة ولده عبد الأمير الدعمي، فضلاً عن اختيارنا لأفضل وأغلى الأحذية دون أن يطالبنا بثمنها.
بمرور الأيام ازدادت أواصر الأخوة والصداقة بيني وبينه، وعلى مر الأيام كان الاعجاب بخلقه الرفيع الكريم، ولم ينقطع التواصل عندما كنت ادرس في بغداد، فكان مروري لزيارته ايام الجمع من كل اسبوع، وكنت اتتبع اخباره.
كان لعناصر الأمن في المدينة الدور في محاولة جذبه للتعاون معهم إلا أنه يرفض ذلك، فلم يتركوا أبا ظافر لحاله كونه شخصية وطنية يسارية ومن عائلة شيوعية، كان الضغط عليه بين الترهيب والترغيب لغرض اسقاطه سياسياً في التعاون معهم، كان يرفض ويرفض دون خوف من العواقب حتى مطلع التسعينيات، استدعى لمديرية أمن البلدة في بناية المحافظة يوم ١/ ١١/ ١٩٩٠م، كان مفوض الأمن سمير ابو ردام هو من استدعاه لامن البلدة وطلب منه التعاون ورفض ابا ظافر رفضاً قاطعاً التعاون، فقدموا له قهوة فيها سم الثاليوم وهذه طريقتهم في تصفية المعارضين لهم ولفكر البعث، وعند خروجه من الأمن الساعة ١٢ ليلاً بعد انتظار ولده قرب مديرية أمن البلده (محلات باتا) اخذه الى داره، وعند الساعة الخامسة فجراً سقط مغشياً عليه، استدعى ابنه البكر ظافر على إثر سقوطه صديق العائلة الدكتور كاظم رضا الخالدي، فنقل إلى بغداد لغرض العلاج لخوف أطباء الديوانية معالجته، وبعد احدى عشر يوماً من بعد تاريخ اعتقاله سلم نفسه إلى بارئها (هذا ما بلغني به ولده البكر ظافر)([1]).
رحم الله اخي العزيز أبا ظافر، كان أخاً وصديقاً وفياً وعزيراً.


________________________________________
[1] رسالة ظافر نجيب علوان الأسدي للكاتب نبيل الربيعي يوم 29/7/2020.


119
معارك غرب الحلة في ثورة العشرين
د. عبد الرضا عوض
     حاول المستعمر البريطاني عند احتلاله العراق سنة 1917م استمالة شيوخ العشائر وذلك بتشكيل مجلس قبلي ، فقد شكلت الإدارة البريطانية مجلساً للعشائر العراقية مكون من ستة أشخاص للفرات الأوسط من بينهم الشيخ سماوي الجلوب ومَنَحَ كل فرد منهم راتباً شهريا قدره (300)روبية.(1) إلا أن ذلك لم يمنع أن يتخذ الشيخ سماوي موقفاً داعماً وقائداً للثورة.
ويروي كبار السن نقلاً عن أسلافهم : "قبيل ثورة العشرين قدم رجل متنكر بهيأة أعرابي يسأل عن مضيف شمران الجلوب ، فدله الناس على الملا طالب (والد ملا محمد) وكيل آل شمران الجلوب (سركال) ، فاكتشف الملا طالب أن هذا الرجل جاسوس انكليزي فافتضح أمره وغاب عن الأنظار.(2)
لقد أسهمت عشائر أبي غرق في أحداث ثورة العشرين وقدمت عدد من الشهداء والجرحى، وقد ذكر لنا السيد محمد علي كمال الدين في مذكراته :
    وفي صبيحة يوم 8 ذي القعدة سنة 1338هـ الموافق 25 تموز سنة 1920م سار الشيخ مرزوك العواد بجيشه من الكفل قاصداً قصبة الهندية مروراً بعشيرة طفيل، وقد صحب معه (85) خمسة وثمانين من أسرى الإنكليز لغرض أثارة عشائر الهندية وما حولها ضد الجيش الإنكليزي المغلوب ، وعند المغرب بلغوا  أراضي آل فتلة لدى الشيخ شمران الجلوب شرقي مدينة ( طويريج ) واجتمعوا مع الشيخ عمران الحاج سعدون وبقية زعماء بني حسن وأهل الهندية في مضيف الشيخ محمد العبود شيخ عشيرة ألبو جاسم آل فتلة ، ولما وجدوا الصعوبة في إعاشة الأسرى أرسلوهم إلى الكوفة ، ثم قرروا : (3)
1-    مراسلة السيد محمد علي القزويني.(4)
2-    مراسلة الوجيه عبد الرزاق الصالح محمد مهدي(رزوقي الصالح)(5)  في الحلة يحرضونهم على الثورة عند هجوم الثوار .
3-    الزحف إلى قرية عنانة شمال الحلة على ضفة النهر اليمنى .
  وقد نفذوا القرارات فعلا ، وأرسلوا رسولاً إلى الحلة محمل برسالتين ، وعند وصول الشيخ مرزوك العواد قرية عنانه ورد جواب السيد محمد علي القزويني يعتذر بعدم مقدرة الحليين ويوصي بعبد الرزاق خيراً!. (6)
مؤتمر اليوسفية(7)
    في يوم ( 13 ذي القعدة 29 تموز ) اجتمع الرؤساء والزعماء في طويريج في دار سماوي الجلوب في مقاطعة اليوسفية(8) ، وقرروا بإجماع الرأي أن يهجموا على الحلة ليلاً وهذا الاجتماع ما يسمى بـ ( مؤتمر طويريج ) وقد حضره إضافة إلى رؤوساء عشائر الشامية وعفك ، زعماء وسادة عشائر الحلة المحيطة بها وهم : (9)
1-    إبراهيم السماوي رئيس عشيرة خفاجة 0
2-     الحاج سعدون رئيس عشيرة كريط 0
3-    حبيب بن يوسف بيك ممثلاً عن الحلة 0
4-    جواد أبو عورة رئيس عشيرة ألبو حمير0
5-    سليمان الكعيد رئيس عشيرة اليسار0
6-    السيد حسن حسين بدن المحنا0
7-    شخير الهيمص رئيس عشيرة ألبو سلطان 0
8-    فيصل المغير رئيس عشيرة الجحيش 0
9-    مراد خليل رئيس عشيرة الجبور 0
10-                   نايف الضيدان رئيس عشيرة طفيل 0
11-                   هزاع المحيميد رئيس عشيرة المعامرة 0
     وقرروا في هذا الاجتماع تحديد ساعة الصفر للقيام بهجوم شامل وكبير على مدينة الحلة حيث تتمركز القوات البريطانية فيها ، وشارك في هذا الهجوم حوالي (10) آلاف مقاتل . وتكون قرية (عنانة) مركزاً لقيادة الثورة غير أن مدير ناحيتها الذي تظاهر بمواقفه الوطنية كان متعاوناً مع البريطانيين وقد زودهم سراً بالمعلومات الكافية عن الثوار وتجمعاتهم عن ذلك قيام الطائرات بقصف تجمعات الثوار .(10)
  ثم أكملوا اجتماعهم في ليلة ( 14 ذي القعدة 30 تموز ) في قلعة الحاج شكري بك(11) الواقعة في مقاطعة الخواص على مسافة ( 10 كم) غربي الحلة الفيحاء وقرروا القيام بهجوم عام على المدينة في فجر اليوم المذكور بقصد الاستيلاء عليها وطرد الإنكليز منها على أن يتقدم من الطرق التي عينوها وفقاً للترتيبات الآتية (12)
    أولاً : تهجم قبائل بني حسن وآل يسار من الجهة الغربية فيكون دخول الحلة من طريق طويريج ( مشهد الشمس ) فالجسر الغربي المسمى الآن بـ (جسر الأمير غازي)(13) .
   ثانياً : تهجم قبائل آل فتلة الذين هم في الهندية مع أتباع وعشائر طفيل وكريط ومن والاهم من الجهة الوسطى من جهة الغرب حتى يدخلوا الحلة من الباب المسمى بـ ( باب النجف ) تحت قيادة: سماوي الجلوب والحاج شبيب الموسى وكلاهما من (آل فتلة).
واتخذت القرارات على أن تهجم قبائل آل فتلة والعوابد وآل إبراهيم وهؤلاء من عشائر الشامية وأبي صخير ومنهم خفاجة من الجنوب وتأتي على مقام النبي أيوب فالنهر فمعامل الطابوق في الحلة تحت قيادة(14)
-       عبد السادة الحسين ، شيخ عشيرة آل فتلة(المهناوية) من ألبو هدلة.
-       شعلان الجبر ، رئيس عشيرة آل إبراهيم(الشامية).
-       مهدي العسل0 من شيوخ عشيرة آل إبراهيم(ابو صخير)
على ان تكون عشائر ألبو سلطان والجبور وأهل عفك والدغارة تهاجم الجانب الثاني من الحلة ويكون أول الهجوم منهم(15) .
وبذلك يكون قادة ثورة العشرين في الفرات الأوسط قد اجتمعوا في أرض أبي غرق كالآتي:
-       الأول يوم28 تموز 1920 في قرية اليوسفية عند الشيخ سماوي الجلوب.
-       الثاني يوم29 تموز 1920 في قلعة شكري بيك بمقاطعة الخواص.
     وذكر هالدين في كتابه: ( في ليل 31 من تموز جرت محاولة خطيرة من قبل الثوار ، فكانت قطعة من ليل الملمات ، ولحسن الحظ كان وقوعها أثر وصول قطار محمل بالعتاد، والقطار هذا آخر قطار ترك بغداد ، فقد توقف بعدها لأسابيع وقد دبرَ هذا الهجوم بالاتفاق مع سكان المدن ، وقد صد الهجومين الشمالي والجنوبي)(16) 0
 
هجوم عنانة
      نفذ الهجوم حسب الاتفاق لكن بغياب اثنين من القادة كان من المفروض مشاركتهم ، وهما علوان السعدون (شيخ بني حسن) ومرزوك العواد (شيخ العوابد، الشامية) أثر في الموقف ، ويحتمل عدم قناعتهما بالخطة.(17)
      يقول الحسني : ""وسارت هذه الجموع تريد الحلة وسلكت القوتان الثانية والثالثة طريقاً طويلاً فتأخرتا عن الميعاد بساعة ونصف الساعة وهجمت القوة الأولى ، وهم: مقاتلين من عشائر بني حسن وكريط وآل يسار ، في فجر النهار المذكور [30 تموز 1920م] حتى وصلوا الجسر . فتصدت لها حامية مخفر الجسر وتراشق الطرفان بإطلاق النار ووجدت هذه القبائل نفسها تحارب في جهة واحدة [ لوحدها دون مشاركة القوات الأخرى ] ومع ذلك لم تفتر عزيمتها غير أنها تكبدت خسائر جسيمة في الأنفس وكان معظمهم من فخذ آلبو كريدي من بني حسن وكانت فجيعة هؤلاء الجماعة بأبنائها (بحيث لم يبق بيت لم يلبس السواد حزناً ) ، ولكن هذه القوة توغلت واحتلت جانباً من المدينة إلى أن أسقط في أيديها وخذلت لكثرة قتلاها بحيث لم تستطيع أن تسحب جثة واحدة فانسحبت معتقدة أن القوتين الباقيتين قد خانتا فلم تقوما بالهجوم المتفق عليه"".(18)
     أما القوتان الأخريان المذكورتان فقد هجمتا ولكن بعد الهجوم المتقدم ذكره بنحو ساعتين وتوغل الثوار في محلة الجامعين ووصلوا ( مخفر المسلخ)(19) وأجبروا قوة السلطة إلى الفرار بعد أن أوقعت بها القبائل خسائر ملموسة ، وأبت قوة الدرك المحلي أن تقاتل أبناء جلدتها وعمدت إلى إطلاق سراح المسجونين فأَخلت سبيلهم ، وتقدم الثوار إلى قرب السراي وكادوا يحتلونه ، بعد أن استطاعت التغلب على جميع الاستحكامات التي أقامتها القوات البريطانية حول المدينة ودخلت المدينة واحتلت جزءاً منها (20).
    وذكر المعمرون أن بعض أفراد العشائر دخلوا محلة الجامعين وقدم لهم الاهالي كل ما يحتاجونه من عون . لقد كان الهجوم ضارياً أبدى فيه الثوار بسالة مذهلة وقدموا من التضحيات الشيء الكثير ، وقد اشتهرت في هذا الهجوم عشيرة طفيل لما أبدت فيه من شجاعة منقطعة النظير . ويقال أن السبب في ذلك هو أن هذه العشيرة كانت قبل ذلك ذات سمعة حربية واطئة لما أبدته من ضعف عندما غزتها عشيرة العوابد فهي تريد الآن أن تسترد سمعتها ولهذا كانت في مقدمة المهاجمين وصارت تحتل المدينة شارعاً شارعاً وبيتاً بيتاً وترفع أعلامها فوق سطوح الدور وظلت تقاتل بضراوة حتى بعد انسحاب العشائر الأخرى من البلدة ، وكان لرئيسها نايف الضيدان(شيخ طفيل) كل الفضل في هذه البطولة(21).
     إلا ان الإمدادات التي جاءت لمساندة القوات البريطانية غيرت مجريات المعركة وكان لقوة ( الكولونيل أبط ) التي انضمت إلى الجيش أثر كبير في هزيمة الثوار ، أخفق الهجوم أخفاقاً تاماً وتراجع الثوار عن الحلة ، وتقدر المصادر العراقية خسائرهم بـ ( 71) قتيلاً و (120) جريحاً و(20) أسيراً وكان الأسرى هؤلاء من عشيرة طفيل إذ كانوا يواصلون القتال في داخل إحدى الدور فحاصرهم الإنكليز وأرغموهم على الاستسلام .(22)
    يقول مزهر الفرعون : (انسحب الثوار من الحلة بعد أن قدموا للوطن دماء (71) شهيداً من بينهم :
-       صالح المهدي العسل أحد رؤساء آل إبراهيم من قضاء أبي صخير0
-       محمد الذرب من عشيرة ألبو جاسم 0
-       جبر الحاجم ، وإبراهيم الجواد ، وحسن آل غزاي ، من ألبو موسى وكلهم من آل فتلة0
-       سوادي المناع من شيوخ كريط 0
-       وجُرِح مائة وعشرون من بينهم عبد السادة الحسين رئيس آل فتلة بقضاء الشامية ، وأسر منهم ما يقارب العشرين أسيرا وكلهم من عشيرة طفيل إحدى العشائر المتحالفة مع آل فتلة وهؤلاء الأسرى كانوا يحاربون داخل مدينة الحلة ولما تراجع الثوار بقوا يطلقون النار حتى أرغموا على التسليم أخيراً وعملت السلطة البريطانية من القساوة معهم كما هو شأنهم مع جميع الأسرى ما يقشعر منه بدن الإنسان .....)(23).
      ويذكر أن عدد شهداء عشائر طفيل كان ( 20 شهيداً ) والجرحى كان أقل من ( 10 ) وان قوات هذه العشائر المهاجمة كانت بحدود ( 200 مقاتل) وقد هجموا على منطقة المسلخ ، كانت قوات العدو فيها كبيرة ومحصنة ومزودة بالأسلحة الفتاكة في حين لم يكن سلاح الثوار غير البنادق القديمة إضافة إلى السلاح الأبيض (الفالة والمكوار والخنجر ) ومع ذلك فقد استطاع الثوار بإيمانهم بعدالة قضيتهم المطاولة في الجهاد ، وكان المشاركون من عشائر طفيل في هذه المعركة أفخاذ كل من العيفار وآل شغب وآل حتروش وآل خماس وآل سهلان وألبو حويوة والحيادر .(24)
 
تصدي عشائر أبو غرق للبريطانينين
تجمعت العشائر المنسحبة شمال مدينة الهندية قرب منطقة جناجة لتكون قاعدة الإنطلاق للسيطرة على سدة الهندية مبتغية بذلك التحكم بمفاتيح مياه سدة الهندية وفي الضبط المائي للنهر وجداوله(25) لتعيق حركة القطعات البريطانية التي كانت تستخدم النهر في النقل والمناورة. 
أدركت القوات البريطانية في العراق خطورة الموقف، بعد فشلها في استعادة ما حرره الثوار في مناطق العراق، فأبلغت حكومتها بوجوب إرسال التعزيزات العسكرية لمواجهة العشائر والقضاء على الثورة، أجاب وزير الحربية تشرشل الجنرال هالدن في 26 آب 1920م قائلاً: ((اغتنم الفرصة لأُهنئك على نجاحك في العمل الشاق الذي عُهد إليك القيام به، وأُعلمك أن الوزارة قد قررت وجوب القضاء على الثورة وسأعمل جاهداً في تلبية جميع طلباتك))(26).
وصلت التعزيزات الكثيرة إلى القوات البريطانية واستعدت لخوض المعارك لاستعادة ما حرر منها من الأراضي والمدن العراقية، في حين استنفد الثوار الكثير من العتاد الحربي، فضلا عن عدم حصولهم على المساعدات العسكرية أو المادية من خارج العراق أو من المناطق التي لم تشارك في الثورة الأمر الذي أثر سلبياً في مقاومة الثوار للحملات العسكرية البريطانية فيما بعد(27).
 خططت القيادة العسكرية البريطانية في الحلة أن يكون أول قتال تبدأ به في منطقة باب الحسين متجهة لمهمة استعادة قصبة طويريج؛ بوصفها المفتاح الستراتيجي لباقي مدن الفرات الأوسط وقلب الثورة، ولتركز العشائر وقياداتها هناك، فبدأت بإرسال قوة عسكرية (الآلاي 53) يوم الثلاثاء 12 تشرين الأول بقيادة البريكادير (ساندرز) من الحلة(28).
وما إن وصلت القوات البريطانية منطقة أم الهوى (حاليا شرق الرشيدة الجنوبي) حتى استقبلهم آلبو عفصان وآلبو موسى (من منطقة أبي غرق) وزغيب وآلبو بطيط وآلبو حنيجل والسادة المحانية (من منطقة الرغيلة) بوابل الرصاص والمقاومة العنيفة من قلاعهم (المفاتل)(29) وقاومتهم من الجهة المقابلة عشائر كريط والجبور من تحصيناتها بكثافة نيران أسلحتها الخفيفة، لكن سرعان ما أُخمدت المقاومة بقذائف المدفعية وقنابل الطائرات العسكرية المهاجمة، فدخلت مركز الهندية ، وجرت محاولة لحرق الجسر الخشبي من جهة القصبة من قبل أحد الثوار (حاوي الورد) بأمر من (الشيخ عبد الواحد سكر)، وسرعان ما أُخمدت ناره قوة الآلاي الهندية عند عبورها السريع للجسر(30).
بعد انتهاء حلقات ثورة العشرين في الحلة والهندية أذعن معظم رؤساء آل فتلة للأمر في حين لجأ بعض الشيوخ إلى الهرب إلى خارج العراق، كما أودع الشيخ (عبود الموسى) السجن حتى إطلاق سراح المعتقلين من الثوار وعودة المنفيين من جزيرة هنجام بموجب العفو العام في شهر حزيران 1921م ، وغرمت عشيرة آل فتلة منهم: (الشيخ شمران)، ألفين ربية و700 بندقية، وكل من الشيوخ (عبود و شبيب الموسى ومحمد العزوز  ومحمد العبود)، ألف ربية وغرم (الشيخ غالب السلطان)، ألف ربية و500 بندقية، وسرى الحال على باقي العشائر في الهندية ، فغرمت عشيرة طفيل، ألفين ربية و500 بندقية و200 رأس غنم و1000 رأس من البقر(31) ، ولم تكتف السلطة البريطانية  بذلك، بل وصلت إلى منطقة الطبر وتم  تطويق مضيف الشيخ (شمران) وصادرت مواشي آل فتلة بحدود ألف رأس من البقر وثمانية آلاف رأس غنم وخمسمائة رأس خيل، وكانت خسائر البريطانيين حسب إحصاءاتهم في معظم ميادين القتال 426 قتيلاً و1228 جريحاً و615 مفقوداً، وأما خسائر العراقيين فهي تزيد على ثمانية آلاف قتيل، وبغية تحقيق الفائدة وتنفيذ أهدافها السياسية في العراق، قربت حكومة  الاحتلال البريطاني الوجهاء والأشراف سعياً منها لتهدئة الوضع، بعد أن أصدرت قانوناً لتأسيس الحكومة المؤقتة في 24 تشرين الأول 1920م (32).
***
الهوامش:
(1) عبد الجليل الطاهر ، العشائر العراقية :19 ؛ رسول الحسناوي ، الاقطاع وحياة أهل الريف في الفرات الأوسط :104 ، والمجلس تكون من:عداي الجريان(البو سلطان) ، هزاع المحيميد(المعامرة) ، سماوي الجلوب(آل فتلة) ، فيصل المغير(الجحيش) ،عمران السعدون(بني حسن)، رشيد العنيزان(اليسار).
(2) عذاب أبو سودة ، المقابلة السابقة.
(3) كامل سلمان الجبوري ، مذكرات محمد علي كمال الدين ،:112 0
(4) محمد علي القزويني: من أسرة آل القزويني في الحلة ، له مكانة محترمة يومذاك.
(5) عبد الرزاق صالح مهدي الأسدي، ويكنى(رزوقي الصالح): ولد في الحلة محلة جبران ،يُعد من وجهاء الحلة اعدم والده وعمه في احداث مجزرة 1916م التي قام بها السفاح عاكف، تولى رئاسة بلدية الحلة في العهد الوطني ، توفي في ثلاثينيات القرن العشرين.
(6) يقول المتتبعون انما قال القزويني :اوصيكم خيراً بعبد الرزاق، لكون ان جراح الحليين لم تندمل بعد بسبب بطش عاكف بهم سنة 1916م وقد اعدم أباه وبعض من اقاربه علناً0
(7) سُميَّ خطأً عند الباحثين والمدونين بـ(مؤتمر طويريج)، والحقيقة أن الثوار عقدوا المؤتمر في قرية اليوسفية ضمن أراضي ناحية أبي غرق.
(8) فلاح البياتي ، مدينة الهندية (طويريج):70 ، 0
(9) عبد الرضا الحميري ، لمحات من تاريخ الحلة ،:283 0
(10) المصدر نفسه:285 .
(11) شكري بيك جلبي وشقيقه نعمة بيك تملكوا مقاطعة الخواص وشيدوا فيها قلعة كبيرة في العهد العثماني على عهد مدحت باشا حينما سعى إلى تفويض الأراضي الزراعية ، آلت هذه المقاطعة والقلعة فيما بعد إلى الملاك حفظي السبتي (الباحث).
(12)  عبد الرضا عوض ، الحلة في ثورة العشرين:111 .
(13) هو الجسر القديم الذي كان يمتد بين حافتي شط الحلة على الدوب 0
(14) عبد الرضا عوض ، الحلة في ثورة العشرين:89 .
(15)عبود الهيمص،ذكريات وخواطر عن أحداث عراقية في الماضي القريب ، مطبعة الراية ، بغداد ، 1991م :270 .
(16) ألمر هالدين ، ثورة العراق 1920:208 0
(17) جاسم الصكر ، شيخ العشيرة:112 .
(18) عبد الرزاق الحسني ، الثورة العراقية الكبرى:151 0
(19) المسلخ: مكاناً لجزر المواشي كان موقعه مقابل شركة البيبسي كولا حالياً ضمن محلة الجامعين، وبجانبه أنشأ الإنكليز نقطة مراقبة تطل على شط الحلة، فيها جنود هنود يرأسهم ضابط صف انكليزي، وكان هذا المخفر قد ألقى القبض على بعض المارة اثناء ذهابهم للعمل في البساتين، واثناء ذلك الهجوم اطلق سراحهم0
(20) محمد علي كمال الدين، مذكرات:113 ؛ جاسم الصكر ، شيخ العشيرة:111 .
(21) يوسف كركوش ، تاريخ الحلة:1/192 0
(22) عبد الرزاق الحسني ، الثورة العراقية الكبرى:155 0
(23) فريق مزهر الفرعون ، الحقائق الناصعة :271 0
(24) عبد الرضا عوض ، الحلة في ثورة العشرين:112 0
(25) عبد الشهيد الياسري،البطولة في ثورة العشرين، مطبعة النعمان ، النجف ،1966م:216 .
(26) آلمر هالدين  ، ثورة العراق 1920 :215 .
(27) عبد الرزاق الحسني ، الثورة العراقية الكبرى:303 .
(28) فلاح البياتي ، مدينة الهندية (طويريج) :1/72 .
(29) قلاع حربية تشابه القلاع الفكتوريا.فيها منافذ للبنادق فقط.
(30) فلاح البياتي ، مدينة الهندية (طويريج):1/74 .
(31) فلاح البياتي ، مدينة الهندية:1/85 .
(32) فريق مزهر الفرعون ، الحقائق الناصعة:422 .
(33) عليوي سعدون الحسناوي ، تأريخ الهندية ورجالاتها منذ تمصيرها لحد الآن:206 .
 

120
الدكتورة ماهي كجه جي... شخصية عالقة في ذاكرة مدينة الديوانية

نبيل عبد الأمير الربيعي
    حينما رحلت الدكتورة ماهي كجه جي إلى بغداد قرب أهلها نهاية سبعينيات القرن الماضي، وفتحت هناك عيادتها، يقف السائق في گراج الديوانية ويصيح "دختورة ماهي بعد ثلث ركاب ونقبّط... دختورة ماهي..". كانت جموع نساء "نساء الديوانية" على موعد مع الباص، يحجزنّ أماكنهنّ في الحافلة الصغيرة المستأجرة، مرتين في الأُسبوع، ويأتينّ إلى بغداد، يصلنّ إليها، ثم تحدث جلبة خارج عياتها وتعرف أنّ الباص الآتي من الديوانية قد وصل وأفرغ حمولته. يقود الوفاء مريضاتها القديمات إلى السفر لأكثر من ثلاث ساعات لكي يصلنّ إلى عيادتها. وتذهب الجموع إلى بغداد لمعايدة بركة الدكتورة ماهي والعودة مع نفس السائق أدراجهنّ مساءً مكللات بالشفاء المؤزر بعد علاج يذهبنّ إلى أنه يبدأ من إيمان العامة بقدرات الطبيبة واعتقادهنً بملكاتها ويقينهنّ المسبق بالشفاء.
   الطبيبة النسائية ماهي اسكندر كجه جي كانت أول تعيينها بعد تخرجها من كلية طب بغداد عام 1955م في مدينة الديوانية، لم تسافر خلال حياتها إلى أي مدينة إلاّ سفرة واحدة عندما قُبل أخوها الأكبر عبد الأحد في كلية الحقوق في بغداد، وكان أول ولد يحصل على شهادة جامعية في عشيرتهم كلها، ويحمل نجمة على كتفه ويصبح ضابطاً عدلياً. فاضطر رب العائلة بالرحيل من مدينة الموصل مسقط رأسه بعد بيع البيت العتيق في شارع نينوى ويهاجر مع زوجته وخمسة من الأبناء الذين عاشوا لها(1)، والسكن في حي الكرادة في العاصمة بغداد، شارع الهندي. فهي من مواليد الموصل عام 1930، أكملت دراستها الابتدائية هناك والثانوية في بغداد، ثم المرحلة الجامعية في كلية الطب – جامعة بغداد. كان وزنها خمسين كيلوغراماً عندما دخلت إلى الكلية، ولما تخرجت زاد ثلاثة أخرى.
   في مساء الرابع عشر من تموز سنة خمس وخمسين نزلت د. ماهي كجه جي من القطار في محطة الديوانية وبيدها أمر إداري يفيد بتعيينها طبيبة في مستشفى الديوانية الملكي. وها هي مع اختها الكبرى غزالة في الديوانية، المدينة التي سحبتها بالقرعة فتم تعيينها فيها. لم يبدِ أخوها الكبير تحفظاً شديداً من عملها في مدينة الديوانية، بل كان مرتاحاً لأن عمل ماهي سيكون في الديوانية، مقر الفرقة الأولى في الجيش، إنه يعرف قائدها وعدداً من ضبّاطها.
  عند وصولها إلى الديوانية لم يخطر على بالها أن تجد في استقبالها على الرصيف، وفداً من الأطباء والصيادلة والموظفين المحليين وعدداً من وجهاء المدينة ينتظرونها في المحطة. ست ساعات بعربة القطار وهي تهتز مع اهتزازات العربة وقرقعات خشب المقاعد والحقائب والأواني ومتاع المسافرين. كانت خلال عملها في مستشفى الديوانية الملكي تدمع وتخاف أن يصل همسها الداخلي إلى مسمع أخيها سليمان فيسخر من تهيؤاتها، وسيحسم الأمر على جري عادته بالقول: "تقدّرون وتضحك الأقدار". ذهبت لكي تمضي سنة واحدة، إثني عشر شهراً يلتزم الخريجون الجدد خلالها بالخدمة في الأرياف، لكنها بقيت أضعاف تلك المدة وغادرتها (إلى بغداد) وهي في سن الكهولة.
   في الديوانية ستتعرف على الرجل الذي سيصبح زوج المستقبل حنا شماس، الطبيب الشاب الذي كان يعمل معها في المستشفى نفسه، وفي الديوانية ستنجب أربعة أبناء: سرمد وهالة (اصبحت فيما بعد دكتورة وتعمل حالياً في مدينة تورنتو)، ووميض وهمسة. وستفقد الولد البكر سرمد وهو ابن ثلاثة أشهر، ويترك فقدانه جمرة في كيانها.
   في أول يوم عمل لها في مستشفى الديوانية الملكي، وجدته أنه لم يكن سوى إسطبل، الردهات مثل سوق شعبي، في كل منها عشرة أسرة يقيم فيها عشرون مريضاً، نصفهم يرقد على الأرض، أما مجاري المياه فمسدودة تعوم فوقها النفايات. ولكي تستحم، كان على الطبيبة الوافدة من بغداد أن تصعد فوق كرسي حديدي تضعه تحت الصنبور العالي. إن أرض الحمام غرقى بمياه المجاري. كعادتها تركت العنان لدموعها، سلاح ضعفها الذي يسبق اندفاعات مقاومتها. ثم حسمت أمرها ذات صباح، وذهب لمقابلة رئيس صحة اللواء (الدكتور اللبناني شاكر فرنجية). قالت له كيف أعمل في مكان مثل هذا... هل تقبل أن ينزل الأطفال وسط المكروبات؟ كان جواب مدير الصحة قائلاً: "يواش يواش دكتورة. هذي هي الإمكانيات". كان مدير صحة الديوانية مديراً أنيقاً ونظيفاً ومبتسماً، وقد زاد من سعادته أنه سيعود قريباً إلى العاصمة.
   قبل مجيء الدكتورة ماهي إلى الديوانية، كانت نساء المدينة، ومن قبلهنّ أُمهاتهنّ وجداتهنّ، يلدنّ أطفالهن في البيوت، على أيدي الجدات، أي القابلات. ولم تكن في الديوانية قبل وصولها سوى طبيبة وحيدة تعمل في عيادتها الخاصة، لا في المستشفى. وعزمت الدكتورة ماهي أن تذهب لرؤية متصرف اللواء. إنها زيارة تعارف ومجاملة. وهي ستنتهز الفرصة فتطلب مساعدته في بناء قسم للولادة.
   في ساعة غضب وحيرة، عادت د. ماهي لرؤية متصرف اللواء. قال لها: إصبري وانتظري. نحن بصدد بناء مستشفى جديد وقد حفرنا الأساسات ولا مجال لتوسيع المستشفى القديم (المقصود مستشفى الديوانية الجمهوري الذي أزيل واصبح الآن دائرة التسجيل العقاري). قالت له: أريد خيمة لا أكثر... ولن أنتظر أي بناء. حدد المتصرف لها مكاناً في مستشفى الديوانية الملكي ليصبح صالة للولادة.
   جاء صديق العائلة أبو يعقوب (صالح ساسون معلم)، صاحب معمل الطابوق (الفني) وساعدها في وضع التصميم. في هذه الزاوية ستُبنى المغاسل ودورات المياه، وهناك لا بدّ من تشييد مخزن صغير لحفظ حاجيات المريضات، مع بضعة أرفف للمواد المطهرة واللوازم الطبية. نقل لها أبو يعقوب بشاحنته الصغيرة ما تحتاج من كاشي وطلاء ومواد بناء. هذا هو الفضاء الخاص الذي ستتحرك فيه وتستقبل الحوامل وتملّص المواليد... نزلت إلى بغداد لتشتري ما تحتاج من آثاث: سرير توليد والحاجز الخشبي الذي يستر الوالدة ومهود الأطفال أي "الكواريك"... حضر المتصرف حفل الافتتاح، وقصّ الشريط. وجاء قائد فرقة المنطقة وضباطه وشيوخ عشائر الديوانية وما جاورها.
   كانت السينما الصيفي في المدينة تعلن عن الفلم المقبل. طلبت د. ماهي من سائق الأجرة أن يلحق بسيارة البيك آب التي تحمل صورة كبيرة لفلم من أفلام جون وين... لحقت به وأوقفته بإشارة من يدها فعرفها ونزل يستطلع الأمر. قال لها: خير دكتورة؟ قالت: "شوف عيني، هاك ربع دينار وأريدك تدور بسيارتك وتصيح بالميكرفون تعلن عن افتتاح صالة جديدة للولادة في المستشفى (الملكي)... نظافة وأمان وبإشراف دكتورة جاءت من بغداد".
   بعد فترة من عملها وفي عام 1959م اشترت سيارة أوبل موديل 59، وهي بعد بالكاغد. "رقمها 14 ديوانية... لو طلبوا إليها أن تختار رقماً يعجبها لما عثرت على أجمل من هذا الرقم لسيارتها. إنها تتفاءل بالأرقام الزوجية وتميل إليها لأنه تاريخ وصولها إلى الديوانية. كانت قد سمعت من الإذاعة قصيدة للميعة عباس عمارة وحفظت مطلعها وظلّت تُردده بينها وبين نفسها. "أُحبّ كلّ أربع وعشر... لأنها تختم رقم الشّر". سلمها ضابط التسجيل رقعة السيارة ومنّها بأنه أنعم عليها برقم ثورة تموز. وكانت الدكتورة أنيسة قد سيقتها كأول امرأة تقود سيارة في شوارع الديوانية، وهي الثانية.
   كان في المستشفى دكتور يدعى حنا شماس (1928-1997)، لفت نظرها منذ أن رأته في بيت رئيس الصحة. ومثله كان يلفت النظر. كأنه نبيل جرماني بشعره الفاتح وبشرته المشربة بالحمرة. أحبته وتزوجته وكانت حين تسير بجواره تشعر بالزهو حين ترى الأعين تتساءل: كيف اصطادته؟. كان أمر خطبتها من الدكتور حنا غريباً. فهو قد طلب من رئيس الصحة أن يجس نبضها قبل أن يطلبها للزواج. قالت: الأمر أمر أهلي. بعد أسبوع، سار وفد من الديوانية برئاسة أم حنا وعضوية الدكتور فرنجية وزوجته السيدة ريموند ومعهم (خالدة) أم يعقوب زوجة صديقهم صاحب معمل الطابوق، وأم جلال زوجة قريبهم مركب الأسنان (نجيب ساعور)، وقصد منزل أهلها في بغداد. ولم يذهب العريس معهم... بدأت والدته مهمتها بإلقاء المحفوظات المعتادة: "ولدنا خلوق ومجتهد ويخاف الله وما عندة مكسّرات". ولم يكن العقيد عبد الأحد، (أخو ماهي) محتاجاً لتوصيف... قائلاً لها: "أما محاسن ولدك الدكتور، يا أختي الكريمة، فأنا أعرفها بالتفصيل. إنه أشهر قمارجي بين الأطباء وأحسن شرّاب عرگ  وأكبر مدخن جكاير... وأنا موافق عليه".
   بعد زواجها من د. حنا شماس استأجرا عيادتين متقابلتين في حوش منزل قديم (في صوب الشامية قرب صيدلية العاملي). وكان باب عيادته مشرعاً دائماً للأصدقاء والزوار وباب عيادتها مغلقاً على ما خلفه من أسرار النساء. أما دار سكنهما فكان امام مستشفى الصدرية في المدينة.
   شاركت الدكتورة ماهي عوائل مدينة الديوانية في أفراحهم وأحزانهم. وكانت وهي المسيحية المؤمنة بيسوع وبشفاعة مريم، تحضر القرايات على الحسين في عاشوراء. كان الأمر طبيعياً في الديوانية لصداقتها مع العلويات. فعائلات المدينة محافظة ومتدينة مُشرعة البصائر. وحتى حين انتقلت إلى بغداد، كانت تأخذ ابنتها همسة وتذهبان لتجدا مكانهما محجوزاً في الصدر (صدر المجلس)، أمام المنشدات. في القرايات تنساب دموع د. ماهي بدون أزجال أو محفزات. تتذكر موتاها وتبكي مع اللاطمات على الحسين. أما ابنها وميض فعندما كان صغيراً أخذه حسان الفلسطيني (مستخدم في دار د. ماهي اصطحبه أحد الضباط المشاركين بحرب عام 1948 معه من فلسطين كونه قد قتلت عائلته) إلى المصور أنور، أخذ له صورة جميلة بالملابس السوداء وهو يحمل سلسالاً، وبعد أخذ الصورة سار في موكب عاشوراء في الديوانية وهو يحمل سلساله. من معارفها في المدينة عوائل: متصرف اللواء وقائد الفرقة الأولى والعلوية منية والمرضع بستانة (كانت مرضعة لابنتها هالة ومن ثم عملت فراشة في روضة الديوانية) وحسان الفلسطيني والدكتور شاكر فرنجية والست ريموند والجدة نانا وأم يعقوب، وكلهم وقفوا معها وكانوا ظهراً وسنداً.
  هذا السرد الجميل لحياة الدكتورة ماهي كجه جي شمّاس مستل من رواية (طشاري) لابنة اخيها إنعام كجه جي. وعندما رغبت بكتابة مقالة عن عمتها الدكتورة وسيرتها الذاتية قالت لي أقرأ (طشاري). كان جوابي لقد قرأتها وكان حدسي انها تدور حول السيرة الذاتية للدكتورة ماهي، رغم أن المؤلفة أطلقت عليها في الرواية اسم (وردية). وفي يوم الأثنين الماضي الموافق 15/6/2020 طلبتُ منها صورة شخصية للدكتور الطيبة التي أحبها ابناء الديوانية لاخلاصها في مهنتها، فوعدتني خيراً عند زيارتها لعمتها.
   اليوم الدكتورة ماهي شمّاس لاجئة في فرنسا، بعد عمليات التهجير التي طالت كل مكونات الشعب العراقي عام 2006 و2007. وكونها من الديانة المسيحية فقد طالها التهديد. إن من يراها وقد بلغت التسعين، تدفعها ابنتها بكرسيها المتحرك في ضاحية "فينيو سور سين" جنوب باريس، لا يصدق ان هاتين الكفين الصغيرتين اللتين ترتسم عليهما خارطة من الأوردة الزرق هما اليدان السحريتان ذاتهما، بأناملهما المطواع المدربة التي جابت المغارات السرية للنساء فتفتك وتربط وتكشط وتنظف وتكوي وتداوي وتهجس بالبشارة.
 
المصدر:
(1)            إنعام كجه جي. رواية طشاري. دار الكاتب. بيروت. ط 2. 2009

121
حكايات من مدينة الديوانية الطيبة
عبد علي الزبيدي الحلاق... عاش انساناً زاهداً متعففاً حتى رحل من الحياة تاركاً ذكراً طيباً بين أصدقائه ومحبية.


نبيل عبد الأمير الربيعي
      للحلاقة والحلاقين مزايا واعتبارات اجتماعية كثيرة، فمهمة الحلاقة الأولى هي تزيين وجوه ورؤوس زبائنه أي إظهارهم للملأ بأفضل وأجمل حالاتهم. وكلمة (تزيين) من الزينة لذا سُميَّ الحلاق (مُزيّن) قبل أن يُسمى (حلاّقاً) وهي من الحلاقة. لم تقتصر في سالفا لزمان مهمات ومسؤوليات الحلاقيين أو (المزاينة) على تزيين وجوه الناس فقط، إنما كانت لهم مهمات خطيرة الشأن يزاولونها على نطاق واسع هي من اختصاصات الأطباء لا غيرهم. منها إجراء عمليات ختان (طهور) الأطفال وقلع الأسنان المتسوسة والمعطوبة وتخدير مواضع الألم في هذا السن أو ذاك بحشوه بمادة مخدرة شعبية يسمونها (ترياك).
      الحلاقون الذين امتهنوا مهنة الحلاقة منذ أن عُرفت الديوانية كمدينة, منهم من رحل ومنهم من استمرَّ على عمله هذا ومن أقدم الحلاقين في المدينة الحاج عبد علي الزبيدي والحاج حاشوش سفاح أبو حليم في الديوانية, فضلاً عن حلاقين قدما وشباب وهم كل من : حسن كسكين, محمد كسكين, حاشوش سفاح الحلاق, حلاقة جاسم محمد (ابو عبد الزهرة) 1941م, , خليل الحلاق، إدهام خضير (ابو شعيب), داوود أبو سلمان, الحاج كاظم, جبار الحلاق , مهدي الحلاق ,جاسم طعمة, وناس الخزاعي, محمد دوحي, علي دوحي, حسن دوحي, سلمان هوبي, عبد الحر الحلاق, عباس عبيدي الخفاجي (أبو نبيل), فاضل البغدادي, علي الحلاق, حمدي الحلاق , كاظم الحلاق, عبد الحسن الحلاق, حلاقة حسن عجم, حلاقة عبد خزيمات, حلاقة عبد الزهرة, عباس الخفاجي, حسن باوي, حلاقة نوماس, حلاقة عبد الجبوري, حلاقة خليل ابو مازن, حلاقة فيصل, حلاقة عيسى الشيخ اسماعيل, حلاقة كريم في الفاضلية, حلاقة علي البرطلي, حلاقة أحمد حلواص, حلاقة عطوان (ابو واثق), حلاقة الوحيد, حلاقة (ابو جمال) مقابل علوة جلعاوي, حلاقة رشدي, حلاقة كاظم مرهون, فاهم الحلاق, أدهم الحلاق, حاج مرزة, جاسم الفروي, أبو صبحي, الحاج جواد الطويل, جبار يسار, علي عوفي, حلاقة مشحوت, حلاقة علي الهلالي, حلاقة جاسم طعمة, حلاقة فاضل بغدادي, حلاقة هوبي (ابو ضياء), حلاقة حامد كاظم بلكوت .
ومن أقدم الحلاقين في الديواني عبد علي الزبيدي والد الفنان التشكيلي سعد ومحمد وعبد الحسين. كان دكان عبد علي الحلاق من الدكاكين العائدة للحاج عبد الحسي البحراني تحت فندق السرور في صوب الشامية والقريبة من صيدلية العاملي، دكانه يتوسط صفاً من الدكاكين على الشارع الرئيسي في صوب الشامية، كان دكانه كبيراً نسبياً، يحتوي على كرسي الحلاقة والمرايا المقابله له، وعلى جانبيها دولابان صغيران ثبتا بالجدار، وفي زاوية قريبة وضعت منضدة صغيرة صفت عليها بالإضافة إلى إبريق نحاسي لماع و(نجانة) من النحاس الأصفر ذات الحافة العريضة غير كاملة الاستدارة، إذ تم قطع جزء منها على شكل هلال بحجم رقبة الإنسان، وهي عادة توضع تحت حنك الزبون الذي عليه أن يمسكها بكلتا يديه كي يمنع تسرب الماء عندما يقوم الحلاق بصب الماء من الإبريق على رأس الزبون لغسله، وذلك بعد إكمال الحلاقة، ولقد وضعت على جانبي الدكان (قنفتان) تتسع كل منهما لخمسة أشخاص بالإضافة إلى كرسيين وضعا خارج الحانوت على رصيف الشارع، كان دكانه مقر لبعض شيوخ العشائر للمسامرة والحوار واللقاء، مثل الشيخ سلمان العبطان شيخ الخزاعل، أو مزارعون وتجار وموظفون.
افتتح الحاج عبد علي الزبيدي محل الحلاقة مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، كان طويل القامة نحيف الجسم له عينان واسعتان احتقن جفناهما بلون أحمر، وهو ما تركه مرض التراخوما الذي أصيب به صغيراً. يذكر عبد الكريم محمد رؤوف القطان في مذكراته صفحة 148 قائلاً: "لقد نزح عبد علي الحلاق إلى الديوانية من بلدة الدغارة، وأفتتح محله تحت (مسافر خانة السرور في صوب الشامية)، وقد وضعت فوق المرآة في محله أبيات الشاعر أبو نؤاس، والتي يحث بها الناس على قلّة الكلام وصون اللسان، وهي:
خل جنبيك لرام   وأمضِ عنها بسلام
مت بداء الصمت   خير لك من داء الكلام
كانت هذه الأبيات قد خطها صيهود شنين (عندما كان طالباً في ثانوية الديوانية)، كان صاحب خط جميل، وكانت الأبيات موضع تندّر من قبل زبائنه، وقد زرته بعد انقطاع دام أكثر من خمس عشرة سنة، وقد سررت بأن أجد اللوحة في مكانها ولكن بإطار خشبي جميل، فلما لاحظ أني أمعن النظر فيها، ضحك كثيراً وقال إن هذه الأبيات كانت موضوع تعليق أكثر الزبائن ويتعجبون أن تكون في دكان حلاق، ولما كنت أستفسر منهم قائلاً ولِمَ لا؟ يأخذون بسرد القصص عن الحلاق الفلاني أو الحلاق في مدينة الحلة أو عن ذاك الذي في مدينة الشامية، وكم كانوا يثرثرون ويزعجون الزبائن بحكاياتهم السخيفة، وبعضهم يشرع يقص عليّ هذه الحكايات ويسردها بتفاصيلها، وخوفاً من خسارة زبون أو زبونين كان عليَّ أن أستمع لهم وأعلق على سردهم بين حين وآخر، كي أبين لهم بأنني أصغي إليهم".
   يمتلك الحاج عبد علي الحلاق في دكانه عدة كتب ومجلات يطالعها أثناء فراغة، وكان شاعراً شعبياً ينظم الأبوذية والقصائد الزجلية والحسجة بلهجة فراتية أوسطية. ومن قصائدة التي نظمها بعد حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وكان يرددها الطلاب في تظاهراتهم أمام سراي الحكومة:
ليش ناسي اللي جرى من العرب
عدنا رَگع الطوب جنْ كيف وطرب
 
هم شفت واحد برز لينا وغًلب
تتلاهب وأحنه نطفيها
كما ردد طلابا التظاهرات أمام متصرف الديوانية في حينها:
يا سراي الحكومة أمّن من الخوف
وعليك أبد ما يمر غير النوف
 
كل ما علا الماي وأحنه الروف
جبنالك صنجغ بزمورة
ومعنى المقطع الأخير أننا قد جلبنا لك جيشاً بكامل عدته من سلاح وعتاد.
عاش الحاج عبد علي الزبيدي نزيهاً لا تفارق محياه الابتسامة الحلوة والرقيقة في الترحيب بأصدقائه وزبائنه، عاش انساناً زاهداً متعففاً حتى رحل من حياته تاركاً ذكراً طيباً بين أصدقائه ومحبية وعائلته.

122
رحيل المفكر والمؤرخ د. جودت القزويني
نبيل الربيعي
رحل المؤلف والكاتب والأعلامي والأديب والمحقق د. جودت القزويني بعد مسيرة حافلة بالأدب والفكر والكتابة التاريخية. كان الراحل القزويني له دور كبير في نشر المفاهيم الدينية والفكرية الصحيحة,  وقد أفنى عمره في خدمة المعرفة والعلم ونشر المفاهيم الفكرية الصحيحة .
نتوجه بخالص العزاء و المواساة لأسرة د. جودت القزويني الراحل، وأن يلهم أهله وأسرته وذويه وطلبة العلم الصبر والسلوان.
الدكتور السيد جودت القزويني بن السيد كاظم بن السيد جواد بن السيد هادي بن السيد صالح بن السيد مهدي القزويني شاعر ومؤرخ وباحث وكاتب عراقي معاصر، ولد في بغداد يوم الثلاثاء 24 آذار 1953 (1372هـ) من أسرة عراقية هاشمية عريقة تعود جذورها للأشراف من سلالة النبي محمد بن عبد الله (ص).
درس في المدراس الرسمية، ثم دخل كلية أصول الدين ببغداد، وتخرج منها عام 1975.
سافر إلى القاهرة، وحصل على درجة الماجستير من قسم الشريعة بكلية دار العلوم (جامعة القاهرة) عام 1981 عن أطروحته "الطفل والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي".
في بدايات عام 1982 رحل إلى إيران، ثم غادر من هناك إلى سوريا.
في عام 1985 سافر إلى المملكة المتحدة، والتحق بالجامعة لإكمال دراساته العليا، وفي عام 1997 حصل على الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية, جامعة لندن عن أطروحته حول "المؤسسة الدينية الشيعية ـ دراسة في التطور السياسي والعلمي". وبقي هناك إلى عام 2001،
بعدها سافر إلى لبنان، وهو يقيم هناك إلى الوقت الراهن.
ورغم أنه اشتغل زمناً طويلاً بالتأريخ والأبحاث والكتابات النثرية والنصوص النادرة المتنوعة؛ إلا أنه شاعر من الرعيل الأول.
صدر له ديوان ضخم نشره باسم المجموعة الشعرية الأولى عام 1997. (3) وقد نظم الشعر في سن مبكرة، ونشر قسماً من قصائده التي نظمت بعد سنة 1975 فصدرت له مجموعتان شعريتان: الأولى في القاهرة عام 1980، والثانية في بيروت عام 1985.
من بين قصائده: فناء في سجون الغربة ؛ قام الدكتور كريم الوائلي بنقدها ودراستها، ونشرها في مجلة الموسم: جودت القزويني السجون.. الضباب.. السجون
وحفنةٌ من الترابِ في العيون
وبارقٌ من الوجوه
يرجعُ الحلاجَ من جديد
إلى السجون
كفهُ يملأها الحديد

123
التطور في الفكر المعماري وأسس التصميم

شكر حاجم الصالحي
أزعم ان هذا الكتاب الذي أتصفحه الآن في هذه المساحة الضيقة , يستحق ان يكون من بين المواد المقررة لطلبة الكليات الهندسية الرسمية والأهلية لتوفره على فرشة من المعلومات النافعة , ولذا أقترح على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أن تأخذ هذا المقترح بعين الأهتمام الجاد بتشكيل لجنة متخصصة من أهل الرأي والتخصص المعماري حصراً لدراسة ما في الكتاب المشار إليه من أهمية تعين الدارسين على تلمس الطريق المفضي الى الاستفادة المرجوة مما تضمنه (( التطور في الفكر المعماري وأسس التصميم )) التي بلغت صفحاته الــ ((463)) صفحة واعتمد مؤلفاه د0 مهندس نصير علي الحسيني و م0معمارية نورا عباس حسين على ((47)) مصدراً ومرجعاً عربياً و (( 55 )) مصدراً باللغات الأجنبية , وكان للرسوم التوضيحية التي تضمنها الكتاب الأثر المهم في إيصال المعلومة والقراءة الى المتلقي بيسر و وضوح , وهذا ما يؤكد حرص ( المؤلفين ) على تقديم زاد معرفي / تخصصي يمتلك مؤهلات التوصيل وتحقيق الغاية المرجوة من هذا الجهد البحثي الكبير ..... , وقبل الخوض في عرض موجز لمحتويات الكتاب كان بودّي ان يتعرّف القارئ على مقدار المنجز لكل واحد من المؤلفين الأثنين باستثناء الأشارة المضللة التي كتبها الدكتور المهندس الحسيني في (( تمهيد )) والذي فيها :
في هذا الكتاب نحاول تسليط الضوء على مراحل تطور الفكر المعماري وأولوياته وكذلك عن اسس التصميم المعماري وقد قدمت المهندسة المعمارية نورا عملاً تناول لمحات في فن العمارة ومن خلال ذلك استطعنا ان نحدد اهداف هذا الكتاب في الوقت الذي أثني على الجهد لابد من القول ان الغوص في الفكر المعماري يحتاج الى جهد استثنائي وخاصة وان الكتاب يجمع ما بين بنية تاريخ العمارة والتصميم وهو منهج تعليمي ايضاحي وجمعنا ورتبنا ما تيسر آملين ان يكون نافعاً لمحبي هذا الفن وطلابه وفق منظور علمي ...... وبضوء هذه الأشارة يستطيع القارئ النابه ان يكتشف مقدار جهد كل واحد من الاثنين في هذا المنجز الضخم ..
والكتاب يتضمن القسم الأول : التطور في الفكر المعماري من ( ص 11ــ ص 263) ويتفرع الى ثلاثة فصول هي :
00 مقدمة في العمارة
00العمارة عبر الفترات الزمنية المختلفة
00 مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة
أما القسم الثاني من ( ص 265 ــ ص 445 ) فيتضمن  فصله الأول ,  التصميم المعماري , والفصل الثاني : أسس التصميم المعماري , والفصل الثالث : الفكر التصميمي
ولابد هنا من التنويه ان قسمي الكتاب يتميزان بأهميتهما ولا يمكن للقارئ المتخصص والدارس الفاحص إلا أن ينهل مما فيهما من وفرة المعلومات المفيدة ولا يمكن له ان يعقد مفاضله بين القسمين , فكل مبحث فيهما يضيف ويغني ويثري , وازاء هذا الفيض المعرفي سأقصر حديثي هنا على (( مقدمة في العمارة )) وستكون (( عمارة وادي الرافدين )) فسحة لقراءتي هذه كأنموذج لبقية محتويات ( التطور في الفكر المعماري وأسس التصميم ) و يشير المؤلفان الى عمارة وادي الرافدين بالقول :
يزخر العراق بثروة معمارية عريقة تكونت عبر العصور والحضارات التي نشأت على أرض ما بين النهرين في الفترة الحجرية الحديثة حيث كانت بداية الزراعة وشهدت مستويات لعمران متواضع ومتتابع , وتلتها فترة العصر النحاسي الحجرية والتي ظهرت فيها حضارة العبيد , وينتقل المؤلفان الى الحديث عن بلاد بابل اذ يشيران الى ما يلي :
وتعتبر بابل المدينة الوحيدة التي ذكرت في الكتب السماوية في التوراة والانجيل والقران وقد تم الكشف عن اثار هذا الوادي في نهاية القرن التاسع عشر , وتقدر المساحة التي تشغلها بابل باثني عشر كيلو متراً مربعاً ولمركزها شكل مستطيل بعداه ( 2600× 1500 م ) وكان يعيش فيها نحو مائتي الف انسان , وتتألف من قسمين , قسم قديم يضم المباني وقصر نبو خذ نصر الثاني ويقع شرق الفرات , وقسم حديث يقع غرب الفرات , ويرتبط هذا القسمان بوساطة جسر من عهد نابو بولا صر طوله 123م وعرضه 5/10م وكانت المدينة محاطة بسور مزدوج , خارجي سمكه نحو 4م وداخلي سمكه نحو 5/6م , كما كانت هناك (8) أبواب تقود الى المدينة القديمة سميت بأسماء الالهة البابلية المشهورة والأبواب :
1ـــ بوابة     اورانس
2ـــ بوابة     زبابا
3ــــ بوابة    مردوخ
4ـــ بوابة    عشتار
5ـــ بوابة      انليل
6ـــ بوابة     أدد
7ـــبوابة     سين
8ـــ بوابة    شمس
وهكذا هي مدينة بابل النموذج الحي لعمارة وادي الرافدين التي مازالت شاهداً على عراقة هذه الأرض وابداع انسانها المنتج ..... واذا كان لابد من كلمة في ختام هذه القراءة الانطباعية المتواضعة فيتوجب القول ان (( التطور في الفكر المعماري واسس التصميم )) كتاب مهم يستحق ان يكتشف اضاءاته الثرية و معلوماته القيمة كل صاحب تخصص / معماري ففيه يجد غايته في التعرف على معطيات الفكر العراقي القديم في بلاد ما بين النهرين , ويشير بالثناء لجهد المؤلفين : الدكتور المهندس نصير علي الحسيني و زميلته في الجهد المهندسة المعمارية نورا عباس حسين , ومازلت عند دعوتي بوضع الكتاب ضمن المقررات الدراسية لطلبة الكليات الهندسة وفي ذلك نفع كبير ...........
                           **************************
                                                1/2/2020

124
 
قائد عمليات هور الغموگة خالد أحمد زكي/ الحلقة الثانية
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
من هو خالد أحمد زكي
ولد في بغداد عام 1935م, ونشأ في أسرة علم ويسر مادي, والده مهندس الري أحمد زكي, ونظراً إلى طبيعة عمله عاشت الأسرة متنقلة بين المدن العراقية المختلفة, انضم عام 1952م إلى الحزب الشيوعي العراقي, وفي عام 1953م انهى دراسته الاعدادية في الكوت, عُين معلماً في مدينة النعمانية, سافر عام 1955م لدراسة الهندسة في لندن على حساب أسرته, وفي لندن انتخب رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين في بريطانيا, بعد انقلاب 8 شباط 1963م, انضم إلى منظمة (برتراند راسل) للسلام, واصبح سكرتيرها, تعرّف على شخصيات أممية كثيرة, وزار بلدان عدة, لاسيما الاتحاد السوفيات (روسيا حالياً) وتشيوكوسلوفاكيا وكوبا, حضر عدداً من المؤتمرات ومهرجانات الطلبة والشبيبة العالمية, فخالد أحمد زكي المثقف الثوري من الطراز الشعبي, مناضل مسلح بالعزم والإيرادة, صديق حميم للعمال والفلاحين, قيادي بالفطرة, شهيد بطل ومحط اعتزاز حزبه وشعبه.
   في 3 حزيران 1968م تبدد غبار المعركة في هور الغموگة, وقتها كان المناضل الجسور خالد أحمد زكي واثنان من رفاقه الشجعان قد تساموا شهداء, فيما أصيب ثلاثة آخرون. شارك في قواعد الكفاح المسلح في هور الدواية, استشهد يوم 3/6/1968م في معركة غير متكافأة مع القوات الحكومية في هور الغموگة, يذكره رفاقه في المعركة أنه كان يقترح بالقتال دون التراجع حتى الموت, فضلاً عن حياة الهور الصعبة التي عانى منها الشهيد خالد, منها معاناة المشي حفاة في الأهوار, وصعوبة استلام المشحوف وقيادته, فخالد كان لا يحسن قيادة المشحوف في الأهوار مع العلم أن المشحوف في الهور هو رجلك التي تمشي بها.
   جاء خالد للقتال في الأهوار يحمل افكار الكفاح المسلح, وتركه سكرتارية منظمة راسل للسلام في لندن, حيث كان ناشطاً سلمياً, فضلاً عن نزوعه الشديد للعدالة, مع هذا التوجه لخالد كان واقع الحزب الشيوعي العراقي وقتها لم يكن على ما يرام بعد خروجه من تصفيات انقلاب 8 شباط 1963م, والوضع الجماهيري كان مايزال غارقاً في الاحباط, ورغم كل الجهود التي اعقبت كارثة عام 1963م, والعمل الجبار الذي بذل حتى يعود إلى الحياة من جديد, إلا أن الآثار التي تركتها تلك الهجمة لم تكن قد زالت, ومما زاد في أثرها السيء, الانشقاقات المستمرة, وجماعة آب 1964م سيء الصيت, حيث صدر بيان نسب إلى باقر إبراهيم كان يعلن بجلاء عن نية الاندماج في (الاتحاد الاشتراكي) الذي أقامه وقتها عبد السلام عارف, من التنظيمات القومية والناصرية, فالرجل ميال إلى التفسير القومي, قطعاً هو الممثل الفعلي للميل العروبي القومي داخل الحزب الشيوعي العراقي.
 صباح يوم 3/6/1968م ومنذ الساعة العاشرة كانت المقاومة في اشدها, حتى السابعة مساءً, استشهد ثلاث من رفاق خالد وهرب ثلاث والقي القبض على البقية, كان من ضمن الشهداء خالد أحمد زكي, ذلك الفتى الأكثر تضحية وفداءً, يتمتع بقوة وإرادة, قائداً لهذا العمل بحكم مقتضيات اللحظة, بكل ما تنطوي عليه من مثالب وحسنات, فخلال الارتباط في ساعة اطلاق النار اصيب بعض الرفاق, وكان مغادرة حسين ياسين وعبود خلاطي وموسى عطية بداية تدهور القتال, فقام حسين محمد حسين باطلاق النار باتجاه القوات الحكومية, وبدأت المعركة ولم تنتهِ إلا قرابة الساعة السابعة مساءً, حينها كان قد استشهد ثلاثة من المجموعة المقاتلة واسقاط طائرة هليكوبتر, وتم تطويق المجموعة, أصاب عبد الجبار علي الجبر الشمري (الحلة), الذي فقد كفه وهو يعيد قنبلة باتجاه الطرف الآخر.
   في الساعة الأخيرة من المعركة اقترح خالد أحمد زكي الاستسلام إلا أن رفاقه لم يوافقوا على هذا المقترح, كان توزيعهم للقتال أن يكون حسين محمد حسن لجهة الغرب مع أبو سرحان وشهواز ثم خالد وعبد الأمير الركابي في المنتصف ثم عبد الجبار علي جبر الشمري وشلش الذي احتل المقدمة, وحين استشد خالد باطلاقة سكت ولم يشعر به جماعته, فضلاً عن قتله أكثر من شخص حاولوا الاقتراب, أما عبد الجبار علي جبر فقد اعلن الاستسلام فوضع فانيلته البيضاء على عصا صغيرة وخرج, كان جبار يحفظ النشيد الاممي.
   في نهاية المعركة كان الاستسلام مع ذلك التوتر في مدينة الناصرية وهور الدواية, كانت سلطة المنطقة الجنوبية تحت يد العسكري أنور ثامر الذي وبخه بعد ذلك عبد الرحمن عارف رئيس الجمهوريةقائلاً له : إذا كانت كل هذه القوات تظل تقاتل عشرة شيوعيين اليوم بطوله, فماذا لو كانوا الفاً, هل تأتِ بالجيش العراقي كله وقتها؟

125
قائد عمليات هور الغموگة خالد أحمد زكي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   اتخذ المقاتلين الأثنى من القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي موقعاً للمقاومة(خالد أحمد زكي (جبار), محسن حواس (شلش), منعثر سوادي (كاظم), عقيل عبد الكريم حبش (أبو فلاح), حسين ياسين (أبو علي), عبد الجبار علي جبر (هادي), عبد الأمير عبد الواحد يونس الركابي (لفته), عبد الله شهواز زنكنه, ومحمد حسين الساعدي, وعبود خلاطي, وعلي أبوجي, وحمود (صالح), أما أكثر من 2000 بندقية ورشاشة تابعة للنظام, بعد أن دارت رحى المعركة استشهد ثلاث منهم وتاه آخرٌ وهرب ثلاث, فما تبقى إلا خمس مقاتلين عتاق, فما كانمنهم إلاّ الدفاع عن مبادئهم واسقاط إحدى الطائرات التي استهدفتهم, تلك كانت معركة غير متكافأة بين قوات الحكومة ومقاتلين ثاروا ضد ظلم النظام.   
    انتفاضة هور الغموگة كانت بداية العمل المسلح ونشأة وصيرورة في قلب المستقبل, لها قواعدها التي ترسمها وتؤسسها, ولأنها تتداخل مع تجارب وحالات زائلة, إلا أن ظلال مفاهيم وتخيلات المقاتلين كانت مؤمنة بالصمود. كثير من الكتب صدرت عن هذه الانتفاضة منها رواية لطارق علي الباكستاني ورواية السوري حيدر حيدر (وليمة أعشاب البحر) (الطريف بالأمر أن تحريم الأزهر للرواية تم بعد الطبعة العاشرة لها , وتم الأستناد على التحريم هذا بأستحصال فتوى مجهولة تنص على أهدار دم الروائي حيدر حيدر , الذي لجأ لمدينته في طرسوس بسوريا تخلصا من تنفيذ الفتوى), ورواية الروائي أحمد خلف (الحلم العظيم), والأخير هو آخر عمل توثيقي للانتفاضة, فضلاً عن طارق علي الأكثر استجابة بحس الإيقاع التاريخي الفعلي التي احتفظته الذاكرة التاريخية للشعوب, حتى أبناء الهور قد اطلقوا على المكان الذي وقعت فيه المعركة بـ(رواط الشيوعيين), إذ وثقت المعركة زمانياً ومكانياإ.
   كان توجه بعض اعضاء الحزب الشيوعي العراقي بعد انقلاب 8 شباط 1963م إلى الكفاح المسلح لتغيير النظام, وهو مغامرة ارتجالية قادتها ثلاث تكتلات قبل انشقاق (القيادة المركزية), في 17 ايلول 1967م هي كلٍ من : (القيادة المركزية) أو (مصبتح), و(فريق من الكادر اللينيني), و(وحدة اليسار). الأول يتزعمه عزيز الحاج وحسين الگمر, والثاني يقوده نجم والثالث بقيادة أمين الخيون.
   وقد وضعت جماعة (وحدة اليسار) وثيقة حول الانتقال لممارسة الكفاح المسلح في العراق, وزعت العمل على مواضيع تشمل العراق جغرافياً, وتقسمه إلى مناطق, هي الجنوب كبؤرة بداية, واشعال فتيل العمل المسلح, تلحقها مناطق الفرات الأوسط والشمال, واعتبرت بغداد وهي القلب وهدف العمل كاه. يترأس هذه المغامرة أمين الخيون, و(مصباح) هي اختصار لـ(مكتب لجنة منطقة بغداد) التي كانت نواة ومحرك انشقاق (القيادة المركزية), كما أصدرت تقريراً معارضاً لنهج قيادة الحزب الشيوعي ولجنته المركزية, مما أدى إلى تعرضه للتجميد من قبل الحزب, قبل هذا الانشقاق كان هناك في عام 1964م قد وقع انشقاق داخل الحزب, هو انشقاق (اللجنة الثورية للحزب الشيوعي العراق), قاده المقدم سليم الفخري مع غالبيته العظمى من ضباط الصف العسكريين.
   الذين كانوا مع (وحدة اليسار) بقيادة أمين الخيون لهم نظرتهم وروايتهم لهذا العمل, كان عدد المتطوعين في هذا التنظيم في الجبايش وصل ما يقارب (65) شخصاً, عاد منهم حوالي الأربعين لصعوبة العيش في الأهوار, كان من ضمن من تركوا الجبايش عبد الأمير الركابي وخالد أحمد زكي وصباح جرجيس وعادوا إلى بغداد.
   كان خالد أحمد زكي مقتنعاً بفكرة أولوية العلاقة مع الحزب للانطلاق من الأهوار بتنظيم مسلح لتغيير النظام, لكن قناعاته الأخرى كانت الاندماج بـ(القيادة المركزية), كانت تراود خالد الحاجة لأخذ موقع في التنظيم, حيث أصبح عضواص مرشحاص في (القيادة المركزية) يوم ترك مهمته كسكرتير برتراند راسل (الفيلسوف وعالم المنطق والرياضي والمؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني), لكن خالد اكتشف أن السير وراء (القيادة المركزية) وقيادة عزيز الحاج وحسين الگمر لا جدوى منها, إذ بدأ خالد أحمد زكي عمله المسلح كـ(جبهة الكفاح الشعبي المسلح) (جشكم), وقد أسست في آيار 1968م قبل أيام من بدء تنفيذ أول عملية في هور الدواية, مع العلم أن عزيز الحاج كان لا يصلح لمهمة قيادة العمل المسلح.
   كان هناك فريق من كوادر الحزب تؤمن بالكفاح المسلح منهم : خالد أحمد زكي وعبد الأمير الركابي وموسى عطية (أبو جعفر) وعقيل حبش ونوري كمال وصباح جرجيس وشهاب طالب وآخرين, كانت دعوتهم لعقد كونفرنس, وقد تمَّ ذلك في بداية عام 1967م في مدينة الشعلة في دار موسى عطية (أبو جعفر), وجرى خلال مناقشة (الوثيقة الاستراتيجية للكفاح المسلح في العراق), كما طرح موضوع الاندماج بـ(القيادة المركزية) وقد وافق الجميع عدا عبد الأمير الركابي, كان الكونفرنس يظم تنظيم مدينة الشعلة والفرات الأوسط وبقية أطراف بغداد, وقد صدر بيان مقتضب عن الكونفرنس أعلن فيه الاندماج بـ(القيادة المركزية).
    يوم 28/5/1967م انطلق اعضاء التنظيم للعمل في هور العمارة القريبة من (السعيديين) قرية موسى عطية وحسين محمد حسن معهم عبد الأمير الركابي وشلش وأبو بارود وأبو صبري, ومن ثم تم تأسيس القاعدة, لم تكن القاعدة سوى نقطة انتظار لأستقبال تامتطوعين والسلاح والتدريب.
    كما التحق بالتنظيم حسين ياسين (مسؤول في منطقة الشطرة ومعلم من أهالي الفهود), مع خالد أحمد زكي ومحسن حواس, كان أعضاء التنظيم فضلوا الانتقال إلى هور الناصرية لأن في هور العمارة لا يوجد مقر للحكومة يستحق, وقد أنشأت في هور الدواية قرب الشطرة وقد تم الانتقال إلى هور الناصرية بعد وصول خالد أحمد زكي وحسين ياسين بأيام إلى بركة أبو غريب في هور الدواية, وقام كلٍ من موسى عطية وحسين محمد حسن بمهمة الدلالة, كان طعامهم الرز والسياح المصنوع من دقيق الرز, والشاي والخبز, وكانت مهمات الطبخ قد تناوب عليها أثنان (أبو بارود وعقيل حبش), أبو بارود كان عامل لقطع التذاكر في سينما الرشيد, لكن أبو بارود لم يتمكن من العيش في الهور فترك القاعدة.
   يذكر عبد الأمير الركابي في كتابه (انتفاضة الأهوار المسلحة في جنوب العراق 1967/1968) صفحة 129 قائلاً :"من الحوادث التي تستحق الذكر, زيارة قام بها للقاعدة قيس السامرائي (أبو ليلى) القائد الحالي في (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)... كان شغوفاً بقضايا الكفاح المسلح في حينه". وفي صفحة 136 من الكتاب يقول :"أما حسين ياسين الذي يحمل معه تجربة غنية في التنظيم, لكنه كان أضعف تكويناً من ممارسة مهمات قيادية لها طابع الانضباط والتعايش مع الخطر, فهو متقلب المزاج, وقد اطلق النار إلى الخلف بلا تدقيق وبمستوى واطئ, أدى لإصابة أبو درعان (منعثر سوادي) الذي عاد واستشهد في معركة هور الغموگة مع خالد أحمد زكي وشلش (محسن حوّاس)".
معركة هور الغموكة
   يذكر علي عبد الكريم حسون في مقال له نشر في جريدة طريق الشعب يوم الأربعاء 7 أيار 2014م قائلاً :"العملية تمت في نهاية آيار 1968, وبالتحديد يوم الثامن والعشرين منه, أي قبل ستة أسابيع من انقلاب 17 – 30 تموز 1968 الذي شكلّ العودة الثانية للبعث".
وما ذكره حنا بطاطو في كتابه (الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار ج3) , انهم هاجموا "مخفرا للشرطة في هور الغموكة في قضاء الشطرة من لواء الناصرية وأستولوا على خمسين قطعة من الأسلحة النارية , لكنهم ظلّوا طريقهم في المستنقعات وتخلوا عن زوارقهم في لحظة سهو, وتغلبت عليهم في النهاية قوة تفوقهم عددا من اللواء الخامس عشر المؤلل , أما الحكومة فقالت أن ستة رجال قتلوا وسقطت طائرة هليكوبتر".
    كان قرار المجموعة بعد أن استقروا وسط بردي وقصب هور الغموكة , هو الهجوم على مخافر الشرطة في عمق الهور . أرتدوا زي الشرطة وبرتب متنوعة , تمّ لهم ماأرادوا بالأستيلاء على أسلحة الشرطة جميعا بعد أن جمعوهم داخل غرفة المركز , حيث ألقى عليهم قائد المجموعة الشهيد خالد محاضرة عن أهدافهم , هتف بعدها بأسم الشعب وبسقوط الرجعية .
أنتقلوا بعدها الى الهدف التالي , ربيئة أخرى , حيث حصل فيها ماحصل في الربيئة الأولى , بالأستيلاء على السلاح والعتاد وتجميعهم في غرفة واحدة بعد تعريفهم بمباديء وأهداف الحزب الشيوعي العراقي , والتوضيح لهم بأن الشيوعيين ليسوا بقطاع طرق
في طريق العودة ظّلت المجموعة طريقها , فوصلوا الى هور عوينة الذي لايبعد سوى القليل عن هور الغموكة متوجهين نحو هور الحمار . وفي وسط الطريق وبالقرب من مرقد " فوادة " , تعرضوا لأطلاق نار كثيف من قوة الشرطة الآلية التي كانت تروم قطع طريق العودة عليهم لغرض تطويقهم ومحاصرتهم . بعدها قرروا العودة لمواجهة الشرطة بدلا من الأنسحاب . أثناء ذلك أصيب الرفيق منعثر سوادي بنيران رفيقه حسين ياسين خطأ , والذي كان ضعيف البصر , ظنا منه أنه أحد أفراد الشرطة .
     ويعقب علي عبد الكريم حسون في مقاله المنشور في طريق الشعب قائلاً :"واصلت المجموعة مسيرها طوال الليل مغيرين اتجاههم للوصول الى هور الغموكة , وأتفقوا على دخول احدى القرى القريبة للحصول على الطعام . ذهب حسين ياسين لمقايضة بندقية ومسدس بالطعام والماء . المفاجأة كانت أن الرعاة بعد أن عرفوا هوية المجموعة بكونهم شيوعيين , قدموا لهم الخبز والتمر بلا مقابل . كذلك أن شكوكهم كانت غير صحيحة بأحد الفلاحين الذي حياهم من على صهوة جواده دون أن يهتم بأمرهم , فلقد عاد ثانية بصحبة رجل آخر هو خاله حاملين اللبن والطعام والسجائر . كذلك حضر اليهم فلاح آخر مع ابن أخيه حاملين الطعام والسجائر أيضا. ..
المجابهة المحتومة
أحاطت سيارات الشرطة بالقرية لتفتيشها , فقررت المجموعة الأنتقال لموضع آخر في مجرى النهر استعدادا للمعركة راصدين تحركات وتجمعات الشرطة والمساندين لهم من أتباع الأقطاعيين . وفي الحادية عشرة والنصف صباحا بدأت المعركة, بعد تطويق كامل من قبل الشرطة مطالبين الرفاق بالأستسلام من خلال مكبرات الصوت, ردّ عليها الرفاق بالهتاف بحياة الحزب والشعب وجبهة الكفاح المسلح وبسقوط الرجعية والصهيونية .
طلبت الشرطة من المجموعة الأستسلام بدون قيد أو شرط , وفي الخامسة والنصف عصرا , وصلت المكان طائرة مروحية مطلقة النار عليهم , ترافق ذلك مع رمي رمانة يدوية على مواضعهم , التقطها الرفيق هادي بنية رميها ثانية على مواضع الشرطة , الا أنها انفجرت بيده فبترتها ... عندئذ تصدى الرفاق للهليكوبتر فأسقطوها وقتلوا طيارها .
ومن خسة المهاجمين أنهم لم يقبلوا استسلام الرفيق هادي الذي بترت يده بأنفجار الرمانة اليدوية , فأمطروه بالرصاص , فعاد مسرعا لمجموعته مصابا بجروح جديدة , خدعوه ثانية بقبول استسلامه فسحلوه الى الخلف ليحققوا معه على الفور وهو جريح .
لم تتمكن الشرطة من اقتحام موضع المجموعة الا بعد أن نفذت ذخيرتهم , فأستشهد منهم ثلاثة هم : خالد أحمد زكي ومحسن حواس ومنعثر سوادي . والأخير كان جريحا في صدره بأطلاق النار عليه خطأ من قبل رفيقه حسين ياسين, والذي قاومهم وهو جريح فأستشهد. كانت حصيلة قتلى المهاجمين هي مقتل النقيب طيار الهليكوبتر وأربعة من رجال الشرطة وجرح خمسة منهم". .

126
الصَّابئة المندائيون في العراق 
 
نبيل عبد الأمير الربيعي
 لقد اختلف الكثير من العلماء والمستشرقين والباحثين في نسبهم وعقائدهم وعوائدهم الاجتماعية وخاصة الأمة المندائية, وبسبب سريّة معتقداتهم وعدم إدراك حقائقهم, والوقوف على أصول أوامرهم ونواهيهم, المرء لا يعرف فضل دينه إلا وأن يعلم شرائع الأمم السَّائرة, والفضيلة للعلماء, والمقام الأسمى لديانتهم الموحدة, الذي فيه علينا من حرج وصعوبة كما شهدت به هذه الأمة وغيرها بكماله وفضيلته علينا.
    الصابئة المندائيون أقدم الجماعات التي عاشت في بلاد الرافدين, فهم قوم ساميون, وقد اختلف الباحثون والدارسون في زمن ظهور العقيدة المندائية كما اختلفوا في الموطن الأصلي للمندائيين, وبلادهم وموطنهم الأصلي بلاد الرافدين, والدليل هو بعض المخلفات السومرية التي ما زالت في هذه العقيدة وطريقة كتابة الأدب المندائي التي تتشابه مع صيغة كتابة الأدب البابلي وبخاصة في لغة التلمود, ناهيك عن اللغة ومفرداتها التي ما زالت شائعة في الجنوب العراقي خاصة, وإنهم يحفظون شريعة آدم عليه السلام الذي يعدونه أول أنبيائهم, ويعظمون شيت وسام في نصوص كتبهم الدينية, ويعدونهم معلميهم وأنبيائهم حتى زمن النبي يحيى بن زكريا عليه السلام, الذي يعدونه هو الآخر نبي لهم ومعلمهم الذي أعاد بعث ديانتهم القديمة, وأجرى رسم التعميد وهو السُّنة التي جرَت لآدم عليه السلام وهم عليها دائبون.
   وديانتهم من أقدم الديانات الروحية في العالم, وهم أحد الأدلة الحيّة على حضارة بلاد الرافدين, لكن لم يتبق منهم سوى بضعة آلاف بعد أن عاشوا على أرض العراق عشرات القرون. وقد اطلق عليهم أهم التسميات في بلاد الرافدين منها : المندائيون. من مندا أي العارفون بوجود الحيّ العظيم أي الموحدون. والناصورائيون. وهي تسمية قديمة جداً, وتعني المتبحرين أو العارفين بأسرار الحياة أو المراقبين. والصابئة. ومن «صبا» أي المصطبغون (المتعمدون) باسم الرب العظيم. والمغتسلة. من غسل أي تطهر ونظف وأطلقها المؤرخون العرب, وذلك لكثرة اغتسالهم بالماء. واطلق عليهم تسمية «شلماني» من شلم أي سلم, وهي تسمية آرامية مندائية تعني المسالم. وأطلق عليهم «أبني أنهورا». أي أبناء النور وهي تسمية أطلقت عليهم من كتبهم الدينية. وأطلق عليهم «اخشيطي» من كشطا أي أصحاب الحق أو أبناء العهد, أيضاً أطلقت عليهم في كتبهم الدينية.
     وما زلنا نؤمن أن الديانة المندائية ولدت في بلاد الرافدين, وإن شعبها الناصورائي هو أحد شعوب العراق القديم مثله مثل السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين, لكن هذا الشعب لم يكوَّن له دولة أو كياناً سياسياً ذات شأن لعزوفه عن مغريات السلطة والسياسة والجاه, ولا شك أنه حمل تراثاً روحياً عظيماص شفاهياً في تلك العصور, لكن تدوين هذا التراث حصل مع سيادة اللغة الآرامية في العالم القديم, وبذلك تمّ تدوينه بلهجة آرامية هي المندائية, وهنا تغير اسم هذا الشعب من الناصورائيين إلى المندائيين.
    إنّ دراسة دين الصابئة المندائيين مهمة جداً للبحث في العقائد الدينية الأخرى, فهي مهمة من حيث المكان والزمان والموضوع لأنها قديمة العلاقة بكل مكان تتعلق به سيرة الأديان الأخرى وبخاصة سيرة الخليل عليه السلام, ثمَّ لأنّ لغتها المقدسة تشير إلى زمان متوسط بين اللغات القديمة المهجورة واللغة الآرامية الحديثة, كما أنها ترينا ملتقى التوحيد القديم والوثنية القديمة, وقد نجد فيها الاصطدام بين هاتين العقيدتين فهي ليست ديانة وثنية ولا إيمان لها بالكواكب من جهة, ثمَّ لا خلاص مطلقاً فيها من بقايا الوثنية القديمة وتعظيم الكواكب.
     دراسة نحلة الصابئين وهي نحلة من نِحل الديانات الرافدينية الأصيلة والقديمة مهمة في دراسة الأديان على العموم, فالمندائيون طائفة عراقية قبل أن تكون أي شيء آخر, بل أنها كما تشير طقوسها صلة الحاضر بالماضي البابلي والأكدي والنبطي في العراق.
    إن الصابئة المندائيون في العراق اليوم هم بقايا طائفة دينية عاشت في هذه البقعة من العالم منذُ آلاف السنين, وهي الآن في طريقها إلى التطور الديني بسبب التحضر والتمدن فلا بد أن يبعدها كثيراً عن طقوسها وشعائرها الأولى, بسبب سكن المندائيين الحواضر وابتعدوا عن شواطئ الأنهار وتفرقوا في المدن طلباً للرزق وهاجروا البلاد بسبب الأحتراب الطائفي الذي مر به العراق ما بعد عام الاحتلال الأميركي 2003م, فضلاً عن دخول أبنائهم الوظائف الحكومية وترك مهنهم التي كان آباؤهم يجيدونها, وقد ابتعدوا كثيراً عن الصابئين الذين كانوا يمارسون شعائرهم بصورة بدائية كما كان يمارسها الأسلاف, فاستعاضوا في كثير من شعائرهم بالماء المعقم بدلاً من ماء النهر الجاري, وحلقوا شعور رؤوسهم وذقونهم, واتخذوا الزي العصري لباساً لهم كسائر الأقوام من حولهم تمشياً مع ظروف العصر, وامتزجوا مع المجتمع العراقي امتزاجاً كاملاً لم يعودوا يميزون فيه عمن حولهم بأي شيء.
   كما أن نصوصهم الدينية التي ما زال المندائيون يحتفظون بها تبرز التوحيد واضحاً في عقيدتهم, وتركز على الخلق والخالق وصراعات كينونة العوالم والعالم الآخر النوراني وحتمية العودة إليه, وتميزت طقوسهم الدينية وشعائرها التي ارتبطت بالماء والتعميد به يشكل طهارة للنفس والبدن, وكانت بداية التعميد للملاك «هيبل زيوا» وتعميد آدم وشيت وسام عليهم السلام. ولذلك تجد قربهم من الأنهار ومواقع وفرَّة المياه التي لم يبتعدوا عنها لأي سبب كي لا يتوقف عندهم الطقس الديني.
   يشير كتابهم المقدس «الكنزا ربّا» إلى أن المعرفة قد كشفت لآدم من الله الحي الأزلي, وهو الذي سجدت له الملائكة, بل كشفت له المعرفة وعُلَّم الأسماء, كما أن الطوفان لم يبق من البشرية إلا نوحاً وأولاده الثلاثة الذين تشكلت منهم دورة حياة جديدة, هم «سام وحام ويافت», ومن هؤلاء الثلاثة جاءت القبائل والشعوب وجاءت لغاتها.
   كما أن لغتهم المندائية يصنفها اللغويون بأنها واحدة من عائلة اللغة السامية, ويعدونها الفرع النقي للغة الآرامية الشرقية في بلاد الرافدين, التي اشتملت على الآرامية الشمالية لغة الآشوريين والآرامية الجنوبيى لغة البابليين. وإن وجود المندائيين سابق لظهور اللغة المندائية, وقد أكدت الحفريات التي تمت قرب مدينة الرِقَة في أعالي نهر الفرات وكذلك في جنوب العراق في أطلال تلّو تم العثور على عملات نقدية تحتوي كتابات تبين أنها قد كتبت بأبجدية اللغة المندائية, ومن خلال اسماء وصور الملوك الظاهرة في هذه النقود ومقابلتها مع مصادر المعلومات الرومانية واليونانية المتوافرة تبين أن تاريخ أقدم النقود التي تم العثور عليها لحد الآن إلى حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد, أي عام 165 ق.م كما ذكر ذلك الراحل عزيز سباهي في كتابه «أصول الصابئة ومعتقداتهم الدينية».
    أول بحث اهتم بديانة الصَّابئة صدر بالسويد عام 1691م, وأول كتاب ينشر بالعربية عن الدِّين المندائي هو «مندائي أو الصَّابئة الأقدمين» لعبد الحميد بن بكر أفندي عبادة (ت 1930), «طبعة الكتاب الأولى: بغداد, مطبعة الفرات 1927», كان الكتاب ملخص حوار أجراه عبد الحميد عبادة عام 1925 مع رئيس الصَّابئة المندائية «الشَّيخ كنزبرا دِخَيَّل بن عبدان» بالناصرية جنوب العراق يوم كان موظفاً هناك, ويذكر د. رشيد الخيون قال : «ولعلَّ عبادة أخذ نصوصاً كاملة من بحث (الصَّابئة عقائدهم وتقاليدهم) للباحث الدَّمشقي نقولا سيوفي (ت1901) وكان زار بغداد العام 1873, والتقى بأحد أولاد شيوخ الصَّابئة واسمه آدم, وصنف كتابه بالفرنسية العام 1880, واطلعنا على ترجمة لمواده بالعربية في مجلة (البيان) (1897), ومِن مقالات الكرملي, دون الإشارة إليهما. غاب كتاب عبد الحميد أفندي عبادة بعد صدور كتاب عبد الرَّزاق الحَسني (الصَّابئون في حاضرهم وماضيهم), الذي صدرت منه الطَّبعة الأولى (1931) والعاشرة (1980). لم يًعَد (كتاب مندائي) بعد وفاة مؤلفه (1930) أي بعد صدوره بثلاثة أعوام, والمفاجئ في الأمر أن الحسني. بعد الاستفادة من فكرة الكتاب, وموضوعه للكتابة والتأليف في الملل والنحل, اختطف الكثير من مقالة نقولا سيوفي ونصوص كتاب عبادة دون الإشارة, إلا في مكان لا علاقة لهُ بالنُّصوص الرَّئيسة المقتبسة, ولا يبرر لهُ انتحاله ذِكر الكتاب في ثبت المراجع, وكذلك فعل مع ما كتبه الأب الكرملي في (المشرق) البيروتية, فقد أخذ ما جناه الكرملي من الكتب القديمة مع تعليقاته عليها, فكتب: قال ابن خلدون وقال الآمدي وغيرهما, مع أنه جناها من مقالة الكرملي.. إن استولى الحسني على جهود عبادة والكرملي, فهو ذكرهما في ثبت المصادر, لكن الأكاديمي السوري ورئيس قسم الجغرافية بجامعة حلب محمد التَّنجي سطا على كتاب الحسني (اليزيديون في حاضرهم وماضيهم) ليجعله كاملاً, مع بعض التَّغييرات... ومثلما تعرض كتاب الحسني (اليزيديون...) للسطو, تعرضت كتب الليدي دراوور (الصَّابئة المندائيون) وكورت رودولف (النشوء والخلق في النصوص المندائية), وغضبان الرومي (الصَّابئة) من قبل العراقي محمد الجزائري في (المندائيون الصَّابئة)»([1]).   
   هذه المقدمة هي لكتابي المقبل تاريخ الصَّابئة المندائيون في العراق «أصولهم ومعتقداتهم» الذي أوشكت على إنجازة وهو قيد المراجعة اللغوية والطباعية, اتمنى أن يروق للقراء والمهتمين بتاريخ ومعتقدات الصابئة المندائيون في العراق الدينية. الكتاب يتضمن (13) فصلاً ومن القطع الوزير الذي تجاوز (500) صفحة من الحجم الوزيري.


________________________________________
[1] الخيون. رشيد. الدِّيانة المندائية كع الصَّابئة المندائيين في فقه وتاريخ الإسلام. دار مدارك للنشر والتوزيع. الرياض. ط3. نوفمبر 2015. ص13/14؛ الشرق الأوسط 18 ديسمبر كانون الأول 2001.

127
ذكريات على شواطئ البحر الأسود للدكتور نصير الحسيني

نبيل عبد الأمير الربيعي
يستذكر الدكتور نصير الحسيني صديقه خلف السوداني وذكرياته معه في اوكرانيا فترة الدراسة الجامعية، الرواية سياحة في التاريخ والجغرافية والأدب.
فهو عمل إبداعي وقد أكرمني الدكتور الحسيني بنسخة من الكتاب للاطلاع عليها. فشدني وجذبني إليه بأسلوبه الفني لمتابعة نضج فكرته وبروز معالمه.
يقدم الدكتور الحسيني عملاً ادبياً ابداعياً على شاكلة رواية، محوره عمل مذكرات أدبي لصديقه خلف السوداني، الرواية هي رسالة تعتبر من اجمل روايات الأدب والرحلات الجغرافية والتاريخية، وتتجلى فكرة عمله الإبداعي في ذلك الحوار الغني الممتع بين بطل الرواية الذي جمع بين الشعر واللغة والجغرافية والتاريخ والسياسة.
وبهذا الأسلوب الابداعي يقدم الحسيني فرصة كبيرة للقراء للاطلاع على السيرة الذاتية لصديقه خلف الذي عاش بين السودان وأوكرانيا طالباً ثم مستثمراً ثم تاجراً، الرواية لها طابع جديد ومعاصر في المحاورة التي يركز عليها الحسيني في موضوعاته التي يتناولها بين قيمة اللغة والوطن والمرأة والزواج والسفر والعمل والسياسة، في وقت نحتاج فيه لإستذكار ما يشد عزيمتنا ويفرج همّنا ونبني عليه نظرات مستقبلية، لنرى خيال طيف تسلل إلى بيت خلف السوداني، وتبادل معه الحديث والتساؤل، لننهل من معين المعرفة والجمال وسمو العقل والنزاهة والتفكير وعفَّة النفس في سبيل المحافظة على كرامته لترضى بالقليل.
تتجلى شخصية خلف ودور رواية الحسيني التحليلية والنقدية التي يظهر فيها عمق غوصها في أمهات الروايات وقراءتها لها قراءة استمتاع واستفادة، وحرصه على نشر ثقافة وتاريخ السودان وأوكرانيا.
مَن يتصفح الرواية سيدور في الزمن بين الماضي والحاضر، ويرى احداثاً مؤثرة، ويتوقف عند شخصيات لامعة، ويستمتع بقراءة أدبية تاريخية تأملية ممتعة مع الشخصية الرئيسة التي تدور حولها الرواية.

128
قراءة في كتاب أ. د. علي الربيعي (يهود العراق وَجهُودهم في فضاءِ المسرح)
نبيل عبد الأمير الربيعي

     صدر أخيراً للأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي كتابه الموسوم موضوع البحث (يهود العراق وَجهُودهم غي فضاءِ المسرح) الصادر عن مؤسسة الصادق الثقافية للنشر والتوزيع في بابل بمشاركة دار صفاء للنشر والتوزيع في عمان / الأردن هذا العام, ويقع الكتاب في (456) صفحة من الحجم الوزيري ذات الطباعة الراقية الخالية من الأخطاء اللغوية والمطبعية, أما الغلاف فقد أختاره الدكتور للوحة جميلة رائعة تعبر عن أهمية المسرح العراقي على مر العصور, وهو الكتاب الثالث والعشرون للمؤلف. وقد ذكر الدكتور الربيعي في كتابه ص16 قائلاً :"هي رحلة ذللَّ صعوبتها انتمائنا وعشقنا إلى هذا النهج الذي سرنا ونسير في جادته ألاّ وهو نهج إعادة كتابة تاريخ المسرح العراقي وفق صياغات علمية واكاديمية بعيدة عن الأهواء الذاتية والأمزجة المتلونة والروايات الشفاهية التي حرّفت الكثير من آثار المسرح العراقي".
    عند متابعتنا منذُ أكثر من عقدين من الزمن نجد أن المنجز الإبداعي للأقليات ظلَّ هامشياً بسبب الكثير من العوامل السياسية والثقافية, كما كان للعزلة المفروضة أكبر الانعكاسات على بقاء إنجازاتهم بعيدة عن دائرة النقد والمتابعة البسيطة. فضلاً عن أن الأدباء والشعراء والمثقفون والفنانون من أبناء الديانة اليهودية يتمتعون بتاريخ ثقافي مهم, وكان للشعر والقصة والرواية تحققات واضحة, والمسرح كان أكثر الانجازات وضوحاً وإثارة للدهشة بسبب ما للمدارس والمنتديات الأدبية اليهودية من دور في دعم هذا الجانب, على رغم وجود أسماء كُتاب مهمين في مجال النص المسرحي, لكن الواقع السياسي العراقي أبان العقود الست الماضية ساعدَ على مغادرتهم العراق ومخاوف النقاد من تسليط الضوء على دورهم في مجال الفن والنص المسرحي في الحقبة الزمنية السابقة.
    لكن ظلَّت هذه الأقلية من الديانة اليهودية فاعلة منذُ تشكلات الحضارة العراقية القديمة وحتى فترة تأسيس الدولة العراقية الحديثة, ولا يستطيع أحدٌ منا نكران دورهم الفاعل في المجالات الثقافية والتأسيسية, لكن واجه الأدباء اليهود التعامل المجحف بحقهم بعيداً عن هويتهم العراقية, وجرى تذويب تدريجي لهم وسط الثقافة العراقية.
يكاد الكاتب والباحث الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي يجعل جهده البحثي مقصوراً على الأدب المسرحي العراقي, فضلاً على كتابات ثرَّه وانيقة نشرت في المجلات والصحف العراقية في مجالات ثقافية مختلفة.
     لقد امتاز الربيعي بأسلوب جميل في البحث والكتابة, ولغة رشيقة أنيقة, تحلق بك في أجواء جميلة, وتنقلك من هذا الواقع الحياتي المؤلم, إنه يكتب برومانسية حالمة, تجعلك تجد في الحياة بعض ما تستحق أن يعيش من أجلها الإنسان واضعين في الحسبان قساوة الظروف, وانهيار القيّم النبيلة وتصدعها, وأثر الخيبات الحياتية, والانتكاسات التي مني بها المجتمع العراقي, إنّ لغة الربيعي الأنيقة والرومانسية جاءت نتيجة قراءاته المعمقة في كتب التاريخ والأدب المسرحي ومصادره, فضلاً على روحه الرهيفة الشفيفة الحالمة.
   الكتاب تضمن مقدمة وسبعة فصول وملحق مع تزويد الكتاب بصور مهمة من الأدباء والنقاد المسرحيين, ضمّ الفصلُ الأوّلَ عرضاً مختصراً لجهود اليهود في نشأة العراق الحديث العراق, ودورهم المائز واسهاماتهم الأولى في مجال النشاط المسرحي.
 أما الفصل الثاني فقد سلَّط الضوء الربيعي على العروض المسرحية متخذاً من الصحف العراقية مصدراً لذلك لكونها صادقة في النشر والتوثيق والتأريخ لصدور هذه العروض والحفاظ على أخبارها, إلاّ أن الدكتور الربيعي يؤكد على أن هذه الصحف قد أهملت أشخاص المسرحيات من الممثلين والمخرجين والتقنيين, وإنما اكتفى كُتابها بإيراد الخبر الصحفي فقط, الأمر الذي فوَّت على الكتّاب والنقّاد والمهتمين بهذا الجانب ادراج الأسماء المهمة ضمن السرد المسرحي العراقي, وهذا الأمر يسري على عموم الأخبار التي اهتمت بالعروض المسرحية العراقية في تلك الحقبة الزمنية. ففي ص53 ذكر الدكتور الربيعي قائلاً :"عرف اليهود المسرح كما عرفته الطوائف والديانات الأخريات في العراق في القرن التاسع عشر إلاّ أنهم لم يمارسوه إلاّ مع طلائع القرن العشرين, ونحسب أن عوامل ثلاثة رئيسة تقف خلف هذا التأخر أولهما عدم تبني رجال الدين اليهود للمسرح مبكراً, فقد ورثوا عن أسلافهم من رجال الدين إكراههم لهذا النشاط وتباغضهم له... فإن اليهود ومؤسساتهم التعليمية استشعروا أهمية المسرح ووجدوا فيه سبيلاً لتمرير غايات معينة, وبدأوا يمارسونه في مدارسهم وجمعياتهم مع بداية القرن العشرين", بعدما وجدت فيه فوائد ترفيهية وتربوية على حدٍ سواء. لكن الدكتور الربيعي قد دون في كتابه هذا أسماء كُتابها في هوامش متن الكتاب اعتماداً على قراءات العروض المسرحية, منها دور الفرق المدرسية التي كانت تتبارى في تقديم المسرحيات في جميع المدارس اليهودية في العاصمة بغداد وبقية المحافظات. لكن في ص55 يذكر الدكتور الربيعي في كتابه قائلاً :"قبيل الحرب العالمية الأولى نظَمَ خضوري شهرباني فرقة يهودية تُعنى بالنشاط المسرحي في مدينة البصرة وقدمت عروضها المسرحية باللغة العربية", لكن بعد عشرينيات القرن العشرين كان القائمون على المسرح من مخرجين وممثلين يحرصون على عرض مسرحياتهم أمام العامة في بغداد وأن عدداً من اليهود انتسب إلى الفرق المسرحية العراقية أمثال كرجي كاشي ومنشي صالح وحسقيل قطّان ومير الياهو والياهو سميرة. حتى بدأ يهود العراق ومؤسساتهم التوجه نحو المسرحيات العالمية والعربية, ففي ص56 يؤكد الدكتور الربيعي قائلاً :"وهذه المزية التي بانت عليها المسرحيات المقدمة لم ينفرد بها المسرح اليهودي فحسب, بل أنّ المسرح المسيحي في العراق حاز المزية نفسها". أما في مجال الفرجة المسرحية فيذكر الدكتور الربيعي قائلاً في ص58 :"أول خبر موثق عن عرض مسرحي يهودي في العراق هو الخبر الذي يشير إلى ما قدمه طلاب (مدرسة الأليانس) في بغداد في يوم الرابع عشر من شهر ايار سنة 1910م من مسرحيتين إحداهما باللغة العربية والأخرى باللغة الفرنسية", وفي هذا الفصل هناك سرد موثق لتاريخ المسرحيات معتمداً الدكتور الربيعي على مصادر الصحف والمجلات ومنها (صدى بابل, المفيد, الاستقلال, الأوقات البغدادية, الأهالي, صوت الشعب, الوقائع العراقية, الحضارة, البلاد, مجلة الزهراء, مجلة المصباح, مجلة الحاصد).
 كان للمدارس والجمعيات الخيرية الدور الكبير في دعم المسرح منها (الجمعية الأدبية الإسرائيلية, جمعية الشبيبة الإسرائيلية, مدرسة صالح ساسون دانيال, المدرسة الوطنية, مدرسة الأليانس, مدرسة فردوس الأولاد, مكتبة النشئ العراقي, مكتبة التقدم الإسرائيلية, مدرسة هارون صالح, مدرسة هارون شوحيط الإسرائيلية, مدرسة صالح ساسون دانييل, مدرسة لورا خضوري, المدرسة الإسرائيلية الأهلية في الناصرية, مدرسة مناحيم دانيال, مدرسة الأليانس في البصرة, جمعية التعاون, مدرسة شماش, مدرسة منشي صالح في بغداد, مدرسة البنات الإسرائيلية في البصرة, مدرسة منشي صالح, مدرسة راحيل شحمون, مدرسة مسعودة شمطوب), وقد ذكر الدكتور الربيعي المدارس والنصوص المسرحية وعنواينها حسب تاريخ النشر في الصحف والمجلات.
     ضمَّ الفصل الثالث من الكتاب دور الأدباء اليهود في مجال النقد المسرحي من خلال المقالات التي نُشرت في الصحف العراقية وهي لا تتجاوز الأربعة مقالات نقدية, يذكر الدكتور الربيعي في ص157 قائلاً :"بدأ القائمون على الصحف من المتذوقين والمريدين للفن والأدب باستقطاب تلك الأقلام التي بدأت تَخُطُّ كلماتها الناقدة في مجال الشِّعر والقصة والمسرحية وحتى في السينما. وحفظت لنا الصحف العراقية العديد من تلك المقالات النقدية التي تعد إرثاً أدبياً وفنياً مهماً في مسرد النقدية العراقية", كان للدوريات الدور في المقالات النقدية المسرحية التي كتبها بعض الأدباء فمنها نقودات أو تأثيرات نقدية تخضع لمزاج راصفها, ومن هؤلاء النقاد في العراق الراحل عزرا حداد وسلمان شينا وشالوم درويش واسترينه إبراهيم, وقد سلط الدكور الربيعي الضوء على هؤلاء النقاد والأدباء في كتابه هذا, كما ساهم الدكتور الربيعي بنشرها بوصفها جهود مبكرة في تاريخ النقدية العراقية.
     واحتوى الفصل الرابع مقالات صحفية كتبها خمسة أدباء يهود في موضوعات فنون المسرح, المقالات تزدان رصانة وأهمية في مجال المسرح, ويذكر الدكتور الربيعي في ص253 حول اهتمام الأدباء اليهود في مجال الكتابة في مجالات المقالات المسرحية قائلاً :"وبدأت الأقلام تتزاحم في الكتابة والصحافة وتنشر, ومن الذين كتبوا في هذا المنحى الأدباء اليهود. وخلال بحثنا في عموم ما وقع في أيدينا من كتابات ودراسات في فنون المسرح سواء المترجمة منها أو المؤلفة". وقد سلط الضوء الدكتور الربيعي على خمس من الأدباء الذين كتبوا في مجال المقالات الصحفية في مجال الفن المسرحي هم كلٍ من (سلمان شينا, شاؤل حداد, شالوم درويش, أنور شاؤل, يعقوب بلبول), كما سلط الضوء الدكتور الربيعي على نصوص مقالاتهم واسهاماتهم في مجال النقد والترجمة المسرحية.
     واختص الفصل الخامس بنسخٍ ونشر لثلاث مسرحيات ألفها الأدباء العراقيون اليهود, التي تجسد الواقع المعيشي بنظرة الكاتب. ويؤكد الدكتور الربيعي في ص295 على دور يهود العراق في التأليف المسرحي قائلاً :"بعد رحلةٍ شاقةٍ في البحث والتقصي والتنقيب عن النصوص المسرحية التي كتبها مؤلفون يهود عراقيون, وملاحقة فهارس المطبوعات والمنشورات الخاصة بالمؤلفات العراقية, توصلنا إلى عنوانات سبع مسرحيات أُلفت بأقلام أدباء يهود وهي مسرحية (الإخلاص والخيانة) لمؤلفها سلمان يعقوب درويش... ومسرحية (شهامة العرب) لمؤلفها نسيم ملول.. ومسرحية (التضحية) لمؤلفها الياهو خضوري.. وأربع مسرحيات ألفها الأديب شالوم درويش ونشرها كلها في مجلة الحاصد". وهذه المائزة لم تكن قد تفشت في المسرحية العراقية في ذلك الوقت, فموضوعاتها تدور حول المرأة وتطلعاتها, وقد نشر الدكتور الربيعي نصوصها في كتابه هذا عدا بعض النصوص المفقودة للراحل شالوم درويش.
    واهتم الفصل السادس بخمس حكايات مسرحية كتبها ثلاثة أدباء يهود, أفادوا من تقانة القص المسرحي ونشرها في الصحافة وذلك الوقت. وقد ذكر الدكتور الربيعي في كتابه ص325 قائلاً :"استشرت ظاهرة حسنة بين المعنيين بالشأن المسرحي في العراق مع بداية ثلاثينيات القرن العشرين تقوم على ملاحقة العروض المسرحية أو النصوص المسرحية المطبوعة والمنشورة ومن ثم استعراضها على صفحات الصحف العراقية". وبسبب تمتع الأدب القصصي في تلك الحقبة بمقبولية كبيرة عند القارئ العراقي وجد المستعرضون فرصة تمرير تلك المسرحيات, أمثال شالوم درويش وأنور شاؤل ومير حداد, هؤلاء الذين نهضوا بالقص المسرحي ونشرها في الصحافة, وقد ذكر الدكتور الربيعي في كتابه هذا تلك المقالات في القص المسرحي التي نشرت في مجلة الحاصد وقتذاك.
    وحَملَ الفصل السابع والأخير بنسخ النصوص المسرحية المترجمة من قبل الأدباء اليهود كما وردا في المطبوعات ومنهم الراحل أنور شاؤل ونص مسرحية (وليم تل) للكاتب الإنكليزي شريدان, والنص الثاني لمسرحية (موسى) للكاتب الأمريكي لورانس لانجار, وختم الكتاب بملحق حمل أسماء القصاصين اليهود ومجهوداتهم القصصية وموارد نشرها.
   لكن بكتاب الدكتور علي محمد هادي الربيعي هذا قد سلَّط الضوء على دور الأدباء والمثقفين اليهود في مجال الثقافة والأدب والمسرح, هؤلاء كانوا معاً قد تنوعت هويتنا الوطنية, وحتماً سنفضي هذه القراءات نحو تبادل للحوار الثقافي لمعرفة بعضنا البعض الآخر.
    اسند الكاتب والباحث الربيعي لدعم كتابه بوثائق مصورة لصور الأدباء والصحفيين المهتمين بالنص والمقالة المسرحية, ولصور صحف نشرت خبر المسرحيات والقص النقدية في ذاك الوقت. الكتاب وثائقي جميل يدل على أصالة محتد, ووفاء يجعلنا نتوسم الخير في كاتب وباحث سيخلف ويواصل الدرب من بعد الجيل الذي سبقه.  لا اظن أحداً من مجايليه وأقرانه سبقه في تقديم هذا الجهد المعرفي المهم الذي أمتد على أربعمائة وستة وخمسين صفحة مزيَّنة بالرسوم والتخطيطات التوضيحية, وقد شيَّد مادته على سبعة وثلاثين مرجعاً ومصدراً تعارف الملأ الثقافي على رصانتها ودقة مضامينها, ولا شك أن الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي قد بذل جهداً كبيراً وفق منهج بحث أكاديمي في عرض موضوعته في مؤلفه (يهود العراق وجهودهم في فضاء المسرح) مما جعلنا كعراقيين وبابليين نعتز بهذا الأرث الحضاري المجيد الذي أرسى أسسه امتداد العصور السحيقة حتى يومنا الراهن, وبذا فإن (يهود العراق وجهودهم في فضاء المسرح) فتحت لنا آفاقاً واسعة في معرفة ما انجزه ابن هذه الأرض وجسد بأفكاره وراءه معطيات التأسيس الأولى في مجال التأليف والفرجة المسرحية وجهود يهود العراق في مجال النقد المسرحي, وجهودهم في كتابة المقالات المسرحية والتاليف والقص المسرحي والترجمة, وما قدمه الربيعي في هذا الجهد ليس منقطعاً عن سلسلة اصداراته.


129
سعدي الحلي الحنجرة النازفة
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
  ظاهرة الاستهزاء والثأر من الآخرين كانت مستشرية في حقبة ثمانينات القرن الماضي وفترة الحرب العراقية الإيرانية, فحينما يكون الفرد متألماً فأنهُ يبل بإنزال الألم بالآخر عن طريق تسليات رخيصة, وهو عبارة عن رغبة بالثأر كي يطفأ الشعور بالهزيمة والهوان في معركة غير متكافأة بينه وبين الآخر. فضلاً عن من يُستهزأ به هو صاحب الحنجرة النازفة الفنان سعدي الحلي, صاحب الأغاني التي تخلق إحساساً مفعماً بالطرب التي يترنم بها السائر بمفرده.
   عن دار سطور في بغداد صدر للكاتب رياض رمزي كتابه الموسوم (سعدي الحلي الحنجرة النازفة) الكتاب يقع بـ(142) صفحة من الحجم المتوسط, ذات طباعة راقية ونوع الورق شامو, تم تبويب الكتاب على شكل مقالات منفردة, البعض منها يحل ظاهرة الفنان الغنائي الراقي سعدي الحلي وظاهرة الإذاء والسخرية من هذا الفنان, وبعض المقالات عبارة عن تحليل لظواهر غنائية أخرى منها صوت الراحلة زهور حسين.
   فكرة الكتاب جاءت من خلال مساحات السخرية التي لاحقت الفنان سعدي الحلي, فكان ردّ الكاتب رمزي بتحليل هذه الظاهرة والتساؤل لماذا كان المستهدف في تلك الحقبة الفنان سعدي الحلي, فقد كانت لظاهرة حضيري أبو عزيز التي سبقته وكانت لها الدور في حقبة الخمسينيات والستينيات ولم ينل منهُ لا المثقفين ولا السلطة فضلاً عن دوره بالغناء والتغزل بالمذكر. لكنهم حصلوا على الدعم من شخصيات نافذة في السلطة وبتوجيهها نحو بريء كي يعجّلوا من خروج أحقادهم وغضبهم الذي لا طاقة له وانهزاميتهم في الحروب, ونبذهم من قبل المجتمع العراقي, فكان التعبير عن فشلهم بالإذاء علانية وتحويل سخريتهم من الفنان سعدي الحلي وفق وضعهم التراجيدي للكوميدي الساخر ليخفّفوا من وقعها المميت عليهم, عن طريق إيجاد من يكون موضع تندّر من قبلهم.
    ندعوا إلى دراسة ظاهرة سعدي الحلي, فهو ساحة مركزية تتفرع منها طرق شخصية ووطنية, علينا أن لا نتوانى عن التذكير بمسرة هذا الشخص, وألاّ نخلد للصمت إزاء حالة لم تُخترع فيها كذبة إلاّ وألصقت به, مسببة قدراً كبيراً من التعاسة له ومانحة الارتياح لمن قالها.
    يتمثل انجازه الغنائي بإدخال كلمات لم تكن تستخدم سابقاً, وبخاصة أغنية (بوسة من وجنتك) التي تمثل رجلاً يعلن حبه لفتى على الملأ, فالمؤلف كتبها بطريقة تُشم منها رائحة غزل خليع ومجبّب, المطرب سعدي الحلي تميز بفن غنائي يغني الحياة الفردية ويمزج الاستفزاز بالظُّرف, لكن التشويه الذي تعرّض له سعدي يكشف مقدار تردي المواطن في تلك الفترة, مقدار التدمير الذي تعرض له, سعدي الذي لامست أغانيه عواطف الكثيرين بسبب جمال الأداء الذي جعل حضوره الشعبي مرغوباً ولافتاً للنظر, يتمتع الأداء برخامة صوت أجش ورجولي, يعكس غماً مزمناً يرتع في صدره, فكان يخرجه على شكل نواح وآهات.
    وفي مرحلة الحرب العراقية الإيرانية كانت الحياة اليومية خانقة للفرد العراقي, فوجد الجمهور نفسه مشغولاً بتسلية رخيصة, فيذكر رمزي في صفحة 20 قائلاً : "نعني بها الوباء الذي أصاب شريحة واسعة من الجمهور وأسمهُ وباء سعدي الحلي. إبتذال جعل جمهوراً واسعاً يندفع للوقوع فريسة هذا الوباء, لا أحد يعرف حجم المصابين به في ذلك الوقت. جمهور غمره استبشار بحمل فيروس ذلك الوباء الذي مسّ الجميع تقريباً. أليس من الجدير بصنّاع الفكر أن يقوموا بتحليل أسبابه وسرعة انتشاره في تلك الفترة العصيبة من تاريخ البلاد, ليكون لدى المواطن العادي فهم أفضل لما حدث"(1)؟
    لوباء السخرية تعقيدات كانت لسلطة البعث في انتشاره, للتقليل من ضغوطات الحروب على نفسية المجتمع العراقي, ولتحليل أسباب ظاهرة هذا الوباء لا بد من عمل ميداني لجمع (النكات) بغية دراستها وتحليل مضامينها وتحديد الخلفية الثقافية التي روجت لها وقامت بإنتاجها. ومن المسؤول عن هذا الأفراط من السخرية بحق الفنان سعدي الحلي؟ بدلاً من توجيه النكات اللاذعة لشخوص السلطة ودونيتها.
    فقد تعرض الفنان سعدي الحلي في تلك الحقبة وما بعدها من أذى نفسي وشخصي بالغ بسبب المكانة الفنية لهذا الفنان, والشعبية التي حصل عليها داخل وخارج الوطن, لكن الكاتب رمزي يؤكد قائلاً في صفحة 12 : "الواقع الذي عاشه المطرب فرض عليّ كي يستقيم السرد, مطالب ضرورية. لكني لم ألجأ إلى طريقة معالجة أسنان منخورة بتلبيسها بالذهب, بل ركزتُ جهدي على عدم التدخل في تغيير خط سير واقع رسمته حروب وانتهاكات يومية متواصلة وجسيمة لمواطنين أبهضتهم تكاليفها, نكّلت بعقولهم التي لم تجد في نفسها القدرة على التحليل ناهيك عن المقاومة".
    إذن هو بحث في سلوك جمهور سُلّط على غالبيته قمع غير مسبوق وموت مجاني في حروب القائد الضرورة العبثية, لذلك يحلل الكاتب رمزي ظاهرة السخرية قائلاً في ص22 :"فلم يعودوا قادرين على معرفة الفرق بين السخرية المرّة والمزاح المريح, فانغمسوا في أفعال فيها مستوى عالٍ من قسوة, طيش, غياب الرحمة, غلظة في المشاعر, وقلة أو انعدام مطلق للرقة".
   كان للكبت الجماهيري خلال الحرب الدور في البحث من قبل السلطة والجماهير إلى منفذ لتفريغه وليتم التنفيس عنهُ, كما حدثَ مع الفنان سعدي الحلي, بدلاً من توجيه الاتهام والسخرية نحو مؤسسات النظام وطريقة الحكم العبثي الأرعن. فكان الفنان سعدي الحلي ضحية سُلط عليها الظلم نتيجة هوى السلطة, ونزوة أو مكيدة ابتدعتها للتأقلم مع المحنة. لكن أغاني سعدي قد حفرت غضوناً في الوجدان العراقي, يذكر الكاتب رمزي في صفحة 24 قائلاً :"أحطتُ بمعارف عنهُ من خلال جو الأغاني وكلماتها وطريقة أدائه. أدركت أن الذوبان في الموضوع يحل اللغز. منحتني تلك الأغاني نوعاً من الاستنارة بشخصيته, جعلته ينال استحقاقه من الاهتمام. حاولت فك شفرة طريقة تعامل أفراد من الجمهور معه, الذين أسميتهم عواما".
    لكن من أسباب السخرية وانتاج النكتة الذكورية بحق الفنان سعدي الحلي تعود في جزء منها أنه الحلقة الأدنى في سلم المواجهة مع النظام البعثي وحروبه العبثية, وهي حالة الخوف والفزع والمعاناة التي تمتلك البعض, فأفضل خدمة تقدمها السلطة المتقاعسة عن المواجهة تتمثل في إسقاطها على الغير الأكثر ضعفاً.
   كان سعدي يمتلك قدرة جماهيرية لدرجة كان بوسعه أن يكون نجماً يتربع على الموقع الأول في الأحاديث والمزح اليومية, مع أن جلّ ما فعله هو الغناء! فشق طريقه عنوة وصار الأكثر تداولاً ربما في المرتبة الثانية بعد حاكم العراق. فكان لجمهوره العريض الانتشار قدر قد يمنحه حضوراً اكبر من الطاغية, فحققت أغانيه انجذاباً من قبل الجمهور.
     يذكر الكاتب رمزي في صفحة 26 من الكتاب قائلاً :"لا شك أن المؤلف من وضع الكلمات وليس المطرب, فهل يصح توجيه دفّة اللوم نحو المطرب؟. نعم عندما يجد الشاعر حرجاً في الإفصاح عن دخيلته فأنه يعلنها على لسان المطرب نيابة عنهُ. يجد المؤلف والملحن ضالتيهما في مطرب ييسّر لهما الكلمة واللحن: يتخيلون صوته, سمعته, علاقة الجمهور به فيستحضرون حضوره, فيجدون نفسيهما منقادين لشخصه, فتأتيهم كلمات وألحان تمتان بصلة قرابة لهُ".
  كما يعقب الكاتب رمزي في صفحة 29 قائلاً :"لكتابة نص عن سعدي الحلي لا نحتاج لمعرفة مكان ولادته ومثواه. من يسعى لعمل ناجز عنه عليه الاكتفاء بالفترة بين ولادته وموته: الفترة التي أضيئت بلمع وميض حياته".
    تقديم دراسة وافية عن ظاهرة سعدي الحلي تستحق الالتفات لها عندما تعمرها الورود بروائحها ونشاطها حين تزهر, وتنتهي عندما تنحسر قواها ويصبح أريجها شحيحاً, فالفنان سعدي الحلي حقق انجازاً فنياً مستحقاً, لكنه لم يرفل بنعمائه, بل كان بادرة شؤم عليه, هو ليس نجاحاً ما دام هذا النجاح أورثه أذى لا طاقة له على تحمل وزرها, نجاح استفحل أذاه وبات مصدر رعبٍ لهُ ومدعاة حيرة بنفس الوقت. فعلينا أن نسعى لاسترداد نستعيد به مرتبته بين العظام من الفنان في البلاد, حاله حال أي فرد تعرض طوال حياته إلى سوء حظ ونكد رافقاه وكأنه جاء إلى هذه الدنيا بدون موافقة من الخالق الذي لم يستطع مسك مزاج غضب السلطات عليه, جراء عقوق مورس بحق مهنته.
   الكاتب من خلال كتابه هذا يذكر قائلاً في صفحة 32 :"يسعى الكتاب لفهم سبب استشراء وباء النكت الذي عم البلاد في وقت كانت تخوض فيه واحدة من أشرس الحروب في العصر الحديث... وبنفس الوقت محاولة لرد الاعتبار لمطرب كبير ما أحوجنا أن نتفوه باعتذار له عن طريق تخليصه من حيف سبب له مرارات, لكي يستنير تراثه وتظهر حقيقته كمطرب كبير".
   الكاتب رمزي من خلال كتابه هذا درس أسباب وتحليل سلوك مجموعة غير قليلة من الأفراد نحو مبدع كسعدي الحلي وإلصاق ما لا يليق به من مطاعن. ففي صفحة 34 يذكر الكاتب قائلاً :"هو في جوهره وضع اليد على نوعية العقل الذي أنتج ذلك السلوك. تفكيكه ومعرفة أسبابه, هو فعل نقدي هدفه فهم ما حدث ومعرفة المعايير التي تستند عليها مرجعيات الجمهور الأخلاقية. حين نفهم ما حدث في الماضي لمبدع هو ثروة وطنية, سنفهم ما يحدث الآن من سلوك تدميري تجاه ثروات الوطن".
   لذلك بالإمكان للمختصين تفكيك السلوكيات الماضية لإعادة تحليل ما حدث, عسى أن يضطلع من هو أكثر كفاءة في التصدي لمشاكل الماضي والأسباب الحقيقية للإساءة من الفانان سعدي الحلي. فالأفراد في مجتمع يقوده جهلة مستبدون منخرطون في حروب في الداخل والخارج يتحولون إلى ما يشبه أشجاراً تختار لنفسها قامات قصيرة تفادياً لمواجهة الحر والعواصف, بسبب ارتفاع درجة الحرارة وشدة الرياح, وما يجلباه من جدبٍ وجفافٍ وموت.
   في بعض الأحيان تتلبس العقل عافية ظاهرية حين يبحث عن متعٍ تريحه, كأن ينفق وقته على نكات ومزح توفّر لهُ سروراً مفتعلاً خاصة عندما لا يطاله جرّئها القصاص, ولا تحدث له بسببها مضاعفات. يؤكد الكاتب رمزي في صفحة 35 قائلاً :"مزحٌ تجد ضالتها في مبدع وفنان, وبسلوك يشبه من يحصل على راحة من تمزيق ملصقات السينما الجميلة أو رميها في الوحل... اندفع الفرد في البحث عن مصادر للترويح عن النفس, في ظل غياب منافذ لتصريف كبته وكي لا تتعرض عافيته النفسية لاختلال فتكون حدود عقله مفتوحة على الجنون, تم النظر إلى الآخر كمصدر للتسلية".
    ما يثير الأسى أن السخرية اتخذت منحى شاذاً وشهوانياً, والأسوأ أن التعرض للآخر هو ابداع رخيص في جوهره, الأمر له علاقة بتغيّر حساسية الفرد التي تنجم عن عدم رضى عن حياته, حين يصبح مجبراً على تقبل الإساءة حتى إن لم يكن يمارسها فهو لا يدينها. ثم يتساءل الكاتب رمزي في كتابه صفحة 37 قائلاً :"من أين جاءت, في ظل خرابٍ وموتٍ مجاني, هذه القريحة وهذا الهوس في التأليف الهابط للنكات؟ لا تشي طبيعة وجوهر تلك النكات بوجود عقل مخطط أو إكراه في فعل ذلك. يشبه الأمر حالة أولئك الأطفال الذين يصفقون مبتهجين لسماع دوي صفارات الإنذار في نفس اللحظة التي يموت فيها أخوانهم وآبائهم في ساحات القتال".
   في مجتمع يخضع لحروب متواصلة ولنزاعات داخلية تتحول القيم الحارسة للمجتمع إلى سورٍ متداعٍ, فتدهمُ المجتمع ممارسات مفرّغة من القيم, لا تمتلك بعداً إنسانياً. بما أن الموارد اللغوية الشحيحة لا تنتج فكراً, يتم التركيز على الآخر والسخرية منه, فهو ليس سوى قصور وإعاقة فكرية مصدرهما الفقر الفكري والخيبات وعدم القدرة على المواجهة, ففي صفحة 38 من الكتاب يذكر رمزي قائلاً :"لم يكن النظام من هندس وخطط لذلك الوباء, بل هو من سمح وغضّ النظر عن انتشاره, لإدخال سرور في مجتمع تحكمه قوانين السأم, ولا يوجد فيه ما يشيع السرور, مما سمح للممارسات لا تحتكم لقوانين أخلاقية تحكم العلاقة بين الأفراد".
    انتشرت ظاهرة الإساءة للفنان سعدي الحلي في ظل حكم بلغ ترديه درجة بات معها موت الفرد فعلاً عادياً, وأجهزة الدولة التي كانت تراقب كل نأمة سمحت لهذا الوباء بالاستشراء كوسيلة لتسكين الروع بتوجيه النظر صوب سيل من النكات هدفها تسلية هابطة بحق الفنان سعدي, أشبه بترياق مسكر يخفف الألم, ويجلب انعتاقاً يجرد العقل من تحديد من تقع عليه الإدانة فيما يحدث. ففي صفحة 42 من الكتاب يذكر الكاتب رمزي قائلاً :"نحاول هنا رد اعتبار وكذلك تحسين طرق التعامل مع الآخر, محاربة السلوك المتردي المتمثل في جعل الآخرين موضع سخرية وازدراء يتسببان في شقاء من يقع ضحية لذلك السلوك... في الفترة التي سبقت وأعقبت الحرب عاشت الأغلبية تحت ظل خوف راح يتصاعد وتتفاقم تأثيراته عليها... لهذا السبب باتت السخرية السوداء اتجاهاً فاعلاً في الثقافة الشعبية. تنامي القدرات الساخرة التي تفجرت, جعلت الجمهور يعجب من إمكانياته على التأليف".
    لا بد من دراسة بنية النكات والمزاح والسخرية بحق سعدي الحلي وتفكيك مراميها والواقع المختفي فيها الذي تم التعبير عنه من خلال النكات, الإسفاف والبذاءات التي لا بد من كشف معناها الأعمق, فضلاً أن سعدي منح القدر من جماهيرية لدرجة كان بوسعه أن يكون نجماً يتربع على الموقع الأول في الأحاديث والمزح اليومية مع أن جلّ ما فعله هو الغناء.
   ففي صفحة 52 وما بعدها يذكر الكاتب رمزي حول صوت المطرب سعدي قائلاً :"حفرت فترة الحرمان في صوت مطربنا جواً يشبه غروباً كئيباً يطبق على الجو, تحلّ في ذهن السامع إشراقة مفاجئة تفتح العواطف على كامل كداها, فيجيء الغناء الحزين معبّراً عن تاريخ هو أشبه بتنور أوجر طوال الوقت... مطرب لم يكن من سعيه تسلية البشر بل صدمهم وزيادة بلواهم عن طريق ترتيل كلمة من حرفين (آه) لا تجدي كتابتها, بل لا بد سماعها كي تتملك سامعها رعدة فتغدو عميقة الغور فيه... كي يعبروا عما لحق بهم من رزايا بعيداً عن إظهار البكاء الحر الذي ينجم عادة عن ضعف مخجل... عند سماع الآهات ينزاح الأسى فيسكن الرحمن الجسد الممسوس بالشيطان... كذلك هو الحال مع مفردات العذاب التي ترتجل بعد الموالات (آه, آخ, أويلاه) كلها تشبه مستحضرات التجميل الذي يظل شميمها رابضاً في الأنف... كأن يجعلها (الآهات) مثل ورقة نشاف تمتص أحزانه يجعلها مصدر سرور, وكأنه يُسقط منها ترخيص الهموم... بدلاً من الظهور كشخص مهزوم وباكٍ, منزوع الحياة غارق في السقام".
   لدى سكان بلاد الرافدين عِشرة قديمة مع الآهات لوجود تاريخ موغل البعد في الرفقة مع الأحزان, والآهات تمنع شلّ أيدينا عن العمل, تجعلنا نبلغ الحد الذي تتحول أحزاننا عند بلوغه إلى طاقة تحركنا. فعندما أصبح سعدي شخصاً ضعيفاً وشبحاً متهاوياً كان يقتصد بالجهد كي يخرج الآهات كما كان يفعل أيام مقتبل شبابه. لكنه مثل التنور المصنوع قديماً والمتشقق الجوانب يظل قادراً على صنع صلصال يعتمد على ما في جوفه من حطب يديم اشتعال النار. كانت آهاته الحرّى تنبثق من تعاسة روح مخذولة تعبر عن حنقها بنياح متوعدٍ جراء إهانات لحقت به.
 

130
المجهول وتهويمات الواقع للكاتبة نجاة نايف سلطان

د. عبد الرضا عوض
عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة صدر للأديبة الرائعة نجاة نايف سلطان في تشرين الثاني 2019م كتابها الموسوم (الانحدار نحو المجهول) ، والكتاب يقع في (224) صفحة من الحجم المتوسط ، والكاتبة نجاة غنية عن التعريف فهي شاعرة وكاتبة مخضرمة، ادركت عهود الدولة العراقية الثلاثة (الملكية والجمهورية والاسلامية).!!
" الانحدار نحو المجهول" كتاب اتحفتنا به الشاعرة والكاتبة الصديقة الرائعة (نجاة نايف سلطان) ، ولي السرور بالسبق أن أستعرض هذا المنجز الرائع ، مشاكساً تحذيرات طبيب العيون فيما يخص حالتي الصحية الغير مستقرة فقد آليت على نفسي أن أقرا ما سطرته الأديبة نجاة نايف سلطان عن المجهول الذي ادركت بداياته ويترآى لها وهي مآساة حاقت بالعراقيين ، فقد تلقفت اصابعي من بين آلات الطباعة النسخة الأولى من هذا المنجز وأنا أفكر الى أين نحن ذاهبون في هذا الجو المتلاطم بموجات الغضب الثوري والفوضى والقمع العشوائي البعيد عن الإنسانية ، قررت قراءة هذا المنجز في ليلة واحدة لإعجابي بما سطر يراعها الأنيق في كتابها السابق (ذكريات امرأة عراقية) فقد سبق ان رسمت بحروف من لؤلؤ تركوازي صورة متشابكة لمرحلة مررنا بها جميعاً وجاءت فيه على ذكر ايام شبابها في مدينتي الحلة (1955-1959م) وذكرت لنا مرة أنه لولا مساعدة بنت شقيقتها (الصغرى الكبرى) لما ظهر الى النور، وأعتقد انها أكملت مسيرتها بهذا المنجز الذي بين أيدينا كما أخبرني صديقنا الأستاذ جواد عبد الكاظم محسن بذلك الذي له الفضل في معرفتي بهذه القامة النسوية العراقية الأصيلة وهي تعيش غربتها ، ويقيناً انني ادرك عن أي مجهول هي تتحدث ، تتحدث عن الوطن المهتوك سيادته ، وعن مستقبل الشباب وخيبته في حكامه..!!
والأديبة نجاة عرفناها ناشطة في الشأن الأدبي ، وتنحدر من أسرة أقل ما يقال عنها انها أسرة متنورة ، لقد جاءت نجاة لتمثل الخط النسوي العراقي في طرح معاناة أبناء بلدها العراق فهي متابعة متحفظة بعض الشيء إلا في هذا المنجز فقد غمرتها شجاعة لا بعدها شجاعة حينما جاءت على الأحداث بمسمياتها وعلى الشخوص بتوصيف يليق بهم بصراحة تامة، فبعد رحلة طويلة في اخاديد طبقات السياسة والمجتمع لقربها زمن ما من أصحاب القرار الإداري في بلدها، فهي تتمتع بوساعة المعرفة ، متابعة فذّةٌ في المحورين الإجتماعي والثقافي والأدبي، ومثقفة عضوية شجاعة ، عُرفت هي وشقيقاتها بمواقفهن الوطنية الأصيلة ، ولم تتنازل عن مبادئها التي آمنت بها .
تُشكل ظاهرة السرد التاريخي مؤشراً مميزاً من خلال الاطلاع على منجزها الإبداعي بما حواه من اتجاهات متباعدة ومختلفة ، فهي تغوص في عالم متشابك ومتشعب من خلال تجربة ادبية ، فقد شكلت آراؤها في هذا المجال مفتتحاً للتأمل لأنها فتحت باباً لدراسة رحبة لوضع المجتمع وتصوراتها المستقبلية التي ساقتنا بها الى مجهول معتم، فهي تتمتع بقوة حافظة ، وعمق في الذاكرة ودقة في تشخيصاتها لأمراض حرص المجتمع على احتضانها وأضفى عليها حالة القدسية ، فوضع المجتمع خطوط حمراء بعدم مناقشتها أو التقرب منها...
في هذا المنجز " الإنحدار نحو المجهول " كتاب مميز كون الكاتبة تعاملت مع البنية الأساسية للمجتمع والدولة وهي تسلط الضوء على بعض المعاناة نتيجة التحولات الفكرية والتطورات العلمية التي حصلت لعراق اليوم ، فهي لم تعتمد السرد المباشر لإنجازها ، وإنما آثرت أن تتخذ طريقاً مغايراً من خلال تماهي الطرح بإعتماد التداخل الزمني والمكاني ، والحضور النقدي اللاذع والساخر ، ذلك الحضور الذي يسلط الضوء وينير للقارئ العادي الطريق في محاولة فك الاشتباك بين الطباع والتطبع 0
استهلت نجاة كتابها بإهداء توقفت عنده لما لمست فيه من رؤيا فلسفية للحياة التي عاشتها وعشناها سوية فهي تقول : " نظن بغباء وغرور فارغين إننا نملك حقاً خياراتنا..."
بهذا الإهداء بدأت الكاتبة سياحتها الأدبية بفكر ثاقب يدرك دقائق الأمور فهي تستذكر رفيق دربها الذي فارقها منذ عقدين وتقول عشت مع هذا الرجل ضعف السنين التي قضيتها مع أسرتي ، واستعارت بمهارة وحذاقة فائقة بيت شعر ادته المطربة نجاة كنت قد سمعته قبل نصف قرن لتحوله نثراً واصفةً أيامها الجميلة "هذا ركنه ، وهذه كتبه ، ونظاراته. كلماته اسمعها بوضوح وستظل معي الى أخر عمري ، و.."
ثم تناولت الكاتبة مراحل قيامها بإفتتاح رياض للأطفال في حي اليرموك ببغداد وأهم ما لفت نظري اهتمام الكاتبة بالأطفال ومنحدراتهم الطبقية والأسباب التي وصلوا بها لينتظموا في روضتها التي عبرت عنها بـ (الجنة)، فقد تألمت حينما عرفت ان طفلين يوصلهما جدهم الى الروضة بعد انفصال الأبوين اللذان اتخذا من أوربا وطناً لهما ، ثم اشارت الى مرحلة انتشار الجريمة في شوارع بغداد وخاصة بالمحلة التي تقطنها (اليرموك) حيث الطبقة المرفه عنها اقتصاديا والمستهدفة من قبل اللصوص، وتأتي على ذكر اختها الكبرى هبة التي سمتها في قسمها الأول(وداد) وكيف انها تتألم يومياً من مراقبة رجال الأمن ومطالبتهم لها بالفصح عن مكان أولاد أختها المتوفاة (سعدية) وكيف انهم عاثوا بدار اختها الى حد لا يوصف.
ثم تناولت مرحلة تعاظم جنون العظمة عند صدام وهي تحمل وزر تلك المحنة على ادباء شاع صيتهم في تلك الأيام وتذكرهم بالاسم الصريح كونها قريبة من المشهد الثقافي والأدبي العراقي ..واشارت الى معاناتها في نشر روايتها (سلاماً يا وفاء) بالرغم من مرور خمسة عشر سنة على انجازها وكيف انها وهبت نصف اكراميتها الى العاملين بدار الشؤون الثقافية وفقاً لمشورة اختها الصحفية..!!
كان هم الكاتبة الرئيس بعد تفاقم الوضع داخل العراق هو اصطحاب بنتيها الى خارج العراق ثم شوقها لرؤية ولديها إذ يقيم احدهما في اسبانيا ، وقد تعذر السفر مباشرة الى اسبانيا لكنها وجدت فسحة من فرصة قد لا تتوفر لاحقاً هي السفر الى سوريا ومن هناك يكون الأمر له حساب آخر ، كل ذلك والبلد مهدد بالهجوم البري من قبل قوات التحالف وصدام كما هو يستضيف فنانين عرب ويغدق عليهم آلاف الدولارات بما يسمى بتجارة (الكابونات النفطية) والشعب يئن تحت وطئة الحصار الظالم ومريديه مرفهون اقتصادياً..
اتجهت نجاة مع بنتيها وشقيق لها صوب سوريا وسكنت في احد أحياء دمشق وهالها أن السوريين يمجدون بصدام وسياسته بالرغم من العداء الذي كان مستفحلاً مع رئيسهم حافظ الاسد ، ولم يغب عن الكاتبة سبب هذا الود فهي تعزيه كما يعرف الشعب العراقي ذلك الى الأموال التي كان ينثرها صدام على العرب في وقت بقي العراقيون محرومون من ابسط مقومات العيش. وعلى الموعد المتفق عليه التقت الكاتبة بولدها (علي) القادم من اسبانيا بعد فراق تسع سنين وكم هو رائع لقاء الأم بولدها بعد هذه المدة ، ومن هناك تلقت الكاتبة انباء عن سقوط نظام صدام ، فأنهمرت دموعها وهي لا تعرف هل هي دموع الفرح بسقوط الطاغوت أم التأسي على بلادها لإحتلاله من قبل الأمريكان!!!.
لم تطل المدة ببقاءها في دمشق فقد حزمت حقائبها وقفلت راجعة الى وطنها لترى حقيقة الأمر بسقوط اعتى طاغية عرفه العراق في العصر الحديث ، فراحت تصف لنا بطريقة الاديب البارع الفرق بين تصرف رجال الأمن السوريين الذين انغمسوا بالرشوة والسخرية من العراقيين وهم في محنتهم وبين رجال جدد على المنطقة وهم الأمريكان الذين شغلوا نقاط سيطرة ومراقبة الحدود. ورغم الظروف القاسية وصلت بغداد وتوجهت الى بيتها في حي اليرموك وتفقدت روضتها التي طالما حلمت بتطويرها ، ووجدت ان بعض الموالين لنظام صدام اتخذ منها مأوى لعمليات اعتراضية ضد الأمريكان ، ومع ذلك زارها الجنود الأمريكان في مقر عملها وهم يقدمون الهدايا للأطفال ويعلمون جيداً أن المكان كان وكراً لبعض الموالين لصدام.
وفي مشهد درامي حزين وصفت الكاتبة أيام سود خيمت على العراق بأكمله فقد انتشرت حالات القتل بالدم البارد وراحت تسترسل في وصف قضايا الاجرام والسلب والنهب ، وكم كانت الصعقة قوية حينما علمت بمقتل الشابة المهندسة(ميادة) ابنة صديقتها أم منذر التي قابلتها قبل سويعات ، ثم مقتل الشاب الكردي والد الطفلين المسجلين في روضتها .
ومثل بقية العراقيين فإن الكاتبة نجاة تمثل الذاكرة العراقية الحية وهي تسطر مراحل التغيير الشامل من الحكم الشمولي الذي حاق بالعراقيين لأربعة عقود الى زمن الفوضى الخلاقة التي نسجت بالقتل والاغتصاب والاضطهاد ، فذاكرتها لم تخف شيئاً عن أيام (كارنر) الحاكم العسكري ثم (بريمر) سيء الصيت الذي أرسى قواعد المحاصصة ورعايته المشبوهة لمجلس الحكم الذين آتى بهم على ظهور الدبابة الأمريكية ليذيقوا العراقيين ويلات التخلف والتجهيل ، في ظل هذا الجو كتب الدستور العراقي الذي ثبت قواعد الفساد بين العباد مع استفحال حالات القتل المروع بعد أن ظهرت صيحات الطائفية المقيتة التي أساءت الى الدين الإسلامي الى حد كبير..وسط هذا الجو المرعب بقيت الكاتبة ترعى (جنتها) مع تزايد المصائب وندرة المربيات اللواتي تعودن أن لا يركن الى مكان ثابت..!!
استرسلت الكاتبة في توصيف تلك الأيام ومعاناتها والخوف من المجهول فقد ازدادت عمليات القتل على الهوية سنة 2006م وبدأ الفساد يشرعن في مفاصل الدولة بطريقة أقرب الى الخيال، وهنا ذكرت ان لها أرضاً زراعية ارادت التصرف بها فمانعها الحارس مهدداً لمن يريد التقدم اليها بالقتل ، وذكرت أن المجاور لسكنها في اليرموك أحد الضباط المتقاعدين من آل عجام في الحلة وصله تهديد بالقتل فترك البيت وسكن الحلة مع عائلته وللخلاص من هذه المحنة فقد أرتأت ان تغادر الى تركيا لقضاء بعض الوقت عسى أن تنتهي تلك الغمة التي ابتلي بها العراقيون.
ساءت الأوضاع في العراق عامة وبغداد خاصة فقررت العائلة مغادرة العراق فاتجهت البنت مع زوجها الى الإمارات واتجهت نجاة مع البنت الصغيرة الى الأردن فكان من همها الأول حمل أوراقها وكتاباتها الأدبية معها ولم تعر أهمية لبقية الأشياء ، وهناك روت لنا سوء معاملة الاردنيين للعراقيين في وقت يسرح ويمرح الأسرائيليون في البلاد دون رقيب ، وقد نقلت لنا صوراً كثيرة عن تلك المعاناة..من ذلك قررت طلب اللجوء الى الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق مكتب الأمم المتحدة في عمان وبعد مراجعات معقدة ومضي عدة شهور أصبح السفر ميسر فغادرت نجاة الى أمريكا ومن هناك كتبت لنا هذا السفر الماتع.
استطيع القول ان ما اقدمت عليه الكاتبة ما هو إلا جزء من ملحمة إنسانية من ملاحم شعبنا العراقي المقهور عبر نضال بناء حياته 0التي اضحت في متاهة كما هو الآن 0
دعوة لقراءة الكتاب لاستيضاح الحقيقية لمعاناة العراقيين سواء في بلدهم او خارجه ونجاة العراقية بتطلعاتها تشكل انموذجاً أدبياً وثقافياً وابداعياً ومدنياً بقوة الوعي الذي يسكنهاً ، لتقول كلمة سواء لشعبها ، فبورك لها ولنا بهذا العطاء المائز..
مع الامنيات الخالصة بالتوفيق والابداع المميز .
ليل 11\11\2019
الحلة \ العراق

131
جمهرة الألفاظ العامية العراقية
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     للغة العامية المحكية تأثيراً كبيراً على اللغة العربية الفصحى لمقومات اللغة في المجتمع العراقي بالرغم مما للعربية الفصحى من مقومات كاملة ومتكاملة من الثراء لا تضاهيها أي لغة أخرى, وهي ناجمة عن قدرة مفردات العامية واللفظ على تحريك المشاعر والأحاسيس والوجدان بما يجعل النفس العراقية متفاعلة مع الكلام, إذ يطرب لها ابن المجتمع الرافديني في الوقت الحاضر ويتحمس ويستجيب لها بسبب معايشته للمفردات بألفاظها ودخولها في نفسه بكامل معانيها وارتباطها بأحداث معينة مسجلة في ذاكرته, ولها من التأثير ما يحرك الوجدان بالاتجاه الذي خزنت معانيها فيه.
    لهذه المعايشة إنما هي تربية للفرد على المفردات المحكية بسبب البيئة المحيطة به وادراكها والتمكن منها , وهي لسان البيت والشارع والمنتديات العامة والغناء والشعر الشعبي, فضلاً عن أن مفردات اللهجة العامية العراقية المحكية اغلبها نابعة من اللغة العربية الفصحى وبعضها من اللغة المندائية والآرامية, وبعضها هجينة بسبب الهجرات والعلاقات مع المجتمعات المجاورة من التركية والفارسية, لكنها تتضمن أيضاً الكثير من المفردات والألفاظ التي لا ترد في اللغة العربية الفصحى.
    يوم امس الأحد المصادف 11/11/2019 كانت هديتي الثمينة والجميلة من الباحث والمترجم الاستاذ صلاح السعيد كتابه الموسوم (جمهرة الألفاظ العامية العراقية) الطبعة الثالثة المزيدة والمنقحة, الصادرة عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة, يتضمن الكتاب على (277) صفحة من الحجم المتوسط ذات الاخراج الطباعي الجميل, والغلاف الاجمل, والكتاب احتوى على اكثر من (1165) مفردة عامية محكية, فضلاً عن ملحق مستدرك لبعض المفردات العامية المضافة للكتاب في طبعته الثالثة لم تذكر في الطبعة الأولى والثانية.
    بهذا الكتاب افاد الباحث السعيد استخدامه للشعر الشعبي العراقي وبعض الأغاني التراثية التي تدعم المفردات العامية العراقية, لكنني خلال اطلاعي على الكتاب وجدت أن هناك العديد من المفردات والألفاظ العامية المحكية التي ما زالت يد الباحث لم تطلها ومنها المفردات المندائية التي ما زال ابناء الوسط والجنوب من العراق يتداولها في حواراتهم, علماً أن هذا العمل الجميل والرائع للغتنا العامية في الوسط والجنوب من العراق التي لا يظهر لها اساس عربي أو دخيلة على لهجتنا العراقية ودخيلة من اللغات المجاورة.
    كانت مهام الباحث السعيد التحفيز في البحث الذي يرتجى من الباحثين الشكر والثناء لهُ على الجهد الذي قام به, فهو عمل قاموسي مرجعي خالٍ من الخطأ ولكن قد لا يتجنب الباحث بعض النقد والرضا من قبل البعض.
     استعرض الباحث والمترجم السعيد في كتابه هذا المؤشرات التاريخية للمفردات العامية واصولها والبت فيها, من خلال عرض المفردات ضمن الأبجدية العربية وحروفها ونماذجها من الشعر وانواع الأحرف الأعجمية الداخلة على اللهجة العامية العراقية.
    لقد عمدَ الباحث السعيد التسلسل الأبجدي في كتابه للغة العربية (الف. باء. تاء. ثاء...) تسهيلاً للقارئ في المتابعة, وقد قام بتثبيت لفظ المفردة كما وردة في اللغة العامية المحكية بغية تسهيل الأمر على القارئ في المتابعة بحسب الكلمات التي يعرفها والتي يريد البحث عنها في اللغة العامية, واحياناً دون استخدامات المفردة وورودها باشتقاقات أخرى.
     ثبت الباحث السعيد هذه المفردات من جمهرة الألفاظ العامية العراقية كان الهدف منها كما فهمت كي لا تضيع في السنوات المقبلة, كما بت الباحث في عرض المفردات في أمر عائديتها للغات الشعوب المجاورة.
    إن هذا المعجم للألفاظ العامية العراقية لم يدخل ضمنها ما اصطلحت عليه القواميس والمعاجم العربية, وقد قام الباحث السعيد بارجاع بعض المفردات إلى المصدر في اصل الكلمة.
    ختاماً اشد على يد الباحث والمترجم صلاح السعيد لهذا الانجاز الجميل والرائع الذي امتع القارئ لما وردت فيه من مفردات محكية في المجتمع العراقي من خلال كتابه الموسوم هذا.

132
يهود العراق ودورهم في تطور النشاط الاقتصادي (الحلقة الرابعة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
   
    أما في المجال المصرفي فكان ليهود العراق الدور الكبير في إنشاء المصارف الأهلية في مدينة بغداد والمدن الفراتية الأخرى مطلع ثلاثينيات القرن الماضي حتى هجرتهم القسرية عان 1951م, فم أهم المصارف التي ساهموا في إنشاءها (مصرف سلمان زلخة, مصرف خضوري زلخة, مصرف كريدت بنك, مصرف أدور عبودي), فكانت هذه المصارف لها الدور الكبير في زيادة رؤوس الأموال والمساهمة في زيادة معدل الادخار ومتابعة استخدامه وقبول الودائع من التجار ورؤوس الأموال والصناعيين بمختلف أنواعها الحسابات الجارية والتوفير والثابتة.
     فكان الصيرفي خضوري عبود زلخة أول المتحمسين لتأسيس أول مصرف أهلي عراقي في بغداد عام 1889م, عندما تأكد من استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية وزيادة النشاط المالي في الأسواق التجارية في العراق, حيث بدأت برأس مال مئة جنيه استرليني في ذلك العام, مع ذلك عدَ مصرف خضوري زلخة من مصارف الدرجة الأولى في العراق, حيث اجيز قانوناً بموجب قانون مراقبة المصارف رقم 61 لسنة 1938م(35). كما افتتح له فروعاً في بيروت ودمشق والقدس والاسكندرية(36), حيث بلغت سيولته النقدية بحدود (60) ألف دينار عراقي, وكان ذلك في عام 1943م, ليزداد هذا المبلغ في عام 1945م ليصل إلى (100) ألف دينار عراقي, في حين بلغت ودائع المصرف في بغداد عام 1947م ما قيمته (1,218,719) دينار عراقي, أما الودائع فكانت لا تتجاوز (800) ألف دينار عراقي, فيما احتفظ المصرف بمبالغ احتياطية بحدود (1,239,198) دينار عراقي, وفي عام 1948م ازدادت ممتلكات المصرف حتى اصبحت تقارب الـ(10) مليون دينار عراقي(37).
    كما تأسس مصرف آخر باسم مصرف (أدوار عبود) بتاريخ 13 ايلول عام 1941م بموجب الاجازة المرقمة 38 ووفق المادة 4 من قانون مراقبة المصارف رقم 61 لسنة 1938م برأس مال (5500) دينار عراقي وبمبلغ احتياط قدره (20) ألف دينار عراقي, وعدَّ من مصارف الدرجة الأولى بموجب القانون, ومارس مختلف الأعمال المصرفية في بغداد والمدن العراقية الأخرى مثل الموصل والبصرة(38).
   كما أسس اليهودي الياهو صالح جوري مصرفان الأول باسم (كريت بنك) حسب الاجازة المرقمة 21 والمؤرخة في 25 تموز 1945م, والثاني باسم شريكيه يوسف نسيم ناثان ومنشي إبراهيم كاشي بالرقم 39 في 25 تموز 1945م أيضاً, مارس المصرفان مختلف اصناف العمل المصرفي والتجاري وتسليف وشراء الأراضي الزراعية والبساتين وخاصة في لواء الديلم (الرمادي)(39).
   كما ساهمت المصارف الأخرى في العاصمة بغداد وشركات الصيرفة حتى عقد الثلاثينيات في تطوير العمل المصرفي والتجاري, كما كان المصرف (ايسترن بنك لمتيد الشرقي) الدور المؤثر في مجال الصيرفة في العراق الذي كان يرأسه البريطاني (ج. س حسقيل اليهودي), إذ كان الملك فيصل الأول كثيراً ما يقترض منهم بفوائد لتغطية نفقاته ونفقات العائلة المالكة وسفراته الخارجية, كما إنه كثيراً ما كانت تسد النقص الحاصل في الخزينة الخاصة.
   كما قدمت هذه المصارف الخدمات الكبيرة لتجار العراق واستقبال الودائع التي تجاوزت ثلاثة اضعاف رأسمال المصرف, وكمثل لذلك الصراف روبين يهوذا زلوف الذي بدأ عمله في الأول من نيسان عام 1946م, لكن هذه المصارف كانت لها تأثير على النشاط الاقتصادي العراقي عندما توقف النشاط المصرفي في يوم السبت من كل اسبوع حيث يعطل اليهود اعمالهم.
 
 
المصادر
1- أحمد عبد القادر القيسي. مصدر سابق. ص83.
2- صباح عبد الرحمن. مصدر سابق. ص166.
3- صباح عبد الرحمن. مصدر سابق. ص167.
4- المصدر السابق. ص167.



133
يهود العراق ودورهم في تطور النشاط الاقتصادي (الحلقة الثالثة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
كانت الهيئة الإدارية لغرفة تجارة بغداد سنة 1926م تتألف من 14 عضواً, وكان منهم 9 اعضاء من اليهود, وفاز المستر (راين) مدير البنك الشاهين بمنصب الرئيس, وكان سكرتير الغرفة يهودياً(25), وفي 15 تشرين الأول من سنة 1936م جرى انتخاب الهيئة ال"إدارية لغرفة تجارة الموصل, فاز برئاستها اليهودي (ساسون سوميخ)(26), وفي نفس اليوم تم انتخاب الهيئة الإدارية لغرفة تجارة البصرة, انتخب التجار البصريون أول مجلس إدارة لهم مكون من تسعة اعضاء, اثنان منهم من يهود البصرة, هم كل من (حزقيل سوفير وساسون مردي), وفي سنة 1935م-1936م كانت الهيئة الإدارية لغرفة تجارة بغداد مكونة من 20 عضواً, كان عدد الأعضاء اليهود فيها 12 عضواً(27), أما اعضاء غرفة تجارة بغداد سنة 1936م-1937م للدورة الانتخابية السابعة فعددهم 21 عضواً, يشغل الاعضاء اليهود 11 عضواً من ضمنهم الرئيس الثاني والعضو الاستشاري ومعاون السكرتير و8 أعضاء موزعين على مختلف اللجان, كاللجان المالية ولجنة الكفالات والشهادات ولجنة الكشف والتسعير(28), أما الدورة الانتخابية الحادية عشر سنة 1941م لغرفة تجارة بغداد فكانت تتكون من 21 عضواً بضمنهم عشرة من اليهود, أما عدد أعضاء اللجنة الإدارية لغرفة تجارة بغداد لسنة 1946م-1947م فكانت مكونة من 19 عضواً ومنهم 9 أعضاء من اليهود(29), حتى عام 1951م بعد الهجرة الجماعية ليهود العراق لم يبق أحد من التجار اليهود في الهيئات الإدارية(30).
كان المجتمع العراقي في حقبة العشرينيات والخمسينيات مجتمعاً زراعياً إذا ما قورن بالتطور الحضري, حيث اهتم يهود العراق من التجار بالمقايضة بالمواد الاستهلاكية ببعض الإنتاج الزراعي المعد للتصدير(31), حيث شكلت السلع الاستهلاكية نحو ثلثي قيمة واردات العراق, بينما وصلت سنة 1946م إلى 55,6% وسنة 1958م إلى 49,1% (32).
كان ليهود العراق الدور الكبير في عمليات الاستيراد وخاصة في مجال قطاع السيارات وقطاع الأقمشة وقطاع المواد الغذائية وقطاع السينما وقطاع المشروبات الكحولية وقطاع المواد المنزلية وقطاع البناء والانشاءات وقطاع الأدوية والصيدليات.
أما في مجال البنوك فكان ليهود العراق الدور الكبير واهم تلك البنوك (بنك زلخة, بنك كريدت, بنك ادورد عبودي), كما كانت أكبر الشركات في بغداد (شركة خضوري وعزرا مير لاوي), كان لأصحابها الوكلاء الوحيدون لاستيراد دهون وشحوم شركة (موبيل أويل) الاميركية بفروعها في البصرة والموصل وكركوك, كما شكل تجار يهود العراق الأغلبية في سوق الشورجة وسوق دانيال في العاصمة بغداد, فضلاً عن دورهم الكبير في البصرة.
كما ساهم تجار يهود بغداد في تجارة الورق ومستلزمات الطباعة كعائلة الياهو عزرا دنكور, وفي تجارة المفروشات والسجاد الإيراني كعائلة إبراهيم يوسف زلخة وعائلة إسحق عبودي حييم, أما في تجارة الأخشاب نجد خضوري مراد شكر ومير طويق, وفي تجارة استيراد الدهون وأدوات السيارات نجد إبراهيم وشفيق عدس وعزرا مير لاوي, وفي مهنة الصيرفة برز منهم حسقيال الياهو, وفي تجارة تصدير التمور نجد إفرايم حسقيل إفرايم له الدور الكبير في هذا المجال, ومن الصاغة المشهورين نجد خضوري نسيم شهرباني اشتهر في هذا المجال(33).
أما في مجال العقارات والأراضي الزراعية في المدن العراقية فقد اشتهرت عوائل (عقيرب ويهودا ونورائيل وشوع وخزمة ودانيال وخلاصجي ووذن وإسحق موسى وإسحق هارون وساسون معلم), وتعد عائلة خلاصجي من أشهر العوائل اليهودية التي امتلكت الأراضي الزراعية, والتي اختصت في زراعة وانتاج رز العنبر في مدينتي الديوانية والشامية. فضلاً عن دور مالكي العقارات من اليهود في العاصمة بغداد والمدن العراقية, كما ساهم التجار والملاكين اليهود في تنفيذ مشروع (بغداد الجديدة) لإنشاء مدينة عصرية على غرار (مصر الجديدة) في القاهرة, فاستطاعوا شراء أرض منبسطة واسعة بلغت مساحتها (الآلاف) الدونمات, وإنشاء شركة بغداد الجديدة برأس مال قدره (مليون) دينار عراقي اسهمت بها (143) يهودياً من كبار الملاكين, وكان نصيب رأس المال اليهودي 72% من رأس المال للشركة, إلاّ انهم لم يكملوا المشروع وذلك بسبب تزايد الهجرة اليهودية من العراق واضطروا إلى بيع حصصهم إلى أحد المقاولين وهو جاسم السامرائي, كما كانت من ابرز شركات تصدير الانتاج الزراعي إلى الخارج شركة (اندر وير) التي كان يديرها اليهودي صالح جرجيس ووكيل اعمالها في بغداد عبد الهادي الجلبي والشركة الأفريقية, حيث اهتمت هاتان الشركتان بتصدير الحبوب إلى بريطانيا وإلى الولايات المتحدة الأميركية وإلى دول أخرى(34).
 
 
المصادر:
25- صباح عبد الرحمن. مصدر سابق. ص73.
26- صباح عبد الرحمن. مصدر سابق. ص73.
27- صباح عبد الرحمن. مصدر سابق. ص75.
28- خلدون ناجي معروف. الأقلية اليهودية في العراق بين 1921-1952. مركز الدراسات الفلسطينية. بغداد 1985. ص125.
29- صباح عبد الرحمن. مصدر سابق. ص78.
30- صباح عبد الرحمن. مصدر سابق. ص80.
31- أحمد عبد القادر القيسي. الدور الاقتصادي لليهود في العراق 1920م-1952م. الجامعة المستنصرية. بغداد. 1988. ص19.
32- محمد سلمان حسن. التطور الاقتصادي في العراق- التجارة الخارجية والتطور الاقتصادي (1858م-1864م). المكتبة العصرية للطباعة والنشر. 1965. ج1. بيروت. ص251.
33- سعد سلمان عبد الله المشهداني. النشاط الدعائي لليهود في العراق 1921-1952. القاهرة. مكتبة مدبولي. 1999. ص34.
34- أحمد عبد القادر القيسي. الدور الاقتصادي لليهود في العراق 1920- 1952. الجامعة المستنصرية. بغداد . 1988. ص47.

134
يهود العراق ودورهم في تطور النشاط الاقتصادي (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    تعد الطائفة اليهودية في العراق من أقدم الطوائف اليهودية بالعالم, ويقرن وجودهم منذُ أكثر من 2600 سنة في العراق, منذُ الأسر البابلي الأول والثاني, إلاّ أنهُ يمتد إلى أبعد من ذلك إلى عهد الإمبراطورية الآشورية, حيث أحضرهم لأول مرّة الملك الآشوري تجلات بلانصر (745-727ق.م)(1), حيث تمَ توزيعهم في المناطق الجبلية المنعزلة شمال العراق والأجزاء الشمالية الغربية من إيران والأجزاء الجنوبية من تركيا ضمن حدود الامبراطورية الآشورية آنذاك(2).
    كان عملهم منذُ لحظة وجودهم في شمال العراق زراعة الأرض واستثمارها وتربية الحيوانات, حيث قاموا ببناء قراهم في المناطق التي توزعوا فيها, وخاصة في العمادية وبرواري العليا والسفلى ودهوك وعقرة وزاخو, كانت لهم قراهم المعروفة مثل (سندور وبيت نور في برواري العليا), امتهنوا الفلاحة وتربية المواشي وغرس الأشجار, ومنهم من عمل بعد ذلك في التجارة والصناعة والخردة والصياغة وغيرها من المهن(3) في مملكة بابل.
    في حضارة بابل ومنذُ القدم استخدم العراقيون القدماء المصارف لتذليل مشكلات الحياة الاقتصادية, وبوجود المؤسسات المصرفية إلاّ دليل على رقي مستويات الحضارة الفكرية والاجتماعية, وقد تولى العمل المصرفي عدة اشخاص هم مقرضو النقود (المرابين) والتجار, لقد وجدت التنظيمات المصرفية بشكلها القديم والحديث في المجتمعات البشرية خلال تطورها التاريخي, ومن المؤسسات المصرفية التي عثرَ على آثار في منطقة (الجمجمة) قرب آثار بابل على جرّة تحتوي على رقم طينية تدل على النشاط المصرفي في تبادل الأموال وبيع الأراضي والعقارات والقروض, تدل عليها في تلك الحقبة الزمنية مصرف إيجيبي في مدينة سيبار, تلك المدينة التي كانت إحدى المدن الأربعة قبل الطوفان أي قبل الألف الثالث من حضارة بابل.
     عرفت مؤسسة إيجيبي المصرفية نشاطها التجاري في عهد نبوخذ نصر (604-561ق.م), وتعد هذه المؤسسة من المصارف المعبدية التي تعود لأسرة إيجيبي (Ejibi) اليهودية التي تعود للسبي اليهودي البابلي الأول لمملكة يهودا, كانت تتعاطى مؤسسة إيجيبي في تجارة الرقيق إلى جانب عملها المصرفي والعمل بعقد القروض لقاء رهون معينة, أمّا احفاد هذه الأسرة فقد تخصصوا بشؤون الصيرفة والائتمان لعدة أجيال من مؤسستهم كأول مصرف في الإمبراطورية البابلية طوال ثلاثة قرون تقريباً(4), كان موقع هذه المؤسسة المصرفية في مدينة سيبار الواقعة على ضفاف نهر الفرات مما ساعدهم الموقع كواسطة للاتصال بالمدن والمراكز التجارية في الجنوب وفي شمال آسيا الصغرى وعلى شرق البحر المتوسط(5).
    كما كانت هنالك مؤسسة مصرفية أخرى في مدينة نفّر القريبة من مدينة الديوانية, وهي مؤسسة موارشو المصرفية, عملت هذه المؤسسة المصرفية لمدة طويلة تقارب قرن من الزمن, وقد مارست نشاطها طول مدة حكم الملك الفارسي (دار ولنوس الثاني 426-406ق.م), وهو من ملوك العهد الأخميني الذين حكموا العراق من عام (539-331ق.م)(6), كانت لمؤسسة موارشو المصرفية علاقة وطيدة متواصلة مع مدينة سيبار عن طريق أحد فروع نهر الفرات, وقد ازدهرت مدينة نفّر بواسطة هذه المؤسسة أو المصرف ازدهاراً اقتصادياً, فطورت معاملاتها المصرفية عن طريق انشاء مصرف (موارشو) الذي اعتبر كمصرف إيجيبي في تعاملاته التجارية التي تخص الطبقة العليا من التجار البابليين, ولهذا السبب فقد استحق لقب مدرسة (بانو) وهو اللقب الذي كان يمنح لنبلاء القوم والذي كان لهُ أثرٌ كبير في شهرة وأهمية هذا المصرف(7).
    استمر العمل في نظام الصيرفة حتى العهد الأخميني, حيث اتسعت المصارف الخاصة والعامة وعمليات الإقراض تحت قرارات إيجيبي في بابل(8), وقد فرضت في الأجزاء الوسطى والجنوبية من بلاد وادي الرافدين استخدام فوائد معدن الفضة, إلاّ أنها كانت مرفوضة في المناطق التي تقع غرب البلاد(9). لكن النقد احتل مركزاً ذا اهمية كبيرة في الحياة اليومية(10).
     كان العمل المصرفي في تلك الحقبة يتمثل بقبول الودائع في بداية الأمر, ثم استثمار الجزء الفائض في مراحل متقدمة, وهذا التطور جاء نتيجة لاستعمال النقود كوسيط للمبادلات, وعرف هذا النشاط في المدنيات الأولى مثل السومريين والبابليين ومن ثم الأغريق والرومان وأن اختلفت المظاهر في التعاملات(11).

المصادر
1- يوسف رزق الله غنيمة. نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق. دار الوراق للنشر. ط2. لندن. 1997. ص66.
2- أحمد سوسة. ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق. مركز الدراسات الفلسطينية. مطبعة أسعد. بغداد 1978. ص25.
3- فاروق عمر فوزي. لمحة تاريخية عن احوال اليهود في العصر العباسي (750-1258). مجلة دراسات فلسطينية. بغداد. 1978. العدد 102. ص81.
4- محمد علي رضا الجاسم. الائتمان والصيرفة في العراق القديم. بغداد. دار التضامن. 1964. ص82.
5- صباح عبد الرحمن. النشاط الاقتصادي ليهود العراق 1952-1971م. بغداد. بيت الحكمة. 2002. ص439.
6- أحمد سوسة. مفصل العرب واليهود في التاريخ. بغداد. دار الرشيد للطباعة. 1981. ص798.
7- ليو اوينهايم. بلاد ما بين النهرين. ترجمة سعدي فيضي عبد الرزاق. بغداد. دار الرشيد. 1981. ص104.
8- عبد علي كاظم المعموري. تاريخ الأفكار الاقتصادية من البابليين إلى الطبيعيين. بغداد. مطبعة الميناء. 2006. ص50.
9- ليو اوينهايم. مصدر سابق. ص110.
10-                    ادوار وبروي وآخرون. تاريخ الحضارات العام للقرون الوسطى. ترجمة اسعد داغر. بيروت. عويدات للنشر والطباعة. 2006. ص301.
11-                    خالد أمين عبد الله واسماعيل إبراهيم طراد. إدارة العمليات المصرفية المحلية والدولية. عمان. دار وائل للنشر. 2006. ص22.


135
يهود العراق ودورهم في تطور النشاط الاقتصادي (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي

   سنة 149هـ عندما بنيت بغداد عاصمة للدولة العباسية برز العديد من يهود العراق في مهنة الصيرفة والتجارة, كما إنهم نالوا حقوقهم المدنية والدينية ومارسوها مجربة ومطلقة(12), تولوا مناصب في اجهزة الدولة المختلفة حتى سقوط المدينة على يد المغول سنة (1258م)(13), وفي زمن العثمانيين أخذ العديد منهم يرتقي إلى الوظائف المهمة في الإدارة العثمانية لولايات العراق كمستشارين ومتصرفين, ومنح السلطان عبد المجيد الثاني (1839م-1861م) اليهود حقوقاً متساوية مع بقية رعايا الدولة الأخرى, فتم إلغاء ضريبة الجزية التي كانت مفروضة عليهم وإبدالها بضريبة تعفيهم من الخدمة العسكرية, حيث جاءت هذه الحقوق والامتيازات حسب المرسوم الأول (خطي شريف كولخانة) في تشرين الأول 1839م, وجاء المرسوم الثاني (خط همايون) يؤكد على حق المواطن الالتحاق بالوظائف العسكرية والمدنية وحرية العبادة والمساواة في الضرائب(14).
  بعد التطور المصرفي خلال الحقبة الزمنية ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد كان ليهود العراق الدور في تطور المؤسسات المصرفية والمصارف, وخلال المدة المحصورة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر برز اليهود بشكل خاص في الحقل المصرفي وانتشروا بشكل واسع واتجهوا إلى إقامة رابطة عائلية بينهم واصبحوا بارزين في الحقل المصرفي(15). ثمَ برز خلال سياسة الدولة العربية الإسلامية بيت المال الذي يعد مؤسسة مالية عربية إسلامية مهمته الاشراف على ما يرد من أموال على حاضرة الخلافة وما يخرج من أوجه النفقات المختلفة التي تتطلبها مرافق الدولة مع الاحتفاظ بمبلغ احتياطي كخزين ليصرف على مستحقيه بعد حين(16).
     عندما اعتلى السلطان عبد الحميد الثاني (1876م-1909م) السلطنة, واعلن الدستور العثماني الجديد سنة 1876م, اعلن تشكيل مجلس المبعوثات, حيث اصبح ليهود العراق ممثل عنهم, فتم اختيار التاجر الثري (مناحيم صالح دانيال) ممثلاً عن اليهود, وهو أول يهودي يرشح لعضوية هذا المجلس سنة 1877م(17).
    بعد انقلاب عام 1908م ووصول جمعية الاتحاد والترقي إلى سدة الحكم أصدرت المرسوم الجديد الذي أكد على المساواة في الحقوق والواجبات لكل رعايا الدولة العثمانية, وأعيد تشكيل مجلس المبعوثات من جديد, وأصبح ليهود العراق ممثلان أثنان من بغداد وواحد لكل من البصرة والموصل.
    ليهود العراق كان الدور الكبير في الحياة الاقتصادية فترة الانتداب البريطاني على العراق (1921م-1932م) وبعد احداث الفرهود عام 1941م أخذت اعداد اليهود بالتناقص, وأثر قيام دولة إسرائيل عام 1948م أخذ يهود العراق بالهجرة بصورة غير شرعية عبرَ الحدود الغربية والشرقية, عبرَ إيران وشتى الطرق والوسائل, فقامت حكومة توفيق السويدي في عهد وزارته الثالثة باقتراح إسقاط الجنسية العراقية عنهم, فصوت مجلس النواب العراقي على ذلك حسب قانون إسقاط الجنسية العراقية في سنة 1950م(18), بهذه الهجرة الجماعية التي تجاوز عدد المهاجرين فيها 124 ألف مهاجر من أبناء الديانة اليهودية, حيث لم يبق منهم سوى (5000) نسمة, يقيم معظمهم في بغداد(19), بينما بلغ عددهم في جميع انحاء العراق حسب إحصاء سنة 1957م حوالي (4906) نسمة موزعين على (1336) عائلة أكثرهم في العاصمة بغداد(20).
   كان لدور يهود العراق في تركيز اهتمامهم البالغ في الأنشطة الاقتصادية الدور الكبير في مدى فعالية وديمومة الاقتصاد العراقي, وتجلّت هذه الموهبة في ميدان التجارة منذ نعومة الأظافر شأنهم في ذلك شأن بني جنسهم في كل مكان, احتل اليهود مكانة خاصة في الحياة الاقتصادية في العراق منذ مئات السنين, حيث عملوا في التجارة والصيرفة, ولدور تعلمهم في مدارسهم اللغات الاجنبية كانت المعين لهم في اعمالهم تلك واتصالهم بأقرانهم من اليهود في مختلف بقاع العالم(21), الأمر الذي مكنهم من السيطرة على قطاعي الاستيراد والتصدير, فقد عرف اليهود بشدة اهتمامهم في شؤون التجارة والصيرفة منذُ اقدم العصور, فكان تأثيراتهم واضحة في العراق من خلال سيطرتهم على قطاع التجارة, وأمور الصيرفة والقروض(22).
    بعد سيطرة اغلب التجار اليهود على معظم حلقات التجارة في العراق والوكالات اليهودية بتجارة الاستيراد والتصدير, مما صاحب ذلك وجودهم في غرفة تجارة بغداد وهيئاتها الإدارية, الأمر الذي مكنهم بالتالي من السيطرة على هذه الغرفة(23), التي تأسست في الرابع من تشرين الأول سنة 1926م, وكانت من أول الغرف التجارية في العراق(24).




المصادر
12- فيليب حتي. تاريخ العرب. القاهرة. ج2. د مط. 1946. ص81.
13- فاروق عمر فوزي. مصدر سابق. ص81.
14- ماريون وفلسيون. أنبياء في بابل. ترجمة ناجي الحديثي. مجلة آفاق عربية. بغداد 1982. العدد 7. ص21.
15- فليح حسن خلف الغزي. الائتمان المصرفي ودوره في الاقتصاد العراق. مطبعة جامعة بغداد. 1977. ص14.
16- مصطفى عباس الموسوي. العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية الإسلامية. بغداد. دار الرشيد. 1982. ص123.
17- مير بصري. اعلام اليهود في العراق الحديث. مطبعة دار الوراق. لندن. 2006. ط1. ص47.
18- عبد الوهاب المسيري. الأقليات اليهودية بين التجارة والادعاء القومي. القاهرة. معهد البحوث والدراسات العربية. 1975م. ص22.
19- صباح عبد الرحمن. النشاط الاقتصادي ليهود العراق 1952م-1971م. بغداد. دار الحكمة. 2002. ص39.
20- عبد الوهاب المسيري. مصدر سابق. ص23.
21- عصام جمعة المعاضيدي. الصحافة اليهودية في العراق. القاهرة. الدار الدولية للاستثمارات الثقافية. ط1. 2001. ص27.
22- حنا بطاطو. العراق الطبقات الاجتماعية. ترجمة عفيف الرزاز. ط1. ج1. مطبعة منشورات فرصاد. 2006. ص284.
23- حنا بطاطو. المصدر السابق. ص388.
24- يعقوب بلبول. شؤون الغرف التجارية. مجلة غرفة تجارة بغداد. ج7. السنة الثانية عشر. ايلول 1949. ص390.


136
صور بغداد الافتراضية في المخيال اليهودي العراقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    المنجز الفني ليهود العراق يتضمن صور الحنين والاعتزاز بالهوية الثقافية العراقية, وهو الوطن الأم, من خلال الأفلام السينمائية واللوحات التشكيلية والموسيقى والغناء الأصيل, فذاكرة يهود العراق تمثل انعكاسات الحنين إلى أرض الوطن من الجيل الثاني والثالث, وتمسكهم بالموروث المكاني واسترجاع الفضاء البغدادي والتمسك بالهوية البغدادية.
    صدر حديثاً عن دار ومكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد للدكتورة خالدة حاتم علوان كتابها الموسوم (صورة بغداد الافتراضية في المخيال اليهودي العراقي), وهو الكتاب الرابع في توثيق تاريخ يهود العراق الأدبي والروائي, الكتاب يحتوي على (252) صفحة من الحجم المتوسط, وهو دراسة في تمثلات سرد الفضاء التاريخي في المنجز الفني للأفلام واللوحات والموسيقى لأبناء يهود العراق.
    الكتاب يتضمن ثلاثة فصول, الفصل الأول يخص التعليم في مجال السرد البصري لاستعادة المكان من خلال الافلام الوثائقية التي انتجها يهود العراق, وتؤكد الدكتورة خالدة حاتم علوان حول اهتمام يهود العراق بالأفلام الوثائقية في هذا الكتاب, ففي صفحة 52 من الكتاب تذكر الدكتورة قائلة :"يبدو اهتمام يهود العراق بإنتاج افلام وثائقية اكثر من روائية يعود لجملة اسباب, ربما في مقدمتها اشراك طبقة واسعة من المجتمع بوصفهم الجمهور المتلقي", فضلاً عن أن الافلام الوثائقية تعتبر جزءاً من وسائل الإعلام التي تساعد على استيعاب وحفظ التراث والتاريخ ليهود العراق, تلك الأفلام التي سلطت الضوء على ماضيهم, والعلاقات الجمعية مع ابناء العراق, والذاكرة العراقية, وتصوير الواقع في ممارسة نشاطهم في المجتمع العراقي وسيرة الطائفة على وجه العموم, فهيَ أفلام سيروية أكثر منها تاريخية.
    بحثت الدكتورة خالدة حاتم في مجال أربعة أفلام تمثل لشخصيات متنوعة, منهم السياسي والفنان ورجل الأعمال والروائي والصحفي, ففلم (إنسَ بغداد), وفلم  (عراق رويال), وفلم (ظل في بغداد), وفلم (تذكر بغداد). تلك الأفلام الأربعة تمثل موضوعة المكان والهوية, وتركز على معاناة اليهود العراقيين بالانتماء للهوية العراقية.
     إذ بينت د. خالدة أهمية الأفلام وثائقياً, وتعريف الجمهور بالشخصيات الرئيسة والمخرجين والمصورين للفلم وأماكن التصوير والمواضيع التي تدور حولها الأفلام, لكن من المؤسف نجد أن الطائفة اليهودية وعلى مدى تاريخها الرافديني قد غُيبّت في المناهج الدراسية العراقية والمنتديات الثقافية, وكل مل يَمت بصلة لهم كمكوّن ضمن مكونات الشعب العراقي الذي عاش في أرض بلاد الرافدين زهاء أكثر من 2600 عاماً, حتى الرحيل القسري عام 1951م, وتفريغ العراق منهم عام 1974م.
   كانت اللغة الغالبة في الأفلام اللغة العربية وخاصة اللهجة البغدادية المؤطرة لعمليات الاستذكار في تلك الأفلام. تؤكد د. خالدة في صفحة 74 من الكتاب حول اللهجة البغدادية ليهود العراق قائلة :" لقد كان من جملة ما انماز به يهود العراق هو التحدث باللهجة اليهودية البغدادية أو اللهجة البغدادية التي لا يزالون يتكلمون بها في بيوتهم حتى اليوم في إسرائيل", وهذا ما يتجسد في حواراتهم داخل بيوتهم مع أفراد العائلة, فضلاً عن متابعة أخبار العراق والسماع للأغاني العراقية التراثية, كما أن للغة العربية واللهجة البغدادية المخففة تشير إلى تمسكهم بأرض الوطن, علماً أن اللهجة البغدادية هي الأكثر وضوحاً مع شخصيات فلم (إنسَ بغداد), وكأنهم لا يزالون يعيشون في بغداد, لذلك يؤكد شمعون بلاص في حواراته في الفلم عن ما تختزنه ذاكرته في العراق, واصفاً إحدى نقاشاتهم في الخلية الحزبية الشيوعية وبلهجة بغدادية واضحة قائلاً :"لأول مرة, في أول اجتماع مع الخلية الحزبية, لمَن رحت بگهوة شعبية جداً ومكتوب عليها خاص للإسلام (يضحك) وآني جاي دا اقره كتب, يعني مثقف (يضحك) فـ... رئيس سكرتير الخلية كان مدرس, إنسان لطيف جداً, گلي احنا هسه دنتباحث بأشياء فلسفية وكذا, شوف دنبحث الفرق بين المثالية والمادية, اشنو الفرق؟ گتلة المثالية رجل يحجي مثالي ومثل عليا وما ادري شنو, والمادية واحد يجري وراء المادة, اشوف دا احجي وساكتين كلهم, اشو هذا شويه (ديبتسم), گلي أي صحيح بس هذا تفسير من ناحية أدبية (يضحك)", من خلال حديث بلاص تبدو المفردات البغدادية لا تزال تسكن في قلوبهم.
    لقد عالجت الأفلام الوثائقية موضوع الهوية والحنين للعراق, فضلاً عن اهتمامهم ببغداد والحنين إليها من خلال نتاجاتهم السردية والبصرية والتشكيلية, كما شملَ تداولهم لأسماء مناطق سكناهم في بغداد من أحياء (قمبر علي, الدهانة, المسبح, البتاوين, حنون). كما ينقل لنا فلم (ظل في بغداد) لبطلة الفلم ليندا عبد العزيز منوحين الأماكن التي عاشت فيها فترة طفولتها وشبابها حتى هروبها من العراق, فالعاصمة بغداد بدءً بساحة النصر وانتهاءً بمنطقة المسبح.
   أمّا فلم (تذكّر بغداد) لبطل الفلم إدوين شكر ورحلة ذهابه إلى بغداد وزيارته لبيتهم القديم فيها, ذلك البيت الذي وجده إدوين معروض للبيع من خلال رحلته, وكانت رغبته الكبيرة بشراء البيت, فهو يمثل مرتع الطفولة والشباب وذكرى العائلة والوطن الأم, فكانت ذاكرته وقّادة في تحديد مكان دارهم في العاصمة بغداد, كان لنهر دجلة الذي يشكل خصوصية وقدسية لإدوين شكر ولأبناء الطائفة اليهودية العراقية, فقد مَثّلَ غصة في قلوبهم, إذ كانت ساحة لممارساتهم الاجتماعية وشاهداً على براءة الأيام الماضية ونقائها من الحقد والكراهية بين الطوائف.
    المكان والأزقة والأحياء لها مكانة عزيزة في المخيال اليهودي العراقي, الذي يؤشر عمق التماهي مع الوطنية, من تلك الممارسات هي الجلوس في المقاهي وممارسة العاب شعبية شهيرة اهمها (الدومينو والطاولي), ففي فلم (عراق اندرول) وعبرَّ رحلة الفنان والمسيقار (دودو تاسا) في المقاهي العربية التي يرتادها العراقيون بكثرة, ولا سيما المقاهي التي تطل على نهر دجلة, ونزهتهم بالزوارق واكلة السمك المسگوف.
   الأفلام الوثائقية تعرض صور التعايش السلمي الذي كان سائداً في بغداد والمدن العراقية من وجهة نظر شخصيات الأفلام, والأحياء التي سكنها يهود العراق كانت مختلطة ومتنوعة الهويات الدينية, وهذا يمثل التمدن والتحديث الذي شهده المجتمع العراقي. من خلال متابعة الفلم يحاول الأبن الأصغر للفنان صالح الكويتي (شلومو/سليمان) أن يوضح لـ(دودو) حفيد داود الكويتي لأبنته كارميلا ما معنى أن يهدي الملك غازي ساعته لعازف يهودي؟ واستيعاب تلك العلاقة واسبابها, إذ يشرح لهُ المكانة التي حظي بها جده صالح الكويتي من قبل الملك غازي في وقف التصادم والعداء النازي للديانة اليهودية, فلم تكن الهوية الدينية عائقاً أمام الملك في التعبير عن محبته وتقديره للأخوين الكويتي.
   فلم (عراق اندرول) قدمَ الصورة السلبية للآخر ممثلة بتوجهات رئيس الوزراء العراقي (توفيق السويدي) بتجريد العراقيين اليهود من ممتلكاتهم كافة ومصادرة اموالهم وترحيلهم إلى إسرائيل. كما تسلط بطلة فلم (ظل في بغداد) السيدة ليندا عبد العزيز منوحين حادثة إعدام اليهود أثر اتهامهم بالتجسس لصالح إسرائيل حقبة نهاية ستينيات القرن الماضي في ساحة التحرير وكيفية رقص الآخر على اجساد الضحايا, كانت في تلك اللحظة من السهولة أن يتهم النظام لأبناء العراق من اليهود بتهم الجاسوسية والعمالة, تلك التهم البائسة التي ذهب ضحيتها ابناء العراق الأنقياء.
     كان لتولي حزب البعث السلطة في العراق دور كبير في عمليات الاضطهاد لأبناء المكون اليهودي, ومساهمة عناصره وقوى الأمن من الملاحقات والاختطافات والاعدامات العلنية والسرية, واستمرار موجة الاضطهاد حتى عام 1972م حين اختطف المحامي عبد العزيز منوحين والد ليندا ولم يعثر عليه حتى هذه اللحظة.
   أما الفلم الرابع (مطير الحمام) أو (المطيرجي) للروائي إيلي عمير, تذكر الدكتورة خالدة حاتم في صفحة 105 من الكتاب قائلة :"يستند الفلم إلى رواية مطيرجي في بغداد وتتحدث عن حقبة الأربعينات وبداية الخمسينيات في بغداد التي تعد من السنوات الحرجة في تاريخ يهود العراق, بدءً بحادثة الفرهود عام 1941 وتداعيات إعلان دولة إسرائيل وصراع التيارات الفكرية آنذاك في الساحة العراقية, وتحديداً الحزب الشيوعي العراقي والمنظمة الصهيونية المحظورة في العراق", لكن الكاتبة د. خالدة تناست دور منظمة (عصبة مكافحة الصهيونية) وهي الواجهة للحزب الشيوعي العراقي ودورها في مكافحة التنظيمات الصهيونية ومنها التنوعة وانتماء بعض يهود العراق إلى هذه المنظمة اليسارية وإلى تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي.
    الفلم يسلط الضوء على طبيعة المجتمع اليهودي العراقي وطقوسه وتقاليده وطبيعة العلاقات الاجتماعية بين ابناء الطائفة من جهة وبين المسلمين من جهة أخرى, كل ذلك يقدم من خلال البطل الشابي (كابي) (دانيال كاد) ذي الـ16 عاماً. الفلم يمثل حياة الطائفة اليهودية البغدادية باللغة العربية, للمخرج نسيم دّيان, وقد ترجم إلى اللهجة اليهودية البغدادية من قبل الممثلة اهافا كيزين.
    أحداث الفلم توضح واقع حال يهود بغداد بين الأعوام 1948- 1951م أي منذُ إعلان دولة إسرائيل حتى اقرار قانون إسقاط الجنسية العراقية عن ابناء المكون اليهودي العراقي وتهجيرهم القسري وتداعيات الوضع السياسي المتأزم في المنطقة وقتذاك.
    الفلم وثقَ واقع حادثة الفرهود عام 1941م وحادثة إعدام التاجر شفيق عدس وأخيه, كما وضح الفلم ضلوع الحكومة العراقية آنذاك بمؤامرة الترحيل القسري حتى وصل الأمر باستخدام القوة والتهديد والوعيد لترحيلهم من خلال التفجيرات التي حصلت في تلك الحقبة, كما يركز الفلم على حملة الاعتقالات التي طالت افراد المنظمة الصهيونية تنوعة.
   مخرج الفلم يصور السجن المركزي في منطقة باب المعظم بحيطانه القديمة ذات الألوان الباهتة وحجمه المتسع والوان الكآبة والتشاؤم وفقدان الأمل في هذا السجن الرهيب للسجناء السياسيين. كما يوثق فلم (المطيرجي) الحياة الاجتماعية ليهود بغداد ورفضهم للعادات والتقاليد المتحررة, وتعنيف (راشيل) بسبب ملابسها المتحررة التي لا تتلائم وطبيعة المكان الذي يعيشون فيه. ومن جملة الممارسات الاجتماعية التي يوثقها الفلم ما يتعلق بالألعاب الشعبية ومنها (الدومينو) و(الطاولي), فضلاً عن دور التنظيمات الصهيونية والشيوعية التي اعتنق فكرها بعض يهود العراق ورفضهم الهجرة إلى إسرائيل. كما بين الفلم تمسك العائلة اليهودية بأرض الرافدين ورفض (نعيمة) والدة (كابي) وزوجة (سلمان) الذي تبنى زوجها المشروع الصهيوني من الهجرة الجماعية, فحين يخبرها سلمان بقرار الهجرة تنتفض وتجيبه بانفعال ورفض قاطع للهجرة (أنا اظل هون وية اجدادي واجداد اجدادي), إذ تؤكد قِدَم وجود الطائفة اليهودية في العراق, كما تدخل في صراع مع زوجها الذي يحاول اقناع ولده (كابي) بالرحيل والعمل من المنظمة الصهيونية. كما جسد مخرج الفلم الملابس البغدادية العربية كالدشداشة والكوفية التي يلفها (ابي صالح) بطريقة تميز بها العراقيين.
   أما الفصل الثاني من الكتاب فيتطرق إلى الذاكرة البصرية واستعادة الفضاء البغدادي في الفن التشكيلي للوحات التذكارية من بغداد للفنان العراقي إيلي سودائي تضم ما يقارب الـ(26) لوحة عمدت د. خالدة إلى تحليل كل لوحة على حِدَة للوقوف على خصوصياتها, وقد شاهدت بعض تلك اللوحات على جدران أحد دور العرض السينمائي في بغداد, التي انشأتها عائلة سودائي.
    أما الفصل الثالث فقد خصص في الكتاب للتوثيق الموسيقي والغناء من قبل د. خالدة حاتم, كان للأخوين صالح وداود الكويتي الدور في الحفاظ على اسس المقامات العراقية, فلقد طور الموسيقار صالح الكويتي نغم مقام اللامي ووسع مساحته, وبعد رحيل الأخوين صالح وداود الكويتي استعاد الموروث الموسيقي حفيد داود الكويتي مطرب الراب (دودو تاسا) الذي يمثل الجيل الثالث من الذين ولدوا في إسرائيل لأبوين عربيين.
   تذكر د. خالدة حاتم في صفحة 211 عن دودو تاسا قائلة :"اصدر البومه الأول من العام 2011 واطلق عليه اسم (دودو تاسا الكويتي), وحظي بإعجاب وقبول كبيرين, فيما اصدر البومه الثاني (على شواطي دجلة) في العام 2015", إذ نجح دودو في تأدية الأغاني باللهجة البغدادية, وبسبب نجاحه وجهت لفرقتهم دعوات عدة لإلقاء عروضهم الغنائية في فرنسا عام 2012م وفي هولندا عام 2016م, مما عمدَ دودو تاسا إلى توثيق موروث جدّه الفني عبرَ الفلم الوثائقي (عراق رويال) عام 2014م, فقد خلق حوارية موسيقية بين الحانه والحان جدّه في محاولة اغناء هويته الثقافية الجديدة.
   الكتاب يبين اهتمام الدكتورة خالدة حاتم علوان بالموروث السينمائي والتشكيلي والغنائي ليهود العراق, فقد اسفر الكتاب عن اهمية ودور يهود العراق في مجال الفن, وعن دراسة واهتمام الجيل الثاني والثالث من يهود العراق في المهجر بموروثهم الفني ونجاحهم في توظيف السرد البصري اسلوباً لخلق الذاكرة الجديدة عبرَ استدعاء الفضاء البغدادي بمصداقية تسجيلية وثائقية عالية. لكن لا ننسى أن الكتاب فيه بعض الأخطاء المطبعية ولكنه ذات اخراج جميل ورائع من ناحية الطباعة والغلاف, إذ تنسجم صورة الغلاف مع مضمونه.
 
     
 

137
صدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل كتابي الموسوم : الانتفاضة الشعبانية / آذار 1991 في مدينة الديوانية
    شهدَت أرض العراق عامة ومدينة الديوانية خاصة الكثير من الانتفاضات الشعبية , بسبب الظلم والحيف الذي تعرض لهُ أبناء أرض الرافدين من لدن الحكام المتسلطين على رقابهم , فكان أزلام الأنظمة السابقة يستخدمون القسوة المفرطة في القضاء على الانتفاضات الشعبية , وممارسة التعذيب الجسدي بحق المنتفضين للحصول على اعترافات الثوار أو السياسيين المعارضين للنظام.
      ليس العنف حالة شاذة وفريدة من نوعها في تاريخ الأنظمة الرجعية والقومية والشمولية في تاريخ العراق , فلقد وجد وعي الإنسان ذاته , واحتاج للوسيلة التي تضمن وتصون مصالحه بعد أن اخفقت وسائل الاقناع أو عجزت الوسائل السلمية عن تحقيق مثل هذا الغرض.
      والانتفاضة بهذا المعنى أداة تستخدم من قبل القوى المستفيدة من الاوضاع القائمة , أو دفاعاً عن غاية أو هدف يرتبط بوجود من يمارسه من أجل الوصول به إلى حياة اسمى بعد أن عجزت عن تحقيقه وسائل وادوات التعبير السلمية الاخرى . وتلجأ إلى  الانتفاضة في الحالة الأولى القوى التي كانت قد أقامت ببنى مسيطرة خاصة بها , تستخدمها من أجل الدفاع عن مصالحها في وجه المناوئين لها , والراغبين في الحلول محلها وفي وجه تقدم القوى الاجتماعية التاريخية , تلك التي تتوقف عليها عملية تغيير بنية ووضع المجتمع ونقله من طور لآخر أكثر تقدماً.
      وتكتسب الانتفاضة شكلها السياسي من خلال عملها على نقل القوى الاجتماعية تلك التي خضعت تاريخياً من مستوى الخضوع الذي كانت تعيشه , بما تحمله كلمة الخضوع من معانٍ كالمعاناة من آلام التأخر وعدم العدالة والسلبية التي كانت عليها جراء وقوعها في ظل هذا الوضع إلى مستوى السيطرة.
     والعنف السياسي من قبل السلطات الحاكمة في العراق ليس وليد الصدفة , لذا فهو مخطط لهُ مسبقاً من قبل المناوئين للعراق , إذ لم تكن الإدارة الأميركية وخططها بمعزل عما يدور في الحياة السياسية العراقية , فهي اللاعب الأكبر في صناعة الأزمات , وتحريك الإدارات السياسية لمصالحها , وتمرير المشاريع وتنميتها.
     وبعد تلك العقود جاء الإنهيار للنظام السياسي في عام 2003 , ليُكشف الغطاء عن ما تبقى من جسدٍ متفسخٍ من تلك الدولة , التي أصابت المتأملين فيها بالدوار . فالعنف البربري الذي لم يفارق التاريخ السياسي العراقي الحديث أتخذ طابعاً اثنياً , في حين لاذ مَن تمكن من ترك موطنه إلى أقاصي الدنيا وشتاتها بما تبقى من أحلام وطن.
     لأن ما يحدث في العراق عامي 1991م و2003م مرتبط بأجندات المحتل وسياساته العدوانية منذ تأسيس الدولة العراقية . كما ينبغي التأكيد على مخاطر ما يجري في المشهد السياسي العراقي اليوم , وهو مشهد صراعي ملوث برائحة الفتنة السياسية والطائفية , وفتيل الحرب الأهلية التي بدأت بمرحلة بناء فرق الموت , واعمال الخطف والقتل على الاسم بدمٍ بارد , ثم مرحلة التهجير الطائفي , إذ عناصرها واجندتها ومسوغاتها واهدافها الخفية تبرز في الميدان كحقائق لارتباطها بجذور تأسيس الدولة العراقية.
     كما ينبغي التأكيد ايضاً على أن الأحزاب العراقية الحاكمة بعد عام الاحتلال 2003م اسهمت هي الأخرى في تنفيذ اجندات المحتل وخططه , بعضها مصلحية بقصد مسبق لارتباطها المشبوه معه , وبعضها اسهم في تصعيد العنف لأهداف مصلحية دون قراءة خصوصيات الحاضر وآفاق المستقبل ومخاطره على العراق .  ومن الغرابة أن تدعو هذه الأحزاب إلى الديمقراطية وتداول السلطة , وهي نفسها تمارس الدكتاتورية الحزبية بين اعضائها وما زال الكثير من رؤساء الأحزاب يحكمون أحزابهم منذ نصف قرن من الزمان.
     وقد شهدَ النظام السياسي الذي حكم العراق منذُ عام 1963م وحتى عام 2003م صعود طبقة بدوية جديدة , التي مارست الحكم غير العادل بالريع النفطي ووسائل الإعلام , وأساليب الإبادة الجماعية والترحيل الجماعي للسكان , واحتكار المناصب البيروقراطية , والأهم من ذلك احتكار القرار السياسي.
     إن الاجهزة الأمنية والاستخباراتية التي كانت تمارس العنف السياسي في العراق منذُ عام 1968م ولغاية عام 2003م فضلاً عن نشاطها في جميع المعلومات تشير إلى وجود أكثر من خمسة أجهزة أمنية رسمية تمتد افقياً وعمودياً في المجتمع العراقي , وأغلب هذه الأجهزة (الأمن العامة , المخابرات , الأمن الخاص , الأستخبارات العسكرية) يديرها الأفراد المقربين من الرئيس صدام حسين([1]) . كما يرتبط بهذه الأجهزة عدد كبير من الوكلاء الرسميين وغير الرسميين وهم مزودين بأحدث الأجهزة والخبرات في مجال عملهم.
     وقد سبب النظام السياسي البعثي في موت مئات بل آلاف من البشر في الحرب العراقية – الإيرانية وملاحقة الهاربين من الخدمة العسكرية , وعمليات بتر صيوان الأذن التي مورست ضدهم , وما نتج من عملية غزو الكويت عام 1990م , من دمار وخراب من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها , وما حصل من قمع انتفاضة الجنوب عام 1991م (الانتفاضة الشعبانية)([2]) . وانتفاضة الأكراد في الشمال , وكان المجتمع العراقي بكل فئاته شاهد على هذه الممارسات العنيفة , فالأرهاب كان منظماً وممنهجاً ومستمراً.
    إنّ دراسة التاريخ لا تعني دراسة الماضي من أجل فهمه فحسب , بل تعني أيضاً دراسة الماضي من أجل تحليل الحاضر واستشراق المستقبل والتحكم بمساراته سَلَفاً , ذلك هو هدف هذا الكتاب , إذ حاولت أنّ أضع بين يدي القارئ مرآة عن حقبة عراقية خَلَت , ليرى فيها ببصيرته انعكاسات الحاضر , ويحقق كشفاً جزئياً عن مساراته الغامضة في قادم الأيام , لي شرف هذه المحاولة , وعليّ وزر أخطائها.
      إنَّ التاريخ هو مجموعة اسئلة وإجابات , بل تتعداها إلى ما يلي :
-       كيف ننظر للواقعة التاريخية؟
-       ما علاقة الذاتي بالموضوعي ونحن ندون الواقعة التاريخية؟
-       كيف نستجلي الحدث من ركام التساؤلات؟
     وغير ذلك من الأسئلة التي توثق اجاباتها في كتابنا هذا من خلال الاستقراء للواقعة التاريخية عن طريق اللقاء والاتصال برجال الحدث في تلك الحقبة.
     فالرجال الثوار الذين يصنعون التاريخ يتعاملون مع الحدث ليتركوا بصماتهم في تاريخ الوطن والمدينة شئنا أم أبينا , وكان تضلعي أن أكتب عن تلك الأحداث الرهيبة بقلمٍ صادقٍ وأمينٍ وعقلٍ متفتح.
     يقف اليوم عراق ما بعد الدكتاتورية أمام امتحان صعبٍ وعسير , تتحدد فيه آخر فرصة في البقاء موحداً .. فتحدي بناء دولة المؤسسات , ومكافحة تراث الفردية والدكتاتورية والعنف , وابدالها بقيم التسامح والتعددية والحرية , فضلاً عن تحدي بناء الأمة بما يحقق ثقافة من المشتركات بين أبناء العراق من المكونات المتعددة والأعراق والأديان والمذاهب المتنوعة , كل ذلك يقع على عاتق مَن يريد للعراق خيراً بعد ما شهدت أرضه ظلامات منقطعة النظير في تاريخ العالم.
     شرعت في توثيق أحداث الأنتفاضة الشعبانية/ آذار 1991 منذُ عام 2015 واستكملت المخطوطة ايلول عام 2019 , وأنا اكتب هذه المخطوطة وأدون وأتصل وأراسل وأُحاور من شارك في الانتفاضة بعد مرور زهاء ثلاثة عقود عليها تقريباً , كانت تتوالى عليَّ الأفكار والأسئلة والنقاشات وزوايا النظر , وكيف أنا خرجت من تلك المعمعة حياً بعد أن شاركت أيامها الأُولى دون أنّ تنالني يد أزلام النظام من عناصر البعث وقوى الأمن والحرس الجمهوري ومخابرات النظام , لكن هروبي والاختباء في مدينة الحلة حتى تنجلي الأحداث هو الذي حافظَ على حياتي وحياة عائلتي.
     أدون ما حدث من مقاومة وقتال شرس دارَ بين الثوار وعناصر الحرس الجمهوري وأنا اعيشها لحظة بلحظة خطى لعلعة رصاصهم وقذائف هاوناتهم ودباباتهم , وأكاد أشم رائحة البارود يتصاعد بين السطور واتعطر بدماء أجساد شهدائهم المقطعة الأوصال , بل أكاد أنصت لصرخات الشهداء والمعذبين في ساحات القتال ومعتقلات أمن الديوانية ومعسكرات الفضيلية الرهيب , إذ ساد مزاج الموت في العراق , حتى أنه أضفى نكهة على كل شيء , حتى سادت الروح البوليسية وهي تتسرب إلى ارواحنا وأجسادنا مع بعض القسوة في الأحكام من قبل المجرمين الفاعلين الأساسيين.
     أظنّ أنّ الكتاب لن يرضي الكثيرين لصراحة ودقة نقل المعلومة , وإدانة من تواطئ مع النظام من عناصر البعث والواشين والملثمين , الكتاب محاولة لإعادة توثيق تلك المجزرة الرهيبة التي حصلَت في آذار عام 1991م بحق أبناء مدينتي , ثوار حملوا أرواحهم على راحة أكفهم في لحظة الخلاص من النظام ومنظومته العسكرية والحزبية والبوليسية , فضلاً عن ذلك فإن الحياد المطلوب في هذا الكتاب لن يتوفر على نحو مرضٍ أبداً بسبب أحقية الشعب أن يثور على طغاة عصره , فأنا وقفت بجانب الثوار لا بجانب الطغاة والقتلة والمجرمين , وقد تمّ تدقيق وانجاز مئات المعلومات المستخلصة من عشرات الوثائق الحيّة والمقابلات والاتصالات مع المشاركين في الانتفاضة ,  كما أنّ لهم مصداقيتهم في نقل الحقيقة.
    وقد استغرقت في الحصول على تلك الوثائق والشهادات والحوارات والمذكرات جهداً دام أكثر من أربعة أعوام , آخر الأشياء التي أود التنبيه لها هي طريقة سرد الأحداث , وسيلاحظ القارئ أنّ الكتاب يعتمد على الوثائق واللقاءات والمدونات بشكلٍ أساس , لكنهُ مع هذا اعتمد في بعض الأحيان على ذاكرة المؤلف لأنه عاش تلك الأحداث أولاً بأول.
    لقد دعاني إلى توثيق حدث الانتفاضة حرصٍ خاص على تأريخها وتاريخ المدينة وثوارها , خشية على ضياع حقائقها واحداثها ومعاركها , وانغماس دورها ومنجزها في خضم الصراع بين أبناء الشعب والنظام الحاكم والخصومات والأدعاءات , وما نجم عن ذلك من آراء متضاربة تستبد بها الدوافع الذاتية والانحيازات الخاصة.
     وبما يتوجب عليَّ أنّ أدرج في هذا الكتاب تحفظات اعتذارية , وأودع الكتاب بين أيدي قرائه , وارجو تلمس عذري لأنّ هذا ما استطعت أن أنجزه , وليس لعمل كهذا أن يبلغ حد الكمال.
    ومهما يكن فإن الكتاب يعتمد على شهادات من رجال تلك الحقبة الزمنية , فالذين قابلتهم أو راسلتهم أو اتصلت بهم هم شاركوا في أحداثها ونقلوا لي ما تختزنه ذاكرتهم من أحداث وهي شهادات صدق من قبلهم.
    بعد سقوط نظام صدام حسين , يبدو أنّ اغلب الأحداث كانت أرضاً بكراً , لم يدون أحداثها إلاّ القلّة القليلة , إذ أنّ ما نشرَ من شهادات وكتب ومقالات يبدو شحيحاً قياساً بالفترات الأخرى.
     وإني كم أتمنى أنّ يلتمس القارئ لي العذر في ما سيقرأ في الفصول الخمسة من الكتاب أولاً وأخيراً ليس أكثر من توثيق أحداث الانتفاضة عام 1991م هو وفاءاً للشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن مبادئهم وعقيدتهم وانتمائهم لأرض الوطن , ووفاءاً لمن شارك وتمكن من هجرة أرض الوطن حفاظاً على حياته وحياة عائلته من الاعتقال والتصفية.
     عندما انتهيت من فصول هذا الكتاب شعرت براحة كبيرة وأنا اوثق تاريخ ثوار مقاتلين وشهداء وجرحى أشاوس قارعوا نظام البعث وقاتلوا ازلامه , أشعر براحة البال كمقاتل خرجَ من حربٍ منتصراً على أولئك القتلة والواشين والملثمين الذين استخفوا بدماء أبناء مدينتي جملةً وتفصيلا.
    عليَّ أنّ اقول بهذا الصدد أنّ فصول الكتاب لم تنتهِ كوني أنتظر ردوداً ممن شاركوا في الانتفاضة ولم يسعفني الحظ والوقت بالاتصال بهم لتسجيل دورهم في الانتفاضة , وخاصة ما حصل للثوار في أقضية ونواحي المحافظة . النتيجة باختصار , هو تحول المشهد العراقي إلى ساحة قتال بكل معنى الكلمة حيث تحول إلى شيء شبيه بمركبٍ سكران , مركبٌ يقتتل ركابه بالمجاذيف أمام انظار العالم ودول الجوار , ويكاد جميعهم يغرقون في أية لحظة.   
     هناك اسئلة بسيطة لكنها شديدة العمق , مثل لماذا ترك المؤرخون توثيق أحداث انتفاضة آذار الشعبانية عام 1991؟ ولماذا ترك الروائيون والشعراء الكتابة عن هذه الانتفاضة الشعبية؟ ولماذا اهمل الصحفيون توثيق تاريخ الانتفاضة آنذاك؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة عمدنا في هذا المؤلف عن الإجابة عن جميع الأسئلة من خلال معايشتنا اليومية لأحداث الانتفاضة في مدينة الديوانية ولقاءاتنا بالثوار بعد رحيل النظام عام 2003م لغرض التوثيق التاريخي.
      يتكون هذا الكتاب من خمسة فصول وخاتمة فضلاً عن المقدمة . تتبعَ الفصل الأول الجذور التاريخية لمدينة الديوانية والانتفاضات العشائرية فيها , وصراع العشائر ونفوذها في المدينة , وحصار الجيش العثماني لمدينة الديوانية عام 1916م , والنظام السياسي في عهد الانتداب البريطاني , أما الفصل الثاني فقد سلط الضوء على الحركات التحررية في المدينة , منها حركة عشائر الفرات الأوسط والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء , وانتفاضة فلاحي ناحية آل بدير عام 1941م , وانتفاضة 27 كانون الثاني عام 1948م (وثبة كانون) , وانتفاضة تشرين الثاني عام 1952 , وانتفاضة النصفية في ريف الديوانية شباط 1954م , وانتفاضة عام 1956م , وانتفاضة عام 1957م , وانتفاضة فلاحي الديوانية ربيع عام 1958م , والقائد العسكري عمر علي وتمرده على ثورة 14 تموز 1958م , وفلاحو الديوانية ودورهم في حماية الثورة , مقتل الريس موسى الشالجي على أيدي الغوغاء.
      أما الفصل الثالث فقد تضمن الجانب السياسي في مدينة الديوانية منها : انقلاب 17 تموز 1968م , والجبهة الوطنية والقومية التقدمية , والأكراد العائدون من إيران عام 1977م , وصعود صدام حسين إلى السلطة , والتهجير الثاني للعوائل العراقية إلى إيران , والحرب العراقية الإيرانية , ومحاولة اغتيال صدام وقادة مجلس التعاون العربي في البصرة , والمجموعة جهادية التي اقتحمت منظمة حزب البعث في حي الجزائر , ومحاولة اغتيال محافظ القادسية كاظم بطين ظاهر , وعملية إحراق مضيف صدام في حي الزوراء عام 1990م , وغزو العراق للكويت.
      في حين تتبع الفصل الرابع انتفاضة آذار 1991م/ شعبان 1411هـ , والشرارة الأولى للانتفاضة في مدينة الديوانية , والهجوم على مديرية أمن الديوانية , ومن هم قادة الانتفاضة؟ , وأهالي الكفل الذين استنجدوا بثوار الديوانية , وثوار الديوانية ومؤازرتهم لثوار الحلة , والإنزال الجوي على عشيرة آل سندال في آل بدير , وتقديم الخدمات والحفاظ على أمن المدينة , وصد هجوم الجيش والحرس الجمهوري في منطقة النورية , ومعركة حي الزعيم قاسم (حي 14 رمضان) مع قوات النظام , ودور الثائر رافد حنتوش خضير أغا في الانتفاضة , واستشهاد الثائر الدكتور محمد زغير الإيدامي , وأيام الانتفاضة في قضاء الشامية.
      فيما تضمن الفصل الخامس محاولة استعادة المدينة من قبل الحرس الجمهوري  , ودخول قوات الحرس الجمهوري للديوانية , ودور صدام كامل المجيد وسعدون حمادي في المدينة , والبدء بعمليات قمع الانتفاضة , وما حدث بعد سيطرة قوات النظام على المدينة , وثوار الشعب أم هم غوغاء , وأسباب إخفاق انتفاضة آذار 1991م 20 شعبان 1411هـ , وموقف أزلام نظام صدام بعد فشل الانتفاضة , وحال المعتقلين في معتقل مطار المثنى , وحال المعتقلين في معتقل الرضوانية الرهيب , ومجلس الأمن الدولي يدعو للانعقاد , وظاهرة الوهابي محمد اسكندر صيهود في المدينة , وظاهرة الاغتيالات لعناصر حزب البعث في المدينة , وظاهرة إعدام تجار المواد الغذائية , ومنع أجهزة الستلايت وهواتف الثريا النقالة في المدينة , والغزو الأميركي للعراق عام 2003م , والموقف الإيراني من الحرب الأميركية على العراق عام 2003م.
      كما اعتمد الكتاب على مصادر عديدة ومتنوعة في هذا الكتاب , فنحن محظوظون لأننا نعيش في عصر الانترنيت , إذ أصبح سهلاً على الباحث الحصول على الكثير من المعلومات والوثائق من خلال الاتصال عبرَ وسائل التواصل الاجتماعي (الانترنيت) بمن هاجر خارج العراق الانترنيت ومعرفة دوره الرئيسي في الانتفاضة , لذلك أثبتُ في هوامش بعض الصفحات روابط لبعض المصادر استقيتها من هذه اللقاءات , والمقابلات الشخصية مع المشاركين بالانتفاضة الشعبانية عام 1991م , لتصبح في متناول القارئ.
     لا نبالغ إذا قلنا أنّ المذكرات واللقاءات والرسائل الشخصية كان لها الأثر الواضح في هذا الكتاب بما يخص واقع حال الانتفاضة وقادتها في قضاء الشامية , لا سيما أنّ اصحابها قد أسهموا في اعطاء صورة وإنْ كانت غير متكاملة عن الأدوار التي سجلها الثوار في الانتفاضة الشعبانية عام 1991م.
     كما أبدي عميق امتناني لكل العقول النيّرة التي مهدت لي السبيل لنسيج خيوط هذا الكتاب وابرزهم الدكتور عبد الرضا عوض.
    وقد واجهت صعوبات بحثية اثناء رحلة التوثيق , إذ بذلت وقتاً وجهداً كبيراً من اجل الحصول على المعلومات والمعارك التي دارت رحاها بين الحرس الجمهوري والثوار اطراف المدينة زهاء أربعة أعوام.
     اليوم وفاءً لهذه المدينة وللعطر النازف من وردة الشوق في قلوب أبنائها وددت الكتابة عن تاريخ الانتفاضات العشائرية والشعبية التي حدثت في المدينة عامة وانتفاضة آذار / الشعبانية عام 1991م خاصة , لأن هنالك من يؤيد وهنالك من يعارض , والمعارض يخاف كشف المستور من تعاون آبائه مع النظام الصدامي , ومنهم من كان جاسوساً ساعد العناصر الأمنية والمخابراتية على اعتقال المشاركين في انتفاضة آذار 1991م , ليستغلوه مادياً ومعنوياً لإشباع رغباتهم في الحياة حتى الرحيل , لا يفكرون بتاريخ عوائلهم أو سمعتهم , لأن التاريخ سيسجل ذلك مهما طال الزمان.
      لندوّن في أوراقنا تاريخ هذه المدينة , العالقة بين آلام الجفاف , وأبقتها أمنيات النهوض , وأحلامها الغافية علّها تعود مدينة العنبر وشاي (الكچرات) , والحنين ونسائم هوائها العليل, ونذور أمهاتنا , وشموع خضر الياس في مساءاتنا , وهي تطفو على مياه نهرها , الحالم بالعودة إلى تلك الأيام الخوالي.
      ولتسليط الضوء على القيادات المشاركة في الانتفاضة والأفراد المساهمين منهم الأحياء أو الأموات عرفاناً لدورهم البطولي في الانتفاضة عام 1991م , والأحداث التاريخية التي مرَّت بها المدينة جاء كتابنا هذا تحقيقاً لدراسة تاريخ الانتفاضات الشعبية في المدينة عامة وتسليط الضوء على انتفاضة آذار / الشعبانية 1991م خاصة.
      وأخيراً أتمنى أن يساهم هذا الكتاب في توثيق تأريخ الثورات والانتفاضات التي حصلت في مدينة الديوانية عام 1991م , وإني لأرجو أن أجد من جهود الباحثين عن الحقيقة , وما حدث إبان انتفاضة شعبان /آذار 1991 ما يرمم خلل هذا الكتاب ويرفؤ مواضع الحزم , من أجل توضيح الحقائق خدمتةً لتأريخ المدينة , والباحث يرحب بأي تعليق من القراء حول الكتاب , أو من يرغب باضافة بعض الأحداث التي حدثت إبان الانتفاضة الشعبانية / آذار 1991م لغرض التوثيق , المراسلة على الإيميل :
 nabeel_ . nabeel_alrubaiy58@yahoo.com


138
عايد محمد كريدي.... صديق الطفولة بعد ستة عقود...
د. عبد الرضا عوض
منذ عام 1959 ونحن في عام 2019 والذكريات الجميلة لأيام الصبا تجري في عروقنا ، ستون عاما مضن بنحسهن وجمالهن ، والذكرى صادحة لابل تتراقص أمام اعيننا ، مئات المواقف والاحداث مرت بنا لكن تلك الأيام لها طعم خاص لا يمحى من الذاكرة.
بحكم المهنة  وبحثاً عن رزق تتعيش عليه أسرة قوامها ستة افراد انتقل بنا والدي الى قصبة المحاويل ثم الى شمال القصبة مجاورين الثكنة العسكرية التي يعمل بها وهذه الثكنة العسكرية أسست من قبل الجيش البريطاني سنة 1942، ثم آلت الى الجيش العراقي سنة 1954، وقبل ان اصل الى السن الذي يؤهلني للانضمام في صفوف التلاميذ تمكن الأهل عن طريق احد معارف والدي بقبولي طالباً مستمعاً ثم اصيلاً وأنا في الخامسة من عمري وكان ذلك عام 1957 ، وعند قيام ثورة 14 تموز كنت قد انتقلت من الصف الاول الى الصف  الثاني فجئت نقلاً الى مدرسة سميت رسميا (الريف الزاهر) وللتخفيف يطلق عليها الأهالي (الريفية) ، وهي تسمية مستوحاة من دار المعلمين الريفية التي أصبحت بنايتها ضمن الثكنة العسكرية إذ انشأت في اربعينيات القرن الماضي وعلى بعد 1كم من المدرسة التي قُبلت فيها ، وبالكاد اتذكر مفردات أيام الثورة الأولى.
كانت المدرسة قد شيدت سنة 1946م وهي مكونة من ستة صفوف بطابق واحد ، والقبول فيها مختلط (بنين وبنات)، وطلبتها خليط من مستويات اجتماعية وثقافية متفاوتة ، ومن مدن عراقية شتى، عرب ، وكرد ، وتركمان ، فمنهم أولاد الذوات ومنهم من ينحدر من طبقة فلاحية سحيقة ، واتذكر كان معنا عدد من الطالبات علق بذاكرتي اسماء بعض منهن من بنات الضباط الكبار في المعسكر تميزن بملابسهن الفاخرة قياساً مع الغير ، ولم تغب اسمائهن عن ذاكرتي رغم مرور سنين طوال وكان معنا في الصف طالب اسمه (اياد محمد سالم) ، وعند قيام محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959 واشتراك احد العناصر العروبية بالمحاولة (اياد سعيد ثابت) لم يخفِ أياد تأييده لحركة الشواف فرحنا نطلق عليه الاسم الثاني فيغتاظ غضبا ، ولكن سرعان ما نهون عليه مع العلم ان والده كان فعلا من العروبيين ومن محلة السفينة بالأعظمية وقريب لذاك المتهم، التقيت (أياد ) اثناء دراستي ببغداد وكانت لحظات لا تنسى حينما استذكرنا تلك الأيام البريئة الجميلة ..
كان من اساتذتها الذين بقيت اسمائهم عالقة بذاكرتي كاظم عبد الحمزة البنيان ، وشهيد جاسم الزبيدي قصير القامة من القوميين العرب ، وغازي احسين الذي لم تفارق شفتيه السيكارة ، ومحمود رشيد الجبر الذي اظهر تعاطفاً كبيراً في قمع حركة الشواف يومذاك ، وقد علمت أن هذا الرجل (محمود) قد تعرض للسجن عدة مرات بعد انقلاب شباط 1963 وقد توفي في هذه السنة (2019) ، ومحمد العميدي (من آل طربيس)، هؤلاء من قصبة المحاويل ، وهناك فئة ثانية من مدينة الحلة، اذكر منهم الأساتذة: عبد الله حسان الأحمد الذي اكمل دراسته للحقوق وقتذاك وياسين علوش ، وعبد الحسن الدليمي (ابو اسامة) ، وعبيد (معلم الرياضة) لا اتذكر اسم والده.
 في الصف الثالث جاء نقلا من مدينة الحلة طالب عليه سمات النعمة وذلك بمؤشر بسيط هو انه يرتدي القميص والبنطال اسوة بأولاد الذوات في حين كان بقية تلاميذ المدرسة يرتدون (الدشداشة) وينتعلون حذاء الكتان الابيض فقط في أحسن الأحوال،!! وهذا التلميذ الجديد اسمه (عايد ) وعَرفنا به شقيقه الأكبر (الحاج مهدي كريدي أبو زهير) الذي تجمعنا واياه جورة حسنة ، قال: ان عايد يسكن مع شقيق آخر يكبره هو ضابط اسمه (صباح) ، كان (عايد) وما زال ، دمث الاخلاق ، خفيف الظل ، لا تفارقه المزحة ، تقرب مني وتقربت منه ، اعتقد ان ذلك بسبب وحدة المنبع الجغرافي ، فكلانا الوحيدين في المدرسة قد قدمنا من الحلة، فضلاً عن ان شقيقه الأكبر(ابو زهير) تجمعه مع والدي صداقة متينة ومخلصة بقيت على حالها حتى وفاتهما رحمهما الله ، فهو يناديني من تلك الأيام بـ (ابن الملا) اشارة لوالدي الذي يكنى عند اصدقائه بالملا ، وبقي هكذا حتى ايامنا هذه.
كان ذلك التلميذ الذي وصلنا نقلاً لم يتباه علينا مثل بقية ابناء الميسورين بالرغم من ان والده كان ضابطاً في الجيش العراقي ، وشقيقه ضابط شاب رياضي برتبة ملازم اسمه (صباح)، ولابد ان نذكر ان عايد مع مرور الأيام اصابته العدوى فتطوع هو ايضا في سلك العسكرية بعد قبوله طالباً في كلية الطب وتخرج فيها طبيباً عسكرياً قضى وطراً من عمره متنقلاً ما بين بغداد وكركوك ، كان عايد من المتفوقين يتنافس معه على الصدارة في الفصل (عبد الهادي مكطوف) الذي هو الآخر اصبح طبيباً يعمل ويسكن حاليا في الحلة.
المدرسة كانت تبعد عن دارنا بمقدار لا يزيد عن مائة متر ، وعايد يصل المدرسة بسيارة عسكرية تنقله مع بعض التلاميذ من ابناء الضباط ، لكن اغلب البقية الباقية من التلاميذ كان وصولهم للمدرسة باستخدامهم ركوب الحمير، فكان هناك مربط في باب المدرسة لعشرات الحمير بجانب سيارة الأستاذ عبد الله حسان الاحمد (الفوكس واكن)، وجود الحمير كان تندر عايد كونها غريبة عنه فبقيت تعليقاته، بوصفها احياناً مقاربة بأسماء السيارات آنذاك ....
من أجمل واندر الذكريات التي بقيت عالقة في الذهن ان (عايد) قد اخبرنا في يوما ما بأن مهرجاناً رياضياً سيقام في المعسكر وان شقيقه صباح سيشارك كأحد المتسابقين في ذلك الكرنفال ، وكان ذلك في ربيع 1960م ، ونحن لم نعرف ماهي طبيعة المسابقات وفعلاً اقيم المهرجان لألعاب سباقات الساحة والميدان في ساحة مستديرة زرع حولها اشجار الكالبتوس كان الإنكليز قبل ان يغادروا المعسكر قد اعدوها لمثل هذه المناسبة والسباق كان بمشاركة عدد من الوحدات العسكرية حضرت من أماكن اخرى ، وحضرت فرقة موسيقى الجيش التي استقدمت من مقرها في مدينة الديوانية حيث مقر الفرقة الاولى ، وكان اسم الزعيم عبد الكريم قاسم يتردد كثيراً ، وجرى الاستعراض الرياضي العسكري بحضور رجال ادارة الدولة في اللواء وبدأت المسابقات، وأمر لا ينسى ان وزع علينا قناني (الكوكا كولا) مجاناً ، وهذه هي المرة الاولى التي احضر واشاهد مسابقات الساحة والميدان في حياتي مباشرة ، ومن أجمل المفاجأت أن يكون (الملازم صباح محمد كريدي) بطلاً للساحة والميدان في ذلك الاحتفال ، فازداد الفتى بهاءاً فوق بهاء. وعرفت لاحقاً ان من بين المتسابقين صديقنا الخلوق عبد الأئمة عبد الهادي ميرة ، وذكر لي بعد وقت طويل ان الحزب الشيوعي كانت له يد في انجاح ذلك المهرجان.
لم يكن لدينا وسائل لهو وترفيه كما هو الآن عليه ، فضلاً عن اننا لا نتمكن من قراءة القصص بعد ، ولا وجود لدار عرض سينمائي والبث التلفزيوني ضعيف جداً ، فكنا نتسلى بأسماء افلام لم نشاهدها (طرزان ، هرقل الجبار ، عنتر وعبلة) ومع اسماء الرياضيين الكبار من الشباب آنذاك (عمو بابا ، يورا ، جمولي) وهكذا ، ثم حدث امر لا اعرف هل هو صدفة ام بتبويب مركزي هو قدوم شقيق عايد اسمه (صلاح) يكبره سنوات مطبقاً للتعليم في مدرستنا كي يؤهل للتخرج في دار المعلمين ثم ليعين في سلك التعليم فزاد رصيد عايد نقطة على زملائه.
كانت الحياة بسيطة وغير معقدة ، لكن وعياً تمدد في شخصية اي فرد منا بسبب احداث الاعوام 1958-1959 ، فالمناهج كانت غير ثابتة وقضينا سنة أو سنتين نتعلم بطريقة الملازم المدرسية ولا وجود للكتب عندنا في تلك السنين، والمدرسة مشمولة بكاملها بــ(التغذية المدرسية) وهذا ما كان معدوما قبل قيام الثورة ، كذلك كنا نتناول جبراً كرات زيتية واحدة كل يوم قبل التغذية قيل لنا انها (زيت السمك)، تفيد تقوية الجسم.
وكان من معلمينا من يعتقد بالفكر العروبي ، ومنهم من يعتقد بالفكر الشيوعي ، ففي احداث 1959 يتصرف التلاميذ على انهم رجال رغم ان جغرافية المكان لا تشجع على التظاهرات ولا المسيرات ، كان مدير المدرسة رجل كيس اسمه طاهر آل طربيس العميدي ، معتدل في ادارته ، اتذكر ان التلاميذ ارادوا الخروج من المدرسة ليعربوا عن فرحتهم بفشل حركة الشواف فأراد أحد المعلمين من أصحاب الفكر العروبي منعهم (....) لكن الاستاذ محمود رشيد شتمه واراد ان يضربه فخرج التلاميذ وهم يهتفون بحياة الزعيم عبد الكريم وسلامة ثورة تموز المجيدة حاملين صديقنا (عبد الرزاق مكطوف) على الاكتف مبتهجين بالقضاء على تلك المؤامرة !!، وبعد مدة قصيرة حضر احد منتسبي مديرية المعارف في الحلة ممن يجيدون الرسم وعرفت فيما بعد انه محمد علي شاكر شعابث فرسم خارطة الوطن العربي على الجدار القريب من غرفة المدير وشخص دولة الجزائر التي لم تستقل بعد فكتب (الجزائر الحرة)!!.
ولم انس ذلك المعلم الشاب الذي قدم من بغداد الكاظمية اسمه (وداد) ببشرته البيضاء وعيونه الزرق ، وخلقه الحميد ، واذكر انه جلب معه مرة جهاز تسجيل (ابو البكرة) واسمعنا اناشيد وطنية ،ومن الطريف أسرني عايد وهذه لم انساها (تدري لو استاذ وداد بنية جان يخبل) ، وكنا نضحك خلسة ، ومع ذلك كان اغلب المعلمين من ابناء الحلة وبمجرد معرفتهم بانحدارنا المدائني نكون محل اهتمام وتقدير هؤلاء الاساتذة .
لم يطل بنا المقام في (الريف الزاهر) فقد انتقلت أنا في خريف عام 1962 الى مدينتنا الحلة في العام نفسه قبل ان ننهي الدراسة الابتدائية ، فكنت انا في مدرسة صفي الدين الابتدائية ، واعتقد ان عايد قد امسى في مدرسة الرشاد الابتدائية وهي الأقرب لبيت والده في محلة القاضية.
كنا نلتقي في مناسبات على غير موعد واحياناً بفترات متباعدة وسريعة فمشاغل الحياة ابعدتنا لكن الموّدة بقيت كما هي لم تغيرها الأيام ولا السنون.
ايام على قصرها جسدت القول الحكيم (العلم في الصغر كالنقش على الحجر) ، التقيت بمئات لا بل بآلاف من طلبة وعمال وموظفين ، ولم يعلق بذاكرتي الا القليل فكان (عايد) قد احتل مساحة في الذاكرة ومن المؤكد ان تلك الأيام على قلتها بقيت احداثها تتراقص امامنا .....
هذه الذكريات كتبتها منتشلا اياها من ذاكرة  محملة بمختلف القضايا بعد ستة عقود بناءاً على طلب الدكتور عايد وانا ازوره بعد ان ألمت به وعكة صحية ، فقال لي : (بروح الملا ، رجائي ان تدون ذكريات تلك الأيام كما هي ، فإنها متعة بعد شقاء مرير مع هذه الحياة الفانية ، وحتى يعرف ابنائنا جزء من السيرة) ، وهذا له ما اراد , وختمتها اليوم الفاتح من تموز 2019م 0
والحمد لله رب العالمين..             

139
حسين الصافي متصرفاً للواء الديوانية
نبيل عبد الأمير الربيعي
     بعد انقلاب المشير عبد السلام محمد عارف يسانده حزب البعث على الزعيم عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963 أصبح السيد حسين الصافي متصرفاً على لواء الديوانية , وفي حفل جماهيري كبير بالديوانية , عندما كان السيد حسين الصافي متصرفاً في لواء الديوانية وبحضور أحمد حسن البكر رئيس الوزراء يومذاك , وكانت الجمعيات الفلاحية قد أعدت لهذا الحفل حشوداً واسعة , وحدث أن قريب من هذه الحشود هناك بعض المحلات المغلقة بأبواب من الجينكو المضلع (فنرات) , ومن دون وعي كان أحد الأطفال يحمل عصا يلعب بها فوضع العصا على أحد الفنرات وسحبها بشدة , فحدث صوتاً يشابه صوت إطلاق الرصاص بشكل مستمر , فحدث الهرج والمرج بين الفلاحين لاعتقادهم أن هناك مؤامرة انقلاب من قبل الحزب الشيوعي العراقي المعادي للحكم وستتم تصفيتهم , فترك الفلاحين أحذيتهم وفروا هاربين , وبعد معرفة السبب الحقيقي لهذا الصوت من عمل هذا الطفل كانت هوساتهم واهازيجهم (مليوصة يا حسين الصافي) , و"بسبب هذه المتاعب والرعب والجهود التي بذلتها المنظمات المهنية أشار السيد حسين الصافي لعريف الاحتفال بإعلان يوم غد عطلة رسمية في لواء الديوانية باسم المتصرف , فأستغرب البكر من هذا التجاوز وبحضوره قائلاً لهُ : إنّ هذا القرار ليس من صلاحية متصرف اللواء وإنمّا هو من صلاحية مجلس الوزراء , فقال له وبسرعة البديهية المعروفة عنهُ : يا أبو هيثم انني اتمتع بثقتكم وهي أغلا صلاحية"( 1).
     وبعد تشرين الثاني 1963 حدثَ انقلاب المشير عبد السلام عارف على حزب البعث وميليشيا الحرس القومي التابعة للحزب وما قامت به هذه الميليشيا من قتل واغتصاب وتصفيات جسدية لضحاياها من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي تم إيداع السيد حسين الصافي ورئيس الوزراء بعد انقلاب 1963 في السجن , وشملت حملة الاعتقالات عناصر حزب البعث وميليشيا الحرس القومي , وشاءت الصدف أنّ زار الدكتور علي الصافي شقيقه السيد حسين لإبلاغه بخبر سار , فقد رزقه الله ولداً .
      قال له ماذا تسميه يا حسين؟ أجابه سمهِ مصعب , وكان البكر بجواره , فردَ عليه قائلاً اسم مصعب يعود للسُنة وليس بكم يا حسين , أجابه حسين : إنّ اسم ولدي السري هو علي إلاّ أنني اسميته مصعباً لغرض أنّ يعيش معكم , وكان هذا الحوار لا يخلو من المداعبة( 2).
    بعد انقلاب البعث في 17 تموز عام 1968 وعودته للسلطة ثانية , تمَ تعيين حسين الصافي وزيراً للعدل , "وفي مراسيم أداء اليمين في القصر الجمهوري أمام أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية ظهرت الصورة في الصحف بأن البكر مبتسماً بابتسامة عريضة تعبّر عن امور خفية , ولدى السؤال من المقربين عن السبب , أجاب البكر لقد تذكرت الهوسات الشعبية (مليوصة يا حسين الصافي).
      استدرك حسين الصافي وتدارك الأمر بعد استيزاره لوزارة العدل حيث قام في مبادرات تصحيحية جريئة بدأت بكسب رضا رؤساء العشائر في منطقة الفرات الأوسط بتقديم الاعتذار شخصياً لهم واقامة ولائم عامرة لكل فرد منهم , وهو في موقع أعلى بالمسؤولية , حيث فتح معهم صفحة جديدة أعاد فيها رصيده الشعبي والأسري , وفي خطوة شجاعة أخرى أصدر قرارات وأوامر وزارية هامة لتعيين عددٍ كبير من المحامين القدامى وبعض الحقوقيين المؤهلين لمناصب القضاة في المحاكم وبدرجات تصاعدية لأغراض التقاعد , وذلك استثناءً من الضوابط المعتمدة . وقد اعتبر مدير عام الوزارة هذه الاجراءات تجاوزاً على صلاحياته فقدم استقالته معترضاً عليها , إلاّ أن الصافي قبِلَ الاستقالة على الفور( 3).

المصدر:
 1-الطفيلي. عبود. رحلة العمر وحصاد الأيام. ج1. دار الرافدين. بيروت. 2014. ط1. ص245.
2- المصدر السابق. ص245.
 3-المصدر السابق. ص246/247.

140
ثورة 14 تموز ومقتل الريس موسى الشالجي في لواء الديوانية
نبيل عبد الأمير الربيعي
      في كل وقت ومرحلة تاريخية جديدة هنالك فساد وإفساد بسبب تدهور الأمن وضعف الدولة الجديدة حتى تستقر وتعيد نفسها وتنفذ القانون بصرامة بحق من يدعو إلى الإخلال بالأمن, كان ضمن معسكر الفرقة الأولى إدارة لتموين وتوزيع المواد الغذائية (الأرزاق) على الجنود ومنها الطعام لمراتب الجيش في الفرقة الأولى أو ما يسمى (القصعة), والثلج أيام الصيف, كان المسؤول عن إدارة تموين الفرقة الأولى في مدينة الديوانية الريس  موسى الشالجي من أبناء مدينة بغداد وبسبب عمله العسكري استقر في مدينة الديوانية, متزوج وله ابن يدعى دريد.
      عام 1958م وبعد الثورة بفترة, و معرفة الريس موسى الشالجي بالفساد الذي حلَّ في صفوف الضباط الصغار ونواب الضباط من سرقة طعام الجنود وما يسمى (الإعاشة) أو الأرزاق, بدأ بالتحقيق في من يساعد على سرقة الارزاق الجافة الخاصة بالجنود ولم تصلهم إلّا كمية من الطعام البائسة والقليلة, نتيجة التحقيق من خلال اللجان وتحديد المفسدين, كانت مكافأة الريس موسى الشالجي بتحريض من قبل بعض الفاسدين ببث إشاعة بأن الريس الشالجي من الخونة والمتآمرين على الجمهورية, وعند حضوره للأشراف على توزيع الارزاق على الجنود بدأ الجدال حول الخيانة العظمى واتصاله بالعملاء الإنگليز عن طريق الاتصال بهم تلفونياً وهي تهم بعيدة كل البعد عن سيرة وسلوك الشالجي, البعض يقول سبب مقتله أنه كان يختبر بعض المراتب لغرض الترقية, ويبدو أنّ فشل عدد منهم في الامتحان ,دفع الجنود إلى الهجوم عليه والاعتداء بالضرب بواسطة الحراب والسكاكين والأعمدة, مما سبب فقدان حياته, هجوم الرعاع على الشالجي أدى إلى مقتله في الحال من بعض الجنود الغوغاء, وبدأ جثمانه يُشد بالحبال والسحل في شوارع وأزقة مدينة الديوانية, حيث بدأ سحل الجثمان من باب مقرّ قيادة الفرقة الأولى في صوب الشامية و باتجاه مركز المدينة, حتى انسلخ لحمه عن عظامه, وكانت عملية السحل قد وصلت بمرور الجثمان على داره ومحاولة الهجوم على ولده وزوجتة لقتلهما, لكن كانت الزوجه حذرة بعد معرفة الخبر من الجيران بما فعل الجنود الغوغاء بجثة زوجها, فأقفلت باب الدار الخارجي عليها خائفة مرعوبة باكية حاضنة لطفلها, الغوغاء لم يكتفوا بذلك بل ربطوا أرجل الجثة بالحبال وتمّ تعليقها على شجرة اليوكالبتوز وأمام بناية متصرفية المحافظة, وما قام به (جاسم أبو الحبو) بقطع اصبع اليد اليسرى وهو (البنصر) ليحصل على حلقة زواج الشالجي الذهبية.
       بعد هدوء عاصفة الغوغاء, أخذت الزوجة ابنها مغادرة مدينة الديوانية متجهة إلى بغداد لمقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم واطلاعه على ما فعل الضباط والجنود بالريس موسى الشالجي, كانت النتيجة وبعد أن هدأ الحال وتمّ انزال الجثة, تبيّنَ للهيئة التحقيقية حقيقة ما حصل للرجل, فتمّ اعتقال العديد من هؤلاء وأشيع وقتها أن الإجراءات القانونية قد اتخذت بحق عدد منهم وقد تمّ إحالة الضباط والجنود إلى المحكمة العسكرية والحكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص في ساحة الرمي في مقر الفرقة الأولى, والبعض ناله السجن ومنهم مشكور السماك, وهذا عقاب الجناة والفاسدين والقتلة وكل من يعتدي على الآخرين, كانت سادية الناس ووحشيتهم ما فعلوا من فعل شنيع ومن اطلاق النِّسوَة الغافلات الهلاهل والزغاريد لما يصنع الأوباش, وهتافات الرجال والشباب وصراخهم ودعواتهم بالانتقام من المتآمرين والخونة, وهي تهمة جاهزة لكل من يرغب بالانتقام من الخصم السياسي أو العشائري أو الطائفي, أو ثأراً لعداء قديم بين طرفين, بذلك كان توظيف جريمة القتل لأسباب سياسية ووطنية غير حقيقية.

141
السيرة الذاتية لصبري أفندي كما يرويها الدكتور فاروق برتو(4-4)
نبيل عبد الأمير الربيعي
إمارة الكويت والزعيم قاسم وصبري أفندي

      انتبهت حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم إلى وجود صبري أفندي على قيد الحياة عندما قرر قاسم ضمّ الكويت إلى العراق , فقام بعض الصحفيين بمقابلة صبري أفندي ليحصلوا منه على تصريح بأنه كان يدفع شخصياً راتب شيخ الكويت وموظفي الدولة فيها على اعتبار أن الكويت كانت تابعة لولاية البصرة أيام الحكم العثماني . وكان الغرض من ذلك طبعاً مساندة ادعاء الحكم بتبعيّة الكويت إلى العراق . وقد أكد صبري أفندي ذلك فعلاً وتمّ نشره في الصحف.
   يذكر فاروق برتو في مذكراته حول ساعة وفاة صبري أفندي في ص61 قائلاً :"توفي صبري أفندي عام 1961م , وقد عاشت زوجته نجيبة في نفس الدار البسيطة وكانت احوالها المعاشية صعبة إلى حدٍ ما , إذ كان دخلها الوحيد هو راتب ابنها كمال , بعد أن كان صبري أفندي قد أوقف أكثر ما يملك من دور وممتلكات وقفاً ملّياً (للمنفعة العامة) , وباع داره الكبيرة لمواجهة تكاليف الحياة . وقد توفيت زوجته نجيبة تلك الانسانة الطيبة في عام 1975م".








142
السيرة الذاتية لصبري أفندي كما يرويها الدكتور فاروق برتو(3-4)
نبيل عبد الأمير الربيعي
صبري أفندي وأحدث فرهود محلات اليهود  في مدينة البصرة حزيران 1941م
  في شهر آيار 1941م قامت ما سُميت بحركة رشيد عالي الكيلاني , كانت مصادر المعلومات حول الحركة يتناقلها راديو (بغداد ولندن وبرلين وأنقرة باللغة العربية) , وقد لجأ الوصي عبد الإله إلى البصرة فاراً من بغداد يرافقه عدد من وزرائه , والتحق بهم صالح جبر الذي كان متصرفاً للواء البصرة يومذاك , وقد أقاموا حسبما قيل على ظهر بارجة عسكرية بريطانية في شط العرب.
   كانت الحياة تسير بصورة اعتيادية في مدينة البصرة رغم تأزم الموقف ونُذُر احتلالها من قبل البريطانيين , كان الجو متوتراً في المدارس الثانوية والمتوسطة حيث توقفت الدراسة وتجمع الطلبة وشاركوا في المظاهرات , وبعد أيام دخل البريطانيين العشار متوجهين لاحتلال بناية المتصرفية , وقد انتشرت قوات بريطانية بعدئذ في العشار ومن ثمّ بعد أيام وصلت إلى البصرة القديمة . إذ ترك موظفو الدولة وظائفهم وانصرف أفراد الشرطة إلى بيوتهم وساد شعور بضعف الأمن في المدينة , يذكر د. فاروق برتو في مذكراتهحول تلك الأحداث قائلاً ص79/83 :"وما هي إلاً بضع ساعات حتى بدأ (الفرهود) في سوق البصرة القديمة بكسر وسرقة مخازن ودكاكين اليهود أولاً وتلاه الهجوم على مخازن المسلمين... لم تحدث حسب علمي اعتداءات على اليهود ولم تُهاجم دورهم في فرهود البصرة القديمة , ولا أعلم ما حدث في العشار , وفي مساء ذلك اليوم اجتمع عدد قليل من وجوه محلتنا وعلى رأسهم صبري أفندي وقرّروا تنظيم حراسة المحلة حتى صباح اليوم التالي وتزويد عدد من شباب المحلة بأسلحة بسيطة للقيام بذلك . وأحسب أن شيئاً مماثلاً جرى في العديد من محلات البصرة ذلك المساء . كان والدي حينئذ رئيساً لبلدية البصرة بالوكالة إضافة إلى عمله محامياً , وكان رئيس محاكم البصرة بريطانياً يدعى مستر لويد , وما أن سقطت البصرة حتى استبدل لويد ثيابه المدنية بملابس عسكرية حاملاً رتبة عقيد في الجيش البريطاني واصبح مستشاراً لقائد جيش الاحتلال وقيل أنه كان الحاكم الفعلي للبصرة.
      في مساء اليوم الثاني من الفرهود أعلن منع التجول وحالة الطوارئ من قبل هيئة تشكلت للمحافظة على الأمن برئاسة أمين العاصمة أرشد العمري , وتدخلت الشرطة لإيقاف الاعتداءات والسرقات , وبعد ذلك صدر بيان يمنع إخفاء البضائع المسروقة والاحتفاظ بها ويأمر بتركها في مواقع تم تعيينها مع التهديد بعقوبات قاسية لمن يُعثر عليها لديه.. و"أخذ الهدوء والأمن يعودان شيئاً فشيئاً".
 









143
السيرة الذاتية لصبري أفندي كما يرويها الدكتور فاروق برتو(2-4)

نبيل عبد الأمير الربيعي
قصة أغنية صبري أفندي صندوق أميني البصرة
امتلك صبري افندي بستاناً صغيرة جميلة (بقجة) كما كانت تسمى باللغة التركية , في محلة المعصرة بالبصرة . والمعروف أنّ تلك البقجة كانت مرتعاً للطرب والرقص في شبابه تحيي لياليها المطربات والراقصات ومنهن صديقة الملاية نفسها , ويقال أنّ مغنية أخرى هي أول من غنّى الأغنية التي مطلعها :
لفندي لفندي عيوني لفندي الله يخلّي صبري صندوق أميني البصرة
لكن الأغنية ذاعت وانتشرت عندما غنتّها صديقة الملاّية ثم عدَّت من أغاني التراث الشعبي . إلا ان الأستاذ حامد البازي يروي قصة (صبري أفندي) مع الأغنية بشيء من الإفاضة اذ يذهب إلى أنهُ كان هناك مغنية حلبية اسمها (حياة) , وكان والي البصرة (الدروبي) يحبها , ولكنها كانت لا تأبه بحبه , ولذلك أرادَّ الانتقام منها , فساق ولدها للخدمة العسكرية بينما لم يكن قد بلغ السن القانوني للجندية , وكان صبري أفندي بحكم وظيفته المالية عضواً في لجنة السوق العسكرية , وقد استاء من عمل الوالي ورفض قرار السوق , ما أدى إلى أزمة بين الوالي وصبري أفندي انتهت بأن دفع صبري البدل النقدي عن ابن المغنية وهو حل وسط ، اذ استاء صبري من أن يرى الوالي ينزل إلى درجة الانتقام من المغنية بالخروج على القانون . وبرغم أن صبري أفندي كان يحب الطرب فهو لم يعمل فاحشة أو يشرب خمراً طيلة حياته ، على أثر هذا الحادث نظمت المطربة حياة الأغنية بنفسها واعتقدت أن صبري أفندي يحبها فحاولت التحرش به . ولما رفض ذلك أشارت عليه أن يعاشرها (بسكوت) أي سراً , ولكنه رفض ذلك , وقد غنت (حياة) تلك الأغنية وكان ذلك في العام 1912م في حديقة صغيرة تقام عليها اليوم بناية محاكم البصرة . وكان من ضمن مقاطع هذه الأغنية :
بلسكوت بلسكوت.. عاشره بلسكوت..
الله يخلي صبري.. صندوق أمين البصرة
رمانتين بفد أيد متنلزم
غير ان الأستاذ البازي كان قد ذكر بان المطربة (نجاة) غنت هذه الأغنية في ملهى (اولكا) في البصرة في العام 1912م , وغناها عبد الله أفندي مسجلا ذلك اسطوانة حاكي (كرام فون) سنة 1928م , ثم غنتها صديقة الملاية وسجلتها على اسطوانة العام 1926م فاشتهرت بها وكان الناس اذا ارادوا ان يصفوا شخص بالكرم والنزاهة يقال له : (قابل انت صندوق امين البصرة)، ولكنه عاد مستدركاً أنه في سنة 1928م غنى المطرب إسماعيل أفندي هذه الأغنية مسجلة على اسطوانة (بيضافون) , وعلى وجهها الآخر أغنية (رمانتين بفد أيد متنلزم) , وفي سنة 1932م غنت المطربة البصرية صديقة الملاية (فرجة بنت عباس) هذه الأغنية على اسطوانة أيضاً , وألحقت بها ما يشير إلى بصريتها , مثل قولها (يا عسكر السلطان بالبر يخيمون) مشيرة إلى معركة الشعيبة . كما قالت أيضاً (ما تنفع الحسرات) (رحنه من ايديهم) مشيرة إلى ضياع البصرة من ايدي العثمانيين . ويتابع : ليس لي إلاّ أن اعرج على ما ذكره الاستاذ المرحوم أمين المميز بكتابه (بغداد كما عرفتها) في معرض كلامه عن بعض فئات المجتمع البغدادي . أي الفتيان المعروفين بوسامتهم وجاذبيتهم والذين كثيرا ما ترددت أسماء بعضهم في الاغنيات والبستات البغدادية التي كانت تغنى في المقاهي البغدادية المعروفة . وقد حشر الأستاذ المميز اسم (صبري أفندي) الذي خلب الألباب بوسامته وجماله ضمن هذه الفئة التي خلدت البستّات أسماءهم ومنها بستة :
الأفندي الأفندي.. عيوني الأفندي
الله يخلي صبري.. صندوق امين البصرة بس إلي وحدي







144
السيرة الذاتية لصبري أفندي كما يرويها الدكتور فاروق برتو(1-4)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    صبري أفندي (صندوق أميني البصرة) , الاسم الذي كان يتداول بين الناس ثلاثينيات القرن الماضي بسبب الأغنية الشعبية التي خلّدت اسمه فيها المطربة (صديقة الملاّية) , حيث ذاع لقب (صندوق أيني البصرة) في عالم الطرب العراقي.
    يروي لنا الدكتور العراقي المغترب فاروق عبد الجليل برتو في كتابه الموسوم (ذكريات عراقية عن الكفاح والاحباط – والإرادة والأمل – العراق 1928م-1969م) السيرة الذاتية للدكتور برتو خلال الحقبة الزمنية من حياته قبل خروجه من العراق والهجرة إلى النمسا , لقد سلط الضوء على حياته العائلية وحياته السياسية وانتماءه لصفوف الحزب الشيوعي العراقي , والسيرة الذاتية لصبري أفندي زوج عمته نجيبة.
     ولد صبري أفندي محمد ملّة سلمان في لواء البصرة عام 1875م , وتخرج من المدرسة الرشيدية وتسلم خلال حياته وظائف عدة منها : مدير مالي في لواء البصرة , وصندوق أمين البصرة لولاية البصرة.
       يذكر د. فاروق برتو في ص56 من كتابه واصفاً زوج عمته قائلاً : "كان صبري افندي فارع القامة , عريض المنكبين , متين البنيان مهيباً , جميل الصورة , يمتاز بالأخلاق الحميدة , والكرم , ويقرض المحتاجين , ويتصدق على الايتام , منذُ رأيته في طفولتي وهو ابن الخمسين عاماً (د. فاروق برتو تولد 1928م) أو حواليها , كانت له لحية بيضاء خفيفة تحيط كامل وجهه . كما كان يضع على رأسه الفينة (الطربوش) ويرتدي جُبّة بيضاء تزيد صورته جلالاً".
      الكثيرين خارج البصرة ربّما يحسبونه شخصية أسطورية , وذلك لما للقب (صندوق أميني البصرة) من وقع تركي عصملّي (عثماني) على السمع , إلا أن صبري أفندي ظلّ منذ شبابه محباً للعثمانيين ولتركيا الكماليّة بعدهم . يذكر الدكتور فاروق عبد الجليل برتو في كتابه ص56 عن زوج صبري أفندي قائلاً : "وظلّ منذُ عرفته عن قرب في طفولتي وبداية شبابه مُحباَ للعثمانيين وحكمهم".
     ومن الغريب أن بعض الأشخاص , ممن لم تكن لهم علاقة أو صلة تذكر , شاءوا أن يرددوا عنه وعن شخصيته مؤخراً في وسائل الاتصال الحديثة (Face book) حكايات عن الواقع فصورّوه حسبما شاءت خيالاتهم أو أغراضهم.
زواجه الأول
     كان صبري أفندي متزوج من ابنة خالته , التي ولدّت له (فاضل وأحمد) , توفيّ فاضل مبكّراً بمرض السل , وله ولد اسمه عباس وبنت اسمها خالدة . أما أحمد (يعرف باسم أحمد أيوب) , فقد كان شخصية ظريفة محببة بالنسبة لأقربائه , أكمل الدراسة الثانوية واشتغل كاتباً في محاكم البصرة , كان أحمد طويل القامة وسيماً , سريع النكتة حاضر البديهية , كريم النفس , يتذكره الدكتور فاروق برتو في مذكراته قائلاً ص59/60 : "ما زلت أتذكر أن أهلي كانوا يعطونني (عيديّة) خمسين فلساً (درهماً) كلّ يوم من أيام العيد وأنا صغير , وعندما رآني أحمد في الشارع صدفة أوقفني وقال لي : عيدك مبارك يا فاروق وأعطاني ريالاً , وكان ذلك أول ريال (قطعة فضية كبيرة تعادل مائتي فلس) امتلكته وأريحية كبيرة من عمّو أحمد . أما صبري أفندي أو جدّو صبري كما كنت أسميّه فكان يمنحني عشرين فلساً , وكانت العملية تستغرق عدة دقائق عادةً إذ يطلب مني أن أفتح كفي ويتباطأ في وضع الفلوس فيه فلساً فلساً أو آنة بعد أخرى (آنة أو عانة وتعادل أربعة فلوس , والكلمة لعملة هندية) مستأنساً باستثارة رغبتي وطمعي في المزيد , وكان يكرر ذلك مع كافة أطفال العائلة في الأعياد".
    تزوج أحمد من امرأة اسمها لُطفية تقرب إلى عائلته , كان بينهما حب واعجاب متبادل قبل الزواج , وكان ذلك أمراً يقرب من المُنكر في تلك الأيام . كانت لطفية معلمة مدرسة ابتدائية في بغداد فانتقلت للتدريس في "إحدى مدارس البصرة , ولأنها كانت سافرة لا ترتدي العباءة التي كانت سائدة كنوع من الحجاب للنساء , فقد استقبلت من قبل نساء وأفراد عائلة صبري أفندي ومن سكان المحلة بالاستنكار والتشنيع , ولعلها كانت ذات مزاج انعزالي , وقد سكن الزوجان في دار عائدة لصبري أفندي وبالقرب منه . كان للاستقبال وللعلاقات المتأزمة والمشاكسات التي واجهتها أسوأ الأثر على لطفية , إذ أصيبت باضطراب عصبي وعقلي واختفت عن البصرة عائدة "إلى بغداد بعد مرور سنوات قليلة على زواجها من أحمد , ثم طلقت منهُ , ولا شك أن أحمد قاسى الكثير وحزن عليها حزناً كبيراً فأدمن على شرب الخمر (العرق) وأصيب بمرض تشمّع الكبد ومات بصورة مأساوية وهو في العقد الرابع من العمر.
    ولدت لطفية لأحمد ولداً لطيفاً وسيماً اسمه رياض , اشتغل مفوضاً في الشرطة في البصرة , ثم نقل إلى بغداد وتزوج من حذام ابنة عمته فاطمة , ثم نقل مكان عمله "إلى شمال العراق ثم سيق للمشاركة في الحرب العراقية الإيرانية وفقد أثره فأدرج اسمه في قائمة المفقودين.
زواجه صبري أفندي الثاني
    تزوج صبري أفندي مرة ثانية من السيدة نجيبة حسن  عثمان برتو المولودة في مدينة الديوانية عام 1893م/ 1311 هـ لوالد يعمل موظفاً في المدينة عند ذاك , وقد جاء جدها عثمان إلى العراق من تركيا للعمل ناظراً للأوقاف في بغداد حيث تزوج من إحدى بنات حبيب أغا قرة بير التي ولدت له حسن برتو . وولدت نجيبة لصبري أفندي بنتاً هي فاطمة وولد اسمه كمال.
    أكملت فاطمة دراستها المتوسطة وعينت مباشرة معلمة في "إحدى المدارس الابتدائية في البصرة , تزوجت من عبد المجيد يوسف السالم البدر الذي كان عندئذ ملازماً في الجيش , وقد كوّنا أسرة كبيرة من أولاد وبنات , وقد فجعت الأسرة بمقتل ابنها زياد وهو مجند في الحرب العراقية الايرانية . وأصبحت أخته حذام نائبة في مجلس النواب أيام حكم صدام.
   أما كمال فقد تزوج ورزق بأطفال ولكنه فجع بولده الكبير عصام الذي جُند وقتل في الحرب العراقية الايرانية , وقد اضطر كمال لترك البصرة بسبب ظروف الحرب القاسية وانتقل للعيش في الخالص في محافظة ديالى.
    كانت دار صبري أفندي تقع في محلة الصبخة الصغيرة , وهي إحدى المحلات الواقعة على نهر البصرة (المدّة) الذي يخترق المدينة متفرعاً من شط العرب وجارياً من العشّار حتى نهاية المدينة القديمة . والدار ملاصقة لدار السيد عبد الجليل برتو والد الدكتور فاروق برتو والمناضلة الشيوعية بشرى برتو . ودار صبري أفندي هي دار كبيرة بمقاييس تلك الأيام , وتتكون من طابقين تتوسطها باحة (حوش) مرصوف بالطابوق الفرشي , وهناك في الطابق الثاني غرف عديدة أهمها وأكبرها طبعاً غرفة صبري أفندي بزجاج نوافذها الملّون الجميل وجدرانها وسقفها من الخشب المنقوش , ومقابل غرفة صبري أفندي كانت هناك دائماً منضدة صغيرة وضعت عليها (تنكة) وعاء معدني يكبس فيه التمر للاستهلاك المحلي تحوي عادة نوعاً فاخراً من تمور البصرة أو المعسّل (وهو تمر مكبوس يضاف إليه لبّ الجوز وتوابل خفيفة) . تنكة التمر هذه مخصصة لاستعمال صبري أفندي فقط.
    وقد تملّك صبري أفندي عدّة دور في المنطقة المحيطة بالبستان (البقجة) الذي بُنيت على موقعه محكمة البصرة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي , كان صبري أفندي يعتبر من الموسورين نسبياً , وكان كريماً معطاءً فاتحاً داره لاستضافة الأقرباء والأصدقاء الكثيرين.
    يذكر د. فاروق برتو في ص 101 من مذكراته أن صبري أفندي كان ملتزماً دينياً وبشعائر الاسلام , "كان الكثيرون من المسلمين يسيرون على نفس المنوال , إذ يبدأ التزامهم بتلك الشعائر عند بلوغهم سن الشيخوخة . كذلك لم يفرض صبري أفندي زوج عمتي وجارنا في السكن في البصرة وهو الملتزم بالشعائر على فؤاد وعائلته الكبيرة الالتزام بها وهو في شيخوخته . ورغم اسلوبه الصارم في التعامل معهم في شؤون الحياة الأخرى".

145
الأدب والفن في حقبة الحصار الاقتصادي
نبيل عبد الأمير الربيعي
     ما فعل الحصار الاقتصادي على أبناء الشعب العراقي الكرام من ويلات وعوز وفاقة وتضييق لم يسبق له مثيل خلال فترة التسعينات من القرن الماضي , والسنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين , لا اظن شعباً على مرّ التاريخ ذاق مرارة العيش كما ذاقها شعبنا الصابر المكلوم , وكأننا مررنا بسنوات المجاعة والقحط.
     حتى عام 1995 كنت اسمع بين الحين والحين أخباراً سارة تنبئ عن قرب انفراج الأزمة القائمة بين العراق وبين الأمم المتحدة , بشأن اطلاق بيع كميات محدودة من النفط والسماح بتصديره نتيجة المعاناة والكوارث الاقتصادية والنفسية التي أصابت شعبنا , وحرمان الإنسان من ابسط حقوقه في الحصول على الغذاء والدواء ومستلزمات الحياة الضرورية , والتمتع بثرواته مثل بقية الشعوب , إلى أن سمحت الأمم المتحدة أخيراً بعد مخاض عسير واصدرت قراراً بالسماح ببيع كميات محدودة جداً من النفط مقابل شراء الغذاء والدواء والمواد الاساسية (برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء) , لكن الحصار ظلَّ سارياً وبقي يضيق الخناق برقاب شعبنا الموجوع الذي وقع بين مطرقة الحصار وسندان الدكتاتورية , التي حكمت العراق بالحديد والنار , كان حصار السلطة على العراقيين كبير وقاسي جداً , منها منع صناعة المعجنات بسبب عدم توفر الدقيق الابيض لأصحاب المخابز والأفران , من صنع الكيك والمعجنات والحلويات والاقتصار على الخبز لشحة الدقيق والسكر , كانت اكواب الشاي المخلوط بنشارة الخشب المصطبغة هي مما توفره وزارة التجارة العراقية وفق توزيع البطاقة التموينية على العراقيين.
     كانت عملية شراء الكتب النفيسة والنادرة ليست بالأمر الهين والسهل وقتذاك , حيث كان البعض يتم تهريبها إلى الدول المجاورة لأجل بيعها بأضعاف سعرها من نفائس الكتب والمجلدات بسبب مافيات الثقافة التي افرغت الشارع من كل ما هو مطلوب , ولم تسلم حتى المخطوطات الهامة غير المحققة من عمليات التهريب المنظم.
    لكن ظهرت شريحة من الناس تقوم باستنساخ الكتب المهربة للعراق الممنوعة من التداول لتلبية رغبات القراء , مقابل ثمن يزيد أو ينقص وفق اهمية الكتاب وقيمته الفنية , لكن السلطة كانت تنشر عناصرها الأمنية في كل مكان حتى قبالة المكتبات وارصفة بيع الكتب في المدن ومنها مدينة الديوانية , كانت الأيادي تتلقف الكتاب بشكل سري ويقبلون عليه اقبال الوحش الجائع أمام فريسته , العراق في حلكة الحصار كان مهرّب الكتاب ومستنسخه ومقروءة , والمكتبات كانت لا تحوي إلا الكتاب الغث والهزيل من مطبوعات وزارة الثقافة العراقية.
     والوضع المزري لمثقفينا كان للأسف الشديد , إن بعضهم قد جندته دوائر المخابرات وما اكثرها , وقد عملوا كمخبرين مهمتهم تدبير المكائد , ولم تسلم حتى الجلسات العائلية الخاصة من هذه العناصر , التي كنا نظن انهم من اخلص الزملاء , لكنهم كانوا يتمتعون بعذابات الآخرين وآلامهم.
      كانت صور التنكيل ضد الأدباء والمثقفين العاملين في مستوى الإعلام تتخذ اشكالاً عديدة , منها الطرد من الوظيفة وزجهم في السجون والمعتقلات حتى وصل الأمر إلى قطع الحصة التموينية عليهم والتي كانت المصدر الرئيس الذي تعتاش عليه الأسرة العراقية , مثل فضلَّ بعض الأدباء والصحفيين والشعراء اعتزال الكتابة نهائياً , وامتهنوا اعمالاً أقل ما يقال منها غير لائقة به منها بيع كؤوس الشاي في كشك أو بيع الخردوات أو لعب الاطفال مقابل ثمن بخس ليعتاش عليه , كان من الصعب أن اشاهد أديب قد جرَّ عربة ثقيلة منادياً على بضاعة الملأى بأطياف الخزف والأكواب وملاعق الطعام , أو عرض وجبته من الحصة التموينية من زيت وشاي ورز ودقيق , اكتب هذا ليعرف عراقيو الخارج كيف كان عراقيو الداخل يعتاشون في ظل نظام الدكتاتور.
     كان الدكتاتور في ظل الحصار يستقبل الكتّاب العرب والفنانين استقبال الأبطال ليمطر العراقيين بتصريحاته النارية وقبل أن يحترم هذا الفنان أو الأديب العربي حقائبه الملأى بالهدايا والأوراق الخضر مقابل تصريحاته المدوية لكسر سلاسل الحصار والصلدة التي حزّت رقاب العراقيين.
     أثناء حقبة الحصار ظهرت اشكالاً غرائبية من الأدباء فتجد مقالاتهم غاية في الرثاثة والضعف الفني من صغار الأدباء الذين بدأوا يظهرون كالفقاعات في الزبد , لكن سرعان ما تنفجر وتخبوا هذه الفقاعات وليمحى أثرها . كانوا يمجدون القائد الضرورة بشكل يصل حدّ التأليه الهدف منه الحصول على رضا القيادة والمطامع المادية , وغالباً ما يشعروا بالصدمة بسبب كلمة (العفيّة) التي يقول القائد لصغارة.
     كانت الصحافة في عهد الحصار موصدة تماماً أمام القوى غير البعثية سواء من الماركسيين أو التيارات الإسلامية غير المنضوية تحت راية الحزب الحاكم , أما الثقافة فكان همها الأساس تمجيد النظام وعيد ميلاد القائد , لكن البعض من الأدباء ذو الحظوظ غير العاثرة غادر العراق للعيش في المهجر خلاصاً من ضغوطات السلطة التي لا تطاق , ومن كانت حظوظه خائبة فقد فضلّ الانكفاء والبعد عن أي نشاط ثقافي , حتى اصبحت الثقافة في عهود الحصار مرعى للدمن والبعر تسرح فيها النعاج والخراف لحماية كلاب السلطة وهم يتحينون المناسبات لحلول يوم الزحف العظيم والبيعة الكبرى وتاريخ ميلاد القائد عسى أن ينالهم شيء من الفتات... حتى ملئت الثقافة بالحنظل المرّ والعلقم اللاذع والطحالب السامة . لكن البعض من المثقفين الحقيقيين ممن عركتهم التجارب وخبرته الحياة بقيت شجاعة ووفية لمبادئها رغم حجب نتاجاتهم.
     جميعنا يعرف ومن عايش فترة الحصار أن مسرحنا العراقي الأصيل قيد شيّع إلى مثواه الأخير , وإن صقوره ونسوره من الممثلين البارعين قد اعتكفوا في بيوتهم واعتزلوا التمثيل , ولم يبق منهم أحد ولا يوجد سوى بغاث الممثلين وصغارهم يلعبون ادواراً هزيلة في مسارح مؤجرة تغلب عليها طابع الكوميديا الهابطة والاسفاف المبتذل والهدف منها لكسب المال والضحك على الذقون وتسخير بعض الراقصات الغجريات لأثارة الغرائز لدى المشاهدين . كان هذا النوع من المسرح الهزيل فقد بقي يعرض مسرحياته البائسة بمباركة السلطة والقائمين على الثقافة لأجل اشاعة الثقافة الرثة وغسل ادمغة الناس من كل ما هو رائق.
    أما مهرجانات المربد وأبي تمّام فكانت مهرجانات تنظمها وزارة الثقافة بظروف استثنائية لضعف الامكانيات المادية , والمدعوون لها فإن معظمهم من أدباء الداخل من العراقيين الذين بقوا في بلدهم صاغرين أو مستضعفين لا حول ولا قوّة ما عدا قلة قليلة من الأدباء العرب وبعض الأجانب.
     لكن الألسن هللت عندما صدرت رواية (زبيبة والملك) المنسوبة لصدام حسين والتي أشير إليها في غلافها الرئيسي عبارة (رواية لكاتبها) , كما رحب المقربون للنظام من الأدباء لها وصفقت لها الأكف ترحيباً واستحساناً , حتى قارن احدهم هذه الرواية بملحمة كلكامش واعتبرها توازي تلك الملحمة في القدرات الفنية الهائلة التي تمتلكها , حتى تم ترجمتها إلى اللغة الفرنسية عام 2000م من قبل (جيل مونيه) أمين عام جمعية الصداقة الفرنسية / العراقية , ثم اعطى صدام حسين توجيهاته إلى كتّاب الرواية في العراق لتمجيد الحروب التي خاضها , فقدرت ما يربو عن ثمانين رواية , كتبت بدوافع من السلطة.
     تُرى لمَ يفعل الزمن السافل بثقافتنا وادبنا العراقي ويطيح بها؟؟ بعدما كانت انظار المثقف الاجنبي للاطلاع على إرث العراق الموغل في القدم , إذ كانت الحضارة السومرية والآشورية والبابلية والأكدية وغيرها مثار اعجاب العقل الأوروبي وغير الأوربي.

146
رثاء المناضل العتيد سامي عبد الرزاق
نبيل عبد الأمير الربيعي
بين الدمعة وبين الهدب والهدب، أستقى حبر قلمي ، وشاء القدر أن أبكيك وارثيك، عن خواطر دارت على مدى عمرك، فأنشب الموت اظافره المدماة في لحمك، فتوقف قلبك عن الخفقان، وتحيرت الدموع في مآقينا، الذين كتب لنا أن نودعك الوداع الأخير اللائق، هنا في بابل، مع العشرات ممن عرفتهم، وناضلت معهم، ولأجلهم، اتصالاً موصولاً ، لا هون فيه، ولا راحة معه، أو تراجع في أمره، على مدى سنوات عمرك، وبعد نيلك شرف الانتماء للحزب، فعرفت أن الحقوق تنتزع انتزاعاً، في ميادين النضال، لا أمام أقواس المحاكم.
كنت تناضل في شدائد الكفاح في سبيل وطن حر وسعب سعيد، وفي سبيل قضيتك، والعدالة الاجتماعية، لو يعلمون وتعلم الاجيال اللاحقة من الرفاق عنكم كيف تسافرون بلا حقائب، وفي ظروف النضال السري والاختفاء عن رجال الامن والبصاصين من كل لون.
لم تُفرّط يا أبا عادل بأي حق من حقوق الوطن، فأحببت فيك كما عهدي، البساطة، يا أبا عادل أن بيتك في الحلة يبكيك وبيتك في السويد يبكيك ايضاً، وفي مُقبل الأيام سيكون للمنزلين تذكار، يا أبا عادل نحن رفاقك تنام في ذاكرتنا مجلل الكفن وضّاء الجبين.
يا ابا عادل طوبى لك نضالك، ودربك الطويل، وطوبى لك دماثة خلقك، وطوبى لك في كل ما أصبت وما أخطأت، فكلنا في العمل نصيب ونخطأ، وهذا شأن العاملين والمناضلين وأنقياء القلوب.

147
قراءة في كتاب د. علي الربيعي (سليم بطِّي .. فتى المسرح العراقي)
نبيل عبد الأمير الربيعي
     يكاد الكاتب والباحث د. علي محمد هادي الربيعي يجعل جهده البحثي مقصوراً على الأدب المسرحي العراقي, فضلاً على كتابات ثرَّه وانيقة نشرت في المجلات والصحف العراقية في مجالات ثقافية مختلفة.
     لقد امتاز الربيعي بأسلوب جميل في البحث والكتابة, ولغة رشيقة انيقة, تحلق بك في اجواء جميلة, وتنقلك من هذا الواقع الحياتي المؤلم, إنه يكتب برومانسية حالمة, تجعلك تجد في الحياة بعض ما تستحق أن يعيش من أجلها الإنسان واضعين في الحسبان قساوة الظروف, وانهيار القيّم النبيلة وتصدعها, وأثر الخيبات الحياتية, والانتكاسات التي مني بها المجتمع العراقي, إن لغة الربيعي الأنيقة والرومانسية جاءت نتيجة قراءاته المعمقة في كتب التاريخ والأدب المسرحي ومصادره, فضلاً على روحه الرهيفة الشفيفة الحالمة.
    إن محبة د. علي الربيعي لأدب سليم بطي المسرحي ونتاجه المعرفي, جعلهُ يجد في بطِّي ايقونة, يتوجه إليها بالاحترام والتقدير, لذا رأيناه يذب عنهُ عاديات الزمن في البحث والكتابة.
      عرفت الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي المولود في مدينة الحلة باحثاً حصيفاً محلقاً, ومدوناً وموثقاً لتأريخ المسرح العراقي منذُ اهتمامه الجاد في هذا المجال, ذا نفسٍ طويل في البحث والتدقيق والتوثيق, نشر بعض مؤلفاته في مجال تاريخ المسرح العراقي منها : (تاريخ المسرح في الحلة, الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح, المسرحيات المفقودة, محمد مهدي البصير رائد المسرح التحريضي في العراق, اسكندر زغبي زجالاً ومسرحياً, مسرحيات نعوم فتح الله سحار المفقودة, المسرح المسيحي في العراق, اسهامات يهود العراق في المسرح, شالوم درويش وجهوده في فضاء المسرح العراقي, أنور شاؤل وجهوده في المسرح العراقي, ثورة الزنج في المسرحية العربية, وكتابه الأخير سليم بطي فتى المسرح العراقي) , كما عرفته باحثاً دؤوباً في الأدب والثقافة, ولا أدل على دأبه وقوة شكيمته في البحث والتنقيب عن النصوص المسرحية لفتى المسرح العراقي سليم بطِّي.
      الدكتور علي الربيعي لهُ نفس طويل في البحث الذي يحتاج إلى صبر ومطاولة ومصاولة, والغوص في بطون المصادر والمراجع والمظان بحثاً مصوباً بكثرة التنقل والتوقل, ومراجعاً, ذلك على النسخة الأم التي غالباً ما تكون الأقدم تاريخياً, وقد اعتمد في أكثر مؤلفاته على الصحف اليومية التي هي أكثر دقة في التواريخ ونقل الأحداث ومواعيد اقامة المسرحيات, ومثال ذلك كتابه الأخير سليم بطِّي فتى المسرح العراقي, الذي اعتمد على الصحف والمجلات في تأليفه. لقد قرأت واستقرأت بمتعة وشغف, وأكثر من قراءة واحدة, الكتاب الذي امضى الدكتور الربيعي أكثر من سنة في كتابته.
    في كتابه الأخير موضوع البحث (سليم بَطِّي فتى المسرح العراقي) الصادر عن اتحاد الأدباء والكتاب السريان في العراق/ اقليم كردستان هذا العام, ويقع في 405 صفحة من الحجم الوزيري, ويبدو أن الكتاب الذي جاء خِلّواً من دار الطبع أو الطبعة والفهرست, وهذا من ضرورات النشر وأولياته, فضلاً عن خِلّوا الكتاب من عنوان الفصل الرابع وقد يكون قد سقط سهواً, يذكر الدكتور الربيعي حول معاناته لتوثيق السيرة الذاتية لسليم بطِّي وهو شقيق الصحفي رفائي بطي, مع العلم أن رفائيل بطي في مذكراته (رفائي بطي ذاكرة عراقية) من اعداد وتحقيق فائق بطِّي لم يذكر عن سليم بطي أي شيء برغم أن سليم بطي كان يكتب في جريدة البلاد وفي باب الفنون, حتى توصل الربيعي بالاتصال بباهر سامي رفائيل بطِّي ليدلي له بالمعلومات عن عم أبيه سليم بطِّي وعن ابنائه الذين ما زالوا يعيشون منتشرين في اقطار الأرض.
     كانت صعوبة البحث في توثيق تاريخ سليم بطي المسرحي والروائي بالنسبة للدكتور الربيعي بسبب عدم توفر تلك النصوص المسرحية المطبوعة والمخطوطة في المكتبات العامة والخاصة, فقد أخذت من وقت الربيعي السنوات في البحث على وقع ضالته ففي صفحة 8 من الكتاب يذكر الربيعي قائلاً : "تحقق لي أن وجدت نصٍ لمسرحية (تقريع الضمير) في أكداس من الكتب العتيقة عند بائع للكتب المستخدمة في شارع المتنبي.. وبعد سنوات أخر من التفتيش عثرت على نص مسرحية (الأقدار) في كدس من الكتب على قارعة شارع المتنبي, والنص المطبوع الثالث حصلت عليه من خلال بحثي في أعداد مجلة الحاصد, فقد نُشرَ فيها. أما النص المطبوع الرابع (طعنةً في القلبِ) فلم أحظ به برغم أنني انفقت في البحث عنه سنوات طويلة, وبقي عصياً على الوجود وربما في قابل الأيام ينفرج لنا الأمر ونحصل عليه".
    هناك نصوص ثلاثة مخطوطة ألفها سليم بطِّي في مجال المسرح وقدمها في وقته على خشبة المسرح هي مفقودة منها ( ضحيا اليوم) و(المساكين) و(خدمة الشرف), والمسرحية الوحيدة التي ظفر بها الدكتور الربيعي هي مسرحية (ضحايا اليوم) التي وجدها في خزانة المرحوم الأب الدكتور بطرس حداد في كنيسة مريم العذراء في الكرادة الشرقية في بغداد صفحة 9.
     قسم الربيعي كتابه (سليم بطِّي فتى المسرح العراقي) على خمسة فصول وملاحق, الفصل الأول حيث اعتنى بحياة الراحل قائلاً في ص16 :"سليم بن بطرس بن عيسى بن عبد النور بطِّي المولود في مدينة الموصل سنة 1908م من أسرة مسيحية الديانة, كان والده يعمل حائكاً وكانت الاسرة تعاني من عسر الحال وشظف العيش, فهي تضم خمسة أبناء" , كان تسلسل سليم الثالث بين أشقاءه , إذ أكمل سليم بطي دراسته الابتدائية في مدرسة مار توما للبنين في الموصل , وانهى دراسته الاعدادية في سنة 1927م , يذكر الدكتور الربيعي في صفحة 19 قائلاً: "ووجد نفسه مرغماً على أن يعمل لإعالة نفسه بعد أن بقي لسنوات طويلة يعتاش على شقيقه (رفائيل بطي), وأغوته الصحافة وأخذ يكتب في صحيفة (البلاد) في باب الفنون والأدب, وكان يترجم المقالات ويكتب النقد الفني, وبدأ يكسب قوته من عمله, ثم انتقل؟ إلى العمل الحكومي حيث عيِّن موظفاً في مديرية التقاعد العامة في بغداد, وبقي يعمل فيها حتى وفاته في بيروت في الرابع عشر من شهر ايلول سنة 1953م".
    أما الفصل الثاني من الكتاب فقد احاط الدكتور الربيعي بمنجز سليم بطِّي في فضاء النقد المسرحي, وقد بذل الربيعي الجهد الكبير في جمع كل ما كتبه بطِّي في هذا المجال, حتى تم نسخ نقوداته على الهيئة نفسها التي حلت بها في مظانها, فقد كتب سليم بطِّي مقالاته النقدية في الصحف العراقية ومنها جريدة البلاد تحت اسم خفي (كين) وفي أحيان أخر يوقع باسمه الصريح, يذكر الدكتور الربيعي في صفحة 35 قائلاً :"وما يميز مقالاته انها تلابس الموضوعات المكتوب عنها بشكل لا يضاهيه في أحد من النقاد في ذلك الوقت. فهو قد اشتغل في المسرح ممثلاً ومخرجاً ومؤلفاً, واتقن تقانة تامة معارف المسرح وسبر اغوارها, وعندما بدأ بكتابة النقد المسرحي ترشحت كتاباته عن دراية ومهنية عالية... وآخر مقالة نقدية له كانت تحت عنوان (مسرحية توتو – فرقة فاطمة رشدي) التي نشرها في جريدة البلاد بعددها 736 في 20 تشرين الثاني 1946".
    أما الفصل الثالث فقد احتفى بدراستين مهمتين كتبهما سليم بطي في علوم المسرح معارفه, نشرتا في جريدة البلاد العدد 190 بتاريخ 25/6/1930 وفي مجلة الحاصد العدد 9 بتاريخ 25/6/1936, في وقت لم تكن جذور للفن المسرحي وتغلغله عميقاً في العراق. ونسخ الدكتور علي الربيعي هاتين الدراستين نسخاً مقابلاً, ووضع لها الحواشي الذي اراد من ورائها أن يزيد من ثرائها, كانت الدراستين عبارة عن مقالتان طويلتان كتبهما بطي ونشرهما بسلسلة حلقات في جريدة البلاد ومجلة الحاصد, يذكر الدكتور الربيعي في صفحة 112 قائلاً :"وأحسب أن الذي دفع بطِّي إلى كتابة هاتين الدراستين هو واقع المسرح العراقي في وقته... فجاءت الدراستان لتردما الفجوات التي قابلت وتقابل المسرحيين في مسالكهم, وتنتشلا المسرح العراقي من واقعه المسطح, وتؤشر عوامل النهوض والارتقاء بفني التمثيل والاخراج". وقد جاءت الدراستين نتيجة لما تراكم عند الراحل سليم بطِّي من خبرة ميدانية وشخصانية خاضها في مجال المسرح المدرسي في فرقة مدرسة التفيِّض الأهلية, كما عمل ممثلاً ثانوياً في فرقة جورج أبيض أثناء زيارة الفرقة إلى العراق سنة 1926م, وعمله كممثل مع الفرقة الوطنية بوصفه أحد مؤسسيها سنة 1927م, فضلاً عن اطلاع بطي المباشر على اداء عزيز عيد مع فرقة فاطمة رشدي في زيارتيها المتكررتين إلى العراق سنة 1929م/ و1930م, والتعرف على آخر مستحدثات المسرح, ومشاهداته للعروض المسرحية العراقية, كل ذلك اكسبه دراية وخبرة فنية عالية, فضلاً عن نبوغه بوصفه مبدعاً.
     وقد حملَ الفصل الرابع من الكتاب المقالات الصحفية التي لاحقت سليم بطِّي ومنجزه المسرحي بالدراسة والتحليل والنقد, وهذه المقالات كتبت بأقلام أدباء وصحفيين مجايلين لهُ, لكن هذه المقالات حفظت منجز سليم بطي من المسرحيات التي ضاعت أخبارها, وتعد صفحات مجهولة في مسرد المسرح العراقي, كما بحث الدكتور الربيعي عن منجز الراحل بطي المخطوطة والمفقودة من خلال اعلانات الصحف عن منجز بطي المسرحي ونشاطات الفرق المسرحية العراقية.
     فقد نشرت مجلة الحاصد في عددها السادس بتاريخ 4/6/1936 مقالاً حول مسرحية بطي  (خدمة شرف) التي مثلت من قبل فرقة بابل يوم الخميس الموافق 28/5/1936 برئاسة محمود شوكت وعضوية جميل عبد الأحد وابراهيم معروف ونعيم الجواهري وغيرهم من الممثلين, التي تم تقديم عروضها في بغداد والبصرة والعمارة. كما نشرت جريدة البلاد بعددها 590 الصادرة بتاريخ 9/6/1935. أما مجلة الحاصد فقد نشرت دراسة قدمها الاديب والناقد شالوم درويش حول مسرحية بطِّي (طعنة في القلب) بعددها 31 الصادر بتاريخ 26/11/1936, لكن لم يرق لسليم بطِّي ما كتبه الناقد شالوم درويش, فقام بالرد عليه بمقال مطول وجهه إليه بعنوان (طعنة في القلب – رد المؤلف على الناقد) التي نشرتها مجلة الحاصد بعددها 33 الصادرة بتاريخ 10/12/1936. ثم علق على مسرحية (طعنة في القلب) الناقد عبد الله رمضان.
      وقد نشرت دراسة حول رواية بطي (المساكين) التي مثلت على مسرح الف ليلة في جريدة العالم العربي العدد 5419 الصادرة بتاريخ 14/7/1945. وقد قامت بدور (ترفة) الفنانة المعروفة السيدة نظيمة ابراهيم, وكان النقاد ستأملون لها مستقبلاً باهراً في التمثيل على المسرح وفي السينما.
     أما الفصل الخامس من الكتاب فقد خُصص للنصوص المسرحية التي ألّفها الراحل سليم بطِّي وحظيت بثلاثة نصوص مطبوعة ونص مخطوط واحد, ونسخت هذه النصوص من قبل الباحث د. الربيعي على الهيأة نفسها التي حُررت بها, وقد زاد عليها الباحث تعليقات وحواشي من وراء وجودها. ثم اتبع الدكتور الربيعي الكتاب بملاحق ثلاثة لأثراء الكتاب وتثبيت معلومات مجهولة ذات صلة بموضوعاته.
    إلا أن الراحل سليم بطِّي مع كل ما كتبه حول المسرح من تأليف ونقد مسرحي, لم يغب عن الحضور في فضاء القص العراقي, بل كان مساهماً فيه بمائزة فكتب القصة مبكراً, يذكر د. الربيعي في صفحة 24 من الكتاب قائلاً :"فقارئ قصصه سيجد انما عالجت موضوعات أخلاقية وتربوية, وعادات سيئة استحكمت في العديد من العائلات العراقية, مثل الخيانة والإدمان والزنا والقتل والسرقة والاغتصاب وغيرها. وكان يعرض هذه الموضوعات من خلال سلوكيات الشخصيات المتضادة, لينتصر في الأخير "إلى السلوك القويم الذي يعده المثال الذي يُحتذى به, ومن قصصه : (قلب صخر) نشرت في جريدة الوطن العدد 86 سنة 1929م,  و(الزوج السكير) نشرت في جريدة البلاد العدد 4 سنة 1929م, و(ضحية رأس السنة) نشرت في جريدة البلاد العدد 45 سنة 1930  و(تحت ستار الظلام) نشرت في جريدة الاخبار العددان 12/ 14 لسنة 1931, و(في العرس) نشرت في جريدة البلاد العدد 35 لسنة 1929, و(الأثر الدامي) نشرت في جريدة البلاد العدد 123 سنة 1930,  و(تقريع الضمير) نشرت في جريدة البلاد العددان 133/ 134 لسنة 1930, و(ضحية) نشرت في جريدة البلاد العددان 200/ 202 لسنة 1930, و(المهاجر) نشرت في جريدة التقدم العددان 213/ 214 لسنة 1930, و(في النادي) نشرت في جريدة الزمان العددان 277/ 278 لسنة 1930, و(تحت ستار الظلام) نشرت في جريدة الاخبار العددان 12/ 14 لسنة 1931,  و(هو الحب) نشرت في جريدة الاخاء الوطني العدد 1 لسنة 1931, و(اميليا) نشرت في جريدة الاخاء الوطني العددان 3/ 4 لسنة 1931, و(صياد النساء) نشرت في مجلة الحاصد العدد 32 لسنة 1932, و(غرام عذراء) نشرت في جريدة الاخاء الوطني العدد 291 لسنة 1932, و(الزوجة العذراء) نشرت في مجلة الحاصد العدد 35 لسنة 1933, و(قلب مكلوم) نشرت في مجلة الحاصد العدد 3 لسنة 1936, و(بنت الطحان) نشرت في الاديب العدد 1 لسنة 1946, و(صادجة) نشرت في الاديب العدد 2 سنة 1946" . كانت جميع قصص سليم بطِّي التي نشرها في الدوريات العراقية راكزة على تصور موضوعات اجتماعية واخلاقية.   
     اسند الكاتب والباحث الربيعي لدعم كتابه بوثائق مصورة لصور الراحل سليم بطِّي ولصور صحف نشرت اعمال بطي المسرحية والقصصية والنقدية في ذاك الوقت. الكتاب وثائقي جميل يدل على أصالة محتد, ووفاء يجعلنا نتوسم الخير في كاتب وباحث سيخلف ويواصل الدرب من بعد الجيل الذي سبقه, وإن الجهد الذي بذله الربيعي لا يذهب بين يدي الله والناس.
    وأنت إذ تقرأ هذا الكتاب لتعجب من موسوعية الأديب الباحث علي الربيعي ودراسته الجميلة, وأنا اقرأ هذه الدراسة القيّمة, كنت ألمس شكوى الدكتور من قلّة المصادر وكثرة اشغاله الوظيفية التي تهدر ايامه, فإن الباحث الربيعي كان له مع كل كتاب يصدر حديثاً قد ألمَّ بجميع أبعاده.
     أرى هذا الكتاب أروع ما كتب عن حياة فتى المسرح العراقي سليم بطِّي الذي صور فيه الصورة الحية لا السرد الجاف لبعض الأحداث في حياته.
     أكتب هذه القراءة تقديراً لشخص الكاتب والباحث د. علي الربيعي, لهذا القلم الثَّر الأنيق, الذي قدم لنا هذا العطاء الوافر في دروب ثقافة المسرح العراقي, واضعاً في الحسبان أن يكون هذا الكتاب مرجعاً مهماً في تاريخ المسرح العراقي.

148
عقيل حبش ولهيب معركة هور الغموگة
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      بطل تلتهب عنده الأحداث , ذلك البطل الثائر هو عقيل حبش , الذي تتوقف عنده الاضطرابات , لكن الزمن عنده ايضاً يضطرب , إذ كان زمن اعتقاله مع رفاقه رفاق السلاح في الدواية أيضاً مضطرب , مضطرب بذاته , يحمل متغيرات كثيرة غير أن عقيلاً هو عقيل ويسوقه قدره الفطري للثورة المسلحة.
      التقيت به مساء يوم الخميس المصادف 24 نيسان 2019 في صالة فندق فلسطين مرديان قبل ليلة من انعقاد انتخابات المجلس المركزي لاتحاد أدباء وكتاب العراق , لم أعرفه سابقاً ولكن ما قرأته عنه الكثير , سألني من أي مدينة , كان جوابي المولد في مدينة الديوانية أما السكن ففي مدينة الحلة , قال هل تعرف محمد علي محيي الدين وحامد كعيد الجبوري وعقيل الربيعي وعبد اليمة (أبو نصار) , كان جوابي بالإيجاب , اعرفهم حق المعرفة , اتصلنا بمحمد علي محيي الدين والشاعر حامد كعيد الجبوري إذ كانا في نفس الفندق وكان لقاءاً ممتعاً , ودارت الذكريات دورتها في ذاكرتي حول دور هذا المناضل وهروبه من نفق سجن الحلة المركزي عام 1967م مع البعض من رفاق الطريق , وقد كُتب الكثير من المقالات وصدرت عشرات الكتب حول الهروب , فضلاً عن دوره في ثورة هور الغموگة  يوم 28 نيسان 1978م.
    لمذكرات عقيل حبش (شهادة حيّة من لهيب المعركة) الدور في معرفتنا على الدور البطولي لأثنى عشر مناضلاً قادوا الثورة المسلحة في هور الغموگة وبما يعرف جماعة (القيادة المركزية) , عند اطلاعي عليها احسست بالانبهار وكأنك في حكايات ألف ليلة وليلة , لصدق الكلمات والوصف , لكن حديثه في صالة الفندق وجهاً لوجه هو الأمر الأشد غرابة , مملوء بالصدق والعفوية وسحر التعبير , كانت لأيام سجنه وقتاله وتعذيبه لها لذة الألم , وذكريات رفاقه العالقة في ذاكرته الحية وفي حياته كلها , إذ يمتلك ذاكرة طرية مملوءة بحب الحزب والثورة.
    كانت بداية ثورتهم المسلحة في أهوار الغموكة يوم 28 نيسان 1968 بعد أشهر من هروبهم من نفق سجن الحلة المركزي , تلك الثورة التي قادها الشهيد خالد أحمد زكي (جبار) واحدى عشر من رفاقه , مثلت بداية لحركة ثورية كان يمكن لها أن تغيّر وجه العراق , وتسقط الحكم الرجعي الذي سيطر عليه , لكن تكالب القوى المعادية لها مما أدى إلى سقوط جبار (خالد أحمد زكي) , وشلش (محسن حواس) , وكاظم (منعثر سوادي) شهداء أبرار للشعب العراقي والحركة الشيوعية , أما الآخرين فتم إلقاء القبض عليهم وهروب حسين ياسين , كانت معاناتهم واحباطاتهم تصارعها نفوسهم الثائرة , وتبعث الحياة فيها لتنهض من جديد , كان عقيلاً عندما فكر بالانضمام إلى حركة الكفاح المسلح لا يوقفه توسل ولوم , ولا تثنيه دمعة أمه , أو مشورة صديق , سار يتبع ثورته وعشقه للمواجهة.
     كان عقيلاً قد تبنى قضية تبناها مع رفاقه , فهي لم تعد قضية أفراد ووجهة نظر مجموعة , بل قضية يهتم بها عموم الشعب ويتحدث عنها الجمهور بفخر , إن هناك أبطالاً أرادوا وفعلوا ليدخلوا بوابات الأسطورة والتاريخ بكل ما أنجزوا من أفعال , ويكونوا رمزاً ليؤكدوا لنا أن الأمة الحيّة قادرة على أن تلد الأبطال في كل مرة من المواجهة والتحدي.
    عندما تقرأ مذكرات عقيل حبش تعرف الحقيقة وتشعر بصدق العمل في مجال العمل الحزبي والكفاح المسلح , ففي يوم أيلولي ساخن من عام 1968 "عقيل ورفاقه الأربعة في سجن مقر انضباط الفرقة الأولى في الديوانية , تقلبهم أخبار مقلقة , تعصرهم بين تنفيذ حكم الإعدام الصادر ضدهم وأخبار الحزب المنقطعة وغصة الألم التي تولدت لديهم بعد أحداث انقلاب 17 تموز 1968 , إحباطات ومرارات , غير أنهم ما زالوا يتحدون اليأس ينشدون أناشيد الثورة والصمود , لتلك الأناشيد أثر معنوي يدركه عقيل فيكرر غير مرة , في أحداث محددة . في لحظة صدور حكم الإعدام أو تنفيذه في لحظة عودة أحدهم من التعذيب أو ذهابه إلى الاستجواب . تلك الأناشيد تحافظ على تأجيج الثورة وحس التحدي . تبعد اليأس من التسرب إلى بعض الرفاق , خمسة في السجن , يتوالى دورهم في الاستجواب والتعذيب بعد أن انهار سادسهم فأفشى كل أسرار الحزب الخطيرة , حتى عزله المحقق في زنزانة أخرى ليبعده من تأثير ردود أفعال الرفاق , صدر الحكم عليه بالسجن المؤبد (عبد الأمير الركابي) , على خلاف رفاقه الستة كانوا البقية الباقية من خلية هور الغموگة الإثنى عشر يمارسون الحياة بطرق بدائية , يصنعون من عجين الخبز المتبقي لعبة الشطرنج , يتقاسمون السيگارة التي يغنمونها , ويتناقشون في أمور المعتقل والتحقيق والمحكمة , عن أخبار الحكومة الجديدة في 17 تموز 1968 وبصيص الأمل الذي بدأ يصل مسامعهم بالعفو أو بتخفيض الأحكام القاسية , ما زالوا متماسكين حتى الساعة.
    في الديوانية في سجن مقر انضباط الفرقة الأولى وهي المحطة الثانية بعد سجن الناصرية عندما انتهت قاعدة الكفاح المسلح في هور الغموگة في أولى عملياتها بنهاية درامية عظيمة , تحتاج بذاتها إلى دراسات وتقييم عن مدى الارتباط والإيمان الذي كان يتمتع به أولئك الإثنى عشر  شاباً هم كلٍ من :-
1-    خالد أحمد زكي (جبار) . قائد المجموعة.
2-    محسن حواس (شلش).
3-    منعثر سوادي (كاظم).
4-    حسين ياسين (أبو علي).
5-    عقيل عبد الكريم حبش (أبو فلاح).
6-    عبد الأمير عبد الواحد يونس الركابي (لفتة).
7-    عبد الجبار علي جبر (أبو هادي).
8-    عبد الله شهواز زنگنة.
9-    عبود خلاطي.
10-                       محمد حسين الساعدي.
11-                       علي أبويجي.
12-                       حمود (صالح).
    كانت تتملكهم أخلاقيات احترام الحياة حتى يفضلوا عدم قتل الشرطة ... في لحظة المواجهة , كانوا حقاً وطنيين ترف قلوبهم بنفس النبض الذي ينبض في قلوب الآخرين من أفراد الشعب ولو كانوا شرطة.
    جاءت عائلة (هادي) أو (أبو هادي) إلى سجن مقر انضباط قيادة الفرقة الأولى في الديوانية , وهو الاسم الحركي لبطل عظيم اسمه عبد الجبار علي جبر من قرية برنون من محافظة بابل , كان لهذا البطل موقف عام 1968م وفي شهر أيلول تقدمت القوات العسكرية والشرطة , ملأت مدينة الدواية تلك المدينة الصغيرة من نواحي لواء الناصرية , كان عدد القوات العسكرية كبيراً , أصبحت المدينة كأنها ترافقها البرمائيات والسيارات المسلحة والشرطة والمسؤولون , الكل يعرف أنهم جاءوا بعد عملية الغموگة بأيام . عملية الغموگة التي قامت بها قاعدة الكفاح المسلح في الهور , حتى بلغ أن طائرة هليكوبتر قد أسقطوها , كان حجم الحدث مؤلماً للسلطة رافقه خبر مصرع طيارها الملازم الأول طيار بنوئيل بابيلا أغاسي وهو مسيحي من أهالي الموصل , ومعاونه الملازم الطيار يحيى حديث التخرج من أهالي البصرة وكان مسالماً لم يصب بأي أذى , خبر جديد يهز معنويات جموع العسكر والشرطة المحتشدة.
     أثارت تلك الأخبار أن الهور يحترق وأن حجم المقاومة كبير , فمن عملية مخفر الغموگة ومصادرة السلاح إلى إسقاط طائرة ومقتل طيارها , بلغ الأمر مقتل شرطة وجرح بعضهم . عمل كبير يثير الخوف والقلق لدى الحكومة التي وقعت بين حيرة التقارير والوشاية والاعترافات عن حجمهم وهذا الفعل الذي لا يمكن أن تنجزه تلك الأعداد . انتهت المواجهة عند المساء , أو بالتحديد في بدايات عصر ذلك اليوم والشمس تقارب الأفق , قدمت القوة بسيارات الشرطة المختلفة وخلفها عاصفة من التراب , كان حوض السيارة الشوفرليت الزيتونية يسعهم خمسة أو أربعة . اثنان على كل جانب توسط الجلسة خامسهم يرافقهم شرطيان "إلى الأمام , وثالث نزل حال توقفها ليدخن سيگارة , كانت وجوههم مرفوعة , عيونهم تلتقي بعيون المتجمهرين إصراراً وإباء , الثياب الممزقة وشكلهم يوحي بأنهم أعظم مما يرتدون . قال أحدهم قطعت يده اليمنى , بقيت متصلة بذراعه , ضاق ذرعاً بها ... وضعها تحت قدمه اليمنى وسحبها , انقطعت كف يده وبقيت تحت قدمه الأنسجة والأعصاب المتصلة . اقشعر الجميع لتلك الصورة التي وصفها الشرطي للواقفين , جرأة صورت ارادت الثورة واستفزت معنويات الجموع الواقفة عند الخندق المتناثرة على جوانبه اضلاف الرصاص والبنادق المرمية وشواجير الرشاشات , ثلاثة كانوا على جانبي الخندق أو ذلك الجدول الجاف متجمدة أجسادهم في معركة مقاومة , بنادقهم بأيديهم أو في أحضانهم , التصق أحدهم بالأرض , شهداء ثلاثة على الأرض (خالد أحمد زكي , ومحسن حواس , ومنعثر سوادي) . تدلت يده بعد أن تلقف القنبلة المتدحرجة على الأرض المرمية من قبل الطيار ليبعدها عن خندق رفاقه ويعيدها إلى الجموع المحتشدة على مقربة منهم المكونة من الجيش والشرطة وشرطة خيالة , إلا أن الزمن كان حرجاً ... انفجرت بيده , قطعت يده اليمنى من الرسغ , بقيت يده متدلية ولم تزل في يده اليسرى بندقيته , إحساس فطري بإصرار على الثورة , أخذه النزف والجروح التي توزعت على جسده الواهن.
     كانت آلام التعذيب الجسدي وألم الروح من كل الإحباطات , إحباطات قاعدة الهور ومرارة انهيار بعض الرفاق الذي بلّغ عقيل حبش الحزب عنها برسائل وتقارير ورسائل شفوية وتنويهات وتحذيرات إلى الحزب وإلى الرفاق عبرَ منافذ متعددة , قمة معاناته أن يحافظ على تماسك رفاقه من الانهيار.
     انهار أحدهم ليكون جرحاً نازفاً في جسد الحزب , اعتقلت بسببه قيادات الحزب العاملة والنشطة لاطّلاعه على أسرار الحزب المهمة . لحظة ضعف في سجن مظلم وقسوة مفرطة ونفس آثرت أن تقدم ما لديها مقابل لحظة رحمة . انفصل عن المجموعة... كانوا ستة وهم عقيل حبش/ عبد الجبار علي جبر/ حسين محمد حسن الساعدي/ علي بوجي/ عبد الأمير عبد الواحد يونس الركابي/ عبد الله شهوار زنگنة/ لكن حسين ياسين قد هرب في بداية الموجهة لينفذ بجله , وكان عبد الأمير عبد الواحد الذي انهار في التحقيق . قدم كل شيء حتى عزل في أخرى من سجن انضباط الفرقة الأولى في الديوانية خوفاً من مضايقات رفاقه أو ضغطهم عليه , المحنة هي مقياس قوة الرجال , اقترب من المحقق يسجل أسماء وعناوين كانت تعمل من أجل الحزب , لم يحترمه المحقق لأن الخونة لا يحترمهم المستفيدون ولا يأمنونهم. 
    كان أول من أعلن الخيانة هو هروب حسين ياسين مسؤول التنظيم وعضو الارتباط الذي أثبت للمرة الثانية أنه ضعيف عند المواجهة , ترك رفاقه في محنة المواجهة في خندق مجهول الاتجاهات أمام قوة العسكر والشرطة , فافتعل سبباً , صدقه رفاقه بإنقاذ رفاقهم الذين سبقوه بالهروب وهم سيد درعان (صالح) وعبود خلاطي (حمود) تسلل وهو ابن الهور الذي يعرف الطريق دون أن يلتفت إلى الوراء , مرة أخرى يقدم نفسه ومصالحه , كانت المرة الأولى عندما أراد أن يهرب وحده من نفق سجن الحلة المركزي , ويجهز على مشروع له دلالة أكثر من الهروب نفسه , وقد كان أيضاً مسؤول فريق العمل عن مشروع النفق , هكذا النفعيون يحبطون الثورات في لحظة المواجهة , أو التنفيذ التي توهم الآخرين بالحقيقة.
      وكانت رسالة الشاعر مظفر النواب تحاكي الواقع الذي مرَّ به ثوار الغموگة , وهي رسالة مرسلة إلى عقيل حبش , انقل جزء منها :"((أيها الحبيب.... مرٌ لوني , مرٌ طبعي ومرٌ طعمي , مرّتان عيناي حتى أراك ثانية وحتى ذلك اليوم توقظني الوحشة والنار التي في حزامي وفي قلبي ألومك كثيراً لأشياء وأشياء وفي قلبي أحكي معك كثيراً عن أشياء وأشياء وفي قلبي أقبلك وأنت ترفض كثيراً وكثيراً عن أشياء وأشياء)).

149
المنبر الحر / الباب في العمارة
« في: 18:14 05/04/2019  »
الباب في العمارة
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      على أرض بابل مرَّت الحضارة البابلية بالعديد من السلالات الحاكمة التي استمرت منذ عام 1880ق.م ولغاية عام 500 ق.م، وكان أبرز من حكمها القائد حمورابي، والملك نبوخذ نصر، وكلاهما كان لهما الأثر البارز في تحقيق الازدهار والتقدّم خصوصاً في العمارة البابلية، واليوم تعتبر بابل الأثرية مدينة منفردة في جذب الزوار إليها لمشاهدة.
     ضمن برنامج اتحاد ادباء وكتاب بابل الثقافي الثاني والأربعون (دورة الشاعر ناهض الخياط), أقيمت يوم الخميس الماضي الموافق 4/4/2019 محاضرة للدكتور  المهندس نصير علي الحسيني تحت عنوان (الباب في العمارة). والمحاضرة تعتبر الفريدة من نوعها في العمارة, إذ ركز الدكتور الحسيني على بوابات بابل وعددها واسباب تشييدها ورموزها.
     الدراسة اليوم حول بوابات بابل تحتاج إلى جهد كبير بسبب عدم توفر المصادر اللازمة, لكن الحسيني تمكن من تقديم محاضرة وافية في هذا المجال من خلال اعتماده على  كتابه الموسوم (بوابات بابل) الصادر عن دار الفرات للثقافة والإعلام,  بواقع (347) من الحجم الوزيري, ومن خلال المحاضرة كان المحاضر متمكناً من الاجابة عن كل الاستفسارات التي طرحها لحضور بشكل وافي معتمداً على مصادره القيّمة. إذ تطرق الدكتور الحسيني "إلى ما تعرضت له آثار بابل وبواباتها الثمان من تخريب وتدمير طبيعي نتيجة فيضانات نهر الفرات وتزايد الترسبات الطينية التي طمرت كثير من الآثار, فضلاً عن اهمال الحكومات المتعاقبة بموضوعة الآثار في ظل الاوضاع السياسية المعقدة والاحتلالات المتكررة والطويلة, بسبب اطماع اللصوص والغزاة وسرقة وتدمير ونبش الآثار وبيعها بأثمانٍ بخسة.
    كما أكد المحاضر الحسيني على أن "البوابات في حضارة بابل كانت انعكاس لبوابة المعبد, فالاهتمام والاعتناء بالباب بدأ منذ ظهور الانسان, حيث شكلت الباب له نوعاً من الأمان والحيطة والحذر والحماية وسواها من طقوس الباب", ثم عقب المحاضر الحسيني في محاضرته حول طقوس الباب والعلاقة بين المعبد والقصر مع الناس, ثم بين انواع الأبوات واتجاهاتها, منها : "بوابة أوراش, بوابة زبابا, بوابة مردوخ, بوابة عشتار, بوابة آنليل, بوابة أوسين, بوابة أدد, بوابة الشمس".
    وضح الحسيني من خلال محاضرته على فكرة الأبراج المتعددة للأسوار قائلاً: هي عبارة عن دعامات للأبواب وللأسوار, والتي زينت بتماثيل وحيوانات تمثل الإله الحامي, غير أن بعض البوابات كانت ترابط على جانبيها تماثيل الأسود من حجر اللازورد فضلاً إلى الدعامات المزينة بأشكال مختلفة من الرسوم, والاعتقاد السائد لغاية يومنا هذا بانها تطرد الأرواح الشريرة, ومن ثمة عظمتها وبهجتها. كانت دعامات بوابات حضارة بابل قد استفادوا من تجاويفها كغرف للحرس ومتطلبات عمل البوابات. كما كانت الوان بوابات بابل مختلفة إذ تعتمد على الوان طبقات الكواكب وهو اللون البرتقالي لبوابة الإله مردوخ, وكانت بوابة القمر فضية, وبوابة الشمس ذهبية, وبوابة آنليل لون السحاب, وبوابة أوراش اللون الترابي. من هذا يؤكد الحسيني أن الألوان كانت مستقاة من الوان الكواكب, مثلما كانت طبقات برج بورسيبا.
    عقب المحاضر الحسيني على نوع الخشب المنتقاة لصناعة البوابات قائلاً : كانت جميع البوابات من الخشب المتين وخاصة من خشب الأرز, لما يتمتع به هذا النوع من خصائص لا يتمتع بها غيره من الخشب, حيث كلما زادت رطوبته ازدادت صلابته, وكانت هذه البوابات تطعم بالبرونز والنحاس وحتى الذهب, وهذا أحد الأسباب في اختفاء هذه البوابات. كما تميزت بوابات مدينة بابل على العموم بالتصميم المزدوج واحتوائها على غرف جانبية كانت تستخدم للحرس والحماية وراحة الجنود.
     كما يعتقد الدكتور الحسيني من خلال اهتمامه بحضارة بابل وبواباتها أنها كانت تظم بوابات أخرى غير بوابات المركز الثمانية, ويجيب على تأكيد هذا الاعتقاد بسبب عدم اكتمال قراءة الرقم الطينية المكتشفة والغير مقروءة لحد الآن, والموجودة في متاحف العالم. وقد كانت هناك مداخلات من قبل الحضور من النخبة الأدبية والثقافية في بابل, وبعض الحضور من المغتربين الذي حضروا ليطلعوا على عظمة حضارة بابل وبواباتها التي اختفت, عدى باب عشتار التي سرقت من حضارة بابل.

150
من صور التدني الفكري والمعرفي
موسوعة المزارات الشيعية في العراق/ محافظة بابل إنموذجاً
نبيل الربيعي
 
صدر عن الأمانة العامة للمزارات الشيعية (موسوعة المزارات الشيعية في العراق/ محافظة بابل)، وأطلعت عليها بالاستعارة وهي مؤلفة من ستة أجزاء ، طبعت في دار الكفيل للطباعة والنشر في كربلاء المقدسة/ 2018م ، بطباعة جميلة وفاخرة وبجودة عالية ، وفرحت كثيراً بها ، لكن سرعان ما تبددت فرحتي ، وكنتُ آمل أن أرى ويرى الآخرون شيئاً جديداً يسر الباحث المتمعن لكن للأسف لم نلمس ذلك ، وقبل أن ندخل في ثنايا الموسوعة لا بد للقارئ أن يطلع على أوليات وبنية المركز الذي حرر هذه الموسوعة.
فالمركز أُسس سنة 2015م أتخذ من قرية (المزيدية) (25 كم جنوب مدينة الحلة) مقراً له ليكون بعيداً عن الاضواء لأسباب لا يعرفها إلا من لديه ... !!!، وهذا مما يثير الريبة ، فقد تعودنا أن تكون هكذا مراكز في قلب المدن المهمة لا في القرى النائية ، يرأسه رجل دين معمم مستقر في مدينة قم الايرانية هو بالأصل من اهل تلك القرية ، وكادره اربعة اشخاص أو يزيد حسب علمنا وجميعهم من أقارب ذلك الرجل المشرف!!!!!، وطرق سمعنا قبل أربع سنين بفكرة تأسيس المركز وكنا نأمل أن يختلف عن بقية الاصدارات ، وفعلا اختلف!!، حتى أن الأستاذ عباس شمس الدين صاحب كتاب (المزارات المزيفة) قد يعتريه فرحاً كبيراً لما في الموسوعة من تباين.
 فقد كُتبت الموسوعة بجو لا يخلوا من المحاباة والتزلف وفق السياسة العامة للبلد التي سعت وتسعى الى تبديد الأموال بنتاجات أقل ما يقال عنها انها ركيكة ، ومن وجهة نظرنا أن موضوع المزارات قد اشبع بحثاً وتنقيباً وكتب فيه كبار علماء الأمة بدأً من الشيخ حرز الدين وصولاً الى المعاصرين ، منهم : سعد الحداد وعبد الرضا عوض وثامر الخفاجي وعامر تاج الدين ، وغيرهم ممن لا تحضرني اسمائهم ، من ذلك لم يعد فيها أمراً خافياً على المتتبع. ولهذا نأى العديد من الباحثين في المشاركة في هذا العمل حين تمت دعوتهم للكتابة ، لأن عدوى استحداث المراقد قد استفحلت هذه الأيام حتى ان مدينة الحلة لوحدها ظهر فيها ستة مراقد جديدة ، وفي نظرنا فإنَ الموسوعة كتبت لا للتوثيق العلمي الصحيح وإنما لمجاراة هوى العوام ومحاباة بعض السدنة ، وإذا كان نتاج أكبر مؤسسة للتوثيق عند الطائفة الشيعية بهذا المستوى والقياس ، فمن المؤكد يسوقنا الأمر الى التشكيك في عدم الدقة بالنسب والانتساب لكثير من الاعلام ، وقد لا يتعدى الأمر عن أنه جانب ارتزاقي ..!!، لكن من المفروض أن لا يكون على حساب رموزنا الشيعية ، ولأن الموضوع طويل ومتشعب فقد هالني ما رأيت في الموسوعة ، وكما يلي :
-       فقار الموسوعة كتبت من قبل باحثين مقابل ثمن لكل بحث ، وجرت احتفالية في مزار الامام زيد بن علي (ع) قبل سنتين لهذا الغرض، كان على اللجنة أن تراجع الموضوعات لا أن تتركها على الغارب كما هي !، وإلا ما فائدة اللجنة وهي تتقاضى رواتب مجزية عن ذلك.؟ وما قيمة الموسوعة وهي تعج بالأخطاء.؟ فضلاً عن (الحشو) والسرد التاريخي الذي لا مبرر له كما في بحث العلماء الاربعة (ج6، 36-70).
-       الموسوعة كما ذكرنا مؤلفة من (6) أجزاء ، وبمعدل (5-6) بحوث لكل جزء فيها ، فقد دُونت فيها بحوثاً عن (30) مرقداً ، وأهملت بقية المراقد ، وعند استفسارنا عن البقية المهملة وما موقف المجتمع الحلي منها يأتي الجواب مبهماً وبما يتطابق مع جرد الشيخ شمس الدين لا بل هو نصرة له!!، وكأن الوارد في الموسوعة هو الخلاصة المنتقاة ، والبقية مزيفة لأن إدارة الوقف الشيعي لم تعترف بها – على حد قولهم-..!!
-       عند أول تصفحنا جاءت كلمة مذيلة باسم الأستاذ الدكتور نذير الحسني وهو يكرر عبارة (المشرف العلمي) ، فيا هل ترى من هو المشرف العلمي!! الذي وضع خبرته في هذه الموسوعة ودقق محتواها ، ان هذا الخبير ترك وصمة سلبية في سجل الوقف الشيعي..؟؟
-       في المقدمة منح احدهم نفسه لقب (الأستاذ الدكتور)ج1 ص13 ، وهذا استهلال يثير التساؤل فهو فاتحة مدعاة الى التأمل والتروي في مصداقية عمل مهم طالما انتظره المختصون ليروا محتواه ، فمن أين حصل على الاستاذية.!!
-       جاء في ج2 ص33 : (وقال رئيس ....) ، هذا خبر صحفي لا يتناسب مع توثيق المرقد ، ثم من هو الرئيس حتى يثاب أو يدان ، الكتابة هنا للتاريخ لا للتوثيق الصحفي الاعلامي الـ......!!
-       ورد في  ج2 ص61 السطر(12) (يعتقد) و(يقال) فالكتابة العلمية لا تحتمل تعبير (ويعتقد ، ويقال) ، و(يحتمل ، واحتمال) فبهذه الكلمة يولد الشك وتبقى الفقرة ما قبلها وما بعدها مشكوك فيها وهذا لا يتناسب مع البحث العلمي ، وغير موجود في اجندة الباحث في التاريخ، فكيف يكون مع موسوعة صرف عليها عشرات الملايين.
-       ان من الغريب في التأليف أن يحشر أحد أعضاء تحرير الموسوعة في الجزء الأول فقط (17) من مؤلفاته ودون اكمال التوصيف وكأنه يخترع منهجية جديدة بعبارة (بحوزة المؤلف) وهذا أمر غير متداول في منهجية البحث العلمي متجاهلاً دار النشر ان وجدت ، فبعض منها غير موجود اساساً وبعص منها طبع في دور نشر ومسجل برقم ايداع قانوني منذ عام 2013م مثل كتاب (تذكرة الظاعن في آل مطاعن)، وهذا العمل انفراد ينم عن جهل بطرق الكتابة العلمية...
-       تفتقد الموسوعة الى الدقة، فكما نعلم أن نتاج كهذا يمر في عدة مراحل ، من تدقيق ، ومراجعة ، ومتابعة ، فقد اشير في المتن الى المصدر لكننا لم نعثر عليه في قائمة المصادر، كما ورد ذلك في ترجمة الحسن بن عبيد الله (ع) ج2ص7 وص77. ودليل على عدم دقة الموسوعة تكرر في ج2ص291 وشحنت قائمة المصادر بتوصيفات لا أساس لها، فمثلاُ طباعة كتاب المراقد والمقامات لثامر الخفاجي نسب لمكتبة الصادق ، والصحيح هو ان الكتاب طبع في مشهد (الأستانة الرضوية).
-       في ج1 ص159 هناك اربعة احتمالات لهذا المرقد (أحمد بن الكاظم) بين مدن (شيراز ، بلخ ، وآسفريين ، والحلة) ، والحلة غير موجودة في ذلك الزمان. وقد تكون الحقيقة لا هذه ولا تلك!!.
-       أما موضوع (الإمام الحمزة الغربي (ع))، فقد استغرق البحث (65) صفحة في الجزء الثاني من الموسوعة من 42-103 ، وقد أشار الباحث الى كتاب (الصفوة المثلى في تاريخ أبي يعلى) الصادر عن مكتبة العلامة الحلي سنة 2013م ، وعند رجوعنا الى الإحالات لم نجد شيئاً من هذا، كما هو مثبت في ج2 الموسوعة الصفحات (78،79،80،82) وهكذا، وإنما اختزلها من كتاب الدرة البهية في تاريخ المدحتية الصادر سنة 2006م دون الاشارة له.
-       في موضوع السيد علي بن طاووس ج4 ص203، لم تحسم هيأة كتابة الموسوعة مكان المرقد فرجعت الى (المحتمل والاحتمال)، ومن تتبعنا فإن السيد علي بن طاووس توفي سنة 664هـ وليس كما ورد في الموسوعة 663هــ ، وقبره في النجف الأشرف، والمرقد الموجود في الحلة هو لعلي بن علي بن طاووس ، أي ابن المترجم له. وكان على الهيأة أن توضح ذلك للأمانة العلمية مبتعدة عن الخطأ الشائع..
-       ورد في ج2ص241، ان مرقد السيدة (شريفة) هو لفاطمة بنت الحسن (ع)، وكأنه أمر مقطوع به !!، وورد في العمارة الثانية لسنة 1988 للمحسن (السيد كريم بن السيد حسين ابو الحب).
-       في الجزء السادس جاء بحث استغرق الصفحات (36-85) بعنوان (العلماء الاربعة)، وهذا خطأ شاع بين العوام، فالمكان هو مدرسة يحيى بن سعيد الهذلي (ت589هـ) وعند وفاته دفن فيها وبمرور الايام اصبح جزء من المدرسة مقبرة ادركها المعمرون، واثناء الكشف عن المرقد سنة 1996 لا سنة 1994 كما ورد في الموسوعة لم توافق الحكومة آنذاك على تسمية المدرسة فسميت من قبل العامة هكذا ، ثم ان البحث استغرق صفحات لا وجوب لها وانما جاء من باب (الحشو) منقول  من بطون الكتب ، ولا رابط له قطعاً، فنبارك للموسوعة والقائمين عليها في تكريس الخطأ..!!، وسؤالنا : اين دور الخبير العلمي الذي لوح به رئيس الموسوعة.؟
-       المجتمع الحلي حريص على ان يجل مزاراته ومراقد علمائه، وسؤالنا ما هي فلسفة تجاهل اماكن مقدسة لعلماء اشتهروا في ترسيخ الفقه الامامي، امثال: محمد ابن ادريس (ت598هـ) ، وإبراهيم بن سليمان القطيفي (ت951هـ) وعبد الكرين بن طاووس ، وابن حماد ، والخليعي ، وابن فهد الاحسائي، وابن الحطاب ، وغيرهم الكثير. أين هو البحث العلمي بموضوع المزارات؟ .
هذه بعض الاشارات السريعة لهذا العمل الذي لا يتناسب مع موسوعة صرف عليها مئات الملايين واستغرقت خمس سنين...
راجين من المشرفين على الموسوعة الاجابة عن استفساراتنا قبل نشرها على مواقع الصحف الورقية والالكترونية.
مع فائق الشكر والتقدير.....
 
 

151
قصة العثور على أرشيف المكون اليهودي العراقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
        من خلال علاقتنا التاريخية القلقة مع يهود العراق, وفي خضم الأحداث والأزمات التي رافقتها, تأصلت فينا على مر الزمن حالة لا تبارحنا إلى يومنا هذا, وهي صورة اليهودي عدواً, تحولت الفكرة إلى قوة ناهية لكل فعل ينوي تعديل الصورة, تلك الصورة المرسومة في المخيلة سلفاَ :(مستغلون, محتكرون, منعزلون, عملاء, اعداء, صهاينة. إذن كيف السبيل والغاية إلى الخروج من هذه الاشكالية المفروضة, بالحق وانصاف التاريخ؟ أم مسايرة المفروض لما تم غرسه في نفوسنا؟ لأحد مكونات الشعب العراقي الذي عاش في بلاد الرافدين زهاء 2600 سنة حتى هجرتهم القسرية عام 1951م.
      المشكلة الأساسية ليست في حق العراق بامتلاك أرثه بصرف النظر عن الاعتبارات الدينية ، بل أن حق العراق في امتلاك هذا الارث هو حق أصيل تبعاً للظروف الموضوعية والتاريخية. ولكن علينا التذكّر فقط أننا نتحدث عن أرث تاريخي ، وثائق وآثار هامة للغاية للبحث العلمي والتاريخي وتكاد تكون كنزاً بالنسبة لمراكز البحوث ، والأكثر من هذا أن الدول قد تمتلك حصرياً أرثها التاريخي ، لكن تلك الملكية لا تؤهلها لإخفاء هذا الارث ومنع البشرية من الاطلاع عليه . قضية الأرشيف اليهودي بصرف النظر عن الجدل السياسي حوله يبدو اليوم أقرب إلى أن يوضع في أطار حلم ، لكل المهتمين بالارث الفكري الإنساني والباحثين فيه، تحت بند أن تراث البشرية هو تراث مشترك(1).
       ضمن امسيات اتحاد ادباء وكتاب بابل وبرنامجه الثقافي الثاني والأربعون. وكانت محاضرتي ليوم الخميس الماضي ٢١/٢/٢٠١٩ تحت عنوان (الارشيف اليهودي العراقي). وقد ادار الجلسة د. عبد الرضا عوض.
      بداية المحاضرة تطرقت عن تأريخ تواجد المكون اليهودي في العراقي منذ السبي الآشوري عام 859 ق.م ولغاية ترحيلهم القسري عن العراق عام 1951م. ومن ثم ما قامت به الحكومات المتعاقبة على اعتقال وتغيب واعدام ابناء المكون اليهودي, ثم التطرق عن طريقة العثور على الأرشيف اليهودي العراقي.
      في قبو داخل مقر جهاز المخابرات العراقية لحكومة العراق السابقة قبعت الوثائق والآثار والمخطوطات الهامة التي يتم توصيفها اليوم تحت مصطلح «الأرشيف اليهودي» لعشرات السنوات بعيداً عن الأعين وفي أجواء خزن لا تراعي المعايير الدولية , ما أدى إلى تلف العديد منها, حتى العام 2003م لم تكن القضية مثاراً للجدل، وكان بالإمكان أن تتعرض تلك الوثائق إلى الحرق أو التلف الكامل من دون أن يعرف العراقيون حتى أنها موجودة في ذلك القبو . وبناءً على معلومات سرية , ذكر أن العثور على وثائق وملفات الأرشيف اليهودي تمت من قبل الجيش الأميركي في السادس من أيار 2003م ، إذ قام 16 جندياً أمريكياً, وهم من ضمن فرقة البحث عن أسلحة الدمار الشامل ، حيث تم العثور على كمية من لفائف التوراة ، وكتب الصلاة والتقويمات العبرية العائدة لتأريخ حقبة من الزمن لتأريخ طائفة دينية عاشت قرابة 26 قرن من الزمن في بلاد الرافدين وهجّرَ لأسباب شتى من العراق حتى بقى منها النفر القليل الذي لا يتجاوز أصابع اليد . أن الدفين - الأرشيف اليهودي - وجدَ متعفن، وبعضه ذات قيمة وثمن حضاري وتأريخي ، والكثير منه لا يقدر بثمن وهناك 7002 من الكتب وعشرات الآلاف من الوثائق التي سرقت من يهود العراق(2).
      في المقابل، كشف سعد اسكندر ، مدير دار الوثائق العراقية :«أن الوثائق التي عثر عليها بعد سقوط النظام السابق عام 2003م كانت ثلاثة أنواع : وثائق أمنية، أرشيف حزب البعث، والأرشيف اليهودي ، إذ أنه مجموعة من الكتب الحجرية القديمة والكتب الحديثة ووثائق ومخطوطات يعود تأريخها إلى ما قبل 300 سنة أو أكثر , هذه الوثائق التي جاءت بعد تهجير يهود العراق وسلب ممتلكاتهم وإخراجهم من العراق ، و ترك ما تبقى من معابد ومدارس وبعض البيوت الكبيرة التابعة للطائفة , في عهد صدام حسين أراد نظامه إكمال عملية الإبادة فبدأ بالموروث الفني والثقافي اليهودي وهاجم المعابد والبيوتات واستولى على وثائقهم وكتبهم.
     هناك اكثر من رواية لقصة العثور على الأرشيف اليهودي العراقي, ومن ثم الاستيلاء على موجوداته وسرقتها:-
أولاً الرواية العراقية الرسمية يسردها مدير دار الكتب والوثائق العراقية سعد اسكندر بقوله : إن الأميركيين لم يعثروا على الأرشيف اليهودي كما يدعون, بل أن أحد كبار ضباط جهاز المخابرات العراقي السابق, تقرب من أحد رجال المعارضة (بعد عودتهم من العراق) وأخبره أنه كان مسؤولاً عن أرشيف مهم جداً يعود إلى النبي موسى, ويريد كشفه للقوات الأميركية بشرط الحصول على ضمانات أمنية. وبالفعل قامت الفرقة العسكرية المكلفة بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل (فرقة ألفا) وبعد تحديد موقع الأرشيف بمساعدة عراقية, صدرت أوامر وزير الدفاع الأميركي بجمع الأرشيف والتحفظ عليه(3).
     تذكر رئيسة هيئة الآثار والتراث العراقية د. أميرة عيدان : أن القوات الأميركية عثرت على حوالي (30) صندوقاً تحتوي مخطوطات باللغة العبرية في أحد أقبية دائرة المخابرات العراقية(4).
      أخرج الجيش الأميركي الأرشيف من قبو تحت الأرض ، بالاتفاق مع سلطة الائتلاف الأميركي المدني ، وتم الاتفاق مع مؤسسة نارا- الأرشيف الوطني الأميركي- التي تولت عملية الترميم , وينص الاتفاق مع المؤسسة على أن تكون وزارة الثقافة العراقية طرفاً معها ، بعد حل سلطة الائتلاف الأميركي»(5)
 ثانياً بعض الروايات تؤكد أن القوات الأمريكية عندما اجتاحت العراق , عثرت على سجن خفي في قبو في مديرية الاستخبارات العراقية , يضم 16 صندوقاً من الحديد والخشب , وقد نقل الأرشيف إلى مطار بغداد مقر القوات الأمريكية, كاشفاً أن أحد المترجمين العراقيين أبلغ عن وجود هذا الأرشيف لدى القوات الأمريكية في مطار بغداد , إلا أن أمريكا عام 2005م قامت بتوقيع مستندات مع العراق بأن تستعيد الأرشيف اليهودي.
ثالثاً فقد نشرتها صحيفة الواشنطن بوست بقلم الكاتب لورين ماركو في 10 كانون الاول 2013 فتذكر انه : بناءً على معلومات سرية قام 16 جندياً اميركياً باقتحام الطابق السفلي من مقر المخابرات لنظام الرئيس السابق صدام حسين في بغداد في 16 آيار 2003 الذي غمرته المياه, حيث تم العثور على كمية من لفائف التوراة وكتب الصلاة والتقويمات العبرية.
محتويات الأرشيف
      حاولت الجهات الرسمية العراقية التقليل من أهمية محتويات الأرشيف اليهودي العراقي. ذكر السفير العراقي في أمريكا لقمان فيلي «بأن الأرشيف العراقي في أمريكا ليس يهودياً بالكامل , إذ يضم وثائق تعود إلى منظمة التحرير الفلسطينية , إضافة إلى وثائق أمنية وأرشيف حزب البعث . كما أن معظم الكتب الدينية للأرشيف اليهودي كانت بالعبرية ومنها بالعربية, ومن ضمن محتويات الأرشيف اليهودي:
1-   كمية من لفائف التوراة لمقاطع من سفر التكوين البالغ عددها 48 مكتوبه على جلد .
2-   تقويمات باللغة العبرية .
3-   7002 كتاب.
4-   مجموعة من الخطب المطبوعة بشكل جميل من قبل حاخام في المانيا في عام 1692م.
5-   عشرات الآلاف من الوثائق المدرسية تعود لأعوام العشرينات من القرن الماضي حتى منتصف السبعينات , والكتب المدرسية التربوية لمدارس الأليانس.
6-   1700 تحفة نادرة توثق لعهد السبي البابلي الأول والثاني.
7-   أقدم نسخة للتلمود البابلي تعود لعام 1793م .
8-   أقدم نسخة للتوراة عمرها 200 سنة جلبت أصلاً من فينا عام 1568م.
9-   مخطوطات تاريخية .
10-                     سجلات شرعية تعود لعدة قرون التي تركتها الجالية اليهودية العراقية.
11-                     كتب دينية وقصصاً تعود إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
12-                     لفائف من التوراة برقع جلدية .
13-                     أنجيلاً بلغة العبرية .
14-                     وثيقة عبارة عن مذكرات مكتوبة يدوياً عام 1902م.
15-                     كتاب صلوات عيد الفصح يعود لعام 1930م باللغتين العبرية والفرنسية.
16-                     مجموعة من المواعظ لأحد رجال الدين طبعت في ألمانيا عام 1892م.
17-                     كتاب التصوف عام 1815م.
18-                     رسالة رسمية تعود إلى رئيس الحاخامات بشأن تخصيص الأغنام لرأس السنة.
19-                     تقويم عربي وعبري لعام 1972/ 1973م.
20-                     كتاب مقدس باللغة العبرية عمرة 400 سنة.
      يقول اليهودي العراقي الثري (أدوين شكر) المقيم في لندن, والذي غادر العراق عام 1971م وعثر على شهادته المدرسية ضمن المعروضات في واشنطن : يحتوي الأرشيف على عشرات الآلاف من الوثائق, وما يقرب من (2700 كتاب) تم عرض (24) قطعة منها فقط في المعرض, ومن بين هذه القطع شهادتي المدرسية.. ويحتوي الأرشيف كذلك على المستندات التي تم العثور عليها داخل مدرسة (فرنك عيني) اليهودية في بغداد, التي تم إغلاقها عام 1972م وتحويلها إلى المدرسة النظامية التابعة إلى وزارة التربية. كذلك يوجد ضمن الأرشيف وثائق زواج وكتب ومراسلات بين أبناء الطائفة اليهودية العراقية وجهات في دول العالم, إلى جانب نسخ من كتب دينية وتاريخية يرجع تاريخية إلى ما يزيد عن (400) سنة(6).
    من جهته يذكر النائب الإسرائيلي العمالي (موردخاي بن فورات) وهو أحد المنحدرين من يهود العراق الذي يعمل باحثاً في مركز (إرث يهود بابل) الواقع قرب تل أبيب: إن إسرائيل اشترت مجموعة من المخطوطات الأثرية الثمينة من عناصر ميليشيا رافقت القوات الأميركية لدى دخولها إلى العراق عام 2003. ويضيف : إننا تمكنا من الحصول على تعليق نادر لسفر أيوب نشر سنة 1487م وقسم من كتب الأنبياء المنشورة في البندقية سنة 1617م من مخازن حصينة لأجهزة الأمن العراقية في عهد صدام حسين(7).
صيانة وترميم الأرشيف
      بعد نقل القوات الأمريكية الأرشيف للصيانة إلى إدارة الأرشيف الأمريكي للوثائق في ميراند تكساس كلية بارك , للتأكد من سلامة الأرشيف العراقي اليهودي , بعد أن تعرض للرطوبة والحرارة أثناء الخزن , والاطلاع على عمليات حفظه وصيانته التي تم باستخدام التقنيات والأساليب الحديثة , في هذا المجال وترقيم صفحاته بشكل الكتروني , وأعداد عرض صوري وفديوي يوثق عمليات نقل الأرشيف وصيانته وإنقاذه من التلف, كما أن مكونات الأرشيف نحو 18% تنطوي على أهمية تاريخية فعلاً , في وقت يتوقع اكتمال صيانته منتصف عام 2014م ليجري تسليمه إلى الحكومة العراقية بحسب الاتفاق بين الجانبين.
      لكن مشروع الترميم كان متعثراً حسب تصريحات الحكومة الأمريكية, أثر ازدياد العنف وسفك الدماء في بغداد عام 2006م , إلا أن عودة الاستقرار بعد عام 2007م تقريباً إلى العراق تحول مبلغ ثلاث ملايين دولار في عام 2011م وهو الدعم الاقتصادي للعراق لدعم إعادة العمل وللترميم بالشكل الجيد وفق أساليب علمية رصينة , ومن المتوقع أن يصل اثنان من خبراء العراق للاطلاع على مجريات العمل في مجموعة الملف التي تم العثور عليها.
      في كلية بارك في تكساس في قسم الأرشيف , إذ يعمل عدد من الخبراء بشكل متواصل بأجهزة وأدوات مختلفة للتنظيف وترقيم الوثائق والأوراق المهمة وتغليفها, كما يعمل عدد من التقنيون لامتصاص الرطوبة من تلك الأوراق, وخاصة كتب الصلوات وإصلاح ما تلفتها الحشرات عبر الأعوام , كما أن البعض يتم تنظيفها تماماً وقد يتم تجليدها ثانية, بعد إنجاز الإصلاح والترميم سيتم عرض الأرشيف على الشبكات الفضائية مع تنظيم معرض له بعنوان اكتشاف واستعادة المحافظة على التراث اليهودي العراقي(8).
       أن الأرشيف يتضمن مجموعة من الوثائق المهمة التي تؤكد تاريخ الحضارة البابلية وتأريخ اليهود ويحكي قصة اليهود ، وهنالك صيحات كثيرة ليس فقط من الحكومة العراقية ولكن من المواطنين أيضاً لاستعادة الأرشيف اليهود بعودته إلى موطنه الأصلي حضارة بلاد الرافدين , أن المرحلة المقبلة ستشهد تحسناً في قضية استعادة الأرشيف اليهودي ولكن لا يمكن أن نحدد متى يعود إلى موطنه الأصلي(9).
مراسيم دفن الأجزاء التالفة من الأرشيف 
       أبدى متحف الأرشيف الأميركي موافقته على نقل جزء من الأرشيف اليهودي العراقي إلى بغداد فيما تم دفن الأجزاء التالفة منه في مقبرة لليهود العراقيين في نيويورك ، بينما تستعد لجنة حكومية لمتابعة هذا الملف مع المسؤولين الأميركيين(10) , من خلال ما تم من أجراء مراسيم دينية خاصة لدفن الأجزاء المتضررة من الأرشيف يعكس صورة العراق الجديد ، كانت مراسيم الدفن لأجزاء وصفحات تالفة من التوراة التي هي جزء من محتويات الأرشيف اليهودي الذي نقل لترميمه في واشنطن وذلك في مقبرة (نيو مومنتيفور) التابعة للجالية اليهودية في ضواحي مدينة نيويورك ، بحضور السفير العراقي في واشنطن ، لقمان فيلي ، بحسب ما نقلت صحيفة تايمز أوف انديا THE TIMES OF INDIA ، أنه وفقاً للقانون والعرف اليهودي ، فإن أسلوب الدفن هذا يستخدم للأشياء التي تحمل طابعاً مقدساً وتتعرض للتلف ولم تعد مناسبة للاستخدام والتداول . وقال رئيس منظمة الجالية اليهودية في العراق ، موريس شوحيت، بحسب الصحيفة أوف انديا ، إن «الصندوق الذي وضع في القبر يحتوي على الأجزاء والصفحات التالفة من التوراة التي علاها التعفن والتفسخ ، كما أن أكثر من 120 شخصاً حضروا مراسيم الدفن» . وبينت الصحيفة أن «الأرشيف الوطني في واشنطن ، كان قد نظم معرضاً لبعض العينات من محتويات الأرشيف اليهودي بعد ترميمها لفسح المجال أمام الزوار من الجالية اليهودية والآخرين ، إلقاء نظرة على إرث اليهود الذين عاشوا في العراق منذ مئات السنين ، ومقتنياتهم القديمة والنادرة»(11).
رأي بعض العراقيين حول عودة الأرشيف
      هناك عدة تساؤلات حول الأرشيف , منها من يقول : العجيب أن يكثر الحديث اليوم عن إرسال الأرشيف اليهودي إلى وزارة الآثار العراقية في بغداد على الرغم من أنه من غير الواضح أين سيتم حفظه أو عرضه؟ والسؤال الكبير حول الأرشيف الذي يطرحه يهود العراق اليوم هو كيف يمكن إرجاعه إلى العراق دون ضمانات حقيقية لحفظه وصيانته وإمكانية الاستفادة منه خصوصا وادعاء الحكومة أنها تمتلك أضعافه في العراق؟ فلماذا لا يمكنها حفظ وصيانة الموجود فعلاً عندها لتضعه في المتاحف بصيانة واهتمام ويتم عرضه في المتحف وإمكانية الاستفادة منه؟.
       لذلك كله كتب بعضهم رسالة موجهة إلى مسؤولين في الإدارة الأمريكية ووقّعها الكثير من الحضور من اليهود العراقيين يطالبونهم بالحفاظ على أرشيفهم وعدم تسليمه إلى بغداد كحق طبيعي من حقوقهم بعد كل تلك المحن والمآسي والتهجير والمعاناة, فضلاً عن السعي الحثيث لاسترجاع الحقوق المغتصبة لتأريخ أبناء الديانة اليهودية , وإن تأريخاً عظيماً عمره ثلاثة آلاف عام لا يمكن أن تمحيه خمسين عاماً من المعاناة والمحنة والتهجير وسيبقى خالداً يدونه التاريخ بحروف من ذهب كما يتذكره الطيبون من مختلف الأديان والمذاهب الذين تعايشوا وتحاببوا وتزاوجوا بمودة ووئام وانسجام وسلام(12).
      يتساءل الصحفي نبيل الحيدري في مقال على موقع إيلاف إن «السؤال الحقيقي هو أين حقوق يهود العراق اليوم ؟ فإذا أقرّت الحكومة بتأريخهم العظيم, فعليهم بإرجاع جنسياتهم أولاً كما طالبت في مؤتمر الأديان في السليمانية العام الماضي , وكذلك طالبتُ إعطائهم مقاعد برلمانية أسوة بغيرهم من الأديان والمذاهب لإرجاع جميع ممتلكاتهم وأموالهم التي سلبت ظلماً وعدواناً ,وتعويضهم عن الخسائر الفادحة التي ألمّت بهم , فكيف يجوز إرجاع الأرشيف بدون أهله وأصحابه الحقيقيين , وهذا غير مقبول , فمثلا الشهادة المدرسية ترجع إلى صاحبها الحقيقي وكذلك الوثائق الأخرى . والسؤال الكبير حول الأرشيف الذى يطرحه يهود العراق اليوم هو كيف يمكن إرجاعه إلى العراق دون ضمانات حقيقية لحفظه وصيانته وإمكانية الاستفادة منه خصوصاً , وادعاء الحكومة أنها تمتلك أضعافه في العراق ، فلماذا لا يمكنها حفظ وصيانة الموجود فعلاً عندها لتضعه في المتاحف بصيانة واهتمام ويتم عرضه في المتحف وإمكانية الاستفادة منه . لذلك كله كتب بعضهم رسالة موجهة إلى مسؤولين في الإدارة الأمريكية ووقّعها الكثير من الحضور من اليهود العراقيين يطالبونهم بالحفاظ على أرشيفهم وعدم تسليمه إلى بغداد كحق طبيعي من حقوقهم بعد كل تلك المحن والمآسي والتهجير والمعاناة , فضلاً عن السعي الحثيث لاسترجاع الحقوق المغتصبة لتاريخ ناصع يتجاوز المسلمين والمسيحيين في ثلاثة آلاف عام باهر خالد(13).
      أما رأي الأستاذ سمير عزت معلم , الذي أرسل في رسالة على النت قال : رأي في الموضوع هو على أساس :
٠١  مصدر المعروضات: اغلب المعروضات صودرت من بيوت وكنائس يهودية عند قيام سلطات الأمن/الاستخبارات بمداهمة البيوت والكنائس.
 ٠٢ الأهمية الدينية: لا أهمية  لصندوق خشبي بداخله مجلة جلدية ملفوفة وعليها مخطوطات التعاليم الدينية بالعبرية لمن لا يقرأ العبرية.
٠٣  انتقاص فئة: أن كانت الغاية من الإعادة عرض المفردات على أبناء الشعب العراقي فلن يتم ذلك تماما ما لم تسنح الفرصة أمام اليهود العراقيين من زيارة العراق والمعرض.
      لذلك اعتقد انه من المرجح ترك المعروضات لمن سهر وحرص على استعمال جميع طرق التكنولوجية في استنساخ وإنقاذ ملفات تلفت في مياه السراديب وتوضع الآن تحت أنظار الجميع دون تفرقة.
      أما رأي الأستاذ حسقيل عزرا جميل , في رسالة على النت قال : عزيزي نبيل اعتقد الأحسن أن يكون الارشيف اليهودي لدى دوله محايدة للحفاظ عليه وهذا أوسط الأمرين.
      أما السيدة ثريا كانوا بطرس فقد علقت على الموضوع وقالت: أفضل حل باعتقادي هو وضعه أمانة لدى اليونسكو، لحين استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية ووجود حكومة عراقية تهتم بتراث العراق كله على أساس أنهُ تراث وطني وليس على أساس نظرة إيديولوجية
      أما الدكتور خضر البصون , فكان لهُ رأي مخالف إذ قال : اعتقد أني معارض لفكرة إرجاع الارشيف إلى العراق . طبعاً المكان اللائق له في متحف يهود العراق حيث يعيش معظم يهود العراق , ولكن إذا كان هذا علقم مرّ , فمن الطبيعي أن نفضل أن يبقى في دولة «محايدة» ربما انكلترا حيث أسهل السفر إليها.
      كما علق الدكتور فلاح حاج حول الارشيف وقال : الارشيف ثروة تاريخية ينبغي الحفاظ عليها ، على الأقل للاستفادة منه في مجال التوثيق . هذه كنوز ثمينة بغض النظر عن موقفنا من دولة إسرائيل . ربما يكون من المناسب الاحتفاظ بهِ في دولة محايدة مؤقتا بسبب الأوضاع الأمنية غير الطبيعية.
وفي نهاية الأمسية كانت هناك مداخلات بشار عليوي, سعد الشلاه, د. نصير الحسيني, الباحث أحمد الناجي, د. عبد الرضا عوض) وكانت هناك عدة تساؤلات حول الأرشيف , منها من يقول : العجيب أن يكثر الحديث اليوم عن إرسال الأرشيف اليهودي إلى وزارة الآثار العراقية في بغداد على الرغم من أنه من غير الواضح أين سيتم حفظه أو عرضه؟ والسؤال الكبير حول الأرشيف هو كيف يمكن إرجاعه إلى العراق دون ضمانات حقيقية لحفظه وصيانته وإمكانية الاستفادة منه خصوصا وادعاء الحكومة أنها تمتلك أضعافه في العراق؟ فلماذا لا يمكنها حفظ وصيانة الموجود فعلاً عندها لتضعه في المتاحف بصيانة واهتمام ويتم عرضه في المتحف وإمكانية الاستفادة منه؟.
     أما من ناحية المخاوف على الأرشيف من قبل الحضور فهي عديدة منها مثلا : أين وكيف سيحافظ على الأرشيف؟ هل سيبقى كأرشيف كامل؟ هل سيكون مصير الأرشيف مثل ما حصل ولا يزال يحصل بالآثار في العراق؟ كيف يمكن الاطلاع عليه وعلى محتوياته إذا عاد إلى مكان غير آمن؟ وقد كانت حصيلة الحوار أن يبقى الأرشيف في دولة محايدة للحفاظ عليه دون عودته إلى العراق.
 
المصادر
1-    مصطفى الكاظمي - الحرة عراق - عن الأرشيف اليهودي .. وحلول تضمن الحقوق-10-2-2014.
2-    الواشنطن بوست تروي قصة سرقة الأرشيف اليهودي العراقي 11/12/2013. http://l-news.net/index.php/policy/36438.html
3-    جريدة العرب بتاريخ 5/10/2009. حوار مع مدير عام دار الكتب والوثائق العراقية د. سعد اسكندر.
4-      تصريح أوردته وسائل الإعلام العراقية في 5/1/2009.
5-      صحيفة الصباح الجديد - سها الشيخلي في 3/18/2014.
6-    صحيفة العرب. العدد 9435 بتاريخ 11/1/2014 . حوار مع اليهودي العراقي أدون شكر..
7-      صحيفة العرب العدد 9436 في 11/1/2014.
8-    صحيفة الصباح -الأرشيف اليهودي العراقي.. في طريق العودة – في8-9-2014 http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=77399
9-      العراق تايمز – الأرشيف اليهودي في طريقه إلى بغداد -http://sumria.blogspot.com/2013/04/blog-post_6.html
10-                        العراق تايمز- الأرشيف اليهودي في طريقه إلى بغداد- http://sumria.blogspot.com/2013/04/blog-post_6.html
11-                        المدى برس/ بغداد -17-12-2013 تحت عنوان (مراسم دفن أجزاء تالفة من الأرشيف اليهودي في نيويورك).
12-                        نبيل الحيدري - الأرشيف اليهودي العراقي تاريخ حافل بالأمجاد –إيلاف - في 20-ديسمبر – 2013.
13-                        موقع إيلاف – نبيل الحيدري - الأرشيف اليهودي العراقي تاريخ حافل بالأمجاد-20 ديسمبر 2013- See more at: http://www.elaph.com/Web/opinion/2013/12/858745.html#sthash.HRwqvA02.dpuf
 

152
تأسس الحلة وتمصيرها
د. عبد الرضا عوض
مقدمة
كما هو معلوم فإنَّ مدينة الحِلة كانت تعرف بالجامعين قبل تمصيرها (1) ؛ وهي اليوم إحدى محلات هذه المدينة ؛ نسبةً إلى جامعين اثنين صلى فيهما أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب -;- ؛ أثناء رجوعه من معاركه في صفين والنهروان سنتي 36 و37 هـ/ 656و657م ، ومكث فيها خمسة وأربعين يوما وأقام فيها صلاة الجمعة ؛ ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن يأخذ الناس الماء من البئر الموجود في الجامع الذي توضأ منه أمير المؤمنين -;- ويتبركون به ؛ وكان الإمام ينتظر أحد قادة جيشه ؛ وهو عبد العزيز السراي(2) الذي كان جريحا ؛ وبعد وصوله توفي فغسله الإمام ودفنه وقبره ما زال هناك(3) 0
التأسيس
لم نحصل على تاريخ متفق عليه في نشوء هذه الحاضرة البهية ، لكن المؤرخين أجمعوا أن لها ذكر وحوادث قبل أن يمصرها الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور سنة 495هـ ، وهناك عدة آراء دونها المؤرخون في كتبهم حول تأسيسها لكنها غير قاطعة، هي:
1- هناك من ذَكرَ أن أرض الجامعين هي بقايا قرية بابلية تغور في القدم ، فهي مأهولة بالسكان قبل قرون من تمصيرها ، ولعلها تحمل أسم بابلي لم يصل الينا.
2- وهناك رأي يقول انها نشأت سنة 37هـ حينما حط رحاله فيها الإمام علي بن أبي طالب(ع) ووارى جثمان قائد جيشه الشهيد عبد العزيز بن السراي المدائني في هذا المكان فبنيت البيوت حول المرقد وتوسع عمرانها.
3- ومنهم من قال انها نشأت قبل تأسيس بغداد حينما زارها وحط رحاله فيها الإمام جعفر الصادق سنة 132هـ.
4- وذكر المسعودي في مروجه: أن أبا مسلم الخراساني قائد حملة اسقاط الدولة الأموية سنة 132هـ هو من أهل برس والجامعين.
وورد لها ذكر في بطون الكتب تحت اسم (الجامعين) منها:
- أول ذكر لهذه الحاضرة ورد في معجم الادباء لياقوت الحموي قائلاً: ان القاضي الحسن بن علي بن داود التنوخي البصري (ت384هـ) صاحب كتاب (نشوار المحاضرة) كان يقضي في الجامعين وسورا.
- ان شبيب بن حماد بن مزيد الأسدي قد خرج على ابن عمه الأمير دبيس سنة 422هـ وسكن الجامعين .
- ان قبيلة خفاجة أفسدت فدخلت الجامعين سنة 446هـ فأستعان الأمير دبيس بن علي بالبساسيري فطردهم من الجامعين.
- انها كانت مضمونة من قبل العقيليين مع الكوفة والقصر(قصر بن أبي هبيرة) قبل وصول المزيديين اليها.
التمصير
ومفهوم التمصير للحاضرة هو: وجود بناء جامع ومكان للعبادة (جامع أو دير) ومدرسة ، وقاضي يحكم بين الناس ، وتنظيم لحركة السوق ، وثكنة عسكرية فيها جند مهمتهم حمايتها وتنظم امورها.
والجامعين كانت حاضرة مأهولة فيها مساكن قبل أن يطأها الأمير صدقة لكنها غير منظمة ، فلما دخلها صدقة بن منصور الأسدي يوم 5محرم سنة495هـ/1101م اكمل مستلزمات المدينة فيها وحملت اسم (الحلّة) أي مكان نزول القوم فُعد يوم التمصير.وهكذا الكوفة والبصرة والقاهرة..
انتقل الأمير صدقة بن منصور المزيدي (قتل سنة 501هـ) بإمارته المزيدية من أرض النيل شرق الحلة الى أراضي الجامعين عابراً فرات الحلة بعد اختلافه مع الادارة السلجوقية حول رسم الضمان كان ذلك يوم الأربعاء الخامس من شهر محرم الحرام سنة 495هـ الموافق يوم 30 تشرين الأول 1101م.
ولهذا التمصير قصة ، نذكرها هنا كما وردت في بطون الكتب:
اشتد الخلاف بين الأمير المزيدي الخامس سيف الدولة صدقة بن منصور الأسدي مع السلطان بركيارق بن ملكشاه السلجوقي ، في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله (ت512ه) ، فأرسل له موفداً عنه في شهر ذي الحجة سنة 494هـ، قال له: ((لقد تخلّف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار وكذا ديناراً لسنين كثيرة فإن أرسلتها وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك)) ، فلما سمع هذه الرسالة من الأمير أياز ، قال صدقة: "لا أحضر ولا أطيع السلطان إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن(1) إلي وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبدا"(1).
وعند امتناع صدقة من تسديد رسوم بذمة إمارته الى السلاجقة أرسل الوزير الدهستاني مندوباً عنه الى الأمير صدقة في النيل يطالبه بالمبلغ، واشتد الجدال بينهما وخرج صدقة من الخيمة التي دار بها الكلام وأمر معيته بقطع أطناب الخيمة على رأس الوفد الذي أرسله الدهستاني فسقطت الخيمة على من كان حاضراً ، وغادر القوم النيل فأرسل ذلك المندوب رقعة فيها ثلاثة أبيات من الشعر الى الأمير صدقة، مفادها تهديد ووعيد ، هي:
لا ضربت لي بالعراق خيمة
ولا علت انامــــــــــــلي على قلم
ان لم أقدها من بلاد فارسٍ
شعث النواصي تحتها سود العمم
حتى ترى لي في الفرات وقعة
يشرب منها الماء ممزوجاً بدم(2)
فلما وصلت الأبيات الى الأمير صدقة علم ان السلاجقة سيشنون حرباً كاسحة ضده ، فقرر في أوائل شهر محرم عام 495 للهجرة النبوية الشريفة الانتقال بجيشه ومعيته من أرض النيل ليعبر فرات الحلة ويحط رحاله في أرض الجامعين التي كانت تحت ولاية ابن عمه شبيب بن حماد الأسدي ليسجل التاريخ حدثاً مهماً ويؤرخه لتمصير الحلة الفيحاء 0
وتجدر الإشارة الى أن الحرب لم تجرِ ، ولم يصب الأمير صدقة بسوء بسبب مقتل الوزير الدهستاني في أصفهان في شهر صفر 495هـ ، ولذلك تطورت الحلة وبنيت فيها المساكن وأماكن الدرس وأُطلق عليها تمييزاً (السيفية) نسبة لسيف الدولة الأمير صدقة بن منصور ، الذي قتل في معركة النعمانية سنة 501ه ، وغدت الحلة من أشهر وأجمل مدن الدنيا ، وانتهت الإمارة سنة 545هـ بموت آخر أمرائها الأمير علي بن دبيس بن صدقة ، ولما زارها الوزير ابو جعفر البلدي(1) سنة 564ه ، قال شعراً ، منه:
لما نزلت بدار المزيدي وقد
أخنى عليها الذي اخنى على لبد
أصبحت مدينة الحلة مناراً للعلم حينما احتضنت الحوزة العلمية سنة 562هـ على عهد ابن إدريس ، صاحب السرائر (ت598هـ) ، واستمرت الى سنة 951هـ بوفاة الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي، ولا غرابة في أن تحتضن الحلة الوافدين من شتى بقاع العالم وتحافظ على عروبتها ، فأصبحت منارةً للفقه الإسلامي والأدب العربي(1)، إذا ما علمنا أن كثيراً من العلماء والأدباء قدموا الى الحلة واستقروا بها، وأصبحوا من جملة أهلها وتتلمذوا فيها0
ولغرض تسليط الضوء على هذا الحدث والذي سُميّ يوم التمصير، نقول:
إن أول من فكر بإحياء يوم التمصير هم جماعة عشتار(2) سنة 1972م ، واستعانوا بالمرحوم المهندس سامي علي السلطان وكان يومذاك مديراً للبلدية ورئيساً لغرفة تجارة الحلة وكان يعاونه الشاعر السيد محمد علي النجار الذي اعدَّ قصيدة للمناسبة ، منها:
يا حلّة الفيحاء قبل قرونِ

كم عشت بين تحرّكٍ وسكونِ

ويقول فيها:
أهداف هذا المهرجان كثيرة

حيث الحديث بشأنه يغريني

وإذا تظافرت الجهودُ لحملةٍ

كبرى بفكرٍ ثاقبٍ ورصينِ


فبلادنا تهفو إليها أنفسُ الـ

ـسيَّاح قاطبة بلا تعيينِ


بعد انتهاء تلك الجلسة دار حديث حول مشروع مهرجان (تمصير مدينة الحلة) أو(الذكرى التسعمائة لتمصير الحلة) بين الاستاذين سامي علي السلطان وعدنان العوادي، وكان السلطان قد تسلَّم مسودة المشروع من السيد محمد علي النجار ومحمد سعيد بقلي اثناء اجتماعه في غرفة التجارة، ورحب العوادي بالفكرة وتمت مخاطبات رسمية بين بلدية الحلة ووزارة الاعلام الذي كان يتولاها آنذاك عبد الله علوان الجبوري، وقد رفض المشروع من قبل الوزارة.كما أخبرني بذلك الأستاذ سامي علي السلطان ود0 عدنان العوادي والسيد محمد علي النجار، في مقابلتي معهم كلٌ على حده ، وقد عقب السلطان على تلك الفقرة بقوله:" الفكرة جاءت عندما كان صباح محمود الخطيب يعد دراسة عن الحلة وقد أصدر كتاباً بعد سنتين بعنوان(مدينة الحلة الكبرى) والارجح ان ذلك الباحث هو الذي طرح الفكرة وأجرينا مخاطبات رسمية مطولة مع الجهات العليا والجميع رحب بالفكرة لكن الرفض جاء من وزارة الاعلام0
2- نجحت المحاولة الثانية سنة 1995م فكانت برعاية جامعة بابل وكان الدكتور يحيى الراوي رئيساً لها وتحت شعار(تراث الحلة العربي الاسلامي يبعث من جديد) والفكرة تبناها الدكتور حسين علي محفوظ ، وأصبح المشروع تحت اشراف (مركز احياء التراث العربي التابع لجامعة بغداد) التي كانت تديره آنذاك الدكتور نبيلة عبد المنعم داوود، ومن الطريف كان من شروط الموافقة على قيام المشروع هو تقديم المناسبة الى شهر نيسان مقاربة مع أعياد نيسان (مولد الحزب وميلاد القائد) ، وفعلا انعقد المؤتمر الفكري الأول يومي 4و5 نيسان عام 1995م ، بمنهاج علمي رصين ، وكان مبيتهم في فندق بابل السياحي، ووصلنا قسم من بحوث الندوة فقدمنا لها وأصدرناها في كتاب سنة 2014م بعنوان (الندوة العلمية الأولى الحلة في التراث العربي).
3- أُعد للمؤتمر الثاني من قبل مركز دراسات ووثائق الحلة وتم مفاتحة الجهات ذات العلاقة على أن يعقد في شهر تشرين الأول سنة 2001م، ووصلت بعض البحوث الى اللجنة التحضيرية التي كان يرأسها الدكتور عبد العباس إبراهيم - وأنا احتفظ بقسم منها- لكن ظروف البلد حالة دون انعقاده.
4- عقد مؤتمر تمصير الحلة (الأول)، يومي 27 و28 آب 2005في جامعة الحلة الدينية (قاعة الأقليمي) التي كان يرأسها السيد فرقد القزويني وبمشاركة جمعية الرواد الثقافية المستقلة التي يرأسها الشاعر صلاح اللبان ، ومركز الدراسات الستراتيجية الذي يديره الدكتور عدنان بهية التابع لجامعة الحلة الدينية.
5- عقد مؤتمر التمصير على أرض مدينة بابل الآثارية يوم 16-12-2007م وبحضور شخصيات عراقية واستمر ليومين وهو برعاية وزارة الثقافة العراقية واتحاد أدباء بابل وهيأة التحديث الحضاري ، وقدمت فيه بعض البحوث ، وتبنت هيأة التحديث الحضاري انجاز تمثال برونزي للأمير صدقة بن منصور حدد موقعه قرب محطة قطار الحلة ونفذ ذلك ، واعلن في هذا المؤتمر اعتبار الحلة عاصمة للثقافة العراقية للعام 2008، وبهذه المناسبة أطلق عليه اسم "مهرجان تمصير الحلة"، تضمن إقامة معارض فنية وأدبية واستعراضا للصحافة الحلية القديمة والمقتنيات الحلية القديمة، كما تضمن عرضا مسرحيا وفيلما تسجيليا عن مراحل تطور المدينة.
6- بالرغم من تسمية (بابل عاصمة الثقافة العراقية لعام 2008م) وانعقاد ندوة فكرية وهي تحت رعاية الحكومة العراقية إلا أن الندوة لم تصل الى المستوى المطلوب.

7- عقدت جامعة بابل مركز الدراسات الحضارية والتاريخية ندوة فكرية ولمدة يومين 16-17 تموز 2011م على قاعة المكتبة المركزية تحت عنوان (الحلة بين التمصير والتأسيس) وطرحت أفكار عديدة ، ونوقشت كلمتا (التمصير) و (التأسيس) وخرجت الندوة بنتائج ، هي: (اعتبار صدقة بن منصور ممصراً للحلة لا مؤسساً) فالحلة لها وجود قبل هذا التاريخ وكان يطلق عليها (الجامعين) 0
8- انبرت ثلة خيرة من اهالي الحلة لغرض احياء ذكرى التمصير وتثبيت يوم التمصير الفعلي وهو يوم 30 تشرين الأول ، وتعد العدة هذه النخبة للقيام بمهرجان يليق بالمدينة وتاريخها العريق ، فقد عقد اجتماعها الأول في ملتقى العشرة كراسي يوم 31-12-2018م ووضعت خطة لإستذكار هذا اليوم الخالد ، نأمل أن يكون النجاح حليفها...


المصادر
(1) الحموي ، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الرومي البغدادي (ت626هـ/1228م)، معجم البلدان ، دار صادر ، بيروت (د0ت0):2 /96 0
(2)عبد العزيز بن السراي ، من أهالي المدينة المنورة ، ومن قادة جيش الإمام علي -;- جرح في حرب النهروان ودفن في الحلة ، مرقده مزار يقع حالياً خلف مدرسة صفي الدين في منطقة باب المشهد في الحلة ، (عبد الرضا عوض ، مزارات ومراقد الحلة ، دار الفرات للثقافة والإعلام ، الحلة ، 2006م: 34)0
(3) حازم الحلي ، الحلة وأثرها العلمي والأدبي ، المكتبة التاريخية المختصة ، قم ، 1432هـ :24 0
(4) مروج الذهب للمسعودي:6/59 ؛ الإمارة المزيدية : 250 .
(5) معجم الأدباء ، ياقوت الحموي:17/192 .
(6) الإمارة المزيدية ، عبد الجبار ناجي:250 .
(7) تاريخ الحلة ، يوسف كركوش:1/17 .
(8) الإمارة المزيدية ، عبد الجبار ناجي:251 .
(9) ابن الجوزي ، المنتظم في تاريخ الملوك والامم: 9/124
(10) شرف الدين أحمد بن محمد البلدي ، كان ناظراً بواسط قبل ان يستوزره الخليفة المستنجد سنة 563هـ ، قتله عضد الدولة ابن المسلمة سنة 566هـ وقطعه ورماه بدجلة (ابن الجوزي، المنتظم:10/32 0)
(11) مصطفى جواد ، في التراث العربي : 2/166 0
(12) هؤلاء أسسوا في آذار 1971م تجمع ثقافي أدبي وأطلقوا عليه (ندوة عشتار) فكان منهم: د. حازم الحلي ، د. عدنان العوادي ، سعدي علوش ، جبار مكاوي ، كاظم الطائي ،حكيم الجراخ ، وحودي سلمان ، عبد الإله الصاحب.(ندوة عشتار:22).


153
عن دار الرافدين صدر كتابي الموسوم تاريخ يهود الخليج
نبيل عبد الأمير الربيعي

من خلال متابعة تاريخ استقرارهم في منطقة الخليج كقبائل تهوّدت أو من خلال الهجرات الأخيرة منذ القرن السابع عشر, تم تتبع أصول الأقلية اليهودية التي استقرت حديثاً في منطقة الخليج العربي, كما سلط الضوء على اعدادهم وأسرهم وشخصياتهم المهمة التي كان لها الدور الكبير في المجال الاقتصادي والاجتماعي, وعلاقاتهم الجيدة مع السكان المحليين.
علماً أن المصادر التاريخية المختلفة محلياً قد أغفلت تقديم معلومات دقيقة عن تاريخ الأقلية اليهودية في منطقة الخليج, واغفلت بشكل متعمد تقديم المعلومات المغلوطة لتأريخ هذه الأقلية وعلاقاتها مع المجتمعات المحلية, لكن بعد هذا الغبن والاجحاف الذي اصاب أحد مكونات المجتمع الخليجي لا بد من ازاحت الستار عن جزء من التاريخ المسكوت عنه عمداً, من خلال متابعة المصادر التاريخية المهمة لرجال الرحلات والمستشرقين ومن عمل مستشاراً من الأوروبيين في منطقة الخليج وكتب مذكراته مثل تشارلز بلجريف وآخرين.
منذُ زمن قريب أهتم الباحثون والأكاديميون والإثنوغرافيون في منطقة الشرق الأوسط عامة وفي منطقة الخليج خاصة, بتركيزهم الرئيسي بدراسة قضايا المكونات والأثنيات وعلاقتها بالمجتمع العربي وبالطابع الإسلامي, وعلى الرغم من شروع ثلة من الباحثين في الاهتمام بإعادة النظر والتدقيق في فحص الجوانب المتعلقة بتاريخ الأقليات العرقية والدينية وبمظاهر حياتها في المنطقة, فإن مكانة الأقليات الدينية واليهود على وجه الخصوص قد وقع تجاهلها إلى حدٍ كبير في هذا التاريخ, وخاصة بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا المنحدرين من أصول مسلمة, حيث ظلت البحوث المتعلقة بيهود الشرق الأوسط وبكل ما يتصل بحياة اليهود تعتبر في نطاق التابوهات, أي المحرمات الممنوعة, والأسباب التي اتخذت مثل هذا الموقف واضحة, إذ يمكن وصف الباحث الإثنوغرافي الذي ينكب على إجراء البحوث حول مواضيع اليهود في العالم العربي بالمؤيد للصهيونية والمنافح عنها, مما قد يشكل وصمة عار لا يمكن أن تخلو من عواقب مهنية وشخصية محمودة للمعني بأمرها.
إن غالبية أبناء المكون اليهودي في منطقة الخليج العربي قد جاءوا من عدة مناطق مجاورة لمنطقة الخليج منها : العراق, بلاد فارس, الهند, اليمن, ارمينيا, افغانستان, وكردستان, كان السبب الرئيسي لهجرة بعض أبناء الأقلية اليهودية من مناطق استقرارهم لمنطقة الخليج العربي هو الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني وما يتصف به مجتمع الخليج بالتسامح الديني, ووجود سلطة محلية واستعمارية قد وفرت الحماية لهم, باعتبارهم رعايا, ومن ثم تشابه الانشطة الاقتصادية لأبناء الأقلية اليهودية في منطقة الخليج العربي, كما عمل بعض أبناء الأقلية بالشراكة مع العديد من التجار المحليين, وقد كانت اماكن سكناهم قرب مراكز المدن الرئيسية ونشاطها التجاري, لا كأحياء خاصة بهم مثل «الجيتو».
اعتمدت الأقلية اليهودية على رفع المستوى التعليمي لأبنائها, وقد كان للإرسالية العربية الأمريكية الدور في ذلك, من خلال افتتاح مدارس للبنين والبنات في أغلب مناطق الخليج, منها «البحرين, عُمان, الكويت», فضلاً عن توافر المدارس الحكومية مطلع القرن العشرين, وبعض المدارس التي انشئت في دور العبادة اليهودية, فضلاً عن إرسال بعض الأسر اليهودية الموسورة ابنائها للدراسة في الخارج, كما كان لأبناء الأقلية الاهتمام بالانضمام للأندية الثقافية والاجتماعية والرياضية, والاندماج مع المجتمع الخليجي واكتساب بعض عاداتهم وتقاليهم من خلال المأكل والملبس, وكان لهم حرية الممارسة الدينية وإدارة الشعائر, والاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم دون مضايقات.
حافظت الأقلية اليهودية في منطقة الخليج العربي على علاقات متميزة مع السلطات المحلية, إلا أن الأقلية اليهودية لم يكن لهم مساهمة في الحياة السياسية مع العلم أن أبناء هذه الأقلية قد عملوا في وظائف ومناصب حكومية.
بعد عقود من العيش والاستقرار في منطقة الخليج العربي, عانت الأقلية اليهودية من مقاطعة اقتصادية واجتماعية من قبل السكان المحليين بعد عام 1948م وهو عام التقسيم لفلسطين بقرار من الأمم المتحدة, مما أدى إلى هجرتهم من اغلب مناطق الخليج العربي إلا قلّة قلّيلة بقيت في البحرين ولحد هذه اللحظة, بسبب سياسة السلطات الجيدة معهم. كما لعبت الصحف والمجلات المحلية والعربية دوراً كبيراً في الدعوة لمقاطة الأقلية اليهودية واضطهادها من خلال التحريض والعداء لكل ما هو يهودي تأثراً بالفكر القومي المستشري في تلك الحقبة الزمنية, لذلك كان خيارهم الأول الهجرة إلى الدول الأوروبية أو إلى إسرائيل.
ومن خلال البحث والتقصي عن الأسباب الحقيقية وراء هجرة يهود منطقة الشرق الأوسط عامة ومنطقة الخليج خاصة, يحق لنا التساؤل عن كيفية تقييم وتقدير هذه المعطيات التاريخية والإثنوغرافية وتحليلها؟ ما هي مناهج وتحيُّزات السرد الاستعماري وما بعد الاستعماري المؤطر للخطاب التاريخي المتعلق بيهود الخليج بصفة خاصة وبيهود الشرق الأوسط بشكل عام؟ ما هو دور الباحثين الوطنيين لحقبة ما بعد الاستعمار في إعادة الكتابة عن هذه المجموعات والمكونات الأثنية؟ وإذا ما أقدمنا على استخدام مزيج من روايات الرحالة الأوروبيين والشهادات المحلية, كيف ينبغي فهم هذه المصادر على الرغم مما يكتنفها من تناقضات مزعومة ومن عدم الدقة المحتملة؟ ومنذُ اليوم الذي أتخذ يهود منطقة الشرق الأوسط قرارهم بالهجرة ومغادرة المنطقة اتجاه أوروبا أو في اتجاه إسرائيل, وترك أسواقهم ومحلاتهم وبيوتهم وأعمالهم التجارية والحرفية, فإن المثل الشائع لهذه الظاهرة يقول, «فإن سوقاً بلا يهود هو مثل الخبز دون ملح», وعدم وجود الملح الذي كانوا يضيفون مادته إلى الاقتصاديات المحلية والإقليمية, كان الباعة المتجولون وغيرهم من التجار اليهود في جميع أرجاء مناطق الخليج العربي يتبادلون سلعهم التجارية, ويصرفونها متنقلين بين هذه المراكز الحضرية الأساسية والتجمعات البشرية القروية الأساسية المنبثة في جميع أنحاء مناطق الخليج, والذكرى الوحيدة المتبقية عن وجودهم هو مقابرهم, وتذكرنا مدافنهم بزمن اليهود ومكانتهم الاجتماعية.
تم تقسيم الكتاب إلى ثلاث فصول, احتوى الفصل الأول تاريخ الاستقرار اليهودي في منطقة الخليج العربي, وتضمن مبحثين, المبحث الأول حول تاريخ الخليج العربي قبل وبعد الغزو الأوروبي, والمبحث الثاني تضمن الجذور التاريخية ليهود الجزيرة العربية, وأهمية الكتب الدينية المقدسة لدى الأقلية اليهودية في منطقة الخليج العربي, أما الفصل الثاني فقد احتوى على خمسة مباحث, المبحث الأول تضمن تاريخ الأقلية اليهودية في الجزيرة العربية, والمبحث الثاني احتوى على تاريخ الطائفة اليهودية في مملكة البحرين, وهجرة الأقلية اليهودية إلى البحرين عام 1872م, وأماكن تواجدهم الطائفة اليهودية في البحرين, وأشهر الأسر اليهودية في البحرين, وعلاقة الأقلية اليهودية بالسلطات المحلية, والنشاط التجاري والاقتصادي ليهود البحرين, والوضع التعليمي لهم, والأوضاع الاجتماعية ليهود البحرين والتسامح الديني, وحالات اعتناق الديانة المتبادلة, ويهود البحرين وعلاقتهم بالصهيونية بعد قرار التقسيم, وما حصل من مقاطعة اقتصادية واجتماعية ليهود البحرين, وموقف يهود البحرين من إسرائيل, والهجرات اليهودية من البحرين وأسبابها, وواقع الطائفة اليهودية في الوقت الراهن.
أما المبحث الثالث, فقد تضمن تاريخ وجود الطائفة اليهودية في سلطنة عُمان, وواقع المجتمع العُماني والتسامح الديني, والنشاط التجاري للأقلية اليهودية في عُمان, ودور الإرسالية العربية الأمريكية وتأثيرها في مجال التعليم, وعلاقة يهود عًمان بالسلطات المحلية, وأسباب هجرة الأقلية اليهودية من عُمان. أما المبحث الرابع فقد احتوى تاريخ الوجود للطائفة اليهودية في الأحساء, والعوامل التي ساعدت على استقرار اليهود في الأحساء, ودور الأنشطة التجارية ليهود الأحساء, والدعوة لإقامة دولة يهودية في المنطقة الأحساء, والأسباب التي دعت إلى هجرة الأقلية اليهودية من الأحساء.
أما المبحث الخامس, فقد تضمن تاريخ الطائفة اليهودية في الكويت وأماكن سكنهم, وأشهر الأسر اليهودية في الكويت, وعلاقة الأقلية اليهودية بالسلطات المحلية, ودور المجتمع الكويتي في التسامح الديني, وأهمية النشاط التجاري ليهود الكويت, ودور مدارس الأقلية اليهودية في تطوير مجال التعليم في الكويت, ودور الفنان والملحن صالح الكويتي لولادة المدرسة الموسيقية, وأسباب هجرة الأقلية اليهودية من الكويت.
أما الفصل الثالث فقد احتوى على ثلاث مباحث, المبحث الأول تضمن, أهمية العبادات والأعياد والطقوس الدينية عند يهود الخليج, ومن ضمنها الشعائر وأماكن العبادة, وأهمية التقويم السنوي وتحديد اليوم الأول من الشهر, وأهمية يوم السبت لدى اليهود بعامة. أما المبحث الثاني فقد تضمن الأعياد الدينية المهمة لدى أبناء الأقلية اليهودية في منطقة الخليج, والمبحث الثالث تضمن النظم الشرعية والعادات والتقاليد, من زواج وطلاق ووفاة, وأماكن مقابر الطائفة اليهودية في الخليج العربي, والعادات والتقاليد الاجتماعية ليهود الخليج, وأخيراً ملحق الصور والوثائق.
علينا كباحثين في تأريخ الأقليات والأثنيات في منطقة الشرق الأوسط, من خلال الاعتماد على مصادر ومراجع متنوعة, وبسبب عدم توافر الوثائق فقد اعتمدت على المصادر الأجنبية والعربية والصحف والمجلات فكانت كثيرة ومتنوعة, وأهمها كان كتاب «اليهود في البلدان الإسلامية 1850-1950م» لصموئيل أتينجر, ومذكرات «تشارلز بلجريف», وكتاب «عمان في صفحات التاريخ» لروبين بيدويل, وكتاب «عرب الخليج في ضوء مصادر شركة الهند الشرقية» وكتاب «مبارك الصباح مؤسس الكويت الحديثة» لسلوت, وكتاب «واحة الإحساء» لفيدال, وكتاب «رحلة إلى عمان» لويندل فيليبس, وكتاب «تاريخ السيد سعيد سلطان عمان» لفينزنزو, وموسوعة «دليل الخليج» لوريمر, وكتاب «الكويت قبل النفط» لستانلي ماليري, وكتاب «الخليج بلدانه وقبائله» لمايلز, وكتاب «لمحة تاريخية عن المباني الأرية في مسقط» لهولي, وكتاب «تاريخ عُمان» لجيمس ولستد, وكتاب «صحار عبر التاريخ» لأندرو ويليامسون.
أما المصادر العربية فكان من اهمها كتاب «اليهود في الخليج» للباحث يوسف علي المطيري, وكتاب«اليهود في الكويت» لحمزة عليان, وكتاب «يهود البحرين» لعلي الجلاوي, وموسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» لعبد الوهاب المسيري, وكتاب «الحُرَف والمهن والأنشطة التجارية القديمة في الكويت» لمحمد عبد الهادي جمال, وكتاب «ابحاث في اليهودية والصهيونية» لأحمد سوسة, و«أعلام اليهود في العراق» لمير بصري, وكتاب «يهود البلاد العربية» لعلي إبراهيم عبدة وخيرية قاسمية, وكتاب «نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق» ليوسف غنيمة, وكتاب «اليهود في الشرق الأوسط» لمأمون كيوان.
كما اعتمد في كتابي هذا بشكل كبير على المجلات والصحف الصادرة في الخليج منها مجلة الإيمان, ومجلة البعثة, ومجلة صوت البحرين, وجريدة الأنباء, وجريدة القبس, وصحف أخرى.
أخيراً أقدم جزيل شكري إلى الأستاذ الشاعر جبار الكواز الذي بادر بقراءة مقدمة الكتاب بعيون ثاقبة متمرسة, وأجرى عليها بقلمه التصحيحات اللغوية والنحوية, وقوّم الكثير منها, اتمنى أن ينال الكتاب استحسان القارئ, ولا ادعي أني وصلت بلوغ الكمال في الكتاب, فالنص ميزة البشر.

154
يهود العراق ودورهم في نشأة التعليم وتطويره (165م – 1973م).. (دراسة تأريخية)
نبيل عبد الأمير الربيعي

صدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل كتابي الموسوم (يهود العراق ودورهم في نشأة التعليم وتطويره (165م – 1973م).. (دراسة تأريخية), الكتاب يتضمن أكثر من 400 صفحة من الحكم الوزيري. وهو عبارة عن دراسة تاريخية عن مدارس يهود العراق الدينية والتعليمية منذ عام 165م ولغاية عام 1973م عندما تم اغلاق آخر مدارسهم في بغداد مدرسة فرانك عيني وتأميمها من قبل حكومة البعث.
تجمع المصادر أن نتيجة وعي اليهود المبكر الثقافي والتربوي خلال العهد العثماني ولأهمية المدارس, فقد أسست «جمعية الاتحاد الإسرائيلي» مدرسة الأليانس ببغداد ونظمت مناهجها على غرار المدارس الابتدائية الأوروبية, وظلت «الأليانس» المدرسة الوحيدة لليهود في بغداد حتى عام «1912م» حيث نشطت حركة التعليم عندهم.
أما التعليم النسوي فقد بدأ سنة «1893م» بافتتاح مدرسة تهذيب للبنات اليهوديات وسميت عند افتتاحها مدرسة «الأليانس» للبنات. وفي وقت لاحق قام التاجر «اليعازر خضوري» بتشييد بناية خاصة بها أطلق عليها اسم «مدرسة لورا خضوري للبنات» أحياء لذكرى زوجته «لورا» وجرى افتتاح هذه البناية في نوفمبر «1911م» أيام الوالي أحمد جمال بك, وبلغ عدد طالبات هذه المدرسة سنة «1913م», «600» طالبة.
اهتم أغلب أثرياء يهود العراق بإنشاء المدارس الحديثة, وكان بين اولئك السيد ألبرت ساسون ومناحيم دانيال ورفقة نورائيل, وقد سمح لغير اليهود بالانضمام إلى مدارسهم من المسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء.
لقد تم فتح العديد من مدارس الأليانس في عموم العراق. ففي عام 1903م فتحت أول مدرسة في البصرة, وفي عام 1907م فتحت في الموصل, وكذلك عام 1910م فتحت مدرسة في العمارة, وفي عام 1920م قرر اليهود تدريس مادة التاريخ اليهودي في المدرسة لأول مرة. وقد خرَّجت هذه المدارس العديد من الشباب الذين تبوؤوا دوراً بارزاً في المجتمع العراقي.
ازداد عدد اليهود الذين أنهوا دراستهم الابتدائية في المدارس اليهودية والحكومية, حتى أنه بدى أن نسبة الأميين من الذكور كانت صفراً, وبين الإناث كانت غير مرتفعة, ونتيجة لازدياد عدد خريجي المدارس الابتدائية ولافتتاح مدارس ثانوية إضافية, ازداد أيضاً عدد خريجي الثانوية من اليهود, وقد أبدى البريطانيون اهتماماً بالغاً بالمدارس اليهودية عند احتلالهم للعراق, فعملوا على زيادتها ودعمها مادياً والاهتمام بها.
من خلال هذه المقدمة التاريخية لمدارس أبناء الديانة اليهودية في العراق, نقول إنها قد أدت دوراً مهماً في أرساء المبادئ والأهداف التربوية, مما كان ليهود العراق الدور الكبير في مشاركتهم في بناء مؤسسات الدولة العراقية المختلفة, مما يؤكد على التعايش الحقيقي فيما بينهم وبين أبناء الشعب العراقي.
تم تقسيم الكتاب إلى ثلاث فصول, احتوى الفصل الأول على الجذور التاريخية ليهود العراق منذٌ عهد الإمبراطورية الآشورية الأخيرة عندما أخضع الملك الآشوري تجلات بلانصر الثالث «745 - 727 ق.م» قسماً من مملكة إسرائيل لنفوذه وما يسمى بسبي «سامريا 721 ق.م», ولغاية هجرتهم القسرية الأولى عام 1950م/1951م, والثانية والأخيرة عام 1974م.
أما الفصل الثاني فقد احتوى على تاريخ المدارس الدينية اليهودية في العراق, فقد تضمن ثلاث مباحث, المبحث الأول يمثل دور المدارس الدينية اليهودية في العراق للفترة «165م-1830م», والمبحث الثاني تاريخ المدارس الدينية اليهودية في العراق للفترة «1830م-1864م», والمبحث الثالث وضحَ دور مدارس الأليانس وأثرها التعليمي والثقافي للفترة «1864م-1951م». فضلاً عن توضيح الملاحظات المهمة حول مدارس اليهود في الولايات العراقية, ومصادر تمويل مدارس الطائفة اليهودية, والنشاطات اللامنهجية, والامتحانات المدرسية, ودراسة الأرقام الإحصائية لأعداد الطلاب في مدارس يهود العراق, فضلاً عن دورهم في مجال الدراسة خارج العراق.
والفصل الثالث احتوى على دور مدارس الطائفة اليهودية في رفع المستوى التعليمي والثقافي في عهد الاحتلال والانتداب البريطاني للفترة «1917م- 1920م», وقد تضمن أربع مباحث, المبحث الأول احتوى على تاريخ مدارس يهود العراق في عهد الاحتلال البريطاني للفترة «1917م-1920م», والمبحث الثاني وثق نشاط مدارس الأليانس الإسرائيلية في العهد الملكي, والمبحث الثالث بحث عن نفقات ومصادر تمويل المدارس اليهودية, ونشاط المنظمات الصهيونية في المدارس اليهودية, والأجور الدراسية, ومناهج الدراسة ومفرداتها, وملاكات المدارس اليهودية, والامتحانات الفصلية والنهائية, والمكتبات المدرسية. أما المبحث الرابع, قد احتوى على دور أبناء الديانة اليهودية في مجال الدراسات العليا, منها : مدرسة الحقوق, والمدرسة الطبية, والبعثات الدراسية خارج العراق, وأخيراً الخاتمة والملاحق والصور.
وعلينا كباحثين في مجال تأريخ الأقليات والأثنيات في بلاد الرافدين, من خلال الاعتماد على مصادر ومراجع متنوعة, وبسبب عدم توافر الوثائق فقد اعتمدت على المصادر الأجنبية والعربية والصحف والمجلات فكانت كثيرة ومتنوعة, وقد تمَّ الإشارة إليها في نهاية الكتاب.
أخيراً أقدم جزيل شكري إلى كل من الأصدقاء أ. د. علي محمد هادي الربيعي لرفده لي بالمصادر المهمة التي كانت لي المعين في توثيق تاريخ التعليم للطائفة اليهودية في العراق. والشكر موصول للدكتور خضر سليم البصون لرفد الباحث ما تحمله ذاكرته من مدرسة فرنك عيني, والسيدة وئام أنور شاؤول, والسيدة نيران سليم البصون, والسيدة ليندا عبد العزيز منوحين, والأستاذ سامي دلال, والأستاذ عماد عزرا صالح ليفي, لتزويد الباحث بالصور التاريخية لمدرسة التعاون الإسرائيلية, ومدرسة شماش, ومدرسة فرنك عيني, وبعض الوثائق حول أساتذة مدرسة فرنك عيني. وأخيراً اتمنى أن ينال الكتاب استحسان القارئ, ولا أدعّي أني وصلت بلوغ الكمال في الكتاب, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


155
يهود العراق ودورهم في نشأة التعليم وتطويره.
د.نصير الحسيني
عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة ، صدر كتاب يهود العراق ودورهم في نشأة التعليم وتطويره من العام (١٦٥-١٩٧٣)، للباحث نبيل عبد الامير الربيعي ، وضم الكتاب مقدمة وثلاثة فصول ، تناول الباحث في الفصل الاول الجذور التاريخية منذ عهد الإمبراطورية الآشورية الاخيرة ، أو ما يسمى بسبي ( سامريا ٧٢١) ، ولغاية هجرتهم القسرية الاولى عام (١٩٥٠- ١٩٧٤) ، في حين أحتوى الفصل الثاني على تاريخ المدارس الدينية اليهودية في العراق وضم ثلاثة مباحث تناول الباحث في المبحث الاول منه دور المدارس الدينية اليهودية في العراق للفترة من (١٦٥-١٨٣٠) ، والمبحث الثاني تاريخ المدارس اليهودية في العراق للفترة (١٨٣٠-١٨٦٣) ، وفي المبحث الثالث وضح فيه الباحث دور مدارس الأليانس وأثرها التعليمي والثقافي للفترة من (١٨٦٤-١٩٥١) . وتناول الباحث في الفصل الثالث دور مدارس الطائفة اليهودية في رفع مستوى التعليم في عهد الانتداب البريطاني للفترة من عام ( ١٩١٧-١٩٢٠) وضم في طياته أربعة مباحث ، تناول الباحث في المبحث الاول تاريخ مدارس يهود العراق في عهد الاحتلال البريطاني للفترة من (١٩١٧-١٩٢٠) ، والمبحث الثاني وثق الباحث نشاط مدارس الأليانس الأسرائيلية في العهد الملكي وتناول في المبحث الثالث نفقات ومصادر المدارس اليهودية ونشاط المنظمات الصهيونية في المدارس اليهودية . والكاتب والإعلامي نبيل الربيعي باحث متخصص في كتابة وأرشفة تاريخ الأقليات في العراق وهو من مواليد ١٩٥٨ وحاصل على البكالوريوس في الإدارة والاقتصاد وعضواً في أكثر من نقابة وإتحاد من ضمنها نقابة الصحفيين واتحاد ادباء بابل وصدر للربيعي عدة مؤلفات منها:
اليهود في العراق منذ السبي البابلي والآشوري في عام ٢٠١٣ عن دار الرافدين في بيروت
تاريخ الديوانية السياسي والاقتصادي والاجتماعي (ثلاثة اجزاء) عن دار الفرات ٢٠١٥
آنور شاوؤل - رحلة الأسى وهمسات للزمن - الحلة دار الفرات في الحلة ٢٠١٥
لمحات من تاريخ يهود العراق ( جزأين) عن دار الفرات في الحلة ٢٠١٦
أضواء على النشاط الصهيوني في العراق - عن دار الفرات في الحلة ٢٠١٦
تاريخ يهود العراق ( جزأين ) عن دار الرافدين في بيروت ٢٠١٧
معجم أعلام يهود العراق - دار الفرات في الحلة ٢٩١٧
الريادة في مؤلفات الدكتور عبد الرضا عوض . عن دار الفرات في الحلة ٢٠١٧
الدرة البهية في تاريخ مدينة الديوانية في الحلة عن دار الفرات في الحلة ٢٠١٧
على ضفاف الفرات - ذكريات أيام مضت وأنقضت .ًمذكرات عزت سامسون الصادرة عام ١٩٨٠ -مراجعة وتحقيق - عن دار الفرات في الحلة عام ٢٠١٧
الشيخ إبراهيم بن سلمان القطيفي آخر علماء الحوزة العلمية عن دار الفرات في العرق ٢٠١٨
يهود الخليج ( البحرين - عُمان- الكويت ) عن دار الرافدين في بيروت عام ٢٠١٨.
الاستاذ الربيعي من الباحثين الجادين والمحايدين في الكتابة وأرشفة تاريخ الأقليات رغم أن الطريق في هذا المجال لايخلو من صعوبات بعضها إجتماعي غير معرفي فضلاً عن نقص المصادر في هذا الاتجاه ، وهذا العمل الموسوعي والتاريخي مهم في أرشفة تاريخ العراق لان الامم لا تنهض أو تتقدم بلا معرفة بتاريخها .
يقع الكتاب في أكثر من اربعمائة صفحة وضم في طياته احصائيات متنوعة وجداول وصور عن يهود العراق في نشأة التعليم في العراق .


156
رحيل المفكر والسياسي الماركسي حسقيل قوجمان
نبيل عبد الأمير الربيعي

بمناسبة رحيل هذا اليوم، السياسي والمفكر الماركسي حسقيل قوجمان, العراقي المغترب والمقيم في لندن, كان مفكراً ماركسياً وعازفاً وموثقاً للموسيقيا العراقية الأصيلة, استمر عشقه للموسيقى حتى يومنا هذا, ويعتبر عواداً محترفاً, عاش الحياة السياسية العراقية الحديثة منذ نشأتها بداية القرن الماضي، ودخل السجون العراقية لأكثر من عشرة سنوات، عاصر كبار وأوائل السياسيين العراقيين من مؤسسي الأحزاب والمنظمات، كتب العديد من المقالات السياسية وترجم الكثير من الدراسات والمقالات, له أكثر من كتاب سياسي، نذكر منها "ثورة 14 تموز في العراق وسياسة الحزب الشيوعي عام 1958م, ماركس وماديته الديالكتيكية عام 1981م, ستالين كما فهمته عام 2000م", وكان قبل ذلك قد أصدر قاموس عربي / عبري في ثلاث مجلدات, وهو أيضاً باحث في الموسيقى العراقية, تعدّ مؤلفاته من البحوث المهمة في تناول تاريخ الموسيقى العراقية ورجالاتها الذين تركوا بصماتهم الواضحة على مسيرة الأغنية والموسيقى العراقية, ومن مؤلفاته في هذا المجال كتاب "الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق عام 1978م والمقام تراث موسيقي عراقي عام 2001م" وهو كتاب منشور باللغة الإنگليزية، حصل على شهرة كبيرة في إنگلترا والدول الأوربية.
ولد حسقيل قوجمان في بغداد "عام 1929م في محلة بني سعيد على مقربة من منطقة باب الشيخ لعائلة متعددة الأبناء تتكون من (11) فرداً ثلاث منهم بنات وثمانية أولاد, كان والده عامل نجارة, لكبر عائلته كان يشتري كيس (گونية) تمر يتركهُ في باب الغرفة ثم يشتري يومياً (40) رغيف خبز بأمل أن تكفي لإطعام أفراد العائلة, كانت الحالة المالية ضعيفة والأجر محدود والحاجة كبيرة وماسة ( ), تعيش العائلة في غرفة إيجار لدى عائلة يهودية مرة وعائلة مسلمة مرة أخرى, وبسبب الحرب العالمية الأولى واحتلال العراق من قبل الدولة العثمانية وخوفاً من التجنيد الإجباري سافر والده إلى العمارة هرباً من الجيش التركي, وبعد عودته لبغداد لم يوفق في عمله, ثم أصيب بشلل نصفي منعه عن العمل, مما أدى إلى أن تعيش العائلة في ظروف صعبة مالياً, بعد تخلي الأبناء عن العائلة كلياً.
أكمل حسقيل قوجمان "دراسته الابتدائية في مدرسة السموأل الحكومية المخصصة للتلاميذ اليهود, وبعد تأسيسها بثلاث سنوات أغلقت فانتقل إلى مدرسة بني سعيد, وفيها أكمل دراسته الابتدائية, وانتقل إلى مدرسة شماش المتوسطة, ومنها أنتقل إلى الإعدادية المركزية الأهلية في السنك, ثم المعهد العالي في السنك"( ), خلال السنتين الدراسيتين ( 1937- 1938م) و( 1938- 1939 م) كانت صعبة للغاية نظراً لتفشي الحركة النازية بين الطلاب والمدرسين على السواء, أنهى حسقيل قوجمان "دراسته الثانوية عام 1939م, وبعد سنةٍ من البطالة حصل على وظيفة مدرس في مدارس الطائفة اليهودية, وفي عام 1947م ألتحق بكلية الصيدلة حيث قضى فيها ثلاث سنوات", ولم يكمل دراسته في كلية الصيدلة بسبب اعتقاله يوم 19 شباط 1949م.
اطّلعّ على الفكر الماركسي من خلال صديقه الشاب (ساسون دلال) الذي حكم عليه بالإعدام عام 1949م , كان دلال يطالع الكتب الماركسية باللغة الإنكليزية, وقد تعلم منه قوجمان علم المادية الديالكتيكية, وبعد دعوة قادة الحزب الشيوعي العراقي إلى تشكيل تنظيم يحارب الصهيونية باسم (عصبة مكافحة الصهيونية) وإصدار جريدتها العصبة, فقد تم إجازتها من قبل الحكومة العراقية وأصدرت بحدود (51) عدداً منها, انتمى قوجمان إلى تنظيم العصبة, ثم إلى حزب التحرر الوطني وهو الغير مجاز من قبل الحكومة الملكية, لكن بعد اعتقال مؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) عام 1947م, أعتبر كل عضو من أعضاء حزب التحرر الوطني أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي, وبذلك أصبح قوجمان عضو في الحزب الشيوعي بصورة تلقائية.
شارك في مظاهرات 28 حزيران 1946م, وقد استشهد فيها رفيق دربه شاؤل طويق, وهو أول ضحية شيوعي يهودي عراقي في مظاهرات خرجت في بغداد خلال تلك الفترة.
ألقي القبض عليه مع زوجته في 19 شباط 1949م وعدد من أفراد عائلته ووالدته التي تجاوزت السبعين من عمرها, بسبب انتماءه للحزب الشيوعي العراقي, وذلك في أحد أوكار الحزب الشيوعي العراقي في بغداد الواقعة في السنك محلة الحاج فتحي المتخذة محلاً لمطبعة الحزب, تم الاعتراف على الوكر من قبل رفيق جولاك (صقر), عند إلقاء القبض عليه من خلال مراقبة داره, عند التحري والتفتيش داخل الوكر عثر على المناشير والكتب الخاصة بالتنظيم الشيوعي العراقي ومطبعة الحزب وأعداد كبيرة جداً من جريدة القاعدة مطبوعة ومعدّة للرزم , وفي هذا الوكر تم إلقاء القبض على حسقيل قوجمان ونجية قوجمان وديزي حسقيل (صبيحة صالح) وسمحة يعقوب ويعقوب مصري وعمومة مصري وعبد الهادي هاشم ومحمد علي الشبيبي وساسون دلال وسعيدة ساسون مشعل وجماعة آخرون.
بعد التحقيق في مديرية التحقيقات الجنائية تم الاعتراف على حسقيل قوجمان من قبل عضو التنظيم الشيوعي رفيق جولاك الذي أكد للشرطة أن بيت حسقيل قوجمان كان وكراً شيوعياً يختفي فيه الأعضاء الحزبيون والمطاردون, وأنهُ كان من منظمي الحزب والرؤساء فيه, كما أكد اعتراف رفيق جولاك المعتقل وعضو التنظيم صبري عبد الكريم.
أحيل حسقيل قوجمان وبقية أعضاء التنظيم الذين تم إلقاء القبض عليهم إلى رئيس المجلس العرفي العسكري في بغداد وفق أوراق القضية المسجلة برقم 57/49 , تم تشكيل المجلس العرفي العسكري الأول بتاريخ 26 / 4 /1949 م برئاسة العقيد عبد الله النعساني وعضوية كل من الحاكمين خليل زكي مردان وفريد علي غالب والعسكريين المقدم محمود عبد القادر والرئيس الأول أحمد داود, حكم على حسقيل قوجمان وآخرين (يعقوب مير مصري وآرا خاجادور وسعيدة ساسون(سعاد خيري) وعمومة مير مصري) بالأشغال الشاقة المؤبدة وعلى محمد علي الشبيبي وعمر علي الشيخ وموسى سليمان وسيد حسن السيد عبود بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات وفقاً لأحكام الفقرة 5 / ب بدلالة الفقرة الثانية من المادة الأولى من قانون ذيل قانون العقوبات البغدادي رقم 51 لسنة 1938م , كما تقرر وضع كل منهم تحت مراقبة الشرطة لمدة ثلاث سنوات بعد انتهاء محكوميتهم وفقاً للمادة (28) من قانون العقوبات البغدادي.
من خلال السجن ألقى قوجمان الكثير من المحاضرات في سجن الكوت وفي فترة عام 1952م و عام 1953م مواضيع عديدة لم يتطرق إليها أحد من المثقفين قبله, ففي سنتي 1952م و 1953م كتب كتابين الأول كان حول تأريخ تطور الأزمات الاقتصادية في النظام الرأسمالي حتى أزمة 1929م, استعان في ذلك الوقت بكتاب من تأليف اقتصادي بريطاني كان متوفراً في السجن, استنسخ كتابه بعدة نسخ وبخط جميل ووضع في مكتبة السجن وكان في متناول السجناء لقراءته حسب رغبتهم, والكتاب الثاني كان حول الديمقراطيات الشعبية في أوروبا وآسيا, وعند الانتهاء منه قررت لجنة السجن أن يدرّسه للسجناء في الليالي, كما تعلم اللغة الكردية من خلال السجن ولقاءه بالسجناء الأكراد.
فكّرَ قوجمان في تحرير مجلة سجنية أسماها "صوت السجين الثوري" وأصبح رئيس تحريرها، وكتب أكثر مقالاتها, كانت المجلة تصدر كل أسبوع وكان لهذه المجلة تأثير رائع على السجناء, بالإضافة إلى قراءتها أخذ بعض السجناء يشتركون في كتابة مواضيع حسب مستواهم الثقافي والفكري, ثم يتم تنقيحها من قبل قوجمان ونشرها.
دَرَس قوجمان لأول مرة في تأريخ السجون دورة كاملة من الاقتصاد السياسي, مع ذلك كان صلباً كالفولاذ ومستمراً في عطاءه, كتب الكثير وتتلمذ على يده الكثيرون, وجَعلَ مقالاته في السجون معاهد وورش عمل للفكر السياسي وللفلسفة الماركسية, حيث أصبح سجن نقرة السلمان معهد للدراسة الماركسية.
أكد حسقيل قوجمان وهو شيوعي مخضرم أن الضغط على واجهه اليهود الشيوعيين من قبل حزبهم ينسبه إلى القائد الشيوعي السوري خالد بكداش. ففهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي, حسب قوله : كان ماركسياً حقيقياً, ولذلك لم يكن يحكم على الشخص وفقاً لديانته بل وفقاً لسلوكه ولاخلاصه للحزب والطبقة العاملة. لذلك لم يكن يميز بين الشيوعي اليهودي والشيوعي غير اليهودي. واستمرت سياسة فهد هذه في الحزب وداخل السجن حتى مجزرة الكوت سنة 1953م, وبعد المجزرة قامت الحكومة بفصل اليهود عن غير اليهود, فأرسلت جميع اليهود إلى نقرة السلمان". فكان الخلاف بين فهد وبكداش حول قبول اليهود أو عدم قبولهم في الأحزاب الشيوعية منذ الثلاثينات, وكان بكداش يعتبر أن اليهودي خائن بطبعه, ولذلك لا يمكن أن يكون شيوعياً, أما دور الحكومة في محاربة اليهود الشيوعيين, فكانت ترسلهم قسراً إلى إسرائيل عندما تنتهي محكوميتهم, وأكد تقرير اللجنة الحكومية الخاصة بالتحقيق في مذبحة سجن الكوت عام 1953م "تليت على السجناء قائمة بأسماء 51 سجيناً يهودياً طالبة منهم إخراجهم لغرض تسفيرهم".
قضى مدة السجن التي تجاوزت حتى قيام ثورة 14 تموز 1958م, حيث أطلق سراحه مع سائر السجناء السياسيين, ثم اعتقل مرَّة أخرى عام 1959م بدون محاكمة وزج في السجن حتى أواخر عام 1961م, حيث تم أطلاق سراحه, وبسبب المضايقات من قبل السلطة, هرب قوجمان إلى إيران حيث سلمته الشرطة إلى منظمة صهيونية كانت تسفر اليهود إلى إسرائيل على حسابها.
أكد حسقيل قوجمان في مذكراته قال : "بعد ثورة تموز 1958م حضر عضو المكتب السياسي للحزب هادي هاشم لزيارتنا نحن السجناء اليهود, رغم أن كوادر الحزب القيادية كانت في تلك الأيام تعمل ليل نهار, ولا يستطيع الكادر منهم أن يزور حتى عائلته. والغريب أن هادي هاشم شارك في اجتماع الثلاثة داخل السجن. وبعد نصف ساعة أو أكثر عاد يعقوب مصري وقال لي : إننا قررنا بالإجماع أن نعلن إسلامنا وعليك أن تخضع لقرار الأغلبية. فقلت له أن هذا الموضوع مبدئي ولا تنطبق عليه قاعدة خضوع الأقلية للأغلبية" استغرب قوجمان الأمر أول مرَّة بالقول : "إن هادي هاشم الذي أجاب على قولي في الاجتماع : إذا شئتم (يعني قيادة الحزب) أن نعلن إسلامنا ونسافر إلى النجف لكي نبقى في الحزب! (قال) : إننا لا نقبلكم في الحزب في هذه الحالة, جاءني في ذلك اليوم وحاول إقناعي بذلك, ونسيَ ما قاله في الاجتماع السابق. قلت له : هادي أنا درستكم الماركسية والمادية الديالكتيكية ألا تبصق في وجهي إذا وقعت وثيقة أقول فيها : لقد آمنت أن الدين الإسلامي خير الأديان وأشهد ألا إله إلا الله و أن محمداً رسوله , وأوقع مثل هذه الوثيقة؟ فخجل من نفسه وعاد خائباً فاشلاً في تحقيق المهمة التي كلفه بها الحزب... لكن يعقوب مصري, وهو سكرتير عصبة مكافحة الصهيونية, أصبح مسلماً, بعد أن ذهب إلى الجامع, وعاد قائلاً : "هاي هم خلصنا منها". غير أن شرطة مركز البتاوين ببغداد ظلت تعامله كيهودي عند إطلاق سراحه, فأرسل الحزب كفيلاً له, ولم يرسل كفيلاً للذي ظل على يهوديته مثل حسقيل قوجمان".
وما يستغرب له قوجمان أيضاً أن الحزب الشيوعي العراقي ظلَّ منذ 1949م ولحد هذه اللحظة يذكر إعدام يوسف سلمان يوسف فهد (مسيحي) وحسين محمد الشبيبي (مسلم شيعي) وزكي بسيم (مسلم سُنَّي) ويهمل رابعهم يهودا صديّق- ماجد - (اليهودي) . مع أنهم أُعدموا في القضية نفسها وفي الفترة نفسها مع تأخير زكي بسيم إلى اليوم التالي. وأن القول بضعفه في التحقيق, والاعتراف على رفاقه لا يكفي مبرراً! ويكفي أنه أعدم. مع العلم أن يهودا صديق قد تمَّ تعذيبه خلال 24 يوماً بتواصل. كان يهودا صديق قد عذب تعذيبا بربريا لانتزاع الاعتراف منه (قطعت أذنه وجزء من أنفه), والظاهر أن الاعتراف تحت التعذيب لا يؤهل الشخص أن يعتبر ضحية.
في آيار 1949م اعدم كذلك ساسون دلال الذي قاد الحزب الشيوعي لفترة قصيرة, من المؤلم أن هؤلاء اليهود لا يذكرون إلا نادراً كضحايا.
وعلى ذكر الشهيد ساسون دلال, كان أبن لعائلة غنية يورد الكاتب خالد القشطيني في أحدى مقالاته :"لاحظ شرطي أن ساسون وهو في طريقه إلى المشنقة كان يلبس حذاءً اسفنجياً غاليا. قال لله : تدّعي بالشيوعية ولابس قندرة إسفنج؟! أجابه: ليش؟ هي الشيوعية بالقندرة أو بالرأس".
يذكر حسقيل قوجمان : "في جميع الكتابات التي كتبت عن الحزب الشيوعي وعن السجون كان الكتّاب يتحاشون ذكر أي اسم يهودي. ففي يوم 14 شباط 1959م ظهرت جريدة الحزب بعدد خاص في الذكرى العاشرة لإعدام فهد وحازم وصارم وكانت الافتتاحية عن حياة السجون فذكر الكاتب جميع فئات الشعب الذين كانوا في السجون كالمسلمين والأكراد والأرمن والصابئة والآشوريين ولكن الكاتب نسيَ وجود سجناء يهود. كان عدد الصابئة والأرمن والآشوريين بمجموعهم يعد على الأصابع ولكن اليهود في نقرة السلمان سنة 1949م كانوا يشكلون نسبة 60 % من عدد سجناء المنظمة الشيوعية الذين بلغوا250 سجيناً سياسياً تقريبا. وقد خلَّت جميع كتابات الحزب الشيوعي في السبعينات من القرن الماضي عند الحديث عن مظاهرة 28 حزيران 1948 التي كانت أكبر مظاهرة قادها فهد شخصياً عن ذكر شهيدها الأول شاؤول طويق. كان الحزب، خصوصاً منذ 1955م فما بعده يعاني من شوفينية واضحة ضد اليهود".
بعد أطلاق سراح قوجمان من السجن بعدَّ ثورة تموز 1958م وهروبه إلى إيران كما ذكرت وتسفيره بواسطة أحدى المنظمات الصهيونية إلى إسرائيل, عمل قوجمان مترجماً للغة العربية, وفي نفس الوقت التحق بالجامعة لإكمال دراسته والحصول على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث, وفور حصوله على الشهادة سافر إلى بريطانيا بحجة الدراسة, مع رفضه لإرسال أولاده إلى الجيش الإسرائيلي, فأقام في بريطانيا بإرادته, لكن عندما كان في إسرائيل لم يعمل في أي من التنظيمات السياسية بسبب اعتقاده بالتحريفية الموجودة في التنظيمات اليسارية.
بعد إقامة قوجمان في بريطانيا بدأ بكتابة المقالات السياسية وتم نشرها في العديد من المجلات, حيث ظلت حياته وافكاره مرتبطة بالماركسية التي حاول إتقانها خلال حياته السجنية ثم واصل دراستهُ في بريطانيا, فأصبحت جميع كتاباته تستند إلى الفكر والفلسفة الماركسية. كما كتب كتابين عن الموسيقى والمقامات العراقية, احداهما كانت أطروحة الماجستير باللغة العربية, والثانية باللغة الإنكليزية من المفترض أن تكون أطروحة الدكتوراه .
ظل قوجمان وفياً لبلده العراق على الرغم من تهجيره القسري, ونبذ الفكر والتحديات الصهيونية, فهو مستمر بالعطاء كشجرة النخيل, وفي حوار الكاتب حميد كشكولي مع قوجمان حول هجرته من العراق يقول : "حين جرى تسفير اليهود إلى إسرائيل كنت في السجن مع عدد كبير من الشيوعيين اليهود, ولم تتوجه السلطات إلينا لسؤالنا حول ما إذا كنا نريد إسقاط الجنسية عنا والسفر إلى إسرائيل أم لا. ولكن الحكومة العراقية أسقطت عنا جنسيتنا بدون استشارتنا ما أدى إلى إرسال كل السجناء الذين انتهت محكوميتهم وأطلق سراحهم من السجن إلى المطار وتسفيرهم إلى إسرائيل رغم إن العديد من السجناء قاوموا ورفضوا السفر. واستمر هذا التسفير حتى مع العدد الكبير الذين أطلق سراحهم بعد ثورة تموز مباشرة حين أعطت حكومة الثورة ما يسمى مرحمة بتخفيض نصف محكومية جميع السجناء العراقيين في السجون بصرف النظر عن الجريمة التي حكموا عنها, وقد تلقى السجناء اليهود المطلق سراحهم تعليمات بعدم معارضة التسفير لأن المعارضة قد تؤدي إلى إرباك حكومة الثورة" ثم يعقب قوجمان حول واقع السجناء الشيوعيين من الطائفة اليهودية ويقول : "بقي بعد هذا أربعة رجال يهود محكومين بالشيوعية وثلاث نساء ولم يبق أي من السجناء السياسيين غير اليهود, وجاءت حماتي يوماً لزيارتي في سجن بعقوبة وأخبرتني إن السجينات قد اسلمنَ وعلينا نحن أيضا أن نسلم. فأجبتها نحن لا نفعل شيئا كهذا".
للسياسي والمفكر قوجمان تحليل جيد حول واقع اليسار في العراق وتعدد بعض التنظيمات اليسارية التي تدعي لنفسها إنها تمثل الحزب الشيوعي الحقيقي مع العلم أن الكل يعلم إن الممثل الحقيقي للشيوعيين في العراق هو الحزب الشيوعي العراقي المتمثل بسكرتيره (حميد مجيد موسى) والذي انتخب من خلال المؤتمر الوطني التاسع عام 2012م , يؤكد قوجمان إن في العراق "اليوم وضع غريب بلغت به المنظمات المدعية لليسارية عددا هائلا غير محدود, فهناك عدد كبير من الأحزاب والمنظمات الشيوعية كلها تدعي إنها الحزب الشيوعي الحقيقي حزب فهد, وهناك أحزاب ومنظمات تدعي الشيوعية بدون أن تدعي كونها حزب فهد, وهناك منظمات تدعي اليسارية بدون أن تدعي الشيوعية, ولا تبدو أية إمكانية لتجميع هذه المنظمات والأحزاب أو أي عدد منها لأن كلاً منها تعتبر نفسها الأصح وأن على المنظمات الأخرى الانضمام إليها. العراق اليوم زاخر بمثل هذه المنظمات وليس بإمكاني أن أناقش كلا منها على انفراد, لذا أتحدث عن هذا الموضوع بصورة عامة".
أما رأي قوجمان حول انهيار الاتحاد السوفيتي كدولة اشتراكية فيؤكد في مقال لهُ قال "يبدو لي من غير الصحيح الحديث عن انهيار المشروع الاشتراكي إذ أن المشروع الاشتراكي، تحقيق مجتمع اشتراكي كامل، تحقق بصورة لا مثيل لها وبأكمل صوره في الاتحاد السوفييتي, إن الاتحاد السوفييتي الاشتراكي لم يفشل وإنما دمر تدميرا مقصودا ومنظماً, ولذلك اعتقد أن الحركات الثورية الحقيقية في المستقبل يجب أن تنظر إلى الاتحاد السوفييتي في فترة الاشتراكية كنموذج ينبغي الاستفادة من تجاربه وطرق بنائه وتقدمه من اجل بناء مجتمع شيوعي في المستقبل".


المصادر

د. كاظم حبيب. اليهود والمواطنة العراقية . مصدر سابق. ص60/61
د. كاظم حبيب. اليهود والمواطنة العراقية .المصدر السابق . ص60.
حسقيل قوجمان. مقال . ظروف اليهود العراقيين في إسرائيل.
موسوعة سرية خاصة بالحزب الشيوعي العراقي السري أصدرتها الشرطة العامة شعبة مديرية التحقيقات الجنائية في بغداد عام1949 الصادرة عن مكتبة النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت . بغداد . ج4 . ص 984/985.
حسقيل قوجمان. ذكرياتي في سجون العراق السياسية. لندن. طبع خاص. 2002 . ص52. ص148.
مكرم الطالباني. دماء وراء القضبان مذبحة سجني بغداد والكوت عام 1953 ص79 عن جريدة الدفاع, العدد 306, 23 ايلول 1953. رشيد الخيون الأديان والمذاهب . ص147.
رشيد الخيون. الأديان والمذاهب بالعراق. منشورات دار الجمل. بيروت. ط2. ص148.
حسقيل قوجمان. مقال على موقع الحوار المتمدن. العدد: 1457 - 10 / 2 / 2006.
حسقيل قوجمان . مقال - ظروف اليهود العراقيين في إسرائيل.

157
الزهاوي مسرحياً للدكتور علي الربيعي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     تميَّز الدكتور علي محمد هادي الربيعي بدعم المكتبة العراقية والعربية بعناوين جديدة غير مطروقة سابقاً من قبل الكُتّاب والباحثين, وصدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام لهذا العام (2018م) في مدينة الحلة كتابه الموسوم (الزَّهاوي مسرحياً), رصد الربيعي فيه دور الشاعر والفيلسوف جميل صدقي الزهاوي (1863م-1936م) في مجال المسرح, ونحن نعرف أن الزهاوي كان شاعر العقل ومعري العصر, وكان وفيلسوفاً ومحدثاً, إلاّ أن الدكتور الربيعي أثبت بالدليل القاطع إن الزهاوي كان مسرحياً من خلال أحد النصوص المسرحية للزهاوي.
    نقدم لمحة موجزة عن حياة الدكتور علي الربيعي : فهو من مواليد مدينة الحلة عام 1967م, حاصل على شهادة البكلوريوس فنون مسرحية عام 1989م, وشهادة بكالوريوس آداب تاريخ عام 2000م, وحاصل على شهادة الماجستير في تاريخ وأدب المسرح عام 2001م, وشهادة الدكتوراه في فنون مسرحية عام 2004, شغل الوظائف التالية : رئيس قسم المسرح في كلية الفنون الجميلة/ جامعة بابل (2009م-2013م), وعميد كلية الفنون الجميلة/ جامعة بابل (2013م-2017م). له أكثر من (12) مؤلفاً في مجال تاريخ الأدب والمسرح العراقي, واسهامات اليهود والمسيح في المسرح العراقي, والمسرح المدرسي في الحلة وتاريخه في العهدين الملكي والجمهوري.
     استهل الدكتور الربيعي كتابه بمقدمة بَيَّن لنا فيها أن كتابه هذا كان (من المفترض أن يظهر قبل مدة طويلة من الآن), فقد عقد الربيعي منذُ سنين أو ما يزيد على ذلك إلاّ أن انشغاله بعمل آخر قد استبقى الكتاب في أدراج خزانته, إلاّ أنه عقد النيّة مؤخراً على إخراجه إلى فضاء القراءة ولم يعدِّل فيه أو يضيف شيء عليه بل بقي على الصورة أو الهيأة التي كتبه فيها في المرة الأولى.
     حملَ الكتاب ثلاث فصول, الأول منها خصص لحياة الزهاوي وآرائه الإصلاحية والتحديثية والأسباب والدوافع التي تقف ورائها, ففي ص17 يذكر الربيعي قائلاً : (لقد عاش الزهاوي في حقبة تعالت فيها الأصوات الداعية إلى الإصلاح والتحديث في النظم السائدة, فقد بدأت عجلة الحياة تأخذ مجرى معاكساً, وبدأت مظاهر الحضارة تصل إلى الشعاب والأودية العكرة, وبدأ الناس يتطلعون إلى كلِّ ما هو جديد بعدما تلمسوا مباهج المستحدث وجنوا فوائده). كان الزهاوي صريحاً في طرح أفكاره الحداثوية من خلال ثلاث لغات كان يقرأ بها (العربية والتركية والفارسية), وبجرأة شاعر وفيلسوف يدعو الأمة إلى الابتعاد من الأفكار السلفية المقيتة والتطلع نحو الإصلاح والحداثة. ولعل التعدد اللغوي والتنوع الاثني في حياته, كان له بعض الأثر في تكوين شخصيته التي تجاوزت الانغلاق والتعصبات القومية والفئوية.
     أما الفصل الثاني من الكتاب, فقد سلط الدكتور الربيعي الضوء على دأب الكتاب المسرحيون منذُ ظهور المسرح في العراق في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين على أهمية المسرح والنص المسرحي, ففي ص23 يذكر الربيعي قائلاً : (على الرغم من أهمية هذه المسرحيات كونها تشكل اللبنات الأولى في صرح المسرح العراقي, إلاّ أنها بقيت تفتقر إلى مقومات بنائية, وأخرى فكرية تحديثية تساير المسرحية المكتوبة في بلاد الشام ومصر في ذلك الوقت, إلاّ أن الحال تبدل مع تشكل الدولة العراقية الحديثة في سنة 1921م إذ أصاب الثقافة العراقية ومنها المسرح حراك عنيف قائم على التبدل والإحلال). من هذا يتبين لنا أن الكُتّاب المسرحيين بدأوا يصححون مسارهم ليتماشى مع مسار اقرانهم من المسرحيين العرب, وأخذوا ينشدون التحول والإحلال في مسرحياتهم, ومن نتائج التحول التحديثي ظهر لنا كُتّاب مسرحيون جُدد آمنوا بقضايا العراق الجديد, وتقدم في مقدمتهم جميل صدقي الزهاوي في مسرحيته (ليلى وسمير) الصادرة في صفحات الجزء العاشر من مجلة (لغة العرب) في بغداد عام 1927م.
    تضمنت المسرحية دعوة الزهاوي الاصلاحية من خلال مسرحيته هذه, ووجد في المسرحية وسيطاً يبث فيه دعواته الإصلاحية فضلاً عن شعره ودواوينه ومقالاته التي سطرها في المجلات المصرية والعراقية, ويذكر الربيعي في ص33 قائلاً : (أحسب أن الذي قاد الزهاوي إلى ولوج المسرح والكتابة فيه أمران, أحدهما خارجي والآخر داخلي, فعلى الصعيد الأول, فإن المسرح بدأ صوته يعلو في العالم العربي وأخذت الأقلام الحُرة والمثقفة تتدافع للتأليف فيه وفي مصر بشك ملحوظ, وإن زيارة الزهاوي لمصر سنة 1924م وإقامته مدَّة من الزمن هناك جعلته يشاهد العروض المسرحية ويبدي فيها رأياً... أما على الصعيد الداخلي, فإن الزهاوي أراد أن يعود مرة ثانية إلى عرض موضوعات وآراء عصرية حديثة آمن بها في العقد الأول من القرن العشرين, ودافع عنها طويلاً ), لذلك وجد الزهاوي في نفسه هوى إلى الكتابة في هذا المجال. كما كان للحقبة الزمنية التي تميزت بها العاصمة بغداد بحراكها الفكري والسياسي والاجتماعي وما شهده العراق من صدور الدستور لعام 1908م والهرج والمرج السياسي في العقد الأول من القرن العشرين كان الدافع لكتابة الزهاوي في مجال المسرح, لتبيان سخطه على الولاة العثمانيين في المسرحية, فصور مفاسدهم وهم ينهبون خيرات البلاد.
    مسرحية ليلى وسمير مسرحية حوارية بين شخصيات تدير الاحداث الدرامية بين (سالم بك) وولده (سمير), وقد رسم الشخصيات المسرحية وبنائها وخصوصاً الشخصيات النسائية منها (ليلى ووالدتها وصلّوحة وابنتها), فقد افلح الزهاوي في تصوير الشخصيات والاحداث الدرامية بشكل انسيابي, إلا أنه وقع في خطأ كبير أنه جعل طوب أبو خزامة شخصية مسرحية وثبتها في قائمة الأسماء, يذكر الربيعي في ص49 قائلاً : (في حين أنه مدفع يرد ذكره على لسان الشخصيات, وهذا الخطأ الذي وقع فيه الزهاوي يعطينا انطباع بأنه كان يعتقد بأن أي شخصية يرد اسمها في متن النص هي شخصية مسرحية).
    أما في الفصل الثالث من الكتاب فقد نقل الدكتور الربيعي نص المسرحية كما هو عليه مستنسخاً من (مجلة لغة العرب) بشكل منضبط كما جاء في المجلة, الذي مضى على نشره تسعة عقود من تاريخ 1927م, وهي مدة كفيلة بأن يجعل منه نصاً نادراً وعزيز المنال, والكثير من قراء المسرح والمهتمين بهذا المجال لم يتسن لهم قراءته أو الاطلاع عليه, فكان الدكتور الربيعي السباق في تسليط الضوء على هذا المجال الذي طمرته الأوراق والكتب ونسيان الكُتّاب لهذا النص المسرحي.
    وختاماً نقول الكتاب يعتبر دراسة وثائقية لرحلة ماتعة في تاريخ المسرح العراقي, وجهد مائز يستحق الثناء والاعجاب, فقد تناول الدكتور الربيعي فيه تاريخ النص المسرحي للراحل الزهاوي, لإعلاء راية الأدب والمسرح, مستعرضاً محطات ممتعة من حياة الزهاوي وتاريخه الأدبي والفكري الاصلاحي والمسرحي.
 

158
التدين الشعبي وثقافة البحث عن المنقذ
نبيل عبد الأمير الربيعي
ما هي الأسباب التي تجعل من مجتمع له باعٍ طويل في التاريخ, وأسبقية قديمة في الحضارة, وتجربة أولية في الدين, أن يتحمل كل هذا القدر من المصائب السياسية والنوائب الاجتماعية, التي جلبها له وصلطتهّا عليه حكامه وجورهم, دون أن يجأر بنفاد خزينه من الصبر أو أن يصرخ بتآكل رصيده من الجلد, إذا ما تجرعه من صنوف الذّل والهوان؟!.
الشعب القطيع الذي يساق إلى المسالخ, مسالخ الذبح, ومحارق الموت, في وطنٍ مسخت هويته, وشعب أخصيت إرادته, حتى هبط إلى حضيضه الحيواني, وجمهور مدجّن داخل حضيرة لممارسة طقوس التأليه وشعائر التقديس لرموزه.
شعبٌ اصابه الشلل الإرادي والنكوص النفسي والانكفاء الإنساني, وحالات اليأس البائسة, لجماهيره المدجنة, المصابة باتساع رقعة الفقر وارتفاع الأمية, وانتشار الفوضى وانحسار المعنى, وتجذر التدين الشعبي وتوطن الثقافات الفوبكلورية.
هل ما نحن فيه سببه طبيعة سايكولوجيا الجمهور ونمط بنية الوعي الجمعي, وظاهرة التماهي بالزعيم من الذات إلى الآخر, مظاهر تأليه الزعيم الديني والسياسي؟
اجمعت البحوث والدراسات على أن للعقل الخام/ البكر, إذا ما ترك لهُ الحبل على الغارب, ألاعيبه المحيرة واكاذيبه المخجلة, فهو بالقدر ذاته, موطن للخرافة وموئل للثقافة, وهو بالدرجة عينها عرين للغرائز وأمين للوعي, وهو بالكيفية عينها السبيل إلى التبرير والطريق إلى التحضر, وهو بالقدر إياه يفضي إلى الوحشية أو يقود إلى المدينة. وتعتمد على قدرة الإنسان على ترويض الغرائز وعقلنة النوازع وانسنة التطلعات.
فحيثما يسود الفكر الاسطوري, تسيطر العبودية الاجتماعية على الطبقات العاملة الفقيرة, لتستغل وتوظف سياسياً واستثمارها ايديولوجياً من قبل القوى الإستغلالية لتحقيق مآربهم الدنيئة, كما تلعب الأساطير دوراً مزدوجاً في تفسير النظام القائم بعبارات تاريخية وتبررّه بإعطائه قاعدة تاريخية, وتصويره كنظام مبني على الحق.
فالمجتمعات البدائية كانت تجهل ممارسات التدوين التأريخي لأرشفة ملامحها والتوثيق الكتابي لحفظ سردياتها, حيث اضطرت للاعتماد كلياً على رصيد مخزونها من الثقافات الشعبية والتراثيات الفولكلورية, وهو ما تمخض عنه ابتكارها للأساطير المقدسة واجتراحها للخرافات المؤسسة والحفاظ على عناصره من النسيان بواقع عامل الزمن, بعد أن حتم عليها سباق التطور التاريخي التحول من طور الثقافات الشفاهية إلى طور الثقافات الكتابية, والأسطورة غالباً ما تدخل فيها قوى وكائنات أقوى وارفع من البشر تدخل في نطاق الدين, وتبدو عندها نظاماً شبه متماسكاً لتفسير الكون.
لا ننسى من الثقافات الشعبية البحث عن المنقذ المخلّص, والأمل في انقاذ المجتمع من بؤس احواله المأساوية, لكن بالواقع أن الفكرة قديمة قدم الإنسان ذاته, وهي بالواقع ضرورة اجتماعية خالصة قبل أن تصبح ضرورة فردية محضة, بسبب الظلم والحيف والعلاقات الاجتماعية الغير متكافئة, والشروط الإنسانية غير العادلة, حتى ادركت المجتمعات الدين والألوهية واستوعبت قيمة الرموز والمقدسات والتزمت بأداء الطقوس والشعائر.
إن عقيدة المنقذ تتلخص من عنف المجتمع والحدّ من جور علاقاته, فإزاء استبداد الحاكم وفي ظل التفكير الديني تتعلق الآمال بقيام مخلّص أو محرر يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً, حتى اصبحت عقيدة على سبيل الإيمان بها والاعتقاد فيها كمبدأ ديني ثابت وكتصور قدسي ملزم, وكداينمو يستقطب إرهاصاتها لأهمية تتناسب ودرجة هياج سيكولوجيتها الاجتماعية واستنفار تصوراتها المخيالية.
كلما اقترب الدين من مضمار السياسة وتسلل السياسة إلى محراب الدين تتعالى الدعوات لاستحضار فكرة المخلّص على خلفية الازمات والانقسامات وضجيج الصراعات, كلما تعاظمت الجموع المهمشة إلى ظهور شخصية المنقذ, سواء برداء الزعيم السياسي أو بجلباب المرشد الديني, وكلما ازداد القمع على الذات أو الجماعة ازداد تمسكها بالمنقذ.
إن جوهر هذه الظاهرة يتمحور بالدرجة الأساس حول اشكاليته الشرعية السياسية وحرمان جهة ما من نصابها وحقوقها واستبعادها عن أي دور من ادوارها, كلما اشرأبت تطلعات وأماني المستضعفين لقدوم عصر الزعيم المنقذ من الظلم والقائد المنجي من المحن, حتى يصبح هذا المنقذ نداً للإلوهية في صفاتها وقدراتها, وموزاي للمقدس في عصمته, حتى تتحول الإسطورة إلى واقع.
من هذا نستنتج أن شخصية المنقذ شخصية اسطورية افتراضية اكثر منها واقعية, خلقت من خلال المخيال الجمعي للجماعات الإنسانية المسلوبة الحقوق والارادة والرأي, والاحتماء تحت ظل هذه الشخصية الوهمية, والهدف من ذلك لجبر الخواطر المكسورة, وتهدئة النفوس القلقة, وتحقيق الآمال الضائعة, لذلك اصطنعت كل طائفة منقذها لتحقيق مآربها والتقرب من حضرة الإله, والشعور بهيبة المقدس, وهكذا فقد اتجه إلى إقامة المزارات للأولياء وإشادة المعابد للقديسين لتصبح اماكن مقدسة, لتجري لدى العامة زيارات دورية لمقام المقدس والتبرك بحضرته, لا سيما إذا كانت تضم رفات تلك الشخصيات.
بعض الطقوس والممارسات لا تمت للدين بصلة, وانما تأديتها من منطلق القرار من واقع بات لا يحتمل, وإيجاد من يعطي الأمل ويمنح الرجاء والتخفيف من وطأة بؤس المعاناة, لذلك ينخرط العامة بشعائر التعبد وطقوس الاحتفاء لأضرحة الأولياء ومقامات الصالحين, لنيل امتياز البركة وتوسطهم لدى حضرة الإله, وبهذا المعنى فإن الأضرحة ككل الأماكن المقدسة ليست سوى خزانات ارضية للقداسة السماوية باعتبارها الحامل الشرعي للأسرار الإلهية.
لذا أن لجوء الإنسان نحو الدين وانتماءه صوب المقدس مسألة قديمة في تاريخه وحالة مرافقة, وعند دراسة التجذر الديني الشعبي نخرج بنتيجة أنه لا يوجد مجتمع بشري معاصر يستطيع الاستغناء عن الدين ويتخلى عن الثقافة بالمطلق, لأن الدين والثقافة من الظواهر الاجتماعية بامتياز, وانهما يختلفان من مجتمع إلى آخر وتتباين من مرحلة تاريخية لأخرى, وهو ما يفسر لنا اسباب شيوع ظواهر التدين الشعبي والثقافة الفولكلورية, حيث التمسك بالمعتقدات الأسطورية والتصورات الخرافية والتفسيرات السحرية, وما زالت ليومنا هذا في بلاد الرافدين المعتقدات الشعبية والخرافات سادت وما يزال سائداً في مجتمعنا الريفي المقفل المتخلف.
ومن خصائص التدين الشعبي والثقافة الفولكلورية انهما يروجان لدعاوى ظهور الزعيم المنقذ ويبشران بقدوم البطل المخلّص, مبعوث العناية الإلهية الذي يرفع التهديد عن الإنسان الضعيف, إنه رمز العدل والأمن الوجودي. حتى تجذر التدين الشعبي وتوطين الثقافات الفولكلورية, لا في بنى الوعي الجمعي وانظمة التمثلات الرمزية فحسب, بل وكذلك في انماط العلاقات واشكال السلوكيات.
المصيبة إن بريق أي شخصية كارزمية لا يسطع سحرها ولا يشع إلا بالاعتماد على ما يضفيه التدين الشعبي من وقار, وما تسبغه الثقافة الفولكلورية من اعتبار, فضلاً عن انها تضع المنخرطين في هذا الضرب من النشاط الطقوسي والشعائري في حالة من الإيمان الروحي والانفعال النفسي بالقدرات الخارقة والطاقات الخلاقة, التي يمكن أن تتمخض عن كرامات الأولياء ومعجزات الزعماء الدينيين وزعيم الطائفة.
من خلال التمسك بالتدين الشعبي وترك الدين الأساسي الذي بعث من قبل الرسل والأنبياء يتماهى الجمهور المدجّن الشخصية الزعامية عمداً وهي المرجع له في كل صغيرة وكبيرة على وجه الخصوص مما يفقد الفرد استقلاليته الشخصية ويغيب وعيه, ويسبغ الالوهية على الزعيم الروحي أو السياسي وهكذا فلكي يجتاز الجمهور المدجّن حاجز التماهي مع شخصية الزعيم الكارزمي, ويذهب باتجاه وضع هذا الأخر في مستوى التنزيه من العيوب البشرية والأخطاء الإنسانية, ورفعه من ثم إلى مرتبة القداسة والتسامي به إلى مصاف الإلوهية, يستغل المنطلقات الروحية التي تنبثق منها تصوراته واعتقاداته, التي تعتبر المصدر الوحيد للشعور بالأمان والإحساس بالرعاية والاحتماء بالزعيم المنقذ, والتعلق بالأبطال واللجوء إلى الأولياء, وهي من قناعات الجمهور المدجّن القائمة على اساس موروث اسطوري/ ديني لتستمر في اروقة المخيال الجمعي, الذي ما زال يشتغل بنفس الآليات القديمة التي يطغى عليها الحكم وانتظار المنقذ الذي يعيد إلى الجماعة تجانسها, ويحميها من الأخطار, وينشر العد بعد ما ملئت الأرض جورا.

159
حقائق حول الديانة الإيزيدية

نبيل عبد الأمير الربيعي

الشعب الإيزيدي يستقر منذُ القِدم في مناطق كردستان العراق, مثل سنجار وشيخان وبعشيقة ودهوك وتلعفر وزاخوا, كما يتواجدون في سوريا وتركيا وإيران وفي بعض مناطق روسيا وعلى الحدود الروسية القفقاسية, ويتحدث الإيزيديون اللغة الكُردية, ولهم أبجديتهم القديمة الخاصة إلى جانب الأبجدية الكُردية, ويرتدون الزي الكُردي, وبعض الإيزيديين يرتدون الزي العربي المعروف مثل الكوفية والعقال والدشداشة أو الصاية (الزبون) والعباءة.
تعتبر الديانة الإيزيدية واحدة من تلك الديانات العريقة في القدم ذات النكهة الميسوبوتامية العراقية, مثلها مثل الديانة المانوية أو المندائية, إلى جانب حياة الجماعات الدينية الأخرى في المجتمع الكُردي, رغم التغيرات التي طرأت على حياة ومعيشة وتقاليد وعادات هذه الجماعات الدينية.
الرابطة العضوية القائمة بين الديانة الأيزيدية والمجتمع الإيزيدي الكُردي, بين الطقوس والتقاليد الدينية الإيزيدية وحياة وهموم ومشاكل وتطلّعات الإيزيدي اليومية, باتجاه تكثيف الجهود لنبش تأريخ هذه الديانة في العراق والمناطق المجاورة, وما عاناه ابناء هذه الديانة عبرّ الزمن من تنكيل وتقتيل وتهجير وإبادة جماعية على مر العصور.
لقد تعرضت مناطق الإيزيديين إلى الكثير من الحروب والكوارث والتدمير والحرق المتعمّد لتلك الآثار التي ربما كان في مقدورها أن تساعدنا كباحثين بشكل أدق وأقرب إلى الواقع حول أصل الديانة الأيزيدية وطقوسها الأولى, وتقاليد أهلها القدامى والتحولات التي طرأت على ديانتهم, وعليهم كأفراد وجماعات. ولكن نجد أن كثرة من الكتّاب المسلمين والمسيحيين والمستشرقين قد قاموا بتشويه حقيقة الديانة الإيزيدية وطقوسها.
من خلال الاطلاع على الديانات القديمة في بلاد الرافدين, وفي أعالي نهر الفرات, نجدها أكثر اعترافاً ببعضها, وأكثر تسامحاً فيما بينها, وأكثر قرباً, إلا أن ما تعرضت له الديانة الإيزيدية من تشويه لحقائق هذه الديانة, من خلال عدم كشفها عن أسرار الديانة الإيزيدية, وطقوسها ومدى تعارضها مع الأديان والطقوس الأخرى, بسبب الخشية من القمع والإرهاب الديني من قبل شيوخ الدين لبعض الجماعات الدينية, وحكام الدول التي حكمت المنطقة.
لكن استمرار وجود الديانة الإيزيدية لآلاف السنين وبكل ما تعرضت له من قهر ومصائب واضطهاد وإرهاب, لو كانت قد تعرضت له بقية الأديان لماتت واندثرت, لكن قناعة الإيزيدي بكونه مخلوقاً يختلف عن المخلوفات البشرية الأخرى من جهة, وكونه شعب الله المختار, أو الأمة المصطفاة, قد ساعدهم على الصمود في مواجهة الكثير من الصعاب.
ذكر الدكتور رشيد الخيون مشيراً لمعتقد الإيزيديين قائلاً: "يعتقد الإيزيديون – كغيرهم من أهل الأديان الأخرى – أنهم شعب الله المختار, أو الأمة المصطفاة, ولكنّ, بطريقة أخرى وفريدة من نوعها, وذلك باعتقادهم أنهم وُلدوا من آدم فقط دون حواء, فبعد الجدل بين الزوجين بأيّهما يلتحق النسل, قررا الاستمناء في جرّتين منفردتين, وبعد تسعة أشهر, تمخّضت جرة آدم عن (شيت وحورية), ومنهما تناسلت الأمة الإيزيدية, أما جرّة حواء: فتمخضت عن ديدان فقط, وهذا خلاف ما اعتقد الصابئة المندائيون في تقديم المرأة على الرجل, فطهارتها من طهرة النور الذي منه خُلقت".
وقد حافظت الديانة الإيزيدية بشكل عام على مجموعة الأسس والقواعد المركزية للديانة بدلالة ما فعله الشيخ أدي بن مسافر من تجديد في بعض الجوانب, وتراجع في جوانب أخرى. فالدراسات الخاصة بالديانات والطقوس والاحتفالات والأعياد القديمة, والأساطير والملاحم والتراتيل والصلوات والتعاويذ والأحجيات, وبالأمثال والأقوال والرقى والتعاليم الدينية وأسماء الآلهة, وخاصة الديانات السومرية, تشير إلى وجود مثل هذه الصلة مع الديانة الإيزيدية في بعض طقوسها واحتفالاتها, وبعض أعيادها الإيزيدية, أو بعض مقاطع من تعاويذها وأعيادها.
تعتبر الديانة الإيزيدية من الديانات القديمة في العهود السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والكلدانية, ويؤكد الدكتور خليل جندي أن كلمة إيزيدي "هي تعني الروح الخيّرة, وغير المتلّوثين, والذين يمشون على الطريق الصحيح, فإن تاريخ إيزيدية يرجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد, وهم من بقايا أقدم ديانة كُردية, من منطقة الحضارات العظمى في الشرق, أي المعتقدات السومرية- البابلية القديمة", ويشير الجندي إلى ثلاثة من أكبر آلهة الإيزيدية, بل الأركان الأساسية في هذا الدين, جاء ذكرهم في تاريخ تلك الحضارات القديمة.
الأول : هو (الشيخ شمس) إله الشمس, ويكتب بالسومرية (دنكر أوتو) ويًدعى باللغة البابلية (شماس).
والثاني هو (الشيخ سن) إله القمر, وهو إله ميسوبوتامي يسمى (نانا) بالسومري, و(سين) بالبابلي, وهو إله الخصوبة عند النساء.
والثالث: هو (الشيخ آدي) إله المطر والخير والبركة, ويُكتب (إيم) باللغة السومرية, ويُلفظ بصورة مختلفة في الشرق الأوسط مث (آدد, آدي, اودنوخ, حدد, حداد).
وكون الآشوريين كانت لهم محبة خاصة لـ(الشيخ آدي), فإنهم لم يصوّروه في نقوشهم الحجرية, وحسب, بل ورد عنه الكثير في كتاباتهم أيضاً. ولهذا بالذات تواجد معبده في قلب آشور في لالش".
وطاؤوس ملك الإله الواحد ذو الثنائية في الواحد, وهو الرمز الأعلى المقدّس لدى الإيزيديين أينما وجدوا, كما أن الإيزيديين بأول يوم الأربعاء من شهر نيسان من كل عام على وفق التقويم الشرقي, باعتباره عيد رأس السنة الإيزيدية, وهو اليوم المقدس مثلما الحال عند البابليين, ويُحرم الإيزيديين على أنفسهم الزواج والنكاح في يوم الأربعاء, كما هو الحال عند البابليين, باعتباره يوم زواج الأنبياء والأولياء عند الإيزيديين حالياً, وربما عند آلهتهم القديمة أيضاً.
وفق الميثولوجيا الإيزيدية حول قصة الطوفان, أن عين سفني الواقعة في الشيخان, حيث يقع معبد آدي بن مسافر في وادي لالش المقدّس عند الإيزيديين, والقريب من باعذرة في قضاء الشيخان التابع لمحافظة نينوى حالياً, هو نفس المكان الذي صُنعت فيه السفينة لمواجهة الطوفان, كما أنها ذات البقعة اليابسة التي ظهرت في أعقاب الطوفان, أو بعد انحسار الماء. ولا يبعد هذا المكان المقدس كثيراً عن موقع مدينة نمرود حيث أقيم فيها معبد الإله نابو, وأطلق على معبد نابو اسم (إيزيدي) أي (عباد الله).
كما تقترن الجماعات الإيزيدية مع الجماعات البابلية برمز القمر عند الإيزيديين بالشيخ سن, أو الشيخ حسن, كما يلتقي الإيزيديين بالبابليين في جانب الحفاظ وصيانة أسرار الديانة وطقوسها السرية التي يمارسها الإيزيديين من الشيوخ والبيرة والقوالون, والتي لا يجوز البوح بها لغير المعنيين بها مباشرة.
أن الموطن الأساسي للديانة الإيزيدية قد بدأ بمدينة يزد القريبة من منطقة خراسان في شرق إيران والقريبة من الحدود الأفغانية, علماً أن الإيزيدية تعتبر أكثر قدماً من الديانة الزرادشتية التي اعتنقها بعض الجماعات الكُردية أو الميثرائية, والعديد من المصادر تؤكد إلى أن الموطن الأصلي للإيزيدية هو منطقة كُردستان.
كما كتب الدكتور سامي سعيد الأحمد يقول :"بأن الإيزيدية في الواقع ما هي إلاّ استمرار للدين الميثروي الذي سادت عبادته في مدينة الحضر, وأن أهريمان كقوة شريرة قد نُظر إليه بقدسية تامة في المثروية أيضاً".
أما حول أصل الشيخ آدي بن مسافر الهكاري "فقد جمع الباحثون وخاصة الكورد والمستشرقون منهم على أن الشيخ آدي كان اوردياً في الأصل, وكان أجداده من جبال الهكاري (جبال داسن), وهذا ما يؤكده لنا أنور المائي حين يشير إلى أن الشيخ آدي وأخاه قد اضطُرا إلى ترك ومغادرة جبال الهكارية, واللجوء إلى الشام, ذلك لأن الخلافة العباسية كانت قد ضيّقت الخناق على إيزيديي جبال هكاري". وتشير الدراسات التي أُنجزت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى أنهم تعرّفوا على كُتُب من قِبل الشيخ أدي بن مسافر, ولكنها كانت قد زُرّت وسُجّلت باسم أحمد بن الرفاعي, إلاّ أن مواقع غير قليلة لم تشطب الاسم تماماً, أو نسي تبديله, يدلّل على أنه للشيخ أدي بن مسافر وليس لأحمد بن الرفاعي, وفي عام 1911م أعاد الدكتور رودولف فرانك نشر قصيدة وُجدت في الكتاب الذي وُضع اسم أحمد بن الرفاعي عليه وكما يرى الدكتور فرانك أنه يُعدّ من كتابات أدي بن مسافر.
لقد اتّهموا ابناء الديانة الإيزيدية بكونهم عَبَدَة إبليس, وهذا الملك لا يرتبط عند الإيزيدية بتلك السمات السلبية التي يحاول المسلمون أن ينعتوها به, أو يُضفونها عليه, باعتباره رفض السجود لله, في وقت كان الإله قد طلب من ملائكته عدم السجود إلاّ له. ولم يرد في كتاب نهج البلاغة لأمام علي أو في كتاب شرح البلاغة لأبن أبي الحديد المعتزلي ما يشير إلى وجود علاقة بين الإيزيديين وهذه المسألة, أو ما يظهر ما يوحي بعبادة الإيزيديين للشيطان.
وبعد ظهور الديانة الإسلامية وتوسعها بسبب الفتوحات حتى وصلت مناطق كُردستان العراق, فقد تعايش المسلمون والإيزيديين عبرَ القرون المنصرمة من العيش المشترك ونجد التقارب في جميع الأديان في المنطقة تقريباً, ولكن بسبب الضغط والخوف والاضطهاد من قبل ولاة المسلمين في المنطقة تبنى الإيزيدية بعض الطقوس الدينية الإسلامية ومنها يوم الجمعة باعتباره يوماً مقدساً لديهم.
ولكن في حقبة الاحتلال العثماني لمناطق تواجد الإيزيديين في كردستان العراق أجبروا على تأدية بعض الطقوس والتقاليد ومحاولات إعادة تشويه سمعة الإيزيديين والإساءة إلى ديانتهم وأتباعها, وتأجيج الغضب والحقد ضدهم باعتبارهم من أولئك الكفرة المرتدين الذين خرجوا عن الدين الإسلامي, أو باعتبارهم من أتباع يزيد بن معاوية الذي كان مسؤولاً عن المجزرة التي نُظمت لعائلة الحسين وصحبه, والتي أدت إلى استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب والكثير من أفراد عائلته وصحبه في كربلائ, وسبي النساء والأطفال, وبالتالي تحميل الإيزيديين مسؤولية تلك المجزرة, وكانت الفتاوى الدينية العثمانية الخاصة بتكفير الإيزيديين مستندة إلى الحجج الواهية والمخالفة للواقع, والمبنية على تمييز ديني متعصب اشتهر به الحكام العثمانيون على نحو حاص.
يؤكد الدكتور كاظم حبيب قائلاً :"وأميل في تقديري – القائم على مطالعاتي في هذا الصدد – إلى أن الديانة الإيزيدية تحمل في بنيتها بذرات وطقوس وتقاليد سومرية وبابلية, كما إنها – فيما بعد – على وفاق مع الشعوب الإيرانية في ديانتها, من حيث اعتماد مبدأ الثنائية (الاثنين) في الواحد, مبدأ تجسيد النور والظلام, الخير والشر في إله واحد, وجرى تحوّل متميّز وتدريجي في ديانة الفرس القدامى باتجاه الفصل الكامل بين إله الخير والنور (Ahura Mazda), وإله الشر والظلام (Ahriman), أن الفرس – من الناحية العملية – طوروا أو أقاموا ديانة جديدة, هي الديانة الزرادشتية التي لم تتخلّ عن بعض أصولها القديمة. في حين حافظت بعض القبائل الفارسية – إضافة إلى قسم من الكُرد – على المبدأ الأساسي السابق, مبدأ الثنائية في الواحد. وهذا المبدأ يفترض عبادة الإله الواح الذي يمثل الخير والشر, النور والظلام في أن واحد, بغضّ النظر عن التغيرات الأخرى التي لحقت بهذه الديانة, أو بالديانة الزرادشتية, التي رفضت الثنائية في الواحد, وفصلت بينهما في ثنائية مستقلة, ووضع زرادشت تعاليمه في (آفستا) التي تعتمد تقديم (القرابين وطقوس الطهرة وتقوية النار المقدسة, وما شابهها)".
تعرضت الديانة الإيزيدية عبرّ مئات من السنين إلى مجموعة من العوامل المؤثرة, فطرأ على ديانتهم بعض التغيّر والتطور الذي صاحبها بشكل محدوداً جداً, ومنها تأثير التقاليد والطقوس لديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية ذات الأساس التوحيدي المشترك.
كما تعرض الإيزيديون إلى الاضطهاد الديني من قبل قادة وأتباع الأديان الأخرى على امتداد العصور المنصرمة, من تعذيب ونهب وسلب واغتصاب وعبودية وبيع المختطفين بسوق النخاسة, والسعي لتحويل الإيزيديين عن دينهم, ونشر الحقائق والمعلومات غير الحقيقية عن أصل الديانة الإيزيدية. حدث كل ذلك بسبب التستر والاحتفاظ بالأسرار والأصول الدينية من قبل شيوخ الدين الإيزيديين لأن الديانة الإيزيدية غير تبشيرية فتتستر على ديانتهم وعقائدهم.
ومع مطلع القرن الحادي والعشرين تعرض الإيزيديون إلى الاضطهاد والقتل على يد تنظيم داعش الإسلامي, فقاموا بخطف وأسر النساء والأطفال وقتل والرجال والشيوخ, وتم تربية الأطفال على دين إسلامي دون أن يكونوا يعرفون ذلك, وبيعت النساء في سوق النخاسة داخل العراق وفي سوريا على اعضاء التنظيم.


المصادر
د. جورج حبيب. اليزيدية بقايا ديانة قديمة. بغداد 1977. (د.ن). ص19
د. سامي سعيد الأحمد. اليزيديون. أحوالهم ومعتقداتهم. في جزءين. مطبعة الجامعة. بغداد 1971. ط1. ص19.
د. عدنان زيدان فرحان. تاريخ الإمارة الكوردية الإيزيدية. موقع بحزاني الإلكتروني. 2010م.
Frank, Rudolf Dr. Scheich(Adis) der grosse Heilige der Jezidis. Mayer & Mueller. Berlin. 1911. S . 10-43.
د. كاظم حبيب. الإيزيدية ديانة عراقية. مصدر سابق. ص58.
أ سيرغي توكاريف. الأديان في تاريخ شعوب العالم. دار الأهالي. دمشق. 1998. ط1. ص362.

160
ثورة الزعيم الروحي للكُرد الشيخ عبيد الله النهري 1880م (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
موقف الشيخ عبيد الله من المسألة الأرمنية
    عند اندلاع الثورة وتحرك القوات الكُردية صوب كُردستان إيران أصدر الشيخ عبيد الله النهري فتوى بتحريم مهاجمة الأرمن والنساطرة الآشوريين, وبأمر منه أوعز للأرمن بأن يرفعوا فوق سطوح منازلهم أعلاماً زرقاء سماوية اللون, لكي يتم التعرف إليهم ولا يتعرض لهم أحداً(27).
    كما دلت الوثائق التاريخية على أن أحد أهم المقربين للشيخ عبيد الله كان الأرمني كيوردوتشي سيمون تشيليغيان, الشهير بـ(سيمون آغا), وقد حضر عدة لقاءات بين الشيخ عبيد الله والمسؤولين الأوروبيين في كُردستان. فكان سيمون آغا المستشار الرئيسي لدى الشيخ عبيد الله في مراسلاته الدبلوماسية(28) ووزير خارجيته.
    عام 1880م افتتح الشيخ عبيد الله النهري في شميدان مؤتمراً لزعماء الكُرد وكان من اكثر المؤتمرات حضوراً في تاريخ الكُرد, لكن الأتراك استغلوا الشيخ (فهيم) الذي حضر المؤتمر وطلبوا منه أن يقع المؤتمرين بضرب الأرمن حتى يشغل الأكراد عن قتال الأتراك فاعترض عبيد الله النهري بل حسّن عبيد الله النهري علاقته مع الأرمن فعين ارمنياً وزيراً للخارجية(سيمون آغا)(29).
    كان من نتائج الحرب الروسية التركية عام 1877م-1878م منح سلطات رسمية اوسع من تلك التي كانت تمنح للأمراء الكُرد قبل ذلك بنصف قرن, وافضت هذه الحرب إلى اتفاقية برلين, حيث دعت القوى الأوروبية وخاصة المادة (16) منها إلى حماية الأقلية الأرمنية, وهو ما اعتبره الشيخ عبيد الله والكُرد المسلمون خطوة باتجاه دولة أرمنية, وفي حينها قال الشيخ النهري (ما هذا الذنب اسمعه معترضاً لموظف تركي من أن الأرمن سوف يكون لهم دولة مستقلة في (وان) وأن النسطوريين (المسيحيين) سوف يرفعون العلم البريطاني واعلان انفسهم كرعايا بريطانيين ونحن أمة كُردية نبقى هكذا), فدعا البريطانيين للاعتراف بالكُرد كأمة مستقلة, وقد قدم القضية الكُردية بمصطلح قومي علماني متداول إلى الهيئات الدبلوماسية, وقد شكلَ الشيخ ما يسمى (بالعصبة الكُردية) وهي مجموعة قومية اسسها لكي يوسع من دائرة اتباعه ويعطي لتحركه مضامين وابعاد قومه, ويدعوا إلى كردستان حرة مستقلة(30).
    أما فيما يخص موقف الأرمن من ثورة الشيخ عبيد الله فإنهم قابلوا عروض الشيخ للتعاون بكثير من الشك والتوجس, فإلى جانب خشيتهم من توريط أنفسهم في حركة العصيان رأوا في مشروعه خطة موحى بها من الأتراك, ترمي إلى سلبهم تلك الامتيازات التي وعدتهم بها معاهدة برلين(31).
    أما الحكومة البريطانية فكانت متوجسة من ثورة الشيخ عبيد الله بسبب التقارير التي ارسلها لها سفيرها في استنبول مستر جورج جي گوشن, والقنصل آبوت في تبريز, تعتقد أن الحكومة العثمانية هي وراء انتفاضة الشيخ عبيد الله, كما اعتمدت الحكومة البريطانية على تقرير كريميان هايرك, الذي شرح في تقريره (أن هناك شك في أن الحكومة العثمانية هي وراء العصبة الكُردية لإثارة المسألة الكُردية, للقضاء على المسألة الأرمنية, إن هذه العصبة هي انعكاس للسياسة العثمانية وامتداد لها وإن الشيخ عبيد الله يقودها اسماً, أما الرئيس الفعلي فهو بحري بك ابن الأمير بدرخان بك, المقرب من الحكومة العثمانية, علماً أن بحري بك قد استخدم نفوذه, والهدايا والمال, وحتى التهديد ولترغيب الكُرد, ليس فقط في الدولة العثمانية, بل الكُرد في إيران لدعم العصبة(32).
    يقر بعض المسؤولين البريطانيين بزعامة الشيخ ومهابته وعدالته وسلوكه القويم وبحكومته العادلة, وسهر الشيخ على مصالح مواطنيه, وسواء جاء الاقرار بصورة جانبية أو اقراراً للواقع. رغم محاربة البريطانيين لثورة الشيخ, يرفع (ويليام ج. آبوت) القنصل البريطاني العام في تبريز تقريراً إلى السفير البريطاني في بلاط الشاه وقد ورد في مرفقها: (يقوم الشيخ وابنه شخصياً بالتحقق في شكاوى وطلبات الشعب ويبحثون معهم عن قرب, في مدينة الشيخ عبيد الله لا وجود لشيء بأسم المشروبات الكحولية. يقوم الشيخ من اشراقة الشمس وحتى منتصف الليل بتصريف الأمور الإدارية لشعبه. شعب الشيخ يعشقه وينفذون أوامره من غير نقاش, الاعتداد على القوانين يصاحبه حكم الموت, الشيخ ذكي جداً وهو على خلاف سائر الروحانيين وعلى اطلاع بعلوم الزمان. يضع الشيخ نفسه الشخص الثالث, ما عدا بعض عشائر الكُرد داخل إيران, يقر الكُرد جميعاً بزعامة الشيخ, يعيش الشيخ عبيد الله كما يعيش الملوك, يتناول ما بين 500 حتى 1000 شخص الطعام على مائدته يومياً, يرى بين الضيوف الأفراد من كل طبقات المجتمع, من أفقر الناس إلى المسؤولين الكبار في الدولتين الإيرانية والتركية.(33).
    يعد الشيخ عبيد الله النهري (افضل نموذج للقيادات الكُردية التي ظهرت بعد حكم الأمراء, وهو على حد قول ديفيد ماكدوول وفي نظر الكثيرين أول بطل قومي كُردي لأنه قام بثورة باسم القومية سنة 1880م, وكان هدفه توحيد الكُرد ضمن دولة كردية مستقلة)(34).
   من أهم الأسباب لقيام ثورة الشيخ عبيد الله النهري ما يلي :
1- الدعوة إلى إمارة كُردية مستقلة.
2- الأسباب الاقتصادية وما حلَ بالشعب الكُردي والأرمني من مجاعة وانتشار الأمراض ومنا الطاعون.
3- الفوضى والتدهور الاقتصادي في الاناضول والعجز العثماني في فرض القانون والنظام خارج المحيط المباشر لكل مدينة.
4- عبء الضريبة الكبير والغير معقول على المواطنين الكُرد.
5- المحاولات الرامية إلى إدخال التجنيد الإلزامي.
6- الابتزاز المالي الحكومتين التركية والإيرانية للكُرد في المنطقة.
7- عدم ارتياح الشيخ عبيد الله للباشوات في المنطقة.
8- المعاملة القاسية التي لقيها عدد من الزعماء القبليين الكُرد على يد السلطات المحلية ومنها انزال عقوبة (100) جلدة بأحد الزعماء الكُرد. وإعدام 50 رجلاً من رجال قبيلة عبيد الله.
9- مطاردة قطاع الطرق وإعادة الأمن والنظام في المنطقة.
10-                    تحقيق المساواة بين المسلمين والمسيحيين وتشجيع التعليم والسماح ببناء كنائس ومدارس.
11-                    اصلاح كردستان وإقامة حكومة عادلة.
12-                    سياسة حكم الدولتين العثمانية والإيرانية القاسية مع الكُرد.
13-                    سوء التعامل العثماني مع الشعب الأرمني والمسألة الأرمنية.
14-                    معاهدة برلين مع الأرمن وآمالهم في السيطرة على شمال كُردستان, وخوف الكُرد من غلبة الأرمن.
15-                    محاولة الشيخ عبيد الله النهري من توحيد كُردستان.
16-                     انتشار شائعات تثير القلق حول اعتزام الدول الكبرى من وضع الأرمن في مرتبة سياسية تعلو عن مرتبة الكُرد.
17-                    لم تكسب الثورة ولاءات الدول الكبرى.
    تعد ثورة الشيخ عبيد الله النهري من أهم الثورات الكُردية التي اندلعت ضد الدولتين العثمانية والإيرانية في القرن التاسع عشر, وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى, ولعل مرد ذلك إلى أسباب عدة منها:
1- اظهرت ولأول مرة في تاريخ الحركات التحررية الكُردية بوادر الفكرة القومية الحديثة.
2- تمكن قائدها الشيخ عبيد الله النهري من جمع شمل معظم الشعب الكُردي في مؤتمرها في تموز 1880م.
3- شكلت هذه الثورة رقماً صعباً في المعادلة السياسية للمنطقة.
4- استعادة الثورة ترتيب البيت الكُردي من الداخل, وبذل الجهد لنشر التحضر.
5- استطاعت الثورة السيطرة على اغلب مناطق كردستان, وانشأ فيها دوائر كُردية رسمية للإدارة المحلية.
6- احبطت الثورة العملية الاصلاحية الأرمنية وحولت الاهتمام من القضية الأرمنية إلى الاهتمام بالكُرد.
7- الدعوة باستقلال داخلي تحت الإدارة العثمانية لجميع امارات الأكراد التي جردت من جميع سلطاتها السياسية والإدارية منذ بداية القرن التاسع عشر
8- توحيد الكُرد وإقامة دولة كُردية.
9- تمكن قائدها ولأول مرة من جمع شمل معظم الشعب الكُردي.
10-                    اجبرت ثورة الشيخ عبيد الله الدول الكبرى (روسيا, بريطاني, تركيا, إيران) على إعادة النظر في حساباتها للتعامل مع الشعب الكردي.
 
 

المصادر:
27- جرجيس فتح الله. مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيد الله النهري. مصدر سابق. ص45/47.
28- جليلي جليل. انتفاضة الكُرد1880. مصدر سابق. ص73.
29- اسماعيل عمر الكوباني. ثورة عبيد الله النهري. منتدى الكوبان نت. 1 سبتمبر 2009.
30- حسن كاكي. مقال: ثورة الشيخ عبيد الله النهي 1880م.
31- وديع جويد. ثورة الشيخ عبيد الله النهري. في كتاب جرجيس فتح الله. مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيد الله النهري. ط2. دار ئاراس للطباعة والنشر. اربيل. 2001.ص13.
32- هوكر طاهر توفيق. الكُرد والمسألة الأرمنية. مصدر سابق. ص182.
33- تيلي أمين علي. حركة الشيخ عبيد الله النهري في الوثائق البريطانية. مصدر سابق.
34- د. عبد الفتاح علي البوتان. بدايات الشعور القومي الكُردي. دهوك 2005. ص35.




161
ثورة الزعيم الروحي للكُرد الشيخ عبيد الله النهري 1880م (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     خلال الانقلابات بين الأسر المالكة في القرن الثامن عشر لم يبدِ الأكراد ميلاً للاتحاد حتى عندما ارتقى العرش الشاه كريم خان زاند, وعندما توفي كريم خان حاول كُردي آخر هو علي خان أن يحكم مكانه, فغلب هذا الأخير على أمره بحلف شمالي اشترك فيه أمير اردلان الكُردي.
    وفي عام 1826م بدأ السلطان محمود الثاني بتوسيع الإدارة المدنية العثمانية في كردستان في محاولة لإصلاح الامبراطورية المتفسخة فقاومه الأمراء الأكراد ومرَ ربع قرن قبل أن يجردوا من امارتهم. وفي عام 1843م بأمر الأمير بدرخان سيد جزيرة ابن عمر في بوهتان محاولة للتحرر من الحكم العثماني, وخلق مع حلفائه وبينهم أكراد اردلان في وجه الباب العالي العثماني مشكلة عسكرية خطيرة يزيدها خطورة ما كان يأمل فيه بدرخان من المساعدة الفارسية. استسلم بدر خان لعثمان باشا عام 1847م وأرسل إلى المنفى. وفي عام 1849 كان السلطان قد ألغى حكومة بيتلس الكُردية التي أسسها حكيم أدريس وحكومة أسرة بابان في السليمانية وغيرها مما يرجع تاريخه إلى أول عهد العثمانيين حتى أوج امبراطوريتهم(1).
    عام 1877م بدأت الامبراطورية العثمانية بحرب كبيرة مع الامبراطورية الروسية انتهت عام 1878م, مما سببت دماراً كبيراً في شمال كُردستان, وقد تسببت بمجاعة وانتشار الطاعون الذي اهلك أعداداً كبيرة من السكان سواء الكُرد أو المسيحيين, وقد اشتعلت هزيمة الترك النيران الكامنة في نفوس الكُرد من أجل الاستقلال, لكن كانت هذه المرة موجهة ضد الفرس, على الأقل في بدايتها(2).
    بعد انتفاضة بوتان وجزيرة ابن عمر شبّت الثورة في اقليم هكاري الجبلي من كُردستان القريب من الحدود التركية الفارسية وكانت مرحلة جديدة من الكفاح ضد الاتراك والفرس المستبدين بالكُرد, ولشيوخ النقشبندية دور مركزي في التهيئة لها, وكانت التكايا مركزاً لهم وللجماعات الدينية الأخرى ويرتبط اتباعهم ومريديهم فيما بينهم برباط اشد متانة من الرابطة العائلية.
   في تشرين الأول 1880م اندلعت ثورة كُردية بقيادة الشيخ عبيد الله النهري في منطقة شمدينان التابعة لولاية هكاري جنوبي ولاية (وان) على الحدود العثمانية الإيرانية, شاركت فيها أغلب العشائر الكُردية في شمال كُردستان, ما عدا كُرد درسيم(3).
      يعد الشيخ عبيد الله النهري الشمزيناني الزعيم الروحي والقومي المنشود, فهو من مواليد عام1247هجري قمري- 1831م(4). وينتمي إلى مدينة شمدينان بمنطقة جولمرك (هكاري) في باكورة كُرديتان, عميد أسرة مشايخ شمدينان مسقط رأسه, وزعيم الطريقة النقشبندية في كُردستان بعد الشيخ خالد النقشبندي, ونجل الشيخ طه الشمزيناني الجليل القدر, وارث منزلة اسرته الدينية وسمعتها في العالم الروحي, وأن محمد شاه قاجار (حكم للفترة 1788-1797م) كان من مريدي والده الشيخ طه وكان يرسل إليه كل عام هدايا وتحف نفيسة, كما أنه اعطاه عدداً من القرى لتأمين مصاريف الخانقاه, كانت إحدى زوجات محمد شاه, وهي والدة عباس ميرزا ملك أرا, تنتمي إلى هذه العائلة, وكان عباس ميرزا نفسه مريداً للشيخ, يقع قبر الشيخ طه في طهران(5).
    عندما توفى والده الشيخ طه انتقلت رئاسة المشيخة إلى أخيه الشيخ محمد صالح, وأن هذا الأخير  وبعد 12 عاماً من الأرشاد انتقل إلى رحمة الله عام 1865م فتولى الشيخ عبيد الله رئاسة المشيخة الوحيد للطريقة النقشبندية في كُردستان وتركيا وإيران, وقد اصبح يملك نفوذاً كبيراً على اتباع المشيخة ويحوز على احترام الكُرد في كثير من المناطق إضافة إلى مريدين ومحبين من العرب والترك بل أن السلطات التركية نفسها كانت تنظر إليه بعين الوقار(6).
    يصفه الدكتور كوچران قائلاُ :(الشيخ عبيد الله النهري يبلغ خمسون عاماً من العمر, جذاب إلى حدٍ كبير في مخبره, وهو يرتدي حلة فضفاضة من جبة واسعة الأطراف والأكمام, ويعمم بعمامة بيضاء)(7).
    كان عمهُ الشيخ صالح رأس الطريقة النقشبندية. و(سميت عائلته بسادات نه هري (نهري أو نيرى أو نايرى), وأن العائلة انتقلت في زمن (الملا هجيج) إلى منطقة (هه مارو) وبقت هناك حتى زمن الملا صالح وكان للملا صالح ولدين, سيد عبد الله وسيد أحمد. وقد اصبح سيد عبد الله أحد خلفاء مولانا خالد وهو من اعاظم الصوفية. وبعد اعتناقه الطريقة النقشبندية رجع سيد عبد الله إلى قرية (نهرى) وسكنها هو وأولاده واحفاده من بعده وكانت للعائلة في المراحل الأولى نفوذ ديني ثم اصبح لها نفوذ مادي دنيوي وقد ازداد هذا النفوذ بصورة متزايدة جداً في زمن الشيخ عبيد الله)(8).
     ورث عن والده عدداً من الضياع التي جاءته منحاً من السلطان والشاه, وقد زاد فيها حتى ناهزت المائتين فعدّ واحداً من كبار الملاكين في كُردستان, كما كان يملك عدداً من القرى في سهل (مه ركه فه ر, وته ركه فه ر), لكن الشيخ عبيد الله زاد من عدد القرى فكان يحوز على ما يربو عن 200 قرية. (9), وبنظر شيوخ بارزان مناقضة للصفة الدينية الصوفية التي يدعيها الشيخ, فنددوا بها واتهموا شيوخ همدينان بالخروج عن جادة الطريقة والدين وقالوا أنهم علمانيون اكثر مما هم روحانيون(10).
    كان الشيخ عبيد الله إنساناً بسيطاً قانعاً عادلاً ومؤمناً بالله ومتديناً جداً, كان مهتماً جداً بتحسين معيشة الكُرد, كل ذلك جعل من مواطنيه تبجيله, والنظر إليه وكأن الله ارسله إليهم كمنقذ(11).
    الشيخ عبيد الله النهري شخصية نذر نفسه لشعبه معتزماً بأحكام الإسلام النقية في سائر انحاء وطنه, كان مؤمناً إيماناً راسخاً بأن فساد الحكومة العثمانية وافعال أشرار الرجال هما سبب الدمار الشامل الذي ابتليت به كردستان. كان الشيخ عبيد الله قد ورث المجد كابراً عن كابر, واذعن الناس لهذه الأسرة معتقداً فيهم الولاية والتقوى فخضعت لهم منطقة شمزينان من ولاية هكاري وتوسع نفوذهم الديني فنقاد لهم الناس في اذربيجان الصغرى الغربية ايضاً, فاستغلت حكومة السلطان عبد الحميد تقواه وتمسكه بالدين, فحاولت أن تحثه على شن حرب شعواء على الأرمن والمسيحيين القاطنين في هكاري وأرومية إلا أن الشيخ لم يعر الحكومة العثمانية إذناً صاغية(12).
     وقد تمَ اسناد منصب قيادة العشائر الكُردية إليه اثناء تلك الحرب كان لهُ ابعد أثر في مجريات الأحداث بعدها في كُردستان, وربما كانت العامل الرئيس لبروز زعامته القومية. هذا المنصب كان يعني اعترافاً رسمياً بزعامة الشيخ في كُردستان وبأثر مساوٍ لأي تقليد رسمي لمنصب أنكر على أي كُردي منذُ العام 1847م(13).
     حتى بات أكبر الرجال نفوذاً في شرق كُردستان, وعند أكراد الحدود كان شخصه وسلطته أقدس واعظم مهابة من السلطان نفسه. ويرى الدكتور بلوم كوچران (الطبيب بفارس, وكان المعالج للشيخ عبيد الله النهري) في تقريره وهو:" الذي عرف الشيخ خير معرفة وكان على صلة وعلاقة متينة به, إنه كان يُعد نفسه ثالث اعظم الشخصيات العظمى في مقام التسلسل الديني للإسلام فضلاً عن كونه ملك الكُرد الدنيوي(14).
    تمتع الشيخ عبيد الله النهري بنفوذٍ عظيم. وهو القطب النقشبندي الكُردي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (برزت زعامة الشيخ عبيد الله مطلع السبعينات من القرن التاسع عشر), ويعد في الوقت عينه من كبار رجال الأقطاع المهتمين بالتجارة, وتأمين التعامل التجاري وبوضع حدٍ لأعمال الشقاوة والفوضى وقطع الطرق. وكان لمركزه الديني أثره في النهج السياسي الذي انتهجه فيما بعد, مستفيداً من استياء المجتمع الكُردي وسخطه على الموظفين العثمانيين والحكومة. وبدت تكيتهُ مركزاً ومقراً للدعاة والمريدين ومقصداً لنوابه وخلفائه الذين كانوا يترأسون التكايا في مختلف المناطق(15).         
     قبل اندلاع الحرب الروسية العثمانية تورد بعض المصادر أن نزاعاً حصل بين الشيخ عبيد الله وبين السلطات الإيرانية عندما رفض اتباع الشيخ في الشطر الشرقي من كردستان دفع الضرائب إلى الحكومة القاچارية باعتبار أن الأراضي التي يستغلونها تعود إلى الشيخ وليس إلى الحكومة القاچارية(16).
    كان الشيخ عبيد الله يرد أن تستقر الأوضاع في ظل حكومة عادلة حتى تتطور المنطقة وتزدهر التجارة بالقضاء على المهربين وقطاع الطرق وهو أمر لم يكن باستطاعة الدولتين العثمانية والإيرانية إتمامه. وتبين الوثائق البريطانية أن الشيخ عبيد الله أقدم على شراء الأراضي الزراعية في (گه فه ر وباشقلا ومرگه فه ر وترگه فه ر) بغية تحسين معيشة المواطنين وتشغيل اكبر عدد منهم في الزراعة وقد اقترح على الدولة الإيرانية تأجير سهول (مرگه فه ر وبرادوست) ومقابل مبلغ سنوي ولنفس الغرض وبغية القضاء على السرقات والاعمال اللصوصية. وقد اوفد نجله عبد القادر إلى إيران, لكن السلطات الإيرانية التي كانت تحصل على المنافع وتشارك اللصوص امتنعت عن تأجير الأراضي إليه فكان أن هدد باجتياح المنطقة للقضاء على اللصوص. كان الشيخ وهو يرأس الطريقة الصوفية يؤمن بالعدالة والمساواة ويؤمن بوجوب محاربة الظلم والحكام الفاسدين, إذ أن الطريقة ترتكز على مبدأ رفض الظلم والمساواة بين الناس, كل الناس, مهما كانت اديانهم أو اعراقهم أو مذاهبهم لأنهم خلق الله وبشر متساوون في الحقوق والواجبات, وأن كل الشرائع هي للتعرف على الله. تشير المصادر أن اغلب محصول التبغ في هكاري كان يعود للشيخ عبيد الله وكان يصدّر الكثير منها إلى اوروبا, أنه كان ينافس إنتاج التبغ الشركة الفرنسية (ريژي)(17).
    لم يكن الشيخ رجل دين وحسب إنما كان زعيماً حقيقياً لشعب كُردستان, و(لم يكن يتمتع بنفوذ ديني لكونه رئيس الطريقة النقشبندية وحسب, بل كان واحداً من اثرياء الملاكين في كردستان, فقد كان يمتلك 200 قرية في تركيا وإيران على السواء, وكان في ذلك الوقت قائداً دون منازع للكُرد في تركيا وإيران ايضاً(18). لذلك اتهم الشيخ (محمد بچكولة) علناً عائلة شمزينان بانها قد انحرفت عن طريقة الدين الصحيحة لأنها اصبحت صاحبة سلطة دنيوية اكثر من كونها صاحبة ارشاد ديني(19).
    كان أحد اسباب شرارة ثورة الشيخ عبيد الله النهري سنة 1297هـ/ 1880م إثر قيام قائمقام (كه ودر) بإنزال العقاب بزمرة من عشيرة الهركي, نهبت إحدى القرى. ما أن بلغ الشيخ ذلك حتى بعث برسائل إلى زعماء الكُرد يحثهم فيها على الثورة قائلاً (لم يعد هناك بعد أي حكومة تركية وهو عازم في غضون ثمانية ايام على التقدم نحو العمادية), وممن بلغته الدعوة شيخ محمد (البريدجان) الذي لم يضع وقتاً في نقل نوايا الشيخ إلى والي الموصل. وبعد خمسة ايام خرج فوج من الموصل, وعسكر في موضع مجاور لمدينة العمادية, وحشد الشيخ قوة من تسعمائة مسلح, اناط قيادتها بابنه (عبد القادر) لتشن هجوماً على القوات العثمانية, فصد هجومها وانكفأت على عقبيها(20).
    كان موقف الحكومة من الشيخ عبيد الله محيراً, فمع أن الأوامر الصادرة من استنبول كانت حازمة في التشديد على وجوب التصدي للثوار بقوة, ومع علم والي (وان) ووالي (الموصل) وغيرهما من موظفي الدولة الكبار بما يبطن الشيخ, وعدم ثقتهم به, حتى الصدر الاعظم نفسه فقد بعث له ببرقية يحثه فيها على توثيق علاقاته بالسلطات المحلية, وحمل البرقية إليه مفتي (وان) نيابة عن الحكومة المحلية(21).
    تفيد التقارير في حينه أن جيشه كان يتألف من ثلاثة ارتال : احدهما بقيادة ابنه الفتى ( عبد القادر) وكانت حركته على جبهة واسعة من سواحل بحيرة اورمية الجنوبية نحو صاوبلاغ وقدر نائب القنصل (كلابتين) عدد افراد هذا الرتل بعشرين الفاً مع تحذيره من الاعتماد على هذا التقدير. أما (نيكيتين) الذي ينقل عن كتاب فارسي لمؤلف مجهول, فيرفع رقم قوة (صاوبلاغ) هذه إلى ما يتراوح بين أربعين الفاً وخمسين. والقنصل العام (آبوت) الذي قدرها بالأصل ما بين عشرة آلاف وثلاثين ألفاً. قال انها تضاءلت اثناء الحملة ولم يبق منها غير الفا وخمسمائة بسبب عودة المقاتلين إلى اهاليهم أثناء الحملة(22).
    كما التحق بجيشه عدد كبير من الآشوريين, وأنه (حضي ايضاً بشعبية كبيرة بين شعوب المنطقة ومختلف فات السكان)(23).
    تم الاستيلاء على (صاوبلاغ) من قبل مقاتلي الشيخ عبيد الله من غير قتال بعد أن اعطي حاكمها وحاميتها الأمان, فتركوا المدينة بسلام, كانت مدينة (مياندواب) الهدف الثاني, (ووضع السيف في رقاب الآلاف الثلاثة الباقين المتخلفين من رجال ونساء واطفال عندما وقعت المدينة بيد رتل عبد القادر, واطلقت يد الفاتحين ليلعبوا سلباً ونهباً في سائر المناطق المجاورة امتداداً حتى (بنياد) و(ميركة). تدمير (مياندواب) كان نصراً أجوف, ثم استدار عبد القادر إلى (ميركة) وبعد استيلائه عليها, واصل التقدم, ووردت انباء تشير إلى أنه قد اقترب من (تبريز) وهنا كانت نهاية ما بلغته قواته. وفي الوقت الذي اشارت الانباء إلى أن قوات الشيخ (صديق) تهدد مدينة (أرومية) بألف من المقاتلين.
    عززت قواته بانضمام والده إليه بقوات أخرى, وبهذه القوة البالغة ثمانية آلاف شرع الشيخ في إلقاء الحصار على المدينة. طلبت السلطة الفارسية المحلية تمديد الأجل في المفاوضات وقد توسط الدكتور كوچران في الأمر.. واستفادت السلطات الفارسية من التأجيل لتقوية تحكيمات المدينة ودفاعاتها ولسبق علمها بأن رتلاً من القوات الفارسية هو في طريقه لنجدتها, قرر حاكمها (إقبال الدولة) المقاومة. أخيراً عندما اشتبك الفريقان رُدّ الكُرد على اعقابهم بعد أن تكبدوا خسائر جسيمة. هذه النكسة كما يبدو حطمت معنويات قوات الشيخ عبيد الله, إذ سرعان ما دبت فيها الفوضى وبدأت بالتقهقر اشتاتاً متفرقة ووجهتها الجبال.
    بعد فشل ثورة الشيخ عبيد الله النهري حط رحاله بالأخير في استنبول العاصمة وبلغها في شهر تموز 1881م. كان ذلك نتيجة الضغوط الكبيرة التي مارستها الدول الكبرى على الباب العالي. ومن ثم تسلل من العاصمة هارباً بعد قضائه بضعة اشهر وعاد إلى موطنه الجبلي في (نهري). وسايرت الحكومة العثمانية الرأي العام الأوروبي بإرسال قوات عسكرية دعته إلى الاستسلام. فلم يسعه إلا ذلك بعد أن سدت السبل أمامه وانفض عنه اتباعه, فنفي إلى الحجاز وادركته الوفاة بمكة في العام 1883م(24).
     وهناك رأي آخر أن القيصر الروسي لبى دعوة الشاه فحشد الجيش الروسي على الحدود ثم وقع عبيد الله النهري في قبضة القوات التركية وتم ارساله إلى استنبول وعاش بصفة اسير فخري ثم سجن سنة واستطاع الهروب من السجن ثم قبض عليه ونفى مع 100 عائلة إلى المدينة المنورة وتوفى هناك سنة 1888م. أما ابنه عبد القادر وعائلته فقد عاد من المنفى واشترط عليه العثمانيون إلاّ يخرج من استنبول وبقي إلى سنة 1925م ثم ألقت السلطات التركية القبض عليه, حيث أتهمته بترأس جمعية (تعالى كردستان) وحكم عليه بالإعدام, وهكذا فشلت ثورة عبيد الله النهري, ومن اسباب فشل الثورات الكُردية أنها كانت قد حدثت قبل أوانها فالشعب الكُردي لم يكن متهيئاً لهذه الثورات اقتصادياً وسياسياً وثقافياً(25).
    يقول القادة الإيرانيون الذين شاركوا الحرب ضد الشيخ عبيد الله (لهذا الشيخ مريدون ينفذون أوامره دون نقاش, وهم ينتشرون من بايزيد إلى الموصل والسليمانية وكركوك وديار بكر)(26).

المصادر:
1- لوقا زودو. المسألة الكردية والقوميات العنصرية في العراق. دار نشر موسى طانيوس المجبر. شارع البطريرك الحريك. بيروت. ط1. 1969. ص76/77.
2- ارشاك سافراستيان. الكُرد وكُردستان. ترجمة أحمد محمود خليل. دمشق. ط1. 2008. ص87.
3- هوكر طاهر توفيق. الكُرد والمسألة الأرمنية 1877-1920. دار الفارابي. آراس للطباعة والنشر. اربيل. ط1. 2014. ص173.
4- بابا مردوخ روحاني (شيوا). تاريخ مشاهير الكُرد باللغة الفارسية. المجلد2. ط2. منشورات سرش. طهران 1382 هـ شمسي. ص546.
5- المصدر السابق. ص545.
6- تيلي أمين علي. حركة الشيخ عبيد الله النهري في الوثائق البريطانية. الحوار المتمدن. محور دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات. الحلقة الأولى. العدد 3097. 17/8/ 2010.
7- د. وديع جودة. ثورة الشيخ عبيد الله النهري. فصل مستل من كتاب الحركة القومية الكُردية. اصولها وتطورها. ترجمة جرجيس فتح الله. نشره في كتابه. مبحثان على ثورة الشيخ عبيد الله النهري. ص20.
8- محمد أمين زكي. خلاصة تاريخ الكُرد وكُردستان. جزأين. منشورات (سه رده م) السليمانية. 2002. ص167. باللغة الكردية.
9- جليلي جليل. انتفاضة الأكراد1880. ترجمة سيامند سيرتي. رابطة كاوا لمثقفين اليساريين الاكراد. بيروت 1979. ص81
10-                    باسيلي نيكيتين. الكُرد. دراسة سوسيلوجية وتاريخية. تقديم لويس ماسينيون. تقديم: نوري طالباني. دار سبيريز للطباعة والنشر. دهوك. 2008. ص149
11-                    كريس كوجيرا. الكُرد في القرن التاسع عشر والقرن العشرون. ترجمة حمه كريم عارف إلى اللغة الكردية. ط4. اربيل 2007. ص18.
12-                    محمد جميل الرزبياني. مقال(ثورة الشيخ عبيد الله. مجلة المجمع العلمي العراقي. الهيئة الكُردية. المجلد 13. بغداد 1985. مطبعة المجمع. ص324.
13-                    جرجيس فتح الله. مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيد الله النهري. دراسات عن الثورة لثلاثة باحثين. دار آراس للطباعة والنشر. اربيل. ط3. 2010. ص19.
14-                    المصدر السابق. ص20
15-                    المصدر السابق. ص67.
16-                    تيلي أمين علي. حركة الشيخ عبيد الله النهري في الوثائق البريطانية. مصدر سابق.
17-                    جليلي جليل. انتفاضة الكُرد1880. مصدر سابق. ص81.
18-                    م . س لازاريف وآخرون. تاريخ كردستان. ترجمة د. عبدي حاجي. منشورات دار سبيريز للطباعة والنشر في دهوك. مطبعة حجي هاشم. اربيل 2006. ص147.
19-                    جليلي جليل. انتفاضة الكُرد1880. مصدر سابق. ص80.
20-                    جرجيس فتح الله. مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيد الله النهري. مصدر سابق. ص38.
21-                    المصدر السابق. ص39.
22-                    المصدر السابق. ص44.
23-                    لازاريف وآخرون. تاريخ كردستان. مصدر سابق. ص148.
24-                    هوكر طاهر توفيق. الكُرد والمسألة الأرمنية. مصدر سابق. ص179.
25-                    اسماعيل عمر كوباني. ثورة عبيد الله النهري. 1 سبتمبر 2009. منتدى الكوبان نت.
26-                    تيلي أمين علي. حركة الشيخ عبيد الله النهري في الوثائق البريطانية. مصدر سابق.


162
ناجح المعموري... غواية الأسطورة وسحر الكلام
نبيل عبد الأمير الربيعي

       ناجح المعموري الإنسان المثابر في سياقات عملهُ الإبداعي, فهو أديب ومفكر دؤوب إلى أبعد الحدود, ومن الصعوبة أن يستكين, يبقى على جذوة الإبداع المتوقدة في داخله, ويمتلك المقدرة على استعادة شعلة انفعالاته على تكريس منجزه الإبداعي, وفرت لهُ إمكانية التواجد والمشاركة في غالبية المحافل الأدبية والثقافية المنسجمة مع قناعاته داخل وخارج القطر.
      صدر مؤخراً 2018، عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق، للكاتب والباحث أحمد الناجي, والكتاب بعنوان (ناجح المعموري... غواية الأسطورة وسحر الكلام) وهو دراسة توثيقية لحياة الأديب والمفكر ناجح حسين المعموري, وزعت الدراسة على ثمان فصول كبيرة, وقد جاء بـ(290) صفحة من القطع الوزيري.
      الكتاب يسرد سيرة أحد أدباء ومفكري العراق المهمين، وهو ناجح المعموري المعموري موسوعة ثقافية ناطقة تمشي بهيئة إنسان على الأرض بين الموروث الشعبي والأدب النقدي والبحوث الميثولوجية كما يصفها الباحث أحمد الناجي. وعلى وجه الإجمال يتميز الكتاب بالمتعة، ما أن يبدأ المرء بقراءته حتى يجد نفسه منشداً للاستمرار, ويعبّر الكاتب بصراحة كاملة عما كان يميز شخصية المعموري من حالة التمرد والسلوك الاقتحامي في المجال السياسي في مقتبل العمر.
     وقد سلط المؤلف أحمد الناجي الضوء على البيئة التي نشأ وسطها ناجح المعموري, الذي منحته خصائصها الثقافية بكل محمولاتها من القيم والعادات والتقاليد والأعراف والهوية الجمعية, ففي ص29 من الكتاب يسلط الناجي على تاريخ المعموري السياسي قائلاً «أن ناجح اختلف مع والده بسبب السياسة, هي منبع الخلاف والاختلاف بينهما, حيث هاجت في اعماق الأب رياح الغضب بسبب (ضلالة) الأبن, حينما اشتط عن رغبة أبيه ولم يحترمها, وصار شيوعياً... وكان ذلك بمقتبل العمر زمن ثورة تموز 1958 التي لامست أحلام الفقراء, منتظماً في صفوف الحزب الشيوعي أواخر سنة 1959م», ثم يعقب الباحث الناجي على دور الأم وما يردده المعموري بما يخص والدته من كلمات في ص33 «اقولها لتاريخ أمي, هي التي أشرفت على تربيتنا مباشرة في غياب والدي الطويل, ومتابعة سلوكنا في القرية من بعيد, تعلمنا منها الكثير, لها علينا فضل ومكارم... توفت بدون متاعب, وما زالت حاضرة فالأم تغيب, لكن حضورها باقٍ».
     في مقتبل العمر استنشق ناجح المعموري انفاس التاريخ القديم من مكان مدرسته الابتدائية القريبة من خرائب بابل, وفي ص38 يذكر المعموري للباحث الناجي قائلاً «هي نفسها البناية المعروفة بين الناس باسم (القصر الألماني) التي انشأتها وشغلتها البعثة الألمانية للتنقيبات في بابل التي اشرف عليها (روبرت كولد فاي) منذُ سنة 1899م حتى اندلاع الحرب العالمية لأولى», كما كان لمعلمه الأول ولمدرسته الدور في وضع المعموري على الطريق الصحيح في مجال الاهتمام بالتشكيل فيقول أن معلمي في الابتدائية مظهر عزاوي السلامي كان «نقطة مضيئة في حياتي لن أنساه أبداً... هو سبب علاقتي مع التشكيل.. ودروسه الثقافية لا تنسى», فصارت المدرسة سبباً رئيساً في تحقيق مشاهداته المتكررة لمعالم بابل الأثرية مما أثرَت على ناجح على شكل تصورات في المخيلة, والانشغال بأسرار الأساطير والحكايات الشعبية التي انتجتها الجماعات المخيلية, مما تناول في هذه المدرسة أول دروس الميثولوجيا, فضلاً عن تأثره بحكايات جدته من الموروث الشعبي.
     وفي ص49 من الكتاب يذكر الباحث أحمد الناجي من خلال مطالعات المعموري للكثيرة من الكتب «أن ناجح صادق بعضاً من الشخصيات التي صادفها بالكتب.. انقاد قلبه التواق نحو دنيا الكلمة.. وأخذ يحث الخطى في سيره نحو عالم ساحر وشيق.. ولكل امرئ من اسمهُ نصيب». فكان لأبن عمته الأستاذ ناظم البكري الدور الكبير في أن يفتح عيني المعموري على القراءة لما وجد من الكتب الموفورة لديه, يذكر الناجي في ص58 قائلاً «كان المعلم والموجه العقلي الذي حادَ به نحو الاهتمام بالثقافة والأدب والفن والفوتغرافيا, ولم يبخل في توجيهه», فكان أول كتاب قرأه المعموري رواية أحسان عبد القدوس «أنا حرة» وهو في الصف السادس الابتدائي, أما الكتاب الثاني الأكبر حجماً فيذكر الناجي في ص19 على لسان المعموري «وأنا أردت ذلك لأنه ينطوي على شيء من المباهاة بالذات, وجدته للمفكر الشيوعي ديمتروف عن الجبهة الوطنية, قرأته من اجل الاطلاع ولم استوعبه جيداً, وكان معقداً».
     واستمرت اطلاعات المعموري على الروايات والكتب, ينهل منها من مكتبة ابن عمته ناظم البكري, فكانت تلك المكتبة روافده التثقيفية وصارت محتوياتها في تناول يده, فضلاً عن دور البكري في علاقته مع المعموري وتأثيره على عشقه للتشكيل, وهو الذي توقع لناجح مستقبلاً مهماً, وهي قراءة نوعية من الاستشراق وقراءة المستقبل, لكن من خلال متابعة سيرة الباحث الأثرولوجي ناجح المعموري نسهب فيما رصدناه ممتعاً ومهماً من سيرة حياة بابلي مهم في المجتمع العراقي.
    وعند قيام ثورة 14 تموز 1958م, قد دفعت ناجح إلى تأييد ثورة الفقراء والكادحين بحماسة شديدة, ومناصرة النظام الجمهوري الذي قام فوق انقاض الملكية, ففي ص74 يذكر الناجي أن المعموري «فقد اتجه في تلك الأثناء إلى العمل السياسي بمحض إرادته, مشدوداً إلى حلمه ومناره اليوتوبي.. منتمياً إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي», كما ذكرنا سابقً, مما أدى إلى اتساع الدروب المضنية لمضاعفة الجهود والشعور بالمسؤولية من خلال العمل في اتحاد الطلبة العام في اعدادية الحلة, لكن انقلاب 8 شباط 1963 وضع ناجح المعموري في اثقل الأيام أمامه, تأخذه المخاوف مما هو آتٍ, يذكر الناجي في كتابه ص76 «وفجأة جاء الخبر من المدرسة وانتشر في القرية, فقد صدر الأمر باعتقال ناجح وصديقه محممد عنبر, تغير الحال وتبدلت الأحوال, بات مطلوباً يخشى مفارز الحرس القومي», لكن بتدخل الأب تنتهي المشكلة, إلا أن عقوبة الأب كانت كبيرة تجاه ولده, مما أثار حنق الوالد لولده بعقاب شديد يتوعده وهو استخدام وسيلة المسدس للأمساك بولده العقوق, ولكن الأيام خففت من الحدث, معلقاً الكاتب الناجي في ص80 «فاح شذى الأبوة, فتنحت المواجهة, وخفقت مناسيب الأحداث, وهو أن عواصف الغضب, وترت نيران الزعل والمعاندة» حيث انكشفت ادخنة انقلاب 1963م عن سماء البلاد, إلا أن تمرد الأبن على الأب كانت سبب في تفتح شخصيته من بذرات محفزة للطاقات الابداعية والقدرات الابتكارية فيما بعد.
     يبقى قلب الأب الكبير خائفاً على ولده من عوائد الزمن في محنته إذ يذكر الباحث الناجي في ص81 بعد انفراط عقد الجبهة عام 1978م «عندما ابتدأت الهجمة الشرسة في نهاية السبعينات على الشيوعيين واستمع من المقهى (الأب) التي يرتادها بأن الشيوعيين يهربون للخارج, سألني: هل تستطيع أن تكون بعثياً, اجبته : كلا, قال لِمَ لا تهرب؟... وشرعت بالتهيوء لذلك ولم استطع لأسباب لا أود التطرق لها الآن».
     يسيح بنا الباحث أحمد الناجي في كتابه حول عذابات المعموري بعد اكمال دراسته الثانوية وقبوله في معهد اعداد المدرسين فرع اللغة الانكليزية في بغداد عام 1963/1964 ليتخرج مدرساً للغة الانكليزية, ففي ص84 يذكر «أن متطلبات السفر والدراسة كانت تكلف العائلة فاتخذ قراراً المعموري بالتقديم للدورة التربوية بالحلة, وكان امدها سنة دراسية واحدة, وبعد تخرجه عُين في لواء الكوت في مقاطعة (البسروكية) معلماً بتاريخ 24 كانون الأول 1964م», عاش ناجح أيام قرية البسروكية سنتين دراسيتين منغمساً بحلوها ومرها ومشاركاً ابناء القرية مناسباتهم الاجتماعية وأفراحهم واحزانهم.
   في الفصل الثاني من الكتاب يأخذنا الباحث أحمد الناجي ليطلعنا على اسباب اهتمامات ناجح المعموري بالموروث الشعبي, وهو اندماج المعموري بالسكان المحليين لقرية البسروكية, ففي ص 90 يذكر قائلاً «فتسير علاقته بالمحبة.. فأخذ يستجمع بوعيه حشداً هائلاً من المعطيات الاجتماعية.. وجدَ بأن عناصر الثقافة الاجتماعية تتشابه إلى حد كبير في الريف عامة, وهي الاكثر دنواً نحو جذوره, فكانت تمس ما هو ساكن في روحه, لأنها الأقرب إلى المفردات التي صاغت ثقافته الأولى في قريته عنانة», ومن تراثهم وعقائدهم وحكاويهم وفضائلهم ومأثوراتهم الشعبية وطقوسهم وموروثاتهم الثقافية كالأمثال الشعبية والأبوذيات والدارميات وأغاني الأطفال والعابهم في الريف, تولدت في المعموري الرغبة في التدوين, وخاصة عثوره على رجل اربعيني يدعى «كمبر» فهو فهيم بكل ما يتصل بشؤون العشائر, وخلال الخمسينات كان نديماً لأمير ربيعة, ولأنه يمتلك حافظة وكماً هائلاً من الموروثات الشعبية, ومقدرة بارعة في فهم معاني كلمات الأبوذية واستيعاب دلالات أحداثها واجادة غنائها, مما هيأت لناجح فرصة مناسبة للاشتغال على الموروثات الشعبية.
     وقد نشر المعموري عدة دراسات حول الموروث الشعبي في مجلة التراث الشعبي, كما مكنته من كتابة نصوصه القصصية, وأن يكتب مخطوطة في «الأمثال الشعبية» مطلع سبعينات القرن الماضي, ومخطوطة ثانية بعنوان «الحيوان في الفلكلور العراقي» والثالثة بعنوان «الألعاب الشعبية في الحلة».
    أما الفصل الثالث من الكتاب فقد تضمن الأشتغالات الأدبية وما كتبه ناجح المعموري في مجال الشعر الشعبي, وكان يراسل المعموري «كل شيء» وهي جريدة غير سياسية اسبوعية, صدرت في بغداد منتصف الستينات, ويذكر الناجي في ص97 قائلاً «ثم تناول ناجح الفن القصصي منها  قصة بعنوان «سكران» نشرت له أواخر سنة 1964م في ملحق الجمهورية الاسبوعي», وهو توثيق لأول باكورة اجازاته القصصية المنشورة, ثم طبعت مجموعته القصصية الأولى «اغنية في قاع ضيق» عام 1969م واحتوت على ثمان قصص قصيرة, وهي محاولة أولى وضعته على الطريق الأدبي الواقعي بسبب التزامه اليساري التقدمي, ويمكن القول أن السرد بالنسبة إلى ناجح لعبة ليمتلك ادواتها الفنية.
    يذكر الباحث أحمد الناجي في ص102 من الكتاب «لأن ناجح المعموري كان واحداً من الأدباء الذين استجاب لنداء ادباء الموصل», وهم جماعة ادبية أسست في الموصل سنة 1969م اطلقت على نفسها «جماعة اصدقاء القصة في الموصل 1969) وتعرف اختصاراً «جماعة قصص 69», وضمت عددداً من الأدباء من ابرزهم : يوسف الصائغ وحسب الله يحيى وعبد الستار الناصر وغيرهم, وقد وجد لناجح نتاجاً قصصياً منشوراً في اصدارات تلك الجماعة.
     كما يذكر الباحث الناجي في ص106 من كتابه أن الأديب ناجح المعموري قد رشح لانتخابات نقابة المعلمين سنة 1969م ضمن قائمة المهنية التقدمية «فكان قريباً من الشيوعيين وانشطتهم», وذلك الترشيح له قصة ذكرها الناجي في كتابه, إلا أن المعموري ظل يحمل الفكر الماركسي بين جوانحه رغم انقطاعه عن التنظيم, وذلك ما جعله يعاود مطلع السبعينات اتصاله بالتنظيم وتحديداً خلال سنة 1972م, ومكنته مؤهلاته على الانخراط بالعمل في المكتب الصحفي على نطاق محلية بابل ومنطقة الفرات الأوسط. كما ساهم ناجح المعموري بالعمل على مراجعة القصص القصيرة المرسلة لجريدة طريق الشعب/ الثقافي, كما كان يكتب في الجريدة باسمين مستعارين هما «برهان الطويل» و«أمير عبد الرضا». كما ساهم بكتابة العمود الصحفي بعد عام 2003 في جريدة الجنائن الحلية بعنوان («اجراس الجنائن).
    في منتصف السبعينات اقتحم ناج المعموري الكتابة في مجال الرواية, وكانت روايته الأولى «النهر» سنة 1978م عن وزارة الثقافة العراقية, يذكر الناجي في ص116 حول الرواية «فاض النهر لما امتزج صوت ناجح بصوت الناس, كبر فضاء السرد, وأنفصمت الأيام عن صدور روايته الأولى «النهر».. مثلّت باكورة ناجح الروائية, تجربة جمع فيها تأهلاته وتصوراته وافكاره وقدراته». وكانت روايته الثانية «شرق السدة.. شرق البصرة» من منشورات وزارة الثقافة العراقية سنة 1984م, أما روايته الثالثة فهي بعنوان («مدينة البحر) وصدرت عن وزارة الثقافة العراقية سنة 1989م وفازت هذه الرواية بالجائزة التقديرية لمسابقة الفاو الكبرى عام 1988م. ومن الروايات المخطوطة رواية «العشب» سنة 1982م, ورواية «صباح الخير ايها الصباح» سنة 1985م, وأعد المعموري مجموعة قصصية تحت عنوان «لعبة القرون» انجزه سنة 1997.
   أما الفصل الرابع من الكتاب يتضمن الارهاصات الأولى لتوظيف الأسطورة للمعموري, وصار ناجح يهتم بالموروثات الشعبية ودخلت صلب كتاباته لفترة ممتدة منذُ اواخر الستينات حتى الآن, وهي التي اسهمت في التعميق اهتمامه بالاسطورة في السنوات اللاحقة, يؤكد الباحث أحمد الناجي في ص133 أن «توهجات منحى توظيف الموروثات في منجزه السردي بوقت مبكر, مبتدأ بقراءة الموروثات الشعبية, ومن ثم تطور اهتمامه بجذورها إلى أن وصل إلى ما هو اعمق منها, ألا وهو الاسطورة, حيث وظفها بشكل وآخر في النصوص القصصية والروائية», فلا بد على الباحث في هذا المجال من امتلاك ادوات تمكنه من تحقيق غايته مما دفع ناجح إلى العناية بالأسطورة والاستعانة بها مروراً باجواء منابعه الريفية والبحث عن الموروثات التراثية, وامتلاكه للمؤهلات الثقافية, قاطعاً اشواطاً طويلة خلال استبنائها على امتداد كل هذه السنوات, واستثماره الفكر الاسطوري في تناول مجريات الواقع المعاصر بمهارة فنية حول المحور الاسطوري, ومطمحهُ من ذلك كله ينصب على معالجة قضاياه الحاضرة برؤية جديدة, فضلاً عن انه كان مهووساً بأسطورة «أتانا» وهو إله مبتكر وغير موجود, وقد استثمر المعموري في قصته «لعنة الإله أتانا» المنشورة عام 1989م, اسم في العنوان هو اول عتبات النص تتوضح القصدية للقارئ, وكشف المحنة التي تمر بها قرية عنانا القريبة من آثار وشواهد بابل, وهي بالتالي أتانا محرفة.
    كما قام ناجح في قصته الموسومة «ابنة المحار وزبد البحار» المنشورة عام 1992م بتوظيف الفكر الاسطوري بتخليق جديد للاسطورة والذي يتناول ثيمة التفرد بالسلطة, وتبيان ألاعيب الحاكم الدكتاتوري في حكمه الفردي, ويذكر الناجي في كتابه ص144 حول قصة «لعبة القرون» المنشورة في مجلة اسفار العدد 19/20 بتاريخ 1995 قائلاً «وفرت فسحة لترصد انجذابه نحو استثمار المتون الاسطورية.. فيسعى إلى استثمار بعض الرموز الاسطورية في متنها الحكائي», القصة دونت فيها سيرة وافعال الآلهة وتأثيراتها على نمط الحياة.
    أما الفصل الخامس فهو يدور حول التكوين الميثولوجي وغوايته واهتمامه بملحمة كلكامش وقد قدم ناجح المعموري محاضرته عن الملحمة في كاليري الفينيق في عمان عام 1999م, وكانت الصحافة الاردنية تنشر تغطية عن المحاضرة بنحو من الافاضة, وتلك المحاضرة فتحت لناجح فرصة جديدة للعمل في عمان.
   أما الفصل «السادس والسابع والثامن» تتضمن مجال الاشتغال النقدي والميثولوجي والفكري, فقد توضحت معارف المعموري المتزايدة مع تتالي السنوات وتوسعت على نحو موازٍ لمساحة التراكمات المعرفية المتنوعة, فضلاً عن خلفيته الثقافية وروافده الفكرية وضمن خاصياته البحثية وسط عوالم الاسطورة التي يصعب الامساك بخيوطها إلا أن منجزات المعموري البحثية تأتي في طليعة الدراسات العربية الحديثة التي عنيت بناحية التشابك القائم بين ميثولوجيات الشرق.
     



163
الديمقراطية في العراق تحت قانون انتخابي مجحف
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     منذُ أن أقدم مجلس الحكم الانتقالي بعد سقوط النظام السابق عام 2003م, لمناقشة كيفية إجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وعادلة في العراق ولغاية هذه اللحظة, لم نجد أن القانون الذي وضعته اللجنة المكلفة من قبل الأمم المتحدة لوضع الخطوط العامة, وصادقت عليه أغلب الكتل الكبيرة لم يلبي الطموح للفرد العراقي.
    القانون الحالي للإنتخابات وطريقة اجرائها في العراق لا يعد عادلاً, من خلال متابعة نتائج الانتخابات لزهاء (13) عاماً, إنما يتبع هذا القانون آلية ديمقراطية فقط تعتمد على أكثرية الأصوات دون الأخذ بنظر الأعتبار جوانب العدالة والديمقراطية. لمطالبة قادة القوائم والكتل الكبيرة المتنفذة التي أيدت وطالبت بالإبقاء عليه.
     قانون الانتخابات الحالي يعتبر المحافظة دائرة انتخابية واحدة, ومن خلال هذا القانون يتم صعود اشخاص ليست لهم أية دراية سياسية أو مكانة اجتماعية, وقد حصلوا على أصوات ضئيلة لكنهم فازوا بفضل المتنفذين في القائمة من الذين حصلوا على اصوات كبيرة ساهمت بصعود من لم يحصل على اصوات قد لم تتجاوز 150 صوت.
    المواطن العراقي يتطلع لقانون انتخابي عادل يقسم المحافظة لعدة دوائر حسب أعدد من يحق لهم التصويت في الانتخابات, ومن خلاله ينتخب عضو البرلمان الذي يمثل منطقته ومن ثم محاسبته على الاهمال والتقصير في واجباته تجاه برنامجه الانتخابي الذي اعلنه لخوض الانتخابات, وهذا ما لمسناه في اغلبية الدول الديمقراطية, ولو كان القانون الانتخابي الحالي يقسم المحافظة إلى عدة دوائر انتخابية صغيرة مما يقلل الاحتقان والنفوذ العشائري والطائفي, ويجعل احقية التنافس أقرب للعدالة.
      لكن قانون الانتخابات الحالي لاعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة ولعموم المحافظة جعل من المتعذر فوز شخص بمفرده مهما كانت مكانته الاجتماعية والسياسة, حتى وأن حظي بتأييد كبير من قبل المؤيدين لبرنامجه الانتخابي, ومثال ذلك ما حصل للناشط المدني جاسم الحلفي في انتخابات عام 2014م, إذ حصل على 17000 صوت ولم يفوز, بينما مرشح آخر  ضمن قائمة كبيرة حصل على 150 صوت وبفضل قائمته وصل إلى البرلمان.
    لذلك ندعو من خلال هذا الاجحاف بحق الناخب إلى الدعوة لقانون انتخابي يقسم المحافظة إلى عدة دوائر انتخابية وليست دائرة انتخابية واحدة, ليتمكن الناخب من تحديد المرشح الذي يجد في برنامجه الانتخابي ما يلبي طموح أبناء محافظته لتقديم الخدمات, وتمكنه من محاسبة المرشح في حال تقصيره أو اهماله لواجباته عند عدم تطبيق البرنامج من خلال متابعة الناخبين لممثليهم بمكاتبهم المتواجدة في مناطقهم, لأن الناخب يعتبر صاحب الفضل على المرشح الفائز لأنه هو الذي أوصله إلى قبة البرلمان.
   بينما النظام الانتخابي لدائرة واحدة لعموم المحافظة نجد من خلاله أن النائب الفائز لا يجد من يحاسبه لتقصيره ولا يشعر بأية مسؤولية تجاه عدم تطبيق برنامجه الانتخابي, فضلاً عن عدم تمتعه باستقلالية اتخاذ القرار حول المشاريع المرشحة للتصويت عليها تحت قبة البرلمان بسبب سيطرة رؤساء الكتل على قراراتهم واختياراتهم وهم من يتحكمون بمصيرهم, وهذا لا يمثل تبني العدالة والديمقراطية وفق هذا القانون.

164

المفكر الماركسي كريم مروة في محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
استضافت محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي يوم السبت 30/6/2018 المفكر الماركسي اللبناني (كريم مروة) للحديث عن (المنطقة العربية بين الواقع والتحديات) أدار الجلسة الكاتب نبيل الربيعي.
كريم مروة من مواليد جبل عامل في لبنان عام (1930م) ويعد من ابرز مفكري الحزب الشيوعي اللبناني. له تأريخ نضالي في بغداد اثناء دراسته، حيث ساهم في وثبة كانون 1948 ضد معاهدة بورتسموث, وانتسب الى الحزب الشيوعي العراقي في العام نفسه, ويتذكر مروة نضاله في الحزب الشيوعي العراقي قائلاً: (شكلت في الاعدادية المركزية في بغداد اول خلية تنظيمية, وكنا ندير اجتماعاتنا في دار السياسي كامل الجادرجي, من خلال انتماء ابنه باسل الى الحزب, وبقي هذا السر حتى عام 2017, عندما كشفته لنصير الجادرجي ومن خلال مقال لي, كما كانت لي علاقات تنظيمية مع الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب),
وفي محاضرته سلط الضوء على الصراع الفلسطيني الاسرائيلي, وكان له رأي في ذلك قائلاً (تتحمل الجيوش العربية عام 1948 ما حدث في فلسطين في ذلك الوقت), كما كان من المؤيدين لقرار الأمم المتحدة حول تقسيم فلسطين إلى دولتين ولو قبلت الانظمة العربية ذلك القرار لما وصلت القضية الفلسطينية الى ما وصلت اليه اليوم.
وركز على واقع التحديات التي تمر بها المنطقة العربية قائلاً (انني أرى أن مفتاح التغيير في المنطقة العربية هو العراق), مستنداً الى موقع العراق الجغرافي والتاريخي القديم, وهو من المتابعين الجيدين لما جرى ويجري في المنطقة العربية, وكان صريحاً في طرح رأيه المؤيد لتحالف الحزب الشيوعي الأخير مع "سائرون", وهو يردد كلمته ونصيحته لقادة الحزب الشيوعي قائلاُ (كنت في لقاء مع قيادة الحزب الشيوعي العراقي وقلت لهم فكروا جدياً وبمسؤولية وبواقعية, لإخراج العراق بالكامل إلى الخلاص, فتشوا بمحاولات جدية للخروج التدريجي الذي يتصف بالحكمة, فتشوا عن القوى التي تساهم في إخراج العراق تدريجياً مما هو فيه, والحكمة مع الحذر هو الاتفاق الذي جرى مؤخرا مع تحالف سائرون).
كانت اطروحة المفكر مروة مقاربة لطروحات الحزب الشيوعي العراقي حول تحالفه الأخير مع سائرون, ويضرب مروة مثلاً ماركسياً مذكراَ برسالة ماركس التي ارسلها إلى الحزب الشيوعي الألماني " ( التقدم إلى الأمام يستند إلى قراءة الواقع), إن السياسة تحمل جزءاً من المخاطر ولا سيما إذا كانت الوقائع صعبة كما هو في العراق, وقيادة الحزب تدرس بعناية جيدة الواقع العراقي بانه إذا استمر الوضع كما هو عليه فقد تقع حرب أهلية", ويؤكد مروة حول واقع العراق الحالي قائلاً "لابد من تسوية مدروسة مع القوى المرتبطة بالإسلام السياسي, فقراءة التاريخ قابلة للنقد", اما حول واقع سوريا ومصر وليبيا واليمن وما مرت به من حروب وثورات وكوارث عسكرية, فيعقب مروة قائلاً "من أخطار الثورة تسلم الإسلام السياسي في مصر وكذلك ليبيا السلطة وهذه مأساة", لكن مروة يؤكد على "دور الثورة وقيادة الجماهير لها لغرض التغيير" .
بعد ذلك نظمت له المحلية زيارة لآثار بابل حيث اطلع على المعالم الاثرية في مدينة بابل الاثرية وقال "كان لي حلم أن تتحقق زيارتي آثار بابل وقد تحقق هذا الحلم بزيارتي هذه".
اما عن محبته العراق فقد قال: "أنا عراقي الهوى, والعراق وطني الثاني".

165
المهجرون قسراً.. نظرة في كتاب (بلا رحمة) للدكتورة هناء سلمان
د. عبد الرضا عوض
إذا كانت مهمة القوانين الوضعية في المجتمع حماية الحريات والحقوق ، فأنها كذلك تساهم أيضاً في استقرار الحياة الاجتماعية والشروع باتجاه الحياة المدنية، وفي العراق اصبحت القوانين المشرعة وفق مزاج الحاكم المستبد مصدراً من مصادر القلق والأسلحة التي تستغلها السلطات في ترويع المواطن وإشهارها بوجهه دون سبب مبرر وفي أي وقت شاء مما جعل حياة المواطن قلقة ومستقبلهُ غامض وأيامه ممتلئة بالهواجس، في إجراءات غير عادلة وتطبيقات متطرفة وظالمة، بالإضافة إلى تعديها على مبدأ المساواة والحقوق والواجبات والحريات التي تعرضت لها الدساتير العراقية، ضمن أبواب الحقوق المدنية والسياسية.
ما استنهض ذاكرتي هو قراءتي المتأنية لإنجاز الأخت الفاضلة هناء جعفر سلمان (بلا رحمة)، تلك السيدة التي عاشت احداث تلك الأيام السود بكل حواسها التي تبقى وصمة عار في جبين المجتمع الدولي، حينما تذكر الأمم المتحدة ويخبروها ان مشكلتهم ليست على قائمة اهتماماتهم..!!، أي وحشية نعيشها مما يجعلنا ندرك أن السلطات التي مرت في تأريخ العراق الحديث تعكزت على قوانين ونصوص لم يتم استعمالها وتطبيقها على غيرهم، فهذه النصوص كان يراد لها أن تكون السيف الحاد الذي يمكن أن يذبحهم أو على الأقل يفتت تواجدهم وجمعهم في أي زمان تريده وتختار توقيته، تلك السلطات التي تعاقبت على حكم العراق عقاباً لهم على مواقفهم الوطنية المشرفّة.
في عهد صدام صدر القرار السيء الصيت عن مجلس قيادة الثورة المنحل يحمل الرقم (180) في 3 شباط 1980 والذي عُدَّ بموجبه بعض العشائر والبيوتات العراقية غير عربية حتى لو ثبت أنها تسكن العراق منذ عهوده السحيقة، اعتبرها من الأجانب مسمياً تلك العشائر بــ (التبعية الإيرانية) وهي عراقية وعريقة في سكنها العراق، وهذه العشائر واكبت الزمن العراقي وتقلب الحكومات التي تعاقبت على الحكم ، ومع معرفة السلطات أن هذه العشائر مستقرة في العراق منذ الزمن القديم ، ويقيناً أنها موجودة قبل صدور قوانين الجنسية العراقية وتعديلاتها ، وأن الوثائق العراقية سواء منها في العهد العثماني أو الملكي بعد الاحتلال تثبت ذلك ، مما يوجب ان يتم اعتبار منطوق المواطنة العراقية منطبقاً عليها ، ووفق معيار الدولة العصرية الحديثة في العصر الراهن ووفقاً للعلاقة القانونية والسياسية مع الدولة ، فإن مواطنتهم لا التباس قانوني فيها فضلاً عن مراعاة القيم الاخلاقية والإنسانية ، فهم لم يعرفوا غير العراق وطناً وأرضاً يقيمون عليها ويتملكون فيها وكان لهم قبل التهجير حقوق ثابتة ويحميهم الدستور العراقي الذي ركلته السلطة البائدة بالأقدام .
 فجريمة التهجير أو الترحيل جريمة بشعة دأب على ارتكابها أغلب الحكام الذين حكموا العراق في العصر الحديث بعد إنشاء الدولة العراقية بكيانها الحالي، بدءاً من حكومة عبد المحسن السعدون الذي قام بتهجير مجموعة من العلماء الكبار الذين وقفوا بوجه الاستعمار البريطاني وعملائه، وانتهاءً بأتعس حاكم حكم العراق ـ صدام ـ حيث باشروا وبكل حقد وشراسة بتنفيذ عملية الإبعاد القسري للمواطنين العراقيين انتقاماً كما قال في خطبته ثأراً لدم (فريال) التي سقطت وفق سيناريو اعدته ونفذته دوائر المخابرات العراقية، ودعم ارادته بحجج وادعاءات واهية، منها أنهم من أصول فارسية، مبطنة بأحقاد طائفية ونزعات عنصرية غير إنسانية، فسبب ذلك تشريد مئات الآف من العراقيين وتجريدهم من أموالهم وممتلكاتهم ومن أبنائهم ـ الشباب خصوصاً ـ دون رادع من خوف ولا وازع من ضمير، توج نظام البعث أشرس هذه الحملات في عام 1980م قبيل الحرب المشؤومة ثم صدرت لاحقا قرارات بهذا الشأن نورد منها برقية وزارة الداخلية ـ لنظام صدام ـ المرقمة (2884) في (10/4/1980)
((تبدأ: لوحظ وقوع أخطاء والتباسات عديدة من قبل أجهزتكم في التسفيرات وتحديد المشمولين بها والمستثنين من التسفير، توضيحا للتعليمات السابقة، أدناه الضوابط التي يجب العمل بموجبها في هذا الشأن:
1-     يسفر جميع الإيرانيين الموجودين في القطر وغير الحاصلين على الجنسية العراقية وكذلك بمعاملات التجنس أيضا ممن لم يبت بأمرهم.
2-     عند ظهور عائلة البعض منها حاصلين على شهادة الجنسية تشملهم الضوابط، إلا إن البعض الآخر مشمولين، فيعتمد مبدأ (وحدة العائلة خلف الحدود!!) مع سحب الوثائق، أي الجنسية إن وجدت، والاحتفاظ بها لديكم ومن ثم إرسالها إلى الوزارة مع تزويد الوزارة بقوائم المشمولين بقرارنا هذا؛ ليتسنى لنا إسقاط الجنسية عنهم .
3-     يجري تسفير البعض خاصة العوائل عن طريق القومسيرية، وفي حال عدم استلامهم يجري تسفيرهم من مناطق الحدود الاعتيادية. الاستثناءات:
أولاً: العسكريين على مختلف الرتب يسلمون إلى الانضباط العسكري في بغداد للتصرف بهم من قبلها وحسب التعليمات المبلغة إليها.
ثانياً: عدم تسفير الشباب المشمولين بالتسفير المقيمين في القطر وتزود هذه الوزارة بقوائم تتضمن هوياتهم الكاملة وأعمالهم
ثالثاً: النساء الإيرانيات المتزوجات من أشخاص عراقيين ترسل قوائم بأسمائهن إلى الوزارة.
رابعًا: عدم تسفير الشباب المشمولين بالتسفير الذين أعمارهم من 18- 28 سنة والاحتفاظ بهم في مواقف المحافظات إلى إشعار آخر .
خامساً: يستثنى من التسفير الأرمن الإيرانيين المقيمين في القطر وتزود هذه الوزارة بقوائم تتضمن هوياتهم الكاملة وأعمالهم.
سادساً: لا يشمل التسفير اللاجئين السياسيين الإيرانيين.
سابعاً: يستثنى العرب العربستانيين المقيمين في القطر من التسفير.
ثامناً: عند ظهور أية حالة من غير الواردة أعلاه إعلامنا هاتفيا قبل البت فيها.
نؤكد امرنا في فتح النار على من يحاول العودة إلى الأراضي العراقية من المسفرين!!.
                                                                     وزير الداخلية
وإذا ما تمعنا في هذا البيان نرى ان الحقد منصب باتجاه واحد ، فمبدأ (وحدة العائلة خلف الحدود) هذه أنموذج بشع لإمضاء المزاج والهوى والحقد الدفين في تقدير مصائر الناس؛ فبأي سنة من سنن البشر، وشريعة من شرائع السماء، وبأي اعتبار من اعتبارات الأديان، إن كانوا يعتقدون بأي دين سماوي، أن يقرر صدام وأزلامه في حال ظهور عائلة البعض منها حاصل على شهادة الجنسية، تشملهم الضوابط إلا إن البعض الآخر غير مشمول فيعتمد بالعمل وفق هذا المبدأ، أي: كل العائلة ترمى خلف الحدود مع سحب الوثائق كالجنسية والجواز والشهادات الجامعية، وأي وثائق مكتوبة تؤيد بأحقية هذا الإنسان في العيش على الأرض العراقية؟! .
وحينما قرر الوزير حجز الشباب والملتحقين بوحداتهم العسكرية في السجون والمعتقلات تقرر مسبقاً ان تتم تصفيتهم وفعلاً تم ذلك أما بإعدامهم أو بسوقهم للخطوط الامامية وتفجير الألغام.
وقد ميز البيان بين الأرمن والعربستانيين الإيرانيين ، وخص التسفير المسلمين الشيعة ، وهذا مؤشر على طائفية النظام الحاقد.
المشكلة لا تكمن في كيفية معرفة الحق والحقوق ، فلهذه المسألة عدة طرق وأساليب للمعرفة والاقتناع ، المشكلة تكمن في إنكار الإنسان للحق ، والتنكر للحقيقة بالرغم من وضوحها وسهولة اكتشافها ، وفي هذا الزمن المرير ينبري من يصر على إنكار الحق والحقيقة ويساهم في تغطيتها وتبرير الجرائم المرتكبة بحقها وفق تبريرات واهية ، ولطالما وقع الناس في حيرة مما حصل منها التقليل من مشكلة المسفرين وتهميش تضحياتهم والتشكيك في انتسابهم وارتباطهم التاريخي الى هذا الوطن ثم التشكيك في تراثهم القومي وحقيقتهم ، ولطالما تم التقليل من مأساتهم ومعاناتهم ومحاولة تبرير الأفعال التعسفية المرتكبة بحقهم بقصد تضييع حقوقهم.
ومن المفارقات التي لا تفسير لها ان يكون نصف قادة العراق آنذاك من بين صفوف الكرد الفيليين أمثال: سمير الشيخلي ومزبان خضر وطه الجزراوي ، فلماذا لم يشملهم القرار؟؟؟.فراحت تمارس تلك الجهات أساليب أخرى من خلال خلق مزاعم وادعاءات زائفة تطعن في عراقيتهم وعلاقتهم بالتراب العراقي ، وتصويرها على انها حقيقة قائمة ، القصد منها وبالنتيجة إحداث شرخ عميق في صميم المكونات الإنسانية في العراق ، من خلال تحجيمهم وعزلهم عن أبناء جلدتهم ، او هي بالحقيقة محاولة إلصاقهم بالأحزاب الدينية لكونهم من أتباع المذهب الشيعي الإمامي ، أو احتسابهم على حركة سياسية معينة ، لكونهم شكلوا على الدوام عنصراً مهماً من عناصر معارضة السلطات الدكتاتورية في العراق ، متناسين عطاؤهم الذي كان لكل الحركة الوطنية دون تحديد ، ولكل العراق دون أن يقفوا مع قومية محددة معينة .
ومن بين أهم الحقائق التي تتجسد عملياً في العراق وجود عدة قوميات متآخية ومتعايشة ومنسجمة ، ولكل قومية منها حقوق وواجبات ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقّر أو نقبل ونسلم بسيطرة قومية على أخرى ، فلكل قومية كرامتها ، ولكل قومية خصوصيتها ، والمنطق يقضي ان كل قومية منها لها تأريخها وحقوقها ، وأن للقومية الأخرى مثل تلك الحقوق ، وتداول العرب والمسلمين مقولة أن (تحب لأخيك ما تحب لنفسك) ، ووفق هذا السياق فأن إهدار الحقوق ومنع المحاكم من النظر في القضايا التي تخص الجنسية والتعسف في التطبيقات القانونية ، وقضايا التسفير الهمجي الظالم والجمعي ، وسلب الحقوق ومصادرتها التي طالت شرائح عديدة من العراقيين ، ولعل من اكبرها واهمها شريحة الكرد الفيلية.
ولم تأخذ محنة المسفرون قسرا حجمها الطبيعي في الإعلام العراقي أو الدولي ، فقد تعرضت عملية التسفير إلى حالة اللامبالاة دولياً ، والتعتيم التام شبه التام محلياً، وتمكن السلطة حينها إلى رش الرماد في عيون العديد من الجهات لتصوير هؤلاء وكأنهم أجانب أقتضت الظروف السياسية في العراق أن يعودوا إلى بلادهم ، وروجت للمسألة وكأنها ترتيب لحماية وضع البيت الوطني ، وحماية العراق من الدخلاء والمقيمين بشكل غير شرعي وقانوني ، وعملية تزوير التأريخ ليس غريباً على تلك السلطة التي شرعت تدعو لإعادة كتابة التأريخ وفق رغبتها وغاياتها ، ومع كل هذا التزوير والتزييف ، فقد سقطت سلطة صدام فاضحة نفسها ، حين تصدت في عمليات تهجير كبيرة صاحبتها عمليات احتجاز وتعذيب ونفي مواطنون عراقيون يملكون السندات الرسمية التي تثبت عراقيتهم ، وصاحب ذلك القيام بمصادرة للأموال والعقارات لا أساس لها من القانون ولا سند لها من الشرعية ، اعتقاداً من السلطة انها انتصرت على الحق ، وانتقمت منهم شر انتقام .
إن ما قامت به الدكتورة الفاضلة هناء سلمان من سرد وتدوين ما حل بها وبأسرتها ومن شملهم التسفير القسري ليُعد وثيقة ادانة تاريخية لتصرقات حكومة البعث ، وأرشفت للذاكرة الانسانية سيرة الطغاة والمتجبرين.

166
الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي آخر المراجع العلمية العليا في الحلة.. حياته وآراءه الفقهية (ت951هـ- 1544م)
نبيل عبد الأمير الربيعي
     صدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة كتابي الموسوم (الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي آخر المراجع العلمية العليا في الحلة.. حياته وآراءه الفقهية (ت951هـ- 1544م) ), يحتوي الكتاب على 285 صفحة من الحجم الوزيري, الكتاب يوثق حياة الشيخ إبراهيم القطيفي آخر علماء الحوزة العلمية في مدينة الحلة, ه>ا الشيخ ال>ي أهمل بقصد وتعمد من قبل اغلب العلماء الشيعة بسبب توجهاته وآراءه الفقهية التي تخالف آراء علماء القرن العاشر الهجري وعلى رأسهم المحقق الشيخ (علي عبد العال الكركي) أبان حكم الدولة الصفوية في إيران,
       كانت هجرة العلماء العرب من لبنان والعراق والبحرين إلى إيران في بدايات أيام العلامة الحلي، وفيما بعد أيام المحقق الكركي، ولم يصبح التشيع المذهب الحاكم على مستوى كل البلاد إلا بعد أكثر من تسعة قرون من بداية الإسلام. وهكذا الحال عندما يتحدث البعض وهم غير الواعين ضمن خلفية متعصبة، ناعياً على شيعة القطيف أو الإحساء ارتباطهم بعلمائهم ومرجعياتهم، نامياً ذلك إلى أن أصولهم المذهبية جاءت من إيران، فإنه يتجاوز الكثير من الحقائق التاريخية التي تشير إلى أن منطقة القطيف والإحساء والبحرين  دخلها الإسلام في السنة السادسة للهجرة، وتولى عليها في الغالب ولاة كانوا على خط منسجم مع أهل البيت عليهم السلام، ولذلك ظل هذا الاتجاه هو الاتجاه السائد منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا بالرغم من تعرضها لضغوط مختلفة.
      وكان من الطبيعي أن تشهد فترات التاريخ لهذه المنطقة والمجتمع بروز علماء وفقهاء، كان من ألمعهم الشيخ إبراهيم بن سليمان المعروف بين العلماء بـ«الفاضل القطيفي». ولقبه «الفاضل» الذي عرف به في الكتب الفقهية، يشير إلى منزلته العلمية، وبهذا اللقب ذكره الحر العاملي فقال «عالم فاضل فقيه»والمحدث البحراني عندما يتكلم عن الشيخ القطيفي يصفه بالإمام الفقيه الفاضل المحقق المدقق. كما استشهد بكلماته بعنوان الفاضل القطيفي وناقشها الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه المكاسب في أكثر من موضع.
       إن بروز هذا العالم الجليل ليشير إلى وجود حالة علمية في منطقته تدعو إلى المعرفة، ومستوى من الفكر يتسلقه المتعلم حتى يصل إلى أعلى الدرجات، وليس طبيعياً أبداً أن ينبغ شخص بهذا المستوى العلمي من دون أن يكون في محيطه الذي يعيش فيه حالة علمية داعية إلى ذلك.
       وبالرغم من أننا لا نجد في كتب التراجم تفاصيل دراسته ومدرسيّه في القطيف، سوى ما يذكر من أنه درس في أوائل عمره على يد والده في القطيف، ثم غادرها إلى النجف والحلة في العراق ليستقر فيها إلى آخر حياته.
       ولا يكاد يذكر الفاضل القطيفي إلا ويذكر معه المحقق الشيخ علي عبد العال الكَركَي، وذلك لأنهما كادا أن يكونا ممثلين لخطين متوازيين في ما يرتبط بالتعامل مع السلطات الزمنية في زمان الغيبة. وربما نجد آثار هذين المنهجين ـ كلاًّ أو بعضاً ـ في هذه الأزمنة لدى بعض الفقهاء موجودة, ولم تخل العلاقة بينهما والجدل الدائر في المسائل المختلفة من حِدَة لفظ، يلحظ في كتاباتهما، وزاد الأمر شدة «تعصباً» من جاء بعدهما لأحد الطرفين بالغض من شأن منافسه أو معاصره.
      فليكن لنا تقديم وتمهيد يشرح بشكل إجمالي الأوضاع التي عاش فيها كلا الفقيهين، وأنتجت اختلافاً بينهما في عدد من المسائل المرتبطة بالعلاقة مع الدولة والسلطة. فبعد تحول صفي الدين الأردبيلي من طريقته الصوفية إلى التشيع، وقيام خلفائه فيها بتأسيس نواة سيطرت بالتدريج على إيران، ومجيء الشاه إسماعيل وحكمه لمناطق إيران «گيلان وفارس» من سنة (906 إلى 930) هجرية ثم هزيمته أمام الأتراك العثمانيين في معركة جالديران، جاء إلى الحكم الشاه طهماسب الذي كان صغير السن، ولكنه تميز مع شبابه بالذكاء والقدرة واستطاع أن يهادن أعداءه في البداية لكي يبني إيران داخليا ثم استطاع استعادة ما فقدَ من الأراضي، بل أحدث نهضة علمية مهمة في إيران، وقد ساعده على ذلك طول مدة حكمه التي استمرت 54 سنة (930 هـ/ 984هـ) ، وأيضا استقدامه لأكابر العلماء الشيعة من مختلف المناطق.
      فبعد أن استقر إعلان التشيع في إيران باعتباره مذهب الدولة الرسمي، بعث الشاه طهماسب إلى عدد من علماء الشيعة في لبنان والعراق والبحرين وأرسل لهم الهدايا، لكي يأتوا إلى إيران، ويبثوا علومهم. لقيت دعوة الشاه طهماسب أذناً صاغية من كثير من العلماء، كان أبرزهم المحقق الثاني الشيخ علي عبد العال الكَركَي، الذي كان يعد في زمانه في طليعة الفقهاء. واستجاب هذا وأولئك لطلب الشاه طهماسب. وجاء المحقق الكركي لكي يصبح الرجل الأول في مملكة الشاه طهماسب إلى حد قيل بأن «منصوب الشيخ لا يُعزل ومعزول الشيخ لا يُنصب».
      وكان من الطبيعي أن يؤسس هذا الوضع لجملة من القضايا في كيفية تعامل الفقهاء في زمن غيبة المعصوم، وهي التي كانت محل نقاش بين المحقق الكَركَي، والفاضل القطيفي. وهي وإن لم تكن سياسية بالمعنى الشائع أي أنها لم تكن تخضع لأدوات المسألة السياسية والموقف السياسي، بل كانت أدوات البحث فيها شرعية، ولكن الفهم لتلك الأدوات، والنظر إليها كان مختلفا بين الفقيهين.
      تنتظم هذه الدراسة في مقدمة وثلاثة فصول, يبحث الفصل الأول منها تمهيداً في أحوال الحلة, لأن الشيخ القطيفي قد عاش فيها حتى وفاته, ودرس الفصل الأول تاريخ مدينة الحلة وموقعها الجغرافي وأهم ما قيل فيها من الرحالة العرب والأجانب خلال حقب زمنية مختلفة, ودراسة الحالة الاجتماعية والسياسية والفكرية لمدينة الحلة, فقد تعاقب على الحلة حكم المزيديين أيام الخلافة العباسية (447هـ -590هـ/ 1081م-1193م), والحكومات التي حكمت الحلة من حكم المغول والإمبراطورية الإيلخانية (656هـ-738هـ/ 1258م-1337م), والحكم الجلائري ولغاية الحكم العثماني.
      وتناول الفصل الثاني حياة الشيخ المحقق إبراهيم القطيفي, متضمناً اسمه ومولده ونشأته ورحلاته العلمية من البحرين إلى النجف ومن ثمَّ إلى مدينة الحلة التي أصبحت البيئة الثانية له بعد مدينة النجف الأشرف, وآراؤه الجريئة التي أطلقها, مما ادَّت إلى انتعاش المذهب الجعفري, ومصنَّفاته, وانتعاش مدرسة الحلة لأكثر من ثلاثة قرون, وبعدها ضعفت مدرسة الحلة.
      وتناول الفصل الثالث أهم نتاجات الشيخ القطيفي الفكري وآثار مصنفاته في العلوم الإنسانية وردّه على المحقق الكركي في أكثر من رسالة فقهية, وتوضيح الأسباب الرئيسة للخلاف والخصومة بين الشيخين «القطيفي والكَركَي» في عهد الشاه طهماسب, ثم توضيح الأسباب والعوامل التي أدت إلى ضمور مدرسة الحلة الدينية وآخر علمائها الشيخ القطيفي, وبيان لغة النقد والنقاد المتابعين لتلك الأحداث والخلافات الفكرية والفقهية ورأي الباحث في ذلك.
     أما ما  يخص كتابنا هذا فهو دراسة لحياة وآراء الشيخ القطيفي الفقهية, إذ كانت للشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي معارضات ومناقضات مع الشيخ علي الكركي ونسبته إلى الجهل, كما هو شأن جملة المعاصرين, حتى أنّه ألفَ في جملة من المسائل في مقابلة رسائل الشيخ علي الكركي ردّاً عليه ونقضاً لما ذكره منها : مسألة حلّ الخراج, ورسالة حرمة صلاة الجمعة زمان الغيبة, ورسالة المنزلة في الرضاع, ورسالة ولاية الفقيه, ورسالة السجود على التربة المطبوخة, والرسالة الحائرية في تحقيق المسألة السفرية.
     ومن مصنّفات الشيخ إبراهيم القطيفي كما ذكرنا في صفحات الكتاب : الهادي إلى سبيل الرشاد في شرح الإرشاد, تعيين الفرقة الناجية من أخبار المعصومين عليهم السلام, نفحات الفوائد في أجوبة السؤالات الفرضية, رسالة في محرّمات الذبيحة, رسالة في الصوم, رسالة في أحكام الشكوك, رسالة في أدعية سعة الرزق وقضاء الدين, رسالة كتبها لعمل المقلدين سمّاها النجفية, وكأنّها في مسائل العبادات الشرعية, شرح على ألفيّة الشهيد, شرح لأسماء الحسنى طويل الذيل جليل الفوائد, تعليقات كثيرة على الشرائع والإرشاد وغير ذلك, كتاب الأحاديث الأربعين، مجموعة في نوادر الأخبار الطريفة.   
    كما أن للشيخ القطيفي رأي في قبول الهدية المرسلة من قبل الشاه طهماسب رداً على تقبلها من قبل الشيخ علي الكركي قائلاً : «ترك أخذ ذلك من الظالم أفضل, ولا يعارض ذلك أخذ الحسن عليه السلام جوائز معاوية, لأن ذلك من حقوقهم بالأصالة, إن العالم إذا تورّع عن جوائز الملوك وتنزه عنها وتجنب الانحياز إليهم تورّعا, فلا لوم عليه ولا يقدح ذلك فيه, بل هو طريق السلامة». وقد كثرت المعارضات بينه وبين الشيخ علي الكركي, حتى أن أكثر الإيرادات التي أوردها الشيخ علي الكركي في بعض رسائله في الرضاع والخراج وغيرهما ردَّ عليه.
     وقد عرفَ صحة ما ذكره الشيخ القطيفي, إلاّ أن الشيخ علي الكركي اعترض على ردّ القطيفي برسائله ومواقفه, فترى من المفارقات عن واقع اعتراض الكركي وجواب القطيفي عليه, لكن عرف القرن العاشر الهجري ما لفضل الشيخ القطيفي والشيخ الكركي في دعم المذهب الشيعي, وعلمهما وتبحرهما وحلمهما وفضلهما وكانت بينهما مناظرات ومباحثات كثيرة, فلا محيص عن التعارض بين القولين والموقفين, ولا يدري السابق عن اللاحق.
    وكانت لتلميذ الشيخين نعمة الله الحلي مواقف مع كلا الشيخين, فقد درس لدى الشيخ علي الكركي ورجع ودرس عند الشيخ إبراهيم القطيفي, فعندما خاصم الشيخ القطيفي الشيخ علي الكركي رجع الأمير نعمة الله الحلي الذي كان من تلامذة الشيخ علي الكركي, رجع عنهُ واتصل بالشيخ إبراهيم القطيفي مع جماعة من العلماء في ذلك العصر كالمولى حسين الأردبيلي والمولى حسين القاضي مسافر والمولى حسين وغيرهم ممن كان بينهم وبين الشيخ القطيفي, ودفع الأمير نعمة الله الحلي مع الجماعة من العلماء دفعوا الشيخ إبراهيم القطيفي على أن يباحث مع الشيخ علي الكركي في مجلس السلطان الشاه طهماسب في مسألة صلاة الجمعة.
   لا شبهة في تقدم الشيخين في العلم والتحقيق والتبحّر, كما لا شك في أن الشيخين أبعد غورا وأصحّ رأيا وأقوى سياسة في مواقفهما في ذلك العصر.
     اعتمدتُ في إعداد هذه الدراسة على مجموعة من المصادر, أفادت في تحديد نسب الشيخ القطيفي, وكتب تراجم الرجال في ترجمة شيوخ القطيفي وتلاميذه ومعاصريه, واعتمدت في انجاز هذا البحث على كثير من المراجع التي أفادتني, والتي احتوت على معلومات مهمة تتعلَّق بالحياة الإدارية والفكرية للقرن العاشر الهجري, وآخير دعوانا أن الحمد لله ربَّ العالمين, والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.
      لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان للأخ والصديق العزيز الأستاذ عدي حاتم عبد الحسين, لما بذله من جهد ووقت في مراجعة وتقويم الكتاب لغوياً, وأخذ على عاتقه تقديم الاقتراحات الصائبة وتحقيقه, وإضافة الملاحظات الإيضاحية وإعداد الكتاب للطبع ومراجعة المسودات.
      ومن دواعي العرفان بالجميل يُحتم عليّ أن أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور عبد الرضا عوض, للاشارة والبحث والتمحيص في تاريخ العالم الفاضل والمحقق إبراهيم بن سليمان القطيفي, ومساعدته لي علمياً ودعمه معنوياً, واسداء النصيحة في كتابة هذه الدراسة.
     أدعو المولى عز وجل أن يوفق جميع من أسدى ليّ النصيحة في دعم كتابي هذا, ولا يفوتنا هنا أن اسجل شكري للصديق الباحث علي عبد الرضا عوض لما بذل لنا في توفير كتاب «موسوعة الفاضل القطيفي», فقمنا بالاستفادة منها في تحقيق هذا الكتاب, مع خالص تقديري واعتزازي.



167
انتخابات 2018م
قديما قالوا اذا فسد الرأس فسد الجسم واذا صلح الرأس صلح الجسم
د. عبد الرضا عوض
حينما نكتب عن البرلمان العراقي ، نكتب عن معاناة شعب خرج من ظلمة سحيقة تولته لأربعة عقود ليدخل في نفق مظلم لا قرار له ، فقد تكون كتاباتي تزعج الأخرين من اصحاب الفكر المثالي ممن عاش خارج العراق ولمس الديمقراطية الحقة ، أو ممن انتفع من النظام الحالي ، لكن ما لمسناه وعرفناه من قراءة التاريخ أن أهل هذا البلد (العراق) -وأنا منهم- لا يصلح لحكمهم إلا (النظام الرئاسي) جاءت امريكا بدستور أسس ويؤسس للفساد المالي والاخلاقي ، ومن بنود الدستور قيام البرلمان ، فأصبح النائب العراقي يتمتع بحصانة خاصة محمي بكتلته ، إذ نادراً ما يرفع البرلمان الحصانة عن أحد اعضائه حتى لو كان متهماً في ملفات إرهاب، أو التحريض على العنف، أو ملفات فساد وابتزاز مؤسسات الدولة ، والذاكرة مشحونة بقذارة البرلمان العراقي منها ما يتعلق بتهريب الاعضاء المطلوبين للعدالة بسبب تلطخ ايديهم بفساد مالي أو ارهابي كما حدث للنائب محمد الدايني وسكوت البرلمان عن تهريب طارق الهاشمي وو ..وغير ذلك الكثير.. مما ولد حالة من الاحباط لدى الكثير من ابناء هذا البلد...
على العراقيين ان يكونوا على علم ويقين ان كل ما في البلاد من فساد وارهاب وسوء خدمات سببه فساد اعضاء البرلمان، من البديهي اذا زادت ثروة وعقارات عضو البرلمان عما كانت عليه قبل انتخابه فهو (لص مثقف) ويخرج لك سرقته برداء وغطاء قانوني ، فرأينا البرلمان العراقي يتخذ القرارات التي تخدم مصالحه الشخصية ومستقبله الوظيفي فقط وأحياناً يكون في ظرف معتم اعلامياً تاماً وعلى سبيل المثل: كتب ونوقش وصودق على ( قانون اتحاد البرلمانيين) في تعتيم اعلامي وفي غفلة عن الشعب الى أن صدر في الجريدة الرسمية أوائل عام 2018م ، وهذا القانون بحد ذاته يخدم اعضاء البرلمان ويزيد من تبديد أموال الشعب.
وبما ان اعضاء البرلمان هم الفاسدون فهذا يعني انتقال الفساد الى كل اعضاء الدوائر والمؤسسات العراقية ، فمن المؤكد سلفاً أن رؤوساء الكيانات السياسية الذين تولوا ادارة الدولة العراقية وأوصلوها الى حال لا يحسد عليه سيبقون في تسلطهم ، ويصر الساسة المتسلطون على مقادير البلد منذ عام 2003بالبقاء في أماكنهم (النيابية والوزارية) من خلال عهود ما (وراء الخيال) رغم انهم اعترفوا جميعاً بفشلهم في ادارة الدولة للسنين الماضية ، ترى متى تتحقق هذه العهود ؟ ، وقد أهدروا عقد ونصف من السنين من حياتنا بمناكفات طائفية عرقية، وبددوا ثروات البلد واجهضوا كل مشاريع التنمية ، فإن أُعيد انتخابهم ، فاللعنة قائمة من الله على هذا الشعب..
فقد أثبتت التجارب السابقة للسنوات العجاف الماضية في العراق أن لا وجود لبرنامج انتخابي او برنامج حكومي بل وعود زائفة لا واقع لها ، البرنامج الانتخابي الذي يعتمده المرشح هو ضخامة وفخامة (الوليمة) التي يقيمها هو ، أو التباهي على كبر مساحة ومكان (صورته الشخصية) التي يعلقها على ابنية المدينة، أما الوعود والتمنيات فهي (اكذوبة) صدقها ويصدقها الشعب حسب كبر قطعة اللحم التي يتناولها ، فكلام المرشحين وأخص منها رؤوساء الكتل السياسية هي محض دعاية كاذبة في وعود لا يتم الوفاء بها او يعجز عن الوفاء بها تستهدف ابتزاز الناخب او خداعه من قبل المرشح وهذا هو الموجود والحاصل فعلا في عراق ما بعد البعث ، والبرنامج الانتخابي الحق هو ما يمكن ان يكون واقعيا فيه تفاصيل ما يمكن إنجازه على ارض الواقع دون مبالغة في خطة يرصد لها مبلغ ممكن توفيره في اطار زمني وامكانيات مادية واقعية قابلة للانجاز وليست مجرد وعود...وحين محاورتي لأحد أعضاء المجلس الحالي الذي امضى ثمان سنين في المجلس ويريد بل يصرُّ على التجديد واكتنز خلالها بما شاء الله عن خطة الحكومة لمعالجة المشاريع المتوقفة في مدينتنا ،،اجابني: (خلي افوز والله كريم)..!!!
فالجميع يعرف أن مهمة اعضاء مجلس النواب في كل مكان هي: حماية ثروة شعوبهم وعدم تبديدها وصون كرامتهم وارواحهم ، لكن كما لمسنا من الدورات الماضية فإن النائب العراقي مهمته سرقة ثروة العراقيين والتمتع بملذات الحياة وأهانتهم وأذلالهم بطرق شتى، وهدر دمائهم ، همهم على ما يحصلون عليه من رواتب وامتيازات ومكاسب وسيارات وحماية وايفادات واستغلال للنفوذ..!! ، فهذه لا شك انها اموال هائلة تعادل اكثر من ثلث ميزانية العراق حتى ان التشخيص الدولي للبرلمانات عده من أكثر المؤسسات فساداً في العالم ، فهل يجوز لنا نحن الشعب العراقي أن نعيد المشهد ذاته لأربع سنين أخرى ...!!
ثم ماذا جنينا من (المعشعشون) في مجلس النواب ،هم جنوا مكاسب لذاتهم فقط ، تمثلت بالمرتبات العالية والامتيازات التي لا مثيل لها بالعالم أجمع ، نعم حصلنا من مهاتراتهم على تعميق الطائفية ، وحصلنا على مطالبتهم بخصخصة القطاعات الخدمية في مجال الكهرباء والتعليم والصحة ، وحصلنا على توقف كامل لمشاريع خدمية في مدننا ، ولمسنا تجاوزاتهم الفاضحة على أملاك الدولة بطرق شيطانية محترفة ،فالمفروض ان يكون اعضاء مجلس النواب من اكثر اعضاء دوائر الدولة ومؤسساتها التزاما وتمسكا بالقانون والنظام ، والمفروض ان البرلمان هو القدوة والمثل الاعلى لكل دوائر ومؤسسات الدولة الاخرى في العمل بصدق واخلاص وأمانة، لكنهم عملوا عكس هذا..!!
وما لمسناه من الدورات السابقة أن مجلس النواب هو بمثابة (منتدى منظم) لتقسيم ثروة العراق التي اطلقوا عليها عبارة (الكعكة) متى ما يرغب العضو المطالبة بحصته يحضر لاستلامها ، نعم تحدث صراعات واختلافات ومناكفات بين الاعضاء كما لو انها بين أي عناصر عصابة محترفة من اللصوص حول حصة كل واحد منها من الثروة التي سرقوها لكنه لا يؤدي الى ذبح احدهم الآخر ، بل تراهم في السر (اخوة ) متحابين متعاونين ، تعلوا اصواتهم عبر الفضائيات حول (المذهب ، القومية ، العشيرة ، المنطقة) ، انها وسيلة لتضليل وخداع الشعب المستكين الذي يصدقهم حتى يستمرون في سرقة ثروته ، وحتى يتنعمون بمعاناته بفقره ، بجوعه ، وهكذا يزداد اعضاء المجلس ثراء ورفاهية وتخمة في حين نرى الوطن في أسوء حالاته السيادية والحضارية...
ما نراه في هذا السباق الانتخابي هو أن ممثلي محافظة بابل (17) نائباً أعادوا ترشيح انفسهم للدورة القادمة وكأنهم يعلمون أو واثقون من أن الفوز حليفهم مقدماً ، ترى من أين جاءت هذه الثقة بالنفس؟ ، هل من عطائهم لمدينتهم مثلاً : (خصخصة الخدمات ، مجسر الأم ، مجسر الطهمازية ، مشاريع المجاري ، بناية محافظة بابل ، سوء البنى التحتية.. وغيرها من المئات) ، أم يقينهم بأن الشعب ((مستحمر)) الى درجة انهم واثقون بإعادة انتخابهم..!!.
ماذا سيحدث للمرشحين الجدد لو أن الــ (17) نائباً بقوا في أماكنهم ؟، وهم يبذلون الغالي والنفيس لنجاحهم ، وماذا سيحدث على الساحة الداخلية لمدينتنا ((البائسة))؟ ، وماذا سيقول التاريخ عن هذه المعادلة الصعبة : (شعب اطاع مرجعيته بتنفيذ فتوى الجهاد الكفائي فذهب الى ساحات القتال طواعية ليدفع الشر عن الأهل والعرض وقدم آلاف الشهداء) ، هو الشعب نفسه : (رضي بالفساد وسمح للسراق بالبقاء في اماكنهم لأربع سنين أخرى) ولم يسمع كلام مرجعيته (المجرب لا يجرب)..!! أي لا تنتخب كل سياسي سابق مهما كانت منزلته.!!.
ونتيجة الامتيازات الرهيبة التي يتمتع بها عضو المجلس النيابي أصبح في العراق ثلاثة أصناف في هذا المارثون الانتخابي:
الصنف الأول : (المعشعشون) الذين وصلوا الى المقدمة أما على الدبابة الامريكية ، أو ممن حالفهم الحظ بـ (الصدفة) فتسلق المنصب دون أن يفهم من السياسة شيء، وهو صامت ومختفي طوال اربع سنين وأصبح بمرور الأيام من مناصري كتلته النيابية دون الالتفات الى دوره الحقيقي في تمثيل الشعب ، وهؤلاء ذاقوا لذة (الكرسي) فهم يستقتلون على البقاء في أماكنهم.
الصنف الثاني: المرشحون الجدد من أعضاء مجلس المحافظة ، وهؤلاء رشحوا بدافع من كتلهم وهم بنفس الوقت يطمحون الى مزيدٍ من المزايا أسوة بمن سبقوهم من اعضاء المجلس .
الصنف الثالث: عسى أن يحالفهم الحظ بالفوز ، يريدون أن يحصلوا على موضع قدم بين (حيتان الفساد) ، والله أعلم بنواياهم.
ويكتسب الفائز بعضوية البرلمان العراقي صفات جديدة حين فوزه مباشرة ، فإذا حالفه الحظ وجلس تحت قبة البرلمان يغير جلبابه ، ويصبح تدريجياً كارهاً للشعب ومفنداً لمطاليبه ..!!، غالقاً هاتفه الجوال.! ، صائحاً بمن حوله (والله دوخونا) .!، ومن التجربة وللأسف الشديد ان عضو البرلمان العراقي لا يقر ولا يعترف بخطاياه فلم يعد يفكر إلا بـ (المنحة) التي سيستلمها لتحسين حالته الاجتماعية وبـ (الراتب) كيف سيستلمه وبعناصر (الحماية) الذين يختارهم هو من اقاربه ومقربيه ، حتى ليبلغ مجمل المصروف لكل نائب من راتبه والخدمات التي يمتاز بها الى (59) مليون دينار شهريا ، وبعض النواب للدورات السابقة لم يحضر الا بعض الجلسات خلال اربع سنوات وبعضهم يغادر العراق ولم يحضر ولا مرة واحدة..!! ، وإذا حضروا فحضورهم مركز لمناقشة مصالحهم الخاصة لهذا نرى النائب مشغول بمصالحه والثروة التي حصل عليها من خلال انتمائه الى البرلمان بطرق مختلفة ، هذه الحالات وغيرها جعلت المواطن قريب جداً من حالة العزوف عن المشاركة بالتصويت ....
يقيناً أن لا تغيير في سياسة البلاد مستقبلاً وسينتخب الشعب الفاسدون من حيث لا يعلم وفق آلية الانتخابات المزمع اجراءها حسب برنامج سانت ليغو ، وأغلب المرشحون الجدد أما:
- وطنيون مخلصون لحد (الطيبة)، يريدون انقاذ الوطن من هوة الفساد.
- أو مغفلون ،يصدقون وعود رؤوساء قوائمهم (الفاسدة) بتصحيح المسيرة.
- أو لهم مآرب أخرى ، فهم متيقنون من فشلهم لكنهم يأملوا أن يحصل احدهم على منصب وظيفي مهم بعد الانتخابات مكافأة له من رئيس قائمته.
- أو لا هذه ولا تلك ، فهو يريد اظهار شخصيته أمام الملأ عسى ان تحالفه الصدفة.
اقتصرت الدعابة الانتخابية في كافة دول العالم على ملصقات جدارية أو يافطات (قماشية أو فلكسية) ، والآن دخل علينا المرشحون العتاة(المعتورين) بفن آخر هو الشاشة الالكترونية التي حملت على ظهر (تريلة) وهي تجوب طرقات المدينة القذرة ،ترى كم تكلف هذه الشاشة ، ومن أين للمرشح الفلاني بمبلغ يغطي نفقات العرض؟ ، هل مرتبه الشخصي ؟، أم هي سرقة لأموال الدولة بوضح النهار.!!!
لا أعلم هل هذا هو حقاً الشعب العراقي ، أين أصالته ؟ هل عدنا لا نفهم الى درجة ازدراء المُحسن والاطراء للمسيء ، وقلب القبيح الى جمال ، والجمال الى بدعة ،! ما بال الشعب العراقي لا يميز الصالح من الطالح ، لماذا الازدواجية في تصرفاته الى حد القرف ، عقد ونصف من السنين والمواطن يعاني من سوء الخدمات ، وعدم العدالة ، وتبديد الاموال ، وانهيار في البنى التحتية، وثلم سيادة الوطن ، وأنهار من دماء الشهداء ، وتأتي ثلة من المنتفعين المنافقين ليقولوا للمرشح الفلاني (انت الذي بنيت وحميت العراق) ، ومن البديهي هذا يصدق قولهم فيتبختر زيادة ، فيزداد في كذبه ويتمادى في وعوده الفارغة ، كما لو انه صدام في جبروته ....!!
(المعشعشون) و(الفائزون الجدد) لمجلس النواب يؤدون مهامهم حسب ما مرسوم لهم من رئيس كتلتهم النيابية، فعامة النواب بيادق يحركهم اللاعب الكبير للكتلة وفق خطط مدروسة ومحبوكة على أتم وجه، ولسوء حظ العراقيين فإن خططهم كلها تصب في مصلحة غير مصلحة الشعب، إذ يبدو أن فايروسا شديد العدوى، يصيب كل من تطأ قدماه بوابة المجلس ، فيسير من حيث لا يشعر بالاتجاه المعاكس لمتطلبات الشعب. فهم يكررون أخطاءً ممن سبقهم في مجلسهم كي لا تتكرر فيتناسون وعودهم للشعب ، والأمثلة على هذا كثيرة. وهناك لمن يتتبع اجتماعات مجلس النواب، قوانين لم تشهد أي تقدم في حل الخلاف عليها، ولا يلوح في الأفق غير السواد الحالك والظلام الدامس. وما إن يبدو بصيص أمل وتقارب في بعض الرؤى، إلا واستحدثت بعض الكتل سببا هو في حقيقة الأمر جاهز لمثل هذه الحالات، فبأوامر من أرباب الكتل والقوائم والأحزاب إلى نوابهم في البرلمان يصدر بمقاطعة الجلسات.. وهكذا...!!!
لا نعرف ما الذي حدث حتى ان كبار المرشحين فقدوا توازنهم وراحوا يمطرونا بكلام سمج وتافه وغير مقبول اخلاقياً.. فالشيخ همام حمودي .. يحمل مسؤولية ما حدث ويحدث على ((الشماعة)) الجاهزة ، يحمل الفساد على نظام صدام وكأن صدام غادر الحكم قبل يومين ، ونسي المعمم ان خمسة عشر سنة كافية لبناء دولة جديد لا لتعمير بلد اسمه العراق.. وهذا فائق بن الشيخ علي..يأس من الشعب العراقي فراح يتوسل بـ (العركجية) هكذا نطقها استصغاراً واحتقاراً حتى ينتخبوه,, وتظهر علينا مرشحة تقول: رشحها أبا بكر وعمر ، والأخر يقول رشحني محمد (ص)..!! ، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري يضع صورة السيد الخميني شعاراً له ..!! وأياد علاوي يتكلم مع المواطن البسيط وكأنه من رجال (رعاة البقر) فوعدنا بالدمار... وهكذا...
وبعد وعد ووعيد ، وطمئنة وتهديد ، قالت المرجعية في خطية يوم الجمعة 5/5/2018 من العتبة الحسينية المقدسة مشكورة ما تمكنت أن تقوله ، وهو استبعاد كل من تولى دفة الحكم في العراق بعد 2003م، والغريب أن كل واحد من الذين تولوا الأمر يقول هذا الخطاب لا يعنيني.!! ، وإنما يعني جهة أخرى ، ونحن نبحث عن الجهة الأخرى فلم نجد غير (الشعب) ، لا بل ذهب بعض منهم الى تفسير (المجرب لا يجرب) الى انهم جميعا صلحاء بدلالة بقائهم في الحكم (15) سنة متتالية ، ولو كانوا فاسدين لآطيح بهم...!!
وفق هذه المعايير سيبقى في الساحة السياسية لدورة مقبلة، (معربوا التأجيج الطائفي) موفق الربيعي وعباس البياتي وسيبقى أبطال (اللعبة النشامى): حسين الشهرستاني وهمام حمودي وعلي الأديب وعلي العلاق والمالكي والعبادي في مواقعهم ، وسيبقى صوت الحريم الهادر (المتلعلع) يمطرنا بالكلام المعسول ، وسيبقى علاوي (وهو يدري) متنعماً بالدولار ، وسيبقى العطية بعمته قريب من الله ، وفي الجانب السني سيكون نفس الأمر ، وفائق الشيخ علي أضر بالأمل المأمول (الدولة المدنية) بكلامه الفج القبيح ، وسيبقى البلد يستورد (الفجل) من ايران ، وماء الشرب من (الكويت) ، ويستعين المرضى بمشافي الهند وايران ، وستبقى منظومة الدولة كما هي ، لا بل أسوء مع الإيغال في الفساد.. وسيقال لنا لماذا التشاؤم؟ اقول هي حقيقة وأمر واقع وسيقع فعلاً ، هو أن (الشعب) لم يعي خطاب المرجعية لهذه الساعة ، لا بل لا يريد أن يفهمه وسيزكي الفاسدون بإعادة انتخابهم .....
الساسة المتسلطون على مقادير البلاد راحوا هذه الأيام وكل واحد منهم يعلن انجازاته وما قدمه للشعب ، واحد يظهر بجانب دبابة وكأنه محرر الفاو ، والأخر ببدلة عسكرية وكأنه حرر طريبيل ، وحينما تقرأ الانجازات ، تفكر بذهول وتقول كم ظلمناهم بقسوتنا الكلامية ، وحينما تستيقظ من حلم الكلام المعسول ، ترى انها أكاذيب وأوهام لا غير...
تحرير المناطق المحتلة، صنعته القوات المسلحة (الحشد الشعبي والجيش والشرطة) ، ولولا الحشد لما كانت دولة العراق !!، ولما علق المرشحون صورهم !!، ولما بقي برلمان !!.... بدماء الشهداء تنعم المعشعشون بدولة آمنة ، وجلوا لنا الشاشات الالكترونية ليبهرونا..!!
نحن لم ندع الى ثورة كما يتصورها البعض بالمفهوم (الحركي القاتل الفوضوي المنتقم)، فقد مللنا من سماع البيانات الهادرة، نحن لا يرضينا الوضع الذي يعيشه هذا البلد الجريح ، نحنُ ندعوا الى تغيير شامل لحالة البلد ، فالذين استلموا زمام الأمور لم ينجحوا في ادارة الدولة على كل الصعد إلاّ إذا استثنينا الاستحواذات الخاصة بهم.



168
سجن نقرة السلمان أول جمهورية شيوعية حرّة في عمق الصحراء
نبيل عبد الأمير الربيعي
    سجن نقرة السلمان أحد أقدم السجون في العراق يقع في محافظة المثنى في مدينة السماوة ناحية السلمان في منطقة صحراوية بدوية بالقرب من الحدود العراقية السعودية...أسس السجن من قبل القوات الإنكليزية المحتلة في عشرينيات القرن الماضي، لكون المنطقة نائية وهي منفى في ذلك الوقت حيث اختار الإنكليز منخفض السلمان أو ما يعرف بنقرة السلمان، لتكون مقرا لهذا السجن علما ان هنالك سجنين في نقرة السلمان أولها هو السجن الذي بناه الإنكليز والذي نتحدث عنه والآخر بني على أحد تلال السلمان في ستينيات القرن الماضي من قبل الحكومة العراقية، وهو أكبر من سابقه بكثير.
     نقرة السلمان يعتبر واحد من اشرس السجون التي عرفها تاريخ العراق لذا كان دائما يتم ترحيل المثقفين والسياسيين الذي يعارضون الدولة وخاصة أولئك المنتمين لـ الحزب الشيوعي العراقي. وقد أصبح السجن رمزاً للنضال فكتب عنه الشاعر العراقي الكبير الراحل كاظم إسماعيل الگاطع وقتها قصيدة لا تزال متداولة إلى الآن على لسان ام قادمة لزيارة ولدها الشيوعي السجين هناك وتصف القصيدة بتصوير مميز مدى صعوبة الأوضاع في ذلك السجن.
     صدر عن دار المكتبة الاهلية في البصرة للكاتب والباحث والأديب جاسم المطير كتابه الموسوم (نقرة السلمان) بـ (557) صفحة من الحجم الوزيري ذات الطباعة الجيدة, اهدى الكاتب الكتاب إلى سجناء نقرة السلمان ورفاقه العاملين في المنظمة الحزبية وفي الهيئة الادارية داخل السجن وإلى كل من سامي احمد العامري وعبد الوهاب طاهر وناصيف الحجاج وخضير عباس ومحمد الملا عبد الكريم ومحمد السعدي وعباس المظفر وسليم اسماعيل وكاظم فرهود وكنعان العزاوي وعباس بغدادي, الكتاب قسم إلى (50) موضوعاً و(7) ملاحق وكل ملحق هو عبارة عن رسالة, ولكل موضوع يذكر الكاتب حالة من حالات سجناء نقرة السلمان وواقعهم المرير, الكتاب عبارة عن مذكرات الباحث جاسم المطير في سجن نقرة السلمان ابان انقلاب 8 شباط 1963 والاطاحة بالجمهورية الاولى وزعيمها ومؤسسها عبد الكريم قاسم بدعم من القوى الاستعمارية والرجعية والاقطاعية, إذ يصف الكاتب حياة السجين الشيوعي وعلاقته مع إدارة السجن ورفاقه في السجن حاملي الفكر الشيوعي والماركسي, وقد احتوى الكتاب على مجموعة نادرة من صور السجناء والشهداء داخل سجن نقرة السلمان وخرجها.
     المؤلف المطير من مواليد البصرة عام 1934, يقيم حالياً في هولندا, صدر له اكثر من (15) كتاباً بين رواية وقصة قصية وبحثاً ومذكرات وعشرات المقالات في الصحف والمواقع الالكترونية, الفَّ العديد من المسرحيات السياسية التي اخرجها الفنان توفيق البصري وكانت اولى مجموعته القصصية عام 1952, كما صدر له كتاباً يصف فيه حياة السجين في سجن الحلة المركزي, وفي عام 2010 صدر له كتاباً تحت عنوان مشاهدات في السينما العالمية من منشورات دار الفارابي/ بيروت.
    أما هذا الكتاب (نقرة السلمان) فهو وثيقة تاريخية مهمة وثقها المطير من خلال مذكراته اليومية داخل السجن ليصف لنا حقيقة العلاقات الديمقراطية داخل مجتمع صغير اسمه السجن, التي تولدت داخل هذا السجن فكرة الحكم الذاتي من خلال مجلسه الذي يتألف من كل سجين وتحت شعار (كل سجين يخدم كل سجين), فسجن نقرة السلمان تجاوز عدد نزلائه عام 1963 حوالي ثلاثة آلاف سجين ومحتجز بلا محاكمة, وقيل أن السجن ضم أكثر من أربعة آلاف سجين ومحتجز قبل عام 1963, لا يثبت عدد السجناء على رقم واحد فهو في حركة دائبة صعوداً ونزولاً, يدخله يومياً عشرات السجناء وينقل منه يومياص بالعشرات, السجن كما عبرَّ عنه الكاتب في ص29 قائلاً هو : (أول جمهورية شيوعية حرّة في عمق الصحراء تحاول ان تجرب المساواة والديمقراطية بعذاب مشترك واحد وبسعادة مشتركة محدودة بنفس الحدود لجميع مواطنيها).
     سجن نقرة السلمان هو أول اسطورة من اساطير الديمقراطية في الظروف القاسية وتركيبتها الاجتماعية القاسية المتوفرة في النقرة, أراد الانقلابيون من وضع هذه الشريحة المثقفة في هذا السجن الصحراوي حقاً هو الانقطاع عن العالم, ولما يجري على أرض العراق وفي الكرة الارضية كلها, ومسح ذاكرة السجين الشيوعي وأن تكون ارادته عاجزة عن كل تخطيط من اجل مستقبل مغاير, فالسجانون لا يعرفون ان السجناء ارادوا ان يواصلوا اشادة حضارة لبلادهم متجددة بفعالية الافكار المتجددة, فالسجناء والسجانون يتقاسمون ازمات ونوائب العيش الصحراوي المرّ, فكان السجانون يبحثون ويجوبون الصحراء ليوفروا للسجناء أماكن آبار الماء العذب, ويخالفون أوامر الحكومة في اشياء أخرى منها : تزويدهم بالأقلام والأوراق والكتب الممنوعة والراديوات والمسجلات والصحف والمجلات, يقول المطير في ص34 (لا حضارة للسجناء من دون وسائل الاتصال بالعالم الخارجي), كما أن مدير السجن نفسه والاداريين كانوا يتحاشون فرض قساوة السجان على السجين.
    أشاد السجناء الشيوعيين أنفسهم بداخل السجن وبموجب تخطيط هندسي مدروس قام به بعض السجناء المهندسين ومن ذوي الخبرة مبانٍ عديدة, (المطبخ, المستوصف, قاعة صغيرة للاجتماعات الحزبية, مقراً لتحرير واستنساخ الجريدة اليومية التي يصدرها السجناء, الحمامات, ساحة نظامية لكرة القدم والسلة والطائرة, ساحة لكرة الريشة والمنضدة, ومكان مخصص لكمال الاجسام, صفوف دراسية, زراعة اليوكالبتوز في اطراف ساحات السجن لصد العواصف الرملية, هذه كلها تعتبر ظاهرة عمرانية في أول جمهورية شيوعية حرة.
    كانت الطبابة المنتشرة في قاعات السجن هي الطريقة البدائية في التطبيب من خلال طب الاعشاب وبعض الروحانيات الذي يقوم به كاكه عمر, فضلاً عن ذهاب السجين لغرض مراجعة الطبيب في مستشفى الديوانية الجمهوري.
    الحكام والحكومات يتصورون أن وجود السجين بين الجدران ينجز عملية تعقيل المتمردين ضدهم, لكنهم تناسوا أماني السجين في الحياة الحركة الكريمة, وطموحه في التعلم من خلال دروس العقل والعقلانية والبحث عن امكانية المواءمة بين الحق والحب, بين الحق والجمال, بين الحرية والصدق, بين العمق والصفاء, بين السجن والنضال, الكثير من السجناء العاشقين للأدب وضروب الشعر الشعبي تطورت قابليتهم في كتابة الشعر ومنهم "الشاعر والمغني سعدي الحديثي والشاعر مظفر النواب, والشاعر الغزلي الشعبي زهير الدجيلي, والشاعر والمحامي هاشم صاحب, والشاعر الفريد سمعان, وشعراء القصيدة الحسينية.
   ان العقلانية المعززة بالخيال هي وحدها التي تستطيع أن تحول الحلم إلى نور يحتقر التزمت الذي لا مبرر له في علاقة الانسان بأخيه الانسان, فالسجين في أية لحظة ربما يواجه الموت غدراً كما هو حال سلام عادل وجمال الحيدري وابو سعيد وعدنان البراك وحمزة سلمان وآخرين.
   الكتاب عبارة عن وثيقة تاريخية أرخت مرحلة وحقبة من تاريخ السجين الشيوعي والمنظمة الحزبية والصحافة الشيوعية في سجن نقرة السلمان, فسجن نقرة السلمان بعد تجربة تنظيمات الحزب ابان حقبة الجمهورية الاولى 1958 كان يغلي بالمناقشات والافكار السلبية والايجابية حول اسباب فشل الثورة والقضاء على منجزاتها بسبب تدخل العامل الخارجي العربي والاجنبي, والعامل الداخلي المتمثل بالإقطاع والرجعية ورجال الدين وحزب البعث العربي والقوميين العرب, فكانت آراء كثيرة تؤكد أن انتكاسة ثورة تموز 1958 مرجعها الاساسي هو الفعل الامريكي المحموم ضد الشيوعية في العراق وفي الوطن العربي وضد حركة التحرر الوطنية كلها.
      وينقل لنا الكاتب جاسم المطير من خلال كتابه (نقرة السلمان) واقع حال السجين السياسي وواقع حال الصراع داخل السجن الذي اصبح العامل السياسي يتدخل في العلاقات بين صفوف السجناء وفي حياتهم ايضاً, اصبح هذا العامل مؤثراً في سيرة حياة كل سجين وفي مستقبله, وقد استغلت نفس العامل مجموعة من النفوس اليائسة في تبرير مواقفها الانهزامية أو التراجعية, كما تستغله نفوس أخرى لتبرير اخطائها, فقد تداخلت الخيوط مع بعضها, مما زاد أحياناً في تخبط وقلق وفوضى الكثير من الآراء المطروحة وهي حالات استثنائية, إلاّ أن السجين الشيوعي ظل على مبادئه وعلى احترام المجتمع لمواقفه الصلبة وتصرفه الهادئ العقلاني المتزن.



169
في ذكرى رحيل الصحفي الساخر شمران الياسري
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    قال الروائي الروسي مكسيم غوركي (التاريخ لا يكتبه المؤرخون, بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان), فقد ارخ الراحل شمران الياسري (أبو گاطع) الريف العراقي وحياة الفلاحين والشيوخ والاقطاع والنساء والحب والقسوة والظلم في رباعيته حتى قال الروائي العراقي غائب طعمة فرمان بحق رباعياته (لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعتُ بحّة صوتها في أذني, كنت أمام ما نسميه موسوعة الريف, ولكن كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً).
   ولد شمران الياسري عام 1926م في قرية محيرجة (ناحية الموفقية حالياً) في منطقة التساعين التابعة لقضاء الحي في محافظة واسط, وقد كنيَّ بـ(أبو گاطع) بعد أن اشتهر برنامجه الإذاعي (احجيها بصراحة يبو گاطع) بعد ثورة 14 تموز 1958, تزوج (ابو گاطع) من السيدة هبوب ابراهيم الياسري وله خمسة اولاد وبنتين اكبرهم جبران, نشأ في عائلة محافظة في ريف الكوت, كان مولعاً بالقراءة ومحباً للرسم ومقرضاً للشعر الشعبي, فكان يعتز بكل من الشعراء مظفر النواب وقصائده الثورية كرمز للتجديد الشعري, وكذلك اشعار إبراهيم الشيخ حسون والشاعر عريان السيد خلف وكاظم اسماعيل گاطع وجمعة الحلفي وكريم العراقي وشاكر السماوي وعزيز السماوي وعبد الحسين ابو شبع وعباس ناجي وآخرين.
    تمكن (ابو گاطع) من خلال حرفة الكتابة وادراك مدى تأثيرها في كسب الجمهور وإثارة الجدل حول ما يكتب, مبتكراً طرائف مباشرة وغير مباشرة للنقد والتحريض, فأمتلك ادوات فن مخاطبة قلوب الناس وعقولهم, بلغة واضحة وبسيطة واسلوب بارع مزاوجاً بين المفردات العامية والفصيحة في تناسق باهر وتلقائي, مبتكراً التزاوج بين الحزن والفكاهة, لذلك يذكر الكاتب والباحث د. عبد الحسين شعبان في كتابه (ابو گاطع على ضفاف السخرية الحزينة) قائلاً : (ولهذا السبب استقطب جمهوراً واسعاً, ناهيك عن القيم الجمالية التي حاول اظهارها, كاشفاً لنا عن عمق ودراية ما يجري في المجتمع, خالقاً ابطالاً هدفهم اسعادنا, على الرغم مما كان يعانيه من ألم).
    برز الصحفي والاعلامي والكاتب والروائي الساخر (أبو گاطع) في نتاجه المتنوع وحديثه الاذاعي الموجه للمضايف والديوانيات والفلاحين, الحديث الذي تضمن الاقصوصة والحكاية الساخرة الحزينة والقدرة على المواءمة, ومواجهة تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشاكله وهمومه بتلك السخرية, فظلَّ اميناً لأسلوبه الساخر محاولاً تطويع وسيلته الابداعية أن يصدم المستمع في حكاياته والقارئ في رواياته وعموده الصحفي, فكان مائزاً بالفكاهة المغلفة بالحزن العميق للتخفيف عن عبء المواطن في حياته, من خلال اعماله التي لا يمكن فصلها عن بيئتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة آنذاك.
    كانت الكلمة لدى (أبو گاطع) مفتاح الكون للدخول إلى قلب القارئ ونجمه الهادئ, تلك الكلمات التي تحمل الدفء والأمل وبوابة التجلّي لمواجهة الواقع المتجهم العبوس, حتى امتهن (ابو گاطع) مهنة الحرف والكلمة ليجد نفسه بين الحبر والكلمة, ثم انتمى للصحافة والعمل السري, فكان دقيقاً في مقالاته, عميقاً في معاني الكلمات لاختيار الأفكار والمفردات الرشيقة الأنيقة والأشعار والفكاهات والطرائف.
   امتهن (ابو گاطع) الصحافة السرية من خلال اصداره (صحيفة الحقائق) منتصف ستينات القرن الماضي وبمساعدة أبو محيسن (أحمد صالح العبيدي), وأبو عليوي (هاشم محسن) بالاشراف عليها وتوزيعها مستخدماً فرسه على المناطق القريبة من ريف الكوت, وكانت تذاع من إذاعة (صوت الشعب العراقي) في الخارج, كما تمكن من كتابة رباعيته الرائعة مطلع سبعينات القرن الماضي 1973م (الزناد, بلابوش دنيا, غنم الشيخ, فلوس حميد) التي ارخها لريف العراق للفترة من 1923 إلى عام 1963م, كما عمل في بغداد في صحف (الحضارة, البلاد, صوت الأحرار) سنوات ما بعد ثورة 14 تموز 1958, وبعد عام 1968 اصبح مديراً لتحرير مجلة (الثقافة الجديدة) وكاتباً في صحيفتي (طريق الشعب والفكر الجديد) حتى أواسط عام 1976 إذ غادر العراق إلى تشيكوسلوفاكيا هارباً من تهمة توزيع السلاح وعقوبتها الاعدام آنذاك, فكان أول لاجئ ومهاجر عراقي أبان التحالف بين الحزب الشيوعي العراقي مع حزب البعث الحاكم, وكانت آخر مادة كتبها إلى طريق الشعب تحدثَ فيها عن التحالف الجبهوي تحت عنوان (الظهر والظهيرة والظهير).
    كان عمود (ابو گاطع) الصحفي في جريدة طريق الشعب يعكس هموم الناس ومشاكلهم وحاجاتهم اليومية وبلغة ساخرة مصحوبة بنكتة وطريفة مصاحباً لها (الحسجة) الممتعة, معتمداً على الامثال الشعبية والتراث الزاخر, محاولاً فضح الواقع السياسي والحراك الاجتماعي وحقيقة الاوضاع والعلاقات بين اطراف التحالف الجبهوي ابان سبعينات القرن الماضي, فكان عموده الصحفي يحمل هموم الناس من خلال الحزن والفرح والسخرية في زمان كان يخشاها الحكام المستبدون, فقد اتخذ من (خلف الدواح) بصمة له في مقالاته حول واقع العراق ككل من خلال الوقائع والاخبار والتساؤل والتحليل, أما رواياته وحكاياته التي تختزن الذاكرة الجمعية بالكثير من الروايات التي أبلت بلاءً حسناً وشعبية واسعة بين القراء, فكان مملوءاً بحكايات الريف التي شدّت القراء فضلاً عن الشعر الشعبي الذي وضفّهُ للنقد اللاذع في مقالاته.
    ومن خلال متابعتنا واطلاعنا على رباعيته المشهورة تعرفنا على نوعاً جديداً من ادب الريف وقضية الفلاحين في العراق, فقد كانت شخصياته وادارته الفنية في الكتابة نلمس من خلالها نكهة الرواية الريفية بخيال (ابو گاطع) لتوصيف وتصوير امكنة الزمن من محيطه الريفي وهمومه وواقع مشكلاته مقروناً بسخرية مرة ودعابة لذيذة مرة اخرى لتسفيه التقاليد البالية وفضح حال الشيوخ الزائفة وتمايزهم الطبقي.
    لقد تطور الأدب الساخر في العراق على يد الصحفي والروائي (ابو گاطع) رغم بعض المحاولات منذ عشرينات القرن الماضي على يد صاحب صحيفة حبزبوز (نوري ثابت) ثم على يد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) وعموده الصحفي في صحيفة اتحاد الشعب 1959م (كلمة اليوم), ولا ننسى أن هناك أكثر من (30) صحيفة ومجلة ساخرة صدرت للحقبة بين الاعوام (1909- 1939) في العراق, لكن لأبو گاطع كان الدور الكبير لانضاج هذا النوع من الادب, إلا أن موقف السلطة عام 1976م كان موقفاً لأسكات وايقاف قلم (ابو گاطع) في صحيفة طريق الشعب لما يسببه عموده اليومي من ازعاج لها واحراج للمتحالفين معها, لذلك تقرر اعفاءه من الكتابة, مما ادى إلى رحيله من الوطن إلى تشيكوسلوفاكيا وبداية العد التنازلي للتحالف الجبهوي مع الحزب الشيوعي العراقي وقرار السلطة بحل المنظمات الديمقراطية (اتحاد الطلبة العام, اتحاد الشبيبة الديمقراطي, رابطة المرأة).
    رحل الصحفي القدير والساخر (ابو گاطع) عن الحياة باكراً في براغ يوم 17 آب 1981 ودفن في بيروت في مقبرة الشهداء الفلسطينيين, تاركاً وراءه خزيناً من المقالات الساخرة والروايات التي وثقت حياة الريف.
 
   

170
حزب الزعيم عبد الكريم قاسم الذي لم يرى النور
نبيل عبد الأمير الربيعي
   من خلال متابعتنا واطلاعنا على اعداد جريدة (الثورة) الصادرة في عهد الجمهورية الأولى والزعيم عبد الكريم قاسم خلال شهر تشرين الأول 1959م, تبين لنا أن هناك قد حدثت طروحات من قبل رئيس تحرير الجريدة السيد يونس الطائي المهتم بأحداث ثورة 14 تموز 1958 ودور الزعيم عبد الكريم قاسم فيها, منذُ صدور عددها الأول في الثامن من تشرين الأول 1958 ولغاية اغلاقها يوم 7 شباط 1963 وقد صدر عددها الأخير  يحمل العدد (1118), قد اهتم يونس الطائي بالترويج لتأسيس حزب سياسي وطرح الاستفتاء تحت عنوان (الشعب يطالب ملحاً بتأسيس الحزب السياسي المنشود) جاء فيه :"طرحت هذه الجريدة شعاراً تاريخياً على الشعب استفتتهُ والمسؤولين الآخرين فيه ... وكان الشعار واضحاً وليس جديداً بالنسبة إلى بعض المسؤولين الذين واكبوا الاحداث وعاصروا الحوادث ومناكفاتها, فقد تجاوبوا مع شعارنا الذي طرحناه والذي خلصنا فيه إلى مناشدة الزعيم الحبيب بتأسيس حزب سياسي بعد انتهاء فترة الانتقال ليساهم مع الأحزاب المجازة في تركيز الحياة الحزبية على النهج الديمقراطي السليم"(1).
    كانت هذه الطروحات من قبل رئيس تحرير جريدة الثورة بسبب الاحداث والصراعات التي حدثت بين القوميين والشيوعيين واحداث الموصل وكركوك, فقد هاجم قبلها الزعيم قاسم الحزبية والاحزاب في الثالث من نيسان 1959 قائلاً :"ان الاستعمار يحاول اليوم تفرقة الصفوف بالدعوة إلى احزاب ضيقّة وتكتلات محدودة, القصد منها أن يضرب الواحد منها الآخر... إننا سوف نسّد عليه هذا المنفذ, فالتكتلات الضيقّة والحزبية والاحزاب في هذا الوقت لا تفيد البلاد... جاء إليَّ الأخ يونس الطائي وبعض الضباط الأحرار وقالوا أيها الزعيم لو إنك تغنينا في هذا الوقت وتأمر بتشكيل حزب يلتف حولك وبذلك تخلصنا من هذه الأحزاب وهذه التكتلات, فكان جوابي إليهم أنني في عهد انتقال وإن حزبي هو مجموع الشعب, وإني أنتمي إلى مجموع الشعب, وإننا كلنا حزب الله, وحزب الحق وحزب العدل وحزب الكفاح"(2).
    حارب الزعيم قاسم من خلال خطبه الحزبية والأحزاب, ودعا أفراد الجيش العراقي أن يكونوا بعيدين عن الاتجاهات والميول الحزبية ليبقى ناصع البياض وأكد على أن يكون الجيش "إنما ينتسب إلى حزب الحق والعدل"(3), وقد اخذ الصحفي يونس الطائي على عاتقه اقناع الزعيم قاسم لتأسيس حزب سياسي ليلتف الشعب حوله وابعاده عن حدة الصراعات السياسية وقتذاك ليحقق سياسة الوسط, بعد محاولة حزب البعث اغتياله في 19 تشرين الأول 1959, متحدثاً الطائي قائلاً "قلت للزعيم عبد الكريم قاسم أن عليه أن يعلن فترة انتقال لوقف التطاحن والقتال بين القوميين والشيوعيين, واقترحت عليه أيضاً تأسيس حزب سياسي يسير على منهج اقتصادي وسياسي واجتماعي معين يدخل فيه الانتخابات مع الأحزاب الأخرى التي ستجاز, وأكدت له أن نجاح حزبه وضمان زعامته أكيدان وبدون أي تدخل من جانب الحكومة, لأن الناس ما زالوا ينظرونه زعيم الثورة العظيمة التي اطاحت بالنظام الملكي"(4).
    وفي يوم الثلاثاء المصادف 20 تشرين الأول 1959, العدد 286 وعلى صفحتها الأولى نشرت جريدة الثورة مقالاً بعنوان (أضواء الثورة), كان المقال لرئيس التحرير يونس الطائي, جاء فيه :"إننا هنا نطالب ونناشد سيادة الزعيم الحبيب القائد العبقري المفجّر الذي قاد الشعب وحرره, نناشده وفترة الانتقال على وشك الانتهاء بالشروع بتأسيس حزب سياسي يلعب أكبر دور مع الاحزاب التي ستقوم في تعزيز النهج الديمقراطي... إن الشعب يعيش اليوم وسط تيارين يتناطحان, ولا يمكن أن نجعل الشعب كبش فداء... وفي الواقع هناك طريقان, أما أن تكون فترة الانتقال طويلة الأمد, وأما العودة إلى الحياة الحزبية والنيابية وفقاً للروح الديمقراطية.. على افساح المجال للزعيم لأن يعكف على تحقيق انجازات الثورة وتحقيق نجاحات كبيرة عن طريق الاعتماد على حزب سياسي يقوده الزعيم كما قاد ثورة تموز"(5).
   ثم تعود جريدة الثورة بمقال جديد في افتتاحيتها ليوم 21 تشرين الأول 1959 حول المطالبة بتأسيس حزب جديد بقيادة الزعيم قاسم تحت عنوان (مدرسة الزعيم عبد الكريم قاسم) جاء فيها :"عندما نطالب بتأسيس حزب سياسي يرأسه الزعيم الحبيب فنحن في الواقع نطالب تحصيل حاصل, أن الثورة وأهدافها ومدرسة عبد الكريم قاسم في تاريخ الشرق العربي على الوجه الخصوص لا يمكنها أن تحقق أهدافها وتفرغ نظريتها بدون الركون إلى التنظيم الحزبي, أي بدون تأسيس حزب"(6).
    ثم تعود جريدة الثورة لتثير الشارع العراقي حول تأسيس حزب سياسي لكل العراقيين يقوده الزعيم قاسم بعيداً عن التناحرات الحزبية والقومية بمقال افتتاحي يوم الجمعة المصادف 6 تشرين الثاني 1959 وبعددها 301 بعنوان (الشعب يطالب ملحاً بتأسيس الحزب السياسي المنشود), جاء فيه "طرحت هذه الجريدة شعاراً تاريخياً على الشعب, استفته والمسؤولين الآخرين وكان الشعار واضحاً وليس جديداً بالنسبة إلى بعض المسؤولين الذين واكبوا الأحداث وعاصروا الحوادث ومناكفاتها, فقد تجاوبوا مع شعارنا الذي طرحناه والذي خلصنا فيه إلى مناشدة الزعيم الحبيب بتأسيس حزب سياسي بعد انتهاء فترة الانتقال"(7).
    كان هدف رئيس تحرير جريدة الثورة من الدعوة لتأسيس حزب يترأسه الزعيم قاسم هو نكاية الطائي بالحزب الشيوعي العراقي والقوميين على حدٍ سواء, فأراد الطائي بعد محاولة اغتيال الزعيم وابتعاد قاسم عن المتناحرين إلى استغلال هذا التناحر, إلا أن الزعيم رفض فكرة تأسيس الحزب جملةً وتفصيلاً.
    من خلال افتتاحيات جريدة الثورة ومناشدتها الشعب العراقي ومطالبتها للزعيم قاسم بتأسيس حزب سياسي يتزعمه عبد الكريم قاسم, وردت لجريدة الثورة المكالمات الهاتفية وبرقيات ورسائل التأييد للدعوة بتأسيس حزب سياسي, منهم ضباط كبار وقادة فرق وألوية في الجيش العراقي, ومن الاسماء التي طالبت الزعيم قاسم من خلال البرقيات والمكالمات الهاتفية : تصريح العقيد الركن فاضل عباس المهداوي(8), برقية العقيد عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري(9), برقية الزعيم الركن علي غالب عزيز قائد الفرقة الخامسة(10), برقية الزعيم الركن صبري النعيمي آمر كلية الاحتياط(11), برقية وزير الدولة فؤاد عارف(12), والمكالمة الهاتفية للعقيد عبد اللطيف الدراجي متصرف لواء الكوت, واللواء الركن المتقاعد عبد الرزاق عبد الوهاب متصرف لواء البصرة, وزير المواصلات حسن الطباطبائي, وزير المعارف محي الدين عبد الحميد, الزعيم خليل سعيد قائد الفرقة الثانية, الزعيم حميد حسن الحصونة قائد الفرقة الأولى(13).
    كانت دعوة القيادات العسكرية ومتصرفو الألوية لدعم تشكيل حزب سياسي يقوده الزعيم قاسم غير صادقة, والدليل على ذلك انقلاب البعض من الداعمين والمؤيدين لهذا الحزب ومواقفه مع الزعيم بعد انقلاب 8 شباط 1963, وقد تنصل اغلب هؤلاء عن موقفهم السابقة.
    مع كل هذا التأييد واعتراض المعارضين للفكرة من قبل الشيوعيين, رفض الزعيم قاسم فكرة تأسيس حزب سياسي, ورفض الزعيم عمل كل الأحزاب لأنه بعيد عن الأحزاب والحزبية, لذلك قال الزعيم قاسم في فترة الانتقال "أن حزبي الشعب العراقي كله, واننا كلنا حزب الله وحزب الكفاح وحزب العدل"(14), لكن الزعيم اجاز فيما بعد عدداً من الاحزاب السياسية هي الحزب الوطني الديمقراطي , وحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي بزعامة داود الصائغ كانون الثاني 1960م.
 
المصادر
1-    جريدة الثورة العدد 301 في يوم الجمعة 6 تشرين الثاني 1959. ص1.
2-    جريدة الثورة العدد 161 ليوم السبت 9 آيار 1959. ص2.
3-    المصدر السابق. ص2.
4-    جريدة الثورة العدد 175 ليوم الاربعاء 27 آيار 1959. ص2.
5-    جريدة الثورة الثلاثاء المصادف 20 تشرين الأول 1959, العدد 286. ص1.
6-    جريدة الثورة العدد 278 ليوم الاربعاء 21 تشرين الأول 1959. ص1.
7-    جريدة الثورة الجمعة المصادف 6 تشرين الثاني 1959 وبعددها 301. ص1.
8-    جريدة الثورة العدد 309 ليوم الاثنين 16 تشرين الثاني 1959. ص2.
9-    جريدة الثورة. المصدر السابق.
10-                      جريدة الثورة. العدد 299. ليوم الاربعاء  4 تشرين الثاني 1959. ص2.
11-                      جريدة الثورة. العدد 298 ليوم الثلاثاء 3 تشرين الثاني 1959. ص1.
12-                      جريدة الثورة. العدد 294. ليوم الاربعاء 29 تشرين الأول 1959. ص1.
13-                      جريدة الثورة . المصدر السابق.
14-                      جريدة الثورة. العدد 309. ليوم الاثنين 16 تشرين الثاني 1959. ص3.
 
 

171
محطات من سيرة حياة المناضل والمفكر عامر عبد الله (الحلقة الثالثة)

نبيل عبد الأمير الربيعي
   بعد انقلاب 8 شباط 1963 والاطاحة بالزعيم عبد الكريم قاسم والنظام الجمهوري, واجه كوادر الحزب الشيوعي الاعتقال والتصفيات الجسدية على يد الحرس القومي, وبعد تولي عبد السلام عارف للسلطة في تشرين الثاني 1963 واعلانه عن اصلاحاته الاقتصادية وانتهاج الطريق اللارأسمالي ظهر خط آب داخل صفوف الحزب الشيوعي العراقي واتخذ القرار من قبل قادة الحزب بالتصويت بالأغلبية لصالح خط آب, وجد عامر عبد الله ضرورة العودة إلى بغداد نهاية عام 1964م.
   بعد انقلاب 17 تموز 1968م وتسلم البعث للسلطة, واصدار مجلس قيادة الثورة قراراً في الخامس من ايلول 1968 بالأفراج عن عدد من المعتقلين الشيوعيين, واعادة معظم المفصولين لأسباب سياسية لوظائفهم ودعوة الحزب الشيوعي من قبل قادة الانقلاب لإقامة الجبهة الوطنية بعد عودة عزيز محمد من موسكو, وظهر ذلك بوضوح في المؤتمر الثاني الذي عقد في ايلول 1970م, والذي انتخب فيه عامر عبد الله عضواً مرشحاً في اللجنة المركزية, إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وافق على دخول الحكومة في الرابع عشر من آيار عام 1972م, إذ اسندت وزارة الدولة إلى مرشح اللجنة المركزية عامر عبد الله, بينما اصبح مكرم جمال الطالباني وزيراً للري, وفي ظل تطورات الاحداث وسياسة التقارب بين الحزبين توج ذلك بتوقيع الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في 17 تموز 1973(32).
   من ضمن المهام التي كلف بها عامر عبد الله عام 1972 عندما اصبح وزيراً للدولة وتكليفه بتسلم وزارة العدل وكالة رفضه التوقيع على احكام الاعدام ومن ضمنها قضية اعدام ظافر حسن النهر أحد كوادر الحزب الشيوعي, ومن ضمن المهام التي انيطت بوزير الدولة عامر عبد الله اختياره عضواً في لجنة الصمود الهادفة إلى حل المشاكل الاقتصادية التي يتطلب حلها تعبئة شعبية من خلال دعم اجراءات تأميم النفط, وزياراته المستمرة لأغلب محافظات العراق والاطلاع على مشاكل الوحدات الادارية, ومشاركته في ندوات التخطيط التي عقدت في بغداد, ومشاركته للندوة المفتوحة بعنوان (ندوة بحث معوقات العمل واسباب انخفاض الانتاجية) التي اقامتها الحكومة العراقية في ايلول 1976, كما كلف في اواسط عام 1978 بمهمة الاشراف على وزارتي الصناعة والتخطيط إلا أنه اعتذر بسبب تدهور العلاقة مع حزب البعث(33).
   على الرغم من موقف عامر عبد الله الايجابي مع الرئيس احمد حسن البكر رئيس الجمهورية, إلاّ أنه انتقده في مسألة توقيعه على احكام الاعدام بكوكبة من الشيوعيين الذين اتهموا بإقامتهم تنظيمات داخل صفوف الجيش بلا اكتراث أو تمهل, ومن المهام الثقيلة التي وقعت على كاهل عامر عبد الله هي الدفاع عن رفاقه الشيوعيين أمام الاتهامات التي لاحقت عدداً منهم والعقوبات الصارمة التي وصلت لحد الاعدام على بعضهم, وبسبب الخناق الذي ساد على الحزب وتنظيماته وقادته سافر عامر عبد الله وعائلته أواخر عام 1978 الى الولايات المتحدة الامريكية ومن هناك إلى العاصمة الكوبية هافانا بدعوة من راؤول كاسترو, ومن ثم سافر إلى براغ, وفي مطلع عام 1979 دعا عزيز محمد اللجنة المركزية للاجتماع في براغ للتباحث بشأن سياسة الحزب الجديدة, إذ كان هناك نوع من التردد في القطيعة مع حزب البعث, وكان من بين الحاضرين عامر عبد الله ورفع شعار (انهاء الدكتاتورية), ولم ينه الحزب الجبهة رسمياً إلاَ في تموز عام 1979م بعد تولي صدام حسين رئاسة الجمهورية في 17 تموز من العام نفسه(34).
   بعد خروج عامر عبد الله من العراق استقر مع عائلته في دمشق عام 1980م, وفي اوائل التسعينيات قدم طلباً للحصول على اللجوء السياسي من بريطانيا, وساعده على ذلك عبد الحسين شعبان باسم المنظمة العربية لحقوق الانسان التي كان رئيسها في لندن, أرخ الجواب من وزارة الداخلية بالموافقة في 14 تموز 1992, وكان يتندر عندما يذكر هذا التاريخ بقوله (يريدون أن يذكروني بهذا اليوم على طريقتهم)(35).
    استمر عامر عبد الله عضواً اصيلاً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (1976-1985), إذ لم يعد انتخابه في المؤتمر الرابع تشرين الثاني 1985, بسبب الانخراط في الكفاح المسلح وتقليص حجم القيادة.
    وجد عامر عبد الله متوفياً بشقته بصعقة كهربائية في اثناء تشغيله المدفأة, بحسب ما ذكره المصدر الرسمي في 29 كانون الثاني 2000 عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً ودفن في مقبرة (هاي غيت) في شمالي لندن(36), وقد نعى الحزب الشيوعي العراقي عامر عبد الله في جريدة طريق الشعب بعد أن استعرض اهم محطات حياته الاجتماعية والسياسية والفكرية(37).
المصادر
32-    سيف عدنان ارحيم القيسي. الحزب الشيوعي العراقي وموقفه من التطورات الداخلية والخارجية 1968-1979. بغداد 2013. ص222.
33-    عامر عبد الله. مذكرات عامر عبد الله. ص46.
34-    عزيز سباهي. عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. دمشق. 2002. ج3. ص177.
35-    عبد الحسين شعبان. عامر عبد الله النار ومرارة الأمل.. فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية. ص183.
36-    سعود الناصري. ورحل رفيق آخر. مجلة رسالة العراق. لندن. العدد 63 في آذار 2000.
37-    رسالة العراق العدد 7 في شباط 2000. نعي. الرفيق عامر عبد الله وداعاً.
 



172
يهود العراق والتمسك بالهوية الثقافية
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   الحنين إلى الماضي يساعد المرء على إدراك ذاته بصورة أفضل من خلال عقده لمقارنات بين ماضيه وحاضره, وبهذا المعنى يصبح الحنين للماضي بمثابة نقطة ارتكاز تُمكّن المرء من إدراك هويته, كما أن المرء يلجأ إلى الحنين للماضي عندما يعجز عن اضفاء الدفء على العلاقات الاجتماعية التي يحتاجها واعتاد عليها في موطنه الأصلي.
   حافظ يهود العراق على موروثهم الثقافي الشرقي وبدأوا في البحث عن جذورهم الشرقية خلال العقد الثامن من القرن الماضي, بل شعروا أن ثقافتهم على أقل تقدير مساوية للثقافة العربية التي يحملها يهود الغرب, فاليهود العراقيين حسب طبيعة البيئة التي نشأوا فيها في إسرائيل ينقسموا إلى مجموعتين, الجيل الأول من اليهود العراقيين نشأ في بيئة شرقية وتشكلت ثقافته من محيطه العربي, أما الجيل الثاني فشبّ في بيئة إسرائيلية تميل للطابع الغربي, وهذا من شأنه أن يحدث فروقاً بين الانتماء الثقافي بين المجموعتين وفق عناصر الهوية منها اللغة العربية التي تعتبر أحد أهم مفردات الهوية بصفة عامة, ومن اهم وظائفها التواصل مع الآخرين والمعرفة من خلال تعلم كيفية تصنيف الأشياء إلى مفردات ومصطلحات توجدها اللغة, كما أنها أداة يعبر بها الإنسان عن مشاعره وانفعالاته.
   وقد حافظ اليهود العراقيون على موروثهم الثقافي في العراق على مرّ العصور, ولم يمنعهم ذلك من الاندماج في المجتمع العراقي, حتى أن عاداتهم وتقاليدهم ولغة حوارهم اليومية كانت عربية, فكانت اللغة العربية عاملاً كبيراً في تشكيل الهوية الثقافية لليهود العراقيين, وقد نالت اللغة العربية قدراً كبيراً من الأهمية على مستوى كتابة الأدب لدى الجيل الأول منهم بعد الهجرة, ولعلّ في استمرار بعض الأدباء الذين ينتمون إلى جيل الآباء في الكتابة باللغة العربية لفترة بعد هجرتهم لإسرائيل دليلّ على تمسكهم بهويتهم الشرقية, وقد تمسك يهود العراق باللغة العربية تعبيراً عن الحنين إلى الماضي والتمسك بأهدابه, ويتمثل ذلك في تسمية الأشياء في إسرائيل بأسماء عربية, نظراً لما تحمله هذه الأسماء من شحنة استقرت في الوعي التاريخي لهم.
    تتمايز الجماعات عن بعضها البعض عن طريق اللغة واللباس والعادات والتقاليد وغيرها, فقد عبَّر الجيل الأول من اليهود العراقيين عن مدى تمسكهم بتراثهم الثقافي, ففي سبعينات القرن الماضي ظهر من بين مثقفي اليهود العراقيين مجموعة مؤسسة لـ(مركز التراث اليهودي البابلي), وكان من بين أهداف هذا المركز التركيز على الموروث الثقافي ليهود العراق من الناحية الاجتماعية والثقافية والأدبية, أقيم هذا المركز عام 1980م, ويهدف إلى جمع التراث اليهودي العراقي, فضلاً عن تمثيل اليهود العراقيين داخل المجتمع الإسرائيلي, ويوجد متحف ملحق بالمركز تعرض فيه آثارٌ يهودية من العراق, كما يصدر هذا المركز مجلة دورية (نهر دعة) التي تعني بالأدب والفلكلور العراقي للطائفة, كما يصدر المركز كتباً وأبحاث تتعلق باليهود العراقيين.
    كما أسس اليهود الذين ينحدرون من أصل عراقي (رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق), وهي جمعية علمية ثقافية اجتماعية أدبية تأسست عام 1980م غرضها تعزيز التعاون بين الجامعيين اليهود النازحين من العراق في مجال البحث العلمي والنشاط الاجتماعي والثقافي والأدبي والفني, عن طريق نشر مؤلفات اليهود النازحين من العراق, والأبحاث التي كتبت عن يهود العراق, وعقد الندوات العلمية والثقافية والأدبية, كان يترأسها في العام الماضي الراحل البروفسير سامي مورية, وبعد وفاته ترأسها الدكتور خضر سليم البصون.
   تمكن اليهود العراقيين من استخدام الوسائل التي يتصلون من خلالها بهويتهم الشرقية من خلال الموسيقى والأغاني العربية والعراقية, فكان تمسكهم بعناصر الموروث الثقافي والفني العراقي, كما سعى اليهود ذوو الأصل العراقي إلى تربية أبنائهم بنفس الطريقة التي اعتادوا عليها في العراق, كما يسعون إلى تلقينهم المبادئ التي التزموا بها هناك, ويظهر هذا مدى الحرص الذي يدعوا له الجيل الأول من المهاجرين اليهود العراقيين على التقاليد التي تجعل مكانة الأخ الأكبر كمكانة الأب تماماً إذا غاب الأب عن المنزل.
   كما يحرص اليهود العراقيون على التمسك بالطريقة الشرقية في تربية الفتيات, والابتعاد عن مبادئ التحرر الغربية التي يعتبرونها مغالى فيها, ويرفض الجيل الأول من اليهود العراقيين للعادات السائدة في المجتمع الإسرائيلي الجديد عليهم والغريب عن مجتمعهم الشرقي المحافظ, وبما تعلموه في المجتمع الشرقي الذي جاءوا منه عن مساوئ الاختلاط بين الجنسين.
    وبسبب تمسك الجيل الأول من يهود العراق بعراقيتهم وثقافتهم العراقية أخذت تلعب الموسيقى والمقام العراقي دوراً هاماً في تحديد الهوية الجماعية لهم باعتبارها أحد أدوات التعبير عن الأنشطة الثقافية العراقية, وعندما هاجر يهود العراق منتصف القرن الماضي كانت الموسيقى والغناء العراقي قد ترسخت في وجدانهم واسهمت في تشكيل هويتهم الجمعية, وكنوع من التعبير عن انتمائهم الثقافي للهوية العراقية من خلال تفضيلهم الموسيقى والغناء العراقي, كما قاموا بتسجيل الأغاني العراقية في استوديوهات متواضعة, وكذلك غنى مطربو الطائفة حفلات الزفاف, فكان لهؤلاء المطربين جمهورٌ كبير في إسرائيل.
    كما لا ننسى تمسك الجيل الأول من يهود العراق بعاداتهم في مجال الطعام العراقي, وقد فضّلوا طرقهم الخاصة فيما يتعلق بمسألة الطعام, فحافظوا على أنواع الأطعمة التي كانوا يأكلونها في العراق قبل الهجرة, كما استطاعوا أن يقيموا سوقاً خاصاً بهم لبيع مستلزمات الأكلات العراقية, وكذلك لبيع الأطباق العراقية الجاهزة, ويعبّر هذا عن ميل الطائفة اليهودية العراقية في إسرائيل للاحتفاظ بهويتها الشرقية العراقية وبالثقافة التي تعبر عن هذه الهوية على الأقل في المراحل الأولى, ويدل هذا على تمسك الجيل الأول من اليهود العراقيين بالهوية العراقية الشرقية المتمثلة في الحفاظ على الطعام الشرقي المتعلق بيوم السبت.
   أما الجيل الثاني من أبناء يهود العراق إذ يقل تمسكه بالهوية الثقافية ربما يجدها غريبة عليه وغريبة على المجتمع الذي يعيش فيه والذي استقر فيها, فضلاً عن مرحلة التعليم والادراك واكتساب الثقافة المحيطة به, لذلك يمكن تسليط الضوء في السبب إلى البيئة التعليمية التي نشأ فيها الجيل الثاني من يهود العراق باعتبارها عاملاً مؤثراً في تشكيل هويتهم, فتعلم ابناء المهاجرين اليهود العراقيين في مدارس إسرائيلية, حيث ركزت مناهج  التاريخ في المؤسسة التعليمية الإسرائيلية آنذاك على تاريخ يهود أوروبا, كما تضمنت تاريخ الحركة الصهيونية في أوروبا, بينما لم تتناول تلك المناهج تاريخ يهود البلدان العربية ومنها العراق, كما اهتمت المناهج الدراسية بالأعمال الأدبية لليهود ذوي الأصول الأوروبية ولم تأتِ بذكر لكتابات يهود شرقية أو عراقية إلاّ فيما ندر.
   لذلك يبتعد الطلاب العراقيون عن تاريخ آبائهم ويدرسون تاريخ يهود الأشكناز, كما اسهمت اللغة العبرية بشكل كبير في تشكيل الهوية لدى الجيل الثاني, مما نتج عن ذلك فجوة ثقافية بين الجيل الأول والجيل الثاني تسببت في صعوبة نقل الهوية الثقافية العراقية للجيل الثاني, كما تسبب للجيل الثاني نوع من الخجل بسبب هويتهم العراقية الشرقية, وهناك عدد لا يستهان به من المهاجرين اليهود العراقيين المثقفين رفضوا جذورهم العربية لكي يكونوا أكثر اقتراباً من المجتمع الإسرائيلي, والتخلي عن الموروث الثقافي الشرقي وتبني الهوية الإسرائيلية, وقد كشفت إحدى الدراسات الاجتماعية حدوث انخفاض بنسبة كبيرة في عدد المحافظين على العادات الشرقية لدى الجيل الثاني من ناحية, وحدوث زيادة كبيرة في نسبة الذين تخلوا تماماً عن هذه العادات من ناحية أخرى, إذ يفضل ابناء الجيل الأول أن يعيش الشاب مع أبويه إلى أن يتزوج, وقد جرى العرف على هذا, غير أنّ الجيل الجديد من أبناء المهاجرين العراقيين بدأ يخالف هذا العرف, ويسعى المجتمع العراقي في إسرائيل بصفة عامة لجعل الزواج أساساً للحياة الاجتماعية, وليس ممارسة الجنس دون زواج, وتشير بعض الدراسات إلى عدم تمسك الجيل الثاني من اليهود العراقيين بالتقاليد التي تحظر الاختلاط بين الجنسين دون زواج.
    حافظ الجيل الأول من المهاجرين العراقيين في إسرائيل على حرمة يوم السبت في الشريعة اليهودية, فالأم تستعد من يوم الجمعة قبل غروب الشمس وتسخن كفايتها من الماء لأنها تعلم أنه محظور عليها إيقاد الموقد يوم السبت طبقاً للشريعة اليهودية, غير أنه يبرز أيضاً عادة اجتماعية وهي عادة الاغتسال عشية السبت, فحتى التدخين يعتبر البعض حراماً أو فساداً, إلا أن معدل التدين بين أفراد الجيل الثاني أقل من معدل التدين لدى آبائهم من الجيل الأول.
   وفي ظل تلك المعطيات تنبأ عدد من الباحثين بعدم قدرة الهوية الدينية لليهود العراقيين على الصمود أمام الهوية الإسرائيلية الغربية الجديدة والتي تنافي ما كان عليه اليهودي قبل قيام الدولة في أنحاء العالم, لكن مع هذا أصبح لليهود العراقيين حضور ملحوظ في جميع مجالات المجتمع الإسرائيلي, فضلاً عن المؤسسات والدوائر الحكومية.
   
 



173
محطات من سيرة حياة المناضل والمفكر عامر عبد الله (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    عمل عامر عبد الله كأحد كوادر الحزب الشيوعي العراقي وانخرط بعدها في حركة انصار السلام في العراق, المؤيدة لمجلس السلم العالمي, كم انتمى إلى لجنة معاونة العدالة, التي كانت تأخذ على عاتقها مهمة الدفاع عن السجناء السياسيين, وضمت اكثر من 180 محامياً, ويصفها بكونها فرقاً جوالة متطوعة تجوب بغداد وكركوك والبصرة والموصل وسائر مناطق العراق للدفاع عن المتهمين, وعبر عن قيمة دفاعهم ونتائجها بأنها مناسبة لإدانة الحاكمين وإعلاء راية الحق وعقيدة الكفاح(17).
   من خلال ملفته في مديرية الأمن العامة تبين أنه في العهد الملكي لم يعتقل غير مرة واحدة عام 1952م بتهمة سياسية بسبب جرأته في فضح النظام, وتطوع للدفاع عنه 146 محامياً, والقى على أثرها كلمة مؤثرة وحادة ندد فيها بالحكام, وأُحيل إلى المحكمة وكانت مداخلة المدعي العام عبد الأمير العكيلي دفاعاً أكثر منها إدانة واتهاماً(18), كانت تصدر بحقه أحكاماً غيابية, منها بتاريخ 31 كانون الثاني 1953م عُدّ من الهاربين, وفي 21 شباط 1953 صدر الحكم عليه بالحبس ثلاث سنوات مع وضعه تحت المراقبة مدة سنتين لكن لم تنفذ أي من هذه الأحكام(19).
   كان يجري تكليف عامر عبد الله من قبل قيادة الحزب بكتابة مقالات في جريدة (القاعدة) السرية لسان حال الحزب الشيوعي العراق في حينها, وبعد تولي حميد عثمان لقيادة الحزب حزيران 1954م, كان من بين اعضاء اللجنة المركزية عامر عبد الله, تمكن سلام عادل وبمساعدة اغلبية اعضاء اللجنة المركزية ومنهم عامر عبد الله من ابعاد حميد عثمان عن سكرتارية الحزب(20), ومنذ أواسط الخمسينيات كان عامر عبد الله وسلام عادل بمثابة عتلة الحزب, فالأول له الريادة الفكرية والتحليلية وهو ايديولوجي الحزب ومثقفه وعرابه, كما يسمى, وسلام عادل له فهمه السياسي العالي وكان منظماً بارعاً وشخصية حريصة على تجميع الكوادر(21).
    كان سلام عادل همهُ الأول استعادة وحدة الحزب وتصويب سياسته, وحصلت لقاءات عديدة مع جماعة النضال ووافقوا على الاندماج وانتخاب عبد الرحيم شريف عضواً في اللجنة المركزية(22), أما جامعة راية الشغيلة فقد عارض جمال الحيدري الاندماج لكنه وافق في النهاية, وعلى اثر هذه التسويات عقد الكونفرنس الثاني في ايلول1956(23) , كان عامر عبد الله من ضمن المشاركين في توحيد الحركة الشيوعية في العراق.
   بعد انتفاضة 29 تشرين الثاني عام 1956 التي  نددت بالعدوان الثلاثي على مصر, كان الحزب الشيوعي العراقي من القوى الوطنية التي شاركت في تصعيد شرارتها وحث الجماهير على الخروج لتأييد الانتفاضة(24), في صيف عام 1956 زار رشيد مطلك وكمال عمر نظمي عامر عبد الله في بيته في منطقة الصليخ زيارة غير متوقعة واخبراه أن عبد الكريم قاسم ينتظر جواباً بشأن دعم الثورة التي يزعمون تفجيرها عن طريق مناورة عسكرية في الخريف التالي, مستفسرين عن تفصيلات الخطة التي تروق للحزب الشيوعي والدعم الذي سيتلقاه الضباط الأحرار منهم(25), كتب عامر عبد الله على أثر ذلك تقريراً تبنته اللجنة المركزية لاحقاً, إذ اوضح فيه ضرورة اعتماد العنف والقوة في إسقاط النظام, وبدأ التوجه نحو المؤسسة العسكرية وتوسيع الصلاة بالجيش وحركة الضباط الأحرار(26), كما كتب رسالة إلى عبد الكريم قاسم بين فيها اهم الآراء التي كانت تناقش في اللجنة المركزية... وضرورة اعلام الحزب مسبقاً عن موعد البدء بالحركة والاستمرار في الاتصالات لضمان الموعد المناسب للثورة(27).
    ساند الحزب الشيوعي العراقي الثورة في التحشيد العسكري من خلال منظمات أنشأها الحزب مثل (اتحاد الضباط والجنود الشرفاء), كانت تظم عدداً من العسكريين الشيوعيين الذين دعموا الثورة, كما دعم الحزب الثورة سياسياً من خلال البيانات والمظاهرات المؤيدة له, وخارجياً دعم الحزب الثورة من خلال الاتصال بالحزب الشيوعي السوري إذ كلف سلام عادل عامر عبد الله في منتصف عام 1957م بهذه المهمة لغرض تأمين شحنة سلاح من سوريا للعراق, والاتصال بالاتحاد السوفيتي لتأمين الدعم للثورة في حال انطلاقها(28).
    على الرغم من رفض الاتحاد السوفيتي إعطاء وعد بدعم الثورة إلاّ أنه أيدها, وكان موقفهم مشرفاً, فعند حدوثها اتخذت دول حلف وارسو قراراً بالاجماع بالاعتراف بالنظام الجمهوري في العراق, والتهديد باستعمال القوة العسكرية ضد أي تدخل اجنبي(29), وفي خضم التحولات الجديدة وانتصار ثورة 14 تموز 1958 ساهم عامر عبد الله بنقل الحزب نقلة نوعية عن طريق تلبية الدعوات التي وجهت للحزب من قبل الاحزاب العالمية, وتعريف هذه الاحزاب بالواقع المرير الذي عاشه العراق.
   كما ساهم عامر عبد الله مع قادة الحزب الشيوعي العراقي ابان ثورة 14 تموز وفي الوضع المتناقض بين الواقع الرسمي وبين الحقيقية الشعبية على حملة جمع تواقيع نصف مليون مواطن ليطالبوا عبد الكريم قاسم بإصدار جريدة علنية للحزب, ومع المشاكل التي واجهتهم من طباعة وتحرير وإدارة وتمويل وتوزيع تمكنوا من اصدارها في 25 كانون الثاني 1959, وسرعان ما ظهر عامر عبد الله كأحد ابرز المحررين(30).
   لكن خلال مسيرة الحزب بعد ثورة 14 تموز 1958 بدأ الخلاف يطفو بين سلام عادل وعامر عبد الله حول رؤية كل منهما لمسار ثورة 14 تموز 1958, إذ كان يصف عامر عبد الله ثورة تموز بعبارة مشهورة (ثورة تموز ليست ثورتنا إنها ثورة الطبقة الوسطى والبرجوازية الوطنية), وكان من أشد الداعمين لسلطة عبد الكريم قاسم داعياً إلى لبس قفازات الحرير الدبلوماسية, وعلى الرغم من تأييد عامر عبد الله لسياسة عبد الكريم قاسم إلاّ أنه رفض عزل الحزب الشيوعي عن مشاركته في الحكم, مع الزيادة التي حصلت في أعداد المنتمين للجمعيات الشيوعية, فلم يتم استيزار أحد سوى نزيهة الدليمي, ومع هذا لم يكن عامر عبد الله مقتنعاً إذ وجده جزئياً وتزينياً, وكان يطمح إلى المزيد من المناصب التي تتناسب مع نفوذ الحزب الشيوعي(31).
   وبعد تدهور العلاقة بين الحزب الشيوعي والزعيم عبد الكريم قاسم بدأ العد التنازلي للحزب في العمل العلني, فعندما قدم وفد يمثل الحزب الشيوعي في 9 كانون الثاني 1960 طلباً إلى وزارة الداخلية لإجازة الحزب رفض هذا الطلب, في حين جرت الموافقة على طلب اجازة حزب داود الصائغ تحت اسم الحزب الشيوعي العراقي, وطالت مدة التباعد بين عامر عبد الله وعبد الكريم قاسم واضطر إلى الإختفاء, وعاد الحزب الشيوعي ليمارس العمل السري من جديد, أما داخل الحزب فقد ظهر التكتل والخلافات الفكرية داخل قيادة الحزب الشيوعي وداخل المكتب السياسي, كان عامر عبد الله أحد اعضاء هذا التكتل فضلاً عن زكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين ابو العيس وثابت حبيب العاني, فأصبحت العلاقة بين القادة نتيجة لذلك علاقة ندية, ومع بداية الخلافات مع عبد الكريم قاسم, التي انعكست على علاقة عامر عبد الله بالقادة, انتهى الأمر بمحاولة تحجيم دوره وابعاده عن بعض الاجتماعات المهمة, مما دعا عامر عبد الله إلى الرغبة بالسفر إلى الاتحاد السوفيتي لغرض الدراسة في المدرسة الحزبية في موسكو.
 
 
المصادر
17-   طريق الشعب. العدد 917 في 24 تشرين الثاني 1976.
18-      عامر عبد الله. من دفتر الذكريات. ص213.
19-      غادة فائق محمد علي. عامر عبد الله ودوره السياسي والفكري في العراق. مصدر سابق. ص68.
20-      عزيز الحاج. ذاكرة النخيل.. صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق. بيروت 1963. ص160.
21-    21 غادة فائق محمد علي. عامر عبد الله ودوره السياسي والفكري في العراق. مصدر سابق. ص73.
22-    22 عامر عبد الله. سنوات الفقر والأمل الخائب 1988-1994. ج2. ص178.
23-    23 جعفر عباس حميدي. التطورات والاتجاهات السياسية الداخلية في العراق 1953-1958. بغداد 1980. ص204/207.
24-    حكمت خليل محمد (ابو ناظم). دور الحزب الشيوعي العراقي والشيوعيين والقوى الديمقراطية في الحركة الوطنية 1951-1958. بغداد 2007. ص59/60.
25-    عامر عبد الله. خواطر وذكريات بمناسبة الذكرى 25 لثورة تموز المجيدة. مجلة الثقافة الجديدة. العدد 144 . تموز 1983. ص19.
26-    عامر عبد الله. من دفتر الذكريات. ص217.
27-    عامر عبد الله. خواطر وذكريات . مجلة الثقافة الجديدة العدد 144. تموز 1983. ص19.
28-    عامر عبد الله. خواطر وذكريات بمناسبة الذكرى 25 لثورة تموز المجيدة. مجلة الثقافة الجديدة. العدد 144. تموز 1983. ص25.
29-    نجم محمود المقايضة. الخلفية التاريخية لحرب لم تنته بعد. بيروت. 1991. ص110.
30-    عامر عبد الله. اتحاد الشعب جريدة الآمال العظيمة والهموم الكبيرة. جريدة طريق الشعب العدد 574 في 31 تموز 1973.
31-    عامر عبد الله. سنوات الفقر والأمل الخائب 1988-1994.ج2. ص206.



174
محطات من سيرة حياة المناضل والمفكر عامر عبد الله (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    ولد عامر عبد الله عام 1924م في مدينة عانة ضمن لواء الدليم, لوالد من قبيلة طي من بني نبهان وأم من عشيرة الجبور, كان اصغر ابنائهم الأربعة (خولة وحاتم وحليمة وعامر), إذ تنبأ الأب بمستقبل ولده الأخير فكان يضع يده على رأس عامر عبد الله ويقول له "هذا الرأس نأمل منه الكثير, يا عامر فيك الخير, ومنك الكثير"(1).
    أكمل دراسته الابتدائية في مدرسة عانة الابتدائية للبنين والمتوسطة في متوسطة عانة للبنين, والثانوية في كلية الملك فيصل عام (1940-1943م), فضلاً عن رغبته الالتحاق بدار المعلمين الابتدائية لكنه فشل في اختبار البصر, لذلك فكر بالعودة إلى عانة ليكون شيخاً ويسير على خطا والده, وحال دون ذلك الدكتور مصطفى شريف فأنقذه من ذلك المصير بحصوله على فرصة الدراسة في كلية الملك فيصل(2), بعد اكماله الثانوية قدم إلى دار المعلمين العالية لكن لم يحالفه الحظ بسبب إخفاقه في اختبار البصر مرة أخرى(3), فاكمل دراسته في كلية الحقوق في بغداد (4), وبعد تخرجه من كلية الحقوق انتمى إلى نقابة المحامين بتاريخ 7 تموز 1947 ومارس مهنة المحاماة لمدة قصيرة(5), فمن بين القضايا التي لبس فيها عامر عبد الله ثوب المحاماة عندما دافع عن فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي عام 1947م قبل أن ينهي مدة التدريب, فكان من ضمن 160 محامياً دافعوا عنه, على الرغم من أنه التقى به مرة واحدة مصادفة(6).
    من الصفات الشخصية للراحل عامر عبد الله "هدوء الطبع وصارم الشخصية وجدّي الطبع, اناقته الدائمة وهدوؤه وقلة حركاته, كما يمتلك موهبة التأثير في الآخرين, فضلاً عن ثقته بنفسه, ونظراً لثقافته الواسعة فلديه قدرة على التواصل مع القوى الأخرى إلى تسويات ويقوم بمناورات من غير التخلي عن الهدف والمبدأ, كما أنه يختلق عن أقرانه بما يمتلكه من سمات القائد, فضلاً عن حدية عناده في المناقشات ومرونة كبيرة في احتواء الأخرين للوصول إلى الهدف المطلوب, وتجده جدياً إلى حد لا يعقل, لكنه في الوقت ذاته مرح وصاحب نكتة.
    تزوج عن وقتٍ متأخر عام 1959م من أنا نكوفا المترجمة في لجنة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي البلغاري(7), لكن زواجه لم يستمر مدة طويلة فانفصلا لعدم تحمل الزوجة البلغارية ظروف عامر عبد الله وانهماكه في العمل السياسي(8), وتزوج مرة أخرى من زميلته في المهنة بدور زكي محمد الدده عام 1974, وهي عضو في نقابة المحامين عام, فولدت له عام 1979م ابنته مريم واسماها على اسم والدته, لم تستمر العلاقة بين عامر عبد الله وبدور زكي محمد فانفصل عن زوجته قبل أشهر من وفاته عام 2000م لكن لم يكن الانفصال رسمياً(9).
     فتحت لعامر عبد الله قبوله في كلية الملك فيصل آفاقاً في الثقافة والأدب من خلال المطالعة حتى صباح اليوم التالي منكباً يقرأ الكتب الدينية والتاريخية, واتيحت له فرصة قراءة مجلات الهلال والرواية وحفظ رباعيات الخيام ومسرحيات وليم شكسبير, وكانت هناك شخصيتان عراقيتان أثرتا بشكل معمق في شخصيته, أولهما كان طلعت الشيباني الذي التقاه في مصر, إذ كان الأخير يقتني عدداً من الكتب اليسارية مثل اعمال كارل ماركس وفلاديمير لينين وجورجي بليخانوف, واطلاعه على تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي والاقتصاد السياسي الماركسي, كما كانت علاقته بعزيز شريف أثر مضاف في شخصيته, كما اقتنى القصص الروسية وانتقل إلى الأدب الفارسي, وتوصل إلى انطباع راسخ إن الشعر العربي والفارسي هما المتميزان في الشعر, والقصة الروسية هي المتميزة في الأدب العالمي(10), وقد اتفق مع فيصل السامر  زميله في كلية الملك فيصل بأن يشتركا في الكتابة بإحدى الصحف, وقد طلب منه عزيز شريف نهاية عام 1944م أن يسكن في مبنى جريدة (الوطن), وكانت الانطلاقة لاحتكاكه بقادة الأحزاب السياسية الذين هم أكبر منهُ سناً وتجربة(11), كانت باكورة نجاحاته وارتقائه في المجال الصحفي هو عمله في تحرير الصفحة المحلية لجريدة (الوطن) لسان حال حزب الشعب(12).
     بعد توقيع العراق لمعاهدة بورتسموث في 10 كانون الثاني 1948 في ميناء بورتسموث البريطاني, جوبهت هذه المعاهدة بانتقادات شديدة بعد نشرها في بغداد, فتمت الموافقة على إلغاء المعاهدة واستقالت وزارة صالح جبر تحت ضغط الجماهير في 27 كانون الثاني 1948(13), شارك عامر عبد الله في المظاهرات المنددة بالمعاهدة وسار في مقدمة التظاهرات ونصحه ضابط في الشرطة وهو من المنطقة التي يسكن فيها بضرورة الهرب خوفاً من أن يتعرض للقتل, في البداية رفض وبعد حدوث إطلاق النار غادر إلى مقر جريدة (الوطن) لكتابة مقال عن ما حدث(14). كما لم يكن عامر عبد الله بعيداً عن هموم المواطنين وابناء شعبه, ولم يكن بعيداً عما يجري من مظالم العمال في K3  , كل هذه الهموم وتطلعه لأوضاع العراق السياسية والاقتصادية التي عاشها ومر بها, وانتشار الأفكار اليسارية والماركسية أدت إلى تهيئته للانضمام للحزب الشيوعي العراقي, والتي ادت بعد ذلك أن يكون أحد ابرز مناضلي الحزب ومفكريه.
    بعد رؤيته مشانق ساحة المتحف العراقي وساحات اعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي في 13/14 شباط 1949م قرر السفر إلى بيروت للابتعاد عن ظروف العراق السياسية والالتقاء بقادة الحزب الشيوعي اللبناني منهم المفكر حسين مروة عضو اللجنة المركزية وانطوان ثابت وجورج حنا المفكر والأديب اللبناني ورضوان الشهال الشاعر اللبناني ورئيف خوري الأديب والصحفي والناقد(15), وراح فرج الله الحلو يلقن عامر عبد الله بعض الأفكار الماركسية, ثم عاد إلى العراق ليقرر الانتماء لصفوف الحزب الشيوعي العراقي في خريف عام 1949م(16).
 
المصادر
1-      غادة فائق محمد علي. عامر عبد الله ودوره السياسي والفكري في العراق (1924-2000) . بغداد. وزارة الثقافة. دار الشؤون الثقافية العامة. ط1. 2018. ص23.
2-        عامر عبد الله. سنوات الفقر والأمل الخائب (1924-1988), ج1. حوار حازم صاغية. مجلة أبواب. العدد الثاني 1994م. ص164.
3-        عامر عبد الله. من دفتر الذكريات. ص207. نقلاً عن عبد الحسين شعبان. عامر عبد الله . النار ومرارة الأمل. فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية.
4-        غادة فائق محمد علي. عامر عبد الله ودوره السياسي والفكري في العراق مصدر سابق. ص27.
5-        الوطن. عدد 435 في 29 نيسان 1948.
6-        عامر عبد الله. سنوات الفقر والأمل الخائب (1924-1988), ج1. ص167.
7-        عامر عبد الله. سنوات الفقر والأمل الخائب (1988-1994) ج2. حوار حازم صاغية . مجلة ابواب. العدد الثالث. 1994. ص230.
8-        المصدر السابق. ص230.
9-        غادة فائق محمد علي. عامر عبد الله ودوره السياسي والفكري في العراق. مصدر سابق. ص38.
10-      عامر عبد الله. من دفتر الذكريات. ص208.
11-      عامر عبد الله. سنوات الفقر والأمل الخائب (1924-1988).ج1. مصدر سابق. ص167.
12-      الحقيقة. العدد 78 في 9 نيسان 2013.
13-      جعفر عباس حميدي. التطورات السياسية في العراق 1941-1953. النجف الاشرف. 1976. ص42.
14-      عامر عبد الله. سنوات الفقر والأمل الخائب (1924-1988). ج1. مصدر سابق. ص67.
15-      عامر عبد الله. لقاءات مع فرج الله الحلو القائد الثوري الكبير. مجلة الطريق. بيروت. العدد الاول في آذار 1985. ص70/71.
16-      عامر عبد الله. من دفتر الذكريات. مصدر سابق. ص212.



175
الروائية تسيونيت فتال تبحث عن جذورها العراقية
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    عانى يهود العراق من الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي مرّوا بها أثناء فترة الهجرة القسرية من العراق إلى إسرائيل عقب قيام الدولة عام 1948, فكانت حقبة هجرتهم للأعوام (1950-1951) قد ظهرت في هذه الدولة الراعية لهم ولحقوقهم في مخيمات المهاجرين الجدد, وكانت لهذه الفترة الأثر الكبير على حياة المهاجرين في إسرائيل, فقد ساءت الأحوال الاقتصادية لليهود العراقيين في هذه المخيمات (المعابر) بعدما كانوا يعيشون في وضع اقتصادي ومعاشي جيد, وقد تكبدّ معظمهم العناء في البحث عن العمل, ومنيت الأغلبية بالبطالة.
    وقد ظهر بعد حقبة الخمسينيات والستينيات جيل من الأدباء والروائيون ذوي الأصل العراقي استطاعوا أن ينقلوا معاناة عوائلهم وأن يشكلوا مدرسة أدبية لها سماتها الخاصة ومنهم الروائية تسيونيت فتال, إذ تمسكت فتال بثقافتها الشرقية الأصيلة, التي جلبها معهم ذويها على أثر هجرتهم, فضلاً عن معاناتهم الشديدة أثناء الهجرة من ترك أماكن ولادتهم وملاعب الصبا والشباب, للهجرة إلى المجهول الذي كان من الصعب استيعابهم في مجتمع إسرائيلي جديد غريب على ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
   مثلت الروائية فتال في روايتها (الصور على الحائط) طابعها الشرقي, وهو ما تطرحه من خلال تواجدها في إسرائيل, تعبيراً عن موطنها وبيئتها الشرقية التي انحدرت منها, لتتناول الأحداث التي عايشوها ابناء جلدتها قبل الهجرة إلى إسرائيل.
    شهدت الروائية في روايتها تساؤلات عن مصير أبناء يهود العراق الذين عاشوا في هذا البلد زهاء 2600 سنة, في ضوء مصيرهم قبل وبعد الهجرة, وفي ضوء الأحداث السياسية والتساؤلات التي صاحبتها.
   الرواية (الصور على الحائط) تعد أحد الروايات التي تتناول حال يهود بغداد قبل الهجرة, فضلاً عمن سبقها من الروائيون العراقيون من أبناء الديانة اليهودية امثال شمعون بلاص وسمير نقاش وسامي ميخائيل وبار موشيه, ولكن رواية فتال تعد من النماذج الروائية العبرية التي تأثرت كاتبتها باللغة العربية وبالأمثال الشعبية العراقية, حتى أن لغة الحوار في هذه الرواية تكتظ بمعانِ اللغة العربية, فضلاً عن كتابتها من قبل فتال باللغة العبرية.
    اعتقد من خلال القراءة للرواية, والمتابعة لما كتب عنها من نقد ادبي, تعد (الصور على الحائط) من الروايات المهمة في تاريخ ادب يهود العراق, وأجد أن الأدب الإسرائيلي الذي قدمه هؤلاء الأدباء من أصل عراقي أو شرقي قد تمكنوا أن يكون لهم باع كبير في الساحة الأدبية الإسرائيلية والمنطقة العربية مثلما فعلت الموسيقى الشرقية والمقام العراقي, والسبب الرئيس لاعتقادي هو طبيعة الجمهور المتلقي للأدب, الجمهور الذي بدأ الاطلاع على الآداب العربية سواء من اليهود من أصل شرقي أو من أصل غربي, فضلاً عن تمسك معظم الأدباء الشرقيون داخل المجتمع الإسرائيلي بأصولهم العربية عامة والعراقية خاصة, حيث سبق ايضاح أن اليهود الذين عاشوا في الدول العربية ولا سيما في العراق كانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي لهذه الدول, بل كانت لهم في كثير من الأحيان مكانة خاصة في المجتمع.
    كما نجد أن هناك اتجاهاً جديداً بين بعض الروائيين الشرقيين يرى ضرورة العودة إلى تراث آبائهم الشرقي, ومثال ذلك الروائية تسيونيت فتال, فقد نجحت فتال إلى حد كبير في مهمة نقل الهوية الثقافية العراقية إلى القراء والأدباء الشباب من اليهود العراقيين في إسرائيل, والدليل على ذلك هو أنه بعد مضي أكثر من ستة عقود من الزمن بعد هجرة يهود العراق إلى إسرائيل ما زال هناك أدباء من الكتاب من اصول عراقية ممن كتب في موضوع الهوية الشرقية امثال الموج بهار وسامي بردوجو وتسيونيت فتال , فإن هؤلاء الكتاب وجدوا طريقة في التعبير عن هويتهم الشرقية.
    مما سبق يتضح مدى تأثر الروائية فتال بحياتها وبيئتها وتربيتها ونشأتها وأصولها العراقية الشرقية, وقد ترتب على ذلك ميلها في كثير من الأحيان إلى تصوير شخصيات عراقية وإلى وصف مشاهد في العراق دون زيارته, وحتى في وصفها للطبيعة يقرن ذلك بأشياء في العراق, وأجد من خلال مطالعتي للرواية (الصور على الحائط) انها حتى بعد أن هاجر اهلها إلى إسرائيل احتفظت بالبيئة العراقية في داخلها, فلم تبدلها بأخرى وإنما انتقلت من مكان إلى مكان آخر حاملة معها هويتها العراقية.
    تعد رواية (الصور على الحائط) أول رواية لأديبة من أصول عراقية تكتب بلّغة العبرية وتترجم للغة العربية لروائية شابة تعيش في إسرائيل حيث أعادت رسم جزء من واقع تأريخ ابناء شعبها وفاءاً منها لعائلتها ولأبناء ديانتها لبلد عشقت ابناءه دائماً.
    أجد في الرواية أن الروائية فتال ترغب أن تمد جسور التسامح والمحبة والتواصل مع ابناء العراق من خلال التبادل الثقافي والإنساني, وقد أذابت فتال الحواجز الصلبة بين ابناء العراق في الداخل والخارج من خلال روايتها (الصور على الحائط).
 



176
برزان التكريتي ومذكرته (السنوات الحلوة والسنين المرّة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
    عندما يرحل الأفراد مهما كانوا سياسيين أو علماء أو ادباء ترحل مهم ذكريتهم ومذكراتهم, ويذكر الكاتب والباحث عبد الحسين شعبان حول مذكرات الراحل عامر عبد الله, أنه الراحل تحدث له عن وجود ثلاث مسودات كل مسودة تحتوي على (300) صفحة, لكنه تأسف على مذكرات عامر عبد الله المفقودة, أما بخصوص الراحل برزان التكريتي فمسودات مذكراته قد عثرَّ عليها الأمريكان باحتلالهم العراق وتم نشرها على موقع أمريكي, وهي مذكرات رئيس جهاز المخابرات الصدامية الأسبق برزان التكريتي الأخ غير الشقيق على مواقع النت متضمنة ملاحظات برزان بخط يده, ومن ثم قامت (مكتبة المجلة) بنشرها خلال الأيام الماضية مع ملاحظات الراحل برزان, ومن ثمَّ تم طباعتها ونشرها طبعة ثانية دون موافقة ورثة الراحل.
    اصبحت المذكرات تحتل ركناً في قائمة الكتب الأكثر رواجاً والأكثر تداولاً في مجتمعنا, لقد بتنا نطالع شهادة الفاعلين والعاملين في العملية السياسية العراقية, وبهذا المجال يمكن ان نستشهد بمذكرات برزان التكريتي المهمة لفضح النظام وطريقته في إدارة دفة الحكم زهاء أكثر من ثلاثة عقود من الزمن, فقد انتظرنا كثيراً من السنوات لمعرفة حقائق كثيرة طالما كانت غائبة عن المتابعين لهذا النظام الظالم والدكتاتوري, وما زلنا في حاجة إلى الكثير من المعلومات حول هذا النظام لتتشكل الصورة الحقيقية لهذا النظام الذي سقط في ليلة وضحاها على يد القوات الأمريكية دون تدخل فاعل من قبل المعارضة العراقية, ولذلك تعتبر مذكرات برزان التكريتي الذي حكمت عليه المحاكم بعد سنوات الاحتلال بالموت شنقاً إنها شهادات مطلوبة وأساسية للمتابع للعملية السياسية, لإكمال جوانب أخرى من صورة هذا النظام ودعم دول الجوار لهُ والقوى الامبريالية المساندة والقطار الأمريكي الذي حمل هذه الطغمة للتسيّد على ابناء الشعب العراقي منذ عام 1968م.
    لقد اختفى الكثير من المعارضين والعلماء والأدباء أثناء تولي نظام البعث للسلطة, واختفى الكثير من المفكرين واختفت معهم مذكراتهم, وبعد اختفاء هذا النظام بعد عام 2003 لم نعتد على كتابة السير والمذكرات والاطلاع عليها بسبب الخوف والمسؤولية والنقص في الكتابة والتأليف, إلا أنه قد فتحت لنا في الآونة الأخيرة فسحة من الأمل للاطلاع على أغلب المذكرات وتقييم الواقع الذي كنى نعيش فيه.
    الكتاب صادر عن مكتبة المجلة وهو اسم لم اسمع به سابقاً, وقد كتب الناشر مقدمة للمذكرات لاطلاع القراء على مضمون هذا الكتاب, وقد تضمن الكتاب (428 صفحة من القطع الوزيري, وقد تمّ تقسيم الكتاب إلى قسمين, القسم الأول تضمن نبذة تاريخية موجزة عن حياة برزان ومشاركته مع أخيه صدام حسين في العمل السياسي في صفوف حزب البعث وتغيير النظام العارفي, واشغاله لمنصب  مدير المخابرات العامة العراقية, والقسم الثاني مذكرات برزان التكريتي اليومية مع عائلته في جنيف حتى رحيل زوجته أحلام من الحياة, وأسفه على رحيلها.
   ففي صفحة 6 من المذكرات يصف برزان عناصر حكومة البعث في اسلامهم للسلطة عام 1968م قائلاً "كانت علاقتهم ممتازة واستمرت إلى ما بعد استلام السلطة بسنتين تقريباً, وبدأ التنافس على الغنيمة, وهذا أمر طبيعي في عمل الأحزاب الثورية والعصابات, لأن كل الأحزاب الثورية والعصابات يبدأون بتصفية بعضهم بعد سرقة البنك أو بعد الوصول للهدف", هذا الوصف يؤكد برزان بأن حكومة البعث هم مجرد عصابة استحوذت على خيرات العراق, وفي نفس الصفحة يؤكد برزان على أن اعمام صدام قد تبرأوا منه قائلاً "لم تكن لصدام علاقة مع عمامة لأنهم تبرأوا منهُ عندما قام بقتل الحاج سعدون أحد أقربائنا", وهذا تأكيد على اجرامية صدام ودهائه في قتل اقرب الناس إليه.
   أما حال الممتلكات العراقية وكيفية الاستحواذ عليها من قبل حكومة البعث يذكر برزان التكريتي في صفحة 16 قائلاً "ولكن مع الأسف كل هذه الأجواء الجميلة والطبيعية اختفت بعد أن وصلنا إلى القصر الجمهوري وتم استملاك الأراضي والدور, وتم مصادرة المرافق العامة في هذه المنطقة الجميلة وتم تحويلها إلى معسكر مختلف وليس إلى معسكر منظم.... ومنذ ذلك الوقت بدأت نظرية المؤامرة والتي لم يتخلص منها أهل القرار لحد الآن, مع الأسف, وكل شيء يوعزوه لوجود مؤامرة ومتآمرين, ناسين انهم أشد المتآمرين على انفسهم وعلى شعبهم", ولذلك بدأت عمليات الاعدامات بتهم المؤامرة والعمالة لأبناء الشعب العراقي, أما الرتب العسكرية فقد منحت لأقرباء صدام ممن كانوا شرطة أو جنود وبرتب دنيا, ولكن في عهد صدام حصلوا على رتب عليا بدرجة وزير وفريق أول ركن, وأمثال ذلك عبد حمود وعلي حسن المجيد وحسين كامل وصدام كامل, فضلاً عن منح برزان التكريتي في شهر نوفمبر من سنة 1969 رتبة وقتية في الجيش العراقي وهو لم يكمل دراسة الاعدادية.
    كما يذكر برزان التكريتي في مذكراته صفحة 32 حادثة اعدام ناظم كزار مدير الأمن العامة بسبب محاولته اغتيال البكر وقتله لحماد شهاب واصابته البليغة لسعدون غيدان, وكيف ارادت عائلة واقارب سعدون حمادي الاقتصاص من ناظم كزار, ونتيجة الخلافات بين صدام حسين وبرزان التكريتي تم احالة الأخير على التقاعد من المخابرات واحتجازه في داره ومراقبته اليومية لاتهامه بمحاولة قلب النظام واستلام السلطة, وكانت في مخيلة صدام أن برزان بعد أن شكل مؤسسة الأمن القومي وشارك بشكل رئيسي في صناعة الاسلحة الاستراتيجية وبحوث الطاقة الذرية التي تشرف عليها المخابرات, والشروع في مشروع المدفع العملاق وقبله السلاح الكيمياوي والجرثومي, وبعد أن عرف الرئيس صدام هذه الحقيقة اعدم مدير الصنف الكيمياوي في وزارة الدفاع العميد الركن نزار النقشبندي وترك برزان العمل نهاية عام 1983م.
    كان صدام حسين شكوك في اقرب الناس إليه حتى اخيه غير الشقيق برزان, والسبب كما يذكر برزان في صفحة 38 قائلاً "والسبب الذي يدفعه لكي يزعل نفسه لأنه شكوك مثل أي حاكم مشابه له وينتمي لنفس المدرسة, وقبل ذلك لأن ظروف نشأة ابو عدي غير طبيعية ومبنية على حسابات الفرصة والمؤامرة والتخلص من الآخرين اللذين يحضون باحترام اجتماعي أو مهني أو سياسي لأنه يعتقد انهم الخطر الحقيقي عليه؟!", حتى الزيجات التي حصلت داخل العائلة كانت تتم من خلال العقلية العشائرية واجبار البنت على الزواج من ابن عمها دون الرجوع إلى رأيها ورغبتها, وهذا ما يؤكده برزان التكريتي في مذكراته صفحة 40/43.
    يذكر برزان التكريتي في مذكراته صفحة 45 حالات المضايقات والاغتيالات والاختطاف للعناصر المقربة من برزان امثال السيد فؤاد الوتار والمهندس فاضل عجينة والمهندس المقاول واركيس درزي, ومحاولات انتحار عدي صدام ومحاولة قتل والده بسبب الاختلاف حول سلوكية عدي وقتله لكامل حنا الطباخ الخاص لصدام, فيذكر برزان التكريتي في صفحة 58 عندما حاول عدي طلب اللجوء إلى امريكا من خلال الاتصال بالسفارة الامريكية وطلبه تسهيلات للذهاب اليها قائلاً "فيبدو أنه (صدام) اتفق مع حسين وصدام كامل على اعتقال عدي, ففي هذه الاثناء هجم الأخوين على عدي واعتقلوه ووضعوا الوثاق بيديه (الكلبجة) أخذوه إلى الرضوانية".
     كان برزان التكريتي متوجساً من صدام وعائلته, ورغبته بالخروج من العراق بأي شكل, وقد ذكر قائلاً لزوجته التي يلقبها بشجرة الدر في صفحة 61 "قررنا شجرة الدر وأنا أن لا مستقبل لنا في هذا البلد وفي ظل هذا الحكم وهذه العقلية.. لأن أهم شيء غير متوفر لتنفيذ قرارنا إلا وهو المال لأننا لا نستطيع العيش خارج العراق بأمكانيات شبه معدومة... مضاف لذلك منع السفر الذي فرض عليَّ وعلى عائلتي", وعند مرافقة برزان لعدي في سفره إلى جنيف بسبب مقتل كامل حنا على يد عدي, وما سببه عدي لبرزان من مشاكل ففي صفحة 67 يذكر برزان من مشاكل عدي قائلاً " حقائب سفر عدي التي ملأت بالدولارات مع صديقه عبد الوهاب, وجلب عدي سفرته هذه اكثر من خمسين بدلة واكثر من عشرة معاطف فرو مع الشفقات التي تجلب الانتباه ... تصور كان يذهب للنوادي الليلية ويأخذ معه النركيلة فيصبح فرجة للناس وقسم من الناس يعتقدون أنه يدخين الحشيش".
    أما ما يذكره برزان حول تصرفات قصي صدام في بون في صفحة 73 قائلاً "لقد زارني هوشنك في بداية الشهر الاول من سنة 1989 في جنيف, واخبرني بأن قصي كان في بون وكان معه شلّة من رجال الاعمال العراقيين منهم اسعد طعيمة وآخرين يترددون على العراق وآخرين لم يزوروا العراق منذ وقت طويل, وقال عندما كانوا في الفندق قال احدهم لهوشنك هل تستطيع احضار شيء لنا (لنشمه) وكان واضح انه يسأل عن نوع من انواع المخدرات, فقال له هوشنك بعصبية, ما هذا الكلام انه لا يتعاطى هذه الامور وحذره من ان يسمع قصي, فرد عليه قائلاً لا تخاف اننا دائماً نقوم بالشم... فكتبت رسالة للرئيس بهذا الخصوص انبهه على ضرورة الانتباه لأولاده... بعد ان انتهينا من العشاء خرجنا وكانت سيارة تنتظر السيد هوشنك ولكن ليس لأخذه إلى بيته وانما أخذته إلى الاستخبارات العسكرية وكلف الاخ سبعاوي بالتحقيق معه واعدم بعد ايام", حتى حادثة سقوط طائرة وزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح يشك برزان التكريتي من خلال ما ذكره في مذكراته أن حسين كامل هو المدبر لمقتله كي يستلم وزارة الدفاع من بعده, كما يذكر برزان حالة خيانة حسين وصدام كامل وهروبهما إلى عمان للالتحاق بالمعارضة, وكيفية عودتهما إلى العراق ومقتلهما على يد علي حسن المجيد وأفراد العائلة.
هذا ما ذكره برزان التكريتي عن عائلة صدام حسين التي حكمت العراق بالحديد والنار والحروب والحصار, عائلة متخلفة ساقطة متفككة تتعاطى المخدرات وتتمسك بالسقوط الاخلاقي, ولكن استعراض هذا الكتاب من خلال هذه الاوراق القليلة من الصعب تغطية جميع مذكرات برزان التكريتي والحقائق التي ذكرها فهي كثيرة وكبيرة لا تتسع هذه الوريقات القليلة, فارجوا كل من لا يعرف هذا النظام أن يطلّع على مذكرات برزان التكريتي ليعرف الحقيقة كاملة.


177
العقيد الركن الطيار جلال الأوقاتي.. الوطني الذي اهملهُ التاريخ
نبيل عبد الأمير الربيعي
    لا اعرف لماذا اهمل التاريخ دور قائد القوة الجوية العقيد الركن جلال الدين الأوقاتي في تغيير النظام العراقي الملكي عام 1958, هل لانتمائه اليساري, أم لمواقفه الوطنية تجاه الحكم الملكي في العراقي, لماذا لم ينِل الاهتمام في كتابات مؤرخي التاريخ من اليسار واليمين, أو من قبل المحايدين, فاليسار اعتبروه ضمن صفوفهم, والقوميون اعدوه عقَبة كبيرة في طريق غاياتهم السلطوية, فكانت أولى تصفياتهم وفي الساعات الأولى لانقلاب 8 شباط 1963م ساعة اغتياله, هي السبب الأول في نجاح الانقلاب وسيطرة القوميون والبعث على السلطة.
    قد يكون سبب اهمال دور هذا الرجل بسبب التخوف من السلطة القومية بعد الانقلاب, والانقلابات الأخرى التي أخذت الحقائق تختفي وتظهر حقائق مزيفة ارضاءً للحاكم المستبد, فكان حكام البعث يدعمون الكاتب والباحث والمؤرخ الذي يدعو لإظهار مثالب المخالف لهم في الفكر والعقيدة والرأي.
    عند متابعتنا لتأريخ هذا الرجل قبل وبعد ثورة 14 تموز 1958, نجدهُ انصرف ضمن اختصاصه في سلاح الجو, وقائداً للقوة الجوية العراقية, كما صرف كل اهتمامه لتطوير القوات العسكرية العراقية وقوات سلاح الجو, وابتعاده عن جميع المؤامرات التي تورط قادتها في اسقاط حكم الزعيم قاسم.
     ومما سجلت صفحات التأريخ لهذا الرجل من النزاهة والوطنية والأمانة في العمل, ولنزاهته كان محل ثقة الزعيم عبد الكريم قاسم, ولنزاهته لم يجمع ثروة طائلة أبان حكم الزعيم قاسم من عقود السلاح العديدة التي ابرمت مع السوفيات, ولوطنيته وحبه للآخرين اعترض على اعدام الضباط المشاركين في حركة الشواف, فلمواقف هذا الرجل الوطنية الثابتة اهمل توثيق سيرة حياته من قبل المؤرخين المؤيدين للأنظمة القومية والطائفية.
    كانت مواقف العقيد الركن جلال الأوقاتي وولائه للعراق ولشعب العراق فقط, ولاستقامته الوطنية وخدمته للجيش العراقي اغفل واهمل هذا الرجل, ولم يذكر إلاّ بكلماتٍ خجولة في صفحات بطون الكتب من تاريخ العراق الحديث, فضلاً عن أن الأوقاتي قد تخرَج من تحت يده عشرات الضباط الطيارين داخل العراق, وبزمانه كانت القوة الجوية تعد ثاني قوة في الوطن العربي بعد مصر العربية.
    يذكر ولده جعفر أن جلال جعفر الأوقاتي ولد عام 1914م في مدينة عانة, من أب عربي وأم تركمانية من الطبقة التجارية المتوسطة, تخرج الأوقاتي من الكلية العسكرية بدورتها الثانية عشر عام 1934م بترتيب الأول على دفعته, اكمل دراسته في دورة الأركان عام 1942م في لندن, ولمعارضته للحكم الملكي فصل من سلك الجيش عام 1952م(2), ساهم في مؤتمر انصار السلام المنعقد عام 1954م في بغداد, حيث رشح المؤتمر الشيخ عبد الكريم الماشطة رئيساً لهً, انظم إلى تنظيم الضباط الأحرار مطلع عام 1958م, وبعد انتصار ثورة 14 تموز 1958م وبالمرسوم الرابع من قيادة ثورة تموز عينَّ قائداً للقوة الجوية ومنح رتبة عميد بمرسوم جمهوري.
   تميز جلال الأوقاتي بانتمائه لليسار, ونشطت عائلته في هذا المجال, فزوجته ابتهاج الأوقاتي زاولت النشاط النسوي في رابطة المرأة العراقية في عهد الجمهورية الأول, وشقيقته بتول الأوقاتي كانت من ابرز الناشطات النسوية في العهد الملكي والجمهوري.
   كانت من مقولاته رحمه الله عند التفاوض والاتفاق على صفقات التسليح مع السوفيات بالمعدات العسكرية (أن الدينار الذي أخرجه من الصفقة فيه كسوة فقير عراقي), وبعد حركة عبد الوهاب الشواف في الموصل ضد حكم الزعيم قاسم, أمر الزعيم قاسم في التاسع من آذار 1959م قائد القوة الجوية جلال الأوقاتي بقصف مقر اللواء الخامس في معسكر الغزلاني, فتمَّ ذلك وانتهت مؤامرة الشواف بالفشل, وألقي القبض على المتآمرين وتمت احالتهم إلى لجنة تحقيقية برئاسة العقيد الركن هاشم عبد الجبار آمر اللواء العشرين, وحكم على المتآمرين بالإعدام ومن ضمنهم أربعة طيارين, فكان لموقف الأوقاتي رفض هذا الحكم وعُدّ أحد الأسباب للخلاف بينه وبين الزعيم قاسم, لرفض الأوقاتي تنفيذ حكم الإعدام, ولقاءاته المتكررة مع الزعيم ليثنيه عن قرار الإعدام, ولكن جهوده باءت بالفشل, وعند تنفيذ الإعدام رفض الحضور رغم توجيه دعوة لهُ من قبل القيادة السياسية(3).
    كما كانت للعقيد الركن الطيار جلال الأوقاتي مواقف متكررة ورافضة لضرب حركة تمرد ملا مصطفى البرزاني في تموز 1961م وتحشدات العشائر ومذكرتهم بإلغاء قانون الاصلاح الزراعي, فأمر الزعيم قاسم قائد القوة الجوية الأوقاتي بقصف تجمعات المشايخ وتجنب حشود الملا مصطفى البرزاني(4), ونفذت القوة الجوية الأمر وبدقة, وكان هذا الهجوم الجوي رغم تنفيذه بدقة أحد اسباب الخلاف الثاني بين الزعيم عبد الكريم قاسم وجلال الأوقاتي الذي رفض ضرب الكرد المعارضين(5).
    من خلال ما ذكرنا يتبين لنا أن العقيد جلال الأوقاتي قد التزم بكل التعاليم الصادرة من قيادة الجيش رغم عدم قناعته, ونفند المزاعم التي تذكر أن الأقاتي خطط لانقلاب عسكري على حكم الزعيم عبد الكريم قاسم(6), لأن ما عرف عن الأوقاتي عدم اهتمامه للسلطة بقدر اهتمامه لعمله وتطوير قيادة القوة الجوية والجيش العراقي.
   من المؤاخذات على العقيد الأوقاتي أنه لم يطهر سلاح القوة الجوية من القوميين والبعثيين, مما شكّلَ سبباً في انقلاب 8 شباط 1963, فكان الأوقاتي أول ضحاياه صباح يوم الجمعة المصادف الثامن من شباط 1963, وعند الساعة الثامنة والنصف صباحاً, خرج جلال الأوقاتي من بيته في منطقة كرادة مريم بصحبة ولده الصغير علي, الذي يبلغ من العمل سنتين لجلب صحف الصباح من مكان قريب, وعند العودة استوقفته مجموعة من المسلحين(7), فعلم أن غاياتهم اغتياله لذلك نزل من سيارته محاولاً الابتعاد عنها كي لا تصيب الاطلاقات ابنه الصغير, وبعد اطلاق عدة رصاصات فارق الحياة بالقرب من داره وأمام انظار ولده(8).
   وعند الساعة التاسعة قام الطيار منذر الونداوي بالتعاون مع العقيد الركن عارف عبد الرزاق وآخرين حيث سيطروا على سرب الجو السادس وتم قصف مطار الرشيد بواسطة طائرتين نفاثتين من سلاح الجو العراقي, ونفذوا الانقلاب الذي اطاح بحكومة عبد الكريم قاسم في صباح يوم الثامن من شباط 1963م.
 
المصادر
1-   الشهيد جلال جعفر الأوقاتي ... حلقة خاصة برنامج ( هذا ابي). يوم 24/9/2014
الرابط https://www.youtube.com/watch?v=PmYmMouJTJw
2-   حنا بطاطو. العراق. الكتاب الثاني. الحزب الشيوعي. ترجمة عفيف الرزاز. طهران. 2005. ص123.
3-   الشهيد جلال جعفر الأوقاتي ... حلقة خاصة برنامج ( هذا أبي).
4-   جريدة الثورة. العدد 699. ص3.
5-   الشهيد جلال جعفر الأوقاتي ... حلقة خاصة برنامج ( هذا أبي).
6-   حسن لطيف الزبيدي. موسوعة الأحزاب العراقية. بيروت 2017. مؤسسة المعارف للمطبوعات. ص120.
7-   كان على رأس القوة المسلحة البعثي (خ. ع. أ. الخفاجي) من مدينة الحلة, يتحفظ الكاتب على ذكر اسمه.
8-   حنا بطاطو. مصدر سابق. ص289.
9-   حنا بطاطو. مصدر سابق. ص289.



178
مجلة الحكمة ودورها في نشكر الفكر التنويري في مدينة الحلة
نبيل عبد الأمير الربيعي
      احتضنت مدينة الحلة رواد الفكر التنويري منذُ مطلع القرن العشرين, وبرز في هذا السياق كل من الشيخ يوسف كركوش والشيخ عبد الكريم الماشطة والصحفي رؤوف جبوري والدكتور محمد عبد اللطيف مطلب والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور أحمد سوسة والأستاذ أحمد حسون الخطاب وآخرين, وقد تمثلّت جهودهم الفكرية والتنويرية في رفد الحركة الثقافية في مدينة الحلة وإسهاماتهم في مجال الأدب والصحافة والدعوة لنشر السلام والمحبة بين صفوف الجيل الجديد في تلك الحقبة.
     وقد برز من بين هؤلاء رائد التجديد والتنوير الصحفي رؤوف جبوري, في اسهاماته الصحفية ونشر الفكر التنويري بين صفوف الشباب مطلع ثلاثينيات القرن الماضي من خلال مجلته (الحكمة) التي حازت على الريادة في ميدان العمل الصحافي في المدينة, ولدور كتابها الفاعل في إغناء الحركة الفكرية التنويرية في المدينة خاصة وفي العراق عامة في نشر الفكر اليساري والفلسفي لمعالجة قضايا علمية قد تنوعت في الاختيار.
    في هذا المقال نسلط الضور على رائد الصحافة في مدينة الحلة الصحفي (رؤوف جبوري) بسبب اسهاماته الصحفية في نشر الفكر التنويري في مدينة الحلة, رؤوف جبوري من عائلة بغدادية ولد في كرادة مريم في العاصمة بغداد عام 1911, وانتقلت العائلة بعد ولادته إلى مدينة الحلة الفيحاء لغرض التجارة, بدأ تعليمه في مدارس الحلة الرسمية, ثم تركها في الصف الرابع وارسله والده لمدينة النجف الأشرف ليكون طالباُ في العلوم الحوزوية الدينية, ثم حضر درس الشيخ يوسف كركوش الحلي في النحو في مدينة الحلة, وحضر دروس اساطين علماء حوزة النجف الأشرف, حيث مكثّ فيها عامين لينهل منها مختلف موضوعات العلوم الدينية(1), ثم عادَ إلى مدينة الحلة وسعى لتثقيف نفسه ذاتياً دونما كلل أو ملل, وحضوره دروس الشيخ عبد الكريم الماشطة مرات أخرى في دروس علميّ الفقه والأصول.
    بعد مدة من الزمن تقدم لامتحانات الدراسة الثانوية كطالب خارجي ليجتاز بنجاح الامتحان الوزاري الذي مكنهُ من دخول كلية الحقوق في بغداد عام 1939م وتخرجه فيها عام 1943م.
    ساهم رؤوف جبوري في نشر فكره التنويري أدبهُ وقصائده الشعرية ومقالاته في الصحف والمجلات الحلية والعراقية ومنها جريدة حمورابي المسائية, وكانت من ابرز نتاجاته وآثاره في تأسيس الصحافة الحلية مجلة الغد الاسبوعية التي صدرت بعد تعطيل مجلة الحكمة عام 1937م, وجريدة الحلة الاسبوعية الأدبية الثقافية التي صدرت بعد احتجاب مجلة الغد يوم 27 كانون الأول 1937.
    كانت لمجلة الحكمة أول ظهور في شهر تشرين الأول عام 1936م في مدينة الحلة, إذ ساهمت في العمل على تنوير النخبة المثقفة في المدينة, إذ قال رؤوف جبوري في صفحتها الأولى "أرادت العناية أن تتحقق الفكرة التي كنت اصبو إلى تحقيقها منذُ بضع سنوات, فمكنتني الظروف (في هذه الأيام) من إنشاء مجلة الحكمة, لتكون مناراً للأفكار الحرّة, ومشعلاً للنهضة الثقافية... وعسى أن أوفق لإنجاز هذا الواجب الخطير, وهذا كل ما أرجو تحقيقه في هذه الحياة"(2). 
    كان لاستحصاله على امتياز صدور مجلة الحكمة دور في انشاء مجلة الحكمة من لدن الحكومة المحلية في مدينة الحلة لتكون مجلة شهرية تعني بالآداب والعلوم والسياسة والثقافة والتاريخ والفلسفة, وكان رئيس تحريرها رؤوف جبوري ومديرها المسؤول المحامي جلال عبد الرزاق, ومسؤول شؤونها الإدارية حمزة الفلوجي.
    ولعدم وجود مطبعة صالحة في مدينة الحلة مما اضطر رؤوف جبوري إلى أن تطبع مجلته في مطبعة الغري في مدينة النجف الأشرف, وقد ساهم في دعم المجلة والثناء عليها متصرف لواء الحلة آنذاك أحمد زكي الخياط.
    صدر من المجلة ستة أعداد ولستة أشهر, صدر عددها الأول في شهر تشرين الأول عام 1936م وعددها السادس والأخير في شهر آذار عام 1937م, وللراحل رؤوف جبوري مواقف سياسية في حقبة ثلاثينات واربعينات القرن الماضي, منها تأييده لانقلاب بكر صدقي عام 1936, كما ساهم في المشاركة في مظاهرات مدينة الحلة تأييداً للانقلاب(3), وانتسب في اربعينيات القرن الماضي إلى الحزب الوطني الديمقراطي حتى اصبح معتمداً لفرع الحزب في مدينة الحلة عام 1948م, وانتخب رئيساً له.
    في الثاني عشر من شهر كانون الأول عام 1948م رحل الصحفي والأديب رؤوف بعد اصابته بمرض عضال وهو في ريعان شبابه مخلفاً وراءه زوجة وثلاث بنات.
مجلة الحكمة وأثرها في الوسط الثقافي الحلي
    جاءت محتويات مجلة الحكمة في موضوعاتها المتنوعة, من موضوعات لغوية وادبية واجتماعية وفلسفية وتاريخية وسياسية  ومعرفية متنوعة وبارزة, وقد ساهم رؤوف جبوري بكتابة موضوع في كل عدد صادر من المجلة, كما ساهم رواد الفكر والثقافة والأدب في كتابة المقالات فيها منهم : الشيخ عبد الكريم الماشطة, الشيخ يوسف كركوش, الطبيب رشيد معتوق, الاديب جعفر الخليلي, الاديب عبد المجيد لطفي, الاستاذ صادق كمونة, الاستاذ سلمان بيات, الباحث عبد الرزاق الحسني, الشيخ محمد علي اليعقوبي, الاستاذ عبد الامير علاوي, الاستاذ مهدي المخزومي, الاستاذ فاضل الجمالي, الاستاذ عبد الفتاح إبراهيم وآخرين , أي ما يقارب (45) كاتبا ساهموا في الكتابة في المجلة ولستة اعداد صادرة منها, وهؤلاء الكتاب يمثلون النسيج الاجتماعي للعراق ولأغلب مدن العراق منه (بغداد, النجف الأشرف, الناصرية, كركوك, الكوفة, البصرة, الرمادي), ومدن عراقية أخرى.
      تناولت المجلة الموضوعات الأدبية والتاريخية والفلسفية والاقتصادية في اعدادها الستة, فضلاً عن عددها الخامس الصادر في شهر شباط عام 1937م, وفي مقال (فوضى المجتمعات الأوروبية. بقلم ع. حسن), والمقال يدعم اهتمام المجلة في مجال الاقتصاد السياسي وتحديد العلاقة بين الاقتصاد والسياسة لمناقشة المسائل ذات العلاقة بثروة البلد دون استبعاد الاعتبارات السياسية والمعنوية والاجتماعية عن المناقشة, فضلاً عن مقال آخر تحت عنوان (كيف تأسس المجتمع الرأسمالي؟) سلطت المجلة في هذا المقال الضوء على مفاهيم ومصطلحات في مجال الاقتصاد السياسي, وتوضيح العوامل المهمة لانهيار المجتمع الرأسمالي من خلال استغلال الرأسماليين للعمال والتحكم بنتاجهم, والتناحر الرأسمالي الصادم بينهما.
    أما المقال الآخر في العدد السادس من المجلة , والصادر في شهر آذار 1937م فهو مقال من ترجمة الاستاذ عبد الجليل علي تحت عنوان (الاستعمار آخر مراحل الرأسمالية), إذ يوضح المقال عن كيفية ولادة الاستعمار وترعره في احضان الرأسمالية, مما استنتج المقال بأن الاستعمار هو آخر مراحل الرأسمالية والاستشهاد برؤية الفيلسوف كاوتسكي قائلاً "يجب أن لا نفسر ظاهرة الاستعمار كظاهرة اقتصادية, بل كظاهرة سياسية... وحينئذ نستقرئ أن الاستعمار بحاجة ماسة أو ضرورة للرأسمالية, والاستعمار نتاج الرأسمالية الصناعية المتطورة"(4), فضلاً عن أهمية مقال آخر في نفس العدد تحت عنوان (حقيقة الخلاف بين تروتسكي وستالين) لشهر آذار 1037م صفحة 431, والمقال يوضح حال التاريخ الروسي المعاصر, إذ يعالج المقال اسباب الخلاف بين القائد السوفياتي ستالين والمفكر تروتسكي, والتطرق للنظرية الماركسية ودور ادبيات التاريخ الروسي المعاصر في ثورة اكتوبر عام 1917م.
    من هذا نستنتج أن مجلة الحكمة الحلية كان لها الدور الريادي في التنوير الفكري والثقافي والأدبي والسياسي في المجتمع الحلي, والبعض يؤكد أن للمجلة دور في رفد الفكر الماركسي في المدينة فضلاً عن دور الأستاذ عباس بلال في تأسيس الخلايا الأولى للشيوعية في المدينة متزامنة مع دور الأستاذ أحمد حسون الخطاب في هذا المجال, والمجلة قد حققت رسالتها الصحفية السامية التي اعلنته عن لسان حال صاحبها الراحل رؤوف جبوري, حتى باتت من المجلات المعتدلة ذات الشأن في حقبة منتصف ثلاثينات القرن الماضي, حيث اصبحت مجلة الحكمة منبراً ادبياً ثقافياً, وفكراً حراً من خلال تنوع مقالاتها المعرفية والثقافية والتنويرية, وتحطيم ركائز الجهل والتخلف في المجتمع الحلي آنذاك.
 
 
المصادر
1-   د. صباح نوري المرزوك. رؤوف جبوري الصحفي والأديب. جامعة بابل, بلا دار نشر. 1998. ص2.
2-   مجلة الحكمة. العدد الأول. تشرين الأول 1936. السنة الأولى. رؤوف جبوري . فكرة تتحقق.
3-   عامر جابر تاج الدين. الحلة لمحات اجتماعية وإدارية وفنية 1858-1958 بغداد. دار الشؤون الثقافية. 2012م. ص269.
4-   مجلة الحكمة. العدد السادس. دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة. 2017. ص422. ملاحظة: المجلة تمت اعادة نشرها بأعدادها الخمسة في دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة بالتعاون مع مدير متحف الحلة المعاصر الاستاذ علي عبد الجليل شعابث.




179
علي الحسيني وملاحظات حول الشعر الحر والأدب
نبيل عبد الأمير الربيعي
     ضمن سلسلة موسوعة الشاعر والأديب الراحل علي الحسيني صدر كتابه الموسوم وبرعاية ولده البكر الوفي لأبيه الدكتور نصير الحسيني (ملاحظات حول الشعر الحر والأدب) عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة, الكتاب يتضمن (180) صفحة من الحجم المتوسط, والكتاب ضمن سلسة مؤلفات قد تجاوزت (14) مؤلفاً بين الشعر والقصة القصيرة والدراسة الادبية والنقدية, كما قد تم دراسة حياة ادب وشعر الراحل علي الحسيني في رسالة ماجستير في كلية التربية جامعة بابل عام 1999م.
     الكتاب عبارة عن مقالات نقدية أدبية للراحل الحسيني جمعها ولده البكر الدكتور نصير الحسيني في هذا الكتاب, والكتاب هو سرد تاريخي لمجرى الشعر الحر ومراحل تطوره والدفاع عنه, وقد اثبتت الايام صحة رأي الأديب الراحل علي الحسيني وتنبؤاته, وقد تم تقسيم الكتاب قسمين, احتوى القسم الأول, ملاحظات حول الشعر الحر, بين الشعر الحر والشعر الطلق, أثر المهجرين في تجديد الشعر, الصحافة الأدبية والشعر الجديد, السأم في شعر بلند الحيدري, عندما يلتقي الشعراء. واحتوى القسم الثاني على بعض المناقشات منها : متى تنتهي هذه القضية, في رحاب الشعر الحديث, رأيان في شاعرية العقاد, وجهة نظر / شعر ام نثر؟ الأدب والوفاء, سؤال مشروع, ما وراء الأفق في السرقة الأدبية, أثر التراث في الشعر العراقي الحديث, مقالات نقدية, التأثير العربي في الثقافة الاسبانية, وقصاد أخرى.
    في القسم الأول من الكتاب ملاحظات حول الشعر الحر وتوضيح الأسس الرئيسة التي يقوم عليها الشعر الحر, فضلاً عن بيان الأسباب التي دعت الشعراء إلى تبديل أو تطوير طريقة كتابة نتاجهم الشعري, يقول الكاتب الحسيني رحمه الله في صفحة 15 :"ونلاحظ أن اعداء الشعر الحر موجودين بين انصاره أيضاً, وهؤلاء هم الشعراء الذين يكتبون شعراً جديداً بعيداً عن مفهوم الشعر وجدته, فهم أعداء لأنهم يشوهون الشعر الحر", لذلك نستطيع القول أن حركة الشعر الحر هي امتداد لحركات التجديد في الشعر العربي.
    كما لا ننسى دور الشاعر مراد ميخائيل في مطلع ثلاثينات القرن الماضي في كتابة قصيدة الشعر الحر, المسألة التي أثارت جدلاً عاصفاً بين أوساط النقاد, وكان للشاعر ميخائيل دوراً مائزاً في كتابة الشعر الحر قبل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة, لكن هجرته القسرية قد غيبت دوره الرائد في هذا المجال, ومما سنحت الفرصة للسياب والملائكة ولدور الصحافة في اعطاء الريادة لهما في الشعر الحر, وقد اطلق الشاعر معروف الرصافي على شعره بـ(الشعر المنثور) وكانت من اغرب قصائده (نحن الشعراء) التي شارك فيها بمهرجان مبايعة أحمد شوقي أميراً للشعراء عام 1927م.
   نعود للكتاب الراحل علي الحسيني في طرح بعض الملاحظات حول الشعر الحر  والأدب, ولا ننسى ان الشاعر والناقد الحسيني قد اشار في كتابه هذا إلى أثر المهجرين في تجديد الشعر, لأن شعراء المهجر لم ينقطعوا عن الاتصال بالوطن العربي ومنهم شعراء لبنان ومصر, ولذلك اشار الحسيني في صفحة 60 من كتابه قائلاً :"أن التقنية تختلف تماماً عن التقنية في الأشعار العربية الكلاسيكية... هذا بالإضافة إلى تنوع البحور وتجزئة التفصيلات التي نشهدها", ومثال ذلك كما يكر الراحل الحسيني (أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وفدوى طوفان).
     وفي القسم الثاني من الكتاب يعقب الراحل الحسيني في صفحة 68 حول مسألة العقم والسأم في قصائد الراحل بلند الحيدري قائلاً :"يظن بعض الشعراء الشباب الذين يجترون (السأم) و (العقم) لأول مرة في مسرح الشعر العربي", هكذا نرى بلند الحيدري من خلال قصائده التي تناولها الراحل الحسيني في الرؤية الضبابية والدخانية في قصائده دون أن يجد منفذاً.
    وقد تضمن الكتاب مناقشات وحوارات حول رأي الراحل الحسيني في شاعرية العقاد, وحول الكم الوافر مما نشره القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي, ووجهة نظر الحسيني بالشعر الحر والشعر العمودي, ورأيه حول مقالات الاستاذ علي الحلي والشاعر كاظم جواد التي نشرت في مجلى الاقلام في تشرين الأول 1984م, ومقالة الدكتور علي جواد الطاهر وفاءً للمرحوم طه الراوي, ومقالة الأديب حسب الشيخ جعفر, وهناك عدة مقالات نقدية قصيرة للأستاذ نجيب المانع قد سلط الضوء عليها الراحل علي الحسيني في هذا الكتاب.
    الكتاب يعتبر مهماً جداً في هذه الحقبة الزمنية, وما قدمه الراحل الحسيني رحمه الله من ملاحظات حول قصيدة النثر والقصة القصيرة خلال حقبة الثمانينات.

180
موقف الحزب الشيوعي العراقي من إسقاط الجنسية عن يهود العراق
نبيل عبد الأمير الربيعي
جرت أحداث داخلية كثيرة في العراق كان للحزب الشيوعي مواقف ووجهات نظر مختلفة تجاهها, ومن تلك الأحداث مسألة إسقاط الجنسية عن يهود العراق وفسح المجال أمام هجرتهم إلى فلسطين, فمن المعروف أن اليهود شكلوا واحداً من النسيج العراقي ولهم مساهماتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية للعراق(1).
ومنذُ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في آب 1921م شاركوا في المجلس التأسيسي العراقي وحدد القانون الأساسي عام 1925م أربعة أعضاء منهم في مجلس النواب الذي كان عدد اعضائه (ثمانية وثمانين) عضواً, وواحداً في مجلس الأعيان من عدد أعضاءه البالغ (عشرين) عضواً, ارتفع هذا العدد إلى ستة نواب عام 1946م, كما ساهموا في عدد من الحقائب الوزارية(2).
وبتخطيط منظم ساهمت الدائرة البريطانية وبعض المسؤولين العراقيين عقب إعلان تقسيم فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل ولتحفيز اليهود على الهجرة, ومما يجدر ذكره أن بن غوريون قال سنة 1949م "أن هدفنا في بدايته يقوم على جلب اليهود إلى إسرائيل, نطلب من الآباء مساعدتنا بإحضار أبنائهم إلى هنا, فلو رفضوا المساعدة فنحن سنحضر الشباب إلى إسرائيل(3).
وبمشورة بريطانية افسحت الحكومة العراقية المجال لهجرة من يشاء من يهود العراق إلى فلسطين, على الرغم مما يسببه مثل هذا العمل في تقوية إسرائيل من جهة وارباك الاسواق التجارية التي يهيمن عليها اليهود في العراق من جهة ثانية, فقد كانت الهيمنة اليهودية على الاقتصاد العراقي نافذة منذ عام 1948م على سبيل المثال كانت 20% من واردات العراق بيد اليهود, و5% من عقود العراق بيدهم, و2% من الصادرات بيدهم(4).
وهذا ما جرى إبان وزارة توفيق السويدي الثالثة, ضمن مشروع قانون قدم إلى مجلس النواب في الثاني من آذار 1950, نص القانون في المادة الأولى "لمجلس الوزراء أن يقرر إسقاط الجنسية العراقية عن اليهودي العراقي الذي يرغب باختيار منهُ ترك العراق نهائياً بعد توقيعه على استمارة خاصة أمام الموظف الذي يعينه وزير الداخلية", وصدر القانون بعد إطلاع صالح جبر وزير الداخلية أركان السفارة البريطانية عليه(5), ولم ينته عام 1950م حتى سجل (90) الف يهودي اسمائهم لمغادرة العراق وسمح لكل واحد أن يأخذ معه (50) ديناراً, ونقلتهم إلى داخل إسرائيل شركة نقل جوية امريكية بالاتفاق مع الوكالة اليهودية(6).
أيد سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بهاء الدين نوري في بادئ الأمر قرار الحكومة العراقية, إذ يشير في مذكراته حرفياً :"اتخذت بصفتي سكرتيراً للحزب موقف التأييد لإطلاق حرية الهجرة لليهود العراقيين منطلقاً في ذلك من حقيقة أنهم مضطهدون في العراق, وان حرية الهجرة قد تكون طريقاً لتحررهم من هذا الاضطهاد فضلاً على أنه من حق الانسان أن يعيش حيثما يرغب وبعد مدة غيرت موقفي هذا وأدنت القانون الصادر عن حكام بغداد باعتباره تواطؤاً مع الاستعمار والصهيونية"(7).
فقد عارض الحزب الشيوعي العراقي ذلك القانون, وكتبت جريدة (القاعدة) :"إن اصدار لائحة إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين لبث روح الكراهية وتفرقة الصفوف وإثارة النعرات الطائفية, وإن هذه اللائحة الجديدة تساعد اليهود العراقيين على مغادرة البلاد وتعود اسبابها إلى اتفاق مسبق ومساومات بين الاستعمار الانكلو- امريكي على اقتسام أرض فلسطين وضم القسم العربي منها إلى مستعمرة الاردن وتثبيت السيطرة عليها من إسرائيل(8).
وعبرَّ أحد قياديي الحزب الشيوعي عن رأيه بذلك القرار وعملية نقل اليهود بأنها جرت بالتواطؤ مع الاستعمار من أجل تقوية دولة إسرائيل, واعتبرها تلبية واضحة لطلب بن غوريون بالمسارعة إلى حشد أكبر عدد من يهود العالم في إسرائيل(9).
كما أن معظم من هاجر كان من المثقفين والشباب والمهنيين والأطباء والمحامين وكانوا قوة بشرية وطاقة علمية لخدمة إسرائيل(10).
لكن بيان الحزب اعتبر قانون إسقاط الجنسية تكريساً للكراهية والأحقاد, كما هاجم التنسيق الانكلو – امريكي بالتعاون مع الحكومة العراقية لتقسيم فلسطين وتقوية إسرائيل, ومما تجدر الإشارة إليه أن الحزب الشيوعي العراقي وقف موقفاً مناهضاً من الحركة الصهيونية, وتكفي الإشارة إلى أن أحد قيادتها نشر كتاباً بعنوان كفاحنا ضد الصهيونية(11).
كانت للحزب الشيوعي العراقي مواقف وآراء إزاء العديد من القضايا العربية والدولية وكان من بين أبرز القضايا قضية فلسطين, واللافت للنظر أن ذلك الموقف يتناقض مع توجهات الشعب العربي في كل أقطاره, ففي مقال لجريدة القاعدة دعا الحزب الشيوعي العراقي إلى الصلح مع إسرائيل وأكد محبته للشعب اليهودي الشقيق وأبدى أسفه للظروف غير الاعتيادية التي تمنع تلاقي الاشقاء, وتطرق إلى أمر لا يمت إلى الشعب العربي بصلة عندما أشار إلى "أن شعوبنا العربية تكن للشعب الإسرائيلي الشقيق أخلص الاحترام والأخوة الصادقة, أما الظروف غير الاعتيادية الموجودة في الوقت الحاضر فهي ليست تعبيراً عن وجهة نظر واتجاه الشعوب العربية وشعب إسرائيل, ولهذا فإن الشعوب العربية تناضل ببسالة جنباً إلى جنب مع الشعب الإسرائيلي لإعادة العلاقات الأخوية الصادقة(12).
وفي ضوء منطلقات وفكر الحزب الشيوعي العراقي فإنه ربط قضية فلسطين واطماع المستعمرين عندما عدَّ أن الغاية الأساسية لإبعاد القضية الفلسطينية, هو أن تتخذ الدول الاستعمارية من هذه القضية "قميص عثمان" ولتكون ذريعة لضرب الحركات الوطنية التحررية وتصفية الحريات الديمقراطية وفرض مشاريعهم العدوانية على الشعوب العربية والنيل بهدف تقييدها(13).
إن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي أصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخ العراق وتراثه, شأنه شأن العديد من الأحزاب والتنظيمات السياسية التي راجت وماجت فوق ترابه الوطني, ولنستفيد في المستقبل من تجارب الماضي ونبني وطناً قوياً.


المصادر
1-سيف عدنان ارحيم القيسي. الحزب الشيوعي العراقي من إعدام فهد حتى ثورة 14 تموز 1958م. دمشق. دار الحصاد. ط1. 2012. ص87.
2-جعفر عباس حميدي. التطورات السياسية في العراق 1941- 1953. مطبعة النعمان. النجف.ط1. 1976. ص626/627؛ سيف عدنان ارحيم القيسي. الحزب الشيوعي العراقي من إعدام فهد. مصدر سابق. ص87.
3-صادق حسن السوداني. النشاط الصهيوني في العراق 1914- 1952. دار الشؤون الثقافية. بغداد. 1980. ص147/182.
4-صادق حسن السوداني. النشاط الصهيوني في العراق. مصدر سابق. ص25.
5-عبد الرزاق الحسني. تاريخ الوزارات العراقية. عشرة اجزاء. دار الشؤون الثقافية. بغداد.1988. ج8. ص156.
6-ستيفن همسلي لونكريك. العراق الحديث من 1900- 1950. ترجمة سليم طه التكريتي. جزآن. الفجر للنشر. ج2. بغداد. 1988. ص590.
7-بهاء الدين نوري. مذكرات بهاء الدين نوري. مطبعة جامعة صلاح الدين. السليمانية. ط1. 1995 . ص91.
8-جريدة القاعدة. العدد 2. السنة الثامنة. آذار 1950. ص1؛ سيف عدنان ارحيم القيسي. الحزب الشيوعي العراقي. مصدر سابق. ص89.
9-عبد الرزاق الصافي. كفاحنا ضد الصهيونية. منشورات طريق الشعب. بغداد. 1977. ص50.
10-محمد حسن سلمان. صفحات من حياة محمد حسن سلمان. الدار العربية للموسوعات. بيروت. 1985.ط1. ص246.
11-سيف عدنان ارحيم القيسي. الحزب الشيوعي العراقي. مصدر سابق. ص90.
12-سيف عدنان ارحيم القيسي. الحزب الشيوعي العراقي. مصدر سابق. ص161/162؛ جريدة القاعدة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. العدد 9. تشرين الأول 1953؛ فكرت نامق عبد الفتاح. سياسة العراق الخارجية في المنطقة العربية 1953- 1958. دار الرشيد. بغداد. 1981. ص189.
13-فائق بطي. صحافة الحزب وتاريخ الحركة الوطنية. مطبعة الاديب. بغداد. د. ت. ص147.





181
(الأوضاع العامة في العراق 1958-1963 من خلال جريدة الثورة البغدادية )
للدكتور صالح عباس الطائي
بقلم: الدكتور عبد الرضا عوض
ان الاصلاحات التي بدأها عبد الكريم قاسم واغاضت مناوئيه في مستهل حكمه ما زالت نافذة ومهمة ، وبالرغم من كثرة الدراسات والاصدارت إلاّ انها لم تفي ذلك بما طبع عليه من اخلاص ونزاخة ووطنية ، في وقت تنامى الزخم الثوري وراح يتجدد. وقد شجع الالتزام الكبير من جانب الطبقات المتعلمة المتنامية على القيام بعملية التغيير؛ والحركة نحو الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي إذ هيمنت عليها في البدء الرغبة بالتحرر من السيطرة الأجنبية ، السياسية والاقتصادية، وتحقيق السيادة على موارد البلاد. ويتمثل الأمر الثاني في الحث على تحقيق عدالة اجتماعية تركز تركيزاً رئيساً على توزيع أكثر عدلاً للثروة والفوائد الاجتماعية ، ويقيناً أن الصحف – ومنها الثورة – كانت موالية لسياسة الزعيم إلا انها نشرت الحقائق كما هي دون زيف ، من ذلك قد يكون عمل الدكتور صالح الطائي هو الرائد في هذا المجال حينما تناول صحيفة الثورة البغدادية للسنين 1958-1963م  بدراسة تاريخية أقل ما يقال عنها إنها منصفة لذلك العهد إذا ما قورن بالعهود التي تلت شباط 1963م ، وكيفية التفنن في تبديد ثروة العراق بطرق غريبة هي اقرب الى الخيال من الواقع .
 عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة صدر كتاب (الأوضاع العامة في العراق 1958-1963 من خلال جريدة الثورة البغدادية ) ، وهو من تأليف الأستاذ الدكتور المساعد صالح عباس الطائي ، يقع الكتاب في (380) صفحة من الحجم الوزيري ضم بين دفتيه تمهيد وأربعة فصول وخاتمة ، فضلاً عن ملاحق بالوثائق والقرارات الرسمية.
ونحن إذ نثمن الجهد العالي الذي بذله المؤلف في كشف الغبار عن احداث نشرت في صحف ذلك الزمان ، لا بد لنا من استعراض هذا المنجز المميز.
في الصفحات الأولى كان الإهداء الى ولده الشهيد سيف الدين الطائي وابن شقيقته مرتضى صابر العكيلي ، وهذه اشارة بفقد فلذة كبده وهو يافع عن هذا الوطن وما تحمله من تداعيات بسبب هذا المصاب .
وفي المقدمة يبين الباحث مدى اندفاع رئيس تحرير صحيفة الثورة يونس الطائي في تأييد سياسة عبد الكريم قاسم ، فقال: (أحدثت تلك الخلافات عدم استقرا في أوضاع العراق فأنعكس ذلك على الصحافة التي تمتعت بالحرية في أيامها الأولى ، وعبرت عن نشاط الأحزاب المتصارعة التي سعت الى جر العراق الى الاتجاه الوحدوي وتحت قيادة الجمهورية العربية المتحدة) من المقدمة.
وجاء التمهيد الذي استعرض فيه الباحث الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمدة 1945- 1958 ، وهي المدة الساخنة التي سبقت الثورة ، فيقول : (كانت الأيام التي اعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية ذات أهمية كبرى في تشديد المعارضة ضد التواجد البريطاني والنظام الملكي في العراق ، كما شهدت تلك الحقبة فسحة من الحرية الصحفية...) ص18 .
وتحت عنوان يونس الطائي وجريدة الثورة البغدادية جاء في الفصل الأول في المبحث الثاني بيان قوة علاقة يونس الطائي مع الزعيم عبد الكريم قاسم بعد فتور أصابها بعد اعدام المتآمرين في قضية الشواف، فذكر : (بعد أن ضرب الزعيم في شارع الرشيد واصابته بطلق نقل الى المستشفى فسارعت بالذهاب الى هناك وكان نائماً على فراش على الأرض ، فهنأته بالسلامة، وبعد قليل طلب مرافقوه من الزوار الخروج لفسح المجال لزيارة شقيقة الزعيم لأخيها ، أمر الزعيم قائلاً : يونس الطائي يبقى.).ص82 ، وكان المبحث الثالث منصباً على سعي يونس الطائي للخروج بالزعيم من شرنقة الأحزاب والكتل السياسية بالترويج لتشكيل حزب سياسي جديد يقوده الزعيم.
وجاء الفصل الثاني بخمسِ مباحث تكرست في مناقشة الأوضاع العامة من شهر تشرين الثاني 1958- يوم 7 شباط 1963م ، فناقش المحاولات الانقلابية التي سبقت يوم 8 شباط 1963 ، بدءاً من خلافاته مع عبد السلام عارف ومحاولته قتل الزعيم في (قضية المسدس الشهيرة) (1958) وما رافقها من تداعيات ، وتناول موقف وتحركات رشيد عالي الكيلاني وعودته من مصر ، ثم حركة العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل(1959) ، ومطالبة الزعيم بضم الكويت الى العراق (1961) ، مستهلاً البحث بالقول: (كانت الحكومة العراقية السابقة ترنو الى استعادة الكويت منذ عهد الملك غازي ، كما طرح نوري السعيد الموضوع نفسه)،ص164، وأخيراً تناول الباحث تمرد مصطفى البارزاني في شمال العراق.
وسلط الضوء في الفصل الثالث على انجازات ثورة 14 تموز 1958 ، فكانت له وقفة مع (الثورة الكبرى) ألا وهو قانو الاصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958 ، والخطاب التاريخي للزعيم عبد الكريم يوم أعلان قانون الاصلاح الزراعي قائلاً : (ان الثورة المجيدة التي انبثقت من ارادة الشعب يوم الرابع عشر من تموز 1958، انما هي ثورة سياسية اجتماعية معاً.. وضمان العدالة بين أبناء الشعب كافة...)ص210 . ومن مكتسبات الثورة قانون النفط رقم (80) لسنة 1961م ،وقد كتب يونس الطائي في العدد (600) من جريدته (الثورة) ، حول النفط ولزوم تأمينه والسيطرة على الأماكن التي لم تستثمر بعد أن ذكرت أهم مواد القانون مشيراً الى قول الزعيم : (سيأتي يوم قريب يحتار به العراقيون عن كيفية صرف الأموال التي ستجنى من النفط)،ص233 .
وجاء المبحث الثالث كيفية قيام البنى التحتية الصناعية في العراق من خلال عقد الاتفاقية الشهيرة بين العراق والاتحاد السوفيتي آنذاك التي وقعت في وزارة الخارجية العراقية في نيسان 1959م ، وقدم الباحث قائمة بالمشاريع الصناعية المنتشرة في العراق والتي تم دراستها وطرق تنفيذها ، وبذلك عدها المراقبون بأنها القاعدة الصناعية الكبرى للعراق، ص266 .
وسلط الباحث من خلال قراءته لجريدة الثورة في الفصل الرابع الضوء على مشاريع التطوير الاجتماعي التي حصلت للسنين 1958-1963/ ، منها :
-         مشاريع الإسكان التي نفذت في فترة قياسية في مختلف المدن العراقية ، كذلك توسيع طاقة ميناء البصرة والاهتمام بالسدود التي تحفظ المدن من الغرق وأهمها سديّ (دوكان ودربندخان).ص286 .
-         تطور التعليم عما هو عليه في العهد الملكي من خلال اعادة النظر بالمناهج الدراسية ، والاهتمام بالوضع العام للطلبة وزيادات البعثات للدراسة خارج العراق.
-         وتناول المبحث الرابع التطور الصحي في مراكز المدن والقرى العراقية.
-         وكان المبحث الرابع منصباً على (قانون الأحوال الشخصية لسنة 1959م) النافذ المفعول والذي لم ينته الجدل عنه حتى أيامنا هذه ، فقد وقفت المرجعية الدينية منه موقف السلب وما زالت تؤكد على الغائه أو اجراء التعديل عليه، وكان من معطياته الغاء المحكمة الجعفرية والعمل بظل هذا القانون.
وانتهى الكتاب بخاتمة قال فيها: (تواصلت وتفاعلت جريدة الثورة مع ما حصل من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية طوال حكم عبد الكريم قاسم بالمقالات الافتتاحية التي يحررها يونس الطائي رئيس تحريرها التي ساندت ودعمت سياسة عبد الكريم قاسم آنذاك.
وعزز الباحث الكتاب بمصادر رصينة وأمينة فضلاً عن حشده لأعداد من الصحيفة.
في الوقت الذي نبارك جهد الدكتور صالح الطائي نؤكد بأن هذا الكتاب وثيقة مهمة طالما غيبت عن الانظار فهو جدير بالقراءة والتمعن لما فيه من معلومات سياسية لم يسلط الضوء عليها.



182
المحامي يعقوب عبد العزيز... رجلٌ تسامى في عالمٍ متهالك
نبيل عبد الأمير الربيعي
      ولد عام 1910 في الأعظمية, تعلم في حلقة دينية اللغة العبرية ثم التحق بالمدارس الحكومية, درس المحاماة وتخرج في منتصف الثلاثينيات, وفي هذا الأثناء كان يعمل نهاراً مدرساً للغة العربية في مدرسة منشي صالح ويدرس المحاماة مساءً. تزوج عام 1949م من إيلين إبراهام شماشا أنجبا ولدين وبنتين ليندا – كمال – فؤاد – وفيفيان, عام 1965م قتل ابنهُ كمال وهو في الخامس عشر من عمره في حادث باص مدرسة فرنك عيني. زاول المحاماة ومن الشخصيات البغدادية التي كان موكلاً عنها كل من : شركة سيارات شفروليت، سارة خاتون الأرمنية، ماري قنواتي مديرة مدرسة مناحيم دانيال.
      كان مستشارا مدة زمنية قصيرة للطائفة الموسوية برئاسة الحاخام ساسون خضوري, وعشية عيد راس السنة العبرية عام 1969م تكفل عددا كبيرا من اليهود الذين تم إلقاء القبض عليهم وهم يحاولون الهروب من العراق عن طريق الشمال بمساعدة عدد من المحامين المسلمين.
      في نهاية شهر كانون الأول من عام 1970م تم استدعاؤه من قبل مديرية الأمن العامة, بسبب هروب ابنته ليندا وابنهُ فؤاد إلى إيران للتحقيق معهُ عن تفاصيل الهروب التي كان يجهلها. تم اعتقاله في مطلع عام 1971م لمدة شهرين ونصف الشهر مع عدد من اليهود, ثم أفرج عنه بمساعدة رئيس محكمة التمييز آنذاك الذي كانت تربطهُ صداقة به(1).
      عشيَة عيد الغفران من عام 1972م تمَّ اختطافه وهو ذاهب للصلاة كعادته في الكنيس, وحاول رئيس الطائفة آنذاك مير بصري الاستفسار عنهُ في وزارة الداخلية فجاء الرد أنه غادر العراق, فغابت أخباره ولم تعرف عائلته لحد الآن مصير جثمانه(2).
      ستةٌ وأربعون عاماً خَلَت على اختفاء المحامي يعقوب عبد العزيز, وبعد هذه الفترة الطويلة لاختفائه ورحيل سلطة الدولة السرية وأزلامها لم يندمل جرحُ اختفائه, ولكنَ الجرح ما يزال مفتوحاً بسبب متابعة عائلته وأبنته لندا لأخباره وأسباب تغييبه في زنازين أنظمة البعث, وأكد الظن أن سبب اختفائه هو ديانته اليهودية و كونه مستشاراً لفترةٍ زمنية قصيرة للطائفة الموسوية برئاسة الحاخام ساسون خضوري.
    أختفى المحامي يعقوب عبد العزيز أسوةً ببقية من اختفوا من أبناء الديانة اليهودية مطلع سبعينات القرن الماضي, أو من اعدموا شنقاً على أعواد المشانق من الأبرياء من أبناء هذه الديانة وعلقت اجسادُهم في ساحة التحرير وإعلان الحكومة في ذلك الوقت يوم عطلة رسمية ليشارك رعاع الشعب بهذا الكرنفال والتشفي بقتل أبناء العراق من الوطنيين, وكانت التهمة جاهزة هي مؤامرة التجسس لصالح إسرائيل, فأيَّ كراهية يحملها هذا النظام اتجاه أبناء العراق, الذي أمتَدّ على وجودهم في بلاد الرافدين زهاء أكثر من 2500 عاماً.
      اختفى يعقوب عبد العزيز وترك زوجة وولداً وابنتين, وبعد هجرة عائلته عبرَ الطرق السرية من العراق جُمدَت اموالهم المنقولة وغير المنقولة, إذ تتذكر ابنته الإعلامية والناشطة المدنية (لندا) قائلة(3) :"بعد أقل من عامين على هروبي أنا وأخي أولاً ومن ثم والدتي وأختي الصغيرة إلى إسرائيل عن طريق إيران فُقدَت آثار والدي, ولم نتمكن من الاستفسار عن مصيره ونحن في إسرائيل (دولة العدو), إنّ عدم محاولتي أن اتعامل مع الخسارة نظراً لوجودي في بلدٍ جديد يطرح تحديات لا حصرَ لها أمامي في تلك الفترة. لكن لم اسلم ابداً بحقيقةٍ القضاء على والدي فقط لكونه يهودي... في الأسبوع الأخير دق بابي أمرٌ مهيب : مؤتمر يدعو للاعتراف باليهود الذين هجرًوا أو اسقطت عنهم الجنسية كلاجئين, أي رسوم معادلة متساوية في التعويضات اسوة باللاجئين الفلسطينيين... اليهود والفلسطينيين كانوا ضحايا المعاناة, نحن يهود الدول العربية دفعنا ايضاً ثمناً باهظاً, لكن نشأنا على الكتمان, وقد أفاجيء البعض عندما اقول إننا نتعاطف ايضاً مع مقولة الشاعر الفلسطيني محمود درويش (وطني ليس بحقيبة وأنا لستُ بمسافر).
    حكومة المنظمات السرية سعت آنذاك إلى إخفاء مكان والدي وجسده, ورفضت الكشف عن مصيره في حينها أو مكان احتجازه, وعائلته يعانون أقسى المعاناة لأنها لا تعرف مصيره, ويتساءلون هل سيفرج عنهُ في ظل الظروف والملابسات الغامضة؟ كانت عائلته تتطلع إلى عودته ورؤيته سالماً, لكن قلقهم كان يكبر خصوصاً زوجته واطفاله.
     اختفى المحامي يعقوب عبد العزيز في دوائر الأمن ودهاليز السجون السرية بعد دفاعه عن مجموعة من ابناء جلدته كونه محامياً قديراً, كان على رأس دوائر الأمن, أزلام ذلك النظام المرعب المدعو ناظم كزار المعروف بساديته في التعذيب واخفاء جثثهم في أحواض التيزاب, وجراء ذلك اختفى الكثير من المعارضين للنظام في هذه الأحواض, كان ازلام السلطة واجهزتها الأمنية والمخابراتية التنفيذية يراهنون على النسيان, نسيان عائلة المغيّب يعقوب عبد العزيز تدريجياً, بل قد تصبح مجرد ذكرى, ولذلك نراهم يعمدون إلى التعتيم, لكن صدى الذاكرة لا يصدأ, إلا أن الفاعل والجاني يعتقد بعدم الاستدلال عليه في مقابرهم الجماعية خلف سجن أبي غريب أو قرية السكران, ولكن الاستدلال على رئيسهم ورئيس نظامهم المرعب وشيطانهم وراعي جرائمهم جرائم القتل والتغييب استدل عليه الأمريكان في حفرةٍ عفنة في تكريت, وأخرجوه كالجرذ الخائف المرعوب, ووضع أحدهم حذاءه العسكري على رأسه الكثيف الشعر, هذا الجبان الذي أرعب أبناء العراق, وجد مخذولاً خائفاً في حفرةٍ قذرةٍ, صاحب القلب الغليظ ومن مؤسسي دولة المنظمات السرية في العراق.
    كان ازلامه من يترصدون ضحاياهم ومراقبتهم ليتم معرفة تحركاتهم والتخطيط لعملية الاختفاء دون ترك أي دليل يثبت إن الاختفاء كان على يد الأجهزة الأمنية العراقية.
    المحامي يعقوب عبد العزيز كانَ شاهداً على التاريخ, تاريخ الاعدامات والعذاب والضحايا وقرابين ابناء الديانة اليهودية المسالمة التي رفضها وابادها التيار القومي العروبي البعثي, بسبب وطنيتها والتصاقها  بأرض الرافدين.
      يعقوب عبد العزيز لم يكن متآمراً, ولا حاملاً للسلاح, ولم يكن صاحب عملٍ سري في منظمة سرية, بل اختفى في وضح النهار على أيدي جلاوزة النظام واجهزته الأمنية, كما لم يكن متستراً بسواد الليل, فلماذا غيب من قبل اسياد البعث, فهو أحد ضحايا البعث ولا نعلم هل تمت تصفيته وفي أي اسيد أذيب جسده, كما ذوبوا جسد أحد معارضي النظام من التيار اليساري, وأنا أتساءل هل قتل عبد العزيز كونهُ وطنياً ومحباً لشعبه وابناء بلده وطائفته, أم قتل لأنه يدافع عن حقوق الضعفاء, أم قتل بسبب انتمائه لأرض الرافدين من قبل أزلام دولة المنظمات السرية, أم قتل بسبب مزاحمتهم على كرسي السلطة؟ لم يكن يعقوب بد العزيز يزاحمهم على كرسي الحكم.
     أبكيك يا أبن بلدي في هذا الوطن المخيف, أبكيك لإنسانيتك واخلاصك, أبكيك كونك إنساناً مثقفاً عزَّ علينا نظيره ونحن نعيش اليوم بين عراقيين يتباهون بالسلطة والوجاهة وحب الظهور, لكن التاريخ لم ولن يسجل عن هؤلاء الحكام وأولئك أي شيئاً, بل سيسجل لعبد العزيز وأمثاله الكثير.
     إن اختفاء المحامي يعقوب عبد العزيز يبقى وصمة عارٍ في جبين البعث وسلطته وزبانيته, فقد غيبت السلطة قانونياً لامعاً ومواطناً أبياً قاوم الظلم والطغيان, كما غيبت السلطة الكلمة الملتزمة والمواطنة الشريفة, رحل عبد العزيز يعتصرهُ الألم لضياع وطنه, واختفى إلى الأبد تاركاً الأقاويل عنه وعن مصيره الغامض إلى الأبد, كم كان مفرحاً عائلته وأصدقاءه والجميع حين يجدونه وهو عائد إليهم من بغداد.
     إنها حكاية احاول أن أنهي بها ورقتي هذه التي أراها شهادة وفاء لحامل ميزان العدالة المبكرة, إذ كان في وسط دور العدل معروفاً, ولكن الأضواء لم تسلط عليه عند غيابه خوفاً من ازلام النظام وعيون الأمن, فضلاً عن أنه كان يملأ الدنيا مواقفاً شجاعة مشهوده له في الدفاع عن الحق, وإذا النظام استطاع أن يغيّب جسده فهو لم يستطع أن يمحو ذكراه التي تعيش في الحنايا والضلوع.
     إن سلطة غاشمة تعمل على طمس رجل العدالة لم تتمكن من ذلك, لأن الأيام هي الدليل على سطوع اسم يعقوب عبد العزيز , فارتفاع اسمه على كل لسان, وفي كل ذاكرة خيرة, لكن ازلام السلطة بعد ثلاثة عقود من الحكم سقطوا في وحل الابتذال وشراء الذمم, ويعقوب عبد العزيز عاش لمبادئه وصدق موقفه, وهو حي بيننا بينما الأحياء الذين اماتوه هم الموتى حقاً.
     في يوم رحيلك أبى لندا دمعت العيون من قبل الأصدقاء, وبكتك القلوب, ومن تبكيه القلوب يظل حياً أبداً.
 
           
 
المصادر
1-   رسالة ابنتهً الصحفية لندا يعقوب عبد العزيز منوحين للكاتب نبيل الربيعي بتاريخ 30/5/2016.
2-   نبيل عبد الأمير الربيعي. معجم اعلام يهود العراق. الحلة. دار الفرات للطباعة والنشر والإعلام. ط1. 2016. ج2. ص32/33.
3-   لندا يعقوب عبد العزيز. مقال على موقع الحوار المتمدن بتاريخ  27/9/2012م.



183
يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد الجمهوري / الحلقة السابعة عشر والأخيرة
نبيل عبد الأمير الربيعي
      خلال عهد ثورة 14 تموز 1959م وزعيمها عبد الكريم قاسم, منح اليهود الحرية الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات, إلا أن المثلبة الوحيدة في حكمة كان بحق اليهود هو تأميم مقبرة اليهود في بغداد عام 1961م.
      تمكنت اعداد من الأسر مغادرة البلاد بصورة مؤقتة, لكن لثورة تموز 1958 قد بدأت الحياة ليهود العراق تتغير إذ شوهد الزعيم قاسم يحضر الحفلات اليهودية, وزيارته المستمرة للحاخام الأكبر ساسون خضوري واعتماد أن ابناء العراق جميعهم متساوون أمام القانون وسمح لهم بالسفر والعمل التجاري, لكن انقلاب 8 شباط 1963م الذي طاح بحكم الزعيم قاسم اعاد اجراءات القمع المريرة مرة اخرى, وقام عبد السلام عارف بمصادرة المتبقي من المقبرة اليهودية, واتخذ سلسلة قرارات بحقهم منها حرمانهم من جوازات السفر ومنع ابنائهم من الدراسة الجامعية, وتجريد المسافر من يهود العراق من الجنسية اذا لم يعد بعد ثلاثة اشهر, حتى تم هروب ابناء الطائفة عبرّ الحدود العراقية الايرانية, ولم يبقى من ابناء الطائفة إلا (3350) نسمة في العراق وثم تقلص هذا العدد.
      وقد اطاح انقلاب عام 1968م بالحكومة القومية العارفية بزعامة البعث فكان مصير يهود العراق الشنق العلني الذي ارسل لحظة خاطفة من قشعريرة الرعب, ففي حكم البعث وبعد انقلاب 17 تموز 1968م, قاد قادة البعث حملة وحشية بحق ابناء الديانة اليهودية, ففي نهاية حرب الأيام الستة, بدأت عمليات الاعتقالات والخطف من الشوارع والتعذيب في سجون ناظم كزار مدير الأمن العامة, ثم بدأت الحملة التعسفية لإرهاب ابناء الطائفة اليهودية, منها ما حصل يوم 27/1/1969م إذ شنق تسعة من اليهود كان من بينهم فتى في سن السادسة عشر عاماً مع مجموعة من ابناء الطائفة الشيعية والديانة المسيحية بتهمة التجسس لصالح دولة إسرائيل, كما قام النظام بطرد اليهود من وظائفهم وحرمانهم نهائياً من السفر, وتجميد حساباتهم المصرفية, وإلغاء رخص تجارتهم وقطع خطوطهم الهاتفية, مما زاد من عمليات الهروب من العراق للفترة من عام 1971م وعام 1973م بمساعدة المهربين من القومية الكوردية عبرّ اراضي كردستان العراق إلى إيران, حتى وصل عدد ما تبقى من يهود العراق اليوم (12) فرد من كبار السن, وبعض العوائل تحولت إلى الديانة الاسلامية خوفاً على حياة أبنائها, وبسبب حملات العنف والاضطهاد والتعسف لا يجد ابناء الطائفة اليهودية ملجأ لهم إلا الهرب نحو إسرائيل, أو دول أوروبية أخرى.


184
يهود العراق والهوية الوطنية.. دور يهود العراق في مجال السينما / الحلقة السادسة عشر
نبيل عبد الأمير الربيعي
     دور السينما في العراق لها تأريخ عريق ونقل يهود العراق بسبب احتكاكهم بالحضارة الأوروبية وثقافتهم ومعرفتهم باللغات الغربية، الفنون الثقافية بكل تفرعاتها إلى بغداد ومدن العراق الاخرى. ومن هذه الفنون، السينما، إذ اهتم يهود العراق باستيراد الافلام وإنشاء دور عرض الافلام السينمائية. هناك الكثير من الشركات التي كان يمتلكها اليهود سيطرت على السينما في العراق.
     لقد ساهم يهود العراق في مجال دور السينما, ويذكر البروفسور سامي موريه عن دور يهود العراق في بناء دور السينما قائلاً :"لقد ساهمت اسرة ساودئي وبيت مسيّح في شارع الرشيد، مجمع سينما روكسي على أنقاض ثكنة عسكرية, وأنشأت أسرة شولايو دار سينما الوطني, وكذلك أسرة طانيوس في بناء دار سينما الزوراء, وأسرة عزار أسست سينما غازي في عام1937م من قبل شاؤل وكامل قوبي, وشاركت أسرتا جورجي أيام والدوري بإنشاء سينما الرافدين, كما سارع الأخوان صهيون ويعقوب شالوم ببناء سينما التارج, وحتى السينما المركزية تم تأسيسها من قبل عائلة يهودية وهي التي اتهمت بعرض أفلام اثارت غضب المسلمين المحافظين والصحافة القومية, كما أسست أسرة سودائي أول شركة لصناعة الأفلام في العراق, وكان أول فلم انتج في العراق هو عليا وعصام, والذي قدمه ستوديو بغداد والتاج للإخوان سودائي, وقد نجح الأخوان بإنتاج افلام أخرى مماثلة". 
    وكذلك شركة السينما البغدادية، التي تأسست سنة 1934 شركة مساهمة برأسمال قدره (34،310) دينار عراقي من قبل أربعة من يهود العراق قيمة السهم الواحد عشرة دنانير موزعة إلى (3431) سهم. كان أول عرض لفيلم سينمائي في العراق ليلة 26 تموز1909 في دار الشفاء بجانب الكرخ وبعد مرور عامين شهدت منطقة (العبه خانة) عرضاً آخر نظمه تاجر يهودي متخصص في استيراد المكائن اسمه "بلوكي" وعندها أقيمت أول دار سينما في بغداد أطلق عليها "سينما بلوكي" وبعد الحرب العالمية الأولى شهد العديد من مناطق بغداد عروضاً سينمائية في الهواء الطلق نظمتها "دائرة الاستعلامات البريطانية" بجهاز عرض (16 ملم) كانت تنتقل به إلى مناطق عديدة من المدن العراقية، وفي عام 1920 أنشأ تاجر آخر سينما سنترال في منطقة حافظ القاضي في شارع الرشيد ليستبدل اسمها فيما بعد إلى سينما الرافدين.


  المصادر:
 مازن لطيف علي. مقال بعنوان (اليهود وانتشار دور العرض السينمائية في العراق). موقع الحوار المتمدن. العدد 3867 في  10/10/2012.



185
يهود العراق والهوية الوطنية.. دور يهود العراق في المجال الصحي /الحلقة الخامسة عشر
نبيل عبد الأمير الربيعي
      شارك ابناء العراق من الديانة اليهودية في مجال المؤسسات الصحية, وبادر اثرياءهم ببناء المستشفيات والمؤسسات الصحية, فقد تبرع اليعازر خضوري ببناء مستشفى ريمة خضوري للعيون عام 1924م, الذي عُدّ من اكبر وأحدث المستشفيات المتخصصة بأمراض العيون في ذلك الوقت,  وقدمت شتى الخدمات الطبية التي لها علاقة بالعيون من فحوصات دورية وعمليات وتقديم العلاج الطبي, وشهدت إقبالاً واسعاً من أطياف المجتمع العراقي جميعها على مدار السنة لعدم تحصيلها إلا مبالغ زهيدة لقاء الخدمات التي تقدمها, وساهمت النخبة اليهودية في تطوير المجال الطبي من خلال المستوصف الذي افتتح لإجراء العمليات الجراحية, وانشأ قسم خاص لعمليات الولادة, وهذا لم يكن متعارف عليه سابقاً .
     ساهم السيد مناحيم صالح دانيال في تبرعات جمعية مكافحة السل في العراق بمبلغ الف دينار عراقي, لذا قامت الجمعية بتقديم الشكر له للمساعدة التي قدمها. كما دافع النائب إبراهيم حاييم عن مديرية الوقاية الصحية حينما اتخذت الحكومة الملكية عام 1945م قراراً بإلغائها والتي كانت قد تأسست عام 1942م, وكان سبب الإلغاء رؤيتها بأن الطبيب في بعض الأحيان يقصر في واجبه المشترك بين مديرية الوقاية الصحية والمستشفى, وقد انتقد النائب إبراهيم حاييم القرار لأنه رأى حاجة العراق إلى هذه المديرية شأن الدول المتقدمة مؤكداً أن الوقاية خير من العلاج, وأن المديرية لها فائدة كبيرة, فلو أن طبيب الوقاية ذهب إلى مكان ما في العراق خلال جولة تفتيشية فوجد فيها جرثومة (الملاريا) وكافحها وأبادها بمحلها, فمعنى ذلك أن الحكومة تخلصت من امكانية اصابة مئات الألوف من الناس.
   وقد اشتهر في مجال الطب في مدينة عنه الدكتور ناجي جيتايات, واختلط بأعيان وجهاء المدينة, فضلاً عن أنه من سكنة بغداد, وكان له الدور الكبير في مجتمع عنة الرسمي يدعوه لحضور الاحتفالات والمناسبات الرسمية, وكان ينسى في الكثير من الأحيان أنه من الديانة اليهودية, وبعد احداث الفرهود عام 1941م, التقى الدكتور ناجي بفوزي القاوقجي وهو ضابط سوري ساند ورفاقه حركة رشيد عالي الكيلاني, فالتقى بهم الدكتور ناجي حينما تعرض فوزي القاوقجي إلى جروح فعالجه وعامله بلطف. استمر  الدكتور ناجي جيتايات في عمله في عنه حتى نهاية الخمسينات من القرن العشرين حيث انتقل إلى مدينة بغداد واتخذ من منطقة الكرادة الشرقية مكاناً لافتتاح عيادته التي كان الكثير من المرضى يقومون بمراجعتها.
     وقد عرفت مدينة العمارة الدكتور داود كباية, واعتبر في ذلك الوقت اسطورة الطب حينما كان يعالج الفقراء مجاناً واحياناً أخرى كان يدفع له بعض مرضاه اجوراً زهيدة, والأكثر من ذلك نجح كباية في مجال الطب وفي المجال الاجتماعي, إذ أن حب الناس له في مدينة العمارة وفي العاصمة بغداد كان كبيراً, ففي بغداد كانت لديه داراً من طابقين يسكنها هو وشقيقته ومساء كل يوم خميس كان سائق السيارة العمومي ينادي في موقع عيادته القديمة في العمارة (كبايه.. كبايه), فتتحرك السيارة إلى مدينة بغداد وبعد الانتهاء من المعاينة يعودون بالطريقة نفسها إلى مدينة العمارة. كما نال الدكتور داود كباية شهادة شكر من رئاسة صحة مدينة العمارة عام 1950م, لكفاءته واحسانه في معالجة المرضى, ولقيامه بعمليات كبيرة وصغيرة وبكفاءة عالية ومنح هذه الشهادة لتفوقه في المجال الطبي.
     كما اشتهر طبيب الامراض العصبية الدكتور جاك عبودي استاذ الطب العصبي والنفسي, وقد سعى لإنشاء دار الشفاء حينما لم يكن في المستشفى الملكي شعبة للتخصص في الأمراض العصبية والعقلية, وعمل استاذاً في الكلية الطبية الملكية عام 1939م, وتخرج على يده أفضل الأطباء في هذا المجال, كما أسس مستشفى خاصة في المجال العصبي أطلق عليه مستشفى الدكتور جاك عبودي للأمراض العقلية والعصبية عام 1948م. كما عرف في مجال الطب الدكتور كرجي هارون ربيع الذي تخرج عام 1932م من الكلية الطبية الملكية, فذاع صيته في مجال تخصصه في الأمراض الباطنية, وكانت عيادته تقع في شارع الرشيد, كما فتح اخوهما أدورد هارون ربيع صيدلية بالقرب من عيادتيهما, استمر الدكتور كرجي ربيع بممارسة مهنة الطب حتى الستينات من القرن الماضي.

 المصادر :
   أزهار عبد علي حسين الربيعي. النخبة اليهودية في العراق. مصدر سابق. ص184.
  خلدون ناجي معروف. الأقلية اليهودية في العراق. مصدر سابق. ص144.
  محاضر جلسات مجلس النواب العراقي لعام 1945م, الاجتماع الاعتيادي, الجلسة السادسة عشرة. في 21 كانون الثاني 1946. بغداد. مطبعة الحكومة. 1946. ص151/152.
  مجموعة مؤلفين. المجتمع العراقي حفريات سوسيولوجية في الأثنيات والطوائف والطبقات. بغداد. الفرات للنشر والطباعة. ط1. 2006. ص107/108.
  مازن لطيف. مقال. الدكتور داود كباي شخصية عالقة في الذاكرة العراقية. موقع الحوار المتمدن. العدد 3160 في 19 تشرين الاول 2010.
  يعقوب يوسف كوريه. يهود العراق (تاريخهم. احوالهم. هجرتهم) عمان. الأهلية للنشر والتوزيع. ط1. 1998. ص95/97.




186
يهود العراق والهوية الوطنية..دور الفنانين اليهود في مجال الفن والغناء والمسرح العراقي/ الحلقة الرابعة عشر
نبيل عبد الأمير الربيعي
      في المجال الفني برز عدد من يهود العراق اهتموا بالغناء والتلحين ولا سيما المقام العراقي والجالغي البغدادي, ومن اشهر قراء المقام العراقي يوسف حورشي وسلمان بن موشي عُينّ خبيراً في دار الاذاعة ببغداد عام 1945, والمطرب روبيل رجوان, وعازف آلة الكمان نسيم يعمون وأخوه شاؤل يعمون عازف آلة السنطور, وضارب الطبلة حسقيل شاؤل, والمطربان رحمن نفطار ساسون وزعرور حسقيل بيحي, وعازف آلة السنطور يوسف بتو حوكي, وعازف آلة القانون عزوري يوسف, وعازف آلة الكمنجة حسقيل, وعازف آلة الطبلة إبراهيم صالح.
      أما الأخوان صالح وداود الكويتي فبرزا في مجال التلحين, وكانا من ضمن مؤسسي الاذاعة العراقية عام 1936م, وقد تميز صالح الكويتي وأخيه داود بوضع الالحان الخالدة لمعظم مطربي ومطربات تلك الحقبة الزمنية, مثل (سليمة مراد, عفيفة اسكندر, زهور حسين, زكية جورج, داخل حسن, حضيري ابو عزيز), وقد غنت ام كلثوم احدى اغنياته حينما زارت العراق عام  1932م وهي اغنية (كلبك صخر جلمود), كما لحن صالح الكويتي اغاني الفلم العراقي عليا وعصام الذي كتب قصته الأديب أنور شاؤل.
     ومن الفنانات اليهوديات العراقيات اللاتي برزن على الساحة الفنية العراقية رائدة الغناء العراقي المطربة سليمة مراد وصاحبة الصوت الجميل الحنون, احترفت الغناء صبية فأطربت اسماع العراقيين اكثر من نصف قرن وسحرته بفنها البغدادي الأصيل, ومثلت دور البطلة في فلم عليا وعصام عام 1946م, قال فيها الناقد عدنان الحميري (إن سليمة مراد نالت مكانتها في قلوب البغداديين خاصة والعراقيين عامة, لأنها غنّت بطرب عراقي أصيل للشوق والحب والألم الذي يشعرون به بفن يكاد يكون ساذجاً وغريزياً, نالت الاعجاب بتعبيرها عن طموحات الناس البسطاء ومخاوفهم وهمومهم ورغباتهم التي لم تعقدها الحضارة ... أن غناء سليمة مراد قد اغنى كثيراً فن بغداد الشعبي), وكتب بحقها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والشاعر عبد الكريم العلاف.
      كما لا ننسى دور يهود العراق في مجال الفن المسرحي والرقص والغناء الشعبي, فكان هناك عدد من الفنانين الهزليين المعروفين, إذ يذكر البروفسور سامي موريه في مقاله (المسرح اليهودي في الشرق الأوسط) "يامين أبو الخير, وأبو جميلة, وناجي الأقرع", وكان يطلق على هؤلاء مصطلح (الشعّار, الهبش, خباري), وهم من الشاذين جنسياً يؤدون ادوارهم كراقصات في مسرحيات هزلية فاحشة تخدش الحياء, يتخللها الرقص الخليع مع اطلاق النكات البذيئة, كما كانت تتخلل الحفلات تبريكات بآيات توراتية, ونثر النكات إذا صح في النهاية لقب للدلالة على أي كوميدي وفنان شعبي هازل في المجتمع اليهودي, وكان اكثر هؤلاء الممثلين شهرة هو إسحق أبو البالطوات, والممثل الكوميدي العراقي المسلم (جعفر أغا لقلق زادة).
      وقد حمل يهود العراق اعتقاداً بأن المسرح أداة فعالة لخلق هوية قومية وذاكرة جماعية, ووسيلة للإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والتربوي, وطريق لجعل الممثلين فخورين برسالتهم الثقافية, وكان ضمن الممثلين البير الياس وسيمون العماري وحسقيل قطان وناجي شاؤل وساسون كباي وأ.ج. جوري, وكان لهم الدور في الانتاج والديكور والإضاءة والماكياج والأزياء, فضلاً عن دور حسقيل إبراهام نسيم في كتابة المسرحيات منها مسرحية (صفقة رابحة). وكان ابرز الممثلين الهزليين اليهود هو نعيم اصلان وهمّام باشا وبإشراف الأساتذة في التمثيل مثل الياهو أسميرا (191001961م) وخضوري شهرباني واسحق بطاط وسلمان عبد الله ولوئيف موشيه واسحق باؤوا ومدير الإضاءة شمعون بن عمري.

  المصادر:
 
  طالب مهدي الخفاجي. أدب اليهود العراقيين. مصدر سابق. ص188.
  مازن لطيف. يهود العراق تاريخ وعبر. مصدر سابق. ص223.
  مير بصري. اعلام اليهود في العراق الحديث. لندن. دار الوراق للنشر. ط1. 2006. ص161.




187
يهود العراق والهوية الوطنية.. دور المثقفين والأدباء اليهود في الثقافة العراقية/ الحلقة الثالثة عشر
نبيل عبد الأمير الربيعي
لقد حاول الكتّاب اليهود خلق ثقافة أدب عراقي عربي من خلال الدراسة الدقيقة للغة العربية الحيّة الفعالة, غير أن اللغة العربية بالنسبة ليهود العراق هي اللغة الأم لأن اليهود كانوا مدركين لحجم التعامل في المجالات كلها داخل المجتمع العراقي, وقد اكتشفوا عند هجرتهم القسرية عام 1951م إلى إسرائيل إن الثقافة العربية كانت حيّة وفعّالة, مما ارتفع عدد اليهود العراقيين في إسرائيل ممن مارسوا الفنون الأدبية والصحافية ورواية القصة, لكن قلّة متابعة الجمهور الأدبي لهم مما ادى إلى سرعان تخلي هؤلاء الكتاب عن اللغة العربية وبدأ نتاج مؤلفاتهم الروائية باللغة العبرية, إلا الروائي سمير نقاش (1938-2004م) إذ استمر بالكتابة باللغة العربية مع زكاي أهارون وسامي موريه واسحق بار موشيه, فضلاً عن دراسة الأدبين العربي والفارسي في الجامعة العبرية مطلع سبعينات القرن الماضي, فكانت رواياتهم وشخصياتهم الرئيسة تتحدث عن ذكرياتهم في العراق ومشقة الحياة وانتمائهم لأرضه معززين هويتهم الوطنية بذلك, فقد قاوم الروائي سمير نقاش وبعناد الخضوع للثقافة العبرية الإسرائيلية, مفضلاً كتابة رواياته وقصصه القصيرة باللغة العربية, بالمقابل كان موقفه عكس موقف الروائيان شمعون بلاص وسامي ميخائيل وخضوعهما الجزئي للثقافة العبرية والفكر الصهيوني.
أسهم عدد من اليهود العراقيين إسهاماً فاعلاً في الثقافة العراقية, عدَّ بعضهم من الرواد في مجال القصة والرواية أمثال أنور شاؤل وشالوم درويش وسلمان درويش إذ كتبَ الأخير قائلاً (إن اللغة العربية وثقافتها نفذت في دمائنا) وبقية اللغة العربية ترافق اليهود العراقيين حتى بعد هجرة الكثير منهم من العراق (190-1951). عدَّ أنور شاؤل من رواد الشعر والقصة الحديثة, إذ دمج هويته العراقية وديانته اليهودية وحافظَ مع هذا الدمج على شيء من التوازن في شخصيته, أصدر كتباً عدّة في اوقات متفاوته منها (الحصاد الأول عام 1930م, وليم تل (ترجمة) عام 1932, أربع قصص صحية (ترجمة) عام 1935, قصص من الغرب عام 1937م, عليا وعصام عام 1948م الذي تحول إلى أول فلم عراقي, ليل الصبا عام 1950م, في زحام المدينة عام 1955, همسات الزمن عام 1956م, قاموس المصطلحات المطبعية عام 1967, كليتن كلين (ترجمة) عام 1967م.
ويشير الباحثون المهتمون بالأدب اليهودي العراقي إلى دور الباحث والكاتب والشاعر والاقتصادي مير بصري في الحياة الثقافية العراقية من خلال نتاجه الأدبي الذي تعود بداياته لعام 1928م, إذ نشر في صحيفة النهضة العراقية شعراً منثوراً بعنوان (الحرية), ونظم عدداً من الملاحم شعراً منها (نهاية الأبطال) التي نشرت في مجلة الكاتب المصرية عام 1946م, وكتب عن العديد من النخب العراقية السياسية والشخصيات اليهودية في المجتمع العراقي, وذكر الأحداث التي مرت باليهود في العراق كما في أحداث الفرهود في يومي الأول والثاني من حزيران عام 1941م, التي رواها في كتابه (رحلة العمر).
كما برز من يهود العراق في مجال الشعر مراد ميخائيل, الذي نشر مقالاته وشعره وقصصه في الصحف والمجلات وهو لم يتجاوز السادسة عشرة, فقد نشرت لهُ صحيفة دجلة بعددها الصادر في 11 نيسان 1922 قصيدته (يا وطني), ويعد الشاعر مراد ميخائيل من رواد قصيدة النثر. أما الشاعر الوطني إبراهيم عوبديا فقد ربط مصيره بمصير العراق والأمة العربية, وتجلى حبه في قصائده مثل : (بلادي, حارس الملك, بغداد, ذكرى النهضة العربية الكبرى, أيها الحق), كما كتب القصائد التي كانت تذاع من إذاعة بغداد في مناسبات شتى في مدح الملك فيصل الثاني والعائلة المالكة والجيش العراقي, وحتى عند خروجه من العراق قائلاً (ولكنني بالرغم عني سأبقى إلى يوم القيامة بغدادي). أما الشاعر جاد بن مئير فعبَّرَ عن حبه للعراق من خلال قصائد شعره وتغزله بدجلة والفرات في قصيدة عنوانها (مياه الرافدين).
ونعود للروائي سمير نقاش الذي غادر العراق عام 1951م وعمره ثلاثة عشر عاماً, لكنهُ بقي يعبر في غربته عن هويته العراقية, وفي إحدى لقاءاته قال نقاش (اللغة العربية هي أقوى أدوات الكتابة, وأنا اكتب باللغة العربية التي أشم وأتذوق وأشعر بها, ومهما تعلمت من لغات أخرى فليس بمقدوري استحضار الكلمات مثلما استحضرها من لغتي العربية, ولهذا أنا وصلت إلى ما لم يكن بمقدوري الوصول إليه. وعلل سبب استمراره في الكتابة بالحرف العربي من دون الحرف العبري قائلاً (أنني أعشق هذه اللغة التي نطقت بها أول ما نطقت, واستطيع بواسطتها التعبير عن دواخلي بشكل أفضل, فلماذا أقيد نفسي بلغة اعرف عنها أقل وهي اللغة العبرية؟ ثم أن اللغة العربية تؤكد انتمائي العضوي إلى أصلي العراقي.
تميزت النخبة اليهودية الثقافية في العراق بمجالسها الأدبية والثقافية, ومن اشهر هذه المجالس (مجلس مناحيم صالح دانيال, مجلس عزرا صالح دانيال, مجلس الحاخام ساسون خضوري, مجلس أنور شاؤل, مجلس مير بصري, مجلس داود سمرة, مجلس نعيم زلخة, مجلس يوسف الكبير, مجلس إبراهيم حاييم, مجلس روبين بطاط, مجلس صالح قحطان), وكانت لهذه المجالس أهمية كبيرة في موقع الحوار الفكري في كل المجالات, وتداول الأخبار حول أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, فهي بمثابة تكوين الرأي العام على الرغم من محدوديته لأنها في أغلب الاحيان تكون نافعة وتجمع طوائف المجتمع العراقي كلها.

المصادر:

خلدون ناجي معروف. الأقلية البهودية. مصدر سابق. ص141.
أزهار عبد علي حسين الربيعي. النخبة اليهودية في العراق. مصدر سابق. ص171.
طالب مهدي الخفاجي. أدب اليهود العراقيين وثقافتهم في العصر الحديث. ط1. بغداد. مؤسسة مصر. 2008. ص42.
شموئيل موريه. القصة القصيرة عند يهود العراق 1924-1978. القدس 1081. ص85.
مهدي السعيد. مير بصري ينقب في ذاكرة بغداد الثقافية. مجلة المسلة العراقية. العدد 56. عام 2000. ص39.
مازن لطيف. يهود العراق تاريخ وعبر. مصدر سابق. ص343.
رشيد الخيون. الأديان والمذاهب بالعراق. بغداد. منشورات الجمل. ط1. 2003. ص107.



188
يهود العراق والهوية الوطنية.. دور يهود العراق في مجال الصحافة: الحلقة الثانية عشر

نبيل عبد الأمير الربيعي

      صدرت أول صحيفة يهودية باللغة العبرية هي صحيفة هالدوبير(1863-1871م), ومن ثم صحيفة هامجيد عام 1864م, وصحيفة الزهور عام 1909م التي صدرت باللغة العربية وهي سياسية واسسها نسيم يوسف سوميخ, وصحيفة بين النهرين عام 1909م باللغة العربية, وصحيفة تفكر بالغتين العربية والتركية عام 1912م, وأول مطبعة تأسست عام 1863م من قبل موسى باروخ مزراحي, ومن ثم مطبعة حمايم ومطبعة بيخور عام 1884م واستمر عملها حتى عام 1908م, ومطبعة إليشاع لصاحبها إليشاع شوحيط, والمطبعة الوطنية لصيون عزرا, ومطبعة جديدة لصاحبها باخور هزين أسست عام 1888م, حيث استمرت حتى عام 1913 وقد ادار هذه المطبعة من بعد وفاة صاحبها ابنه هزين, ومطبعة دنكور التي أسست عام 1904م.
      أما قبل العهد الملكي فقد صدرت في العراق أول صحيفة هي صحيفة (يشرون), التي صدر العدد الأول منها في 19 تشرين الثاني 1920م, أصدرتها الجمعية الصهيونية, كانت الصحيفة اسبوعية وتصدر نصفها باللغة العربية والنصف الآخر باللغة العبرية, وقد تولى إدارتها الياهو ناحوم وحررها صهيون اذريعي ويعقوب صهيون, وقد توقفت عن الصدور بعد خمسة أعداد بسبب اغتيال سلمان حيا رئيس الجمعية الأدبية الاسرائيلية في 24 كانون الأول 1920, وفي 10 نيسان 1924 حينما تم تنصيب فيصل الأول ملكاً على عرش العراق أصدر المحامي سلمان شينة العدد الأول من صحيفة المصباح, وكان مدير تحريرها الشاعر أنور شاؤل, وهي صحيفة اسبوعية أدبية علمية اجتماعية, كانت معظم مواضيعها تعني بالنشاط الثقافي والاجتماعي في العالم, وكانت من اكثر الصحف اليهودية في العراق تعني بالفكر والوجود اليهودي.
      وقد اصدر يعقوب حاسين في 19 تشرين الثاني 1926العدد الأول من صحيفة سباق حاسين, وكانت تعني بأخبار الفروسية وسباق الخيل والرياضة والاعلانات التجارية, كما اصدر سلمان كوهين عام 1928 صحيفة البرهان, وكتب من خلالها الكاتب شاؤل حداد عام 1933 رسالة إلى الوكالة اليهودية في فلسطين أشار فيها إلى حاجة اليهود إلى صحيفة وعرض عليهم مساعدته في هذا الشأن, وفي البصرة أصدر يوسف حوكي صحيفة دليل العائلة في 1 تشرين الثاني 1928, وكانت تعني بالشؤون الإعلانية والتجارية.
     وقد اصدر المحامي والشاعر أنور شاؤل العدد الأول من مجلة (الحاصد) يوم 14 شباط 1929, وهي مجلة اسبوعية, وفي مقالها الافتتاحي نشرت تحت العنوان التالي (ماذا أحصد؟ اسنابل ملأى بالغذاء أو عاقولاً وعوسجا؟), وفي 23 تموز 1930 استهلت الحاصد عامها الثاني فكتب أنور شاؤل مقال تحت عنوان (لتزود قراءها بالتوعية الفكرية والتغذية الروحية), وشجعت الحاصد نتاج الكاتبات العراقيات بما لديهن من مقالات أمثال, رفيعة الخطيب, عفيفة رؤوف, سعدية فتاح, ماتيلدا يوسف, استرينة إبراهيم. احتجبت مجلة الحاصد عن الصدور لمدة عامين وصدر العدد الأول من العام الخامس في 8 تموز 1930, وفي 31 آذار 1938 صدر العدد 48 من مجلة الحاصد وهو العدد الأخير بعد سبع سنوات من صدورها, وكتب أنور شاؤل مقالاً افتتاحياً تحت عنوان (الحاصد يحتجب بعد مشاق سبع سنوات) ولم تصدر الحاصد بعدما عالجت قضايا تخص مستقبل العراق وتقدمه, حين طالب أنور شاؤل بالاستقلال للعراق, وعالجت مشاكل المجتمع العراقي.
      في 12 آذار 1929 صدر العدد الأول من صحيفة الدليل الاقتصادية الأدبية, وهي صحيفة اسبوعية توزع مجاناً, واصدر عبد الله نسيم حاوي في 24 ايلول 1929 العدد الأول من صحيفة النشرة الاقتصادية, كما ساهمت النخبة من الأدباء والمثقفين اليهود في مجال الصحافة والإعلام العراقية منهم المحامي إسحق لاوي الذي عمل مديراً مسؤولاً لصحيفة الأمل, التي صدرت في بغداد بتاريخ 19 نيسان 1947م لصاحبها محمد نجيب مصطفى, وعمل أيضاً مديراً لمجلة المقاصد ومجلة الوعي القومي التيّنِ صدرتا في أربعينات القرن العشرين, ومجلة الأقباس الصادرة عام 1945م لصاحبها صفاء الحيدري, كما ساهم الكاتب والشاعر شالوم درويش الذي نشر مقالاته في صحيفة الأهالي التي صدرت في 2 كانون الثاني 1932. كما ساهم سامي معلم (شموئيل موريه) بواكير شعره في الصحف العراقية وترجم بعض روائع الشعر الانكليزي إلى العربية ونشر نشاطاته في الصحف العراقية كالأنباء, العراق, اليوم, الكرخ البغدادي, ونشر الكثير من الشعر العمودي في الصحف العراقية كاليوم والمجتمع والأنباء والهدف.
     كما ساهم الصحفي سليم البصون في مجال الصحافة بنشر مقالاته, وقد انغمر في الحياة الفكرية وبدأ بنشر الخواطر والقصص في المجلات العراقية مثل مجلة الرابطة والزهراء وصحيفة الشباب, ثم عُين مديراً للتحرير في صحيفة الرقيب, وحرر في مجلة قرندل, وفي صحيفة الشعب عام 1945م, وفي عام 1948م تول اصدار صحيفة الاستقلال, وفي صحيفة الرأي العام وصحيفة الجمهورية. وقد تعرض سليم البصون لأكثر من مرة إلى السجن بسبب كتاباته التي تنتقد الأوضاع السياسية العراقية, بسبب جرأته وصراحته في الكتابة, وفي زمن الهجرة الجماعية ليهود العراق ما بين (1950-1951) رفض الهجرة من العراق وكان جوابه عن الحداث (تأثرت كثيراً ولكنني لا أفكر بالخروج من العراق, ولا بد أن اواصل كتاباتي الصحفية للقضاء على الفساد والإرهاب الذي يتعرض له اليهود والعرب).
     وكان للصحفي منشي زعرور الدور الريادي في الصحافة العراقية, فقد كان صحفياً ذا خبرة تناهز الخمسين عاماً, منها خمسة وثلاثون في الصحف الناطقة بالعربية في بغداد, والأخرى في الصحف والنشرات العربية التي وجهتها الأحزاب العراقية إلى عرب فلسطين, تميز اسلوبه في الكتابة بأنه اندفاعي بليغ وجريء( ), يعتبر منشي زعرور الجندي المجهول في الصحافة العراقية كما وصفه مير بصري, وأشار إلى أنه تعرف عليه منضداً للحروف في صحيفة العراق, ثم اصبح محرراً ومشرفاً عاماً على طبع الصحيفة, ومن مواقفه أنه كتب في صحيفة الطريق العراقية مقالاً بعنوان (يهود العراق عراقيون برغم الأنوف), الذي اختتم مقاله بـ(رفقاً بهذا الوطن العزيز, وكفى ما عاناه في التاريخ القديم والحديث من المصائب والويلات).
     ولا ننسى الصحفي صالح (نعيم) طويق الذي بدأ عمله الصحفي عام 1934م, وعين محرراً في صحيفة صوت الأهالي, وصدى الأهالي, وصحيفة الأهالي الناطقة باسم جماعة الأهالي, والطريق, والرأي العام, والحوادث, وصحيفة الزمان, ترجم صالح طويق بعض المقالات السياسية كما كتب العديد من الافتتاحيات في الصحف, ومن منجزاته استحداث طريقة خاصة لنقل الأخبار من الاذاعات العالمية باللغتين الانكليزية والفرنسية والقيام بترجمتها مباشرة إلى العربية بطريقة اختزال خاصة ونشرها في الصحيفة على الفور, في وقت لم توجد فيه أجهزة تسجيل ومعدات حديثة, فقد كانت الصحف العالمية تترجم وتنقل الأنباء في اليوم التالي ولا سيما في اثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
      وللباحث والاقتصادي والشاعر مير بصري اسهامات في الصحف العراقية, إذ نشر اول نتاج له في صحيفة النهضة العراقية عام 1928م, وواصل نشر نتاجه الأدبي في الصحف والمجلات العراقية المختلفة واللبنانية والمصرية والسورية, وعمل في اوقات مختلفة محرراً اقتصادياً لصحيفة الإخاء الوطني والبلاد, وصحيفة الشعب, ونشر ابحاثاً اقتصادية في المجلات والأدلة الفرنسية والانكليزية, وعندما أصدر خاله الياهو عزرا دنكور صحيفة الدليل الأسبوعية في بغداد عام 1929م تولى تحريرها.
      شكل رعيل المثقفين والادباء العراقيون اليهود جزءاً مهماً من النخبة المتنورة في المجتمع العراقي, وفي مجال الطباعة والمطابع التي اسسوها خلال النصف الأول من القرن العشرين, فقد ساهموا في مجال استيراد الورق الطباعي وادخل مهنة الطباعة والنشر في العراق, وكان شلومو ابراهيم صدقة قد انشأ المطبعة التجارية التي اجيزت بموافقة مديرية الدعاية العامة في 26 نيسان 1928, كذلك قام الياهو عزرا دنكور بافتتاح مطبعة الآداب التي اجيزت من وزارة الداخلية بتاريخ 23 كانون الأول 1928, كما انشأ دنكور المطبعة الملوكية التي اجيزت بتاريخ 2 نيسان 1929, لكن هذه المطبعة غيرت اسمها إلى مطبعة النجاح بتاريخ 16 كانون الثاني 1939م, أما إسحق رحمين بونا ومير إبراهيم سلمان فأنشآ مطبعة الحمراء ومطبعة المأمون, وأنشأ أهرون مردوخ آهرون شاشا مطبعة الهلال, أما إبراهيم يوسف فأسس مطبعة النهضة التي اجيزت من وزارة الداخلية بتاريخ 5 كانون الثاني 1935, كذلك إسحق شاؤل سوفير الذي انشأ المطبعة الخيرية الاسرائيلية (مطبعة سوفير), ومطبعة الرشيد لأصحابها محمد سعيد وشركائه نعيم عزرة, نسيم صالح, ساسون شالوم, التي اجيزت بموافقة وزارة الداخلية بتاري 15 آب 1935, أما إبراهيم هومي فقد انشأ المطبعة الشرقية التي حصلت على اجازة من وزارة الداخلية بتاريخ 20 آيار 1936.
      وفي مدينة الحلة حصلت مشاركة بين المسلم حسين السباك واليهودي معلم هارون لتأسيس المطبعة العصرية عام 1937, باع معلم هارون نصيبه إلى شريكه عام 1950م بعد قرار اسقاط الجنسية عن يهود العراق بمبلغ (120) جيناراً عراقياً في حينها, كما انشأ حاييم سلمان حاييم مطبعة الفردوس التي اجيزت من وزارة الداخلية بتاريخ 29 تشرين الأول 1947. وتوزع نشاط يهود العراق بين طباعة الكتب والصحف والمجلات وابني الإصدارات العلمية والأدبية المختلفة إلى جانب الملحقات التجارية وغيرها من المطبوعات.

 المصادر:

  علي عبد القادر العبيدي. النشاط الصهيوني في العراق. مصدر سابق. ص96؛ عزام مصطفى محمود. من تاريخ الصحافة البصرية (1869-1930). مجلة المؤرخ العربي العراقية. العدد 58. السنة الثانية. ص92.
  أزهار عبد علي حسين الربيعي. النخبة اليهودية في العراق. مصدر سابق. ص160/161.
  عصام جمعة المعاضيدي. الصحافة اليهودية في العراق. ط1. القاهرة. الدار الدولية للاستثمارات الثقافية. ط1. 2001. ص53/58.
  أنور شاؤل. قصة حياتي. مصدر سابق. ص148.
  عصام جمعة المعاضيدي. الصحافة اليهودية في العراق. مصدر سابق. ص63/64.
  عبد الرزاق الحسني. تاريخ الصحافة العراقية. ج1. ط3. لبنان. مطبعة العرفان 1971. ص101.
  عصام جمعة المعاضيدي. الصحافة اليهودية في العراق. مصدر سابق. ص83.
  اسحق بار موشيه. الخروج من العراق ذكريات 1945-1950. القدس. مطبعة دوكما. 1975. ص515/517
  عزيز الحاج. مذكرات عزيز الحاج بغداد في ذلك الزمان. ط1. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 1999. ص165.
  منشي زعرور. يهود العراق عراقيون رغم الأنوف. جريدة الطريق العراقية. العدد 179 في 14 تموز 1933.
  عزت ساسون معلم. قريب وبعيد ذكريات وحكايات من الفرات الأوسط 1911-1983. حيفا. دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر. 1983. ص1958.
  مازن لطيف. يهود العراق تاريخ وعبر. ط1. بغداد. مؤسسة مصر. 2011. ص155.
  مازن لطيف. مقال (اكثر من 15 مطبعة اسسها اليهود في النصف الأول من القرن الماضي). صحيفة العالم العراقية. العدد 227 في 2 تشرين الثاني 2010.




189
يهود العراق والهوية الوطنية.. دور يهود العراق في المجال الاقتصادي/ الحلقة الحادية عشر
نبيل عبد الأمير الربيعي
منذُ عشرينات القرن الماضي كان لعدد من التجار اليهود يشار لهم بالبنان في العراق, يعزون بثرواتهم التي كونوها إلى اليهود الكادحين من ذوي القابليات ممن كانوا قد وظفوهم لديهم لسنوات طويلة للعمل في وظيفة كتبة, إذ كان هؤلاء الكتبة اليهود هم رواد ازدهار شركاتهم. فقد تفنن يهود العراق في عمليات البيع والشراء لدرجة جعلت الكثير من الشركات البريطانية تغلق مكاتبها لأن نفقات العاملين فيها اكبر من نفقات منافسيهم الشرقيين. كما اشتهر يهود العراق باستيراد وبيع الأقمشة واحتكروا تجارتها( ).
كما برزت مطلع القرن العشرين شركات يهودية ساهمت في تعزيز اثرهم الاقتصادي, واصبح اصحابها من النخب الاقتصادية في المجتمع العراقي. ومن هؤلاء أسرة دانيال وأسرة خضوري, وأسرة خلاصجي. إذ اسس الأخوان خضوري وعزرا لاوي شركتهما في البصرة وأصبحت من اكبر الشركات في هذا القطاع, وفتحت لها فروعاً في الموصل وكركوك وبعض المدن الإيرانية, قسّم الأخوان مهامهما فأدار خضوري العمل في بغداد وانتقل عزرا ليدير فرع طهران, بلغ رأسمال الشركة في اربعينيات القرن العشرين (275000) الف دينار عراقي, وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت( ), بدأ الأخوان نشاطهما في تجارة التمور بعد دخول القوات البريطانية البصرة عام 1914م, حيث التقوا بمسؤولين من شركة جنرال موتورز واصبحوا وكلاء سيارات الصالون وسيارات الحمل واللوريات ولوازمها, وسيارات شوفرليه وجي أم سي وبويك في العراق وإيران.
كما اشتهر في مجال تجارة السيارات شركة شفيق وإبراهيم عدس, إذ كان الأخوان فضلاً عن وكالتهما لشركة فورد وكيلين لأكثر من اربعين شركة اوروبية وقد حققا ارباحاً كثيرة نتيجة ارتفاع أثمان البيع, إذ كان اغلب زبائن الشركة من الطبقة الثرية والوزراء وشخصيات حكومية في الدولة, إذ ساهمت في توسيع دعايتها في المجتمع, حتى عام 1948 حين اتهم شفيق عدس باتهامات عدة منها تدبير التظاهرات في البصرة التي كانت تطالب بتقسيم فلسطين, واتهامات بيعه انقاض معسكر الشعيبة وهي مخلفات القواعد البريطانية في العراق, وتحويلها إلى عدد من العملاء في ايطاليا, وشراءه الأسلحة المتنوعة من مصادر عدة وارسالها إلى فلسطين, ولما وجد شفيق عدس نفسه بهذا الموقف امتنع عن الكلام ولم يدافع عن نفسه مستسلماً لقدره, وفي صباح يوم 13 ايلول 1948 حكمت المحكمة على شفيق عدس بالإعدام عليه وفق الفقرة (3) من الباب الثاني عشر من قانون العقوبات البغدادي لعام 1938م, كما تقرر إلزامه بتعويض قدره خمسة ملايين دينار عراقي تستحصل من امواله المنقولة وغير المنقولة, تدفع تعويضاً لما تكبده الجيش العراقي من الخسائر والاضرار في الأنفس والأموال, إذ تدخلت عدد من الأطراف في محاولة لتخفيف حكم الإعدام الصادر بحق شفيق عدس ومن تلك الأطراف السفارة البريطانية, كذلك السفارة الأمريكية, ويبدوا أن الوصي عبد الإله قد عجل في قراره خوفاً على مركزه الذي من الممكن أن يتعرض للتزعزع. أما أخوه إبراهيم فأصيب بمرض الجذام وحجر في داره منعاً لاختلاط الناس به, وفي أحد الأيام وجد مقتولاً بظروف غامضة بداره بسكين أخذها الجاني من مطبخ منزله, وهكذا مات الأخوان في الشهر نفسه من العام نفسه, وقد تسبب اعدام عدس العلني في مشاعر القلق لدى أوساط الطائفة اليهودية.
كان شريك التاجر شفيق عدس في صفقة السلاح التاجر حياوي جداع الذي تنبه للخطر فهرب إلى إيران ثم إلى سويسرا حيث أقام فيها حتى أدركته الوفاة بعد أعوام طويلة, كان في مقدمة الساعين والمراجعين في قضية عدس الحاخام ساسون خضوري وحسقيل شمطوب, وإبراهيم الكبير, وعزرا مناحيم دانيال.
وبرزت شخصيات يهودية ساهمت في توفير احتياجات العراق أمثال التاجر خضوري مراد شكر, الذي كان من اكبر تجار استيراد مادة السكر إذ كان يستورد ما نسبته 76% من حاجة العراق, ويهودا زلوف الذي كان يعمل باستيراد مادة الشاي, حيث كان يستورد ما نسبته 84% من حاجة العراق للشاي, ويستورد ما نسبته 80% من الصابون, أما إبراهيم حاييم فعرف عنه شهرته في استيراد المواد الغذائية, وشركة ساسون عزرا للمواد الغذائية المحدودة, كما امتلك ساسون عزرا فضلاً عن شركة المواد الغذائية المحدودة معملاً لإنتاج الطابوق ومعملاً لاستخراج الزيوت النباتية.
أثبت اليهود رغبتهم وحبهم لتطوير البلد الذي ينتمون إليه من خلال اسهاماتهم في المشاريع التي خدمت العراق, فضلاً عن مشاركتهم في توفير المواد الاستهلاكية التي يحتاجها السوق العراقي, وكانت لهم شهرة طيبة في الأوساط العراقية امثال اليعازر سيلاس خضوري وفرنك عيني, وقد افرزت هذه النخبة في الوقت نفسه صيغة من الوحدة الوطنية( ). ووصلت العلاقات بين اليهود والمسلمين في العراق درجة عالية في الثقة, حتى أن أحد الأشخاص المسلمين في الحلة قام بتوكيل يهودي من منطقته لبيع لهُ محلاً خاصاً به, لخبرة اليهود بالمعاملات التجارية ولا سيما في معاملات البيع والشراء من دون الالتفات إلى ديانة أحدهما للآخر فقط كونهم أبناء شعب وبلد واحد يتمتعون بأرض وصفات وطنية واحدة.
كان لتجار يهود العراق دور كبير في غرفة تجارة بغداد, حينما تأسست عام 1926م كانوا اغلبية من حيث العدد في الغرفة, ومنهم شاؤل معلم إسحق ويهودا زلوف, وبحسب تقرير الغرفة لعام (1937-1938) فإن عدد التجار المنتمين إلى الغرفة من الصنف الأول كان (25) تاجراً منهم (8) من التجار اليهود, أما الصنف الثاني من التجار المنتمين للغرفة فكان (22) تاجراً منهم (13) من التجار اليهود, والصنف الثالث (74) تاجراً منهم (38) من التجار اليهود, والصنف الرابع (102) تاجر منهم (58) من التجار اليهود, والصنف الخامس (128) تاجراً منهم (53) من التجار اليهود, والصنف السادس (53) تاجراً منهم (22) من التجار اليهود, صنفَّ هؤلاء التجار بحسب اعتباراتهم المالية واشتراكهم في الغرفة( ), إذ بلغ عددهم في تلك الفترة 69% من عدد التجار في الغرفة.
أما حينما صدرت احكام التموين من قبل مجلس الوزراء مطلع الحرب العالمية الثانية وتشكيل لجنة التموين المركزية في 22 ايلول 1939م في بغداد, واعطيت لها صلاحية تشكيل لجان تموينية فرعية لها في بغداد والمدن الرئيسة الأخرى في العراق برئاسة وزير المالية رستم حيدر, استعان الوزير بمير بصري مستشاراً له في شؤون التجارة والتموين, بهدف السيطرة على التجارة والتموين وشؤون الاقتصاد لتأمين احتياجات ابناء الشعب العراقي , كان للنخبة الاقتصادية اليهودية الدور بمزاولة المهمات التجارية ودورهم الكبير في الاقتراحات والنقاشات التي كانت تجري داخل مجلس النواب العراقي, إذ طلب النائب إبراهيم حاييم في الجلسة السادسة عشرة لعام 1945م بوجوب انتباه الحكومة العراقية إلى قرار التموين وفرض المواد الغذائية التي تضمن بطاقات الدولة, أما النائب فريد سمرة الذي كان نائباً عن البصرة عام 1944م فطالب بأن ترفع القيود عن المواد الغذائية للتقليل من مشكلة التموين التي تفاقمت واعطى مثلاً على الشاي فحينما وضعت القيود على استيراده اصبح في اليوم التالي يباع بأضعاف سعره, واكد على أن تتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة لاستيراد المواد التي يحتاجها السوق العراقي, وأن تزيد من تشجيع التجار لجلب البضائع وتوفيرها لتقل أسعارها وتصبح في متناول الجميع.
كما ساهم يهود العراق في مجال الاستثمار بتوفير المواد الاولية من المواد الانشائية, وقد عمل في هذا المجال كل من خضوري مراد شكر, إبراهيم وشفيق عدس, الياهو العاني, يعقوب وخضوري مير لاوي, إيراهيم حاييم( ), فضلاً عن دور رجل الاعمال ساسون معلم في مدينة الديوانية, الذي ساهم في تأسيس أول معمل للنجارة وتزويد الدوائر الرسمية والمدارس والأسواق العراقية بآثاث المعمل, وتعهد ساسون بتعبيد الطرق على ضفتي نهر الدغارة في الديوانية في المدة ما بين (1924-1933)( ), كما قدم ساسون معلم خدمات استثمارية لتطوير البلاد, فقد أسس معملاً للطابوق قدّرت قيمته بما يقارب عشرة ملايين دينار عراقي في حينها, ووفر من خلال المعمل مادة الاسمنت الأساسية في البناء والتي كانت غير متوافرة بسهولة, مما سهل على الناس الكثير.
كما ساهم بعض المستثمرين من يهود العراق إلى تأسيس شركة بغداد الجديدة عام 1945م برأسمال قدره مليون دينار عراقي في حينها, وكانت نسبة الأسهم التي يمتلكها اليهود ما يعادل 72% من قيمة رأسمال الشركة( ), استطاعت الشركة شراء أرض واسعة من آلاف الأمتار جنوب شرق العاصمة بغداد, وعلى طرفها الشمالي شيدت الشركة مدينة المشتل وساحة لسباق الخيل( ), فضلاً عن تأسيس خضوري لاوي شركة هندسية لاستيراد الحاصدات الزراعية والمكائن والآلات الزراعية من الولايات المتحدة الأمريكية, كما أسس أول مشروع للنقل في بغداد عام 1944م, وأنشأ مشاريع لشراء الأراضي الزراعية والبساتين وتخطيط الأحياء السكنية في ضواحي بغداد مثل حي المسبح في جنوب بغداد, وتبرع بمبالغ نقدية للمشاريع الخيرية. كما ساهم نسيم سوسة باقتراحاته التي قدمها بين (1936-1937) حول مشروع هور الشويجة للاستفادة من الهور كخزن لصرف مياه فيضان نهر دجلة, وفي الحقل الزراعي اهتم السيد عزرا مناحيم دانيال عضو مجلس الأعيان العراقي في دعم زراعة القطن في إحدى مزارع القطن برئاسة الكابتن توماس مدير الزراعة وصادرات القطن في العراق حينذاك( ), كما طالب عزرا دانيال إلى مناقشة لائحة قانون مصلحة المكائن والآلات الزراعية لعام 1949م لتهيئة الحكومة العراقية الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة وتعطيها للفلاح لاستثمارها وزراعتها.
كما كان للتجار اليهود الريادة في مجال الصيرفة في العراق, فكانت هناك مكاتب للصيرفة تفتح ابوابها من الصباح حتى غروب الشمس, كما ساهموا في تأسيس المصارف وشركات الصيرفة اليهودية اسوة بالمصارف الاجنبية التي دخلت العراق بداية القرن العشرين مثل بنك ايسترن الذي تأسس في لندن وافتتح له فرعاً في بغداد عام 1912, والبنك الشاهنشاهي الإيراني الذي تأسس في لندن ايضاً وافتتح فرعاً له في بغداد عام 1918, ومن الصيارفة اليهود سلمان هارون زلخة الذي سيطر على السوق الداخلية في مرحلة الثلاثينات من القرن العشرين, والصيرفي خضوري زلخة, الذي عُدَ من اكثر صيارفة العراق نشاطاً في مرحلة الثلاثينات, إذ فاق نشاطه نشاط البنوك وحصل على إجازة لممارسة نشاطه وأسس مصرف خضوري زلخة عام 1938م الذي عُدَ من مصارف الدرجة الأولى, كما مارس مصرف أدورد عبودي الذي تأسس في بغداد في 13 ايلول 1941م الأعمال المصرفية على اختلاف انواعها, إذ صنف مصرفاً من الدرجة الأولى, كما فتح كل من مير الياهو عقيبة وسلمان هارون زلخة مصرفاً خاصاً بهما, فضلاً عن انتشار الشركات اليهودية المتخصصة بالصيرفة كشركة حسقيل شلومو وشركاءه التي تأسست في 11 تشرين الثاني 1938, برأسمال قدره (8600) دينار عراقي, كما إن شركة صيون عبدات اغاسي وداود عزرا نيسان تأسست عام 1943 برأسمال قدره (5000) دينار عراقي, لهذا نجد توقف النشاط الصيرفي في كل يوم سبت من كل اسبوع بسبب تعطيل اليهود اعمالهم في هذا اليوم المقدس لهم, حتى أن الكثير من التجار المسلمين واصحاب رؤوس الأموال أخذوا لا يتوجهون إلى اعمالهم يوم السبت إدراكاً منهم أن الحركة التجارية والمالية مصابة بالركود في هذا اليوم.
وقد عرف في المجال المحاسبي من الشخصيات اليهودية إبراهيم الكبير الذين عين مديراً عاماً للحسابات عام 1921م وانتدب في تشرين الأول 1924م ممثلاً عن الحكومة العراقية في المفاوضات بشأن حصة العراق من الديون العامة العثمانية في استانبول وجنيف, كما كلف بإلقاء محاضرات عن الاقتصاد العراقي في كلية الأركان العراقية, وكان له الدور الكبير في تأسيس مصرف الرافدين عام 1941م واصدار القرض العراقي الحكومي الأول عام 1944م, وكان إبراهيم الكبير مندوب لجنة العملة العراقية في بغداد في وقت كان فيه مركز اللجنة في لندن, كما ساهم في وضع الأسس لإنشاء البنك المركزي العراقي عام 1947م.
كما اشتهر في مجال الحسابات عزرا نسيم الذي شغل منصب معاون ديوان مراقبة الحسابات, وداود معلم صالح مدير التموين الخارجي, وخضوري عزرا مدير الميزانية, وشمعون سوفير الذي شغل منصب مدير الخزينة المركزية, وسلمان خضوري الذي شغل منصب مدير خزينة بغداد, وآشير يوسف مدير خزينة البصرة.
كما شجعت شركات التأمين العالمية يهود العراق على افتتاح شركات التأمين في بغداد والمدن العراقية, منها شركة عبودي سوفير, مير طويق, يوسف موشي, عزرا مير حكاك, خضوري عبود زلخة وشركاءه, إبراهيم وشفيق عدس, عبد الله روفائيل, شركة اليانس, إذ كانت هذه الشركات مسيطرة على 60% من هذا القطاع في العراق, كما عرف في مجال الصياغة موشي إبراهيم كرئيس لرابطة الصاغة في بغداد وكذلك باروخ الصائغ وخضوري نسيم شاؤل ويوشع إسحق وصيون الياس.
من خلال هذا الشرح المختصر نتوصل إلى الاطلاع على الدور المهم ليهود العراق في مجالا الاقتصاد العراقي واعتزازهم بعلاقاتهم التجارية, وكونهم يفتخرون بهويتهم الوطنية وانتسابهم لأرض الرافدين منذ اكثر من 2500 عام.


المصادر:

يهود العراق في الوثائق البريطانية قبل الحرب العالمية الأولى. ترجمة محمود عبد الواحد القيسي. وعبد المجيد التكريتي. بغداد. 2001. ص64.
حنا بطاطو. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ترجمة عفيف البزاز. ج1. الكويت. منشورات دار القبس. 2003. ص286.
صباح عبد الرحمن. النشاط الاقتصادي ليهود العراق 1917-1952. ط1. بغداد. بيت الحكمة. 2002. ص63/65.
صموئيل اتنجر وآخرون. اليهود في البلدان الاسلامية (1850-1950). ترجمة جمال أحمد الرفاعي. مراجعة رشاد عبد الله الشامي. 1995. ص45.
ازهار عبد علي حسين الربيعي. المصدر السابق. ص103.
صباح عبد الرحمن. النشاط الاقتصادي. مصدر سابق. ص93.
جريدة القبس الكويتية. مقال للكاتب محمد إبراهيم الشيباني بعنوان (يوم إعدام عدس). العدد 13177 في 3 شباط 2010.
إريك دافيس. مذكرات دولة سياسة والتاريخ والهوية الجماعية في العراق الحديث. ترجمة حاتم عبد الهادي. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2008. ص149.
مير بصري. رحلة العمر. ص97.
يعقوب يوسف كوريه. يهود العراق. تاريخهم, احوالهم, هجرتهم. ط1. عمان. الاهلية للنشر والتوزيع. 1998 ص88.
مير بصري. رحلة العمر. المصدر السابق. ص97
احمد عبد القادر مخلص القيسي. الدور الاقتصادي لليهود في العراق 1920-1952. اطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية التربية/ الجامعة المستنصرية. 1998. ص64.
علي كامل سرحان. الأقلية اليهودية في لواء الحلة (1921-1952) دراسة تاريخية لأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة. ط1. 2013. ص45.
خلدون ناجي معروف. الأقلية اليهودية في العراق. ص129/130
طالب مهدي الخفاجي. دور المال في تكوين الشخصية اليهودية. مجلة آفاق عربية. العدد6. 1987. ص111.
محاضر جلسات مجلس النواب العراقي لعام 1944, الاجتماع الاعتيادي. الجلسة الأربعون. لائحة قانون الميزانية العامة لعام 1945. يوم 26 آيار 1945. مطبعة الحكومة 1945. ص500/501.
عزت ساسون معلم. على ضفاف الفرات أيام مضت وانقضت. دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة. تحقيق نبيل عبد الأمير الربيعي. ط1. 2017. ص41.
مازن لطيف. مقال تحت عوان (يهود الديوانية اسماء وذكريات). موقع النور. في 26/1/2010.
علي عبد القادر العبيدي. مدارس الأليانس الإسرائيلي العالمي وأثرها على الطائفة اليهودية في العراق. اطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الجزائر. 2003. ص292.
مير بصري. اعلام اليهود في العراق الحديث. مصدر سابق. ص205.
صحيفة العراق. العدد 106. بتاريخ 5 تشرين الثاني 1920.
محاضرات جلسات مجلس الأعيان العراقي لعام 1948-1949. الاجتماع الاعتيادي الجلسة الرابعة عشرة. في 30 آذار 1949. بغداد مطبعة الحكومة 1949. ص163.
صباح عبد الرحمن. النشاط الاقتصادي. مصدر سابق. ص31.
احمد عبد القادر القيسي. المصدر السابق. ص90/91.
صباح عبد الرحمن. هجرة يهود العراق (دراسة وثائقية) مركز الدراسات الفلسطينية. جامعة بغداد. 2005. ص33



190
يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد الملكي / الحلقة العاشرة
نبيل عبد الأمير الربيعي
      بعد خسارة ابناء العراق الجنسية والممتلكات, منحت الحكومة العراقية اليهود تأشيرة مرور مؤقتة دُمغت بطابع اسود كتب عليه (ممنوع من العودة إلى العراق). على أثر ذلك غادر اليهود العراقيون البلاد على متن الطائرات التابعة لشركة طيران الشرق الأدنى وهو الاسم المموه الذي مُنح لشركة العال, خطوط النقل الجوية الاسرائيلية. بعد وصولهم إلى اسرائيل بساعات قليلة حصلوا المهاجرون على حق المواطنة من خلال منحهم الجنسية الاسرائيلية مع سلسلة من الاجراءات مثال ذلك (اقتلاع الصورة الشخصية للمهاجر من جواز المرور الذي يتم مصادرته ولصقها بهوية اسرائيلية جديدة الى جانب منحه اسماً عبرياً معاصراً جديداً, ثم ينقل المهاجرون مباشرة إلى معسكرات مؤقتة.
      بعد هجرة اكثر من (124) الف عراقي من الديانة اليهودية العراق عام 1951م واضطراب السوق والتجارة العراقية تحرك السوق مرة أخرى واصبحت الحياة محتملة إلى حدً معقول, وكان عدد الذين لم يرغبوا بالهجرة من العراق لا يتجاوز (6000) نسمة, كانوا متمسكين بأرض الوطن ومستعدين لمواجهة أي عاصفة تصدر من الحكومة العراقية, مما دفعهم للتلائم مع الظروف المتغيرة, فقد كانوا اغلبهم متمكنين مادياً ومنسجمين مع الحياة السياسية, لكن كانت القيود المفروضة عليهم ومنها منعهم من السفر أمراً مفروغاً منه, لكن كانت تراخيص الاستيراد التي تمنح لهم قد توقفت, وتم العمل التجاري باسم شريك مسلم ولذلك ستكون الارباح متناسبة بنسبة أقل.
      كان قرار ترحيل يهود العراق واسقاط الجنسية العراقية عنهم خطأً تاريخياً ارتكبته الحكومة العراقية لا يغتفر, كان قرار الترحيل بسبب اعتناق اغلب ابناء الطائفة اليهودية للفكر اليساري والماركسي ومشاركتهم في تظاهرات المعارضة للحكومة الملكية, وكان غالبية يهود العراق لهم عشقهم الخاص لتربة هذا الوطن, لكن اجراء وزارة توفيق السويدي بإسقاط الجنسية عن اليهودي العراقي بهدف تعزيز دولة إسرائيل وزيادة عدد المقاتلين, لكن عندما سأل مير بصري عن سبب بقائه في العراق وعدم هجرته إلى إسرائيل كان جوابه "لم اهاجر إلى إسرائيل مع من هاجر لأنني كنت اشعر أنني يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة( ). وعبرَ عن هذا الموقف البروفسور سامي موريه  حين وصف شعوره عندما هاجر العراق عام 1951م فقال :"صعدنا إلى الطائرة واقلعت بنا وحامت في الجو فوق بغداد وعلى الجسر الذي يجري من تحته نهرنا الذي روى عروقي وعظام آبائي خلال آلاف السنين, انتهزت الفرصة لكي ألقي نظرة وداع أخيرة على مرتع الطفولة والصبا, وشعرت بالحزن والوحشة والضياع.

  المصادر:

  مناحين إسرائبل. مجتمعات متوترة ومتمايزة. باريس. لهرمتان. 1986. مصدر اخر. نسيم قزاز. اليهودي الاخير في بغداد. تذكرة وطن ضائع. دار الرافدين. 2016.
  فاتن محيي محسن. المصدر السابق. ص137/138.
  سامي موريه في مؤتمر عن (يهود الحضارة العربية) بانكلترا صيف 2009.

191
يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد الملكي / الحلقة التاسعة
نبيل عبد الأمير الربيعي
      في 15 كانون الثاني 1948 وقع صالح جبر رئيس الوزراء العراقي مع ارنست بيفن وزير الخارجية البريطاني معاهدة بورتسموث التي كان الهدف منها تعديل المعاهدة العراقية / البريطانية لعام 1930م, وقد قوبلت بالرفض من فئات الشعب العراقي جميعها معبرةً عن رفضها بانتفاضة شعبية شارك فيها المثقفون والطلاب فضلاً عن الأحزاب السياسية, وبلغت الأحداث في بغداد حد الأزمة حينما أطلق الرصاص على المتظاهرين وسقط عدد من الشهداء في 27 كانون الثاني 1948, فاضطر صالح جبر للاستقالة وألف السيد محمد الصدر الوزارة في 29 كانون الثاني 1948 التي اعلنت رفضها للمعاهدة وعدَّ ذلك انتصاراً لإرادة الشعب العراقي.
      سقط عدد من الشهداء من بينهم بهيجة وشمران علوان وجعفر الجواهري شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي رثاه بقصيدة شهيرة لكن إبراهيم عوبديا كان صوته في انتفاضة الجسر مدويا عاصفا ثائرا ومن النقاد من يرى عن صواب لو أن النقد الأدبي نظر إلى الشعر بصرف النظر عن الخلفية الدينية للشاعر، لكانت قصيدة عوبديا أجمل وأعذب من قصيدة الجواهري في حق جعفر.
كتب إبراهيم:
الجسر يصـــــــخب بالهتـاف                  وبالصراخ وبالـــــصياح
وكتيـــــــــــبة تــــــــعدو مـن                 الحرس المدجج بالسلاح
ومكبرات الصوت تــــــــــنقل                  صوت بغداد الكـــــــــــفاح
ويسود صمت حين يــــــنطق                 الرصاص علــى الرعــــايا
وهناك فوق الجسر صــــــاح                  مناضل بين الضـــــــــحايا
نادى بأعلـــــــــــــــى صوته                   يا قوم إن سالــت دمــــايا
فلقد نذرت دمي لصــــــون                    كرامتي بين البــــــــــــرايا
ولتربة مــــــــــــــن أجلها                     صغرت    بعيني    المنايا
أنا لن أموت وفــــي دمي                      من كل مكرمة بـــــــــــقايا
أنا لن أموت وأخـــــــوتي                     الأحرار في هذي الســـرايا
                                   ***
يا إخوتي ورفاق دربــــي                     في النضال وفي الطـــــماح
إن يخرق الظلام صــدري                     بالرصاص أو الرمــــــــــاح
أو يتركونـــــــــــــي جثة                      في الدرب هامدة الــــجراح
ما مات في موتى النضال                     ولا انتهى عهد الكــــــــفاح).
      كما كان لموقف رئيس الطائفة الموسوية الحاخام ساسون خضوري موقف وطني اتجاه الأحداث, وقد أقدم على خطوة جريئة عبرّ من خلالها عن موقفه الوطني تجاه الشعب العراقي حينما أقام مجلس عزاء لشهداء الوثبة على الرغم من النصائح التي قدمت له من بعض أبناء طائفته منهم مير بصري, إذ سأله ساسون خضوري عن رغبته في كتابة لافتة في باب مجلس العزاء (قلت لك بدمك تحييني), فقال له مير بصري (أن الحكومة ستقمع المظاهرات وترجع الأمور طبيعية), وفعلاً عند انتهاء المظاهرات لم تنس الحكومة العراقية موقف ساسون خضوري ومساندته للمظاهرات فأوحت له بالاستقالة والابتعاد عن المنصب بعد انتهاء الأحداث.
       عام 1948م تم تأسيس دولة إسرائيل, واصبح المسلمين لا يميزون بين اليهود والصهيونية, واعتبرت الحكومة العراقية الانتساب إلى الصهيونية مخالفة جنائية تؤدي إلى السجن أو الإعدام, فكان من ضحايا ذلك التاجر اليهودي الثري في البصرة شفيق عدس, الذي شنق أمام عائلته وفي باب داره وهي صفعة قوية وثانية لأبناء الطائفة اليهودية في العراق, اتخذت الحكومة العراقية بعد الحادث عدت اجراءات منها :
1- فصل الموظفين من ابناء الطائفة اليهودية من وظائفهم.
2- إلغاء عمل المصارف اليهودية.
3- إيقاف تجديد اجازات الاستيراد والتصدير الخاصة بيهود العراق.
4- اجبار اثرياء اليهود في دعم المجهود الحربي لإنقاذ فلسطين مادياً.
5- فرض القيد على السفر.
6- فرض القيود على معاملات بيع وشراء عقارات ابناء الطائفة اليهودية.
      كان ضمن قيادات الحزب الشيوعي العراقي الفاعلة ساسون شلومو دلال الذي سيَّر شؤون الحزب من كانون الأول 1948م حتى 19 شباط 1949م, وقد اعدم من قبل سلطات الحكومة الملكية في العام نفسه, كما ضم الحزب الشيوعي العراقي في قياداته كل من (يعقوب مناحيم قوجمان وشقيقه حسقيل قوجمان وإبراهيم شاؤل وشقيقتهم نجية قوجمان وديزي حسقيل وسمحة يعقوب سعاد خيري) وآخرون.
      بعد حرب عام 1948م تسارع نشاط هجرة يهود العراق, وشهدت هذه الحقبة تدهوراً في اوضاعهم إذ اتسمت عمليات المطاردة السياسية لليهود وخاصة على الشيوعيين والصهيونيين اعقاب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948م, ففي مطلع عام 1949م ناقشت الأوساط القومية والصحف في بغداد احتمالات طرد اليهود من العراق, ويؤكد نسيم قزاز قائلاً إن (ناقش نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي آنذاك هذا الموضوع مع ممثلي الحكومتين البريطانية والامريكية اللتين حذرتاه من تداعيات هذا الأمر على الأوضاع في المنطقة, لكن حكومة توفيق السويدي قررت اصدار قانون اسقاط الجنسية بقرار رقم (1) لسنة 1950م الذي استهدف اليهود تحديداً. خول القانون الحكومة العراقية حرمان أي يهودي غادر العراق بصورة غير شرعية من الجنسية العراقية, وأي يهودي غادر العراق قبل صدور هذا القرار سيفقد حقوق المواطنة في حال فشل في العودة إلى العراق خلال شهرين, كانت الحكومة غير متوقعة بعد اصدار هذا القانون هجرة الطائفة اليهودية بأكملها, إذ لم يتجاوز عدد الذين بادروا إلى التسجيل في قوائم الراغبين بمغادرة العراق المئة وخمسين يهودياً عراقياً, لكن الشهور التالية حملت المفاجأة لجميع الأطراف, ففي الثاني عشر من نيسان ارتفع هذا العدد إلى (340), وبعد ذلك بأسبوعين إلى ثلاثة وعشرين ألفاً, وارتبطت وتيرة الزيادة في اعداد اليهود المهاجرين بسلسلة حوادث العنف, يذكر الباحث عباس شبلاق في كتابه (هجرة يهود العراق. الظروف والتأثيرات) قائلاً "ففي الثامن من نيسان القيت قنبلة يدوية على مقهى يهودي سقط على اثرها عدد من الشباب اليهودي جرحى, وتلا ذلك إلقاء قنبلة يدوية اخرى من سيارة مسرعة على مقهى في منطقة البتاوين في الثالث من حزيران, ووقعت الحاثة الثالثة والأعنف بعد ذلك بسبعة أشهر في مدرسة مسعودة شمطوب حيث ألقيت قنبلة أخرى على جمع من اليهود كانوا ينتظرون دورهم في التسجيل للمغادرة في الرابع عشر من كانون الثاني 1951م, قتل في هذه الحادثة خمسة يهود وجرح اكثر من عشرين آخرين, وانفجرت ثلاث قنابل اخرى في اماكن متفرقة في آذار وآيار وحزيران من ذلك العام, وقامت الشرطة العراقية بإلقاء القبض على اثنين من الناشطين الصهاينة هما يوسف بصري وشالوم صالح واتهمتهما بالمسؤولية عن القاء القنابل, وحوكم كلاهما وشنقا في العام التالي 1952".
      بعد هذه الاحداث صدر قرار مصادرة لأموالهم المنقولة وغير المنقولة لمن رغب بإسقاط الجنسية والهجرة إلى إسرائيل, مما ساهم هذا القرار بهجرة ما يقارب (124000) يهودي عراقي ومن ضمنهم (20000) من يهود كردستان العراق كانوا اغلبيتهم من الفلاحين والقرويين الفقراء, وبعض المصادر تعتقد أن مجموع المهاجرين بصورة شرعية أو غير شرعية زهاء (140000) نسمة, واغلبهم من سكنة بغداد, في عملية تم نقلهم عبرّ شركة طيران الشرق الأدنى وقد تقاسم ارباح هذه العملية كل من نوري السعيد ورئيس الوزراء توفيق السويدي ومدير الطيران العراقي صباح نوري السعيد, أطلق على هذه العملية اسم (عزرا ونحميا), وهكذا افلحت الحكومة العراقية في العهد الملكي من طرد مواطنيها ومصادرة املاكهم, من خلال هذه العملية بقي في العراق حوالي (6000) يهودي فقط, من الفئة التي تمثل التيار الوطني المخلص للعراق, ومن الأثرياء واصحاب المصانع والملكيات الزراعية, وكان اغلبهم من المثقفين واليساريين, استطاعوا الاندماج مع المجتمع العراقي وتحقيق الازدهار الصناعي والتجاري والزراعي للفترة من عام 1953 ولغاية عام 1968م.
      وبذلك حرم جميع اليهود العراقيين المغادرين من جنسياتهم وحقوق المواطنة وممتلكاتهم, كما صادرت الحكومة الحسابات المصرفية لليهود وحظرت عليهم ممارسة الأنشطة التجارية, ولم يتمكن اليهود بسبب هذه الاجراءات من بيع ممتلكاتهم.
       من خلال قوافل الهجرة القسرية ليهود العراق عام 1951م عبرَّ الخطوط الجوية لشركة الشرق الأدنى حقق توفيق السويدي رئيس وزراء العراق ونوري السعيد وصباح نوري السعيد ثروة طائلة بسبب تنظيمهم للرحلات الجوية واشرافهم عليها, وقد لخص عضو مجلس الأعيان العراقي عزرا مناحيم دانيال موقف القيادة بأفضل صورة, فعند قضاءه يوماً كاملاً في التاسع من آذار 1951م في مجلس الأعيان للاعتراض على قانون مصادرة الممتلكات اليهودية, إذ كان الوحيد الذي صوت ضده قائلاً (هذه نهاية حلم بناء مجمع ثري متماسك وجدير بماضيه).


  المصادر:

  جعفر عباس حميدي. التطورات السياسية في العراق 1941-1953. النجف الاشرف. مطبعة النعمان. ط1. 1976. ص538/542.
  حمزة الحسن. الشاعر المنسي إبراهيم عوبديا أو اليهودي الجميل. موقع الحوار المتمدن. العدد 534. في 5 تموز 2003.
  مير بصري. اعلام يهود العراق. مصدر سابق. ص114.
  عباس شبلاق. هجرة يهود العراق. الظروف والتأثيرات. لندن. دار الساقي للنشر. 1986. ص186/187.
  نسيم قزاز. اليهود في العراق في القرن العشرين 1951-2000. اورشليم. رابطة اليهود النازحين من العراق 1991. ص304.




192
يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد الملكي / الحلقة الثامنة
نبيل عبد الأمير الربيعي
كان موقف النخب اليهودية من أحداث الفرهود 1941م الانسجام والتعاون بين الطوائف الدينية المتنوعة وقللا من آثار الأحداث الخطيرة مثل الفرهود, وقد اعلن ذلك الموقف كل من مير بصري وأنور شاؤل, في حين يلقي المفكر الماركسي حسقيل قوجمان باللائمة على الجيش البريطاني الذي شجع على الفرهود, بل أنه يتهم الجيش البريطاني بأنه حاول أن يجري الفرهود في البصرة ايضاً, ولما لم يستجب البصريون نزل أفراد الجيش البريطاني وكسروا الأبواب داعين الناس إلى النهب والسلب. كما دعا الحاخام ساسون خضوري رئيس الطائفة الموسوية أبناء الشعب العراقي بطوائفه إلى أن يساهموا في الدفاع عن العراق من خلال التبرعات في الاكتتاب لإسعاف الجيش العراقي والذي افتتحته جمعية الهلال الأحمر لإنقاذ العراق من خلال فرق الشباب التي تدافع عن العراق, وقد تشكلت فرقة شباب وشابات الطائفة الموسوية التي كان من اعضائها يوسف زلخة, منشي يعقوب ذيب, يعقوب بيخور, نعيم زلخة, لطيف بيخور, حسقيل يوسف, منشي شاؤل, نعيم طويق, إبراهيم صيون, صالح منشي, أنور الياهو, سليم صالح, فيوليت الياهو, راشيل هارون, مرسيل سالم, رني هارون, حنينة زلخة, وقد رفعوا بياناً اكدوا فيه "إننا شبيبة الطائفة الموسوية من شباب وشابات نقدم ارواحنا ودماءنا لنكون بيدكم سلاحاً قاطعاً توجهونه إلى حيث تشاؤون في هذا الكفاح العنيف ضد المعتدين على حريتنا". وقد وقف علماء الدين المسلمين موقفاً مشرفاً من قضية الفرهود, فأصدر السيد محمد الصدر عضو مجلس الأعيان تعليمات إلى وسائل الإعلام للتمييز بين الصهيونية وبين يهود العراق, وأصدر المرجع الديني للشيعة في النجف السيد محسن الحكيم والمفتي نجم الدين الواعظ فتوى تحرم الاساءة لليهود, وقد اعدمت الحكومة العراقية بعضاً ممن اتهموا بحوادث الفرهود, مما ادخل الارتياح داخل أوساط اليهود العراقيين.
وقد نشطت الأحزاب السياسية وقتذاك لكن أكثر الأحزاب التي جذبت اليهود إليها كان الحزب الشيوعي العراقي, ثم شكل الحزب روابط ضد الصهيونية ومنها عصبة مكافحة الصهيونية إذ تمت الموافقة على الطلب المقدم إلى وزارة الداخلية في 16 آذار 1946, وقد ساهم في تأسيس العصبة عدد من اليهود الذين كانوا يعملون في سكك الحديد ويبلغ عددهم (25) موظفاً حكومياً. وأرفق بالعريضة منهاج العصبة، الذي اشير في المادة الثانية منه إلى :"أهداف العصبة، مكافحة الصهيونية وفضح أعمالها ونواياها بين جماهير الشعب العراقي لا سيما بين اليهود. وتلك قضية حيوية لها خطورتها في حياتنا الوطنية. ولذلك تستهدف العصبة القضاء على نفوذ الصهيونية ودعايتها..". وورد في البرنامج أيضاً: في المادة الثانية " أ- القضاء على النعرات الطائفية التي تمزق وحدة الشعب العراقي. ب- خلق جو من التفاهم بين مواطني الشعب العراقي كافة وذلك ببث روح الديمقراطية بين سائر أفراد الشعب العراقي". وبعد مرور ستة أشهر على تقديم العريضة، أجاز وزير الداخلية النشاط العلني للعصبة بتاريخ 16/3/1946، وسُمح لها بإصدار جريدة علنية هي صحيفة "العصبة" التي صدر العدد الأول منها في 7 نيسان عام 1946، التي كانت توزع بحدود 6 آلاف نسخة في بغداد والمحافظات العراقية. وصدر تباعاً 51 عددتً من جريدة العصبة لحين توقيفها من قبل السلطات الحاكمة آنذاك. وعقدت العصبة مؤتمرها الأول وانتخبت الهيئة الإدارية وترأسها يوسف هارون زلخة, فيما ترأس هيئة الرقابة يهودا صديق (عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي)، والذي تم إعدامه مع قادة الحزب عام 1949)، كما وترأس هيئة الرقابة يهودا صديق، وتولى يعقوب مصري (عادل مصري) سكرتارية العصبة، واحتل كل من يوسف زلوف ومسرور صالح قطان وآخرون مواقع قيادية في المنظمة.
ويعد تشكيل "العصبة" نقطة عطف في انغمار المكون اليهودي في النشاط الوطني العراقي بعد أن كان هذا المكون يتردد في المشاركة في النشاط السياسي العام. وحين حلَّت الذكرى الثامنة والعشرون لصدور وعد بلفور (2/11/1945)، أصدرت العصبة بياناً، ضمَّنته استنكارها هذا الوعد. وجاء في البيان أن "الاستعمار يستطيع أن يتكرم بفلسطين، مئات المرات، طالما أنها ليسـت بلاده، وطالما أنه يجـد في ذلك ربحـاً له ومغنماً". واعتبر البيان غاية الاستعمار وعميلته الصهيونية من (وعد بلفور)، تحويل "نضال العرب، الموجَّه ضد الاستعمار، نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، ولو كان المستعمرون يعطفون، حقاً، على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوربا".
ولم تقتصر العصبة في عضويتها على اليهود فقط, بل جعلت باب الانضمام مفتوحاً لكل العراقيين, وبعد أن حصلت على اجازتها وجهت نداءً إلى الشباب اليهودي والمواطنين الآخرين كافة للانضمام إليها والتعاون معها لتحقيق اهدافها الوطنية. كان اعضاء هيئة العصبة في بغداد كلاً من :"يعقوب إسحق, موشي يعقوب, ملا عبود, سليم منشي, نسيم حسقيل يهودا, مسرور صالح قطان, إبراهيم ناجي, يعقوب مصري, مير يعقوب كوهين ويوسف هارون زلخة رئيساً.
كما اعلن الباحث والشاعر مير بصري انضمامه للعصبة وبينَ موقفه صراحة من الحركة الصهيونية, واعتزازه بعراقيته, ذكر مير بصري أن أبناء طائفته سبق لهم أن رفضوا الحركة الصهيونية, فحين دعا ارنولد ولسن الحاكم المدني العام وكالة في العراق عام 1918م ليبشر وجهاء اليهود بوعد بلفور رآهم واجمين وقالوا له "أن فلسطين مركز روحي لنا, ونحن نساعد المعابد ورجال الدين فيه مالياً, لكن وطننا هذه البلاد التي عشنا في ربوعها آلاف السنين, وعملنا بها وتمتعنا بخيراتها, فإذا رأيتم أن تساعدوا هذه البلاد وتحيوا اقتصادياتها وتسندوا تجارتها وماليتها, فإننا نشارك في الرخاء العام", واعربوا عن مساندتهم للقضية الفلسطينية ومعارضتهم للهجرة اليهودية إلى فلسطين, مما اعلن شباب الطائفة اليهودية تأييدهم للعصبة في الصحف العراقية, ففي البصرة اعلن كل من ناجي شاؤل, أنور يوفار, أدورد يوسف, يعقوب شاؤل, صادق إسحق, داود عزرة, إبراهيم ناجي يعقوب, فرانك روبين, صالح مير, روبين حائك, هارون الياهو, عزرا كباي, موشي الياهو, نعيم يوسف, مير حاييم, حييم عزرا, خضوري الياهو, عبود ساسون, داود شميل, إذ قدم هؤلاء التماساً لقبولهم في العصبة. نالت العصبة شهرة واسعة في عدد من المدن العراقية خلال نشاطها وتعريفها للقضية الفلسطينية لعشرات الألوف من المواطنين العراقيين, ورفع في الديوانية عدد من الشباب اليهودي عريضة إلى مجلس النواب العراقي تأييدهم للعصبة وتسجيل اسمائهم اعضاء فيها وهم كل من :"موشي سلمان, إسحق يعقوب, الياهو سلمان, إسرائيل شاؤل, يونا معلم, موشي معلم, إبراهيم سلمان, حقي منشي, ساسون شمعون, موشي حاييم.
وما أن بادرت المنظمة وبدعم من الحزب الشيوعي إلى القيام بمظاهرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في 28 حزيران عام 1946، حتى تعرضت المظاهرة إلى القمع والقسوة من أجهزة الأمن، مما تسبب في استشهاد أول شهيد شيوعي في العراق وعضو عصبة مكافحة الصهيونية وهو الشهيد شاؤول طويق. كما جُرح عدد كبير من المشاركين في المظاهرة السلمية. وإثر ذلك أعلن الحظر على نشاط العصبة وأوقفت صحيفتها "العصبة". وأحيل المشاركون في هذه الفعالية إلى القضاء، وأصدرت محكمة الجزاء في يوم 15/ 9/ 1946 قرارها بالحكم على كل من "يعقوب مصري ومسرور صالح قطان بالحبس الشديد لمدة سنة واحدة، وعلى كل من خليل نصيف بالحبس الشديد لمدة ستة اشهر وعلى كل من سامي ميخائيل وعمانوئيل بطرس بالحبس البسيط لمدة ثلاثة اشهر وذلك وفق المادة 89 بدلالة المواد 78،53،54 من ق.ع.ب. كما أصدرت المحكمة حكمها بالسجن المؤبد على يوسف هارون زلخة، مدعية أنه يترأس عصبة للكفاح من أجل الصهيونية لا ضدها. فيما كانت الحكومة العراقية تعجل بتهجير زهاء مائة وثلاثين ألف يهودي من العراق إلى فلسطين ، مقابل عشرة دنانير عن كل مهاجر يصل إلى هناك، تدخل جيوب متنفذين في الحكومة العراقية.
انبثقت "عبقرية" الحاكم العراقي حينذاك وأكد أن عصبة مكافحة الصهيونية تعني "عصبة الكفاح لصالح الصهيونية". فقد جاء في قرار التجريم الصادر عن الحاكم خليل أمين المفتي حاكم جزاء بغداد الأول القاضي بحبس السيد يعقوب مصري سكرتير عصبة مكافحة الصهيونية والسيد مسرور قطان محاسبها وثلاثة مواطنين آخرين وفق المادة 89 من قانون العقوبات البغدادي, ما يلي:
" إن تعبير مكافحة الصهيونية ليس معناه الكفاح ضد الصهيونية لأنه كلمة كافح مكافحة وكفاحاً فكلمة مكافحة الصهيونية معناه كفاح الصهيونية ولو أريد أن هذه العصبة تكافح ضد الصهيونية لقيل (عصبة المكافحة ضد الصهيونية) غير إن هذا العنوان مما يدل دلالة واضحة إن العصبة هي عصبة كفاح الصهيونية".
وقد أدين هذا التفسير من جانب محامي الدفاع وكثرة من اللغويين العرب، بمن فيهم الأستاذ الدكتور مصطفى جواد، حيث قيل عنه في حينها، "هل تعني عصبة مكافحة السل وعصبة مكافحة الجراد وعصبة مكافحة الأمية، عصبة لنشر السل وحماية الجراد ونشر الأمية"، كما أشار إلى ذلك يعقوب المصري في استعادة ذكرياته التي أشير إليها سابقاً؟ لقد كان تفسير الحاكم ليس تعسفياً فحسب، بل مغالطة كبرى كان يريد منها إصدار الأحكام على كوادر العصبة بأي ثمن، إذ كانت تعليمات السلطة تقضي بذلك. وكان هذا التوجه يعني بدوره تشجيع نشاط كوادر الحركة الصهيونية، فلا يمكن محاربة من يعادي الصهيونية ومن يؤيدها في آن واحد. فمن يمارس الأول ينشط الثاني والعكس صحيح أيضاً. وهذا ما حصل فعلاً.
لقد لعبت عصبة مكافحة الصهيونية خلال عمرها القصير دوراً مؤثراً في تعبئة المكون اليهودي في العراق كي يتوخى الحذر من الوقوع في فخ التآمر الصهيوني ضد العرب واليهود على حد سواء، وبث روح التآخي والتضامن بينهم لمواجهة مخططات عدوهما المشترك. وأحبطت المنظمة قبل حظر نشاطها مخططات الوكالات الصهيونية والحكومة العراقية الموالية لبريطانيا لتهجير اليهود العراقيين إلى فلسطين.


المصادر:

حوار مع حسقيل قوجمان أداره حسين السكاف. موقع عينكاوة. عام 2009.
صحيفة الزمان العراقية. العدد 1104 في 5 آيار 1941.
صحيفة الزمان العراقية. العدد 1109. في 11 آيار 1941م.
فاتن محيي محسن. مصدر سابق. ص124/125.
معتصم حسن الناصر. مصدر سابق. ص139/140.
حادل حبة. مقال تحت عنون (عصبة مكافحة الصهيونية مأثرة من مآثر الحزب الشيوعي العراقي) نشر في صحيفة طريق الشعب. في 12 نيسان/أبريل 2016.
صحيفة الأخبار العراقية. العدد 1589 في 12 آذار 1946.
جعفر عباس حميدي. التطورات السياسية في العراق 1941-1953. النجف الاشرف. مطبعة النعمان. 1976. ص397.
صحيفة الشعب العراقية. العدد 309 في 23 ايلول 1945.
صحيفة الشعب العراقية. العدد 311 في 25 ايلول 1945.
د. عبد اللطيف الراوي . عصبة مكافحة الصهيونية في العراق 45-1946. مصدر سابق. ص 176.
د. كاظم حبيب. عصبة مكافحة الصهيونية بالعراق والموقف من قضية فلسطين والتقسيم. موقع الحوار المتمدن. العدد 5243 في 3/8/2016.



193
يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد الملكي / الحلقة السابعة
نبيل عبد الأمير الربيعي
      نجح يهود العراق في التصدي لظاهرة الأمية وكانوا من بين أكثر الجاليات الأثنية تعلماً في الشرق الأوسط, كما نشط العديد منهم في الحركات الوطنية العراقية في حقبة مطلع ثلاثينات القرن الماضي, إذ مال بعامتهم إلى التعبير عن انفسهم بمفردات وطنية أو على الأقل موالية, كما فاز العديد منهم بوصفهم وطنيين حريصين على مصلحة البلاد في الانتخابات التي اعقبت تأسيس النظام الملكي.
       في 1 سبتمبر 1933 سافر الملك فيصل الأول إلى بيرن في سويسرا، لرحلة علاج وإجراء فحوص دورية ولكن بعد سبعه أيام أُعلن عن وفاته في 8 سبتمبر 1933، أثر أزمة قلبية ألمت به. وتولى نجله الملك غازي عرش العراق, ولكونه شاباً لا يتمتع بالخبرة السياسية, فضلاً عن حماسه العروبي زاد من تفاقم المشاكل في البلاد وتدخل الجيش في السياسة.
       تعرض يهود العراق في حقبة الملك غازي لحملات من التصفية والاضطهاد, منها ابعاد عدد من الموظفين اليهود من وزارة الاقتصاد والمواصلات من قبل ارشد العمري, وزير الاقتصاد والمواصلات في وزارة علي جودت الايوبي المشكّلة في 27 آب 1934م, إذ قام العمري ايضاً بإصدار أوامره بالاستغناء عن خدمات بعض الموظفين الآخرين من غير اليهود, وكانت ردة الفعل اتجاه الأمر قد اخذت ابعاداً واسعة, إذ قام عدد من اليهود بإضراب وتعطيل اشغالهم ومتاجرهم لمدة ثلاثة ايام احتجاجاً على هذا الاجراء, دفع الاضراب وزير الاقتصاد والمواصلات إلى الاعلان عن إنهاء هذه الاجراءات والترتيبات, وكان لهذا التصريح أثر حسن في اوساط الطبقة العاملة اليهودية في العراق.
      كما حصلت في اثناء وزارة ياسين الهاشمي الثانية (17 آذار 1935 – 29 تشرين الاول 1936) المتأثر بالأفكار القومية, بعض الاعتداءات ضد يهود العراق كتحطيم المحال التجارية اليهودية ونهبها, كما القيت بعض القنابل في النوادي اليهودية, فأوجد هذا الوضع حالة من الخوف لدى الطائفة اليهودية, توقفت هذه الاحداث ضد يهود العراق بعد حصول انقلاب بكر صدقي يوم 29 تشرين الاول 1936, فرحبت الطائفة اليهودية بحكومة الانقلاب وقدمت لعدد من شخصياتها الهدايا والهبات, لكن الوضع لم يدم طويلاً, إذ سرعان ما انتهت هذه الحكومة بمقتل بكر صدقي واستقالة رئيس الوزراء حكمت سليمان في آب 1937.
      كانت الدعاية القومية لها دور في وسط المجتمع العراقي مما اشعلت نار الكراهية بين مكونات الشعب العراق, وغادر التسامح الديني بغير رجعة, وظهرت الافكار النازية منتصف ثلاثينات القرن الماضي, قام النظام الملكي حظر دروس اللغة العبرية في المدارس اليهودية عام 1936م, وتم طرد المعلمين اليهود القادمين من فلسطين, واستقبل القوميين الفلسطينيين الفارين من فلسطين من قبل القوميين العراقيين, وقامت الحكومة بتعيينهم في مجال التعليم وكان من بينهم مفتي الديار الفلسطينية أمين الحسيني وجمال الحسيني رئيس حزب العرب وعبد القادر الحسيني المناصر للفكر النازي وموسى العلمي المستشار القانوني لحكومة الانتداب في فلسطين, والناشط القومي الفلسطيني الشاعر برهان الدين العبوشي, كان الأخر محرض على طرد اليهود من العراق أو ذبحهم, كما كان للقنصل الالماني في بغداد الدور الكبير في بث الافكار النازية بين الشباب والمناصرين لحركة رشيد عالي الكيلاني في 1 نيسان عام 1941م.
       في 1 نيسان 1941 طلب العقداء الأربعة (صلاح الدين الصباغ, فهمي سعيد, كامل شبيب, محمود سلمان) من رئيس الوزراء طه الهاشمي, تقديم استقالته ونزلت قطعات من الجيش في ارجاء مدينة بغداد مما ادى إلى هروب الوصي عبد الإله, الأمر الذي اوقع رشيد عالي الكيلاني, والعقداء الأربعة بحرج كبير, فقرر رشيد عالي الكيلاني تشكيل حكومة الدفاع الوطني في 2 نيسان 1941 برئاسته, وبعدها بأيام قلائل تم اختيار الشريف شرف وصياً على العرش ودعى مجلس النواب إلى الاجتماع فقرر في جلسته بتاريخ 10 نيسان قبول استقالة طه الهاشمي وتكليف رشيد عالي الكيلاني بتشكيل الوزارة في 12 نيسا, غير أن الحكومة البريطانية رأت في الوزارة خطراً عليها في وقت كانت تحتاج فيه إلى مساعدة الحكومة العراقية في ظل انتصارات دول المحور, لذا قررت البدء بعملياتها الحربية في 2 مايس من نفس العام لاحتلال العراق. وخلال مدة زمنية وجيزة نجحت القوات البريطانية في الوصول إلى مشارف مدينة بغداد في 29 مايس, واضطر رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة ويونس السبعاوي وأمين الحسيني إلى ترك العراق تباعاً, إذ قبلوا بوصفهم لاجئين في إيران.
       انتهت حركة رشيد عالي الكيلاني بعد شهرين من قيامها, كما انتهت الحرب العراقية/ البريطانية التي استمرت قرابة الشهر, ودخل عبد الإله إلى بغداد مع القوات البريطانية في 1 حزيران 1941م, في هذا التاريخ كانت جماعات من ابناء الطائفة اليهودية قد خرجت تحتفل بعيد الاسابيع (أي نزول التوراة), وخرج معهم عدد من المسلمين والمسيحيين, لم يخف بعض اليهود فرحتهم بانتهاء حكومة رشيد عالي الكيلاني ونتيجة لذلك حدثت مشادة كلامية بين أحد اليهود وأحد المسلمين أدت إلى صدام بين الطرفين نتج عنه جرح عدد من اليهود وانتهى الصدام باعتقال المعتدين, ونتيجة لعدم توافر قوات امنية كافية لحفظ الأمن والنظام عادت الفوضى ليلاً وعمت مدينة بغداد.       
     احدثت احداث حركة رشيد عالي الكيلاني فراغاً سياسياً قصير المدى في السلطة والأمن في العراق, بحيث ادى إلى حصول مذبحة مدبرة ضد يهود بغداد, وقد عرفت في الوسط العراقي بـ(الفرهود) في الأول والثاني من حزيران عام 1941م, قتل فيها 179 يهودياً واصابة نحو 2500 آخرين بجراح, وتم سرقة محلات وبيوت اليهود من قبل الغوغاء وبعض افراد الشرطة والجيش العراقي, كان الجيش البريطاني يتمركز في حديقة السفارة البريطانية خارج بغداد, امتنع عن التدخل لإنقاذ يهود بغداد, وذلك تحت ذريعة أن اعمال العنف شأن داخلي عراقي, عقب ذلك ظهر تيار يهودي يهدف إلى حماية أحياء اليهود من الغدر والفرهود عرف فيما بعد بالحركة الصهيونية وتنظيماتها ومنها تنظيم تنوعة.
      يذكر عزت ساسون معلم في كتابه (على ضفاف الفرات) حول احداث حزيران 1941م قائلاً :"أن اليهود في الديوانية لازموا بيوتهم ولم يغادروا طوال مدة أحداث الأول والثاني من حزيران 1941م خوفاً من اعمال الشغب, وفي الوقت نفسه شعروا بعدم الأمان فعملوا خلية سرية بين الشباب اليهودي في الديوانية للدفاع عن النفس.
      يذكر نسيم قزاز حول الأحداث كان والده من أشهر التجار اليهود العاملين في تجارة الأبريسم, وإن والده وعمه قد قتلا في بداية مذبحة الفرهود, إذ اوقف الباص الذي اقله مع والده ناحوم وشريكه في تربية الخيول العربية في محلة باب الشيخ تم سحبهما ثم قتلا. ومع ذلك فلا يحمل نسيم قزاز المسلمين مسؤولية قتلهما, إذ يشير إلى أنه بعد مقتل والده وشريكه وضع القيّم على الأموال يده على محتويات الدكان ومهرهما بالشمع الأحمر لحين بيعهما بالمزاد العلني لبيع الإرث وتوزيعه بين أفراد العائلتين, وانتشر الخبر لدى التجار من أنحاء العراق, فلما جاؤوا للشراء انبرى لهم التجار زملاء والده مهددين إياهم لكل من تسّول له نفسه للشراء, اشتروا الدكان وأعادوه إلى أهله فنصروهم في تلك الأيام العصيبة.
       بعد هذه الأحداث ظهر تنظيمان للحركة الصهيونية في العراق الأول تنظيم تنوعة والثاني تنظيم حالتوس, ثم ظهرت تنظيمات أخرى في بقية مدن العراق, كان اصحاب التنظيمات الصهيونية مقتنعين بأن الحل الوحيد للطائفة اليهودية هو الهجرة من العراق أو تأسيس وطن قومي لليهود, كان أول سلاح حصلت عليه منظمة تنوعة هو مجموعة اسلحة واعتدة (ثلاث صناديق كما ذكر ذلك يهود اطلس في كتابه حتى عمود الشنق) نقلها موشي دايان مع باصات نقل الجنود البريطانيين من فلسطين إلى بغداد, فكان حدث الفرهود السبب الرئيسي لتفكير يهود بغداد وباقي المدن بالهجرة من العراق. ولذلك كان تاريخ الحركة الصهيونية في العراق مخيباً لآمال القيادة الصهيونية, إلا أن احداث الفرهود عام 1941م وتعرض الممتلكات اليهودية إلى عمليات النهب والسلب على نطاق واسع, فبعد ذلك بسنوات بدأت حركتا شورا وحالتوس بالتحرك والتأثير من خلال أعضائها على ابناء الديانة اليهودية في العراق إلى مغادرة العراق والهجرة إلى إسرائيل.

 المصادر:

 محمود عبد الواحد القيسي. الدولة والهوية في العراق واليابان في التاريخ الحديث والمعاصر. رؤية عراقية. التقليد والحداثة. بغداد. مؤسسة مصر. 2010. ص6311-
 معتصم حسن الناصر. النشاط الصهيوني في العراق في ضوء الوثائق والمصادر الصهيونية 1921-1952. رسالة ماجستير غير منشورة. مقدمة إلى كلية الآداب بجامعة- -1-  البصرة. 1999. ص84/85.
   علي كامل السرحان. الاقلية اليهودية في لواء الحلة 1921-1952 دراسة تاريخية لأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة 2013. ص103
  أزهار عبد علي حسين الربيعي. النخبة اليهودية في العراق والهوية العراقية 1920-1952. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد. ط1. 2016. ص66.
 محمد حسن الجابري. فرهود بغداد والبصرة عام 1941. بغداد مطبعة الوفاء. ط1. 2008. ص10/12.
  عزت ساسون معلم. على ضفاف الفرات أيام مضت وانقضت. دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة. تحقيق نبيل عبد الأمير الربيعي. ط1.  2017. ص163.
  شموئيل موريه. ندوة استذكارية في إسرائيل عن بغداد والبتاوين. مجلة إيلاف الالكترونية. 8 شباط 2010م.




194
يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد الملكي / الحلقة السادسة
نبيل عبد الأمير الربيعي
لقد مثل يهود العراق في مجلس الأعيان مناحيم صالح دانيال للفترة من (1924-1032), فقد هاجم فكرة تأسيس جمعية في العراق لنشر الأفكار الصهيونية فرفضها جملة وتفصيلا, معلناً أن اليهود في العراق هم عراقيون مخلصون لبلدهم ولا يرضون غير العراق بديلاً, كما ارسل إلى المنظمة الصهيونية العالمية رسالة يحذرها من نشر الدعايات الصهيونية في العراق في ايلول 1922م .
كما ساهم السيد داود سمرة في خدمة الوطن والتمسك بالأمانة, إذ عينّ نائب رئيس محكمة التمييز واستاذ القانون, كما عُين في منصب نيابة رئاسة محكمة الاستئناف بعد أن استحدث هذا المنصب عام 1923م, ثم تحول إلى محكمة التمييز بحلول عام 1926م, فكان يعرف سمرة بخدماته النزيهة في منصبه ويعتز بحرمة القضاء العراقي, كما عرف بوطنيته كقاضٍ حينما دافع عن مطالب العراقيين بعد التظاهرات التي قام بها الطلبة بسبب زيارة الفريد موند في شباط 1928م واعتراضهم على زيارته العراق كونه أحد أقطاب الحركة الصهيونية, مما اغضب المعتمد السامي البريطاني هنري دوبس, لم تمضِ مدة طويلة على اجراءات الحكومية ضد المتظاهرين حت دعي داود سمرة إلى مائدة افطار بدعوة من الملك فيصل الأول, حضر المائدة ايضاً مدير الشرطة العام محمد سليم, وبعض الشخصيات السياسية, فجرى حديث حول اجراءات التي اتخذت بشأن المظاهرات, وجه الملك فيصل سؤالاً إلى داود سمرة طالباً منه تقديم رأيه في الاحداث التي وقعت, فعبّر عن رأيه بصراحة ووطنية من دون خوف, إذ وضح امتعاضه ورفضه لمرسوم جلد الطلبة وطردهم, وإن الصحف كانت محقة في وصفها لهُ, وقال "القانون الجنائي يشمل ما قبله", وما قام به الطلاب بالتجمهر دون علمهم أن القانون يعاقبهم. فمن هذه الوجهة اقول بكل صراحة أن هذا القانون مجحف, وبما أنه قانون سنته الحكومة فيقتضي العمل بموجبه مهما كان جائراً, حت يلغى".
كما كان للباحث مير بصري الدور الوطني في خدمة العراق, كان أهم حدث سياسي في العراق عام 1930م هو عقد المعاهدة العراقية البريطانية التي ينتهي يموجبها الانتداب, حال دخول العراق عصبة الامم عام 1932م, ولم تخل مشاركة مير بصري مع عبد العزيز المظفر مدير عام وزارة الخارجية وقتها, بمقارنة نصيّ المعاهدة العربي والانكليزي, فوجدا اختلافاً يسيراً في بعض العبارات, ولما علم نوري السعيد رئيس الوزراء ووزير الخارجية بالأمر, كلف مير بصري بتدقيق النصين مع يوسف سلامة المترجم الأول لدار الاعتماد وتعديل التباين في النص العربي وأنجز العمل قبل عرض المعاهدة على مجلس الأمة.
وفي الدستور العراقي عام 1925 تم استخدام مصطلحي الأقلية والطائفة بصورة متبادلة على حدٍ سواء, أما الفصل المتعلق بالنظام القضائي حيث كان نظام الملل موضحاً في القضاء, ظل مصطلح الطائفة باقياً ووفقاً لقانون الطائفة الإسرائيلية رقم (77) الصادر من قبل الحكومة العراقية عام 1932م كان يشار إلى اليهود رسمياً بأنهم الطائفة الإسرائيلية ولم تستخدم أقلية مطلقاً.
في هذا السياق ظهرت التنظيمات النازية والفاشية, وقد اعلنوا يهود العراق مواقفهم المضادة لهذه النماذج في المجتمع العراقي. كان لهم الدور في مجال الصحافة, فقد اسس سلمان شينة المجلة الأسبوعية (المصباح) كانت إحدى اشارات تحديد الهوية اليهودية ضمن الوطنية العراقية والدينية في العراق, فكانت قد دعمت المجال المسرحي, وقد نشرت المجلة باللغة العربية القصص القصيرة والدراما, فضلاً عن نقلها الأخبار الثقافية من العالم اليهودي والمقالات العديدة وترجمة المسرحيات التربوية والتاريخية وعرضها على خشبة المسرح في قاعات المدارس اليهودية ومنها مسرح مدرسة شماش, فضلاً عن تعاطفها مع الوطنية العراقية عام 1924م.
وبعد توقف مجلة المصباح أسس الشاعر والمحامي أنور شاؤل المجلة الاسبوعية (الحاصد) عام 1928م, وكان لمجلة الحاصد الدور إلى الإشارة لهذه التنظيمات وتهديدات دول المحور والتطورات السياسية المتعلقة بها مستنبطة مسألة مناهضة النازية, وقد عملت الحاصد من خلال استغلال كل فرصة لكشف النوايا الحقيقية لألمانيا ومكائدها في تغذية الكراهية ليهود العراق بين الناس, كما تناول المؤرخ والصحفي عزرا حداد (1900-1972م) لعبة المانيا ودورها الاستعماري في المنطقة من خلال صحيفة الحاصد, كما دعمت اصوات المثقفين اليهود لرفض الاستبداد النازي والدعوة لاستغلال العراق جنباً إلى جنب مع العراقيين, وقد انظم اغلب الكتاب والصحفيين إلى التيارات الوطنية الليبرالية واليسارية, كما اصدر شاؤل حداد صحيفة البرهان, وقام السيد مير بصري ويعقوب بلبول بتحرير مجلة (التجارة) عام 1938م.
كان لتعزيز اللغة العربية بين ابناء الديانة اليهودية دوراً في تشكيل مجتمعاً عراقياً طبيعياً في الأمة العراقية, لذلك تطور وضع اليهود العراقيين الوطني والاقليمي خلال النصف الأول من القرن العشرين بشكل قوي, فضلاً عن دور الصحافة وانتشار الاحتفالات العامة, أصبحت وسائل الإعلام المميزة لليهود العراقيين للتعبير عن الولاء الكامل للعراق والضرورة المطلقة للمجتمع العراقي. وحتى منتص الثلاثينات كان الاستعمار والاحتلال العدو اللدود للمثقفين العراقيين, وتستخدم الصحافة للإشارة إلى إرادة الامبراطورية البريطانية خلال الوسائل السياسية والاقتصادية. فالعديد من الصحافيين والكتاب العراقيين اليهود تعرفوا على مؤسسو جماعة الأهالي عام 1932م, فضلاً عن تمكن جماعة الاهالي من جذب اهتمام المثقفين اليهود بسبب موقفهم اتجاه القضايا الوطنية وتعلقهم باليسار العراقي, لذلك يلاحظ حنا بطاطو أن جماعة الأهالي أبدت رغبتها في الحفاظ على مرونة معينة بشأن التوجه السياسي لأعضائها.


المصادر:

1- كاظم حبيب. اليهود والمواطنة العراقية. السليمانية. مؤسسة حمدي للطباعة والنشر. ط1. 2006. ص/91/92.
2- مير بصري. أعلام يهود العراق. مصدر سابق. ص73.
3- داود سمرة. مذكرات داود سمرة نائب محكمة التمييز. بغداد. دار ميزوبوتاميا للنشر.2013. ص70/72.
4- فاتن محيي محسن. مير بصري سيرة وتراث. ط1. بغداد. دار ميزوبوتاميا للنشر. 2010. ص84/85.



195

يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد الملكي / الحلقة الخامسة
نبيل عبد الأمير الربيعي
      بعد انهيار الحكم العثماني في العراق, وسيطرة القوات البريطانية على جميع مناطق العراق عام 1918م, فقد تأثر اليهود العراقيون بعد إنشاء نظام الانتداب في 5 آيار 1920م, وفي فترة الانتداب كان اليهود يميلون لعرض أنفسهم لا كأقلية بل كمجتمع طائفة, وفي عام 1920م تم وضع العراق تحت الانتداب, استقبله الشعب العراقي بالاستنكار والمعارضة رافضاً الحماية والوصاية, تمثلت تلك المعارضة باندلاع ثورة العشرين من الرميثة يوم 30 حزيران 1920م, ثم من منطقة الشامية التي تعرضت لغارات بريطانية كثيفة أدت إلى أضرار بالغة بالأهالي, قرر الأهالي اتخاذ خطوات للتفاهم مع البريطانيين من خلال استعانتهم بعدد من الشخصيات اليهودية في الشامية بمهتم الترجمة, ونجحوا بتدخلهم في عقد هدنة بين اهالي الشامية والبريطانيين.
      بعد عودة برسي كوكس إلى العراق ليتولى منصب أول معتمد سام لها, اجتمع بعد مجيئه في 11 تشرين الأول 1920 بالوجهاء والشيوخ والشخصيات البارزة وكان ساسون حسقيل من ضمنهم بوصفه ممثلاً بارزاً للطائفة اليهودية, ويبدو أنه استطاع كسب ثقة المعتمد السامي الجديد من خل النصيحة التي قدمها, إذ نصح ساسون حسقيل برسي كوكس بأن يطلب من الشخصيات المهمة في بغداد ممن يمتلكون أراضي واسعة في تلك المنطقة أن يستدعوا أبناء العشائر الموجودين في أراضيهم, فيشرحوا لهم نوايا بريطانيا بشأن مستقبل العراق وانشاء حكم وطني فيه, ثم يستفسروا منهم عن الغاية التي يقاتلون من أجلها, فوجدها برسي كوكس خطوة في الاتجاه الصحيح لأنها تجعل أهل بغداد يسهمون في أمر هو في النهاية من شأنهم. اسهمت نصيحة ساسون حسقيل بتهدئة الاوضاع.
       وبعد ابعاد الملك فيصل بن الحسين من دمشق في عام 1920 من قبل الفرنسيين, انضم عضو سابق في البرلمان العثماني السير ساسون حسقيل إلى مؤتمر القاهرة الذي ترأسه ونستون تشرشل عام 1921م, ودعم ساسون حسقيل توصية تشرشل بتتويج فيصل ملكاً على العراق, في 25 تشرين الأول 1920, تسلمت الحكومة العراقية المؤقتة مهامها برئاسة عبد الرحمن الكيني, ضمّت الحكومة ثمان وزراء بمناصب وزارية وتسعة وزراء من دون وزارة. ووقع اختيار عل ساسون حسقيل لتسلّم منصب وزارة المالية في الحكومة المؤقتة, شغل ساسون حسقيل وزارة المالية لمدة خمس سنوات حتى وفاته عام 1932م لنشاطه وكفاءته وإنعاش اقتصاد العراق بسياسته المالية الحكيمة, كان لساسون دور كبير في التفاوض مع شركات النفط, من خلال اصراره على أن يكون الدفع بالبون الذهب بدلاً من الأوراق المالية التي اجريت مع شركات البترول البريطانية, كان ساسون حسقيل حريصاً عل مصلحة البلاد.
      ظهرت جهود ساسون حسقيل في عدد من المواقف ابرزها مناقشة قانون انتخاب المجلس التأسيسي الذي عقد في آذار 1924م, وحينما صدر قانون انتخاب الذي اقره المجلس التأسيسي تقرر أن تكون حصة ممثلي الطائفة اليهودية من النواب أربعة, اثنان عن بغداد, ونائب واحد عن البصرة واخر عن الموصل,  هم ساسون حسقيل, نعيم يهودا زلخة, الذين اختيروا نواباً عن بغداد. أما عن البصرة فقد اصبح روبين سوميخ, نائباً عنها في مجلس النواب العراقي واسحق افرايم نائباً عن الموصل, كما قدم ساسون حسقيل نقداً للجنة المتعلقة بالعشائر الرحل في حق الانتخاب مؤكداً أن العشائر قسمان: زراعية وسيارة, فالعشائر الزراعية حقوقهم متساوية مع أهل القرى وقرأ تقريره, كما بدأ ساسون حسقيل مشواره الجاد في مؤتمر القاهرة الذي انعقد يوم 12 آذار 1921م عندما عرضت فكرة ترشيح الامير فيصل بن الحسين في المؤتمر, كما كان لحسقيل دور في تنظيم هيكل الضرائب على اسس سليمة, ومسألة المساعدات المالية التي تقدم من قبل وزارة المالية للمؤسسات التعليمية الأهلية الوطنية وقد اصطدم مع ساطع الحصري معاون وزير المعارف, فكان رأي ساطع الحصري أن مدرسة الاليانس تدخل ضمن المدارس الأجنبية لأن المركز العام لجمعية الاليانس في باريس والمدرسة تابعة للجمعية وتسير على خططها ويعين المدير من قبلها, فتفاجأ الحصري بقرار مجلس الوزراء الذي ينص على أن كل مدرسة غير حكومية تعد اهلية, كما مانع ساسون حسقيل محاولة البلاط الملكي تغطية العجز في ميزانيته بنقل مبالغ من الميزانية العامة إلى واردات البلاط, كما من ابرز مواقفه الوطنية موقفه في المفاوضات حول امتيازات النفط. كما امتاز النائب نعيم يهودا زلخة بميله إل اصلاح وغيرته عل العراق واخصه للوطن ووحدته ومصلحته.

 المصادر:

  1- فكري جواد عبد. دور الطائفة اليهودية في تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921م. مركز دراسات الكوفة بجامعة الكوفة.ص 201- .
  2- المس بل. العراق في رسائل المس بل 1917-1926. ترجمة جعفر الخياط. ط1. بيروت. الدار العربية للموسوعات. 2003. ص225.
  3- محمد مظفر الأدهمي. المجلس التأسيسي العراقي دراسة تاريخية سياسية. بغداد. مطبعة السعدون 1976. ص119/120.
  4-   نوري عبد الحميد خليل. التأريخ السياسي لامتيازات النفط في العراق 1925-1952. اطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب بجامعة بغداد. 1979م. ص78.
  5- مير بصري. اعلام يهود العراق الحديث. مصدر سابق. ص84/85.

196

يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد العثماني/ الحلقة الرابعة
نبيل عبد الأمير الربيعي
كانت ليهود العراق في العهد العثماني مراكز مالية هامة في الأستانة تجعلهم قادرين على تحقيق طموحاتهم, إذ عدوا في ذلك الوقت همزة الوصل بين ارجاء الدولة العثمانية من خلال اعمالهم التجارية ولا سيما الأمور المالية. عاشوا يهود العراق في هذه الحقبة بشكل طبيعي ومنحوا الحقوق جميعها إلا في عهد الوالي داود باشا الكرجي والي بغداد (1816-1831م)، وهو من أقسى الحكام في معاملته لليهود, وهو آخر المماليك الذين حكموا بغداد بين أعوام (1750-1831)، وأشتهر بواقعة الطوفان العرمرم والطاعون المبيد الذي ضرب بغداد وأحالها إلى ركام بشري، وطئت من جراءه الدرّك الحضاري الأسفل، وعدَّ سكانها حوالي إحدى عشر ألف نسمة لا غير, ويبدو أن تلك النازلة كانت وراء زيادة نسبة اليهود العددية اللاحقة، وذلك من جراء ممارستهم نظام الحجر الصحي (الكرنتينة) بما أوتوا من علم واطلاع صحي، والتي تقتضي عزل المصاب بالوباء عن الأحياء الأخرى، أو الاعتزال خارج المدينة, وهكذا شرع يهود بغداد بعدها بتوطيد نفوذهم بالتجارة.
ذكرت كتب التأريخ أبان الحقبة العثمانية أن يهود العراق تمتعوا بوضع اقتصادي وبحبوحة أملاها سعيهم الحثيث وجديَّتهم المشهود لها وأمانتهم في التعامل، فازدادت طبقة التجار والأثرياء الحرفيين اليهود في العراق, وأصبح لهم مجلسان الأول جسماني والثاني روحاني لتنظيم القضايا الشخصية والدينية والمدارس والمؤسسات الخيرية الخاصة بالطائفة اليهودية.
ويذكر الجميع قصة اليهودي الذي كان يبيع الغلَّة بسعر الجملة، لكنه يتربح من ريع الصناديق، ولهذه القصة دلالات أولها النأي عن الطمع والربح الفاحش على حساب فقراء الناس، والثاني إيمان اليهودي المتجذر بأن حركة رأس المال وتدويره يحفز نماءه وتكاثره، وهو المبدأ الأساس للرأسمالية التي اعتمدتها حضارات العراق منذ سومر وبَنَت على أساسها حضارات أخرى. وحدث أن اقتبسها الغرب ذلك بحثاً وتحليلا ومنهجية علمية، ومازالت شعوبنا لا تستوعب فحوى وتأثير تلك الظاهرة, وتذكر الأخبار أبان العهد العثماني بأنهم استفادوا من كون بغداد محطة للحجيج والقوافل العابرة من خلال طريق الحرير، ليعملوا في مجال الصيرفة، ورئاسة وظيفة الصرافة (الصراف باشي).
بالرغم من التسامح العثماني مع الأقليات إلا أن يهود العراق استفادوا من المرسوم الذي صدر عام 1839م (خط شريف كولخانة), إذ حصل يهود العراق بموجبه على حقوق متساوية مع بقية رعايا الدولة العثمانية, إلا أن هذه الاصلاحات لم تأخذ طريقها في التنفيذ إلا بعد صدور المرسوم الثاني عام 1856م (خط شريف همايون), وفيه جرى التأكيد على حقوق المواطنة المتساوية لليهود والالتحاق بالوظائف الحكومية والمساواة في الضرائب وحرية العبادة والمحاكم الخاصة.
كان لنشاط يهود العراق دور كبير في مجال التجارة الذي تميزوا به ومنافستهم للشركات البريطانية, إلا أن يهود العراق ممن لم يتمكنوا عملوا وكلاء لدى الشركات البريطانية التي بدأت أعمالها بشكل منظم منذُ تأسيس شركة الهند الشرقية, واستفادوا من دور الوسيط في المعاملات التجارية. بعد اعلان الدستور العثماني عام 1876م والذي اتم صياغة بنوده مدحت باشا وبموجب هذا الدستور أعطي الحق للأقليات في التمثيل الكامل في أول مجلس مبعوثات, إذ مثل يهود العراق كل من ساسون حسقيل ومناحيم صالح دانيال, كما عينّ الأخير عضواً في مجلس إدارة ولاية بغداد ما بين (1901-1917م)( ). ومن خلال تمثيلهم هذا اصبح لهم اطلاع أكثر على قضايا المجتمع العراقي.
في عهد الحكم العثماني لبغداد أتيحت فرصة بناء مدرسة الأليانس عام 1864م, كما قام السير البرت ديفيد ساسون ببناء مدرسة يهودية في بغداد للمساعدة في تعليم أكبر عدد ممكن من ابناء الديانة اليهودية فضلاً للسير إيلي خضوري الذي ساهم كذلك بمشاريع خيرية في بغدادً وبناء مدرسة ليهود بغداد. لقد ساهم يهود العراق في النوادي الاجتماعية منها نادي لورا خضوري ونادي الزوراء ونادي الرشيد, وأسس المحسن الكبير السيد مير الياس مستشفى تحمل اسمه في سنة 1910, وأسس البير خضوري مستشفى ريما خضوري لأمراض العيون, كان اسمها على اسم والدته, كما ساهم اليهود في الميدان السياسي من خلال عملهم كممثلين في البرلمان وكموظفين حكوميين مدنيين, وساهموا في الاقتصاد والحسابات والتعليم والثقافة والصحافة والموسيقى, وفي المجال التجاري والصناعي والمالي.
مَثلَّ يهود العراق اكبر طائفة دينية ضمن سكان المدينة, فكان عددهم اكثر من (50000) نسمة من بين سكان العراق الذي يقدر بحوالي (202000) نسمة, ولهذا العدد الكبير والذي مثل فيه يهود بغداد ثلث السكان تطورت الطائفة اليهودية في مجال التجارة المزدهرة عبرّ آسيا, وتطورت في جميع المجالات التعليمية والصحية والاقتصادية والأدبية.
تمتعوا يهود العراق في ظل التسامح الإسلامي في تحسين اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية, ففي المجال الاقتصادي اشتهرت أسرة آل دانيال التي امتلكت عقارات وأراضي زراعية واسعة في الديوانية وحول الحلة ومنطقة الناصرية وعلى الغراف, كما ساهم مناحيم دانيال في تطوير الزراعة في العراق, عام 1878م سافر إلى أوروبا ثم عاد إلى العراق عام 1908م, واستقدم معهُ مهندساً نمساوياً, كما جلب احدث الآلات الزراعية وانشأ مزرعة نموذجية في اراضيه في قضاء الهندية في مدينة الحلة, أما أسرة ناحوم سلمان نجمو واسحق موشي فامتلكت أراضٍ شاسعة في ناحية الحمدانية التابعة للواء الموصل, كما امتلكت أسرة حسقيل عزرا واسحق الياهو وداود اسحق أراضٍ في منطقتي خانقين ومندلي في ديالى, وحصلت أسرة آل عقيرب على مركز مهم في امتلاكها للأراضي الزراعية في مدينة الحلة والمحاويل والهندية والمسيب, فضلاً عن أسرة خلاصجي التي امتلكت أراضٍ في الشامية والحمزة الشرقي في الديوانية, وقامت بزراعة الرز واشتهرت به ( ), لكن اصاب اثرياء يهود العراق خسارة فادحة في المال قبل الاحتلال البريطاني للعراق منها صدور (النوط) العثماني وهي عملة ورقية اصدرتها الدولة العثمانية لتحل محل العملة الذهبية والفضية, انخفضت قيمة تلك النقود, مما ادى إلى حدوث هزة عنيفة في الحياة الاقتصادية العراقية آنذاك, خسر اليهود من تلك الخطوة الكثير لأن اكثر الصرافين في بغداد هم من اليهود, أتهمتهم الدولة العثمانية حينها في هبوط قيمة النوط, فألقت القبض على عدد منهم وزجتهم في السجون, بعد دخول قوات الاحتلال البريطاني بدأ النمو في ثروات يهود العراق وتعويضهم للخسارة التي حصلت بعد الخسارة التي حصلت في العهد العثماني.
أما في النشاط المصرفي فكان ليهود العراق أثراً كبيراً فيه, فكان هناك مصرف عبود زلخة الذي تأسس في بغداد عام 1889م, ومصرف ادور عبودي والبنك الذي اسسه الياهو صالح جوري. فضلاً عن دور يهود العراق في المجال الاجتماعي والثقافي والصحفي, فكان اول صحيفة يهودية باللغة العبرية هي صحيفة هلدوبير(1863-1871م), وصحيفة هامجيد عام 1864م, وصحيفة الزهور عام 1909م التي صدرت باللغة العربية وهي سياسية واسسها نسيم يوسف سوميخ, وصحيفة بين النهرين عام 1909م باللغة العربية, وصحيفة تفكر بالغتين العربية والتركية عام 1912م, وأول مطبعة تأسست عام 1863م من قبل موسى باروخ مزراحي, ومن ثم مطبعة حمايم ومطبعة بيخور عام 1884م واستمر عملها حتى عام 1908م, ومطبعة إليشاع لصاحبها إليشاع شوحيط, والمطبعة الوطنية لصيون عزرا, ومطبعة جديدة لصاحبها باخور هزين أسست عام 1888م, حيث استمرت حتى عام 1913 وقد ادار هذه المطبعة من بعد وفاة صاحبها ابنه هزين, ومطبعة دنكور التي أسست عام 1904م.
أما في مجال التعليم فقد أسست جمعية الأليانس الاسرائيلية العالمية عام 1864م أول مدرسة في بغداد على غرار المدارس الاوروبية, وادخلت اللغات الفرنسية والانكليزية والعبرية والتركية, تخرج منها معظم الشخصيات اليهودية المهمة في المجتمع العراقي, كما اسست المدرسة الابتدائية للبنين عام 1886م, والمدرسة التي اسسها مناحيم صالح دانيال عام 1887م, ومدرسة لورا خضوري اسست عام 1893م كانت ابتدائية ومتوسطة للبنات, وهي اول مدرسة لتعليم الفتيات في العراق, عام 1811م شيدها إيلي خضوري تخليداً لذكرى زوجته, ومدرسة رفقة نورائيل الابتدائية للبنات عام 1902م, ومدرسة مدراش مندلي للبنين عام 1907م وهي مدرسة دينية, ومدرسة راحيل شحمون الابتدائية للبنين عام 1909م التي اسستها جمعية التعاون, وكان يديرها شمعون معلم نسيم, ومدرسة البنات الاسرائيلية في البصرة عام 1903م, ومدارس الاليانس في البصرة عام 1903, وفي الموصل عام 1907م, وفي الحلة عام 1907م, وفي العمارة عام 1910م وفي خانقين عام 1913م.
ومن الشخصيات التي شغلت مناصب الشؤون الدينية ليهود العراق ودرايتهم وتبحرهم بعلوم الدين والشريعة منهم الحاخام يوسف حاييم وهو حفيد الحاخام موشي حاييم الذي تم انتخابه عام 1859م وعدَّ زعيماً روحياً ودينياً لأكثر الزعامات اليهودية, ظلّ في المنصب حتى عام 1909م, واستطاع أن يكرس وقته للعمل الديني وتقديم الخدمة الدينية للطائفة اليهودية, كما شغل هذا المنصب الياهو سموحة الصايغ حاخام باشي عام 1909م, وإبراهام هليل واصبح حاخاماً أكبر عام 1911م.

المصادر /

1- نصير محمود شكر الجبوري وعامر حسين حسن التميمي. المدارس اليهودية في العراق (1864-1952). بحث مقدم إلى معهد اعداد المعلمات / الرصافة. 2011. ص15؛ نقلاً عن ازهار عبد علي حسين الربيعي. النخبة اليهودية في العراق والهوية العراقية 1920-1952م. ط1. 2016.
دراسات. وزارة الثقافة العراقية. مطابع دار الشؤون الثقافية العامة. ص24
2- مير بصري. اعلام يهود العراق الحديث. ط1. لندن. دار الوراق للنشر. . ص100/106؛ يعقوب يوسف كوريه, يهود العراق (تاريخهم, احوالهم, هجرتهم) ط1. عمان. الاهلية للنشر والتوزيع 1998م. ص27.
3- ازهار عبد علي حسين الربيعي. النخبة اليهودية في العراق والهوية العراقية 1920-1952م. ط1. 2016. دراسات. وزارة الثقافة العراقية. مطابع دار الشؤون الثقافية العامة. ص21.
4- خلدون ناجي معروف. اليهود والصهيونية في فترة الاحتلال البريطاني المباشر للعراق. مجلة آفاق عربية. العدد11. 1976. ص75.
5- فاتن محيي محسن. مير بصري سيرة وتراث. ط1. بغداد. دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر. 2010. ص45.
6- غادة حمدي. اليهود في العراق 1856-1920م. القاهرة. مطبعة مدبولي. ط1. 2008. . ص307.
7- خلدون ناجي معروف. الأقلية اليهودية في العراق بن سنة 1921-1952. مصدر سابق. ص66/67.
8- سعد سلمان المشهداني. تاريخ الطائفة اليهودية في العراق. مجلة مسارات العراقية. العدد 13. لسنة 2009. ص32.
9- حنا بطاطو. العراق. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ترجمة عفيف الرزاز. ج1. الكويت. منشورات دار القبس. 2003. ص284.
10- عدنان محمد قاسم. داود باشا واصلاحاته في العراق 1816-1831م. بغداد. دار جيا للطباعة والنشر. ط1. 2007. ص128.



197
يهود العراق والهوية الوطنية.. حقبة العهد العباسي/ الحلقة الثالثة
نبيل عبد الأمير الربيعي
      بعد الفتوحات الإسلامية للمنطقة العربية ومنها العراق ساعدوا يهود العراق الفاتحين لأنهم كانوا غير راغبين بالحكم الفارسي الذي دبّ الضعف فيه أواخر أيامها, وعلى مدار عهد الدولة العربية الإسلامية حظي يهود العراق بمعاملة جيدة, وعدّهم من أهل الذمة, إلا أن مصادر التاريخ لم تشير إلى دور يهود العراق في العهد الأموي حتى زواله, وخلال عهد الدولة العباسية (750هـ -1258م) ارتقى يهود العراق مناصب وحظوا بحرية في مجالات كثيرة منها الأدب والطب والرياضيات والفلسفة, كما اقتبسوا الكثير من آداب اللغة العربية.
      في زمن الخليفة المنصور تم بناء بغداد عام 762م, والتي اصبحت أهم مركز للثقافة والتجارة والعلوم والفنون في العالم, فكانت ليهود بغداد منزلة رفيعة في جميع المجالات وكان (رأس الجالوت) له هالة واحترام وقدسية من قبل الخلفاء العباسيين, لأنه يعتبر من نسل الملك داود, مما قام به رأس الجالوت بتنظيم الشؤون اليهودية الخاصة بالمجتمع ولديه سلطة قضائية بفرض التحريم والحظر والغرامات والأمر بالسجن والعقوبة وفق التعاليم الدينية, بعد سيطرة الامبراطورية العثمانية على العراق عام 1534م كان هناك شيء من التسامح مع اليهود ومنحهم الحرية بممارسة شعائرهم الدينية وإدارة شؤونهم الخاصة, فانتخب رئيسهم الروحي (نَسِي) وهو بمثابة رأس الجالوت, كما منح رؤساء المثيبات (اليشبوت) سلطات دينية أوسع, وخلال الحكم العثماني للعراق (1534-1917م) عمل أثرياء يهود بغداد كأمناء للخزينة أو صراف باشي للسلاطين والولاة العثمانيين أثال حسقيل بن يوسف كباي وساسون صالح داود, لكن اقسى مرحلة مرت على يهود العراق هي في ولاية الوالي داود باشا, كان من اقسى الولاة في معاملتهم, لكن بعد عزل داود باشا تم استبدال منصب (النَسِي) بالحاخام باشي عام 1849م, وقد عرف الحاخام عزرا دنكور من اهم الحاخامات البارزين في ذلك الوقت, إذ اصبح رئيساً للطائفة اليهودية الأول في بورما, وكان له الدور الكبير في تأسيس أول مطبعة في بغداد وهي مطبعة دنكور, حتى ختمت بآخر حاخامات يهود العراق عام 1971 وهو الحاخام ساسون خضوري.
     في عام 1258م احتل المغول بغداد ولم يأت المغول بالعلم والنور إلى العراق بل جاءوا بالجهل والظلام, ولم يسلم يهود العراق من هذه النكبات بل كان لهم قسط وافر من الأذى, مما أدى إلى تدهور احوالهم وتراجع نشاطهم, ولم تتحسن احوالهم في العراق إلا بمديء العثمانيين, إذ اشتغلوا بالاعمال التجارية والمصرفية.

المصادر:

  خلدون ناجي معروف. الأقلية اليهودية في العراق بن سنة 1921-1952. ط1. مركز الدراسات الفلسطينية . جامعة بغداد. مطبعة سلمان الأعظمي 1975م. ص34/37.
  غادة حمدي. اليهود في العراق 1856-1920م. القاهرة. مطبعة مدبولي. ط1. 2008. ص30/33.



198
يهود العراق والهوية الوطنية .. حقبة العهد البابلي /الحلقة الثانية
نبيل عبد الأمير الربيعي
يعد عصر الملك «نبوخذ نصر» من أكثر فترات مملكة بابل الجديدة ازدهاراً واستقراراً وقد أمتد حكمه قرابة 60 سنة, كان جلّ اهتمامه بالعمارة والبناء حتى أن كل مدينة في بلاده لا تخلو من آثار من عصره تشهد لهذا الملك البنّاء وولعهِ بالعمارة ,فقد أقام الحدائق المعلقة في بابل التي تعد إحدى عجائب العالم القديم, كما تمكن من السيطرة على دويلات وممالك عديدة في غرب آسيا ويحكي «العهد القديم» (التوراة) أن «نبوخذ نصر» هزم الجيش المصري بقيادة الملك «نخاو الثاني» Necho (610-595 ق.م) في معركة «قرقميش» بالقرب من نهر الفرات. كما أخضع «نبوخذ نصر» بلاد سوريا وأجبرَّ ملك يهوذا على الاعتراف بالسيادة البابلية على أراضيها.
في هذه المرحلة برز دور النبي (إرميا) الذي دعا بني إسرائيل في مملكة يهوذا لعدم مقاومة ملك بابل «نبوخذ نصر» لأنه خادم الرب وهو الذي سلطه الرب لعقاب شعب يهوذا على ما اقترفوه من المعاصي والفساد, وفي سنة 597 ق.م حدث تمرد في أورشليم أبان حكم الملك «يهوياكين بن يهوياقيم» وكان هذا الملك قد أظهر العداء تجاه «إرميا» النبي, وقد قدم «نبوخذ نصر» إلى يهوذا لإخماد هذا التمرد, ثم قام بحصار أورشليم. ولم يظهر ملك يهوذا مقاومة للجيش البابلي, فاستولى ملك بابل على أورشليم ونهبَّ كل خزائن وكنوز هيكل سليمان من الذهب والفضة وأرسلها إلى بلاده, كما سبى كل شيوخ ورؤساء أورشليم وآخرين عددهم 10 آلاف شخص. وكان أكثر الذين تَمّ سبيهم من أورشليم ذاتها, وهذا السبي هو الذي يطلق عليه المؤرخون «السبي البابلي الأول».
كان ضمن هذا السبي الملك «يهوياكين» وأفراد عائلته, وقد أرسلهم «نبوخذ نصر» إلى بلاده, ثم عيَّن مكان الملك المخلوع ملكاً جديداً يدعى «صدقيا» Zedekiah وهو عَّم الملك المخلوع وقيل أخوه وكان «نبوخذ نصر» يظن أن ملك يهوذا الجديد سيكون تابعاً أميناً يدين بالولاء لبابل.
رغم كل ما قام «نبوخذ نصر» من تدمير وتخريب في يهوذا, إلا أن أورشليم وهيكلها كانت هدفه الأهم , ولهذا اتجه إلى أورشليم وفرض عليها حصاراً شديداً, دام قرابة 18 شهراً حتى أصبحت الحياة داخل المدينة المحاصرة أمراً في غاية المشقة حيث نفذت المؤن من أهلها وضربت المجاعة كل من كان بداخلها, نتيجة الحصار هرب «صدقيا» وأفراد عائلته ليلاً, ولما علم الملك البابلي بذلك, أرسل جنوده لمطاردته والقبض عليه, وقد تمكن الجنود البابليون من الإمساك به في أريحا, ثم اقتادوه إلى ملكهم في مدينة «ربله» -على نهر العاصي في لبنان- . وقد أمر «نبوخذ نصر» بقتل أولاده أمام عينيه, ثم أمر بقتل كبار رجال مملكة يهوذا, ثم قلع عين «صدقيا» وقيده بالسلاسل, وأرسله أسيراً إلى بابل.
بعد تدمير أورشليم وهيكل سليمان سنة 587 ق.م جمع «نبوخذ نصر» الآلاف من شعب مملكة يهوذا وقام بنقلهم إلى بلاده في أرض بابل ,يميز المؤرخون هذه الحادثة باسم السبي البابلي الثاني, وقد تباينت الآراء حول عدد اليهود الذين وقعوا في السبي إلى بابل, وإن كان تقدير عدد الذين تَمّ سبيهم نحو 62 ألف إلى 70 ألف شخص حيث يقال إنه لم يبق في مملكة يهوذا سوى مساكين شعب الأرض, ولم يترك «نبوخذ نصر» في يهوذا سوى فئة قليلة ممن يعملون مزارعين في الأرض. بعد هذا السبي على يد الآشوريين والبابليين انتشر اليهود في عدة بلدان مثل بابل وآشور ونينوى, كما هرب كثيرون من اليهود إلى أرض مصر, وبهذا تكونت جماعات وتجمعات كثيرة مما يمكن أن يطلق عليهم «يهود الشتات» وقد أختلط هؤلاء اليهود بشعوب البلدان الأخرى التي عاشوا فيها.
بعد أن سيطر نبوخذ نصر على مملكة يهوذا وقد بقوا بعض اليهود أبان السبي في فلسطين, فإن «نبوخذ نصر» ملك بابل قد عيّن حاكماً على يهوذا يدعى «جدليا» وهو رجل ينتسب إلى أسرة نبيلة, كان أبوه يدعى «اخيقام» الذي كان قد أنقذ حياة «إرميا» النبي من الموت, وكان جده «شافان» سكرتير الملك «يوشيا» في أمور المملكة باعتباره الشخص الأول الذي يدبر ويحرك الأمور, وقد أستقر حاكم يهوذا الجديد «جدليا» في «المصفاة» نظراً لدمار مدينة أورشليم و«المصفاة» كلمة عبرية تعني «برج النواطير» ويعتقد أنها قرية النبي «صموئيل», ويشغل موقع «المصفاة» حالياً منطقة «تل النصبة». وقد عاصر حقبة السبي العديد من أنبياء بني إسرائيل (إرميا, حبقوق, حزقيال, دانيال, عوبديا) ويعد النبيان حزقيال ودانيال من بين الذين تَمّ سبيهم إلى بابل, وقد سبي النبي دانيال أبان هجوم «نبوخذ نصر» على يهوذا سنة 605ق.م.
من اشهر العوائل اليهودية في حضارة بابل عائلة إيجيبي المصرفية Egibi وأسرة موراشو اليهودية في مملكة نيبور, وتعني إيجيبي هذه التسمية الأكدية بحوزتي, وكانت هذه العائلة على الأغلب من يهود السامرة , ولعله كانت من أسرى الملك سرجون, كان مركز عائلة إيجيبي في سيبار الواقعة على ضفاف نهر الفرات, وقد ساهم هذا النهر وموقعهم على استخدامه وسيلة للاتصال بالمدن المهمة والمراكز التجارية, وتعتبر عائلة ايجيبي اليهودية الديانة والعراقية الموطن من خلال اسماء افرادها التي تدخل ضمن تركيبتها المعبودات البابلية.
تعاطت هذه العائلة من خلال عملها المصرفي في الأشغال المختلفة قروناً وخاصة المعاملات التجارية المختلفة, وعقد الصفقات التجارية, وتعاطت تجارة الرقيق والنبيذ بالجملة, إلى جانب هذا كانت تقوم هذه العائلة بقرض الأموال وعقد قروض الرهان ولها حسابات مالية مع المتنفذين بالمملكة, وكانت تتقاضى الضرائب وتشهد على العقود التي تتم بين المتعاقدين, وتحول التعامل من مدينة إلى أخرى, ونصوص هذا البيت كانت تعتمد على تحرير وثائقها على الأسلوب العراقي, فتذكر نصوص العقود باليوم والشهر والسنة التي تم فيها العقد.
عاشت هذه العائلة في زمن سنحاريب وبلغت قمة الغنى والنفوذ في عهد الملك نبوخذ نصر, أي نحو قرن من تأسيسه, كما أخذت هذه الشركة تضطلع بشؤون البلاط البابلي لأمد طويل, حيث كانت تجبي الضرائب عما تنتجه الأرض من محصولات الغلال والتمور, كما كانت تستوفي الضرائب المفروضة على الطرق العامة وقنوات الري لقاء الإفادة منها, ومن جانب آخر كانت هذه العائلة غير معروفة على المستوى التاريخي لو لا العثور على ارشيفها من قبل أحد الأعراب في أطلال ناحية الجمجمة شمال بابل التابعة إلى مدينة الحلة بحوالي 10كم, عثر الاعرابي على جرار عديدة من الطين كانت مسدودة سداً محكماً وقد قدر عدد هذه النصوص 300 نص, الآن محفوظة بالمتحف البريطاني, ويختلف حجمها اختلافاً بيناً حيث تتراوح بين عقدة واحدة مربعة واثنتي عشرة عقدة مربعة, فظهر انها سلسلة تاريخية ثمينة تعود لبيت إيجيبي واحفاده, حيث تشير النصوص إلى أن أولاد ايجيبي كانت تمتلك أكثر من مئة رقيق كانوا يستخدمون في الأعمال التي يمارسها بيت ايجيبي وحتى في المزارع الخاضعة للضرائب وكذلك في الخدمات المنزلية. كما لم يقتصر نشأت بيت ايجيبي على المدن الرئيسية في بابل وإنما تعدى هذا النطاق إلى إيران, فمن أصل تسعة عقود هناك ستة عقود صدرت في Humadesu التي تقع في الجزء الغربي من بلاد فارس على مسافة لا تزيد عن 50كم شرق سوسة, لكن المؤخرون قد ارتأوا إلى عام 1878م أن بيت ايجيبي قد دام إلى عهد دارا فقط, إلا أن المستر دلج بين سنة 1882م أن البيت المذكور قد دام إلى ما بعد عهد الاسكندر المقدوني, وقد توصل إلى ذلك من خلال استقرائه لمئات من نصوص الآجر التي اقتناها من رسام واضافها إلى المجموعة التي حصل عليها جورج سميث سابقاً, وعليه يكون بيت ايجيبي قد استمر بأعماله التجارية لمدة اربعة قرون متوالية.
بعد سقوط بابل وانتهاء معبدها أدى إلى توسع نشاط المصارف الخاصة التي كان قد أنشأها اليهود ولا بد أنها واحدة من الأمور التي أفاد منها الفرس على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي, وقد بالغ المؤرخون بأهمية دور اليهود في هذه الحقبة وحللوا الأمور كما لو أن تاريخ اليهود قد تمركز في هذه الفترة.
أدت سياسة كورش الاقتصادية في خزن النقود والمعادن وسحبها بالتالي من التداول إلى شحة دائمة لها مما عرقل إمكانية توفيرها من قبل الأفراد لدفع ضرائب الملك. وأًجبر دافعوا الضرائب من البابليين على الاندفاع نحو الحصول على قروض بفوائد عالية وصلت نحو 40-50% في نهاية القرن الخامس للميلاد, كما ثبت ذلك في سجلات موراشو, بينما لم تزد في زمن نبوخذ نصر عن 10% هذا بالنسبة للمدن في جنوب العراق التي كانت خاضعة للسيطرة الأخمينية.
وجد أرشيف بيت موراشو في نيبور (نفّر), وتعتبر عائلة موراشو عائلة عراقية بابلية, كانت مركزاً رئيسياً لسكن اليهود في حدود القرن الخامس قبل الميلاد, والأرشيف الخاص بهذه العائلة محفوظ بمتحف استنبول, فخلال التنقيبات التي جرت من قبل جامعة بنسلفانيا وهي تمثل مجموعة كتابات تتكون من سبعة وثلاثين لوحاً تعود إلى عهد ارتحششتا الأول (464-424)ق.م وداريوس الثاني (424-404) ق.م.
كُتبت الرقم التي تخص بيت موراشو بالمسمارية, غير أن عدداً من الوثائق يحمل على وجه واحد, خلاصة محتويات مؤلفة من كلمات آرامية قليلة كتبت بالحبر, ففي هذا التاريخ لم يكن سوى الأفراد المثقفين ثقافة عالية يستطيعون الكتابة المسمارية واللغة الأكدية, وكان عامة الشعب يتكلمون الآرامية وإذا استطاعوا أن يكتبوا اطلاقاً فإنهم يكتبون بالآرامية أيضاً, ومن المحتمل أن تكون الرقم موضوع البحث تمثل ارشيف شركة بيت موراشو وأن خلاصة المحتويات المدونة بالآرامية قد تعين الكتبة على وجود الوثيقة التي يريدونها وتقديمها إلى أحد اعضاء الشركة ممن يستطيعون قراءة الكتابة المسمارية.
الأسلوب المتبع في تغليف العقد هو عبارة عن ظرف من الطين مكتوب عليه ملخص للترقيم قد توقف العمل به في فترة العهد البابلي الحديث, وتملك الكثير من هذه الألواح آثار الأختام أو أحياناً علامات الأظفار لواحد أو أكثر من الرؤساء الموجودين في البيت التجاري أو الشهود, وتشير المادة النصية المكتشفة في نفّر إلى ممارسة التملك هذا من جانب طبقات اجتماعية معينة كاليهود الذين سكنوا في أماكن وشوارع منعزلة وكانوا تحت إشراف موظفين خاصين.
كانت عائلة موراشو إحدى العوائل اليهودية التي كانت ضمن الأسرى الذين رحلهم نبوخذ نصر من فلسطين إلى بابل, واشتهرت هذه العائلة كأحد البيوتات المالية في عهد ارتحششتا الأول, وقد استطاعت هذه العائلة من أن تنشئ بيتاً مالياً كبيراً كانت له فروع في مناطق مختلفة, وقد اتجه اصحاب هذا البيت إلى الإقراض بالفائدة التي كانت تصل إلى 40-70% وبعض الديون الثقيلة اضحت عالية إلى حد يفسر لنا حجم الفقر الذي حلَّ ببابل, بالمقابل فقد عثرَ في أرشيف بيت موراشو على ديون مقدارها 350 كغم أو 90 كغم من الفضة والذهب, كما عقدوا القروض مع الشخصيات الفارسية المتنفذة في بابل وباعوا واشتروا المنازل والأراضي وامتلكوا جداول الري وقطعاناً كثيرة من الأغنام وأداروا أموال غيرهم, وكانت أكثر الأراضي بجوار نيبور مرهونة عندهم.
كانت لهذه العائلة علاقات تجارية قائمة بين الأمراء والملكات, فقد كان الأمراء والملكات وسيدات البلاط غالباً ما يؤجرون بيوتهم ومزارعهم إلى بيت موراشو وإلى أشخاص آخرين, ونظراً لهذا الدور الذي لعبه بيت موراشو وأولاده فقد منح من قبل السلطات الأخمينية لقب (Bano والي) وهو يمنح لصفوة رجال الأعمال في الأحوال النادرة.
المصادر:
1-إسماعيل أحمد. تاريخ اليهود منذ ظهور العبرانيين. ص326.
2- د. رشدي البدراوي. أنبياء بني إسرائيل. القاهرة. 2001م. ص386.
3- جون إلدر. الأحجار تتكلم. (علم الآثار يؤيد الكتاب المقدس). ترجمة د. عزت زكي. الطبعة الرابعة 2000م. ص121.
4- يوسيفوس ففيوس. تاريخ اليهود. إعداد الراهب أنطونيوس الأنطوني. الطبعة الثانية. 2006م ص 13.
5-الأب متي المسكين. تاريخ إسرائيل. مطبعة دير النبا مقار. ط3. 2007. ص208.
6- يوسف يعقوب كورية. يهود العراق. تاريخهم. احوالهم. هجرتهم. ط1. بيروت 1998.ص35/36.
7- طه باقر. مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة. ط1. بغداد 1955,ج2. ص439.
8- صباح الجاسم عبود. الائتمان والصيرفة في العراق القديم. بغداد 1964. ص15.
9- كونتنيو جورج. الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور, ترجمة سليم طه التكريتي. ط2. بغداد 1986. ص157.
10-سامي سعيد الأحمد. العراق خلال عصور الاحتلال (933-331) ق.م. في العراق في التاريخ. بغداد 1983. ص244.
11- د.أحمد سوسة ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق.ط1. بغداد 1978. ص148..ص148.
12- محمد دناماييف. بلاد بابل في العهد الاخميني في العراق القديم. دراسة تحليلية لأحواله الاقتصادية والاجتماعية . جماعة من علماء الآثار السوفيت موسكو1962-.1963, ترجمة سليم طه التكريتي.ط2. بغداد ص190.
13- هديب حياوي غزالة. الدولة البابلية الحديثة والدور التاريخي للملك نبونائيد في قيادتها. رسالة ماجستير غير منشورة. كلية الآداب . جامعة بغداد .1989. ص464.


199
يهود العراق والهوية الوطنية
حقبة العهد الآشوري / الحلقة الأولى

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      كُتبت الكثير من المقالات والدراسات والرسائل والأطاريح الجامعية والمؤلفات بعد عام 2003م عن تاريخ يهود العراق, وقد ناقشت هذه الدراسات الجوانب المختلفة من حياة الطائفة اليهودية في العراق في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية, فالطائفة اليهودية في العراق تستحق كل هذه الدراسات العلمية والتاريخية بسبب مواقفها الوطنية وتمسكها بالهوية العراقية.
      قدمَّ عبرَّ التاريخ اشخاصاً عرفوا بعراقيتهم ووطنيتهم لتحملهم أكبر التضحيات والمهام في المجتمع العراقي الذي كانوا يعيشون فيه, وهم يمثلون مطلع القرن العشرين ثلث سكان بغداد, فتملكوا أدواراً رئيسة في إدارة شؤون الدولة العراقية, فضلاً عن تمسكهم بعراقيتهم وهويتهم الوطنية حتى بعد هجرتهم القسرية والتي بدأت منذ منتصف عام الفرهود 1941م ولغاية عام 1982م.
      الهوية في نظري لا تعتبر شيئاً مقدساً أو ثابتاً نهائياً ما لم يكن الفرد مدفعاً حقيقياً عن مواطنته وبلده, لكن بمعناها الحقيقي ما يقدمه المواطن بفاعلية للمجتمع الذي يعيش فيه, ومن خلال ذلك تتضح معناها الحقيقي وهوية الفرد الحقيقية, وقد كان ذلك ليهود العراق, فقد اصبح العراق لهم الحاضن والنتاج الوطني لهوية من خلال الاندماج الوطني ضمن الجماعة السياسية المسماة بالدولة, والاندماج مع الأعراف والطوائف والكيانات وهي التي تشكل الروح والثقافة الوطنية الجمعية من خلال ولائهم للهوية العراقية.
      يرجع تاريخ تواجد اليهود في العراق إلى عهد الإمبراطورية الآشورية الأخير, التي دامت ثلاثة قرون كاملة منذ بداية القرن السابع قبل الميلاد, وذلك في أعقاب عدة حملات قام بها شلمنصر الثالث الآشوري (859ق.م- 824ق.م) على مملكة يهوذا وسبى الكثير من أهلها ونقلهم إلى مملكة أشور, ثم الملك تجلات بلاشر الثالث (746-727ق.م) بحملة ثانية على إسرائيل, وفي عام 721ق.م. قام الملك شلمنصر الخامس الآشوري (727-722ق.م) بحملة عسكرية ثالثة على إسرائيل ولكنه مات في العام 722ق.م. ورغم موت الملك الغازي سرجون الثاني (722- 705 ق.م) استطاع قائد القوات الآشورية في النهاية احتلال المدينة وسبي أهلها, ونقل معهُ من الأسرى اليهود ما قدَّر بنحو عشرة آلاف يهودي حيث تم إسكانهم في المنطقة الكردية  بكردستان العراق, أما الحملة العسكرية الرابعة في العهد الآشوري فقد تمت في العام 702ق.م, حيث قاد الملك سنحاريب الآشوري (705-681ق.م) جيوشه متوجهاً صوب مملكة يهوذا واستولى على 46 مدينة وأسر 150 - 200 إسرائيلياً.
      يعتبر يهود العراق من أقدم الطوائف الدينية الموجودة في العراق والعالم، حيث يرجع تأريخ وجودهم إلى أكثر من 26 قرناً خَلّت، واستطاعـوا رغـم منـاخ العراق وتقلبات الظروف وترادف الغزوات والحروب أن يتشبثوا بترابه إلى وقت متأخر. حتى أنهم شكلوا في أواسط القرن التاسع عشر نصف سكان  بغداد، وفي بدايات القرن العشرين ربعه أو  ثلثه، وتمتعوا دائماً بمكانة اجتماعية مرموقة ، وأمسوا يشكلون الدالة الاجتماعية المتبغددة المترفة، ويجسدون روح وذوق بغداد الفني والجمالي.     
      كوَّن المجتمع اليهودي في بابل خلال 2500 سنة من السبي البابلي لمملكة يهوذا طائفة متجانسة, واستطاع الحفاظ على هويته الدينية وثقافته وتقاليده على مر العصور, وقد استعربوا بصورة تكاد أن تكون كاملة متشابهة مع اقرانهم العرب المسلمين من حيث اللغة والتقاليد الاجتماعية وطرق معيشتهم, وقد امتاز اليهود عن مواطني العراق بلهجتهم العربية القديمة التي تطورت في أيام العهد العباسي وخاصة زمن الخليفة هارون الرشيد, وقد عرفت لهجتهم العربية بالمفردات والإشارات التوراتية, وفي القرن العشرين اضيف اليها كلمات ومصطلحات انكليزية وفرنسية نتيجة تدريس هاتين اللغتين في المدارس اليهودية.
      وبعد السبي البابلي ساروا على نصيحة نبيهم فاشتروا الأراضي وزرعوها واسسوا عليها المدارس والكليات الدينية (المثيبات), في بغداد وعنة, كما تم انشاء اكاديميات (مثيبات) في سورا ونهر دعة وبمباديتا, وكان يشار لرؤساء هذه المثيبات بلقب (غاؤونيم) وهم السلطة العليا في الشؤون الدينية , واقاموا حياة مستقلة مركزها الكنيس بقيادة الحبر الأعظم, انتهى استعباد اليهود في بابل عندما احتل الملك الفارسي كورش (سيريوس الثاني) بابل سنة 538 ق.م, وسمح لليهود بالعودة إلى ديارهم, فعاد البعض وبقيّ الكثير من اصحاب المهن والأغنياء والعلماء والأمراء.



200
من فناني المهجر العراقي الفنان المبدع البير الياس أو (آريه الياس)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      الفنان البير الياس أو (آريه الياس) يعتبر النموذج اليهودي العراقي المثابر الذي لا يخشى الصعاب, ولد في بغداد يوم 1 نيسان 1921م, وعندما كان في سن الخدمة العسكرية هاجر إلى إسرائيل عام 1947م, وكان البير الياس واحداً من أوائل المغادرين إلى فلسطين عام 1947م لأسباب إيديولوجية صهيونية بحته, بعد أن اكمل تعليمه في المدرسة الأليانس في بغداد, نجح في اسرائيل بالتغلب على العديد من العقبات الاجتماعية والثقافية والتمييز العنصري المقيت الذي تحاول إسرائيل مكافحته وذلك بفضل موهبته وقوة إرادته وإصراره.
     كان السبب الرئيسي لهجرة البير الياس نشاطه الصهيوني الذي انخرط فيه مع بعض الشباب اليهودي في العراق اربعينات القرن الماضي مما وضع حد نهائي لطموحه الفني في مجال المسرح, وبسبب هجرته إلى فلسطين تخلى عن طموحه وفرصته في لعب دور (شايلوك) في مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير, هذا الدور الذي عرض عليه من قبل معهد الفنون الجميلة في بغداد, وبدلاً من ذلك هاجر فجأة وبشكل سري, وعندما وصل إلى إسرائيل حاول العمل في مجال التمثيل, لكن النجاح لم يحالفه(1).
     أسس معهد الفنون الجميلة في بغداد سنة 1936م وتم فتح فيه قسم المسرح سنة 1939/1940م, وكان من ابرز الممثلين اليهود الذين تعلموا فيه هو البير الياس وزملاءه سلمان عبد الله يوسف وإسحق باؤوا, وقد درسوا على يد بعض اساتذة المعهد العائدين من أوروبا بعد اكمال دراستهم العليا, وقد أخرج البير الياس واسحق بطاط مسرحية (إستير), حيث ادى تمثيلها طالبات مدرسة الأليانس للبنات في بغداد, وجعل ريعها للمساعدة بتزويج الفتيات اليهوديات الفقيرات, ولعبت الطالبات أدوار الذكور, كما قدم الممثلون اليهود أيضاً عروضاً لأجل جمع التبرعات للمؤسسة الإسلامية, وكان ذلك محل تقدير جمهور المسلمين, وكان مخرج هذه المسرحية ومدير المسرح وخبير الإضاءة والماكياج لجمعية مدرسة التفيّض في بغداد, السيد سيمون العماري (شمعون بن عمري 1921)(2).
     في إسرائيل لم ينسجم البير الياس في مسرح هبيما الإسرائيلي, وكان السبب الرئيسي هو رطانته للغة العبرية الغريبة عليه ولهجته العراقية التي تبرز من خلالها حروف القاف والعين والطاء الثقيلة لأنه درس وعاش في بغداد ومن اصول عراقية, فعندما اندلعت الحرب عام 1948م التي تُدعى (حرب استقلال إسرائيل), تم تجنيد الياس في سلاح الاستخبارات, وبناءً على توصيته من (يغئال ألون) أرسل إلى شركة جزباترون للتمثيل للاختبار, وقال الياس في لقاءه مع أورنا شمارياهو ص35 :" بأن لديه خلفية في الأدوار المسرحية التي يؤديها في العراق في حين كان الذين يختبرون يميلون إلى مسرح التسلية والترفيه, وهذا هو سبب فشله في الاختبار".
      كانت جهود البير الياس الاندماج بالمسرح الاسرائيلي كيهودي عائد من العراق كانت محدودة, مما اصابته بخيبة أمل وصدمة كبيرة, فبعد انتهاء فترة الخدمة العسكرية الإلزامية استمر في محاولات عديدة لكي يصبح ممثلاً متساوي الحقوق في المسرح الإسرائيلي, ولكن من دون جدوى, ففي النظام الثقافي الإسرائيلي تم تصنيف الياس على أنه شخص ينتمي إلى القطاع الثقافي العربي.
      كان البير الياس ناجحاً فقط في المسرحيات الإذاعية وباللغة العربية التي كانت تقدم من خلال المحطة الإسرائيلية الرسمية تحت إدارة السيد شاؤل بار حاييم, وقد شارك العديد من الممثلين اليهود العراقيين في هذه المسرحيات الإذاعية.
      عام 1952م تم قبول البير الياس في المسرح الكامري العبري, حيث شارك في مسرحية (طرائق نصر الدين) في قصة أسطورية شرقية من جزأين, تأليف ليونيد سيلوفيف وفيكتور فيتز, ونقلها للعبرية شلومو نيتسان, ومع ذلك وبعد عرضها لمرتين تم طرد الياس بسبب لهجته الشرقية بحسب قوله, وواصل مديرو المسارح العبرية لسنوات عديد في اعتباره ممثلاً يصلح للعب دور العربي أو اليهودي الشرقي المضحك والمثير للسخرية بلهجته وحركاته ولباسه وتصرفه الشرقي.
      بعد أن وصل البير الياس إلى استنتاج مفاده أن الصعوبات اللغوية والاختلافات في التقاليد المسرحية عصية على الحل, فقام بتأسيس فرقة عربية أسماها (أور) نسبة إلى موطن سيدنا إبراهيم الخليل في بابل/ العراق, مع شمعون بن عمري (سيمون العماري) عام 1956م, وقد استقطبت الممثلين الذين هاجروا قسراً من العراق عام 1950/1951م, وتحت رعاية مسرح (أوهيل) – الخيمة- , عرضت هذه الفرقة اوبريت (مجنون ليلى) الغنائية, للشاعر الكبير أحمد شوقي (1867-1930م), واستمر العرض لأربعة عشر مرة, وأدرك الياس واصدقاؤه الشرقيين أن العروض الأربعة عشر للأوبريت جعلهم يشعرون بأن أداءهم أفضل وأكثر شعبية في مسرح يقدم اللغة العربية, بعد أن كانوا مقيدين بأدوار العرب أو اليهود الشرقيين(3).
     اتهم البير الياس اليهود العراقيين الذين تولوا مناصب وزارية عليا في إسرائيل بعدم تقديم الدعم له, لأنهم لم يعلقوا أي أمل أو أهمية على المسرح العربي الشرقي, ولأجل أن يصبح مقبولاً في المؤسسة الفنية الإسرائيلية على قدم المساواة مع الآخرين فإنه لم يغير اسمه فحسب من البير إلى آريه, والتحاقه بصفوف جيش الدفاع الإسرائيلي, وإنما تزوج من امرأة اشكنازية أيضاً (من يهود اوروبا), ولما لم تؤهله كل هذه المحاولات لكي يصبح ممثلاً إسرائيلياً سافر إلى باريس للحصول على شهادة جامعية أوروبية في مجال الدراما, ومكث فيها مدة ثلاث سنوات ودرس هذا الفن تحت رعاية مخرجين فرنسيين بارزين, وكان ناجحاً لدرجة أنه حصل على فرصة عمل في فرنسا.
      عام 1960م قرر الياس العودة إلى إسرائيل بسبب أفكاره الصهيونية, ولكن هذه المرة شعر بخيبة أمل أيضاً, فيقول (لقد وصلت مثل أي مهاجر جديد, فلا شيء قد تغير, ولم أحصل على أي عرض للعمل في المسارح الإسرائيلية)(4).
      كان وضع البير الياس مشابهاً ليهود اوروبا الذين حاولوا الاندماج واستيعاب الوضع مثل بنيامين دزارئيلي (1804-1881م), الذي تم تعميده في السادسة عشر من عمره وتزوج من مسيحية, لكن بسبب النظرة الانكليزية ظل موصوماً بـ(اليهودي ذي البشرة الاسبانية السمراء). وأخيراً تخلى كل اصدقاء الياس عن حلمهم بالعمل في المسرح والتكلم باللغة العبرية, ووجدوا ضالتهم في راديو إسرائيل عبرَّ الأثير باللغة العربية, حيث عملوا في مسرحيات إذاعية وبرنامج حقوقي تحت عنوان (من ملفات القضاء).
      بعد فشل البير الياس في الحصول على موطئ قدم في المسرح الإسرائيلي, تلقى عروضاً للعمل كمخرج وممثل, ولعب دور اليهودي الشرقي المضحك في افلام شباك التذاكر الناجحة مثل (احتفال سنوكر) و(تشارلي ونصف) وكلاهما من اخراج بوعاز ديفيدسون, ودوره في (اليزا مزراحي) و(هيرشيل) من إخراج يوئيل سلبريرغ, وفي المسلسل التلفزيوني (اطفال من حي حاييم), التي اذاعت هذه الأعمال شهرته. وفي عام 1974م حصل الياس على (دور حياته) كما يقال, عندما مثّل دور (زوربا اليوناني), وفي عام 1981م حصل على دور في فلم (الطلاق المتأخر) من إخراج أ. ب. يهوشواع, وقدمه على المسرح نيفه تصيديق, وبعد كل هذه الأعمال الفنية شعر بأنه قد تغلب أخيراً على  شهرته كممثل يلعب دور اليهودي الشرقي المضحك بالصورة الخطية الشائعة المثيرة للسخرية.
     إن الصعوبات الكبيرة التي واجهت المثل العراقي المولد الإسرائيلي الجنسية البير الياس الذي شارك في أكثر من خمسين مسرحية وفلماً في إسرائيل وخارجها, تمثلت بالعقبات الهائلة التي تقف في طريق فناني مرحلة الهجرة من العراق إلى إسرائيل, والأخيرة قد منحتهم ملجأً اجتماعياً وفنياً.
      وفي نهاية المطاف افلح البير الياس في الاندماج بالثقافة الإسرائيلية, ونال جائزة (قيثارة داوود المتميزة) سنة 1983م عن دوره في فيلم (الطلاق المتأخر) وتم تكريمهُ بإشعال الشعلة عشية يوم ذكرى استقلال إسرائيل عام 1990م باسم اعضاء فرق الفنون التمثيلية, وأخيراً حصل على الاعتراف به كممثل إسرائيلي ناجح, وليس كمهاجر.
     بعد هذا العمر التمثيلي للبير الياس رحل عن الحياة يوم 7 آذار 2015م عن عمر ناهز 94 عاماً.
 
 
المصادر:
1-   مقابلات للسيدة أورنا شمارياهو (تسور), في 15 كانون الثاني و6 نيسان 1997م تحت عنوان. آريه الياس الرجل ونشاطه في المسرح العراقي والإسرائيلي ص30/38.
2-   مقال لأريه الياس في مجلة نهر ديما, مركز تراث يهود العراق في 22 تشرين الأول 2000م. ص24/25.
3-   أورنا شيمارياهو. مقابلة في منزل آريه الياس سنة 1997م. مصدر سابق.
4-   تفيرسكي. الأدب العالمي. معجم تل أبيب. دفير, وئام عوبيد, 1963م, المجلد الثاني ص50/51.
 



201
رحلة في كتاب معجم المراقد المزيفة في العراق
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      نحن نعيش اليوم زمن ظلامي دامس, تزامن معهُ الاضطراب والجهل وانتشار الخرافات, ومما زاد من ظاهرة القبور والمقامات المزيفة من انتشارها على ارض العراق, فضلاً عن اتخاذ هذه القبور ثراءً فاحشاً من المال النافع وجلب النذور والأضاحي والهدايا, ومما ساعد على الجهل والجشع لفئة باغية اتخذت من القبور المزيفة مصدر للمال والجاه وسعياً لرخاء الحال, فزاد الجهل والمرض, وزادت ظاهرة الغيب الخارجي فوق ذلك زيادة اصبح الحالمون بوجود مثل هذه المراقد لهم دورهم ومزاعمهم التي تزداد يوماً بعد أخر, فتقام لهذه القبور المزيفة والمزعومة المشاهد, وتنصب لها القباب ثم تسمى مزاراً للإمام الفلاني فيزار من قبل بسطاء الناس.
      صدر عن دار قناديل لطباعة والنشر والتوزيع في بغداد للباحث عباس شمس الدين كتابه الموسوم والوثيقة المهمة تحت عنوان (معجم موجز للمراقد المزيفة والموضوعة والمنقولة والمجعولة في العراق), هذا المعجم يشمل جميع مراقد الديانات المزيفة في بلاد الرافدين, الكتاب عبارة عن دراسة اعيان القبور المنتشرة على أرض العراق فأصبحت في الآونة الأخيرة ظاهرة القبور المزيفة في وسط وجنوب العراق ومنطقة الفرات الأوسط, ظاهرة طبيعية, كان زعماء هذه القبور المزيفة والمجعولة يتخذون من مزارعهم أو دورهم مقامات ومراقد للأولياء من خلال حُلم أو رؤيا في المنام تدل على مكان القبر, ويبدأ صاحب الدار بتبليغ اهله وعشيرته وبعض رجال الدين المقربين له عن هذه الرؤيا, فيبدأ الداعمين لهذا المرقد المزيف في دعم مزاعم هذا الرجل, فيبدأ بجمع التبرعات لبناء هذا القبر ويعلى عليه القبة ليتخذ صاحب هذا المرقد دكاناً يعتاش عليه هو واهله وعشيرته, ثم يبدأ الخلاف والصراع على عائدية ملكية القبر والمال الذي جناه منه هذا المدعي بين أفراد العائلة والعشيرة, وتبدأ رحلة الناس المغفلين والبسطاء بزيارة هذا الضريح وتقديم النذور والهدايا وفي بعض الاحيان اقامة الرحلات الاسبوعية لزيارة صاحب هذا القبر المزعوم ودعوته عند الله ليرزق فلان أو فلانة المولود الجديد, ويحل عقدة فلانة لتحمل من زوجها فلان ويرحم فلان ويشافيه من مرض السرطان وما شابه ذلك. حتى تجاوزت اعداد القبور والأضرحة والمقامات لأئمة أهل البيت والأنبياء والأوصياء المزعومة (600) مرقد ومقام.
     لقد قام الباحث الجريء عباس شمس الدين بتقديم هذه الدراسة المهمة والوثيقة التاريخية من خلال متابعة هذه المراقد والمقامات والتأكد من صحتها أو زيفها, ومن خلال مراجعة المصادر المهمة والتأكد من صحة نسبها, ففي هذا الوقت الصعب والحرج الذي يمر على العراق من حرب داعش وانتشار الفساد الاداري والمالي في وزارات ودوائر الدولة وفي ظل انتشار التطرف الديني والطائفي وانتشار ميليشيا الاحزاب المتنفذة, من الصعب أن يصدر بحث أو مقال في هذا المجال, إلا أن الباحث الجريء شمس الدين قد طرح هذا الموضوع من خلال كتابه للتصدي وفضح هذه المزاعم من ذوي النوايا السيئة وممن اتخذوا هذه المراقد والمزارات والمقامات دكاكين وتجارة مربحة ليعتاش عليها ثراءً منقطع النظير في هذا الوقت الصعب.
      يسيح بنا الباحث شمس الدين في كتابه هذا في مقدمة جميلة ورائعة وهو يبحث عن تاريخ طقوس ووسائل الدفن في عصور ما قبل الميلاد والعصور الاسلامية, وكيف كان الانسان في ذلك الوقت يدفن موتاه وطرق ووسائل الدفن. والسؤال المهم الذي طرحه الباحث شمس الدين في كتابه هذا حول هذه المراقد المزيفة والمزعومة, هو : (هل هذا قبر فلان؟ والكتاب برمته جواب بالنفي لكل من ورد اسمه في القائمة الطويلة التي زادت على ستمائة عنوان إلا في بعض الاستثناءات لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة, فثمة شكوك محيطة بها كافية لمنع النفي المتخم بالطمأنينة).
     كتاب المراقد المزيفة اعتبره الباحث شمس الدين معجم موجز للمراقد المزيفة والموضوعة والمنقولة والمجعولة في العراق, وقد زادت في الآونة الأخيرة بعد عام 2003م في مختلف اصقاع العراق عدداً كبيراً من اشكال القبور المزيفة, بما يشكّل في كثير من الأحيان ضرراً تاريخياً واساءة لبقية المراقد المعلومة والموثقة تاريخياً لأهمية مكانتها في المجتمع والتاريخ الاسلامي, فقد احصى الباحث في كتابه قبور (بنات الحسن بن علي) في منطقة الفرات الأوسط وجنوب العراق وقد تجاوز عددها (19) قبراً, علماً أن بنات الحسن بن علي هُنَّ (5) بنات فقط ولم يزور الامام الحسن بن علي ولا بناته ارض الرافدين, فضلاً عن اتخاذ مجلس محافظة بابل مدينة الحلة بعد عام 2003م اسماً آخر اطلق على مدينة الحلة وهو (الحلة عاصمة الامام الحسن المجتبى), والسؤال الذي اطرحه, إذا الامام الحسن بن علي لم يزور العراق ولم يزور الحلة خاصة فكيف تم اتخاذ مثل هذا القرار في هذا الوقت من قبل مجلسها؟ هذا القرار اثار المجتمع الحلي واصبح  محل سخرية من قبل بعض الادباء والمثقفين والزائرين للمدينة, ويعتبر هذا القرار لحق بها  الضرر واصابها مثلما اصابها من ظهور قبور مزعومة ومزيفة في الآونة الأخيرة, بل أكبر بكثير.
      اصبح انتشار القبور المزيفة في الآونة الأخير واتخاذها دكاكين ليعتاش عليها اصحابها من عمدية وقصدية ونية مبيتّة, واختراع شخصية وهمية لا وجود لها, أو دراسة اسم الشخصية من قبل اصحاب القرار للقبور المزيفة والاطلاع على انساب اهل البيت ليصبح قرارهم صائب في هذا المرقد المزيف. كان لانتشار هذه القبور من خلال احلام حلم بها اصحابها كأن يكون طفل أو طفلة أو زوج أو زوجة صاحب هذا الحلم ومن ثم الاعتقاد واليقين بصحتها, واحياناً ينتج تزييف للقبر من خلال تشابه الاسماء أو الصفات التي ادت إلى تحريف في موضوعة القبر, فتشابه الاسماء قد كثر في منطقة الفرات الاوسط, ولهم قبور معروفة مع اسماء شخصيات معروفة, مما ادّى إلى نسبة هذا القبر خطأً إلى شخصية الأشهر بينها, مثل قبر النبي يونس وقبر النبي ايوب وقبر النبي شيت وقبر النبي ابراهيم الخليل, أما قبور الأئمة فمنها قبر عمران بن علي وبكر بن علي واحمد ومحمد بن الحسن وعون واولاد الكاظم وشريفة بنت الحسن فحدث ولا حرج.
      اصبحت انماط مشهورة في منطقة الفرات الاوسط وجنوب العراق, وفضلاً عن المعابد البابلية القديمة التي اتخذت منها مقامات كمقام رد الشمس ومقام الخضر ومقام زين العابدين ومقام الغيّبة, لكن ظاهرة القبور المزيفة لا نعلم متى بدأت وفي أي عهد, إلا انها ازدادت في الآونة الأخيرة, وفي ايران تنتشر ظاهرة (امام زادة) أي (ابن الامام) وبالخصوص في القرى البعيدة حتى قفز عدد هذه المراقد في إيران من (1500) مرقد في عام 1979م إلى حدود (8000) مقام ومرقد وزادت إلى (10700) في نهاية عام 2008م.
     مع كل ما يمر به العراق من جهل وتخلف وتردي للواقع التربوي والصحي وتدني الواقع الاجتماعي نجد الحكومات المتعاقبة على العراق منذ عام 2003م قد تسامحت مع هذه الظاهرة ظناً منها انها توزع الكتلة المتدينة عددياً على اكبر عدد ممكن من المراقد, وأن لا تكون هناك نقاط تجمع كبرى يجتمع فيها الناس, لكن المزورين ومهاراتهم المتعاظمة في الوثائق جميعها زادت من ذكائهم وصار اختراع القبر الزائف وسيلة وحيلة مربحة يبحثون عنها في كتب الانساب عن اسم لإمام فيها لا قبر له, ثم ينسبوه إليه, مستغلين جهل الناس, فضلاً عن انتشار ظاهرة البناء على الموضع الذي يغسل فيه الميت الفلاني, او بناء قبة وضريح لمرقد السدرة الفلانية او واسطة النقل (التراكتور) التي انتشرت اخيراً باعتبارها تمنح المراد لمن يزور هذا (التراكتور), فتزداد القباب وتتعدد القبور.
      فهذا التمدد الخطير للقبور المزيفة فعلى اصحاب الشأن ولا سيما من القائمين عليه من مديرية المزارات والشؤون والأوقاف الدينية ان تتصدى لها وتحظرها وتزيلها, وتتحقق من مزاعم من اقامها, فضلاً عن مشاركة الآثاريين في هذا الشأن لأهمية الموضوع, والقيام بالتنقيب للتأكد من مزاعم هؤلاء المزيفون, ومن خلال العثور على القبور المزعومة كأن يكون الدليل القاطع قطعة رخامة أو حجر كتب فيها اسم وسنة الوفاة لصاحب المرقد ولإثبات نسبه, مما يستدعي التدقيق في هذه القبور المزيفة, والتتبع السيَّري لتاريخ صاحب القبر المزعوم, قد ينفي صحة النسب للقبر أو المقام, ومحاسبة القائمين عليها قضائياً, لأن هذه الظاهرة تعتبر خطيرة على تجهيل المجتمع وتخلفه ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرون.



202
مجلس النواب العراقي بين السادية الجنسية وقانون زواج القاصرات

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      خلق الله الإنسان وزرع فيه عدداً من القوى النفسانيّة ومنها الشهوة فهي من الأمور الأصيلة في النفس الإنسانيّة، ولذلك فإنّ الإسلام لم يحاربها كما لم يحارب بقيّة القوى وإنّما دعا إلى تهذيبها والإفادة منها لتحقيق أغراض شرعيّة كالتناسل وحفظ النوع الإنسانيّ, ولذلك فقد جاءت الآيات الكريمة والروايات الشريفة لتبيّن كيف يتعامل الإنسان مع شهواته بشكل عامّ ومنها الشهوة الجنسيّة.
      فمن جهة بيّنت أنّ على الإنسان أن لا يخضع لشهواته وإلّا كان في مستوى البهائم أو أدنى بل عليه أن يبقي عقله هو القائد والموجّه لها, كما دلّ على ذلك الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام - وقد سأله عبد الله بن سنان : الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ - قال : "قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : إن الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم"(1).
      أنّ للزواج المبكر مخاطر متعدّدة على الفتاة من النواحي الصحيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، منها بأنّ الفتاة تتعرّض إلى فقر الدم وخاصّة خلال فترة الحمل. وقد تزداد نسبة الوفيّات بين الأمّهات الصغيرات لقلّة الدراية والوعي بالتربية والتغذية. وأنّ الفتاة في مرحلة المراهقة لا تستطيع أن تبدي رأيها في أمور حياتها الزوجيّة بثقة وارتياح يؤدّي إلى الحرمان من التعليم وغير ذلك من أمور. فضلاً عن ارتفاع نسب الطلاق بسبب الزواج المبكر.
      ان سن الزواج في وقت مبكر هو اضرار بالمرأة لمن كان عمرها في سن المراهقة فكيف من كان عمرها (9) سنوات, وان مبدأ ان المرأة يجب ان تبقى في بيتها ولا تختلط مع الرجال في العمل فهذا بحق ظلما لحقوق المرأة لأن هذا حقها في الحياة, حتى ان الاسلام بين ان الرجل والمرأة متساوون في الحقوق والواجبات وبالأخص حق التعلم والعمل... الخ.
      الفكر الديني بيَنَ سن الرشد وسن الزواج، استثناءً من القوانين المدنية التي تشترط بلوغ (18) من العمر كبداية لسن الرشد، ففي حين تقرر الجهات الدينية المتنفذة اشتراط سن الزواج بثمانية عشرة سنة للجنسين، يخضع لإكراهات الفكر الديني حينما يترك مجالاً للقاضي ان يحدد فيه سن البلوغ بأقل من ثمانية عشرة، وبموافقة ولي الأمر، وكان الزواج يشترط البلوغ فقط ولا يشترط الرشد.
 وبطبيعة الحال، فقد كان الفكر الديني يخفض سن الزواج,  فقد جعل سن الزواج في المذهب الشافعي والحنبلي (15) سنة لكل منهما, والمذهب المالكي (17) سنة، لكن المشكلة الكبرى كانت في الفقه الجعفري، الذي حدده بتسع سنوات. وأكثر من هذا أن العديد من فقهاء الشيعة المعاصرين أجازوا الخطبة والعقد حتى في سن الرضاعة, دون الدخول بها ولكن يحق للزوج (التفخيذ واللمس والتقبيل)(2).
      فقد ذكر السيد اليزيدي: "لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، حرة كانت أو أَمة، دواماً كان النكاح أو متعة، بل لا يجوز وطء المملوكة والمحللة كذلك. واما الاستمتاع بما عدا الوطء من النظر واللمس بشهوة، والضم والتفخيذ فجائز في الجميع ولو في الرضيعة"(3). ويقول السيد روح الله الخميني في كتابه تحرير مسألة رقم 12 (وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة )(4). كما يذكر في كتابه أيضاً تحرير الوسيلة وهي على النحو التالي : مسألة 12 – لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين ، دواماً كان النكاح أو منقطعاً ، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة، ولو وطأها قبل التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى(5).
      واذا كان يصح تزويج الصغيرة لكن وطأها لا يجوز قبل ان تكمل التاسعة من عمرها أما سائر الاستمتاعات غير الوطء فهي جائزة.  كما ورد في صحيحة الحلبي عن الإمام جعفر الصادق  قال: «اذا تزوج الرجل الجارية وهي صغيرة فلا يدخل بها حتى يأتي لها تسع سنين»(6) .
      وهذا ما اجمع عليه علماء الشيعة، أما بعض فقهاء السنة، اعتبروا قدرة البنت على تحمّل الممارسة الجنسية هي المدار وليس سناً معيناً، قال أحمد ابن حنبل بتسع سنين، فقال في رواية أبي الحارث في الصغيرة يطلبها زوجها: فإن أتى عليها تسع سنين دفعت إليه، ليس لهم أن يحبسوها بعد التسع، وذهب في ذلك الى أن النبي  بنى بعائشة وهي ابنة تسع(7).
 
 
المصادر
1-   بحار الأنوار. العلّامة المجلسي. ج60. ص299.
2-   مجموعة مصادر منها : السيد أبو الحسن الأصفهاني. وسيلة النجاة. قم. مطبعة مهر اسوار ج3.ص145... السيد روح الله الخميني. تحرير الوسيلة. طهران. منشورات مكتبة اعتماد. ج2. ص219. السيد محسن الحكيم... مستمسك العروة الوثقى. بيروت. ج14ص 78-80... السيد الخوئي. المباني في شرح العروة الوثقى. جمع محمد تقي الخوئي. قم. شركة التوحيد للنشر. 1998. ج32. ص26... السيد علي السيستاني. منهاج الصالحين. الكويت. مؤسسة محمد رفيع. 1996 ج3. ص10.
3-   العروة الوثقى. بيروت. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. ج2. ص484.
4-   السيد روح الله الخميني. تحرير الوسيلة. ج2.  ص241. مسألة رقم 12.
5-   المصدر السابق. ج 2. ص 216.
6-   الحر العاملي. محمد بن الحسن. تفصيل وسائل الشيعة ج20 ص101. حديث رقم 25142.
7-   أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي. المغني. مكتبة القاهرة. بلا ت. 1968. ج8. ص78.


203
حال أهل الذمة في مدينة السلام بغداد للقرنين الثالث والرابع الهجريين (الحلقة الثانية)
نبيل عبد الأمير الربيعي

يهود بغداد :
     أما واقع حال يهود بغداد, فقد كان حالهم حال بقية أبناء أهل الذمة لكن أثريائهم تمكنوا من الوصول إلى المراكز المهمة في الدولة العباسية, وقد تمكن سهل بن نظير في منتصف القرن الثالث من الاحتفاظ بوظيفة جهبذ الوزير طوال حياته وكان جده سهل جهبذاً في النصف الثاني من القرن الرابع, واستعان الوزير علي بن الفرات بالجهبذيين يوسف بن فنخاس وهارون بن عمران, وأجبرهما علي بن عيسى على ضمان جهبذة الأهواز على أن يقرضا الدولة مبلغ 150 ألف درهم في مطلع كل شهر, ولم يزل هذا الرسم جارياً عليهما وعلى من قام مقامهما مدة ستة عشر عاماً (21).
      وتبين لنا من هذا أن يهود بغداد عاشوا وانسجموا مع المجتمع البغدادي والدولة, لكن لم نعرف أعدادهم في تلك الفترة لضآلة المعلومات حولهم, مع العلم أن الرئاسة فيهم إذ كانت لرأس الجالوت الذي يقيم في بغداد ويمثل اليهود لدى القصر. ويقول مؤرخو اليهود أن رأس الجالوت عانى أياماً شديدة في القرن الرابع الهجري (22).
      كما كانت لمدارس اليهود الدور في الوعي الديني لأبناء الطائفة ومنها مدرسة سورا الدينية, إذ مارس أساتذة المدرسة صلاحياتهم حتى قيام الدولة الفاطمية, إذ أصيبت الوحدة الدينية اليهودية بانقسام زعامتها, فكانت سلطة رأس الجالوت تسري على اليهود في شرقي الفرات فقط, في حين أوجد الفاطميون منصباً آخر في مصر والشام فتراخت العلاقات بين اليهود وفقدت مدارس بغداد التلمودية سندها المالي مما أدى إلى ضعف دورها الديني (23).
     كان رئيس الطائفة اليهودية (رأس الجالوت) يأخذ جزية مخفضة بمعدل دينار واحد في العام, فيخصص لرأس الجالوت مبلغ 700 دينار سنوياً, ويعطى لرئيس مدرسة سورا الدينية مبلغ 1500 دينار مساعدة سنوية للمؤسسة, وقدر آدم متز عدد دافعي الجزية من اليهود في بغداد بألف شخص إلا أن مبلغ المساعدة التي كانت تعطى لرجال الدين اليهود والبالغة 2200 دينار سنوياً, ولم يبين ما إذا كانت هذه المبالغ هي مجموع ما يدفعه يهود العراق أم هي ضريبة سكان بغداد من اليهود فقط (24).
      ويذكر الطبري في تاريخ الرسل والملوك إن الخليفة المتوكل قد فرض على يهود بغداد الغيار وكذلك (أهل الذمة الذي يذكر أنه كان عسلي اللون إلا أن عمرو بن متي قال بأن الغيار كان أزرق اللون بالنسبة للنصارى, وفرض على اليهود اللون الأسود) (25). كما أعيد فرض الغيار على أهل الذمة جميعاً في سنة (429ه), ويبدو أن اليهود عادوا إلى ترك الغيار في القرن الخامس, فأصدر الخليفة المقتدي أمراً سنة (478ه) ألزمهم فيه بالعودة إلى لباس أهل الذمة (26).
      والغيار كما هو معروف, هو نوعية اللباس والسلوك التي فرضها المسلمون على غير المسلمين من أجل تمييزهم عن المسلمين حيثما كانوا, وأينما حلّوا, والغيار كان جزءاً لا يتجزأ من عقيدة تمجيد الإسلام التي روج لها الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب والخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز على نطاق واسع. والغيار قديماً طبق في الامبراطورية البيزنطية كقيود ناشئة تعود أساساً إلى القانون البيزنطي المتعلّق باليهود في الامبراطورية, وهو نقل واضح ومباشر لمدونة تشريعية تتعلق بأعضاء ديانة مهيمن عليها. ومع ذلك ترجع القواعد الناشئة في العالم الساساني, خصوصاً المتعلقة بالغيار, إلى أمثولة المنظومة الطبقية الساسانية, التي روّج لها في إيران عن طريق الطبقة الأرستقراطية الساسانية, تطلّب وجود مجموعة من العلامات بما في ذلك اللباس والأدوات والعادات العامة لتميّز بين الطبقات الراقية من عموم الناس. وهذه الأمثولة الساسانية حول مجتمع هرمي غير متحرك, كلّ طبقة مميزة بلباسها وأدواتها, تبناها المسلمون بل في الواقع استولوا عليها من أجل التمييز بين المسلمين وغير المسلمين, بوصفها طريقة لإثبات تفوق المسلمين الخاص (27). والغيار كما نفهمه, ربما يكون أول وثيقة فصل عنصري مفصّلة ومعتمدة رسمياً تعرفها البشرية, وثيقة ما تزال آثارها ماثلة للعيان حتى اليوم في الدول العربية, التي فشلت على ما يبدو في إخراج رأسها من عنق الزجاجة, بفضلّ أحلام القرن الثالث والرابع الهجريين الوردية, على واقع القرن الحادي والعشرين الكارثي في العراق اليوم.
     أما واقع يهود بغداد الاجتماعي فكانوا جماعة محافظة, يؤمنون بالعلوم والطب والتنجيم, وكان الرؤساء الدينيون يقومون بالدفاع عن التقاليد الدينية اليهودية كلما احتاجوا إلى ذلك, معتمدين على تفسيرات متشددة لتعاليم التلمود, كانوا ينشرونها بين حين وآخر ويلقنونها لتلاميذهم. كما عمل اليهود في بغداد في مجال الخياطة والصباغة والخرازة وبيع بعض أنواع الطعام ومنها الهريسة في الشتاء. كما كان يعاملون في البيمارستان معاملة المسلمين.
      عملَّ اليهود في دباغة الجلود وربما كانوا أول من تمكن من الحصول على الأصباغ, وكان يفضل استعمال القرض اليماني في الدباغة, وفرضت أصول للدباغة فيما يخص الجلد نفسه, أو مادة دباغته أو طريقة الدباغة (28).
      قال الجاحظ في رسالته: (ولا تجد اليهودي إلا صباغاً أو دباغاً أو حجّاماً أو قصّاباً أو شعّاباً, فلما رأت العوام اليهود على ذلك, توهمت أن دين اليهود من الأديان كصناعتهم في الصناعات, وأن كفرهم أقذر كفر, إذ كانوا هم أقذر الأمم) (29), وهذا غير حقيقة حياتهم ومكانتهم الاجتماعية والاقتصادية كما نعرف, لأن أغلب يهود بغداد كانوا من الصيارفة والتجار والأطباء, ولم تكن أغلبيتهم من الوضاعة في مهنهم التي كانوا يزاولونها.
      وقد عهد الخليفة عبد الملك بن مروان إيجاد نظام تعاملي يضبط النقود والموازين, وقد جاء ذلك على شكل اقتراح تقدم به سمير اليهودي إلى الحجاج, وبين فيه الحاجة إلى نقد سليم, وإلى ضرورة ضبط الأوزان, وبينَّ أهمية ذلك في عدم وقوع التغابن بين الناس ولتسهيل أعمالهم (30). ويبدو أن اقتراح سمير اليهودي في وضع نظام نقدي راسخ كانت لها دلالتها الواضحة في التعبير عن نمو العلاقات التبادلية, التي عادت لتفرض نفسها من جديد في الربع الأخير من القرن الثالث, فإنَّ إقبال المعتضد على اقتناء الذهب يشير إلى سيطرته كمعدن نقدي متين (31).
    لكن يهود بغداد إذ اجبروا على الغيار ولبس الزنار وتحريم استعمال السروج, وكانت هذه الشروط قديماً حيث يطلق عليها الشروط العمرية (أي شروط عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز), والمصادر التي أوردت مرسوم عمر بن عبد العزيز, بما في ذلك ابن عبد الحكم (32), وأبو يوسف (33), وأبو عبيدة (34), وابن عساكر (35), منسجمة تماماً فيما يخص القواعد المتضمنة في هذا المرسوم, وتظهر الواقع تشابهاً لغوياً قوياً في بعض الأجزاء.
     المرسوم مكوّن من جزأين : الأول يحظر على غير المسلمين, رجالاً ونساء, استعمال السرج, والثاني ينظم اللباس والمظهر, بما في ذلك جزّ الناصية, وارتداء زنار (جلدي), وعدم ارتداء أحذية بأشرطة, وطيلسان (لباس رأس, عادة ما تكون قلنسوة تلبس فوق العمامة), وقباء (ثوب فاخر), أو عمامة (عمامة أو عصب). في الأمور الإضافية ثمة فروقات بين نسخ ابن عبد الحكم, وابن عساكر من ناحية, وأبي يوسف من ناحية أخرى, الذي يبدو أنه يقدّم هنا مرسوماً مختلفاً قليلاً, لكن هذه الفروقات ضئيلة, ولا يمكن بأية حال أن تصل إلى مستوى التناقص. كما لم يسمح لغير المسلمين إلا باستعمال الإكاف (برذعة). وبحسب المرسوم الذي يورده ابن عبد الحكم, فقد منعوا عن ركوب الحيوانات بساقين منفرجين, ولم يكن باستطاعتهم ركوبها إلا وكلا الساقين في جانب واحد, كما كانت النساء تفعل (36).
      وفي عهد المتوكل (حكم 847/861م) قد أصدر مجموعة قيود رسمية على أهل الذمة معروفة للباحثين في مجال التاريخ, هي تلك التي وضعها, فللمرة الأولى يصدر الخليفة مجموعة منظمة من القيود التي وجب تطبيقها على الذّميين.
      تضمّن هذا القانون مطلب ارتداء الأصفر كلون مميز, ارتداء الزنار, والركوب على سروج بركابين خشبيين ملحقين بالقربوسين في المؤخرة, وربط زرين بالقلنسوة, وربط خرقتين بلون أصفر, من الأمام ومن الخلف, مثل إلى ثياب العبيد وذميي الطبقة الدنيا, وتدمير البيع الجديد (بيعهم المحدثة), الاستيلاء على عُشر مساكنهم, ودق صور شياطين بالمسامير على أبوابهم, وتحريم استخدام غير المسلمين في الحكومة, وحظر دراسة أولادهم في مدارس المسلمين أو أن يعلّمهم مسلمون, وحظر المواكب العلنية بما في ذلك في أحد الشعانين, وتسوية القبور التي تشبه قبور المسلمين (37).
      من الجانب الإسلامي يقول الطبري إنه في (محرّم 239ه/ 12-حزيران -13 تموز 853م), أمر المتوكّل بأن يربط الذّميون كمّين (ذراعين) أصفرين إلى عباءاتهم الخارجية. وهذا لا يعقب على نحو دقيق المرسوم الذي أورده الطبري نفسه سابقاً, الذي يتضمن أنَّ على أعداد إضافية كثيرة من غير المسلمين, بمن فيهم التجّار والحجّاب, أن يرتدوا الطيالس الصفراء, والعمائم الصفراء, وأن ترتدي نساؤهم إزاراً أصفراً, في حين أن أولئك من تابعيهم الأذلاء الذين هم أدنى مرتبة من هؤلاء, والذين تمنعهم ظروفهم من ارتداء البرنس, فيجب أن يربطوا خرقتين صفراوين إلى عباءاتهم من الأمام ومن الخلف (38), ثمة ما هو أكثر من ذلك, ففي الوصف تستخدم الخرق الصفراء كعلامة مميزة للعبيد (المماليك) (39), بينما لا يقال شيء عن الأكمام. وفي صفر 239ه/ 12 تموز 9 آب, من العام نفسه, أمر المتوكل أن تقتصر حيوانات ركوبهم على الحمير والبغال, وأن يتجنبوا امتطاء صهوة الخيول (40).
      بالتوافق مع الطبري يقول إنه في محرّم 239ه/853م, فرض الأمر الذي يقتضي أن يلبس الرجال غير المسلمين خرقاً بلون عسلي إلى أثوابهم ومعاطفهم, وأن ترتدي النساء حجابات بلون عسلي, وفي صفر من ذلك العام حُظر على الذّميين ركوب الخيول وفرض عليهم أن يقتصروا على استخدام الحمير والبغال (41), وفي عام 240ه/ 854-855م, أعلن على الملأ أنه على أبناء الذّميين تعلّم السريانية أو العبرية, وأن يحظر عليهم تعلّم العربية (42), والحظر على رفع الصوت في الصلاة, وعلى الجلوس على مقاعد محترمة (علينا النهوض من مقاعدنا إذا ما كانوا يرغبون بالجلوس), والطلب أنه حين التحدث إلى المسلمين يجب أن تنظر العينان إلى الأسفل, أي يجب أن نبدي الاحترام للمسلم(43).
     تذكر المصادر, عدة خلفاء من الذين استنَّوا مراسيم مشابهة. فيقال إن المقتدر (حكم 908/932م) استنَّ مجموعة قوانين تتعلق باستخدام الذّميين في الخدمة العامة, واللباس الفارق بلون العسل, وغير ذلك من الغيار (44), ويقول المقريزي إن جوهر وزير المعز (حكم935/975م) في الخلافة الفاطمية, فرض قوانين الغيار على الذّميين (45), لكن أشهر هؤلاء جميعاً, بلا شك هو الحاكم المسلم, الذي علينا أن نعترف, أنه سار إلى أبعاد أكبر بكثير, ليس فقط بإنزال القيود على الذّميين بلا شفقة ولا كلل, بل أيضاً بتدمير كل الكنس والكنائس, ومصادرة الأملاك. يبقى السؤال بالطبع, ماذا كانت هذه الإجراءات قد فرضت بالفعل, أم أنها كانت مجرد رسالة ميتة؟
     أما حال أبناء الديانة من الصابئة والمجوس, فقد حصل الصابئة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري على عهد من الخليفة أمر فيه إلى جانب صيانتهم وحراستهم, والذود عن حريتهم ورفع الظلم عنهم, كما حصل المجوس في بغداد في القرن الرابع الهجري على اعتراف من السلطة بأنهم من أهل الذمة إلى جانب اليهود والنصارى وصار لهم رئيس مثلهم لدى قصر الخلافة, كالطوائف الدينية الأخرى (46).
      وهكذا يمكن القول إنَّ التعامل مع اليهود والنصارى والمجوس والصابئة المندائيين وغيرهم من أهل الذمة كان على أساس أنهم مواطنون من الدرجة الثانية, وكان وضعهم مماثلاً في العديد من الجوانب لوضع الأجانب المقيمين, مع ذلك حافظ حكام الدولة الإسلامية بالتزام واضح لحماية أهل الذمة, والعيش وفق القوانين والعادات القديمة الخاصة بهم, مع العلم أن المؤسسات اليهودية والنصرانية واصلت العمل, فاليهود والمعابد اليهودية, التي كانوا يرزحون تحتها بضغط تهديد متزايد, كانوا محميين بالقانون من أي أذى أو ضرر, فلم يكن اليهود يضطرون للحضور في المحكمة يوم السبت بسبب العادات القديمة والأعراف.
     
 
المصادر /

1- 
2- ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم, المجلد الحادي عشر. لندن وبيروت 1992. ص222/223.
3- هلال بن المحسن الصابي. تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء. مصدر سابق. ص9.
4- آدم متز. الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. مصدر سابق. ج1. ص64/65.
5- المصدر السابق. ج1. ص63.
6- المصدر السابق. ج1. ص164.
7- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. تاريخ الرسل والملوك. بيروت. 1405ه. دار المعارف. ج9. ص171/172.
8- ابو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي. المنتظم. المصدر السابق. ج8. ص96/97.
9- ملكة ليفي روبين. أهل الذمة في صدر الإسلام من الاستسلام إلى التعايش. ترجمة د. نبيل فياض. بيروت. ط1. 2016. المركز الأكاديمي للأبحاث. ص33/34.
10-                    صالح أحمد العلي. ألوان الملابس العربية في العهود الإسلامية الأولى. مجلة المجمع العلمي العراقي. م26. بغداد. 1975. ص107.
11-                    الجاحظ. الرد على النصارى. المصدر السابق. ص17.
12-                    أبو هلال العسكري. الأوائل. دمشق. 1975. ج1. ص369/370.
13-                    ابن الجوزي. المنتظم. مصدر سابق. ج6. ص67.
14-                    أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم, سيرة عمر بن عبد العزيز. القاهرة, 1994, ص160.
15-                    يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف. كتاب الخراج. بيروت. 1989. ص127/128.
16-                    أبو عبيدة القاسم بن سلاّم. كتاب الأموال. تحقيق محمد عمارة. بيروت. 1989. ص130. مقطع 137.
17-                    أبو القاسم علي بن الحسن ابن عساكر. تاريخ مدينة دمشق. بيروت. 1995. المجلد الثاني. ص179.
18-                    ملكة ليفي روبين. أهل الذمة في صدر الإسلام. مصدر سابق. ص190/191.
19-                    أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. تاريخ الرسل والملوك. المجلد الثالث. ص1389.
20-                    الطبري. تاريخ الرسل والملوك. مصدر سابق. المجلد الثالث. ص1389.
21-                    المصدر السابق. ص1392.
22-                    المصدر السابق. ص1419.
23-                    ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم, المجلد الحادي عشر. ص265.
24-                    المصدر السابق. ص270.
25-                    ابن عساكر. تاريخ. المجلد الثاني. مصدر سابق. ص175؛ ابن قيم الجوزي. أحكام أهل الذّمة. دمشق. 1966. المجلد الثاني . ص659.
26-                    عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. المجلد الثالث عشر. لندن وبيروت. 1992. ص82.
27-                    أحمد بن علي المقريزي. انماط الحنفاء بأخبار الأمور الفاطميين الخلفاء. القاهرة. 1967. المجلد الأول. ص132.
28-                    آدم متز. المصدر السابق. ج1. ص59/60.


204
حال أهل الذمة في مدينة السلام بغداد للقرنين الثالث والرابع الهجريين
 (الحلقة الأولى)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      المكانة الاجتماعية لغير المسلمين الشرعية في المجتمع الإسلامي نتاجاً لمعاملتهم معاملة حسنة بأنهم أهل الذمة أو أهل الكتاب التي نجدها في القرآن, وكذلك وفق اتفاقيات بدأت منذ صدر الإسلام عام 634م وما بعدها, حين فتحت المدن والبلدان على أيدي جيوش المسلمين, بدأوا بتبني سياسة أكثر انسجاماً تقوم على مبدأ الصلح المعتمد على الأمان أساساً له, أو الوعد بالأمان الذي يعطى مقابل أن يدفع أهل الذّمة أو أهل الكتاب الجزية. هذه المنظومة الأساسية كانت تطبّق على وفق الروايات التاريخية الإسلامية, مع بعض الشروط والالتزامات الإضافية التي كانت تطبّق أحياناً وتختلف من مكان إلى آخر. والمصادر الإسلامية التي تعود إلى القرن الثالث والرابع الهجري وما بعده تقّدم لنا غالباً تقارير تتعلّق باتفاقيات الحماية لأهل الذمة تحت نظام الدولة الإسلامية.
       عند تتبع حال أهل الذمة في بغداد السلام يتبين لنا أن المسلمين قد تتبعوا ظهور التشريعات بغير المسلمين منذ ظهور الإسلام, وتطبيق هذه التشريعات عليهم في ظل الحكم الإسلامي, بدءاً بالاتفاقات الموقعة زمن ظهور الرسالة الإسلامية فصاعداً أو ما تسمى بالشروط العمرية, وهي حقبة وضعت فيها أسس العلاقة بين الحكام المسلمين وأهل الذمة.
      يبدو أن بناء بغداد في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور مرحلة هامة على طريق تعزيز الدولة العباسية, كما لوجود علاقة وثيقة بين قيام الدولة العباسية وبناء بغداد ونمو العامة فيها وتعدد وجود أبناء الديانات والمذاهب والقوميات الدور الكبير في تطوير المدينة وخلق جو من التعايش السلمي بين أبنائها, في حين كان المجتمع الإسلامي يخرج من التنظيم القبلي إلى التنظيم السكني أو الحضري, باتجاه قيام مجتمع تتوفر فيه شروط الاستقرار السياسي والاجتماعي مما أصبحت مدينة بغداد كبرى المدن وعامرة بالناس والأسواق.
     لذلك من يرغب أن يقدم دراسة عن حال أبناء الذمة في مدينة بغداد يمكن أن يشكل نقطة البداية لتطور حالة المجتمع البغدادي ويبين التعايش السلمي بين أبناء بغداد من جميع الطوائف ودور أهل الذمة في المجتمعات الإسلامية, وبخاصة أن بغداد كانت أول عاصمة عربية ضمت كثافة عالية من السكان المتعددي الأصول العرقية والدينية والمذهبية, واللذين خاضوا تجربة العيش ضمن ظروف جديدة في عاصمة عالمية تختلط فيها الثقافات القديمة, لكن بغداد استقبلت العديد من أبناء أهل الذمة مستفيدين من توسع مجالات الإنتاج وازدهار الحركة النقدية واحترام حكام بغداد وسلاطينها لأبناء أهل الذمة ورجالات الدين.
      أهل الذمة يندرجون ضمن مفهوم الموقف الشرعي, وقد عبرَّ عنه الأوزاعي بقوله : ( إنهم ليسوا بعبيد ولكنهم أحرار أهل الذمة). ورأى الليث بن سعد في فداء أهل الذمة إذا وقعوا في الأسر (أن يفدوهم من بيت المال ويقروا بذمتهم)(1). وقد عاش أهل الذمة مع المسلمين بموجب عهود كانت ترعى مصالحهم, مقابل ضريبة يؤدونها عن رؤوسهم(2), وأهل الذمة هم من النصارى واليهود والصابئة والمجوس والسامرة.
نصارى بغداد :
      ويذكر الشابشتي في كتابه الديارات حول مكانة النصارى في عهد الخليفة المنصور إذ قال :(أقام النصارى في منطقة بغداد قبل تمصيرها, وأدخل المنصور في مدينته الكثير من قراهم وأديرتهم, منها القرية التي بها دير مارفثيوس الذي عرف في العهد العباسي بالعتيق, ومنها قريتا درتا وقطفتا ومنها دير كيليشوع عند باب الحديد, وفي هذا الدير دفن البطريك طماثاوس (205ه) الذي جعل إقامته فيه حتى عرف باسم دير الجاثليق)(3).
      كانت إقامة النصارى داخل بغداد متجاورين مع المسلمين, وعرفت مناطقهم في بغداد بـ(قطيعة النصارى) التي أقطعها لهم المنصور وكانت تقع بين نهر الدجاج ونهر طابق, كما نزلوا في درب القراطيس(4).
     قدر المؤرخ أدم متز في كتابه الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري عدد النصارى في بغداد خلال القرن الرابع الهجري ما بين 40 وخمسين ألف شخص (5), وقد كانت واردات الجزية كما يذكرها آدم متز في كتابه أعلاه في القرن الرابع الهجري, التي كان يدفعها أهل الذمة في بغداد, والتي بلغت في القرن الثالث الهجري 130 ألف درهم, وبلغت في قائمة قدامة بن جعفر المائتي ألف درهم, كما بلغت في أوائل القرن الرابع الهجري 160 ألف درهم, ويعني هذا أن عدد دافعي الضريبة من أهل الذمة يبلغ خمسة عشر ألفاً مع العلم أن هذه الضريبة لم يكن يدفعها الجميع, إذا استثنى منهم الصبيان والنساء والمساكين والمقعدون والعميان والخدم والمجانين ومعظم أهل الصوامع (6).
    خضع نصارى العراق لرؤساء دينيين, وكان الجاثليق ينتخب بين عدة مرشحين, وكان الجاثليق النسطوري رئيساً شرعياً للنصارى الشرقيين في خلافة المقتدر. ولعل الأهمية الخاصة التي كانت  لمنصب الجاثليق كانت وراء التنافس الشديد الذي كان يجري بين المرشحين أحياناً, مما حملَّ البعض على دفع الرشا إلى الناخبين, أو الاستعانة بالسلطة السياسية للوصول إلى كرسي البطركية, فقد لجأ طاماثوس إلى إغراء تلامذة المدرسة الدينية في المدائن ووعدهم بتوزيع الأموال عليهم في حال انتخابه, واستعان أحد المطارنة بمال أودعه لديه أحد البدو والإعراب دفع منه مبلغ 200 دينار لأحد معارضيه (7).
      كانت الكثير من المشاكل تجابه المرشحين لكرسي البطركية, وتعهد الكثير منهم أن لا يتعرض لجمع المال وأن يؤخذ الرشا وألا يمنح رتبة الكهنوت إلا لمستحقيها (8), كما للبطاركة والمطارنة في بغداد نشاطاً طيباً فلهم الدور في تجديد أديرتهم وترميم بناء دير مارفثيون في العتيقة في القرن الثالث الهجري, وهو الذي أقيم في عهد الفرس, وأخرج المنصور من فيه من المسلمين عند بناء بغداد, وبعد تجديده, ألحقت بهذا الدير مدرسة مجهزة بالمعلمين, كما أصبح مقر البطركية. وفي سنة 349ه, بنيت البيعة الكبيرة بدار الروم وجددت بيعة العتيقة (9).
      وفي العهد العباسي تولى النصارى الكتابة والجهبذة, وتولى نصرانياً كتابة ديوان الجيش لكل من الموفق والمعتضد, وفي القرن الرابع الهجري وجه اللوم إلى علي بن فرات الوزير في تقليده ديوان الجيش رجلاً نصرانياً, لأنه جعل أنصار الدين وحماة البيضة يقبلّون يده ويمتثلون أمره, كما كان النصارى داخل قصر الخلافة, فقد كانت إحدى جواري المهدي تعلق صليباً في صدرها, وكانت فرج النصرانية تعمل كاتبة لدى أم موسى القهرمانة (10).
      مع كل الامتيازات التي حصلوا عليها النصارى في ظل الدولة العباسية إلا أنهم تعرضوا لنقمة بعض الخلفاء, فقد أمر الرشيد وهو في مواجهة البيزنطيين (191ه), بأخذ أهل الذمة في بغداد بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم, وأعاد المتوكل سنة (235ه) أخذ النصارى وأهل الذمة بلباس الطيالسة العسلية والزنانير والركوب بالسروج, ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان, وأن يتعلّم أولادهم في كتاتيب المسلمين ولا يعلمهم مسلم, وفي سنة (296ه) أمر المقتدر أن لا يستعان بأحد من اليهود والنصارى, فألزموا بيوتهم وأخذا بلبس العسلي والرقاع من خلف وقدام وأن تكون لهم ركبهم خشباً (11).
     وفي القرن الثالث الهجري كان النصارى أرباب مهنة الطب ورجال المال, وقد اشتهر الطبيب أسد بن جاني كساد في مهنة الطب, وكان النصارى يمارسون حياة عادية لا تختلف عن غيرهم, وكانوا يتقدمون من القاضي المسلك لينظر في دعاواهم, كما دخلوا حمامات المسلمين, وأفادوا أحياناً من الصدقات التي تعطى للمحتاجين (12).
      أما أعياد النصارى في بغداد فكانت مظهراً من مظاهر البهجة يشارك فيها المسلمون, فذكر الشابشتي في كتابه الديارات : (أن أعياد النصارى ببغداد مقسومة على ديارات معروفة, منها أعياد الصوم الكبير تقام على أربعة أيام آحاد متتالية. فالأحد الأول منه عيد دير العاصية, الأحد الثاني دير الزرافية, الأحد الثالث دير الزند ورد, والأحد الرابع دير رمالس الذي يجتمع إليه نصارى بغداد, كذلك نصارى بغداد يخرجون في أحد الشعانين (13).
      لكن النصارى وأهل الذمة لم يسلموا من بعض المتعصبين والمتشددين من المسلمين أيام الاضطرابات السياسية, ففي سنة (271ه) وثب العامة على النصارى وخربوا الدير العتيق ونهبوا كل ما فيه من متاع وقلعوا الأبواب والخشب وسار إليهم صاحب الشرطة فمنعهم من هدم الباقي وكان يتردد على حمايته أياماً. وتعرض هذا الدير في العام التالي لهجمات العامة وبسبب هذا الشغب أنهم أنكروا على النصارى ركوب الدواب. وعلى أثر ضائقة اقتصادية افتتحت الجوالي سنة (331ه) في ربيع الأول فلحق أهل الذمة خبط عظيم وظلم قبيح, وفي سنة (392ه) ثار العامة على النصارى فنهبوا البيعة بقطيعة الدقيق وأحرقوها فسقطت على جماعة من المسلمين فهلكوا. وفي سنة (403ه) توفيت بنت أبي نوح بن أبي نصر بن إسرائيل أحد كتاب النصارى, فأخرجت جنازتها نهاراً ومعها النوائح والطبول والزمور والصلبان والشموع, فقام رجل من الهاشميين فأنكر ذلك, فضربه أحد غلمان الكاتب مما تسبب في فتنة أدت إلى تدخل العامة وانتهت بإلزام أهل الذمة الغيار(نوعية اللباس) (14).
      تعتبر هذه الاضطهادات أحداثاً استثنائية قد تعرض لها أبناء النصارى في بغداد بسبب إقامتهم بين باب البصرة ذي الأكثرية السنية وبين الكرخ ذي الأغلبية الشيعية, فكانت الصدامات بين هاتين الفئتين تجري في قطيعة النصارى. لكن مع هذا فإن النصارى تمتعوا في ظل العهد العباسي بمركز أفضل بكثير من الذي كان عليه بعض الجماعات الإسلامية, لأن المحاورات لم تكن لتتم بين أعداء يريد بعضهم تدمير البعض, لكن الجاحظ يؤكد قائلاً : (وبالفعل فقد ترك كثير منهم عقد الزنانير وامتنع كثير من كبرائهم من أداء الجزية, مع اقتدراهم من دفعها, وسبّوا من سبَّهم وضربّوا من ضربّهم (15).
      كما أجبروا النصارى على ركوب الحيوان دون سرج لكن يجب أن يركب على برذعة, وأي امرأة من نسائهم يجب أن لا تركب على سرج, بل يجب أن تركب على برذعة, ويجب أن لا يبخسوا على حيوانات الركوب بساقين منفرجتين, ويجب أن يضعوا سيقانهم في جهة واحدة. ويورد ابن عبد الحكم في كتابه سيرة عمر بن عبد العزيز قائلاً : اكتبوا لهم رسالة حازمة بشأن هذا وأرضوني فيما يتعلق بهذا(16).
      أما في عهد الخليفة العباسي المنصور فقد أزال الصلبان من على قمم الكنائس, وأمر بوجوب إضافة علامات على أشجار نخيل الذّميين, وفرض الجزية على الرهبان, الذين كانوا معفيين منها حتى ذلك الوقت. لكن وجدَ أمر إزالة الصلبان من قبل عمر بن عبد العزيز, فهو يرجع إلى القرن الثاني الهجري, في حين أن أول محاولة منظمة لإقصاء غير المسلمين عن المناصب العامة قام بها عبد الملك بن مروان, في حين قام بالثانية عمر بن عبد العزيز (17).
     أمر هارون الرشيد أن تسوي الكنائس في المناطق الحدودية بالأرض, أمر كان له علاقة من دون شك بالوضع الأمني على طول الحدود. أما أن يغير أهل الذمة مظهرهم فقد تمت صياغتها على يد المستشار الشرعي لهارون الرشيد, أبو يوسف (ت789م). ويذكر الطبري أن الرشيد أمر أن يغيّر الذّميون في بغداد مظهرهم كي يختلفوا عن المسلمين (18).
      لكن مرسوم أبي يوسف مرسوم عام ينطبق على غير المسلمين جميعاً, والأسباب حيثما يكون هناك حضور إسلامي معتبر, وبين زمن هارون الرشيد وزمن المتوكل ثمة خبر يتعلّق بالخليفة الواثق (حكم 842/847م), الذي حظر استخدام النواقيس في الكنائس (19).
      ويخبرنا ابن الجوزي أنه في العام 236ه/ 850-851م, في أعقاب المرسوم العام الذي صدر في شوال 235ه/ 850م (20), طُرِد المسيحيون من الوظائف العامة, كذلك فقد أعفوا من الولايات ولم يعودوا يستخدمون عموماً في أي شيء له علاقة بأمور المسلمين, والحظر على القيام بمواكب جنائزية عامّة, كما أجبروا أهل الذمة على اعتناق الإسلام.

المصادر /
1-  فاروق عمر. العباسيين الأوائل. ج2. ص167. دمشق. 1973. دار الفكر.
2-  يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف. كتاب الخراج. بيروت. 1989. ص131.
3-  أبو الحسن علي بن محمد الشابشتي. الديارات. تحقيق كوركيس عواد. بغداد. ط2. 1966. مكتبة المتنبي. ص3/4.
4-  فهمي عبد الرزاق سعد. العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجريين. ط1. 2013. اتحاد الناشرين العراقيين. ص74.
5-  آدم متز. الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة. ط3. القاهرة. 1957. ج1. ص66.
6-  المصدر السابق. ج1. ص66.
7-  أحمد بن علي القلقشندي. صبح الأعشى في صناعة الأنشا. القاهرة. 1964. ج10. ص295/297.
8-  عمرو بن متي. أخبار بطاركة كرسي المشرق. من كتاب المجدل. بعناية جسمو ندي. بيروت. ص81/82.
9-  أحمد بن القاسم ابن أبي أصيبعة. عيون الأنباء في طبقات الأطباء. تحقيق نزار رضا, بيروت. 1952. ص69/70.
10-                    هلال بن المحسن الصابي. تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء. تحقيق عبد الستار فرج. بغداد. 1964. دار إحياء الكتب العربية. ص109.
11-                     ابو جعفر محمد بن جرير الطبري. تاريخ الرسل والملوك. القاهرة. 1960/1969. دار المعارف. 1985. ج8. ص324.
12-                    أحمد بن محمد مسكوية. تجارب الأمم. القاهرة 1992. مطبعة التمدن. جزءان وملحقان. ج2. ص408.
13-                    الشابشتي. الديارات. مصدر سابق. ص3/4.
14-                    أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. حيدر آباد الدكن. 1992م. مطبعة دائرة المعارف. بيروت. ج5. ص82/84.
15-                    ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255ه). الرد على النصارى. ضمن ثلاث رسائل. القاهرة. 1382ه. المطبعة السلفية. ص18.
16-                    أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم, سيرة عمر بن عبد العزيز. القاهرة, 1994. ص140.
17-                    ملكة ليفي روبين. أهل الذمة في صدر الإسلام. ص215.
18-                    الطبري. تاريخ الرسل والملوك. مصدر سابق. المجلد الثامن. ص985.
19-                    ملكة ليفي روبين. أهل الذمة في صدر الإسلام. ص216.
20-                    ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم, المجلد الحادي عشر. لندن وبيروت 1992. ص222/223.


205
سدود العراق وأزمة المياه في ظل السلطات المتعاقبة
نبيل عبد الأمير الربيعي
     ضمن نشاطات ملتقى العشرة كراسي الثقافي في مدينة الحلة , وبحضور نخبة من المثقفين والأدباء وممن هم مهتمين بما يمر به العراق من أزمة المياه واهمال السدود ونواظم المياه من قبل الحكومات المتعاقبة , كانت محاضرة يوم السبت الماضي المصادف21 /10/2017 في مقر دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة الساعة الرابعة والنصف عصراً محاضرة للأستاذ الدكتور يحيى المعموري تحت عنوان (سدود العراق وأزمة المياه في ظل السلطات المتعاقبة) , وقد أدار الجلسة الشاعر المبدع جبار الكواز.
      تطرق الدكتور المعموري إلى أهمية المياه وسدود الري للعراق قائلاً "ما من أمة وصلها التقدم والرقي إلا وكان الري اساسٌ لها" , ثم يعقب على ذلك الدكتور المعموري "وجدت خارطة تمثل الأنهار في عهود ما قبل الميلاد في مواقع نفر الأثرية يعود تاريخها إلى 1300 ق.م , وقد شهد في تلك الحقبة الزمنية العراق تطوراً في مجال الري" , ثم يعقب على واقع حال المياه والري للحقبة الزمنية السابقة  يقول "في العهد العباسي كان الاهتمام في مجال الري إهتماماً مميزاً , وقد أكد ذلك الدكتور أحمد سوسة , أما في العهد العثماني فقد وصل واقع الري في العراق إلى أسوء حال ما وصل إليه الحال عن العهود السابقة , إلا أن اهمية الزراعة واعتماد الحكومات العثمانية على استحصال الضرائب على الأراضي فقد بدأ الاهتمام بحل لسدة الهندية عام 1890م من قبل المهندس شندروفر ثم من قبل ولكوكس عام 1918م بعد أن هجر المزارعين والأهالي مدن واراضي الفرات الأوسط , وفي عام 1932م اعيدت فكرة تنفيذ مشروع الحبانية الذي فشل تنفيذه حتى عام 1934م ووضعوا المشروع في المناقصة ثم فشل التنفيذ والسبب لتواجد القاعدة البريطانية في الحبانية وهبوط الطائرات على المياه , فعرض المشروع عام 1938 على حكومة جميل المدفعي وبينوا له سبب عدم التنفيذ حتى وافقت القاعدة الجوية البريطانية في الحبانية على تنفيذ المشروع , وتم توقيع العقد مع شركة فلبورويتي , إلا أنه لم ينفذ المشروع وتم التنفيذ عام 1950م".
      تحدث الدكتور المعموري في المحاضرة عن اهمية السدود والنواظم في الحفاظ على المياه المارة بالأراضي العراقية , إلا أن جميع الحكومات المتعاقبة قد اهملت موضوع خزن المياه وقت الفيضانات واستخدامها وقت الأزمات , ثم تطرق إلى مشاريع الري المهمة قائلاً "من المشاريع المهمة في العراق سد ديالى الثابت الذي تم تنفيذه عام 1925م من قبل شركة ارسان وقد فشل المشروع إلا أن المشروع نقل إلى مكان آخر في منطقة الصدور والمشروع بطول 1460م , أما المشروع المهم والعملاق في العهد الملكي إلا وهو سدة الهندية , وقد نفذ هذا المشروع عندما جف نهر الحلة وقد اهتم الملك فيصل الاول عام 1928 بدراسة الحالة ومعاناة الناس وكان قوله المشهور (لا مشروع قبل مشروع الغراف) وقد وجه بإنشاء السدة إلا أن العمل لم ينفذ حتى عام 1934م وقد اتفقوا مع شركة بلفوربيتي وانجز العمل في عام 1939 من قبل الملك غازي" وقد أكد الدكتور المعموري على "اهمية سدة الهندية وسدة الكوت الذي يعتبر اكبر من سدة الهندية ويقدر طول السدة بحوالي (600)م , وهو اول مشروع في منطقة الشرق الأوسط , فضلاً عن اهمية مشروع الدجيلة الذي نفذ في العهد الملكي , هذه ابرز المشاريع التي نفذت لغاية عام 1950م  رغم الأتباك في تنفيذ المشاريع إلا أنه كان هناك بناء".
      من المواضيع المهمة التي تطرق إليها الدكتور المعموري هو تشكيل (مجلس الاعمار) في العهد الملكي , ومن أهم مهام المجلس الاختيار والرقابة على المشاريع المنفذة , ومن اهم المشاريع التي اهتم بها مجلس الاعمار ما يخص المجال الزراعي والصناعي قائلاً "من المشاريع المهمة جداً والتي نفذها مجلس الاعمار هو مشروع الثرثار الذي كان سبب تنفيذه بسبب مخاطر المياه التي هددت العاصمة بغداد والمناطق المحيطة بها , ومشروع الثرثار قد انجز عام 1956م من قبل الملك فيصل الثاني , حيث قلل المشروع من خطورة الفيضانات , فضلاً عن انشاء خزانات كبرى شمال العراق , ومن السدود المهمة سد دربندخان الذي خصصوا له الأموال الطائلة وقد تم فتح المشروع عام 1961م , ومن الخزانات المهمة خزان دوكان الواقع على الزاب الصغير والذي احيل إلى عدة شركات ولكنه تأخر تنفيذه , ومن المشاريع المهمة سدة الرمادي وسد ناظم الوروار الذي افتتح عام 1956م من قبل الملك فيصل الثاني , والمشروع المهم الآخر مشروع اسكي كلك الذي نفذ من قبل مجلس الاعمار".
     ثم عقب الدكتور المعموري في محاضرته القيمّة قائلاً "أن كل ما انجز بعد العهد الملكي كانت ضمن مشاريع مجلس الاعمار عدا سد حديثة (القادسية) كان ضمن مشاريع العهد الجمهوري , كما اهتم مجلس الاعمار بمجال الصناعة وقد نفذ مشاريع الاسمنت والنسيج ومشاريع الاسكان والطرق والجسور , فضلاً عن تنفيذ مشروع الجسر المعلق , وهناك الكثير من المشاريع المخطط لها ولم تنفذ لحد الآن".
     مع كل هذه المشاريع التي تم تنفيذها في العهد الملكي طرح الدكتور المعموري واقع حال احزاب السلطة في العهد الملكي منها المؤيدة لمجلس الاعمار والاحزاب المعارضة له , وكان يوصف من قبل احزاب المعارضة بمجلس الاستعمار.
     عقب الدكتور المحاضر على بقية مشاريع الري المهمة قائلاً "من مشاريع الري مشروع المسيب الذي انجز من قبل مجلس الاعمار عام 1957م وكان طول المشروع 70كم وهو من المشاريع العملاقة لتوطين الأفراد , ومن المشاريع المهمة مشروع ابو غريب , إذ كانت سياسة العهد الملكي قد اهتمت بالمشاريع المهمة التي اهملت فيما بعد من قبل الحكومات المتعاقبة , حيث تحكمت فيما بعد بكميات المياه الداخلة للأراضي العراقية دول الجوار منها (سوريا وتركيا وإيران) , فضلا عن الهدر بالمياه من قبل المدن التي يمر بها دجلة والفرات والسكان".
     وفي نهاية المحاضرة شارك نخبة من المثقفين في ابداء الرأي والمناقشة وطرح بعض الأسئلة المهمة التي تخص المياه والري والسدود وكان منهم كل من (د. حازم سليمان الحلي , د. عبد الرضا عوض , محمد علي محيي الدين , رياض البياتي , أحمد الجباوي , صباح العكام , رياض المدني).
     


206
كُرد العراق .. خصومة شعب لشعب أم خصومة حكومات
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      إن الواقع والتاريخ والتطور الاجتماعي لا يعترف بخصومة شعب لشعب , لكن الواقع يظهر إنما هو خصومة حكومات ودول وحكام مستبدين , وهؤلاء يأتون ويذهبون , هم زائلون والشعوب باقية ترتبط فيما بينها بوشائج إنسانية , أبعد ما تكون عن صلات استرقاق أو استغلال شعبين في العراق هما الشعب العربي والكُردي.
      لم يحصل في أي وقت إن حصل حاكم أو  حكومات على موافقة شعبية لشن حرب ضد شعب آخر , أو استعباده بأي شكل , الشعب الكردي ليس عدواً للشعب العربي , ولا العربي بالأخص , إذاً لا مصلحة هناك , والعلاقات التي تؤدي إلى حالات الاستعمار والاسترقاق ومصادرة الحقوق هي مجرد مصالح تفسرها الحكومات بالحرص على رفاه وأمن الشعب الذي تتولى أمره.
      الأمة الكُردية الآن تعيش مأساة لم يعشها قبلها أي شعب عبرَّ التأريخ العام , فقد أحاطته إرادة الدول ومنطق القوة بجيران الخصوم واعداء الداء بعضهم لبعض , إلا أنهم متفقون على أن يبقى الكُرد بدون كيان سياسي , ممزقاً تستلبه دول الجوار , لكن بعد عام 1991م قد حصلَ الكُرد على اقليم , ويتمتعون بحرية اختيار الممثلين لهم في برلمان كردستان , وبعد عام 2003م شاركوا حكومة المركز بأعضاء في البرلمان ووزراء ووكلاء وزراء ومستشارين كونهم جزءاً من هذا الوطن ولهم مساهمات في بناءه.
      إلا أنهُ تزداد المصيبة وقعاً والشق اتساعاً بالنهج الذي تتبعه القيادات الكُردية بوعي منها أو بدون وعي , فهي تُسيِّر حركة النضال الكُردي إلى متاهات لا تخدم سوى مخطط التمزيق التاريخي وإدامته , ولنا في هذا مثال ما حصل بعد عام 2014م من الاستحواذ على المناطق المتنازع عليها بين الاقليم والحكومة المركزية , ومن ثم قيام حكومة المركز باسترجاع هذه المناطق ومنها مدينة كركوك والمناطق المحيطة بها والسيطرة على أبار النفط وشركة نفط الشمال ومناطق أخرى اعتبرها الاقليم جزء من أراضيه.
      لكن نضال الشعب الكُردي والحركة الوطنية الكردية ودعوتها من اجل حق تقرير المصير موضوعاً يفتقر بالشكل والصورة إلى التجاوب التزامني التلقائي أو العمل المخطط مسبقاً , ففي الوقت الراهن وما يمر به العراق من الصعب أن تخطوا القيادات الكُردي بعمليات استفتاء الانفصال وهذا ما حدث دون دراسة مسبقة لما تؤول إليه الأحداث , وممانعة حكومة المركز ودول الجوار من الموافقة على هذا الاستفتاء ورفضه بكل ما وصلت إليه النتائج.
      لو نتابع تاريخ الحركة الكُردية بشتى فصائلها في العراق لتبينَ لنا أن هذا الشعب قدم مئات الآلاف من الضحايا والشهداء من أجل استرداد حقوقه وحريته في العيش بوطن آمن , من هذه الحركات حركة عبيد الله النهري عام 1880م وحركة محمود الحفيد البرزنجي عام 1919م والتي استمرت حتى عام 1931م , والحركة المسلحة التي قادها الملا مصطفى البرزاني بأفراد عشيرته والتي تعتبر امتداد لحركة الشيخ محمود الحفيد , وشارك أخاه الأكبر أحمد البارزاني في قيادة الحركة الثورية الكردية للمطالبة بالحقوق القومية للأكراد , ولكن تم اخماد هذه الحركة من قبل السلطة الملكية في العراق والقوات البريطانية المحتلة .
     في عام 1935م تم نفي مصطفى البارزاني إلى مدينة السليمانية مع أخيه الشيخ أحمد , وفي عام 1942 هرب مصطفى البارزاني من منطقة نفيهِ ليبدأ حركته الثورية الثانية ، وفي إيران وبدعم من الاتحاد السوفيتي أقام الأكراد في عام 1945 أول جمهورية كردية في منطقة مهاباد في إيران ، وخدم الملا البارزاني كرئيس لأركان الجيش في جمهورية مهاباد والتي كان عمرها قصيراً , فبعد (11) شهراً من نشوئها تم وأدها من قبل الحكومة الإيرانية وذلك بعد انسحاب القوات السوفيتية من شمالي إيران تحت ضغط القوى الكبرى التي تمركزت قواتها جنوبي إيران ، وكانت القوات السوفيتية قد دخلت الأراضي الإيرانية أبان الحرب العالمية الثانية.
      بعد انهيار الدولة الكردية الوليدة في مهاباد ، توجه البارزاني إلى الاتحاد السوفييتي مع (500) من مسلحيه سيراً على الأقدام مجتازين حدوداً جبلية وعرة في إيران وتركيا , حيث واجهوا عقبات كثيرة في طريقهم وصولاً إلى الحدود الأذربيجانية السوفييتية وبقوا هناك عشرة سنوات.
     بعد قمع الحركة الكُردية عام 1945م طالب المثقفون الكُرد بمطلب الحكم الذاتي في العراق بمساندة اصوات الأحزاب السرية والعلنية الكُردية والعربية في العراق , ولكن ثار خيال الوطنيين الكُرد في السعي لتحقيق مشروع كردستان الكبرى المستقلة.
      في حقبة الأربعينات نشطت الأحزاب السرية في العراق وغزَى الفكر  الماركسي اللينيني هذه الأحزاب ودعوتها لحق الكُورد في تقرير المصير بحكم ذاتي , لكن ضربة رئيسه البارزاني عام 1959 اطاحت بالحكم الذاتي وهو الحلم الكُردي الذي كان يحلم به أغلب ابناء الشعب الكُردي , لكن النظام الجمهوري والصراع حول السلطة بين القوى الوطنية والقوى الرجعية والقومية قد اطاح به عام 1963م.
     إن المرحلة التي بلغتها الحركة التحررية الكُردية بانقلاب عام 1963 لم ينل منها طائل الخذلان الذي آلت إليه في العام 1975م , فكان مطلب الحكم الذاتي في عهد الجمهورية الأولى قد ارغم على الاقرار به وقبوله مبدئياً حكومة البعث عام 1970م , لكن ما حدث عام 1975م من اتفاق عراقي إيراني كما كان يطلق عليها (اتفاقية الجزائر) قد آلت إلى القضاء على الثورة الكُردية , وقد عانى منه القادة والشعب الكُردي والمثقفون الكُرد إلى حد شدَّة الصدمة والإذلال بدعوة البعث لإقامة معسكرات لأفراد هذه الحركة في صحراء السماوة ومنطقة الفرات الأوسط , ولم يتمكنوا افراد هذه الحركة بقياداتهم القائمة تخطي آثارها واصلاح الأخطاء التي وقعوا بها.
      إن انتهاك حرمة كردستان العراق في احداث حلبجة يوم 16/17 من مارس 1988م من قبل جيوش اقسى الانظمة معاملة لهم , فقد حصل الهجوم الكيميائي وقُتل من سكان البلدة بحدود 5000 فرداً , وأصيب منهم 10000 فرداً وكان أغلبهم من المدنيين ، ولقد مات آلاف من سكان البلدة في السنة التي تلت الهجوم نتيجة المضاعفات الصحية وبسبب الأمراض والعيوب الخلقية.
      إن الحركات الكُردية التي قامت على مر العقود السابقة كانت بحوافز واقعية تلقائية لم يسجل التاريخ لأي منها تهمة قيامها أصلاً بتحريض خارجي وبدافع قوى لا تمت إليها بصلة , كان الشعب الكُردي وسيظل دائماً مضرب المثل في التسامح الديني بحق الديانات الأخرى والأقليات التي تعايشت معهم.
 

207
الدرة البهية في تاريخ مدينة الديوانية...منذُ تمصيرها حتى عام 1917م...العهد العثماني
نبيل عبد الأمير الربيعي

صدرعن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة كتابي الموسوم ((الدرة البهية في تاريخ مدينة الديوانية...منذُ تمصيرها حتى عام 1917م...العهد العثماني)). الكتاب احتوى على (550) صفحة من الحجم الوزيري.
الإهداء :::
إلى الرجال المخلصين من أبناء مدينتي (الديوانية) الذين فقدوا حياتهم لرد الظلم والحيف عن أبناء مدينتهم.

للتاريخ نكهته وحلاوته ، وكتابة التاريخ فنٌ لهُ مناهجه المعروفة ، ونحن العرب تعودنا كتابة التاريخ من خلال مشاهيره وملوكه ناسين أو متناسين كتابة التاريخ الحقيقي للشعوب صانعة التاريخ وبناته المجهولين ، فالملوك والأباطرة شيدوا البنايات الضخمة والتي عُدّت من عجائب الدنيا ولا زال بعضها ماثلاً للعيان ونُسبَت لهذا الملك أو ذلك السلطان أو هذا الرئيس وتناسى التاريخ اليد العاملة والعقل المخطط لها ، هذه الفلسفة العقيمة ثبت خطؤها وبطلانها , فالشعوب هي من تصنع التاريخ ومن هنا أنطلقت في كتابه تاريخ مدينتي (الديوانية) , فقد أعتمدت المصادر التاريخية والوثائق والمصادر الميدانية من خلال تقصي الأخبار من مصادرها صانعة الحدث والتي لا زالت تتفاعل معي ، والتعامل مع المصادر يحتاج لقدرات كبيرة على الفحص والتدقيق فقد تختلف وجهات النظر للرواة تبعاً لتوجههم الفكري والطبقي ، وقد تتباين رواية الحادثة من مؤرخ لآخر لأن كلاً منهم نظر إليها من زاويته أو وجهة نظره , من هنا يظهر دور الباحث في التوفيق بين الروايات للخروج برؤية قريبة من الحقيقة أو الحقيقة ذاتها.
بعد صدور كتابي الأول (تاريخ الديوانية السياسي والاقتصادي والاجتماعي) بثلاثة أجزاء , وبتوجيه من الأخوة والمتابعين أرتأيت أن أكتب تاريخ مدينة الديوانية عن كل حقبة زمنية بكتاب منفصل , أما هذا الكتاب فيخص حقبة العهد العثماني واحداثه , ثمَّ سيليه كتابان آخران حول حقبتي العهد الملكي والعهد الجمهوري , وبسبب ما حصلت عليه من مصادر ومعلومات جديدة تخص مدينة الديوانية صدر هذا الكتاب.
ولتأريخ مدينة الديوانية لا يمكن قراءتهُ قراءة دقيقة من دون دراسة التطورات التاريخية للمدينه , حيث تمثل الدراسة الشاملة للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مقدمة مهمة لمعرفة التاريخ العام للعراق بصورة تفصيلية.
مدينة الديوانية لها أهمية تأريخية كبيرة , كما لها خصوصيتها في تاريخها وجغرافيتها وآدابها, وهي بذلك حلقة مكمِّلة لحلقات المدن العراقية الأخرى , لقد تناول تأريخ مدينة الديوانية أكثر من باحث ولمدة زمنية محددة , ولتسليط الضوء على الأحداث التاريخية التي مرَّت بها المدينة جاء كتابنا هذا تحقيقاً لدراسة الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمدينة منذ تأسيسها ولغاية عام 1917م.
فما زالت مدينة نفّر وتلول إيسن وبسمايا ومدينة مرد وأبو الصلابيخ شواهد شاخصة ومعالم واضحة لحضارة أصيلة , على أرضها وقعت معركة القادسية عام 636 م في صحراء الشنافية , وما زال التاريخ يذكر مدينة الرماحية المندرسة , ومنطقتي الحَسَكَة ولملوم , ثم ظهور اسم الديوانية في النصف الأول من القرن الثامن عشر 1747م , وقد شيدها شيخ قبيلة خزاعة حمود آل حمد , وصراعهم المستمر مع قبيلة الأكرع بزعامة محمد آل حمود وأبنه شبيب , سميت بديوانية الخزاعل لبناء قلعة على النهر ودار ضيافة , فكانت تلك البداية لمدينة الديوانية , وفي عام 1858م اتخذها العثمانيون مركزاً للقضاء.
اختلفت آراء الباحثين في تحديد تاريخ نشأة وموقع مدينة الديوانية , فبعضهم أرجع تأريخ نشوئها إلى عام 1671م وحدد موقعها في بلدة اللملوم وهي عاصمة إمارة الخزاعل من جنوب الحلة وحتى العرجة شمال مدينة الناصرية مدللاً على ذلك بأن أمارة الخزاعل كانت هذه حدودها , حيث كانت تختلف في مظهرها العام وتركيبتها السكانية عما هي عليه في الوقت الحاضر قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه من التطور النوعي والحياتي . وبعضهم يُرجع نشأتها إلى عام 1688م وهو تاريخ تدفق نهر ذياب (نهر الديوانية حالياً) مستنداً بما موجود من آثار وشواهد تاريخية حيّة ما تزال شاخصة إلى يومنا هذا , وهناك رأي يؤكد أن تاريخ تمصير مدينة الديوانية يعود إلى عام 1747م بدلالة بناء الشيخ حمد آل حمود شيخ الخزاعل ديوانه على الجانب الغربي من نهر الديوانية , وتبدو هذه الأخيرة أكثر وضوحاً إذ أشارت إلى تاريخ مباشرته في بناء المدينة , ثم بدأ توسع المدينة , إذ تم بناء المساكن والدور وقد قصدها التجَّار فصارت من أفخر بلاد العراق واحسنها في مجال الزراعة والمنتجات الزراعية.
اليوم وفاءً لهذه المدينة وللعطر النازف من وردة الشوق في قلوب أبنائها وددت الكتابة عن تاريخ المدينة الصعب , لأن هنالك من يؤيد وهنالك من يعارض , والمعارض يخاف كشف المستور من تعاون آبائه أو أجداده مع الاستعمار البريطاني أو الأحتلال العثماني , ومنهم من كان جاسوساً ساعد الأجنبي على احتلال العراق عام 1918م , ليستغلوه مادياً ومعنوياً لإشباع رغباتهم في الحياة حتى الرحيل , لا يفكرون بتاريخ عوائلهم أو سمعتهم , لأن التاريخ سيسجل ذلك مهما طال الزمان.
لندوّن في أوراقنا تاريخ هذه المدينة , العالقة بين آلام الجفاف , وأبقتها أمنيات النهوض , وأحلامها الغافية علّها تعود مدينة العنبر وشاي (الكچرات) , والحنين ونسائم هوائها العليل, ونذور أمهاتنا , وشموع خضر الياس في مساءاتنا , وهي تطفو على مياه نهرها , الحالم بالعودة إلى تلك الأيام الخوالي.
لقد تمَّ تبويب الكتاب على ستة فصول , احتوى الفصل الأول الموقع والمناخ لمدينة الديوانية , والآثار التأريخية لها في عصور ما قبل التاريخ , ومدن المحافظة بعد تمصيرها والوحدات الإدارية المرتبطة بالمدينة ومعالم مدينة الديوانية الدينية , وتأريخ التعليم الحوزوي في الديوانية , أما الفصل الثاني فقد تضمن عشائر الديوانية وصراعهم فيما بينهم ومع السلطة العثمانية ومتطلبات شيخ العشيرة في منتصف القرن التاسع عشر , وتأريخ عشائر الخزاعل وعشائر الأكرع وصراعهم المستمر مع الحكومة العثمانية والتكوين العشائري للواء الديوانية ونبذة عن تأريخ كل عشيرة , والفصل الثالث احتوى على التشكيلات الإدارية للواء الديوانية من الأقضية والنواحي , أما الفصل الرابع فقد تضمن الانتفاضات العشائرية في لواء الديوانية , والفصل الخامس احتوى على الحالة الاقتصادية لمدينة الديوانية في العهد العثماني ودور العوائل اليهودية في تطوير النظام الاقتصادي في المدينة , أما الفصل السادس فقد تضمن طبيعة المجتمع الديواني الاجتماعي والأدبي وطبيعة البيت الديواني في العهد العثماني.

نبيل الربيعي/ 2017م


208
رشيد الخيون وكتابه النصيرية العلوية بسورية.. السياسة تصادر الطائفة
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      تعيش الطائفة العلوية في مجتمع تظهر فيه أحزاب وافكار خارج الطوائف ينتمي إليها أبناء تلك الطوائف , لكن ليس معنى هذا أن هؤلاء يمثلون طوائفهم , مثلما يحصل الخلط بين النظام السوري والطائفة العلوية النُصيرية.
      صدر عن دار مدارك للدكتور رشيد الخيون كتابه الموسوم (النُصيرية العلوية بسورية , السياسة تصادر الطائفة) الكتاب يحتوي على (176) صفحة من القطع المتوسط , قسم الكتاب إلى أربعة فصول , وهو دراسة عن الطائفة النُصيرية التي تعيش في سورية , وللدكتور الخيون بعض الملاحظات حول الطائفة قد لا يتفق معهُ الباحثين والمؤرخين الآخرين.
     ظهرت البوادر الأولى للطائفة النُصيرية بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (260هـ) , وغياب ولدهُ المفترض محمد الملقب بالمهدي , في السَنة نفسها أعلن أحد وجوه الشيعة الإمامية آنذاك (محمد بن نصير النميري) (ت 70هـ) أنه المكلف بشأن الإمام الغائب , متجاوزاً بذلك السفراء الأربعة , ويؤكد الخيون في كتابه ص17 قائلاً :"مثلما هو الحال لدى الاثني عشرية , وبذلك أخذ يتردد في كتب الملل والنحل اسم النُميّرية عند البعض وعند البعض الآخر عرفوا بالنُصيّرية".
      وهناك رأي لكتاب ومؤرخون تورطوا في الكتابة عن النُّصيريين العلويين ومنهم ابن الأثير (ت630هـ) في حوادث السنة (494هـ) على أنهم العلويون أو النُّصيريون الذين أشار إليهم بالباطنية , إنما على ما يبدو كان يقصد الإسماعيلية / النزارية أصحاب حسن الصَباح (ت 518هـ) , أو توهم بمقالتهم فنسب بالإسماعيلية إليهم . كما أخطأ ابن الأثير بروايته , وهو يأتي بأخبار الباطنية أي النزارية الذين عرفوا بالحشاشين قائلاً :"كان أهل عانة نسبوا إلى هذا المذهب قديماً , فأنهيَ حالهم إلى الوزير أبي شجاع أيام المقتدي بأمر الله"(1).
     ويرى الخيون في الفصل الأول من الكتاب أن شهرة الإسماعيلية فربَّما آنذاك جعلت الأمر يلتبس على المؤرخين أو الرّواة في شأنهم , ففي ص 24 من كتابه يقول :" إلا فعانة معروفة بوجود النُّصيرية لا الإسماعيلية , ومنهم الشاعر اليساري المعروف رشدي العامل (ت1991م) , ووزير النفط والقيادي البعثي تايه عبد الكريم , هذا ما نعلمهُ على السّماع من أهل الثَّقة".
     وقد اشتهر مذهب النصيرية في العصر الحديث بالعلويين , مع قولهم بأن اسمهم المضاع قد عادَ إليهم , وهو اسم فيه إشكالية , فسلسلة الأئمة وأبوابهم حسب ما ذكر في كتاب (تاريخ العلويين) : تبدأ بعلي وبابهُ سلمان الفارسي وتنتهي بالحسن العسكري وبابهُ النميّري"(2).
      ويؤكد د. الخيون في كتابه ص23 قائلاً :" لم يبق بالعراق إلا عائلات محدودة , بعد أن كان النُصيريون يشغلون محلة السَّراي بعانة غربي العراق , إذ بلغ عددهم فيها نحو الستمئة ظلوا يمارسون عقائدهم بسرية , ولهم اتصالات بنصيرية سورية . على حد عبارة الكرملي :"ذكر لي ثقات , أن لهم وجوداً آنذاك بمنطقة تلعفر بين سنجار والموصل , حسب ما ورد في مجلة (لغة العرب) باب أسئلة وأجوبة . الجزء السادس . والمجلد الخامس . السنة الخامسة من 368. والجزء السابع. ص432".
     وقد رصد د. رشيد الخيون في كتابه هذا الحالة النُّصيرية منذ التأسيس , وكيف تمَ الانشقاق عن الشيعة الاثني عشرية , وعلى ماذا اعتمد الذين كتبوا ما لا يرتضيه العلويون , وكيف قامت لهم دولة ثم انتهت خلال ستة عشر عاماً (1920-1936م) بالذوبان بالدولة السورية , والتي عُرفت بدولة (جبال العلويين) وكيف أن العلويون أنفسهم طلبوا الوحدة مع سورية بعد اعتراضاتهم على الإدارة الفرنسية , إلا أن الخيون وجد في كتابه هذا على أن لا يكتب في عقائدهم , إلا أن العلويون قد كتب الكثير ضدهم , يقولون العلويون : نحنُ مسلمون , نصلي ونحج ونزكي ونؤمن بما جاء به الإسلام , ويعلنون بأنهم اماميون جعفريون يقرّون بإمامة علي والأئمة من أولاده واحفاده الاثني عشر , وبالغيبة وعدم موت المهدي وبظهوره , فقد قامت بزيارتهم المرجعية الشيرازية من كربلاء وهذا طموحها , إلا أن النظام السوري المحسوب عليهم حتى حصروا بسلطة قرداحة , وهي قرية صغيرة في سوريا لم يسمع بها أحد لكن تولي عائلة الأسد الحكم مما عرفت بعد ذلك كما عرفت في العراق بسلطة العوجة على نظام صدام حسين.
      يذكر في كتاب (فرق الشيعة) :"أن مؤسس الفرقة العلوية هو محمد بن نُصير النميري (ت270هـ) , فهو : صاحب فرقة غالية من القائلين بإمامة علي بن محمد الهادي (ت254هـ) , أصحابه قالوا بثبوته , وإنه كان يقول بالتناسخ والغلو في الإمام المذكور , فسميت جماعته بالنميرية"(3) . كما قالت هذه الفرقة بالحلول وهم اصحاب النميّري , وهو ابن نصير نفسه(4) , فعرفت بالنصيرية , وهنا التسمية جاءت نسبة إلى أبيه نصير . ولعلَّ أول من أشار إليه بالغلو والكذب هو شيخ الطائفة الإمامية في زمانه الشيخ الطوسي (ت460هـ) في كتابه الغيبة(5).
      حسب رأي النُصيريين إن لكل إمام باباً , تيمناً بالحديث النبوي (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب) , ويؤكد الخيون في كتابه ص38 :"ويبدو أن مركز الباب أعلن كمقالة بعد وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري , فهو آخر إمام يحتفظ بباب له , وبابه حسب الاعتقاد النُصيري العلوي هو أبو شعيب محمد بن نُصير النميّري.
      وجاء في كتاب (خطط الشام) بسؤال موجه إلى شيخ النُصيريين العلويين في حينه سليمان أحمد سليمان على استفساره منهُ عن أصل طائفته قائلاً :"لافرق بينهم وبين الإمامية إلا بما أوجبته السياسة والبيئة وعادات العشائر التي توارثها سكان الشام , كثر الناس اختلافاً وأقل أئتلافاً , إذا شيخ مذهبهم الذي ينتمون إليه الخصيبي من رجال الإمامية(6) . ويقصد بالسياسة هو لحظة الانشقاق والاختلاف مع الإمامية على ملئ الفراغ بعد موت الحسن العسكري ثم غياب الإمام المهدي المنتظر.
      ويعقب د. الخيون في كتابه ص24 :"لكن الطائفة النُصيرية عاشت ظروف قاسية بسبب العزلة ومطاردة العثمانيين لهم" . ويذكر الخيون في ص 45 من كتابه :" لكن الشيخ العلوي عبد الرحمن الخير (ت1986م) قد شارك ممثلاً لطائفته مع بقية المسلمين فريضة الحج ومشاركته في المؤتمر الإسلامي بالمغرب عام 1972م".
     يعتقد العلويون بأصول الدين كما يذكر ذلك عبد الرحمن الخير في كتابه عقيدتنا وواقعنا ص20/21 وهي نفسها عند الجعفرية تماماً (التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد) , والإقرار بفروع الدين (الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد) وزواج المتعة على أن لا يكون من نكاحها بولد لأنهم يعتقدون بأن ولد المتعة حرام وهذا ما ينقل عن النبي انه قال (ولد المتعة حرام وأن الأحرى للمؤمن لا يضيع النطفة في فرج متعة) , وهذا خلاف ما عند الإمامية , كما جاء في كتاب (أصل الشيعة وأصولها) :"إنما شروطها كشروط الزواج الدائم إلا أنها ليس فيها طلاق , بل تنتهي بانتهاء الوقت المتفق عليه , كذلك الميراث في زواج المتعة , وأن لا تكون المتمتع بها كافرة غير كتابية شأن الزوجة بالعقد الدائم"(7).
     ويعتقد العلوييون كما يذكر الخيون في ص31 نقلاً عن كتاب عقيدتنا وواقعنا  قائلاً :"أما الكتب المعتمدة لدى العلويون فهي مثلما عند الجعفرية (الكافي للكليني , ومن لا يحضره الفقيه للصدوق , والاستبصار للشيخ الطوسي , ووسائل الشيعة لمحمد الحسن الحر العاملي , ورسائل الفقهاء والمراجع الشيعية" . ويعقب الخيون في كتابه ص48 قائلاً :"أما الأعياد فهم يحتفلون بأعياد المسلمين إضافة إلى عيد الغدير وعيد المباهلة وعيد الفراش وعيد عاشوراء" , ويعقب في ص49 قائلاً :"كما أن لهم رأياً بأضرحة الأئمة التي يزورها الجعفرية ويتبركون بها , بأنها لا تحوي أجساد الأئمة إنما أشباههم , لأنهم لم يقتلون" , كم أنهم لا يقيمون اعتباراً لسفراء المهدي المنتظر في تقليدهم الديني , مع كل ما ذكر اعلاه يعتقد النصيرية العلوية بأنهم أثني عشرية جعفرية وهم من اتباع علي ومحبيه المخلصون.
      في الفصل الثاني من الكتاب يعرِّج الدكتور الخيون على كتيب (الجيل الثاني) وهي قصة واقعية تحكي عقائد النُصيرية وعاداتهم للكاتب محمد حسين الصادر عام 1986م , ويعتقد الخيون في هذا الكتيب أن الاسم وهمي ودار النشر وهمية لكن المؤلف اعتمد على ما الفهُ سليمان افندي الأذني (قتل 1866م) يقول في ص58 :"وهو اسم حقيقي لشخص نُصيري أو علوي تحول إلى المسيحية وأخذ يسرد ما حملهُ من عقائد طائفته , كان قد ولد عام 1834م وقُتلَ بسبب عصبيته ضد أبناء طائفته السابقة أو لردته عن الإسلام" , وقد ذكر الخيون في هذا الفصل كل من كتب عن النُصيرية منهم تقي شرف الدين في كتابه (النصيرية دراسة تحليلية) وكتاب (سنونة سليما في اصول العقائد والأديان) الصادر في بيروت عام 1876 لنوفل نعمة الله الطرابلسي (ت1886م) , وهو كتاب يسيئ للطائفة النُصيرية ويقوّلهم بأنهم اعتقدوا بألوهية علي بن ابي طالب وأن محمداً متصل بعلي ليلاً ومنفصل عنه نهاراً كما ذكر المؤلف في ص234 من الكتاب , وهذا مما لا يعرف به شيوخ العلويين انفسهم .
     وما قدمته بعض الكتب من اساءات للطائفة النُصيرية يذكر الدكتور الخيون في ص83 من كتابه وهي معلومات بعيدة عن الحقائق منها (تناسخ الأرواح والاباحية وقصة برهوم الحاشوش الخرافية.. وهذا ما حصل بحق الشبك بالعراق" , ويعقب الخيون في ص93 من كتابه حول تحريم الزواج من المرأة النُصيرية قائلاً :"يُحرم الزواج من المرأة النُصيرية , وعلى وجه الخصوص من أهل السُنّة , وهنا لا نعمم , فربما هناك من علماء الدين من لهم رأي آخر مختلف ,أو يتجاوز ما يشاع عنهم كالذين أفتوا بأنهم مسلمون , وتجب معاملتهم هكذا , مثلما طرح ذلك مفتي القدس أو الديار الفلسطينية أمين الحسيني عام 1936م".
     لكن قد تغير حال واقع الطائفة النُصيرية بعد عقد الاجتماعات والمؤتمرات عام 1936 ولغاية عام 1972م , حيث يؤكد الخيون في ص95 :"استقبلت حوزة النجف الدينية طلبة علويين للدراسة فيها للقيام بمهمة الارشاد الديني" . وفي ختام الفصل الثاني يذكر الخيون اسماء أعلام الديانة النصيرية منهم (زكي الأرسوزي وبدوي الجبل وأدونيس).
     وقد تضمن الفصل الثالث من الكتاب عناوين كُتب النصيريين العلويين في الدفاع والتعديل عن طائفتهم منهم :
1-   أوهام المؤلفين في أحوال العلويين. الشيخ العلوي تمام أحمد.
2-   عقيدتنا وواقعنا. الشيخ العلوي عبد الرحمن بالخير.
3-   تاريخ العلويين. أمين غالي الطويل. وهو من أهم الكتب.
4-   العلويون بين الأسطورة والحقيقة. هاشم عثمان.
5-   تاريخ العلويين.. وقائع وأحداث. هاشم عثمان.
6-   اصول الدين عند الشيعة العلويين. أحمد عباس.
7-   الهداية الكبرى. الحسين بن حمدان الخصيبي.
8-   العلويون والتشيع. الشيخ علي عزيز الإبراهيم.
     في صفحة 118 من الكتاب يذكر الخيون ما جاي بكتاب (الصلة بين التصوف والتشيع) لكامل الشيبي عن مبعوث مرجعية النجف عام 1956م الشيخ محمد رضا شمس الدين لاحظ : إن فكرة تناسخ الأرواح كانت تشتغل في الشباب العلوي هناك (سورية) ومن هنا حاول دحضها وخصها بستة أدلة عقلية : منها لو صحت لكان الثواب والعقاب على الأرض . ولأمتنع الحساب على العموم لتعلق عدة اجسام بروح واحدة . ولزم التحيّر في جواب سؤال من يقول : أين هي روح محمد وعلي؟ وفي أي جسم هي اليوم؟.
     أما في الفصل الرابع من الكتاب فقد تضمن نبذة مختصرة عن دولة (جبال العلويين) ايلول 1920م بدعم من الفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى ضد إقامة دولة الأرمن المسيحية في تلك الفترة حسب ما تحدث به الكاتب محمد أمين الطويل (ت1932) في كتابه (تاريخ العلويين) وقصة النزاع بين العلويين والأرمن . وقد استمرت هذه الدولة ستة عشر عاماً , وفي تلك الفترة ظهرت حركة علوية في الدولة الفتية ضد التبشير المسيحي كما ظهر لدى العلويين حزب (الوحدة) , تصدر هذا الحزب الشيخ العلوي علي شهاب , من جانب آخر تأسست رابطة (الشباب المسلم العلوي) باللاذقية.
     في ص140 من الكتاب يعقب الدكتور الخيون عن علويو تركيا وعدد نفوسهم كما جاء في (ملف العلويين الماضي والحاضر) قائلاً :"يزيد على خمسة عشر مليوناً) من اربعة وسبعين مليوناً عدد سكان الدولة التركية , ولا يحبذ العلويون بتركيا اطلاق اسم الشيعة على أنفسهم , إنما جعفرية لأن غمرة النزاع بين العثمانيين والصفويين صار كل شيعي إيراني , واشتد الحذر بعد الثورة الإسلامية بإيران (1979م) , وهم ينتمون لعدة قوميات : أتراك وكُرد وعرب والغالبية منهم من الأتراك , ولهم حضور قوي في الأحزاب اليسارية , كونها لا اميز على اساس الدين والمذهب , والأجواء العلمانية توافق الأقليات الدينية عادة , ونسبة قليلة منهم منتظمة في حزب العمال الكردستاني , والذي تعده الدولة التركية منظمة إرهابية , وهي في حرب مستمرة معه(8).
     وفي ص142 من الكتاب يذكر الخيون حول تصوف بعض العلويون قائلاً :"ينتمي العلويون الأتراك إلى الطريقة الصوفية البكتاشية , وهي البكتاشية نفسها , اسسها في القرن الثالث عشر الميلادي المتصوف والشاعر حاجي بكداش (ت1271م)... أما على المستوى الاجتماعي فهم يساوون بين المرأة والرجل , هذا شأن الطائفة الحقيقية والحقة".
     الكتاب يعتبر ذات أهمية تاريخية لما قام به الدكتور رشيد الخيون من جمع المعلومات والأدلة التاريخية الخاصة بأبناء الديانة النُصيرية العلوية في سورية , وفضح الكتب التي صدرت لتشويه الحقائق وتاريخ هذه الطائفة وإلصاق كل ما هو بعيد عن دياناتهم الجعفرية لأغراض سياسية تبثها الدولة العثمانية وقتذاك , وما تعاقب على سوريا وتركيا من سياسات طائفية.
 
 
المصادر
1-   ابن الأثير. الكامل في التاريخ. ج10.ص323. بيروت. دار صادر. بلا ت.
2-   محمد أمين غالب الطويل (ت1932م). تاريخ العلويين. بيروت. دار الأندلس.
3-   النوبختي. فرق الشيعة. ص93/94.
4-   الأشعري. مقالات الاسلاميين. ص14.
5-   الطوسي. الغيبة. قم. مؤسسة المعارف الإسلامية 1429هـ. ص398.
6-   محمد كرد علي. خطط الشام. بيروت. دار الملايين 1971. ص262.
7-   كاشف الغطاء. أصل الشيعة وأصولها. بيروت. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1993. ص98.
8-   ملف العلويين الماضي والحاضر. مجلة النور الإسلامية. العدد 50 تموز 1995. ص13/14.


209
أحمد الناجي وتنوعات الأسطورة وجماليات التأويل
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      يعد النقد الأسطوري منهج يهتم به قراء الأدب والفنون المتعاملين مع الأساطير والمتفحصين لتقنيات وطرائق توظيف الأسطورة , ومن خلالها يتم رصد تجليات كل ما هو متعلق بالفكر الأسطوري.
      صدر عد دار تموز في دمشق للباحث أحمد الناجي كتابه الموسوم (تنوعات الأسطورة وجماليات التأويل) , الكتاب يحتوي على (226) صفحة من الحجم المتوسط , وقد تمَّ تقسيم الكتاب إلى اثنى عشر فصلاً ومقدمة , وهو دراسة مهمة لمنهج النقد الأسطوري وجماليات التأويل.
      يذكر الباحث الناجي في صفحة 12 من الكتاب عن النقد الأسطوري قائلاً :"النقد الأسطوري ينهل من منابع معرفية وثقافية متعددة , وللإبداع الأسطوري علائق مع عدد من العلوم الإنسانية منها (التحليل النفسي , والانثروبولوجيا , والفلسفة , والآثار , والأساطير والاجتماع واللسانيات , وعلم الأديان المقارن والأدب المقارن)".
     ويعقب في صفحة 23 حول الفرق بين الأسطورة والخرافة والبعض يربط بينهما قائلاً :"دوماً ما يختلط في أذهان الكثيرين , بأن الأسطورة ترتبط ارتباطاً خاطئاً بالخرافة , ولكنه في الحقيقة ليس أكثر من قصور في المعرفة" , وأجد السبب في ذلك هو المفهوم العربي السائد حول الأسطورة ما زال متداولاً حول ربطها بالخرافة , حيث صارت دلالات الاسطورة تعني الخرافات والأباطيل التي استقرت في الذهنية التقليدية العربية والابتعاد عن مفهوم الفكر الغربي حول الأسطورة.
      لكن الأستاذ الباحث ناجح المعموري في صفحة 24/25 من الكتاب يؤكد "أن هناك فرقاُ كبيراً بين الأسطورة والخرافة في العصر الحديث , مع العلم أن الأسطورة تستلزم وجود الآلهة داخل النص , وهو شرط تشترطه الأسطورة فيما تنطوي الخرافة على الحيوانات والغرائب". ويمكن تعرف الأسطورة بأنها الأحداث  سواء قصة أو حتى حكاية من التاريخ القديم , مثل الأساطير اليونانية للآلهة منها زيوس و Odysseys , وهي بعض الأساطير العظيمة في التاريخ , ويمكن أيضاً أن تستخدم هذه الأسطورة لشرح حدث طبيعي باستخدام كائنات خارقة , بدءاً في تطوير الخرافات منذ بداية الوجود الإنساني والحضارات بسبب رغبة الناس في فهم العالم من حولهم , في حين أن الخرافة هي مجرد اعتقاد . في معظم الثقافات ، هناك العديد من الأساطير والخرافات التي تنبع من المجتمع , فالخرافات أو الأساطير ليست هي نفس الخرافات ، بينما يمكن أن تفهم الفرق بين الأسطورة كقصة تقليدية بما لديها من بعض العناصر الخارقة للطبيعة ، وباعتبارها أكثر دقة في النظر إلى الأسطورة في البناء الاجتماعي , ولكن القصة المثيرة للاهتمام ، لا توفر معلومات واقعية دقيقة , ومن ناحية أخرى فالخرافات هي الاعتقاد بما له من التأثيرات أو الممارسات الخارقة للطبيعة.
     تعتبر الأسطورة حكاية مقدسة يشف من معانيها الدلالة عن قدسية الكون والآلهة والوجود وحياة الإنسان , والأسطورة هي قصة رمزية تعبر عن فلسفة كاملة قد حدثت في العصور القديمة وتتحدد بنمط وجودها وقد حدثت بالفعل بالزمن البدائي وتعلق الأمر بخلق العالم وهي تخص تأريخاً مقدساً , مثال ذلك اسطورة نشأة الكون ووجود العالم وأصل الموت , أي بمعنى تاريخ الأديان.
     يعرض الباحث أحمد الناجي في كتابه ما تطرق له الكتاب الغربيين بما يخص الأسطورة من الجانب الأدبي والنفسي ففي صفحة 32 يذكر بما جاء به (يونغ) بما يخص ماهية الأسطورة قائلاً :"فهو يرى أن السجية البدئية لا تختلق الأساطير , فالأساطير هي في الأساس رؤى النفس ما قبل الواقعية... أن المجتمع الذي يفقد أساطيره , سواء كان بدائياً أو متحضراً يعاني كارثة أخلاقية تعادل فقدان الإنسان لروحه" . في حين استخدمت الأساطير أيضاً للحفاظ على النظام الاجتماعي السائد في المجتمع من خلال التقاليد والعادات ، ومختلف الطقوس.
      في الفصل السادس صفحة 93 من الكتاب يؤكد الباحث الناجي على أن الفكر الأسطوري في مدار علم الأديان المقارن ينطوي :"حول الأساطير القديمة على أنها روايات خرافية , متراكمة بفعل التقادم , وتمثلت فيها محاولات الإنسان المبكرة التي يعبر بواسطتها عن مكنونات نفسه , ولهذا ارتبطت تمام الارتباط بمآثر الإنسان السلوكية تجاه ما كان يجري , وتضمنت نظرته في تفسير أنظمة حياته ومصيره , وتناولت طبيعة الكون وكافة الظواهر الطبيعية وأصول المعتقدات والعبادات والطقوس والعادات والتقاليد".
       وهذا ما نجده في معظم المجتمعات ، هناك العديد من الخرافات التي تتشابك مع المعتقدات الثقافية للمجتمع , يمكن أيضاً أن تكون متصلة مع الخرافات ومع الحظ , فعلى سبيل المثال ، يمكن الاعتقاد بأن القطة السوداء تدل على سوء الحظ على الرغم من أن هذا الاعتقاد لا يوجد له أساس واقعي أو منطقي ,  في الماضي كان الاعتماد والمعتقد في الخرافات عالي جداً ، على الرغم من أن الوضع قد تغير الآن جنباً إلى جنب مع التطور السريع في العلوم.
     أما الملحمة أو اللاجيندة فيبين الباحث الناجي أن الملحمة هي "تأليف شعري عالي المستوى يقص سلسلة من أعمال ومنجزات أحد الأبطال , وتجري معالجتها بإطالة وتفصيل على شكل نص مطرد . أما اللاجيندة فهي قصة في الأصل تشير إلى أحد القديسين... كما ينظر إلى اللاجيندة على أنها قصة غير متحقق من صحتها تاريخياً رغم الاعتقاد الشعبي بصحتها" . والملحمة حسب ما جاء في الويكيبيديا هي قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه وتقص عن تحرك جماعات بأكملها وبنائها للأمة والمجتمع , والملحمة حكاية بطولية تخبر عن حركة جماعات أو حركة الشعوب وحركة القبائل وهي نموذج إنساني يُحتذى به ، يفعل بحياته وسلوكه ما يمكن أن يطمح المرء لتحقيقه.
     ثمَّ يعرض الباحث الناجي في كتابه الفكر الأسطوري في مدار الأدب المقارن حيث يتسع ميدان انشغالاته إلى أبعد حد , ونظريات الأنماط الأولية البدئية منها فكرة يونغ عن الأنماط على انها أنماط من الإدراك , ودراسة الأنماط البدئية عند فراي , وهي دراسة الرموز الأدبية بوصفها أجزاء من الكل , إلا أن الدرس الابلغ من فكرة الأنماط البدئية هو أن الأسطورة البدئية هي منبع الأدب الإنساني وأن جميع العاملين بالإبداع يغرفون منه . علماً أن نورثروب فراي يعد من أبرز دعاة منهج النقد الأسطوري فضلاً عن البريطانية مود بودكين والأمريكيين وليم تروي وفرنسيس فيرجسون.


210
حسين جميل.. وقراءة في وكتابه (العراق شهادة سياسية 1908-1930)
نبيل عبد الأمير الربيعي
      كتاب الراحل حسين جميل (العراق شهادة سياسية 1908-1930) يحتوي على 310 صفحة من القطع المتوسط وذات الطباعة والورق الجيد , والصادر عن دار اللام في لندن 1987م , الكتاب يحتوي على مجموعة من الصور النادرة التي تمثل شخصيات بغدادية ادبية وثقافية فضلاً عن أماكن بغدادية حقبة عشرينات وثلاثينات القرن العشرين , والكتاب هو عبارة عن مذكرات الراحل ودوره في الحياة السياسية في مطلع القرن الماضي.
      ولد حسين عبد المجيد أحمد الجميل في بغداد يوم 8 شباط من عام 1908م في دار جده محلة قنبر علي , كان والده حينذاك محققاً ومن ثم قاضياً , وتنقلت العائلة بين النجف عام 1913م , وكان الراحل حسين جميل ابن الخامسة من العمر , ويعود سبب الانتقال إلى تعيين والده عبد الجميل مستنطقاً (وظيفة حاكم تحقيق) هناك , وبعد حصول والده على شهادة الحقوق عُينَّ في سلك القضاء وهي من الوظائف المرموقة والمجزية بمرتبها , ولهذا تنتقل العائلة مع انتقال رب الأسرة في التنقلات الوظيفية , حيث ثَبَتَّ والده في صيف 1919م بوظيفة حاكم صلح في مدينة العمارة , فأكمل الراحل حسين جميل دراسته الابتدائية في العمارة عام 1923م.
      فهو من أسرة آل الجميل البغدادية عريقة , فجدهُ مفتي السلطة العثمانية في بغداد عبد الغني الجميل , بينما كان عمه هو العلامة الفقيه والمحدث عبد الجليل بن أحمد آل جميل حيث كان عضواً في المجلس العلمي السابق ومدرس في مدرسة الآصفية وله مؤلفات قيمة والذي توفي في عام 1377هـ/1957م , يذكر الراحل حسين جميل في كتابه (العراق شهادة سياسية 1908/1930) :"إن من أهم شخصيات بيت الجميل في بغداد هو المفتي عبد الغني الجميل الذي خرجَ على السلطة العثمانية في مقدمة الثائرين بسبب ما أصاب المجتمع البغدادي خاصة والعراقي عامة من ظلم وسوء الإدارة التركية على الوزير علي رضا باشا (كما ورد عن مجموعة نعمان خير الله الآلوسي ص7/14) , وأهل بغداد معهُ , حاولوا إخراجه وكلفوه بذلك , هاجموا دار الحكومة وقتلوا بضعة اشخاص وتقدموا نحو باب الحرم . ولكن الوزير استعان بالجيش فتمكن من القضاء على الفتنة واندلعت النيران في محلة قنبر علي" . هذا هو جد عائلة الشخصية السياسية والقانونية حسين جميل.
      دخل حسين جميل المدرسة الابتدائية في عام 1917م ، بعد ان تعلم القران في طفولته في الكتاتيب ، يقول الراحل في كتابه (العراق شهادة سياسية) ص18/19 :"بلغت الصف السادس الابتدائي وهو والصف المنتهي سنة 1923م وكان قد تقرر في السنة الدراسية السابقة أن يكون امتحان الصف المنتهي للدراسة الابتدائية وزارياً... وتقرر اجراء الامتحانات الوزارية مركزياً في ثلاثة مراكز : هي بغداد والبصرة والموصل , كانت البصرة مركز امتحان الألوية الجنوبية وبضمنها العمارة".
       أكمل الثانوية في بغداد , حيث اطلع الراحل في العاصمة بغداد على الكتب الحديثة الصادرة في مصر منه (لينين الدولة والثورة) , (تاريخ اوروبا الحديث) , والاطلاع على الصحف العربية والعراقية الصادرة منها (السياسية , السياسة الأسبوعية , المصور المصرية اليسارية , الصحيفة) والأخيرة لحسين الرحال .
      كان لهُ دور بارز في الحركة الوطنية وهو ما زال في مقتبل العمر في كتابه (العراق شهادة سياسية) ص180/182 قائلاً :"كنت في السنة الدراسية 1925-1926م طالباً في الصف الثالث في المدرسة الثانوية ببغداد , وكان مدرس اللغة الانكليزية فيها رجل انكليزي اسمه كودول Goodal وأذكر أنه كان معلماً غريب الأطوار , ضعيفاً في تدريس مادته ونشازاً في مظهره , حتى أنه كان يشد سرواله برباط عنق قديم بدلاً من الحزام . في هذا الجو المشحون بالتحدّي للإنكليز دخل المسر (كودل) مدرس اللغة الانكليزية على طلاب الصف الثالث وكنت فيه , وقال في الصف : إن العراقيين حمير , لأنهم يعارضون المعاهدة (معاهدة الانتداب) مع بريطانيا في حين أن بريطانيا تمدّنهم وتعمل على تقدمهم . تململ الطلاب وهم يباغتون بمثل هذا الكلام الجارح , وأخذ الغضب يفعل فعله في نفوسهم , ولكنهم انتظروا لحين انتهاء الدرس ! وما إن رنَّ الجرس معلناً إناء الحصة حتى ذهبوا – وكنت بينهم – إلى إدارة المدرسة , وكان المدير هو يوسف عز الدين الناصري , وأعلموه أنهم قرروا الإضراب عن دخول صف اللغة الانكليزية لأن مدرسها أهاد العراقيين , ونفذوا إضرابهم".
      ثم يعقب الراحل في قائلاً :"حاول المدير اقناعهم بعدم مقاطعة درس هذا المدرس... غير أن الطلاب لم يستجيبوا لطلبه ونفذوا إضرابهم... وأذكر إن مدته لم تكن طويلة... لعلها لم تزد على اسبوع , صدر بعده أمر نقل المدرس كودول إلى ثانوية الموصل , ونقل مدرس اللغة الانكليزية في الموصل (المستر براير Prayer) إلى ثانوية بغداد" . هكذا كانوا طلبة الثانوية يحملون من الروح والمشاعر الوطنية في عشرينات القرن الماضي ودفاعهم عن وطنهم.
      هذا كان أول اضراب يشارك به الراحل حسين جميل , أما الأضراب الثاني فكان عام 1927م وهو ما زال في مقتبل الشباب , وهي حادثة فصل وزارة المعارف استاذ التاريخ انيس زكريا النصولي وكتابه (الدولة الأموية في الشام) , الكتاب الذي أثار مشاعر ابناء المذهب الشيعي في ذلك الوقت , فقررت وزارة المعارف وكان يشغلها السيد عبد المهدي المنتفكي لمنع تدريس كتابه في ثانوية بغداد , وكان الراحل حسين جميل نشاً ومن العناصر القيادية من طلاب الثانوية , يقول في كتابه (العراق شهادة سياسية) ص188 :"ثم اتصلت العناصر القيادية من طلاب الثانوية ودار المعلمين بعضها ببعضها الآخر , وكنت نشطاً فيها , وبعد المداولة بينهم اتفقوا على أن يتجمع الطلاب في صباح اليوم التالي الأحد 30 كانون الثاني 1927 في جانب الكرخ , وسط ارضٍ فضاء تقع بين حدائق الصالحية ودور السكك الحديدية , وجرى إبلاغ الطلاب بأن يتجمعوا هناك تمهيداً للسير بمظاهرة إلى وزارة المعارف , وبالفعل تجمعوا ذلك الصباح هناك دون الذهاب للمدرسة ... وطالبوا وزارة المعارف بإلغاء قرار الفصل وإعادة النصولي إلى عمله , وقد كنت من بين المتظاهرين , توجه الطلاب من حدائق الصالحية إلى وزارة المعارف , كان موقعها في شارع الجسر القديم , شارع المأمون الآن... عبرَّ المتظاهرون جسر الصالحية الذي كان يسمى حينذاك (جسر مود) حيث تجمعوا أما باب وزارة المعارف... وفي مساء يوم المظاهرة ألقت الشرطة القبض على بعض الطلاب وكنت منهم , وقد قضينا ليلتنا في موقف شرطة السراي , ثم اطلق سراحنا بكفالة في اليوم التالي 31 كانون الثاني 1927".
      أما التظاهرة الثالثة التي شارك فيها حسين جميل فهي بمناسبة زيارة (الفريد موند) العراق يوم 8 شباط 1928 , يقول حسين جميل في كتابه ص 207 :"ما ـن قرأت الخبر حتى ذهبت إلى عبد القادر اسماعيل , زميلي في الدراسة الثانوية وفي الحركتين الطلابيتين السابقتين , وكان عبد القادر حينذاك طالباً في كلية الحقوق , واعلمته بالخبر الذي قرأته عن هذه الزيارة وسألته رأيه بالتظاهر احتجاجاً عليها وشجباً للحركة الصهيونية بعمومها فأيد عبد القادر الفكرة" , بعد التظاهرة اعتقل حسين جميل مع المتظاهرين وهو ما زال طالباً في كلية الحقوق في بغداد , وأوقفتهم السلطات وكان عددهم (41) شخصاً و(35) منهم من الطلبة ومن ضمنهم جميل يوسف زينل , وقد تم اطلاق سراحهم بكفالة.
     يوم 29/3/1928 غادر الراحل حسين جميل بغداد إلى دمشق لراسة الحقوق (معهد الحقوق في دمشق) وكانت سنوات الدراسة فيه ثلاث سنوات , عام 1929م زاره فؤاد شمالي في دمشق وهو أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في لبنان سنة 1924 ثم امينهُ العام بعد ذلك , طالباً منهُ أن يذهب إلى موسكو للدراسة في (جامعة كادحي الشرق) دون أن يتكلف مصاريف السفر والإقامة والدراسة , إلا أن الراحل رفض الطلب.
      كانت تربط حسين جميل علاقات واسعة مع الشخصيات الوطنية ومنهم عاصم فليح , وكان يلتقي معه في نادي التضامن ومع الطلاب والشباب للتحدث في الشؤون العامة والمظاهرات ضد الصهيونية ومجيء الفريد موند إلى بغداد , كان الوعي قد تجذر لدى حسين جميل ومنذ وقت مبكر لصالح مجموع الشعب , ويرى الدعوة للعدالة الاجتماعية في المجتمع والعلاقات الاقتصادية العادلة بين الطبقات والفئات.
      تخرج الراحل حسين جميل في معهد الحقوق في دمشق في أول صيف 1930/ , فعاد إلى بغداد يوم 2/7/1930 , وقدم طلباً إلى رئيس محكمة تمييز العراق للحصول على إجازة العمل بالمحاماة , لكن طلبه رفض , مستنداً رئيس المحكمة إلى أن نظام المحامين لسنة 1918م يقر في مادته الثانية أن إجازة المحاماة تعطى لـ(من كان بيده شهادة مدرسة الحقوق في الإستانة أو بغداد) وبعد عدة مطالبات تمت الموافقة على منحه إجازة العمل في مجال المحاماة.
      احب حسين جميل مهنة الصحافة فمنذ طفولته عندما كان طالبا في مدرسة العمارة الابتدائية سنة 1923 حرر المقالات ونشرها في مجلة التلميذ العراقي ، وكتب في جريدة الاستقلال عام 1927 ، كما كتب في مجلة الشباب الصادرة في شباط سنة 1929/ , ويعتبر أحد مؤسسي جريدة الأهالي عام 1931م.
      عمل الراحل في مجال المحاماة في العراق بداية عام 1931 , وصار ناشطاً ديمقراطياً ذائع الصيت بسبب مواقفه الوطنية التي دافع فيها عن الحريات الديمقراطية مستنكراً حملات القمع والإرهاب التي مارستها الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي , وكان سياسيا وصحفيا بارعا , وقد ساهم في تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي , وعند تأسيسه اصبح سكرتيراً عاماً للحزب . وقد انتخب عضواً بمجلس النواب العراقي في دوراته للأعوام (1947, 1948, 1954) , وعينَ وزيراً للعدل في حكومة علي جودة الأيوبي للفترة من (149-1950) , كما انتخب نقيباً للمحامين العراقيين في اربعة انتخابات متوالية للأعوام (1953-1957) , وأميناً عاماً لأتحاد المحامين العرب للفترة من (1956-1958).
      يعتبر حسين جميل أول من ألف كتاباً عن حركة 14 تموز 1958 فبعد بضعة أشهر من اندلاع الثورة نشر كتاب العراق الجديد وهذا الكتاب عبارة عن محاضرة القاها باللغة الانكليزية في مدينة نيودلهي في الهند حيث كان يعمل سفيراً للعراق هناك بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر 1958 . رحل 7 كانون الثاني 2001م عن عمرٍ ناهز التسعين عاماً.
      يذكر الكاتب والباحث جاسم المطير في مقال له على الحوار المتمدن تحت عنوان (حسين جميل في ذمة الخلود) يوم 10/1/2002 قائلاً :" منذ بداية الثمانينات حتى آخر عمره أصبحت مكتبته الشخصية البيتية تحت تصرف الباحثين والمؤرخين من طلبة الدكتوراه والماجستير في الجامعات العراقية , وكان في التسعينات جليس  بيته في اغلب الأحيان مستقبلاً رجال القانون والباحثين المهتمين بالدراسات والأبحاث القانونية , وقد اصدر في التسعينات أو أواخر الثمانينات  كتيباً صغيراً عن حقوق الإنسان في الاسلام , وهو كتيب تضمن مبادئ هامة عن الحريات والحقوق الإنسانية والفردية ضمن الفكر الإسلامي الحر . حاولت صحافة النظام (نظام البعث) خلال عقدين من الزمان جره الى بعض المواقف والتصريحات المؤيدة لبعض سياساتها في الحروب والمغامرات والقمع والغزو , لكنه لم يتجاوب مع أية دعوة وظل محافظاً على استقلالية موقفه وأفكاره . كانت صحته نشيطة بحدود مقبولة في التسعينات ، إذ يغادر بيته مرة كل أسبوع على الأقل متجولاً في بعض شوارع بغداد كشارع الرشيد وشارع السعدون ويتجول أيضا في مكتبات شارع المتنبي.
      يعتقد أصحابه من المترددين عليه في بيته أنه كتب الكثير من صفحات مذكراته السياسية التي ستكون مصدراً هاماً من مصادر التاريخ العراقي في العصر الحديث . استفسرتُ منه عام1993 عن احتمال نشر مذكراته وموعد نشرها فقال لي بالحرف الواحد , جاداً ومازحاً في نفس الوقت :"ما أكتبه من مذكرات لا يرى النور قبل الموت ..".
 
للراحل عدة مؤلفات منها :
1- إنكلترا في جزيرة العرب طبع في سنة 1930.
2- العراق الجديد.
3- نحو قانون عقابي موحد للبلاد العربية.
4- الحياة النيابية في العراق.
5- نشأة الأحزاب في العراق.
6- حقوق الإنسان في الوطن العربي.
7- تكييف القانون لحق النقض عام 1958.
 
 
 

211
رحلَّ سامي موريه والعراق يعيش في تلافيف روحه
نبيل عبد الأمير الربيعي
      غادرنا يوم الجمعة الموافق 22 / ايلول / 2017 الأديب والشاعر الرقيق الباحث البروفسور سامي موريه ( شموئيل موريه) , العراقي المولد والهوى فقدت الثقافة العراقية والعربية آخر العاشقين اليهود من اصل عراقي ، البروفيسور سامي موريه (شموئيل موريه) ، أستاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي , فأغدقوا متابعيه عليه لقب "حبيب العراقيين" لكونه بقي يرنو بعينيه وقلبه وروحه إلى العراق ودجلة والفرات ، عاصفاً قلبه بالشوق والحنين الجارف لملاعب الصبا وأزقة وحارات وشوارع بغداد ، وظل في كتاباته يأمل ويتأسى بالعودة إلى ربوع الوطن العراقي الجميلة،، كلُّ واحدٍ منا في هذه الدنيا تجرّع كأس الفراق , وذاق علقم الفقد , ولوعة الوداع , وسكبَ عبراتٍ حارة من القلوب , وذرف دموعاً من العيون.
     لكن رحيل موريه إلى جوار ربه فجأة قد صدمنا الخبر الحزين وأصابنا الوجوم فإذا كان قد فارق الدنيا فإنه لم يفارقنا وسيبقى في الذاكرة صديقاً وفياً عزيزاً , وفي ذاكرة طلابه أستاذاً قديراً ومتميزاً .
       الرحمة للفقيد الراحل صاحب العطاء الجزيل والخلق الرفيع , أتقدم بخالص العزاء إلى عائله الفقيد وأسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته .
      البروفسور سامي موريه من العراقيين البغداديين الذين أجبروا على الهجرة إلى إسرائيل ، كان عاشقا للثقافة العربية ولجذوره البغدادية . فهو ولد في بغداد في 22 كانون الأول/ يناير1932، وعاش مع عائلته حتى سن الـ18 ، حين اضطر إلى إسقاط الجنسية العراقية ومغادرة العراق العام 1951 ، وفق قانون إسقاط الجنسية الذي صدر أثناء الحكم الملكي ووزارة توفيق السويدي في العام 1950م , في لقاءاته عبرَّ القنوات الفضائية كان يبكي عندما يتذكر معاملة بعض العراقيين القاسية لأبناء الديانة اليهودية في بغداد , وضربه من قبل أحد العراقيين بالقرباج , فضلاً عن احتفاظه بقليل من تراب دجلة في قارورة في مكتبته.
     كتب موريه المئات من المقالات والدراسات ومقدمات الكتب نشرت في المجلات والصحف وفي المواقع الإلكترونية , وألَّف الكثير من الكتب العربية والإنكليزية والعبرية حيث بلغت ( 35 كتاباً ) حتى الآن بهذه اللغات ، وأشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه , وحقق بعض الكتب المهمة في المسرح العربي.

      لكن كتاب "بغداد حبيبتي، يهود العراق ... ذكريات وشجون" شغل الرأي العام والقراء ، ويبدأه موريه بقصيدة "مهداة إلى أخواتي وإخوتي العراقيين في كل مكان"، بعنوان "قالت لي أمي، والأسى في عينيها".
      أما أبرز أعمال موريه فهي "المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط" (منشورات الجمل)، وقد وسّع موريه دراسته في هذا المجال ، عائداً إلى القرون الوسطى ، لإثبات وجود مسرح حيّ في العالم العربي ما قبل الحديث.
       كتاب موريه سابقة أدبية رائدة في الاستنتاج بأن العرب عرفوا المسرح في الحقب القديمة ، مفنداً رأي المستشرقين والباحثين القائل بعكس ذلك  ، واستطاع موريه أن يثبت أن العرب قد عرفوا المسرح في القرون الوسطى ، وقد استبدل مصطلحي "خيال" و"حكاية" اللذين استخدما في صدر الإسلام للدلالة على مسرح يقوم فيه الممثلون بارتداء ملابس تعود إلى فترات تاريخية قديمة لكي يقوموا بإحياء الماضي في الحاضر أمام المشاهدين للإمتاع والنقد الاجتماعي والوعظ".
سامي موريه وبغداد حبيبتي
      كانت اثمن هدية وصلتني مع أحد الأصدقاء من البروفسور سامي موريه يوم 7/2/2017 وقبل رحيله كتابه (بغداد حبيبتي) ...وقد سطر موريه في أول أوراق الكتاب بخط يده الإهداء لي.
وما أقوله للصديق موريه من خلال كتابه ((بغداد حبيبتي)) , وأنا مؤمن أن روح الراحل تطوف في سماء بغداد ومنطقة (البتاوين .. وبستان الخس)...
      كنت اسمع أنين كلماتك وارى دموع حنينك تنزف وجعاً وشوقاً إلى العاصمة بغداد من خلال سطوره الجميلة المعبرة ... كتابك أبكاني ، مشاعرك متضاربة عشتها معك بأسلوبك الرائع المشوق الجميل ... وروحك المرحة الصافية ... وظلك الخفيف ... ونفسك الرقيقة التي تحن إلى ملاعب الصبا ونهر دجلة ... وهمسات قلبك الأولى ، بقيت بعد رحيلك وهجرتك من العراق عام 1951م معتزاً بهويتك العراقية... تتكلم من خلال كتابك بحب واعتزاز وبكل مشاعرك الإنسانية ...إلى بغداد الموشومة في تلافيف روحك.
      صديقي موريه ما أقوله وأنت الراحل عنا أصبحنا نحنُ الغرباء في هذا الوطن .. وأصبح تأريخنا يطردنا .. ومدننا التي كنا نعشقها تنفينا.. ولغتنا لم تعد بلاغتها تكفي لتضميد جراحاتنا وحاضرنا الذي يحتضر.. العراق إلى أين يمضي لا أعلم ؟ أصبحنا نملك في هذا الوقت الصعب سوى أجسادنا.. فيها نقيم وفيها نهاجر وفيها نبكي بلادنا المقسمة من قبل زنات الليل وخفافيش السياسة.. مالنا غير أجسادنا .. ولكن أجسادنا أصبحت ترفض هذا الوطن... إلى أين تمضي لا أدري؟ لبغداد الحبيبة أم لقبورٌ تحتضننا في وادي السلام ... بغداد أصبحت مكب نفايات ومجمع لعصابات المنطقة الخضراء وزبانيتهم!! ولكن بغداد لم تعد وطناً لنا ... بغداد التي كنت تحلم بزيارتها أصبحت ساحة حرب ورماية.
     صديقي موريه وداعاً ... لكن رحيلك كان مسرعاً , ولازال عندك الكثير لتقدمه لنا.
 
العراق / الحلة / الباحث نبيل عبد الأمير الربيعي
 


 

212
التهجير القسرّي لأبناء العراق بدعوى التبعية الإيرانية
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      فيما يخص كلمة تهجير فإنها اشتقت من كلمة هجر  يهجر تهجيراً فهو مُهجر , أي بمعنى التهاجر والتقاطع , واسم الهجرة من أرض إلى أرض , أي ترك الأولى للثانية(1).
      أما الكلمة من عنوان المقال ونعني بها (القسرّي) فجاءت من (قسرّ) , أي القسرّ القهر على الكُره , قسرّه يقسرّه قسرّاً , واقتسرّه غلبه وقهره وقسرّه على الأمر قسرّاً , أكرهه عليه واقتسرّته أعم(2) . فالتهجير القسرّي : هو ممارسة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة اتجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أرض معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلاً عنها(3).
      كما يضاف إلى مفهوم التهجير القسرّي حالات الأسر في الحرب , فالتهجير الجماعي : تم فيه نقل مجموعات سكانية كبيرة من مكان إلى آخر , وغالباً ما يكون لأغراض تطهير عرقي أو أثناء الحرب , كما تلجأ إليه بعض الأنظمة الاستبدادية لغرض سيطرتها على مكونات بعينها.
      من أقدم صور التهجير القسرّي في العراق القديم ما ورد بخصوص الملك رموش الأكدي (2315 – 2307ق.م) الذي خاض معركتين في بلاد عيلام كان النصر فيها حليفه , وما بينهما في ذلك أن هذا الملك أهدى إلى معبد الإله آنليل من الغنائم ستة نفر من الرقيق من كلا الجنسين(4).
      حالات التهجير القسرّي تعد من أقبح ما تقوم به الجماعات أو الحكومات ضد مجموعات أخرى , وقد جاءت من المحاولات الهادفة إلى الحد من ظاهرة الأعداء وما ينجم عنها من تهجير قسرّي لأفراد وجماعات , فأصدرت الأمم المتحدة في القرن العشرين وما بعده العديد من القرارات في هذا السياق , كما أسست منظمات للهدف ذاته , لكن بقيت معاناة التهجير القسرّي مستمرة رغم كل محاولات مكافحتها , بل أنها أخذت طابعاً أكثر قسوّة بدوافع دينية ومذهبية وعرقية والتي لا تزال نعيش فصولها المؤلمة في العراق وما حدثَ عام 2014م للمكون الأيزيدي على يد عناصر داعش المسلحة خير شاهد على ذلك.
      من صور التهجير القسرّي ما تعرض له الأكراد الفيلية إذ تم تهجير بضع مئات منهم في عهد الرئيس عبد السلام محمد عارف , إذ وصل عدد المهاجرين العراقيين خارج العراق نتيجة للضغوطات التي كانوا يواجهونها إلى (25857) شخصاً في عام 1965م وتناقص العدد إلى أن وصل إلى (3145) شخص فقط في عام 1967م(5).
      بعد انقلاب 17 تموز 1968 ومجيء حكم البعث للعراق جرت حملات قمع وتهجير واسعة ضد أبناء العراق من أعضاء الحركات السياسية ورموزها , وحملات أخرى بذريعة التبعية الإيرانية , إذ بلغ عدد المهاجرين العراقيين من أصحاب الكفاءات خلال ثلاثة أعوام فقد نحو (4192) شخصاً إلى الولايات المتحدة و(254) شخصاً إلى كندا , وبلغ عدد الذين نالوا الجنسية الأمريكية من هؤلاء خلال الفترة المذكورة (975) شخصاً(6).
      ومن أشد عمليات التهجير القسرّي ما تعرض له الأكراد الفيلية , فقد مروا بعدّة موجات من التهجير القسرّي , فكانت الموجة الأولى جرت بعد انقلاب 8 شباط 1963م , حيث زج بأعداد غفيرة منهم في السجون والمعتقلات , وعذبوا أشّد تعذيب(7) , وكان الاضطهاد مضاعفاً لهم كونهم أكراداً أولاً , أو أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستاني ثانياً , فضلاً عن كونهم من معتنقي المذهب الشيعي ثالثاً(8).
      أما عام 1969 وعام 1971م فقد شهد العراق عمليات اعتقالات وإعدام بحق يهود العراق , وضغوطات سياسية وأمنية الغرض منه للضغط على أبناء الديانة اليهودية لغرض الهجرة والهروب من العراق بشكل رسمي أو غير رسمي عبرَّ الحدود العراقية الإيرانية . فضلاً عن ضغوطات على أبناء العراق ممن يحملون الجنسية الإيرانية أو من الأكراد الفيلية أو ممن يعتنقون المذهب الشيعي , فقد بلغ عدد الأكراد الفيلية المهجرين قسراً خارج العراق بدعوى أنهم ينحدرون من أصول إيرانية نحو (150000) شخصاً(9).
      وبعد توقيع النظام العراقي اتفاقية الجزائر عام 1975م مع نظام الشاه في إيران , بدأت هجرة واسعة للأكراد العراقيين باتجاه إيران ودول أخرى , والتي مكنته من التفرغ لشن حملات قمع وإبادة ضد الأكراد العراقيين في منطقة كردستان العراق , حيث أدى هذا إلى تهجير أكثر من (150000) مواطن كردي عراقي من مناطق سكناهم في كردستان إلى مناطق أخرى في مناطق الفرات الأوسط والجنوب . وتم توطين قسم كبير من هؤلاء المهجرين في بيئات صحراوية لم يعتادوا عليها , وفي نفس المدة قامت سلطات البعث باعتقال وتهجير عدد كبير من الأكراد الفيلية إلى إيران وفق الحجة القديمة كونهم من التبعية الإيرانية(10).
      كانت الموجّة الأكبر لتهجير أبناء العراق من حاملي الجنسية العراقية من أكراد وعرب لأنهم من معتنقي المذهب الشيعي عام 1980م , أي بدأت قبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية , وذلك بتهجير الآلاف , إذ يُقدر عدد الذين تمَّ تهجيرهم أكثر من (400000) شخص , أما من هربوا من المشاركة فيما بعد في الحرب العراقية الإيرانية من الشباب فبلغ نحو (24750) شاباً توزعوا على عشرة دول معظمها من الدول الأوروبية , بعد أن امتنعت الدول العربية من منحهم تأشيرات إقامة أو دخول(11).
      كانت بداية انطلاق موجة التهجير القسرّي بعد حادثة جامعة المستنصرية ومحاولة اغتيال طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي في 1 نيسان 1980م كما ادعى النظام , إذ بدأت عمليات الاعتقال ومن ثم التهجير , إذ قدرت صحيفة كيهان الإيرانية عدد المهجرين خلال ثلاثة اشهر من بدئها بـ (150000) شخص , واستمرت التهجيرات القسرّية حتى عام 1990م , إذ قدر عدد المهجرين من العام 1980م إلى العام 1990م بـ(600000) شخص(12).
      كانت تلازم عمليات التهجير القسرّي لأبناء العراق في مناطق الوسط والجنوب عمليات السلب ومصادرة جميع ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة ومحلاتهم التجارية ومصانعهم وسياراتهم وودائعهم في البنوك , وجميع وثائقهم العراقية من شهادات ميلاد وجنسية وشهادة الجنسية العراقية وغيرها , وأخذ نقودهم وحلاهم الذهبية وتفتيشهم الدقيق . ومن ثم يوضعوا في شاحنات وباصات دون السماح لهم بأخذ أي شيء معهم سوى ملابسهم التي عليهم , ثم أخذوا إلى الحدود الشرقية الإيرانية وأمروا بالسير على الأقدام في مناطق جبلية وعرّة وكان رجال الأمن قد هددوهم بعدم العودة وإلا سيطلقون النار عليهم.
      كانت بداية حملة التهجير للمتهمين بالتبعية الإيرانية الواسعة بداية الثمانينات من القرن الماضي , بدأت عن طريق دعوة التجار الكبار منهم إلى اجتماع في غرفة تجارة بغداد لمناقشة موضوع تصاريح وإجازات استيراد جديدة , ولبحث قضايا اقتصادية مهمة , وعند حضور التجار إلى مكان الاجتماع قامت قوات الأمن بغلق كل الأبواب ونوافذ المكان ثم أخذت جميع الأوراق والوثائق الرسمية منهم , وتم تفتيشهم للتأكد من عدم بقاء أي شيء بحوزتهم سوى الملابس . وبعد استجوابهم والتحقيق معهم أخذوا إلى الحدود العراقية الإيرانية دون أخطار أو إعلام أسرهم أو ذويهم بذلك , وبسبب قسوة الظروف الجغرافية والمناخية مات العديد من المهجرين.
      كانت عمليات التهجير القسرّي تتم باحتجاز الشباب , وقد قدر عدد المحتجزين خلال الستة اشهر الأولى بأكثر من (20000) شاب , وقد تم حجز الشباب العسكريين في بدئ الأمر في معسكرات الجيش العراقي التي كانوا يخدمون فيها , ومن ثم نقلوا إلى سجن الحارثية الواقع غرب مدينة بغداد , وبعد أسبوع تم نقلهم إلى سجن رقم واحد في معسكر الرشيد , وبعد عدّة اشهر من الحجز نقلوا إلى مديرية الأمن العامة في بغداد . واستمرت هذه الحالة حتى 14/7/1981 حيث جاء مسؤولوا السجن وبزيارة برزان التكريتي ليهدئوا حال المحتجزين والمضربين عن الطعام بسبب حجزهم من قبل الحكومة العراقية دون سبب وجيه , ثم بعد ذلك أخذوا مجموعة من المحتجزين حسب قائمة أسماء بحجة أنهم سوف يهجرون إلى إيران , وكان عدد هؤلاء بين (700) و(750) شخصاً , إلا أن هؤلاء لم يهجروا ولا يعرف مصيرهم سوى المسؤولين الكبار في الحكومة العراقية(13).
      استمرت هذه الحالة حتى تاريخ 5/12/1984 حيث تم نقل المحتجزين على شكل ثلاث مجموعات (كل مجموعة مكونة من 600 إلى 700 شخص) إلى سجن نگرة السلمان , وكانت الرحلة تبدأ في الصباح الباكر وتنتهي بعد منتصف الليل , علماً أن السجن يتكون من (16) قاعة مع (6) ملحات , وكان يودع في كل قاعة ما بين (100) و(120) شخصاً , بينما يودع في كل ملحق حوالي (30) شخص , وكان يقدم في بعض القاعات الطعام وعلاج بعض المرضى من شبابيك القاعات(14).
      وخلال شهر تشرين الأول من عام 1985م صدر قرار حكومي حول المحتجزين في سجن نگرة السلمان , ابلغهم به مدير الأمن العامة للشؤون السياسية المدعو (المقدم أبو سيف) قال لهم : (بمكرمة من الرئيس صدام حسين سيطلق سراح كل محتجز له أب أو أم أو أخ أو أخت غير محتجزين أو زوجة على ذمته غير مطلقة ولا محتجزة .. وسيشمله العفو ويطلق سراحه) وبناءً على ذلك فقد سلموا المحتجزين الاستمارات المطلوبة لملئها حيث يجري بعد ذلك التحقيق معهم(15).
      في أوائل عام 1986م بدأوا بنقل مجموعات من المحتجزين من سجن نگرة السلمان إلى سجون مديريات أمن المحافظات , بينما نقلت مجموعات أخرى إلى جبهات الحرب مع إيران في مناطق العمارة والفاو وكذلك العمادية وزاخو , أما البقية والذي بلغ تعدادهم (22000) شاب فلا يزال مصيرهم مجهولاً لحد يومنا هذا(16).
 
المصادر/
1- ابن منظور. لسان العرب. بيروت. ج1. ص631.
2- ابن منظور. المصدر السابق. ج5. ص91.
3- د. محمد فهد القيسي. تاريخ ما بين النهرين. التهجير القسرّي منذ الألف الثالث ق.م حتى الألف الثالث بعده. دمشق. تموز للطباعة والنشر.2016. ط1. ص13 ؛ عادل عامر. مفهوم التهجير القسرّي في القانون الدولي العام.
4- عامر سليمان. الجيش والسلاح في العصر الأكدي. بغداد. 1988م. ص120.
5- أياد عطية الخالدي. الهجرة العراقية. جريدة المدى.
6- سلام إبراهيم عطوف. التهجير القسرّي في الأدب السياسي العراقي الراهن. موقع الحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوار المــــــــــــــــــــــــــــــتمدن 4568 لـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيوم 8/9/2014. رابـــــــــــــــــــــــــــــط           http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=431854
7- د. محمد فهد القيسي. تاريخ بلاد ما بين النهرين. مصدر سابق. ص145.
8- د. كاظم حبيب. محنة الأكراد الفيلية في العراق. مجلة الثقافة الجديدة.
9- جابر الجابري. انتهاكات النظام العراقي لحقوق الأكراد الفيليين في العراق. اصدار منظمة حقوق الإنسان للأكراد الفيليين في العراق. فيينا 1993. ص23.
10-                    المصدر السابق. ص23.
11-                    الموقع الرسمي لمجلس النواب العراقي الحالي بعد عام 2003.
12-                    عبد الأمير الجيزاني. جريمة تهجير الكورد الفيليين في العراق ؛ د. محمد فهد القيس. تاريخ بلاد الرافدين. ص148.
13-                    عبد الأمير الجيزاني. جريمة تهجير الكورد الفيليين في العراق. موقع كلكامش. النت.
14-                    لقاء مع المهجر عادل محمود خضير أغا في مركز مدينة الديوانية يوم يوم 11/10/1989م بعد اطلاق سراحه من السجن كون والده متوفى ومتهم بالتبعية الإيرانية , ووالدته على قيد الحياة ومن عائلة عراقية. مع العلم أن زوجته وطفله قد تم تهجيرهم عام 1979 إلى إيران مع عائلة الزوجة عائلة حميد الكعبي.
15-                    د. محمد فهد القيسي. تاريخ بلاد ما بين النهرين. ص155.
16-                    المصدر السابق. ص156.


213
متى تتحقق أحلام أكراد العراق بدولتهم المستقلة
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      إن المسألة الكردية تثير اهتماماً كبيراً ليس لأن المنطقة جبلية يقطنها الأكراد ستنفصل عن العراق لرغبة أهلها في تأسيس دولة لهم , وإنما لاعتقاد الكثيرين من أن استقلال الأكراد معناه سلخ ينابيع النفط الغزيرة من عراقنا العربي وحرمانه منها , ومن هنا إذن جاء اهتمامهم بالوحدة العراقية المفتعلة , وهذا الوهم مغلوط من الأساس.
      إن القومية الكردية حقيقة واقعة , وإن لأكراد العراق مقوماتهم القومية الواضحة , وأنه من صالح القومية العربية أن تعترف للأكراد بحقهم في تقرير مصيرهم ضمن إتحاد فدرالي أو كونفدرالي مثلاً , فيكون هذا بداية تعاون واخاء مستديم بدل أن يكون تجاهلنا للواقع والتاريخ وأماني الشعوب سبباً لأن ينال هذا الشعب حريته بقوة السلاح أن عاجلاً أو آجلاً , فإن لم يفلح كان خنجر خيانة في ظهر كل الحركات القومية العربية التحررية في العراق(1).
      لقد حدثت ثورات وانتفاضات عديدة في أقسام كردستان المختلفة , كانت أكثرها تطالب بالعدالة والتحرر القومي , وقدم أبناء كردستان البررة تضحيات جسيمة , وناضلوا في سبيل قضية بلادهم نضالاً دائباً واعياً.
      إن أقدم السجلات السومرية لا تترك شكاً بأنه قبل 2000 سنة ق.م كان هنالك شعباً اسمه (گوتو) أو (گوتى) , سماهم الآشوريون بعدئذ كرتي , وسماهم الآشوريون الأواخر وعرب ما قبل الإسلام (كاردو) , , ودعاهم الأرمن (كورتوخ) , وفي العلوم اليونانية واللاتينية (كاردوخي) , (كرتي) .
     إن بعض سجلات سرجون الثاني الآشوري تشير بوضوح إلى بعض القبائل الكردية العظيمة كالمري وميراني (ملي) وبابان , حوالي القرن السادس قبل الميلاد(2).
      حاربت القبائل الكردية السلالات السومرية سنة 1370 ق.م , وحاربوا جميع الملوك الآشوريين العظام من سلمانا سور فصاعداً إلى أن ساعدوا سياكارس لقلب نظام نينوى وبابل . وعندما حارب صلاح الدين الأيوبي (وهو كردي من قبيلة رواوي في أذربيجان) الصليبيين , ووحد معظم القبائل الكردية في سوريا في القرن الثاني عشر الميلادي , وأسس الإمارة الأيوبية بلغ الحكم الكردي ذروته.
     في القرون الوسطى , عندما ضعفت سلطة الخلفاء المركزية قامت عدة إمارات كوردية كالـ(الشداديين وحسنوية و بنوعناز) , وفي القرن السادس عشر تحدت الإمبراطورية العثمانية بصورة جدية استقلال الأكراد الواقعي , عندما احتلت كردستان ونصبت إدارة تركية ومنذُ ذلك الحين حارب الأكراد محتلي أراضيهم في سلسلة من الحروب والثورات , وإن آخر الإمارات الكردية بوتان تلاشت في سنة 1848م بعد مقاومة طويلة ضد الجيوش العثمانية.
     ولو نقدم نبذة وجيزة عن تأريخ الشعب الكردي : أن ديانة أبناء القومية الكردية  فكانت عبادة الديانة الزرادشتية قبل اعتناقهم للإسلام , ويلاحظ بقايا الزرادشتية الآن بين الأكراد الأيزيدية , كما أن عدد سكان كردستان العراق لا يمكن احصاؤه بدقة , حيث لا توجد احصائيات دقيقة أو رسمية , وعدد سكان كردستان من الأكراد 2500000 نسمة , ويصنف الأكراد عادةً كآريين .
      أما اللغة الكردية فهي لغة هندو – أوروبية , من المجموعة الإيرانية الحديثة , ومقسمة إلى لهجتين رئيسيتين (الكرمانجية , وهي لهجة غالبية أكراد الموصل وزيبار) و (السورانية وهذه لهجة أكراد إيران والعراق والسليمانية واربيل وكركوك) . واللهجات الأخرى تشمل الفيلية في إيران (لورستان والعراق) , وأخيراً كلهوري ويتكلمها بعض أكراد إيران.
     هناك ميزات خاصة في اللغة الكردية عامة والأدب الكردي خاصة , فبالرغم من سياسة الإدماج وعرقلة نمو الثقافة الكردية وقلة المطبوعات الحديثة وضآلتها فقد حافظت اللغة الكردية على نقاوة مدهشة تدعو إلى الإعجاب , وهذه النقاوة ظاهرة خاصة في كلام الأميين الذين يكوّنون غالبية الشعب الكردي.
      يستمد الأدب الكردي وحيّهُ من الأساطير الشعبية الغنية التي تكون جزءاً هاماً من التراث الثقافي , إن الميزة التي تلفت النظر في الأقاصيص الشعبية الكردية هي روحها القومية القوية وإشاراتها المتكررة إلى الأكراد وكردستان . إن نوروز كما عند الفرس يبشر بقدوم العام الجديد ولكن في كردستان العراق تشير أيضاً إلى ثورة الحداد كاوة قبل حوالي 3000 سنة ضد الطاغية ضحاك ودحره وتأسيس حكم أصلح للشعب.
      أما اقتصاد كردستان فيعتمد قبل اكتشاف النفط على رعاية الماشية والمنتوج الزراعي من محاصيل الحنطة والشعير والرز والسمسم والعدس والتبغ والخضروات والفواكه.
      لأكراد كردستان العراق الدور الفعال في الحركة الوطنية , إذ قام الأكراد بدور فعال وخاصة في ثورة العشرين الوطنية (حزيران 1920م) , ومن المعروف أن أكراد  العمادية افنوا قوة بريطانية مكونة من 300 جندي في گلي مزيرگا . شنَّ الشعب العراقي عرباً وأكراداً وقومياتٍ أخرى كفاحاً مشتركاً في سبيل الاستقلال والسيادة الوطنية , وخلال هذا الكفاح نمت أواصر الأخوة العربية الكردية وتوطد التضامن بين العرب والأكراد والقوميات الأخرى حتى أصبح حجر الزاوية في كل نضال يخوضه الشعب العراقي , وأصبح الضمان الأساسي لإحراز الانتصارات الوطنية والطبقية.
      في نهاية عام 1945م أنجز الشعب الكردي المناضل انتصاراً رائعاً بتأسيس جمهورية مهاباد الديمقراطية التي تعتبر مفخرة عظيمة من مفاخره , ففي كانون الأول عام 1945 وتحت قيادة الحزب الديمقراطي الكردي في كردستان إيران تأسست الجمهورية الديمقراطية الكردية في مهاباد , وكانت جمهورية ذات حكم ذاتي وذو برنامج عملي محدود , ثم رفع العلم الوطني الكردي واجتمع البرلمان في 22 كانون الثاني 1946م , وانتخب القائد الكردي قاضي محمد رئيساً للجمهورية وتألفت وزارة شرعت في تنفيذ برنامج إصلاحي(3).
      وتعهدت الدولة بالدفاع عن مصالح العمال وتأسيس نقابات لتحسين حالهم , وأرجعت الملابس الكردية التي حرمّها رضا شاه للاستعمال , وجهزت جميع الأطفال بالمدارس الابتدائية , وطبعت الكتب للمدارس باللغة الكردية , ونشرت جريدة كردستان وصحيفة دورية ومجلتان أدبيتان.
      وأعلن الدستور ضرورة تثقيف الشعب بغض النظر عن القومية أو الدين أو الجنس , كذلك أعلن وجوب تمتع المرأة بجميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتمتع بها الرجل , وحرم الدستور الربا.
      وزعت الحكومة الكردية الأرض على الفلاحين وجعلت اللغة الكردية اللغة الرسمية , واتخذت إجراءات لتحسين التجارة والصحة العامة , ووقعّت الحكومة على اتفاقية بعدم الاعتداء مع الحكومة الإيرانية , يمكن اعتبارها اعترافاً واقعياً من الحكومة الإيرانية , كذلك وقعت الجمهورية على معاهدة صداقة مع الحكومة الديمقراطية الأذربيجانية.
      وبحجة تأمين الانتخابات في جمهورية مهاباد دخلت الدبابات الإيرانية إلى كردستان , وتمكن الجيش الإيراني من دخول مهاباد واعتقال رئيس الجمهورية مع اغلب أعضاء الحكومة الكردية , ودخل الجنود الإيرانيون المدينة دون مقاومة بعد إخلاء البارزانيين لها إشارة لنياتهم الطيبة , وقد حوكم الرئيس قاضي محمد في محكمة عرقية وصدر حكم بإعدامه مع القادة الآخرين , ونفذ الحكم بعد أشهر قليلة , وعاد الحكم الفارسي القمعي القديم.
     وقد هاجم الجنود الفرس القوات البارزانية المنسحبة إلى العراق ونشبت معارك عديدة أشهرها معركة (مامش) التي أظهر فيها مصطفى خوشناو بطولة رائعة . وبهذا تم القضاء على جمهورية مهاباد الكردية الفتية.
      إن الشعب الكردي يشكل أمة لها كل مقومات الأمم من أرض ولغة وتاريخ وعادات وتقاليد وأماني وأحلام وتطلعات نحو تكوين دولة لها كل مقومات الدولة . ليس معقولاً أن يستطيع الشعب الإيراني المتكون من مجموعة من القوميات تكوين دولة يحكمها الفرس , وأن يستطيع الأتراك تكوين دولة لها مقومات الدولة العصرية ويحرم الأكراد من حق طبيعي لهم في تأسيس دولة لهم , تكون ممثلة للشعب الكردي , وإن من حق هذا الشعب أن تكون له هذه الدولة المستقلة.
     إذا آمنا بوجود حقيقة الشعب الكردي , آمنا لهم بحق تقرير المصير.
 
 
المصدر
1-   أحمد فوزي. خناجر وجبال . قاسم وأكراد . 25/12/1961. ص70. رأي الدكتور الراحل هلال ناجي.
2-   3- صلاح الدين محمد سعد الله (كردستان الوطن المجزأ في الشرق الأوسط) .
 

214
الرضا عوض باحثاً ومؤرخاً
نبيل عبد الأمير الربيعي
      أثناء متابعتي لكتابات ومؤلفات المؤرخ عوض وخاصة الكتابات الريادية في مؤلفاته, لها قيمتها التاريخية والفكرية, وتفصح في الجملة عن السمات الرئيسة لشخصية كاتبها, وتعمق بعضاً من هذه السمات لتضيء جوانب متعددة من حياته وسيرته التوثيقية لتاريخ وتراث مدينة الحلة, التي يمكن من خلالها النفاذ إلى أعماقه, لرصد مواقفه إزاء الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الحلي, كما تكشف كتاباته عن النزعة الإصلاحية المتجذرة في أفكاره.
      الباحث والمحقق عوض عاصر وتابع أحداث العراق فأثمرت جهوده عن العديد من المؤلفات المهمة التي تبحث في التاريخ والأدب والاقتصاد والتحقيق وتراجم الرجال , والتي تجاوزت مؤلفاته (41) مؤلفاً, بين التأليف والتحقيق, خصوصاً كتابه المعروف (الحوزة العلمية في الحلة, نشأتها وانكماشها الأسباب والنتائج 562هـ - 951هـ) والتي نال من خلاله درجة الدكتوراه, فضلاً عن أنهُ علماً من أعلام نهضة العراق في عصرنا الحديث, ذاع اسمهُ وانتشر في الأوساط الثقافية العلميّة والمحافل التاريخية والبحثية داخل العراق وخارجه, تمثل كتاباته وأسلوبه الصحفي الشيق, والتي تضمنت معلومات مهمة ومفيدة للباحث والدارس وتنوعت في مجال الأدب والثقافة والتاريخ والاقتصاد والسيرة الذاتية.
     صدر عن مطبعة الضياء في النجف الاشرف عام 2007 كتاب للشاعر جبار الكواز تحت عنوان (عبد الرضا عوض باحثاً ومؤرخاً), يحتوي الكتاب على (32) صفحة من الحجم المتوسط, وهو دراسة تحليلة لمؤلفات المؤرخ عبد الرضا عوض, ألقيت كمحاضرة على قاعة جمعية الرواد الثقافية المستقلة في الحلة بتاريخ 2/3/ 2007.
    يذكر الشاعر جبار الكواز في ص12 من كتابه حول سيرة الباحث عوض قائلاً :"لقد انبرى بعض الدارسين والباحثين والأدباء ليؤسسوا بجهود فردية ركيزة تاريخية توثيقية تسهم في كشف بعض ظلام العصور على وجه بابل وتصنع في آن صورة مشرقة لها في العصر الحاضر, والأستاذ عبد الرضا عوض واحد من هؤلاء الدارسين والباحثين والأدباء الذين عشقوا مدينتهم وتفهموا معاناتها وبادروا لإحياء بعض وجوهها فكانوا بحق مؤسسات مخلصة قائمة على جهود فردية لم تستطع الحكومات المتعاقبة على العراق ولا الأنفار الذين كفلوا بإدارة المدينة تحقيق ما حققه عبد الرضا عوض والأستاذ صباح نوري المرزوك, وهي دلالة على عمق انتمائهم لهذه المدينة ودلالة على حبهم لأهلهم ومرابع صباهم ودليل على ما لهم من همة عالية مخلصة في إنجاز اعمالهم".
     ما احتوته مؤلفات الدكتور عوض, لكل مؤلف قصة وحيثيات, ومحتويات ومعلومات مؤلفاته مهمة وصعبة الحصول عليها عند تدوينها من قبل المؤلف نفسه, كما واكبَتها عوامل وظروف ساعدت على تدوينها والدوافع الكامنة وراء ذلك. وينفرد الأستاذ عبد الرضا عوض عمن سبقه وجايله في جوانب مهمة لا بد من الإشارة إليها إحقاقاً للحق وتوطيداً لدعائمه, وقد سلط الضوء الاستاذ جبار الكواز على أهمية كتابات عبد الرضا عوض في توثيق تاريخ وتراث مدينة الحلة.
       ومن خلال متابعة الاستاذ جبار الكواز لمؤلفات الدكتور عوض وسيرته الذاتية ومنهجه في التدوين التاريخي وجد نفسه أن يسلط الضوء على سيرة هذه الشخصية المهمة ومؤلفاته ومنهجه في التدوين التاريخي, فقد وثقَّ عوض أحداث التاريخ كونه باحثاً ومؤرخاً ومحققاً, عرف فيه الإستقامة والنزاهة والعفة والغيّرة والشفافية والوداعة والتسامح وطيبة القلب المتناهبة.
      وتعد كتاباته من الأعمال المهمة الجامعة بين المتعة والفائدة, ويستطيع الباحثون أن يجدوا فيها نبعاً غزيراً من المعلومات المختلفة التي لا يجدونها في المصادر الأخرى, ذلك لأن المؤرخ عوض يتميز بالصدق في التوثيق, والأمانة في إبداء الرأي والكشف عن خبايا التراث الحلي, والعمق في الأعمال المعدة للنشر, لما ينطوي عليه من المصارحة والمكاشفة, بريئة من تهاويل النفاق, مما يمكن اعتماد مؤلفاته مصدراً موثقاً من مصادر المهمة لتاريخ المدينة.
     وأخيراً في ص21 يؤكد الشاعر جبار الكواز قائلاً:" أن الأستاذ عبد الرضا عوض مؤسسة شخصية يحتاجها البلد في هذه الظروف العصيبة التي يعيشها وفي ظل إهمال الدولة للعمل الثقافي والمثقفين وغياب المؤسسات الرسمية أو الجماهيرية التي تهتم بهذا الشأن".
      تمثل كتاباته في عرض المعلومات التي جذبت العديد ممن رجعوا إليها لتوثيق بحوثهم ودراساتهم, وقد شهد لهُ الباحث أحمد الناجي عندما صدر مؤلفه الأول (أوراق حلية من الزمن الصعب في القرن العشرين) بعد عام 2003م فكانت مقولته المعروفة في الوسط الحلي قال : عبد الرضا عوض كمن ألقى  الحجر في ماء راكد, فكانت معلوماته دقيقة وفريد في كتابتها, وهو معروف في مؤلفاته بأنهُ لا يكتب في مجال كتب فيه الآخرين, وهناك الكثير من المؤلفات والمقالات للمؤرخ عوض, ولا ننسى دورة الريادي في إصدار مجلة أوراق فراتية التي دخلت في عامها السابع, فضلاً عن دوره في تحقيق المخطوطات, وهناك (17) مخطوطاً قيد الانجاز قد تصدر في فترات لاحقة تخص الجانب الأدبي والتاريخي ووقائع الأحداث لمدينة الحلة.
 
 
 

215
قراءة في كتاب (محلة الجامعين كما أدركتها).. للباحث د. عبد الرضا عوض
نبيل عبد الأمير الربيعي
    تعد دراسة الأماكن والتراث في العراق شيئاً مهماً لدى المؤرخين والباحثين, لتوثيقها في مؤلفاتهم للأجيال القادمة, ففي تاريخ أي شعب كان لهُ تراثه المهم الذي تراكم عبرَّ الأجيال, ومن عادة النخبة المثقفة أن تؤدي دوراً مائزاً في تطوير المجتمع في شتى الميادين, لذا فإن فعل هذا التوثيق أو الدراسة بدأ يأخذ ما يستحق من الاهتمام من لدن الباحثين, لأنها تؤلف الأركان الأساسية للتطورات التاريخية والأدبية والسياسية وما شابه ذلك, إلا أن العديد من هذه الدراسات أدت دوراً فاعلاً في التطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وما تزال بحاجة إلى المزيد من الدراسة الجادة لتسليط الأضواء عليها وصولاً إلى الحقيقة التاريخية.
     حظي الدكتور عبد الرضا عوض بدراسة تاريخ وتراث مدينة الحلة, وقد تناول أخيراً دراسة محلة الجامعين من جميع مجالاتها التاريخية والسياسية والأدبية والثقافية, كونهُ ابن هذه المحلة ومسقط رأسه فيها, بكتاب مستقل ضمن سلسلة تراث الحلة (42).
     الكتاب يقع في (170) صفحة من الحجم الوزيري الصادر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في مدينة الحلة, تضمن الكتاب توطئة عن تاريخ محلة الجامعين قديماً, وما قاله الشعراء في هذه المحلة والتي تعُد أحدى محلات المدينة القديمة منها : (الطاق وجبران والمهدية), وما قاله الشعراء في المحلة, وما أدركه المؤلف في هذه المحلة منذ الصبا والشباب ولغاية اليوم, ثم أخذنا بسياحة في أزقتها وشوارعها القديمة, والدكاكين والأسر والبيوتات, والمهن التي امتهنها الأهالي وعاداتهم وتقاليدهم المتوارثة, ومساجدها القديمة وتاريخ المواكب الحسينية, وسبب تسمية الجامعين هو لوجود جامعين هما جامع الإمام الصادق (ع) وجامع عبد العزيز السراي من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (ع). ويؤكد ذلك الباحث عدنان سماكة : إن الجامعين مثنى لكلمة جامع.
       لكن هناك سؤال اطرحهُ على المؤرخ عبد الرضا عوض كوني باحث ومتابع, من هو مؤسس محلة الجامعين؟ فضلاً عن أن الكثير يجهل بداية تأسيس نواتها, قد يعود تأريخ تأسيس المحلة يعود إلى النصف الأول من القرن الأول الهجري كما ذكرنا بسبب تواجد الجامعين, وقد يكون اصل الجامعين يعود إلى زمن سقوط بابل على يد الأخمينيين بقيادة كورش عام 539 ق.م, وعندما احتل الاسكندر الكبير بابل هرب أهلها إلى جميع بقاع المنطقة, وقد اتخذ من الجامعين أماكن إلى تجمعهم من الهرب, والدليل على ذلك توطن أبناء الديانة اليهودية في الحلة وخاصة محلة الجامعين, وتعد هذه المحلة من المحلات القديمة التي كانت البدايات الأولى لتأسيس مدينة الحلة, ويعد الأمير صدقة بن مزيد أول أمير سكن محلة الجامعين. فضلاً عن أن هذه المحلة التي بنيّ اغلب منازلها من حجر بابل.
      في الكتاب يوثق المؤرخ عوض دور الوعي السياسي لأبناء المحلة وتاريخ ظهوره, والانتفاضات الشعبية وقياداتها, وقد الحق المؤلف الكتاب ببعض الصور التاريخية والتراثية وصور الشخصيات المهمة التي لعبت دوراً فيها, ففي ص5 يذكر المؤرخ عوض قائلاً: (هذه المدينة ليست اليوم ظاهرة تاريخية مرئية في مظهر الأرض بل أن الكثير من مظاهرها التي عاشت تأسيسها ونموها لم يكن له وجود فعلي نتيجة الإهمال والظروف التي عاشتها الحلة عبر الزمن، ونتيجة ذلك يصعب علينا الحصول على جميع المظاهر الحضارية التي عاشتها هذه المدينة.. أجمل ما يميز محلة الجامعين ومثلها المحلات الشعبية القديمة في مدينة الحلة, إنها محلات تراثية ما زالت محافظة على أزقتها الضيقة التي قد لا يتجاوز عرض بعضها المتر الواحد, والتي تلتف حول بعضها كالأفعى, فتشعرك عندما تجوبها على أقدامك مضطرا، وكأنك تدور في دهاليز أو حلقات لا نهاية لها, وتدخل في متاهة شبيهة بمتاهات ألعاب التسلية, وهي متاهات جميلة وموغلة في القدم).
      في كتابه هذا يعرج بنا المؤرج على تاريخ تمصير مدينة الحلة من قبل الأمير صدقة بن منصور المزيدي الأسدي سنة 495هـ, حيث بدأ العمل ببناء مدينة الحلة في منطقة الجامعين وهي حلة بني مزيد التي بأرض بابل على شط الفرات, ويحط رحاله في أرض الجامعين التي كانت تحت ولاية ابن عمه شبيب بن حماد الأسدي ليسجل التاريخ حدثاً مهماً ويؤرخه لتمصير الحلة الفيحاء, إذ يقول في صفحة 8 : (وهي ظاهرة أكدت استقلال الإمارة المزيدية عن الدولة العباسية وقد شجعت الصراعات العائلية الداخلية بين سلاطين السلاجقة, وساعدته في تثبيت أركان حكمه عندما جسد رغبته بأن تكون له إمارة مستقلة بقبيلته ويكون بعيداً عن سطوة حكم السلاجقة)، وهذا مما يدل على دور الأمير صدقة في تأسيس المدينة متخذاً من محلة الجامعين النواة الأولى لبناء إمارتهُ, فضلاً عن خلافاته مع الدولة العباسية والرغبة بالاستقلال عنها لعدة أسباب ذكرها المؤرخ عوض في مقدمة كتابه, منها لرفضه التسديد لخزانة السلطان والتي تقدر بأكثر من ألف ألف دينار.
     أصبحت مدينة الحلة بعد تمصيرها :"مناراً للعلم حينما احتضنت الحوزة العلمية سنة 562هـ بانتقال علي بن محمد بن حمزة بن شهريار الخازن العلوي (ت572هـ) واستخلفه الشيخ ابن إدريس، صاحب كتاب السرائر (ت598هـ)، واستمرت إلى سنة 951هـ بوفاة الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي، ولا غرابة في أن تحتضن الحلة الوافدين من شتى بقاع العالم وتحافظ على عروبتها ، فأصبحت منارةً للفقه الإسلامي والأدب العربي، إذا ما علمنا أن كثيراً من العلماء والأدباء قدموا إلى الحلة واستقروا بها، وأصبحوا من جملة أهلها وتتلمذوا فيها"([1]).
هناك بعض العوامل التي منحت مدينة الحلة أهمية لدى الباحثين في تاريخ المدينة منها : قربها من مدينة بابل ذات العمق التاريخي والموقع الجغرافي المتميز بين بغداد والبصرة ومناطق الفرات الأعلى فضلاً عن المكانة العلمية ووجود الكثير من القبائل العربية المحيطة بها من كل الجهات مما مكنها أن تتبوأ مركزاً تجارياً لتلك القبائل، ولا بد أن يؤخذ بالحسبان الموقع العسكري لهذه المدينة حيث مكنها هذا الموقع من مواجهة التحديات الخارجية، إن اختيار صدقة بن مزيد مقره في منطقة الجامعين التي تقع في الجانب الغربي من نهر الفرات يشير إلى إن الآجام كانت من الأماكن المفضلة للثوار، وقد أعطت هذه المزايا مدينة الحلة مكانةً مرموقةً في نظر من زارها. ففي صفحة 12 /13 يؤكد المؤرخ عوض قائلاً : "ومدينة الحلة قامت على أرض الجامعين التي كان لها سبق ووجود قبل تأسيس مدينة الحلة وبمرور الزمن توحد الاسمان أي الجامعين والحلة وأطلق على الاثنين أسم محلة الجامعين أو حلة بني مزيد أو الحلة السيفية، والثابت لدى المؤرخين أن الحلة وتسميتها ظهرت بعد عام 495 هـ ... ومن المفيد التطرق إليها باختصار ومن أهم هذه الخصائص أن الأزقة والشوارع في هذه المحلة تكون متعرجة وضيقة وذلك لانعدام التخطيط النظامي ووجود الرابط القومي لسكنة المحلة وأن تكون دورهم ليست بعيدة عن الأقارب ومن الأسباب التي دعت إلى ضيق الأزقة وتعرجها لعرقلة الغزاة والمهاجمين وتسهيل عملية الدفاع من أجل حماية المحلات فضلاً أن هناك عاملاً مهماً دفع السكان للالتزام بهذا النمط من الأزقة للتعرف على الغرباء مباشرة عند دخولهم هذه المحلات ويضاف إلى ذلك أن ضيق الزقاق يوفر للسكان مساحة جيدة من الظل ويخفف من درجات الحرارة والعواصف الترابية والرملية ويقلل من تبخر المياه للمحافظة على درجات حرارة معتدلة في هذه الممرات الضيقة وهناك ظاهرة أخرى في بناء البيوت القديمة أن شبابيكها تكون عالية عن مرأى العين للحفاظ على سترة المنزل".
أصبحت مدينة الحلة في وقت لاحق مكاناً لعلماء الإمامية وخاصة بعد سلامتها من احتلال المغول على اثر احتلال بغداد سنة 656هـ / 1258م. وأضحت هذه المدينة من مراكز الحركة العقلية في البلدان الإسلامية وقد جاء ذكر محلة الجامعين على لسان الرحالة ابن بطوطة فقد ذكر عن الحلة أن : (أهل هذه المدينة كلها إمامية اثنا عشرية، وهم طائفتان : أحداهما تعرف بالأكراد والأخرى تعرف بأهل الجامعين). حتى حظيت المدينة بخمس مدارس علمية هي :
1-   مدرسة يحيى بن سعيد الهذلي (ت689هـ/1290م).
2-   المدرسة الزينية في محلة الجامعين.
3-   مسجد ومدرسة الشيخ عبد السميع بن فياض الأسدي (ت933هـ).
4-   المدرسة النبوية.
     ثم يعقب المؤرخ عوض في صفحة 24, حول ذكر الأدباء والشعراء الذي أنجبتهم المحلة حين قال :"من الجدير بالذكر إن محلة الجامعين أنجبت الكثير من الأدباء والشعراء الذين نظموا في فنون الشعر المختلفة، ويبدو إن نتاجهم الأدبي قد تخطى محلة الجامعين إلى أماكن بعيدة فقد أتيحت لهم فرص الاتصال بالثقافات الأدبية ذات الطابع العربي الإسلامي فقد رفدوا الساحة الأدبية مثل : الأمير بدران بن صدقة، والأمير مزيد الحلي، والشاعر صفي الدين الحلي والشاعر راجح الحلي, والشاعر شمس الدولة بدران بن صدقة بن منصور المزيدي الأسدي ( ت 530هـ) والشاعر الأمير مزيد بن صفوان ابو الحسن، وكانوا يتشوقون إلى محلتهم الجامعين التي عاشوا فيها ثم رحلوا عنها لأسباب مختلفة", ثم يعرج المؤرخ على ذكر الشعراء الذين ذكروا محلة الجامعين في قصائدهم, وآخرها قصيدة الشاعر جبار الكواز بحق الحلة وعلمائها ألقيت يوم 13/5/2015 في جامعة بابل تحت عنوان (أرضٌ بها الوعي والأحلامُ قد ركبا).
وفي ص36 وما بعدها يعرّج بنا المؤرخ عوض سائحاً حول أهم شوارع المحلة الحديثة والرئيسة, وأهم المؤسسات الحكومية والمدارس ورياض الأطفال والمراقد والبيوت السكنية والمساجد والمعامل والمحال التجارية ودور الترفيه والمقاهي التي تحيط بهذه الشوارع منها : شارع الإمام علي (الجادة), وشارع صفي الدين,  وشارع العلوة أو المعدان, وهناك هو توصيف وتوثيق دقيق لهذه الشوارع.
وفي صفحة 56 / 57 يذكر المؤرخ عوض أهمية سور الحلة, الذي كان قائماً حتى سنة 1918م، وكان السور يحتضن المحلات السبع القديمة : (الجامعين، الطاق ،جبران، المهدية، الجباويين، التعيس، الأكراد ), حين قال :"أول ذكر لسور الحلة ورد في المدونات  التاريخية، وهو : أن الأمير صدقة بن منصور ممصر الحلة سنة 495هـ أمر  بحفر خندق حول مدينته الجديدة ومن تراب الخندق عمل سور المدينة لحمايتها من الغزوات، وكان ترابياً، فقد ذكر السيد رضي الدين علي بن المطهر الحلي،  أن الحلة حفر حولها خندق سنة 498هـ، ومن تراب الخندق عمل سور الحلة وأكمل في  21 رمضان سنة 500هـ ... بني بطابوق بابل المدينة الآثارية نقل إلى الجامعين بواسطة القفف النهرية شيد لأخر مرة في عهد المماليك نهاية القرن السابع عشر الميلادي، وكان على ارتفاع  أربعة أمتار تقريباً ويمتد من واجهة نهر الحلة ماراً بالشارع الذي يفصل الجامعين عن محلة (الجديدة) الحالية، حيث (باب المشهد)". فضلاً عن بساتين الجامعين التي كانت مقاطعات زراعية كبيرة والتي كانت تتعدى (14) بستاناً، حتى مطلع القرن الماضي, إلا أن هذه البساتين والأراضي الزراعية زحف عليها العمران وحل محلها أحياء سكنية جديدة سميت بـ(محلة الجديدة) و(الحي الجمهوري)، و(نزلة العيد) ويحسب الجميع أنها امتدا لمحلة الجامعين، وأنشأ عليها منشآت حكومية، وشبه حكومية ذات النفع العام", ثم يعقب عوض قائلاً :" كان أغلب سكان محلة الجامعين يعتمدون في موارد معيشتهم على مهنة الحياكة النسيجية، وبستنة الأرض، فالمنطقة المحصورة بين سور الحلة الجنوبي وحتى مقام النبي أيوب (ع) في المنطقة المسماة بـ (العيفار) كلها بساتين زراعية غناء تسقى بواسطة الكرود (النواعير)".
كما وثق المؤرخ عوض في كتابه المجالس الاجتماعية في الجامعين, ففي صفحة 64 وما بعدها ذكر عدة مجالس ونبذة عن تاريخها والقائمين عليها منها (مجلس آل عوض, مجلس آل علوش, مجلس آل الشلاه, مجلس صالح عنجورة), والنشاطات الثقافية والفكرية والأدبية التي قامت بها هذه المجالس. وقد وثق المؤرخ تاريخ البيوتات في المحلة وطرق بناؤها ففي صفحة 68 ذكر قائلاُ :" إن كافة البيوت مبنية بالطابوق ، وهو على ثلاثة أنواع :
-      طابوق مدينة بابل الآثارية وعليه كتابات مسمارية ، غنمه الأهالي بعد نقض سور الحلة سنة 1918م، إذ تذكر المصادر ان السور بني بطابوق جُلب من بابل بوساطة القفف النهرية.
-      طابوق من نتاج محلي ويسمى (طابوق كورة) كونه يفخر بطريقة بدائية وهذه (الكور) كانت منتشرة حول مدينة الحلة.
-      طابوق من نتاج معامل الطابوق الميكانيكية، وتكون هذه الطابوقة أصغر من الطابوقة البابلية وأكبر من طابوقة (الكورة).
أما مادة البناء فيستعمل الرماد والنورة في بناء الأسس لعدم توفر الاسمنت، أما القسم العلوي فتكون مادة البناء بالطين، وتغطى الجدران أما بالطين أو مادة الجص التي تصنع محلياً. وتكون السقوف من جدوع النخيل أو الاشجار (القوغ) وفوقها طبقة من الحصران التي تصنع من خوص النخيل وفوقها مادة الطين، ولم يدخل حديد الشيلمان الى البناء إلاّ بعد العقد الثالث من القرن العشرين".
وفي صفحة 70 يوثق المؤرخ تاريخ الأسر والبيوتات الحلية القديمة وأعلامها ورجالها التي سكنت محلتي الجامعين والطاق وحسب ما أدركه  المؤرخ قبل خمسة عقود حين يقول :" وهذه البيوتات تنتمي أصلاً إلى عشائر مختلفة، منها : خفاجة وهي أقدم العشائر في الحلة وما حولها، وبني أسد وهم ممصروا الحلة السيفية سنة 495هـ، والأكرع، وبني حسن، وطفيل، وآل فتلة والجبور، والجنابيون، والربيعي، والعزاوي، والجشعمي، والقريشي (الكريشي)، والشجيري، والشمري، وغيرها من العشائر"، ثم يعقب في صفحة 77 على أهمية مختاروا المحلة واسمائهم وأهم القضايا التي حدثت وتداولها الناس في تلك الحقبة عندما  كان لمديرية شرطة اللواء ليس فيها سجن خاص بالنساء، فكانت المديرية تعهد إلى المختار ليحتفظ بالنساء السجينات في داره.
    وفي صفحة 79 يوثق المؤرخ عوض أهم المهن التي امتهنها سكنة الجامعين, منها : الوظائف الحكومية, الزراعة, النسيج القطني واليشماغ , معمل الكوكا كولا, البناء, الحدادة, الصياغة, التجارة, ثم يسوح بنا المؤرخ على العادات والتقاليد المتوارثة التي أدركها وهي كثيرة ومهمة لأبناء المحلة وبيوتاتهم, والقصص التي سمعها حول قتل عاكف أهالي الحلة وشنق رجالاتها وهدم بيوتها وتشريد عوائلها, وقصة مقتل حاكم التحقيق تحسين الشيخلي, ثم يعرج بنا على أهمية الأعياد في حياة أبناء المحلة وتقاليد يوم الجمعة والفارسي ففي صفحة 93 حين قال :"اعتادت نساء الجامعين عصر كل يوم جمعة زيارة مرقد العلامة الفارسي، وهنًّ يتوجهن إليه مشياً على الأقدام لقربه من المحلة، ولا أحد يعرف سبب هذا التقليد, وزيارة السيد علي بن طاووس (أبو النور), و عادات شموع السيد إبراهيم, وشموع النصف من شعبان, أما في صفحة 95 فيذكر المؤرخ ما طال أبناء المحلة ومدينة الحلة من تهجير وتسفير على يد أزلام نظام البعث نحو إيران 1968-2003م.
    الكتاب هو وثيقة تاريخية لتاريخ محلة الجامعين حيث وثق فيها المؤرخ عوض تاريخ هذه المحلة وجمع فيه الشاردة والواردة حتى تاريخ ظهور الواقع السياسي في المحلة, وبدأ حملة التنوير في عموم مدينة الحلة على يد الشيخ عبد الكريم رضا الماشطة, الشيخ حميد سعيد الغاوي ومن ذلك بدأ التفكير بنمو الوعي السياسي, هذا ما ذكره في صفحة 103 من الكتاب, والذي تجاوز عدد الأحزاب في تلك الفترة إلى ستة أحزاب, فضلاً عن دور أهالي الجامعين في الحركات التحررية, وتصديهم وتأهبهم لرد الاعتداء الوهابي الذي كاد أن يحصل على الحلة سنة 1832م, وتصديهم لهجمات عشائر خفاجة وعقيل وجشعم لمحاولتهم غزو المدينة, وقعة (دگة) عاكف 1915م ومجزرة 1916م, أسهاماتهم في أحداث ثورة العشرين الخالدة, وأسهاماتهم في تأييد ثورة 14 تموز 1958م, ودورهم البطولي في الانتفاضة الشعبانية 1991م. ودور أشقياء المحلة الذين لم يكونوا قساة بل أغلب بطولاتهم وهمية لا تتعدى نسج الأساطير.
    في صفحة 122 يذكر المؤرخ دور ظرفاء المحلة حين يقول :" كل منطقة أو محلة يظهر فيها ظرفاء مسالمون يجمعون بين سبك القصص الوهمية ولطافة الحديث، وأغلبها من صنع الخيال ولاشيء فيها من الصحة، فيتفكه الناس مرفهين عن أنفسهم بهذه المقالب لعدم وجود أجهزة تسلية كما هو الحال عليه الآن". ويختم الكتاب بتوثيق مراقد الأئمة والمقامات, والمدارس والبعثات الدراسية, والأعلام المعاصرون من محلة الجامعين.
     المؤرخ عبد الرضا عوض من خلال مؤلفه هذا قد ملأ الفراغ الذي كانت بحاجة إليه مدينته الحلة, والمكتبة العراقية لمثل هذه الدراسة, فهو المؤرخ المنتج والمتتبع للمعرفة والمبتكر لكل جديد, فقد عشق عوض الكتابة والتوثيق منذ نعومة أظفاره, وكان صائباً في اختياره لمواضيع وعناوين مؤلفه هذا وما سبقهُ, وكان موقداً ومتوقداً في مؤلفاته, يضيء للجيل الجديد دربه, صالّ صولة الأبطال في كل حلبة, لكهُ فكر قد أخلص لقلمك.
     
 


________________________________________
[1]  د. عبد الرضا عوض . الجامعين كما أدركتها. ص10/11.


216
قراءة في نصوص المفكر عالم سبيط النيلي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      من خلال متابعتي لإصدارات المفكر عالم سبيط النيلي, أصبح لي سابق اهتمام بعامّة تراثه, وبكتاباته التي ألّفها في اللغة والدراسات القرآنية في نهاية التسعينات من القرن الماضي, تلك الكتابات التي أثارت إعجابي بما فيها من قدرة على الربط بين المسائل اللغوية والنصوص القرآنية, علاوةً على غرابة الآراء التي تحفِزُ القارئ على إعادة النظر في موضوعات اللغة من جديد وهي اللغة الموحدة القائمة على مبدأ القصدية في الإشارة اللغوية بين الدال والمدلول, ويكشف عن وجود قيمة معنوية للأصوات قبل التركيب في الألفاظ, وفي لقاء مع الأستاذ الشاعر جبار الكواز, علمت أن له دراسة نقدية لنصوص شعرية كتبها الراحل النيلي في مسودات, فكان شوقي للأطلاع عليها, وهي تعتبر أول دراسة نقدية لنصوص المفكر النيلي, والشاعر الكواز له الدور الكبير بجمعها وتقديم دراسة لهذه النصوص, وعدد النصوص يقارب (13) واعتقد اغلبها نصوص عرفانية, لأن المفكر النيلي قد تأثر في نهاية التسعينات بالعالم عبد الأعلى السبزواري, وهو شيخ العرفان في النجف الأشرف.
     صدر الكتاب تحت عنوان (عالم سبيط النيلي.. نصوص), من الحجم الصغير وبـعدد الصفحات(96), عن دار العربي للطباعة في بابل عام 2013, زينت غلاف الكتاب لوحة للفنان التشكيلي سمير يوسف. الكتاب احتوى على مقدمة ودراسة الشاعر الكواز للنصوص الشعرية ومن ثم إدراج النصوص كاملة مع صور لمسودات النصوص.
نبذة عن حياته :
     عالم سُيبّطَ النيلي هو أحد علماء النهضة العراقية الحديثة, عُرفَ نهاية حقبة التسعينات من عصرنا الحديث في الأوساط الثقافية والعلمية واللغوية والمحافل الأدبية والفكرية, فهو مفكراً وباحثاً أحاطَ بنتاجاته بجميع جوانب علم الفقه واللغة والتراث والتاريخ, وُلدَ في أسرة ريفية حلية ذات مكانة اجتماعية عام 1956م, فوالدهُ سٌبَيَّط شاعراً شعبياً مرموقاً, وشقيقهُ رمزاً ثقافياً في ناحية النيل التابعة لمحافظة بابل, ولقب بالنيلي نسبةٌ إلى ناحية النيل الواقعة شمال الحلة, أكمل دراسته الثانوية في مدينة الحلة, والماجستير حصل عليها في بعثة عسكرية إلى روسيا (الإتحاد السوفيتي سابقاً) في الهندسة الألكترونية عام 1979م من جامعة اوديسا / أوكرانيا, وحصل على شهادة دبلوم عالٍ في الترجمة من روسيا. رحل عن الحياة وهو بعمر الشباب (44 عاماً) نتيجة مرض ألمّ به يوم 18/8/2000م, تاركاً نتاجاً معرفياً زاخراً تجاوز (14) مؤلف وبحث في الأدب واللغة والثقافة.
      وقد أقام لهُ اتحاد أدباء بابل ندوة في شرح نظريته الجديدة, واستمرت هذه الندوة لثلاث أمسيات متتالية, في سابقة هي الأولى من نوعها في عمل الاتحاد, كما كتب الكثير عن حياته ونتاجاته ومنهم (الصحفي ناظم السعود, د. حسين سرمك حسن, وحاوره الصحفي علي خصباك,موسى جعفر, وجيه عباس, فرقان الوائلي, رافد عجيل فليح).
عالم سبيط ظاهرة ثقافية متنوعة, حركت الذهن الثقافي التي تشيد بعبقريته الفذة, وكان نتاجه المعرفي كل ما هو جديد في ميدان الفكر والإبداع, وقد وصفه الراحل شيخ المفهرسين د. صباح نوري المرزوك قال : (أعتبر عالم سُبَيِّط في البحث والتأليف واحداً من تلك الظواهر الكونية المتعددة والمتنوعة).
بين الرؤية والرؤيا.. قراءة في نصوص أدبية لعالم سبيط النيلي :
      يسلط الأستاذ الشاعر جبار الكواز الضوء في كتابه هذا على دور المثقف وهو الفاعل الاجتماعي وقرين المبدع  للأفكار المتمردة على التقاليد, يقول في ص10 من الكتاب : "أياً كان نوعه (المثقف) أو مصدره أو شكله, بما يؤهله ليكون المخالف للآراء الثائرة على الانعزال والجمود والمنشئ للرؤية العصية على الاجترار, وهذا الكشف وذلك الإبداع وتلك الأفكار لا تتأتى من فوضى العدم ولا تنبعث من فضاء الفراغ, كما أنها لا تتحصل بالفطرة الذاتية الثائرة على الواقع المكفهر والمتعالية على همومه الصاخبة والمفارقة لانشغالاته الحيوية, بل أن الفاعل الاجتماعي كان وما زال مثابة الوعي المجدول بالمعاناة والتطلع المسبوك بالألم في خضم البحث عن الحقيقية وألم التنقيب عن اليقين". من هنا نجد أن للمثقف الدور الكبير والفاعل في المجتمع من خلال تقديم النقد والتحليل والتفكيك المتموضع في نقطة لا تجانس تقع في بنية النص أو في هامش من هوامشه وتوجيه الضربات إليه من داخله وأحياناً من خارجه أيضاً, ولا يعامله المعنيون بنقد الخطاب ونقد النص إلا بوصفه منهجاً.
     في ص11 يطرح الشاعر الكواز فكرة :(تغليب الايديولوجيا على عدة المثقف المعرفية وملكته الثقافية في إطار مقصود لتعشيق الوعي المبدع بالواقع المتاح, لجعل عناصر الثاني المثقف / الأفكار, التجارب, التكوين التأريخي, الوعي الشخصي/ تستوعب معطيات الواقع/ والمثقف/ متنكباً منهجية تفكيك البُنى وتأويل الدلالات وتحليل الأنساق وزحزحة المعتقدات وكشف الخطابات المسكوت عنها قسراً). وهذا ما لمسناه في سياسة الحكومات الشمولية والقومية السابقة.
     تعتبر نصوص المفكر عالم سبيط النيلي قليلة وقد كتبها في أخريات القرن الماضي, بسبب سياسة النظام السابق التي لم تعطِ فسحة من الممارسة الطبيعية للمفكر والمثقف العراقي, وكشف واقع الحصار الذي يعيشه الشعب العراقي بسبب سياسات النظام الرعناء, فكان المفكر النيلي يعيش حياة صعبة بسبب الظروف المحيطة به وعنف الدولة, لكن عند متابعة النصوص الشعرية للمفكر النيلي نجدهُ يؤكد اهمية الشعر في حياته لإيصال أفكاره إلى من يهتم بقراءة الشعر, ويؤكد الشاعر الكواز في ص13 من الكتاب قائلاً :"تشكل نصوص (النيلي) وكلّها من قصائد النثر أنموذجاً لإشكالية الرؤية والرؤيا وعلاقتهما التبادلية في إنتاج النصوص لأنها (النصوص) قائمة على أفكار مهادية قبليّة آمن بها منتجها النيلي بوصفها الخلاص الحقيقي لأزمات العالم وحجر الحكمة الذي ينير هندس ليل الطغاة", لكن النيلي في نصوصه يمثل كيانين , الأول : الكيان المقدس المتعالي وعشاق الانبياء والاوصياء والشهداء والمريدين والقديسين, والثاني كيان المدنس من الشياطين والمردة والجن والكفرة وأدلاء الزور والجناة والمرابين واللصوص والمنافقين.
      كما يعقب الشاعر الكواز في ص 14 قائلاً :"فالمتابع لهذه النصوص سيعيش محنة النيلي وهو يخوض غمار الحياة محاولاً تعزيز صورة اليقين بالمطلق.. نرى أن نصّ (الشبح العاري) أنموذجاَ لهذا الصراع فهو قد ألبس الثلج صفة البشرية (العري) وجودّة من غموض الشكل وهلامية الدعوة ومجهولية المنبت وظلامية الوسائل, فكأنه استعار صورة الإمبراطور في ثيابه الجديدة ليكون هو الشبح العاري الذي يقابله وهما المتناقضان في حوار شجيّ يشئ بالألم الذي يعتمل من قبل النيلي :
(لم يعد في نصحك لي نفع / ولن أكتب شعراً رمزياً/ لا ... لن أفعل / لم تعد الصاعقة توقظ الحالمين/ ولا زمجرة الرعد / تنبيه الأسود المخدّرة / ولا الأذان يوقظ السكارى / كيما يشتموا المؤذن). لكن النيلي يؤمن إن الحل والتغيير آتٍ بالإيمان بالتغيير, وهي نبوءة النيلي كما يؤكد ذلك الشاعر الكواز فالمستقبل للعراق التي تتكالب عليه أعراب البادية دفاعاً عن الشبح العاري ليكون العراق يباباً إلا من جثث الموتى ودمار البنى التحتية.
       في النص الشعري (ناحر) يؤكد الشاعر الكواز في ص16 أن النيلي يتكئ على المقدس المتعالي في نحر الناس, لهذا يقول الكواز :" إنهما معاً يتكئان على جذر واحد ويختلفان في الرؤية والرؤيا والتفسير ولهذا يؤمن بقدر الموت وألوانه وعذاباته, فالموت (مكار ذو غدرات/ كبش مخلوق للنحر/ صحيح/ ونشيط/ ومعافي/ محتال)". لكن النيل في نص (وحي) في مدن ظالمة تسلبه حقه في التفكير والبحث وقول الحق, والبحث عن غربته الروحية الذي يريد الاقتراب من كشف الحقيقة التي وصلها متأخراً, ص18 :"(وأحس أن فمي في فم الحقيقة/ يسيطر المطلق على حركاتي ويشغل الفراغ). لذا فوصول النيلي إلى الحقيقية جاء عبر المطلق المقدس الذي محا الفراغ بعد أن شغله بعسل الحقيقية التي سكنت روحه لها وأعطته دفقاً من قوة للبحث والتأمل من جديد ولذا يقول الشاعر الكواز في ص18 نراه في نص (فاعل... الحالم الآخر) يدعو إلى القوة في مواجهة الشيطان المستور والمعلن متخذاً من إيمانه وفكره وأسلافه وسائل دفع جديدة فيبتدأ النص بـ(كن) : ("كن حديداً في الحديد للتراق" "أول العشق فراق"). إنها حالة الوجد الصوفي أو العرفاني الذي ظل لصيقاً بنا نحن – الترابيين – الذين ما زالوا يكشفون الآفاق ويكشفون ذواتهم من خلالهم وصولاً إلى بئر اليقين أو عين اليقين التي تحيل الوجد وجداً سرمداً.
     كما في نص (غافر) يتلبس النيلي الوجد الصوفي والرعب العرفاني الذي ينفلت من كونه بشراً إلى كونه كونية تخترق الحجب وتحاول الاقتراب من الكينونة المتعالية في ذاتها العلية. مما لا شك فيه تقودنا نصوص المفكر عالم سبيط النيلي إلى فهمه من خلال رؤاه الفكرية والتحليلية. فالشاعر الكواز قد فكك النصوص الشعرية وحللها وفق آليات ذات طابع منهجي وفق النص المتجانس.
     
   


217
الحوزة العلمية في الحلة ومنهجية التهميش المتعمد
نظرة في كتاب (مدرسة الحلة وتراجم علمائها من النشوء إلى القمة)
لمؤلفه حيدر موسى وتوت الحسيني
د. عبد الرضا عوض
مقدمة:
قد يجلب اهتمام القارىء والباحث الكتاب الذي يصدر عن مؤسسة علمية أكثر من أي كتاب آخر لقناعته ، أو من المفترض أن يكون الكتاب الصادر عن تلك الجهة العلمية قد مر بمراحل عديدة خضع الى مراجعة وتنقية من الشوائب مضافاً اليه شيء مفيد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يفترض أن تعمل هذه المراكز العلمية على تجنب السطو والاستحواذ والانتحال الذي يمارس بفنية عالية هذه الأيام فيقصي الأخرين ، لكن من المؤسف أنَّ هاتين الصفتين قد تجانبا عند العديد من المراكز العلمية ، وخير مثال ما حدث لكتاب (المحور الشعري) الصادر عن جامعة بابل بداية العام الحالي ،فعاجلت الجامعة الموضوع بمهنية وسحبته من التداول والبيع أو الاعتماد عليه حسب ما جاء بالأمر الجامعي المرقم 2122 في 22/2/2017، والذي سنتناوله في هذا الموضوع انموذجاً ثانياً يصدر عن مركز بحثي تابع الى العتبة العباسية المقدسة حيث خيب أملنا في مستواه الفكري، وفي تقدير العديد من الباحثين والنقاد أن أهم سبب لحدوث مثل هذا الانحدار الفكري هو (المحاباة) و(المجاملة النفعية) و(اظهار المولاة) لهذا المسؤول أو ذاك على حساب سمعة ومكانة المركز الذي يعتاشون عليه ويأكلون من خيراته ، وهذا مؤشر خطير يجب التوقف عنده والتصدي له بشجاعة والتعاون مع كل المستويات لغرض تصحيح المسيرة العلمية وأرجاعها الى جادتها جهد الإمكان.
الكتاب :
صدر في شهر آذار 2017م عن مركز تراث الحلة التابع للعتبة العباسية المقدسة كتاب :( مدرسة الحلة وتراجم علمائها من النشوء الى القمة (500-900هـ)وما بعدها بقليل) ،وهو من تأليف السيد حيدر موسى وتوت الحسيني ، وجمع بين دفتيه (592) صفحة بحجم (الوزيري) ، خصص منها مائة صفحة للتمهيد ومثلها للفهارس وما بينهما تراجم لبعض علماء الحلة للقرون : السادس والسابع والثامن والتاسع الهجري ، والكتاب كما ذكره المؤلف في مقدمته أصله موضوعات متفرقة كان السيد وتوت قد نشرها في مجلة (تراثنا) بإعداد متفرقة تمكن من جمعها واضافة شيء عليها ، بعد أن كنا نأمل خيراً في اضافة شيء الى مكتبة الحلة ، لكن المؤسف كان كتاباً مخيباً للآمال أحدث صدمة لمن أطلع عليه حتى أنه راح يقرب البعيد ويبعد القريب ، إذ من المفترض أن يؤرخ للحوزة العلمية في الحلة بأمانة ودقة ليظهر حقيقة هذه المدينة المعطاء التي عانت وتعاني من أهمال متعمد ، لاسيما إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار جهة اصدار هذا المنجز ، فهي جهة علمية تابعة للعتبة العباسية المقدسة وعليها أن تتميّز وتتبع وتلتزم بنظام الجودة العلمية العالية المتميزة .
كان على المركز أن يؤكد ويُسكت الأصوات التي تنبعث من هنا وهناك والتي تقلل من أهمية الحوزة العلمية في الحلة بما في ذلك كفاءتها وريادة دورها ، ومن وجهة نظرنا فإن المؤلف لا يلام بقدر ملامتنا على من راجع الكتاب ووضع هيكليته ودققه وهي هيأة تدقيق ومراجعة ومتابعة مركز تراث الحلة ، ومن خلال تصفحنا لاحظنا أن الكتاب كأنما حرره الأستاذ (أحمد علي مجيد) بإشارته في الهامش ص 64 حينما ذكر ما نصه : ( ذُكرت في كتابي تاريخ مقام الإمام المهدي في الحلة...) ، وهي عثرة شاء الله أن يكشفها فقد تبناه جملة وتفصيلاً فأورد به من الهنات والطفرات والثغرات بما لا يليق بمركز علمي ، حتى أن تكرار اسم أحمد علي مجيد في الكتاب امسى مضحكاً فورد اسمه بين صفحة وأخرى لكثرتها ، وكنا نأمل منه والمجتمع الحلي أن يقدم كل جديد ونادر وأن يبتعد عن تكرار ما نُشر سابقاً لأن ذلك يقلل من أهميته كمنجز علمي ،وأن لا يتجاهل أو يتجاوز الأسس التي من أجلها قام هذا المركز ، وبنظرة سريعة على ما جاء في الكتاب، نقول:
أولاً – العنوان:
بدءً من العنوان الذي ورد ما نصه : (مدرسة الحلة وتراجم علمائها....)وكان من المفترض أن يكون (وتراجم بعض علمائها) ، لأن الحلة أنجبت أكثر من أربعمائة عالم مجتهد كما ورد في كتب التراجم والسير ، وأكثر من تسعمائة عالم كما ورد في كتاب (أساتذة وطلبة الحوزة العلمية في الحلة أيام ازدهارها الفكري 562-951م) ، ولم يعرف أو يحدد لنا المؤلف أو من راجع الكتاب ما معايير (القمة) التي أدرجت على الغلاف ،ثم ختم العنوان (وبعده بقليل)!! وهذا إيهام إذ لا يعرف القارىء ما (القليل) ؟ فالسنون يجب أن تحدد لا تكال بمكيال (قليل أو كثير) ، لأن ذلك يخرج عن نطاق البحث العلمي المطالب به المركز فكان على الباحث أو الجهة المشرفة على الكتاب أن تحدد السنين بعد أن يتوفر لها ما يؤيد قولها وهو مدون بمئات الكتب والبحوث.
ثانياً- القرى والمحلات:
تناول الكاتب أسماء القرى التي تحيط أو تابعة الى سيطرة مدينة الحلة ، هنا لا نريد التعرض لهذا (الحشو) من القرى ونأخذ مثالاً واحداً إذ ذكر (الإسكندرية) في ص27، ونقلاً عن الشيخ يوسف كركوش على علاتها..!! ، وعلى مركز التراث أن يبين ويعرف مهمة المحقق ، وهو أن يصحح المعلومة وفق منهج علمي ، لا أن ينسخها كما هي فيبقى القارىء أسير خطأ متكرر ، ونقول :هذه القرية غير موجودة أيام نشوء الحوزة ولا علاقة لها بالاسكندر المقدوني وإنما سميت بالإسكندرية نسبة الى اسكندر باشا والي بغداد حينما أنشأ سنة 1602م خانا بطلب من زوجته لغرض مبيت الزوار المتجهين من بغداد الى كربلاء المقدسة ، وأول ذكر ورد لها في كتب التاريخ سنة 1605م.(1)
كما استحدث المؤلف محلة جديدة في الحلة باسم (محلة عجلان)،مستنداً الى الجويني الخراساني(ت722هـ)، ومن تتبعنا لم يتبين لنا اسمٌ لهذه المحلة ، لا في خطط الحلة ولا في احداثها ،وكان على المؤلف أن يبين موقعها ولا يوهم الآخرين بمثل هذه الاشارات البعيدة عن الواقع الملموس ،وكانت الحلة آنذاك مكونة من قسمين : الجنوبي (الجامعين) الذي قُسم الى محلات(الطاق والمهدية وجبران) ، والشمالي (الأكراد) الذي جزء الى (الأكراد والتعيس)،علماً أن محلات الحلة الحالية صنفت وجزئت سنة 1734م ، أي في عهد الدولة العثمانية.(2)
ثالثاً _ التمصير أم التأسيس
ورد في ص 37 ما نصه : (أتفق المؤرخون على أنَّ تأسيس مدينة الحلة الفيحاء وتمصيرها بشكل رسمي ، وانشاء مرافق الحياة فيها كان على يد الأمير المزيدي صدقة بن منصور سنة 495هـ....) ، واختلط الأمر على المؤلف بين كلمتي (التأسيس والتمصير) وكان على المؤلف والمراجع أن يرجعا الى وقائع مؤتمر علمي عقدته جامعة بابل سنة 2009م ، ونقول:
إن الجامعين لها وجود قبل انتقال صدقة إليها بما لا يقل عن قرن ونصف ، وهناك إشارة إن الحسن بن علي التنوخي (386هـ) صاحب كتاب (نشوار المحاضرة) قد تقلد القضاء في الجامعين وسورا في القرن الرابع الهجري(3) ، وهذا يعزز ما ذهب إليه القول إن الجامعين كانت موجودة قبل انتقال صدقة بن منصور إلى الحلة عام 495هـ/1101م ، وكان دور صدقة ان وسع مساحتها وأصبحت عاصمة لإمارته التي كانت تشغل نصف مساحة العراق من هيت شمالاً الى البصرة جنوباً في ذلك الوقت(4) ، وهناك ملاحظة جديرة بالانتباه حول موضع أو مكان مدينة الحلة قبل إن تصبح عاصمة للإمارة المزيدية حيث وصفت الجامعين بأنها: ( منبر صغير حولها رستاق عامر خصب جدا ) وهناك إشارة ذكرها المقدسي عن الجامعين بالقول : ( إن إقليم العراق ست كور فأولها الكوفة ثم البصرة ثم واسط ثم بغداد ثم حلوان ثم سامراء فإما الكوفة ففيها الجامعين وسورا النيل ، والقادسية ، وعين التمر)(5) . وقد أشير إلى إن الجامعين كانت مدينة كثيرة الخلق.
 
رابعاً- أماكن الدرس (المدارس):
الغريب في الأمر وكما ورد في ص65 قال المؤلف: ( فمنَّ المؤسف حقاً إننا لم نجد أكثر من اشارات عابرة لواحدة أو أثنتين من مدارس الحلة العلمية.....) ولو سلمنا أن المؤلف قليل الإطلاع ولم يطلع على وقفيات المدارس الأربعة ،لكن الأدهى أن المراجع (أحمد علي مجيد) قد قرأ كتاب (الحوزة العلمية في الحلة نشأتها وانكماشها 562-951هـ) الصادر سنة 2013م ، وعقد مركز تراث الحلة الذي قام منذ تأسيسه على مهمة ابراز أماكن الدرس في الحلة.(6)
ويورد المؤلف واستناداً الى أحمد علي مجيد انه ينفي وجود أماكن للدرس في الحلة آنذاك سوى مدرسة واحدة هي مدرسة (صاحب الزمان) ، وهذا بحد ذاته تجني وتهميش لدور ومكانة الحلة العلمية، فيقول في ص66 : "هذا وأخبرني الأخ الأستاذ الباحث أحمد علي مجيد الحلي (دام تأييده) انه بإطلاعه على جملة من مخطوطات علماء الحلة ، وغيرهم وجد ان اسماء المدارس الماضي ذكرها ، إنما هي مسميات لمدرسة واحدة هي مدرسة صاحب الزمان...!!!"، ولا أحد يعرف على ماذا يؤيده رب الجلالة هل على التدليس؟ ، أم التجاهل..!! ، أم التحريف في حقائق الامور؟؟، وهذا بحد ذاته خروج عن المألوف والنهج العلمي .
وفي الصفحة نفسها استدرك المؤلف على قول الباحث أحمد علي ، فقال : (مهما يكن فلا يمكننا الاعتقاد أنهُ لم تكن في مدينة الحلة آنذاك غير ما ذُكر آنفاً.....)!!!! ولا أعرف مدى اطلاع المؤلف على ما كتب عن الحوزات غير ان المركز وكما بينا سلفاً قد عقد ندوة لذلك ، فكان على المشرف على الكتاب بيان تلك المدارس أو الإشارة لها لغرض اعطاء القارىء صورة متكاملة واضحة لجغرافية وهيكلية مدارس الحلة العلمية آنذاك ، وكان على الباحث أن يراجع مصادر اخرى ليجد ضالته بدلاً من التأسف!!! ، والمدارس هي:
أ‌-      مدرسة صاحب الزمان :
سميت بذلك نسبة الى مقام أو (المسجد) في مدينة الحلة ضمن محلة جبران وسط السوق الكبير، وتعظمه الشيعة الإمامية ويطلق عليه (الغيبة) ويعتقد العامة بنسبته إلى غيبة الإمام المهدي بن الحسن العسكري u سنة (264هـ/878م) ، (7) والثابت ان السلطة البويهية اهتمت بهذا المكان قبل تمصير الحلة0(8)
جاء أول ذكر للمقام وفق الوثائق المعتمدة في مخطوطة بخط الشيخ علي بن فضل الهيكلي الحلي ذكر فيها حوادث 636هـ/ 1237م ، فقال: (( فيها عمر الشيخ الفقيه نجيب الدين محمد بن جعفر بن هبة الله بن نما  الحلي بيوت الدرس إلى جانب المشهد المنسوب إلى صاحب الزمان u بالحلة السيفية واسكنها جماعة من الفقهاء))(9) .
وبجانب القبة منارة عالية ، وعند زيارة الرحالة (كارستن نيبور) الحلة سنة1179هـ/1765م لم يشاهد غير منارة واحدة في المدينة ، وقال:(( على كثرة جوامع المدينة لكنني لم أشاهد غير منارة واحدة))(10) ، والمقصود بهذه المنارة هي منارة مقام صاحب الزمان التي بنيت زمن حكم الدولة الايلخانية وقد كتب حولها أسماء الأئمة الأثني عشر ولم ترفع هذه الأسماء إلا سنة 1375هـ/1975م ، حينما اجريت صيانة على عموم جامع الدولة الذي هو بالأساس جزء من مسجد الغيبة(11)0
وتحدث ابن بطوطة (ت779هـ/ 1377م) عن هذا المسجد في رحلته وأساء في وصفه ـ فهو يقول: (( بمقربة من السوق الأعظم كان مسجد علي ويسمونه (مشهد صاحب الزمان) وكان أهل الحلة يحملون السيوف ويضربون الطبول والأنقار والبوقات في حضرة هذا المكان بعد أن يسرجوا بغلة ، ويقولوا: كثر الظلم وشاع الفساد عجل بخروجك ليفرق الله بين الحق والباطل))(12) 0
كانت مساحة المدرسة تمتد من تحت القبة الى حافة شط الحلة وبدأ تفتيت المكان في عهد والي بغداد مدحت باشا (1869-1971م) وبتوصية من ادارة الدولة العثمانية ، فاقتطعت منه أجزاء على مراحل استخدمت لأغراض تجارية ، ولم يبق منها شيء سوى الجامع الكبير الذي هو بالأساس مسجد مقام صاحب الزمان ، أما المسجد الحالي فهو من تبرع أهالي الحلة (13) .
2- مدرسة يحيى بن سعيد الهذلي (ت689هـ/1290م)
     تقع هذه المدرسة ضمن محلة الطاق ويطلق عليها حالياً مسجد أو مرقد (العلماء الأربعة ) ، وقال الشيخ حرز الدين : ((يحيى بن سعيد الهذلي دفن في داره ، إلى جنب مدرستهِ الدينية ، ويؤيد ذلك تلك الغرف المستديرة الموجودة حول المرقد))(14) ، وقد شاهدها وتجول فيها قبل تهديمها 0
الشيخ يحيى بن سعيد هو سبط الشيخ ابن إدريس(15) ولم يدرك جده لأمه فقد ولد في الكوفة سنة 601هـ/1204م ، وهو جد (المحقق الحلي) لأبيه(16) ، وقد أجمع على فضله ومكانته  أهل السنة والشيعة ، فقد ذكره السيوطي وقال : (( لغوي أديب ـ حافظ للأحاديث ، بصير باللغة والأدب من كبار الرافضة))0(17) ودفن في مدرسته،(18) وأدرك المعمرون أن هذا المكان مقبرة ملحق بها مكان لتغسيل الموتى يدفن بها الأطفال ويطلق عليها مقبرة (آل مرعيد) وتوقف الدفن في أواسط القرن الماضي(19) ، وعندما نظمت سجلات الطابو في العهد العثماني سجلت المقبرة التي مساحتها بحدود(750) م2 بآسم العلامة يحيى بن سعيد ، وأضافت إليها دائرة الأوقاف سنة 1996م بعد مراجعات استغرقت سنين طويلة مساحةً تقدر بـ (1300) م2 تعويضاً عن مسجد(الكلش) و (الحسينية الكبيرة) ، لتصبح المساحة الكلية بحدود دونم كامل(20).
    أثناء عملية توسيع شارع الإمام علي (u) (الجادة) سنة 1976م هدمت القبة التي كانت موجودة على هذه المبنى وتراكمت الأنقاض  والأوساخ على المراقد واستمرت المخاطبات الرسمية بين مديرية بلدية الحلة ودائرة الأوقاف مدة عشرين سنة إلى أن خصصت القطعة المرقمة 9/1 طاق لتكون عوضاً عما سُلخ من أرض المدرسة(21) ، وسمي المكان (العلماء الأربعة) وهي تسمية حديثة نسبة للمراقد التي عثر عليها .
أ‌-       المدرسة الزينبية في محلة جبران
وردت تسميتها بالمدرسة ( الزعنية )(22) ، ومرة (الزينبية)(23) ، ويحيلها البعض الى أنها تسميات لمدرسة واحدة تلك التي أدركها المعمرون في مكانها الواقعة بداية سوق الهرج وسط مدينة الحلة مقابل مدرسة صاحب الزمان(24)، ومشهور تسميتها (الزينبية)(25) 0
 ونسبها البعض إلى زينب بنت الإمام علي(عليهما السلام) (26) ، وهذا موضع شك ، ونسبتها بعض المصادر الى زينب بنت اليوسفي الآبي صاحب كتاب (كشف الرموز)(ت699هـ/1300م) ،لأن المدرسة وكما ادركه المعمرون كان في مدخلها ثلاثة مراقد نقضت جميها سنة 1975م ، والمراقد هي : (27)
-         الأول الى الشيخ محمود الحمصي (ت600هـ).
-         الثاني الى الشيخ نصير الدين الكاشاني (ت755هـ).
-         الثالث الى سيدة هي زينب بنت اليوسفي الآبي صاحب كتاب (كشف الرموز).
 ونحن نميل الى الراي الثاني ، وبقيت عمارتها قائمة ، إذ يذكر ان الإدارة العثمانية افتتحت سنة 1289هـ/1872م  في عهد حاكم الحلة رؤوف باشا (المدرسة الرشدية) في البناية التي تعود للمدرسة وجعلتها من إنشاءات الإدارة العثمانية(28) وقد أدرك المعمرون قسماً من عمارتها0(29)
وتؤكد مخطوطة عطية بن غنام بن علي بن يوسف الأسدي المعروفة بـ: كتاب (مجالس الصدوق) وهي من أمالي الشيخ الصدوق، وجود المدرسة الزينبية فيقول الشيخ عطية: (( فرغ من كتابته بتوفيق الله سبحانه وتعالى وبمعونته العبد الفقير المحتاج إلى رحمة ربه الكريم عطية بن غنام علي بن بن يوسف الأسدي ، وذلك ليلة الاثنين سلخ شهر ذي القعدة الحرام لسنة ثلاث عشرة وتسعمائة في المدرسة الزينبية بالحلة السيفية والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم))0(30)
وكتب الشيخ خضر بن محمد الحبلرودي كتابه : (التحقيق المبين في شرح نهج المسترشدين ) ، فقال: ((مقدم تسويد هذا الشرح بعون الله وتسديده ومزيد توفيقه وتأييده قبيل الصبح من ليلة الأحد الثالث من ذي القعدة بالمدرسة الزينبية الرافعة لجاه المقام [المهدى] للخلف الصالح القائم المنتظر حجة الله على عباده ورحمته في بلاده مولانا سيدنا صاحب الزمان عجل الله فرجه وخصه بأفضل المعونة والرضوان بمحروسة الحلة السيفية معدن أولي الفضائل والإيمان حرسها الله تعالى عن النوائب والحدثان ودفع الله عن ساكنيها جميع النوائب والإذاء بحق محمد المصطفى وعترتهِ الأوصياء من سنة ثمان وعشرين وتسعمائة هجرية ووقع الفراغ من كتابته نهار الثلاثاء المبارك ثامن عشر جمادى الأول سنة خمس وأربعين بعد الألف من الهجرة النبوية المصطفوية المحمدية بمنهِ وحسن التوفيق))(31)0
وذكر الأفندي انه قد رأى في قرية (الفارة) في منطقة الأحساء بعض مؤلفات ابن أبي جمهور الأحسائي وقد كتب عليها: ((كتبت في العراق في الحلة السيفية في المدرسة الزينبية المجاورة لمقام صاحب الزمان في شهر صفر سنة [883هـ/1478م]))(32) ،
وهذا يؤكد ان المدرسة الزينبية مكانها يقع مقابل مدرسة صاحب الزمان يفصل بينهما سوق الحلة الكبير (سوق الهرج الحالي).
كذلك زارها وحط رحاله فيها الرحالة مصطفى الصديقي الدمشقي عند زيارته الحلة سنة 1139هـ/1726م0 أيام حكم يوسف بيك أحد أفراد أسرة آل عبد الجليل بيك(33).
ووصف المعمرون الذين أدركوا بقايا أطلال تلك المدرسة بأنها كانت قائمة حتى عشرينيات القرن العشرين ، وكامل البناء كان مشيداً بالطابوق ومسقفاً بطريقة (العكادة) الهرمية ، واستغلتها الإدارة العثمانية وأسست فيها (المدرسة الرشدية) نهاية القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي، ثم انتقلت اليها أول مدرسة رسمية في الحكم الوطني التي أُسست سنة 1336هـ/1918م (المدرسة الشرقية) سنة 1339هـ/1921م ، ثم أُهملت وتحولت إلى خربة0(34)
بعدها تحولت إلى علوة لبيع الخضروات منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية الخمسينيات من القرن الرابع عشر الهجري/العشرين الميلادي ، وقريب من المدخل قبور لثلاثة رجال درست جميعها، ولم يبق شيء يذكر من أطلال تلك المدرسة0(35)
 وكانت المدرسة مؤلفة من ثلاثة أقسام: (36)
1-    القسم الأول: القريب من محلة السنية خان (الحشاشة) ، ويستعمل لرباط الخيل والحمير وتحول لاحقاً مقراً للجند أو بما يطلق عليه (حامية الحلة) , وقال الشيخ كركوش : ((ان الجنود الموالين للوالي داود باشا تحصنوا في خان الحشاشة سنة 1240هـ/1824م ، وقد ثار أهالي الحلة عليهم بقيادة مرزوق آغا وحاصروهم وشددوا الخناق عليهم ، واقتحموا الخان وحرقوا بابه))(37) ، ثم استخدم المكان قبل نقضه مخزناً لآليات البلدية (كراج البلدية)، وتحول الى سوق لبيع (الخردة) 0
2-   القسم الثاني : هو مكان مبيت الطلبة ، ومكون من غرف بنيت بالطابوق وتطل على ساحة واسعة كبيرة تتوسطها دكة للجلوس وبجانبها بئر وبجانب البئر حوض للماء 0
3-   القسم الثالث : وهو القسم المطل بابه على سوق الهرج هو عبارة عن قاعات للدرس مؤلفه من عدد من الغرف هي كذلك مبنية بالطابوق، تطل على ساحة تتوسطها دكة مرتفعة عن الأرض 0
وبحسب ما وصف لنا كان القسم الثاني من المدرسة بما يشبه الأقسام الداخلية في أيامنا هذه، وما هو معمول به في بقية مدارس العلوم الدينية ، فهذا المكان مخصص للطلبة الوافدين من أماكن بعيدة ، فالطعام مؤمن فيه يوفر عن طريق القائم على المدرسة ، فضلاً عن زيت الإنارة ، ولوازم التدفئة في الشتاء وذلك بتوفير كمية من الحطب ، وتُوكل تلك المهام إلى متعهدين مهمتهم توفير اللوازم الضرورية0(38)
4-   المدرسة الزينية في محلة الجامعين
أشرنا في بداية البحث عن المدارس التي ازدهرت بها الحلة أيام تفوقها العلمي ، ووفق هذه الكتابات فقد خلط البعض بين المدرسة )الزينبية( والمدرسة )الزينية(، ويسّوغ ذلك إلى التصحيف الذي ولد هذا الأرباك ، لكن الحال هو أن هناك مدرستين ، الأولى هي : المدرسة (الزينبية) التي موقعها بداية سوق الهرج الحالي وتكلمنا عنها في البحث أعلاه ، وهي تقابل مدرسة مقام صاحب الزمان u ، والثانية صاحبة البحث (الزينية) 0
والمدرسة الزينية موقعها ضمن محلة الجامعين ، ووجدت وقفيتها باسم - المدرسة النبوية: وكانت عمارتها قائمة في العام1178هـ/1763م، ومسجلة في سجلات الطابو بأنها ملك وقفي(39) ، وموقعها في حارة (العنيبية) ضمن محلة الجامعين ، وبقي منها مسجد يطلق عليه مسجد (ابو الدرجات) أو (مسجد محمد الباقر(ع))،وهي مجاور لمرقد العلامة علاء الدين الشافيني(ق9هـ)، ويذكر البعض ان تسميتها نسبة الى زين الدين علي بن الحسن بن الخازن الحائري ، الذي كان معاصراً لنظام الدين علي بن محمد بن عبد الحميد النيلي ، وبهاء الدين علي بن عبد الكريم النيلي ، والمقداد بن عبد اللَّه السيوري الحلَّي ، وجلال الدين عبد اللَّه بن شرف شاه ، وضياء الدين علي بن الشهيد الأول محمّد بن مكي العاملي ، فقد درّس بالمدرسة الزينية بالحلَّة ، والتفّ حوله الطلبة ، وجمع الجوابات على ترتيب كتب الفقه من الطهارة إلى الديات 0(40)
فقد ورد ان الشيخ أحمد بن محمد الشريف الديلمي نسخ سنة 885هـ/ 1480م في المدرسة الزينية كتاب (قواعد الأحكام) للعلامة الحلي وفي نهايته كتب : ((فرغ من كتابتهِ العبد الفقير الى الله اللطيف أحمد بن محمد الشريف الديلمي يوم الثامن عشر رجب المرحب سنة 885هـ/1480م بــ :[المدرسة الزينية] بالحلة السيفية ، والحمد لله على الابتداء والإتمام ـ والصلاة على نبيه النبيه وآله الكرام ما كررت الليالي والأيام وسلم تسليماً كثيراً دائماً ابدا))(41)0
وخلاصة القول ان المدرسة الزينية كانت مكاناً للدرس في الحلة ، وهي غير المدرسة الزينبية ، وكان من أساتذتها محمد بن نفيع، فقد ذكر صاحب الطبقات: " محمد بن نفيع الحلَّي عضد الدين الحلَّي كان حياً سنة ( 839 هـ/1435م ) ، كان من علماء المدرسة الزينية بالحلَّة ، و كانت بين ابن نفيع وبين المتكلم الفقيه خضر الحَبْلَرُودي(42) صداقة تامة ومودّة أكيدة ، فحضر الأخير سنة 839هـ/1435م وقد حثّه ابن نفيع على نقض كتاب يوسف بن مخزوم الواسطي الأعور في الردّ على الشيعة وإنكار فضائل آل الرسول (ص) ، فاستجاب له الحبلرودي ، وألف كتاب « التوضيح الأنور » ، في المدرسة الزينية في الحلة ، وصف فيه صديقه بأوصاف ، منها: "العالم الورع التقي الذكي الألمعي ، نتيجة العلماء المجتهدين" (43).
وقال الحبلرودي (44) : ((إني لما عزمت على زيارة الأربعين في سنة 839هـ/1437م ووصلت إلى المدرسة الزينية مجمع العلماء والفضلاء بالحلة السيفية الفيحاء معدن الأتقياء والصلحاء ، أراني أعز الإخوان علي وأتمهم في المودة والإخلاص لدي المستغني عن أطناب الألقاب بفضله المتين،  محمد بن محمد بن نفيع عضد الملة والدين أدام الله إشراق شمس وجوده وأغناه وإيانا عما سواه بجوده رسالة مشحونة بأنواع الشبه والرد على طريقة الأبرار ، مرقومة بالأساطير والأباطيل لواسطي أعور أعمى القلب ينكر فضائل آل الرسول ويبطلها بالتغيير والقلب)).وكتب في نهاية نسخة عدة الداعي ، بما نصه : (( مكتوب في المدرسة الزينية بالحلة سنة 813هـ/1410م )) .(45)
ومن المعروف اشتراك ابن فهد الحلي  مع " ابن فهد " الأحسائي ، في التسمية ، وقد عاصر كل منهما الآخر في مدينة واحدة (الحلة) ، وبقي الأحسائي بعد وفاة الأسدي الحلي ، وتوفي في الحلة السيفية وله في الحلة ضمن محلة الطاق قبر ومزار عامر ، والأحسائي هو مؤلف كتاب: (خلاصة التنقيح) ، ومن الغريب أن لكل منهما شرحاً على كتاب (إرشاد الأذهان) للعلامة الحلي (46).
خامساً - تراجم العلماء والمرجع الديني الأخير في الحلة
لم يقدم لنا الباحث شيئاً جديداً حول تراجم العلماء في الحلة ، فتراجمهم ملأت العديد من الدورات فهي متوفرة في: (الخريدة) للعماد الأصفهاني و(رياض العلماء) للأفندي ,و(روضات الجنات) للخوانساري و(طبقات الفقهاء) لأغا بزرك ، و(أعيان الشيعة) للسيد العاملي ، و(موسوعة طبقات الفقهاء)، للشيخ سبحاني ، وغيرها الكثير.
 ومنها جاءت كتب المؤلفين الحليين: (فقهاء الفيحاء) للسيد هادي كمال الدين و(الجزء الثاني من تاريخ الحلة ) للشيخ كركوش و(موسوعة أعلام الحلة) للدكتور سعد الحداد و(مائة عالم وعالم) للشيخ مكاوي و(حلة بابل ثلاثة أجزاء) للدكتور المرزوك ، و(اساتذة وطلبة حوزة الحلة العلمية أيام ازدهارها الفكري562-951هـ) للدكتور عبد الرضا عوض ، ولو اردنا مناقشة ما ورد في التراجم لطال الحديث فقد ابتسر السيد وتوت علماء الحلة ولم يتمكن من تغطية بقيتهم ، وهنا لا بد لنا أن نشير الى بعض الهنات كأنموذج لما حصل:
أ‌-      أورد المؤلف ترجمة للسيد علي بن طاووس (ت664هـ) وعدد مؤلفاته معتمداً على كتاب (أنيس النفوس) للشيخ الآركاني ونقل (64) مصنفاً في حين انها (71) مصنفاً كما جاء في كتاب (مكتبة آل طاووس، علي عبد الرضا عوض). ومثل ذلك حدث لبقية تراجم العلماء
ب‌-  جاء في ص 90 ذكر مدينة كاشان وذكر الفيلسوف علي الحلي ، ترى من هو الفيلسوف الحلي ؟؟؟.
ت‌-  انهى السيد وتوت تراجم العلماء الذين بلغ عددهم (216) عالماً بترجمة للسيد نعمة الله الحلي (ت940هـ) الذي كان شريكاً في صدارة الدولة الصفوية في عهد طهماسب ، واشار اشارة عابرة الى أهم مرجع ديني آنذاك وقبره ما زال مزاراً في محلة جبران آلا وهو الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي (ت951هـ) ضمن ترجمة السيد نعمة الله الحلي الذي ندد بالفتاوي التي أصدرها الشيخ علي الكركي (ت940هـ)المؤيدة لسياسة الدولة الصفوية آنذاك ، ولا أعرف لماذا أهمل سيرته الأساتذة (المؤلف والمحقق) وشاهد قبره ما زال يحاكي الزمن في الحلة.
بما لا يقبل الشك ولا النقاش أن المرجعية الدينية في الحلة انتهت بوفاة الشيخ القطيفي والذي تولى زمام الامور بعد القطيفي هو الشيخ المحقق احمد الآردبيلي (ت993هـ) في مدينة النجف الأشرف ، وهذا أمر أجمع عليه كافة المؤرخين.(47)
 
سادساً- الخاتمة المفتوحة
ختم السيد وتوت ص477 ، بحثه هذا بذكر الأسر العلمية التي هي بالحقيقة زاوجت بين الأدب والفقه، وعدد الأسر، ولم يفلح في ترتيب الأسر حسب قدمها وفق المنهج العلمي وإنما جاء الى ذكر أسر معينة لغاية (في قلب يعقوب)!!! لم يكن لها دور في النهضة الفكرية قطعاً، وأهمل الأسر التي شكلت أساس النهضة الفكرية، منهم : (48)
-         آل خضر الجناجي ، والذين حملوا لقب (كاشف الغطاء) فيما بعد وسكنوا النجف الأشرف، ولهم مصاهرة مع آل القزويني.
-         آل الحديدي ، وهم سادة حسينيون قدموا الحلة من قرية جناجة(قناقيا).
-         آل الطريحي ، منهم الشيخ حمزة الطريحي الذي تولى الدرس الحوزوي في مقام مشهد الشمس.
-         آل تريبان العذاري ، ظهر منهم العديد من العلماء شاركوا في النهضة الفكرية ، منهم الشيخ حسين العذاري (ت1237هـ) الملقب (صاحب القنديل).
أما بعض الأسر التي ذكرها الباحث فهي حديثة العهد بالحلة..!!!
كتاب جندت له الطاقات وصرفت له المبالغ لكنه من المؤسف لا يرقى الى الطموح ولا يتناسب مع مركز بحثي تخصصي ، ويفتقد للأمانة العلمية ، لاسيما وان الذين تعاونوا على إصداره واخراجه جمع من المتخصصين ، نأمل أن تكون إصدارات المركز القادمة بمستوى الاسم الذي ينسب اليه (ابو الفضل العباس(ع))،
والحمد لله رب العالمين.
 
الهوامش والمصادر:
(1) العراق بين احتلالين ، عباس العزاوي ، المكتبة الحيدرية ، قم ، 1412هـ :2/175 ، الحلة في العهد العثماني المتأخر ، د. علي المهداوي ، دار الحكمة ، 2002:150 .
(2) الحلة في عهد الوزراء المماليك ، علي كامل حمزة ، (مخطوط):36 .
(3) معجم الأدباء ، ياقوت الحموي ، دار صادر ، بيروت :17/301 .
(4) الإمارة المزيدية ، د. عبد الجبار ناجي ، مطبعة جامعة البصرة ، 1975م: 101 .
(5) المفصل في تاريخ النجف ، أ.د. حسن الحكيم نقلاً عن مراصد الاطلاع ، ابن عبد الحق.
(6) عقدت أول محاضرة عن أماكن الدرس العلمي الحوزوي في الحلة اقامتها جمعية الرواد الثقافية في تموز 2007م وعقدت أمسية في اتحاد أدباء بابل يوم 3/1/2013م حول نفس الموضوع ، واقامت دائرة الوقف الشيعي في الحلة الندوة الأولى حول مدارس الحلة العلمية في قاعة مديرية الوقف الشيعي يوم 23 شباط 2013م ، ونقلت عبر تسع فضائيات وعلى أثرها وبسببها بدأت فكرة قيام مركز تراث الحلة وقد تبنى الفكرة منذ بدايتها السيد أحمد الصافي والسيد ليث الموسوي ، وسعت جامعة بابل الى عقد ندوة لاحقة بتاريخ 31 آذار 2013م حول مدارس الحوزة العلمية في الحلة ،وعقدت ندوة مركز تراث الحلة حول مدارس الحلة يوم 22/1/2014م على حدائق مركز تراث الحلة وقد حضر الندوة عدد كبير من أساتذة جامعة بابل والمهتمين بالتراث الحلي.
(7) بلدان الخلافة الشرقية ، كي لسترنج ،  : 98 0
(8) تاريخ الغياثي ، عبد الله بن فتح الله البغدادي الغياثي ، تحقيق د. طارق نافع الحمداني ، مطبعة أسعد ، بغداد ، 1975م :53 .
(9) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ، حسن هادي الصدر(ت1354هـ) ،شركة النشر والطباعة العراقية المحدودة ، بغداد،1370هـ/1951م:203 0
(10)                   مذكرات الرحالة الأجانب ، صلاح السعيد:68 .
(11)                   مقابلة شخصية مع السيد حسين ابو عالو .
(12)                   رحلة ابن بطوطة ، ابن بطوطة : 196 0
(13)                   أماكن أهملها التاريخ ، عبد الرضا عوض :23 0
(14)        مراقد المعارف ،محمد حرز الدين ، مطبعة سعيد بن جبير ،تحقيق :محمد حسين حرز الدين ،  قم ، 1380هـ0 : 1/ 60 0 (4)
(15)                   رياض العلماء ، عبد الله الأفندي، : 5/337 0
(16)                   النهاية ونكتها ، الشيخ الطوسي والمحقّق الحلّي :1 /112 0
(17)                   بغية الوعاة ، جلال الدين السيوطي (ت911هـ) : 2/ 331 0
(18)                   تاريخ مساجد الحلة ، عامر تاج الدين: 264 0
(19)        أدرك المعمرون ونقله عامر تاج الدين في كتابه (مساجد الحلة) بعض الذي ذكره الشيخ حرز الدين وأثناء توسيع شارع الإمام علي (u) سنة 1975م تم تجريف تلك المقبرة التي هي بالأساس مدرسة ابن سعيد الهذلي وأصبحت ضمن فضاء الشارع  ولغرض التعويض خصصت قطعة أرض بجانبها عوضاً عن تلك المقبرة، وقد سعى في ذلك الجهد المهندس سامي علي السلطان (مدير بلدية الحلة آنذاك) والسيد محمد علي النجار(نائب رئيس غرفة تجارة الحلة) وأعاد بناء القبر وقاعة المدرسة المحسن هادي الصاحب النعيمي على نفقته الخاصة سنة 2004م 0 ( عبد الرضا عوض ، أوراق حلية من الزمن الصعب : 183)0
(20)                   أوراق حلية من الزمن الصعب في القرن العشرين ، عبد الرضا عوض : 202 0
(21)                   تاريخ مساجد الحلة ،عامر تاج الدين ،:263-267 0
(22)                   أعيان الشيعة ، محسن الأمين ،: 3/ 147 0
(23)                   المهذب البارع ، جمال الدين بن فهد الحلي ،  :1/12 0
(24)        المدرسة الزينبية في الحلة ، أ.د. محمد كريم إبراهيم الشمري ، مجلة أوراق فراتية ، العدد الثاني ـ السنة الأولى،1431هـ/2010م:9-15 0
(25)                   المصدر نفسه:11 .
(26)                   تاريخ مقام الإمام المهدي ،أحمد علي مجيد الحلي ،: 176 0
(27)        مقابلة شخصية مع الحاج عباس سعيد عوض ، الحاج جواد جابك ، وقد شاهد الجميع تلك المراقد ومراحل ازالتها.
(28)                   مدارس الحلة الدينية، عقيل الجنابي ، جريدة الجنائن العدد/46،5/ أيار لسنة 2001م 0
(29)        أُغلقت هذه المدرسة بعد وفاة الشيخ إبراهيم القطيفي سنة 951 ولم يدرس بها بعد هذا التاريخ بل أصبحت خاناً يأوي من ليس لديه سكن ، ثم شكلت فيها المدرسة الرشدية ، ثم علوة لبيع الخضروات ، وقد أدركها المعمرون الى ان نقضت تماماً سنة 1930م  0 (السيد محمد علي النجار ، المقابلة السابقة)0
(30)                   ينظر : الصفحة الاخيرة من مخطوطة عطية بن غنام الأسدي(أمالي الصدوق) سنة 913هـ.
(31)        ينظر : الصفحة الاخيرة من مخطوطة الشيخ الحبلرودي(التحقيق المبين في شرح نهج المسترشدين) كتبها في مدرسة صاحب الزمان 0
(32)                   الفوائد الطريفة ، عبد الله الأفندي :210 ؛ محمد كريم إبراهيم الشمري، المدرسة الزينبية:9 0
(33)                   الرحلة العراقية ، مصطفى الصديقي الدمشقي(ت1162هـ) :113 0
(34)                    محمد علي النجار ، المقابلة السابقة 0
(35)                   جواد جاسم جابك ، المقابلة السابقة ،بتاريخ 23 /3 /2002م0
(36)                   الحوزة العلمية في الحلة ، نشأتها وانكماشها 562-951هـ.
(37)                   تاريخ الحلة ، يوسف كركوش :1/137 0
(38)                   محمد علي النجار ، المقابلة السابقة 0
(39)                   مدارس الحلة العلمية ، عقيل الجنابي ،  جريدة الجنائن العدد/46 -5/ أيار، 2001م 0
(40)                   موسوعة طبقات الفقهاء ، اللجنة العلمية:9/267 0
(41)        ينظر: الصفحة الأخيرة من مخطوطة الشيخ أحمد بن محمد الشريف الديلمي كتبها في المدرسة الزينية سنة 885هـ .
(42)        الحَبْلَرُودي، نسبة إلى قرية (حبلرود) ، وهي قرية كبيرة معروفة من أعمال إيران بلاد مازندران (الحر العاملي، أمل الآمل:2/110)0
(43)                   موسوعة طبقات الفقهاء ، اللجنة العلمية : 9/ 267 0
(44)                   أعيان الشيعة ،محسن الأمين: 6/223 0
(45)                   موسوعة طبقات الفقهاء ، جعفر سبحاني :2/11 .
(46)                   مجلة معهد المخطوطات العربية : ع3 / 152 0
(47)                   مجلة آفاق نجفية، ع2، السنة الاولى،2006م، محمد بحر العلوم:95 .
(48)                 ينظر كتاب الحوزة العلمية في الحلة نشأتها وانكماشها:492 .


218
صورة من صور التدني الفكري بجامعاتنا العراقية
موسوعة الحلة الحضارية (المحور الشعري) انموذجاً...
د. عبد الرضا عوض
صدر في مطلع عام 2017م عن مركز الدراسات الحضارية والتاريخية في جامعة بابل وضمن موسوعة الحلة الحضارية التي بدأ عملها سنة 2009م كتاب يحمل عنوان (المحور الشعري) ، يقع الكتاب في (625) صفحة من الحجم المتوسط (الوزيري) وطبع في مكتبة الرياحين بالحلة ، الكتاب يحتوي على تراجم لشعراء الحلة منذ تأسيسها ، قدم له (دراسة وتقديم) جمع من أساتذة الأدب ، وتولى تحرير الكتاب منفرداً مدرس لغة عربية بالتعليم المهني (اعدادية الحرية المهنية المسائية).!!! ومنح نفسه لقباً (محرر الموسوعة)!!.
 ومن اللافت للنظر أن هذا الكتاب الذي صدر عن أكبر مؤسسة علمية ثقافية أكاديمية في محافظة بابل ، أثار ضجة ، وفتنة ، وجدلاً كثيراً، داخل مدينة الحلة وخارجها وصلت أصداؤها حرم جامعة بابل لتنتقل الى مدن وبلدان أخرى ، فقد عملت شبكات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) على نشرها في مختلف صفحاتها الفردية والجماعية.
  ويعتقد الكثير ممن يعمل داخل سور الجامعة أن ما يصدر عن الجامعة((مقدس لا يمسه العطب)) ، لكن خيبة المجتمع الحلي بنتاج كهذا وصحوته أثارت زوبعة عارمة ، جعلت ممن يعد نفسه قامة أدبية قزماً يستجدي التسوية والمراضاة في المجالس الثقافية الحلية ، كما حدث لهيأة تحرير الموسوعة في لقائها بالسيد حسا الشلاه في مجلسه يوم الجمعة 27/1 للبحث عن مخرج للكارثة فطرح مشروع اصدار الجزء الثاني (جبراً للخواطر)، وهذا بحد ذاته نكتة مضحكة ، فالاحتجاج كان ومازال منصباً على ما صدر ، وليس على ما سيصدر لاحقاً ..!!.
 ومجمل القول أن الضجة عارمة ونتائجها مستقبلية تاريخية سيبقى أوراها ملتهبا لسنين طويلة وستكون مثلاً سيئاً يضرب به للأعمال الركيكة التي صدرت باسم مؤسسة أكاديمية عرفت بتميّزها بنظام الجودة العالمي ، وقبل أن ندخل في متن الكتاب لا بدَّ لنا أن نشير الى أن تاريخ الشعر والشعراء في الحلة  منذ أن مصّرت وليومنا هذا توغل في كتابته وبحث جهد شعرائها أدباء ومؤلفون ، كالآتي:
1-   العماد الأصفهاني (ت597هـ) حينما أفرد جزءاً خاصاً بشعراء الحلة ، في (خريدة العصر وجريدة القصر).
2-   كمال الدين بن الفوطي (ت 723هـ) ، حينما ترجم لعدد من ادباء وعلماء وشعراء الحلة في (مجمع الآداب).
3-   السيد علي المدني (ق11) ضمن كتابه المتفرد ( سلافة العصر) يضم جملة من شعراء الحلة .
4-   علي عوض الحلي (ت1325هـ) كتب تراجم بعض علماء الحلة حققه وأصدره المحقق حيدر عبد الرسول عوض .
5-   محمد علي اليعقوبي (الشيخ) (ت1965هـ) حينما بذل جهداً في جمع التراث البابلي وسماه (البابليات)بأربعة أجزاء.
6-   علي الخاقاني عندما أصدر (شعراء الحلة )في خمسة أجزاء.
7-   السيد هادي كمال الدين (ت1986م) وقد أصدر (فقهاء الفيحاء)بجزئين الجزء الأول سنة 1962، والثاني صدر بعد وفاته.
8-   يوسف كركوش (ت1991م) وقد ضمن كتابه الذي صدر سنة 1965م (تاريخ الحلة) الحياة الفكرية.
9-   عبد الرضا عوض وقد أصدر سنة 2004م (شعراء الحلة السيفية أيام الإمارة المزيدية وما بعدها) ، ثم (أدباء بابل وكتابها المعاصرون ) في أربعة أجزاء.
10-                      صباح نوري المرزوك ، أصدر كتاب (تكملة البابليات) بثلاثة أجزاء سنة 2006م.
11-                      حازم سليمان الحلي ، أصدر (الحلة وأثرها العلمي والأدبي) سنة 2009م.
12-                      سعد الحداد ، أصدر ( موسوعة أعلام الحلة ) 2001م و(أنطولوجيا الشعر البابلي) و (الحسين في الشعر الحلي)2007م و( شعراء بابل في نصف قرن ) والاخير طبعه المركز الذي صدر عنه ( المحور الشعري ) في جامعة بابل 2011م.
     وهناك كتابات توزعت في بطون الكتب عن شعراء الحلة ، مثل (أدب الطف)  و(أعيان الشيعة) و( الطليعة من شعراء الشيعة ) ، وغيرها التي  نهلت من المصادر اعلاه .
  إن هؤلاء هم الذين أرخوا للمشهد الشعري في بابل ، تسعة منهم موتى وثلاثة أحياء. وهذه المرة جاء الخلل وساعد على السرقة من داخل جامعة بابل حينما عهدت الى شخص لديه عُقَدٌ كثيرة فهو المتمرس بالتزوير والانتحال عهد اليه تحرير المحور الأدبي لموسوعة الحلة الحضارية وكأنَّ (الجامعة) خليت من الطاقات الأدبية والشعرية ، فتركته يتلاعب في محتويات الكتاب ، يبعِّد القريب ، ويقرّب البعيد ، وعلى هواه دون مراقب أو متابع وهو المعروف باستغلاله للفرص والنيل من الآخرين حتى ولو كانوا محسنين معه !، في حين أن هناك أكثر من أستاذ جامعي يعمل في هذا المركز وفي اختصاص الأدب والشعر تحديداً ، لكن من المؤسف أن اعمال عباس الجراخ لم يتصدَ لها أحد ليكشف الغبار عن هناتها وسقطاتها لأن ذلك من شأن المحققين ، والذي جلب انتباهنا هو استبعاد الاعمال المحققة لدواوين ونتاج الشعراء ، فقد تجاهل بلؤم الخبيث هذه المنجزات، وكان على محرر الموسوعة الاشارة اليها، ومن تلك الأعمال الآتية:
-         (أدباء حليون) وهو للمرحوم جواد أحمد علوش حققه وعلق عليه المرحوم صباح المرزوك وصدر عن مركز الدراسات الحضارية والتاريخية في جامعة بابل سنة 2011م ، واكتفى المحرر بالإشارة الى الطبعة الأولى لسنة 1957م كي لا يحسب ترجمة جواد علوش للمرزوك ثم لينتحل المحرر تراجم الشعراء:
-         محمد السنبسي ، راجح الحلي ، صفي الدين الحلي ، شميم الحلي ، أحمد النحوي
حيدر الحلي ، رؤوف جبوري ، وغيرهم.
وكان المفترض ان لا يغير الجراخ على تراجم هؤلاء الشعراء لأنهم والحق يمنحون الى المرزوك كونه حقق عمل المرحوم الدكتور جواد علوش.
-         (السِّفر المطيَّب في تاريخ مدينة المسيب) وهو للمرحوم الشيخ علي القسام ، حققه وعلق عليه الأستاذ جواد عبد الكاظم محسن وصدر سنة 2013م ، اعتمد المحرر على الطبعة الأولى كي يمنح ترجمة القسام الى الغير دون امانة علمية.
أصدر حيدر عبد الرسول عوض مجموعة من دراسات ودواوين شعراء ، هي:
-         (عباس الزيوري حياته وشعره) صدر الكتاب عن العتبة العباسية المقدسة .و(شعر الشيخ علي عوض الحلي) ،و(تراجم شعراء الحلة) للشيخ علي عوض الحلي ،هذه الأعمال جمعها وحققها الأستاذ حيدر عبد الرسول عوض.
-         (شعر علي المطيري (ابن نبعة))
لكن الجراخ كعادته تجاهل عن عمد هذا النتاج العلمي ليسند تراجم هؤلاء الشعراء الى نفسه.
-         انجز الدكتور سعد الحداد (جمعاً وتحقيقاً) دواوين شعرية لكل من :
أ‌-      الخليعي
ب‌-  السيد صالح الحلي
ت‌-  محمد بن السمين الحلي
ث‌-  مطر الشلاه
ج‌-   الشيخ محمد آل حيدر
ح‌-   السيد رحيم العميدي
وكان من المفترض أن تكون تراجم هؤلاء الشعراء من حصة سعد الحداد كونه الأولى بهم لأنه درس حياتهم وشعرهم وفيها تصحيحات مهمة على من سبقه ممن كتب عنهم  ، وكون الحداد  ضمن الأمر الجامعي المكلف بتحرير الموسوعة المرقم 1959 في 19/1/2012م ، لكن عباس الجراخ وبحجة سخيفة استبعده وكال بمكيالين ، فقد أدخل شخص آخر ضمن المكلفين بتراجم للشعراء في الموسوعة وضمن الأمر الجامعي نفسه يحمل الصفات نفسها..!!، من ذلك يتبين عدم أمانة عباس الجراخ فيما أقدم عليه.
ونعيد القول :
1-   ماذا يعني ان تستعين الجامعة بسارق متمرس مثل شخصية الدكتور عباس الجراخ وهو البعيد كل البعد عن تراجم الشعراء وسيرهم ، فالجراخ كما هو معروف للجميع ابدع في انتحال اعمال المحققين حتى أضحى محققاً بأعمال الغير، وما كتاب (الإيغال في الإنتحال) للمحقق هلال ناجي الذي صدر سنة 2009م إلا شاهد على ما ذهبنا إليه.
2-   ما دور المركز ادارة وموظفين في اخراج هذا الكتاب الذي اسيء به الى سمعة الجامعة العلمية ، المشهود لأساتذتها في المحافل العلمية من الدقة والامانة ، ثم أليس من المفروض أن يعرض النتاج على لجنة تدقيقية علمية لتدقق وتراجع المنجز قبل اخراجه الى النور؟ .
ومن قراءتنا الأولية ، نقول:
أ‌-      يقول عباس الجراخ في رده على ما نشر على صفحات التواصل الاجتماعي ((كان مقرراً ان تتوقف الموسوعة لغاية عام 1968م وفق توجيهات رئيس المحور الدكتور أسعد النجار كون شعراء تلك المرحلة لهم توصيف خاص (بعثيون) أو تغنوا بالبعث ، لكنني مددتها الى عام 1980م كي تنشر للمرزوك ثلاث تراجم )). هنا يتبين ان الجراخ متفضل في هذا الأمر على المرزوك!! ، ولم يلتفت الى نفسه أنه سرق جهد المرزوك وجهد الآخرين ، ترى من اعطى تلك الصلاحية له في تقليص وتمديد المشهد الشعري البابلي، والأمر الجامعي المرقم14519 في 8/7/2009م يقول ما نصه :(تقرر تشكيل لجنة من السادة المدرجة أسماؤهم أدناه تعمل على اعداد مفردات موسوعة الحلة الحضارية التي تخص محور الشعر في الحلة منذ تأسيسها ولحد وقتنا الحاضر) ، وتشكلت اللجنة من : الدكتور اسعد النجار رئيساً ، والدكتور صباح نوري المرزوك عضواً ، والدكتور فارس عزيز مسلم عضواً).ترى من اعطى الجراخ تلك الصلاحية التي اوقفت المشهد الأدبي حسب رغبته الى سنة 1980م ، ومن أسند اليه مهمة تحرير الموسوعة؟؟.
ب‌-  لقد بدأ محرر الموسوعة بالشاعر الحسين بن الحجاج النيلي (ت391هـ) الذي اشتهر بقصيدته (يا صاحب القبة البيضاء....).، وهذا الرجل عاش ومات قبل أن يشهد قيام الإمارة المزيدية في النيل وقبل أن تمصّر الحلة سنة 495هـ بقرن من الزمان تقريباً.ص46 ، والأمر ينطبق على الشاعر سعيد النيلي (ت420هـ) ، فقد عاش ومات في النيل.ص49 ، وهذا الشاعر يُعد من شعراء الإمارة المزيدية في النيل وقد أغار عباس الجراخ على كتاب (شعراء الحلة السيفية أيام الإمارة المزيدية وما بعدها) ليمنح ترجمته الى رئيس المحور ، ص49 .
ت‌-  كذلك جعل المحرر دبيس بن علي (ت474هـ) ، وجعل محرر الموسوعة العلمية وفاة دبيس بن علي سنة 104م أي ارجعه الى قبل الميلاد، ونقول : اين لجنة التدقيق العلمي في المركز من ذلك ، ص50 .
ث‌-  كذلك منصور بن دبيس (ت479هـ) عاش في النيل، ص54 ، فقد مات قبل تمصير الحلة سنة 495هـ.
ج‌-   وقد اختلف الأمر على محرر الموسوعة فجعل هبة الله بن علي بن نما من رجال القرن الخامس الهجري ولم يضع له تاريخ ولادة ولا وفاة ، وهو المعروف بمصنفه الشهير (المناقب المزيدية في أخبار الملوك الأسدية) الصادر في الأردن بجزئين ، تحقيق د. محمد موسى صالح درادكه ومحمد عبد القادر خريسات، ومن تتبعنا للشاعر هبة الله بن نما فهو من رجال القرن السادس الهجري وليس الخامس ، كما اشار لذلك الدكتور عبد الله السوداني في ترجمته إذ كان حياً سنة 565هـ .ترى أي دقة هذه؟، ص54 .
ح‌-   عند ترجمة محمد بن السمين (1085هـ) ص246هـ ، لم يذكر المحرر ولا سطراً واحداً عن ترجمة  هذا الشاعر لأن العزة بالآثم متولية عليه فلم يكلف نفسه بالرجوع الى ديوانه الشعري الذي اصدره د. سعد الحداد  خوفاً من الإشارة اليه كونه جمع وحقق شعر ابن السمين.
خ‌-   صدر سنة 2006م كتاب (الدرة البهية في تاريخ المدحتية) لعبد الرضا عوض وأورد ترجمة ونصوص شعرية للشاعر (حسين الخزرجي) في ص120 ، وهذا الشعر التقفه مؤلف الدرة البهية من أفواه الناس مباشرة ، وعند ترجمته للشاعر أعلاه في ص554 أظهر عباس الاحالة أسفل الترجمة على أنها من مخطوط بعنوان (أدباء المسيب) ، وبعد التحقق تبين عدم دقة محرر الموسوعة ، وتأكيداً على تصرفه الشائن لم يدرج المحرر مخطوط (أدباء المسيب) في المصادر والمراجع لكتاب الموسوعة ، ووضح السرقة جواد عبد الكاظم محسن بعد أن وصله استفسار من شخص وهمي اسمه (علي العراقي) ، هذا نصه (علي العراقي : سؤال للاستاذ جواد كاظم عبد المحسن )) وقد أورد اسمه خطأً ، فهو جواد عبد الكاظم محسن))
نريد رايك في قضية قصيدة الشاعر (حسين الخزرجي) الموجودة في موسوعة بابل الحضارية – المحور الشعري ، هل اتصل بك الدكتور عباس هاني الجراخ واعطيته القصيدة ،ولم يذكر مصدرها منك ، ام اخذها من كتاب ( الدرة البهية )؟ نريد جوابا شافيا بالأدلة ، فأجاب الأستاذ جواد بالآتي: (فيما يخص ترجمة الشاعر حسين الخزرجي (ص553) ، وذكر أن مصدره ((أدباء المسيب (خ) ؛ برسالة خاصة من مؤلفه)) من دون أن يذكر اسمي أو يورد اسم كتابي ضمن المصادر والمراجع (ص603)!! وقد ورد في هذه الترجمة أبيات من قصيدة للشاعر حسين الخزرجي كان الدكتور عبد الرضا عوض أول من نشرها في كتابه (الدرة البهية في تأريخ المدحتية – 2006 ص120) ، وكان على الجراخ أن يذكر مصدرها الأصلي ، ويكون أمينا بذلك ، وهو على معرفة واطلاع تامين بالكتاب !!
والمثير للريبة أنه أظهر عند سؤاله عن سبب ذلك رسالة جوابية مني على رسالة كان قد بعثها لي سائلا عن تكملة هذه القصيدة ، فأجبته بالحرف الواحد ((للأسف الشديد لا تتوفر هذه القصيدة عندي أو عند غيري)).
د‌-     أغار الجراخ على جهد صباح المرزوك وانتحل تراجم محمد جواد عجام ص530 ، وعبود الفلوجي ص567 معتمداً على تكملة البابليات للمرزوك فقط، نقول: لماذا لم يسجلها باسم صاحبها المرزوك؟.
ذ‌-     اضاف الجراخ شاعراً جديداً الى قائمة شعراء الحلة هو الحسن بن البناء الحلبي(ت765هـ) ولقّبه بالحلي والغريب انه اعتمد على كتاب النجوم الزاهرةج11 ،ص84 ، وعند العودة الى هذا الكتاب وجدنا مدوناً بأنه (الحلبي) ، ترى ما الدقة التي يتغنى بها محرر الموسوعة.ص208 .
ر‌-    يتبين ركاكة الموسوعة وضعفها واضحاً ، فبعض الشعراء حشد له أكثر من عشرين مصدراً كما في ص48، وبعضهم اكتفى المحرر الشهم بمصدر واحد كما في 253 ، اذن أين السياقات العلمية المتبعة في الموسوعة؟.
ز‌-    ولتوضيح أهمال متابعة الموسوعة وعدم دقتها وردت ترجمة عبد الرحمن بن العتائقي  (ت790هـ) ص213 ، ولم يذكر من ترجم له.
س‌-           الكتاب خالٍ من الفهارس المعروفة التي يُلتزم بها في نهاية كل كتاب بهذه السعة على وفق سياقات النهج العلمي التي يصرخ بها صباحاً مساءاً محرر الموسوعة، وهذا بحد ذاته يضيف ركة الى ركاكة المصنف.
ش‌-           كونها موسوعة لكنها خليت من تصنيف الأشعار وفق بحورها ، وكان من الواجب تصنيفها كي تكون مرجعاً للدارسين.
ص‌-          وردت تواريخ ولادات ووفيات الشعراء مرة بالأرقام العربية (الهندية)، وبعض منها بالارقام الإنكليزية ، والمفترض أن تكون الموسوعة بنظام واحد.
ض‌-          كان من المفترض اشراك اتحاد أدباء بابل كونه المعني بهذا الأمر ليأخذ دوره في هذا المحور لكن المحرر (ولجهله) استبعد أو أهمل كثير من الشعراء الذين صدرت لهم دواوين ودراسات خاصة ، مثل: الشاعر سودان عوض (ت1976م) ، والشاعر محمد لطيف علي ، والشاعر نور الدين بن محيي الدين الذي أعدمه عاكف سنة 1916م وقد وردت ترجمته في الروض الأزهر ، وشعراء آخرون من القصبات ، فقد كان على هيأة التحرير أن تستعين بكتابات المؤرخين في القصبات التابعة الى مركز محافظة بابل ، منهم: جواد عبد الكاظم محسن له (أدباء المسيب )(المسيب) ، كريم برهان الجنابي له (أدباء مدينتي) (الكفل) ، د. عبد العظيم الجوذري ، له (القول الحاسم في تاريخ مدينة القاسم) القاسم، وغيرها من الكتابات التي تؤرخ للمشهد الشعري بحق.
ونتيجة لتلك الضجة ، اتخذت التدابير الآتي
...

219
مستوى الطلاب في الجامعات إلى أين؟
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
نحن نسبح في بحر من الضعف والعجز والرداءة.. والمستقبل مخيف. بعد عشرين عاماً أو أقل سيكون الجيل الحالي هو الذي يحكُم ويدير شؤون البلد.. فهل يمكن تصور كيفيات التسيير بهذا المستوى المنحطّ؟
الموضوع مطروح للنقاش، بمزيد من البسط والإيضاح, والمزيد من الأمثلة المخيفة. ولكنني لا أستطيع إنهاء هذه السطور دون أن أتساءل بغضب : عن أي جامعة يتحدث مسؤولونا، في المؤسسات الجامعية، وفي الوصاية وفي الوزارة وفي الحكومة كلها؟
من الملاحظ بشكل واسع، لدى طلاب الجامعات عندنا، بالأخص في أدائهم الكتابي, ذلك العجز الفاضح الملموس في كل ما له علاقة بالكتابة؛ في مناحي الكتابة كلها؛ من الخط الرديء السيئ.. إلى التراكيب الغريبة، إلى الأخطاء الفادحة في القواعد البسيطة، وأخطاء أخرى أفدح في نِسبة الأقوال والنصوص إلى أصحابها، وعدم التمييز بين القرآن والحديث النبوي والحكم والأقوال المأثورة... إلخ.وهذا يشمل حتى ساستنا وبعض اساتذة الجامعات.
هناك أسبابٌ كثيرة ومتعددة ساعدت على شيوع واتساع هذه الظاهرة الخطيرة، وهي أسباب متشابكة ومتداخلة، يشترك فيها كثيرٌ من الأطراف المعنية بالعملية التعليمية، وفي مستويات تعليمية وتكوينية مختلفة، بدءاً من التعليم الابتدائي وانتهاء بالتعليم الجامعي، من المنهاج ، البرنامج ، الأستاذ ، التلميذ ، الطالب ، طرائق التدريس.
صدق أولا تصدق : هل يصدق أحد أن طالباً أو طالبة في الثانوية والجامعات العراقية يكتب: الفظيلة : الفضيلة . الضهر : الظهر ،الضلم : يعني الظلم . الضواهر . الظواهر .أضن : أظن . هاذه : هذه . مصرور : مسرور . آضهرت : أظهرت . إنشاء الله : إن شاء الله . عصى : عصا .الثرا : الثرى ، اللذين : الذين . أحبكي : أحبكِ.
أما الأسانذة فاغلبهم في نقاشاتهم تتخلل مواضيع ليس لها علاقة بالاختصاص والمنهجية وإنما الحوار في تغيير السيارة وتغيير الاثاث والمنحة والترفيع والعلاوة والإيفاد والسفر والمنافسة على المناصب. أو متابعة الطالبات واستفزازهن خلال المحاضرة من قبل رئيس القسم في الملبس ولون الحذاء, والبعض يطلب منهن ليس السواد والعباءة الإسلامية ومنعهن من وضع المكياج وغيرها من التوافه البعيدة عن الارتقاء بالمستوى العلمي.
أما البحوث والدراسات المقدمة من قبل بعض الأساتذة إلى الجامعة لغرض الترقية فاغلبها مسْتل من دراسات ومؤلفات الآخرين دون مراجعة أو دراسة أي (كوبي بست) لا غير. ومثال ذلك الموسوعات الأدبية والتاريخية التي تصدر عن بعض جامعات الفرات الأوسط.
.
 

220
شعراء الحلة السيفية أيام الأمارة المزيدية وما بعدها للباحث د. عبد الرضا عوض
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      إن دور المؤرخ للتاريخ المعاصر أدق وأخطر بكثير من دور المؤرخ للتاريخ الغابر, خصوصاً متى أدركنا أن كلاً من طرفي عنصر التاريخ المعاصر يرى الحقيقية من زاوية لا يرى منها الطرف الآخر, ومتى جاءت الحقيقية مجردة لخدمة التاريخ فإن أحكام الطرفين ستكون قاسية, وقاسية جداً, المهم أن الحقيقية لا تتجرأ والأهم ألا تنتقل الحقيقية إلى القارئ نتفاً من التناقضات, وقد عودنا المؤرخ عبد الرضا عوض بمصداقية نقل الحقيقية وموضوعيتها وتوثيقها في مؤلفاته من خلال التقصي عن مصداقية الخبر والمعلومة, مما اعتبره الأغلبية من الباحثين مصدر موثوق به وبمؤلفاته, يرجعه القاصي والداني في نقل المعلومة.
      المؤرخ عوض في جميع مؤلفاته يواجه المهمات الشاقة لمتابعة المعلومة والخبر ومصدرهما حتى يضع تقريره بين دفتي كتبه, وهي محاولة لتخطي الجزئيات الآنية التي يتولى كل المؤرخين والباحثين إبرازها من زاوية معينة, ولكن التاريخ أخيراً يتحقق من مصداقيته الحكيم.
      كتاب شعراء الحلة السيفية أيام الإمارة المزيدية وما بعدها, كتاب ريادي في توثيق تأريخ شعراء وأدباء الحلة السيفية المبتدئة سنة 397هـ حتى سنة 545هـ, وهو دراسة لشعراء الحلة السيفية ايام الإمارة المزيدية وما بعدها, لم يعتمد المؤرخ على منهاج من درس ذلك الموضوع بل وسع دائرة الاهتمام ليوصلها إلى العصر الحديث, فلقد درسَ نماذج أهملها الدارسون, وأشار إلى نماذج أشبعها غيره بحثاً ودرساً, فهو إذن قد اعتمد على وعيه وذائقته ومتابعاته الخاصة(1), فالحلة تلك المدينة التي احتضنت أيام تأسيسها شعراء العراق, وجلبت الحلة انتباه الكثير منهم, من شعر وشعراء الإمارة المزيدية كان منهم سبعة أمراء يجيدون قول الشعر, وقد خلدتهم أعمالهم الشعرية, فضلاً عن رئاستهم للإمارة, إضافة إلى توثيق من زار الحلة على عجالة مادحاً لأمراء الحلة المزيدية, كان من شعراء الحلة الأعلام في تلك الحقبة (الحيص بيص, حبشي السنبسي) وغيرهم. فكانت للحركة الأدبية والشعرية الدؤوبة حتى انحلال الإمارة, لكن الشعر كان له دور مهم ولم يتوقف, حيث احتضنت مدينة الحلة الحوزة العلمية زهاء ثلاثة قرون من الزمن من القرن السابع الهجري حتى القرن العاشر الهجري, فقد سلط المؤرخ عوض الضوء على بيوتات وأسر حلية قديمة كان لها الدور في مجال الشعر والأدب والثقافة, فقد ظهرت الصحيفة الأدبية في عهد متأخر وقد ظهر جيل جديد ومتجدد للحركة الأدبية في المدينة.
     أشار المؤرخ عوض في كتابه إلى خزانات الكتب الحلية وأهميتها في توعية المواطنين, فضلاً عن الدور الكبير لمجالس الأدبية أبان نشوء الإمارة المزيدية وتمصيرها, ودور الخانات التي كانت تأوي المسافرين المارين بمدينة الحلة والتي كانت تعقد فيها الجلسات الأدبية وقراءة الشعر فيها, كما أشار المؤرخ إلى دور النساخون المهمشون في نشر الثقافة والأدب والعلوم الأخرى في المدينة ودقة أمانتهم وإخلاصهم للأدب, لكن كان للشيخ محمد علي اليعقوبي الدور الكبير في توثيق سيرة الشعراء والأدباء وتوثيق قصائدهم في كتابه البابليات.
      الكتاب يعد مصدراً مهماً للمهتمين بتاريخ الحركة الأدبية في مدينة الحلة, وقد سلط المؤرخ الضوء على اغلب الأسماء الأدبية, ووثق سيرتهم الذاتية وأسرهم ونتاجاتهم الشعرية في كتابه هذا الذي ضمَّ زهاء (330) صفحة من الحجم الوزيري ذات الطباعة الراقية الجيدة الخالية من الأخطاء الطباعية والإملائية, وقد صدر الكتاب بثلاث طبعات بعد نفاذ اغلبها في الأسواق والمكتبات نتيجة طلبها من المهتمين بالأدب وتاريخ المدينة الثقافي.
      اعتمد المؤرخ عوض في كتابه على بطون الكتب لمؤرخين عايشوا وعاصروا تلك الحقبة أو قريبين منها كمصدر لمؤلفه هذا, كان من تلك المصادر ابن الجوزي والعماد الأصفهاني وابن الأثير ومحمد شاكر الكتبي وغيرهم, فقد تضمن الكتاب أربعة فصول ومدخلاً يوثيق تاريخ مدينة الحلة السيفية وما مرَّ عليها من إهمال سلطة الاحتلال من قبل الدولة العباسية والبويهية والسلاجقة, يقول المؤرخ عوض في صفحة 7 من كتابه (وبرغم ما كتب عن مدينة الحلة لم أعثر على كتاب تخصّص بدراسة شعراء الإمارة المزيدية, وما قال غيرهم بحقها), مع العلم أن المدينة احتضنت العلم والعلماء والشعر والشعراء واعتبرت الركيزة للتطور العلمي والإداري والفقهي في حقبة الإمارة المزيدية حتى بعد إسقاط الإمارة المزيدية سنة 545هـ من قبل الدولة العباسية, حيث بقيت الأسر لها مكانتها في النشاط العلمي والأدبي, وقد تطورت الحركة الأدبية والعلمية في الحلة الفيحاء من خلال اهتمام أسرَّها أمثال (آل السيوري, آل فهد, آل عوض, آل الشيخ ورام, وبني عزيزة) وغيرهم من الأسر الحلية, وهي أسر علمية حلية مسالمة حفظت هيبة المدينة من همجية هولاكو وحافظت على مجد العرب في تطور الأدب من السفاح عاكف, فكانت المدينة تمتاز بعروبتها التي صهرت ببودقتها العناصر الأجنبية من (تركية, فارسية, هندية).
      يبقى  الشعر هو الأقوى على مرّ لعصور, وهو الوثيقة المهمة التي توضح واقع المجتمع الحلي, فمهما كانت الحالة السياسية والاقتصادية غير مستقرة لكن الشعر والشعراء ينقلون لنا انطباعاً آخر عن واقع الحياة على مرّ الزمان, وقد أشار المؤرخ عوض في صفحة 56 من كتابه حول الإمارة المزيدية والشعر قال (من مزايا الأمراء لمزيديون تذوقهم الشعر وسماعهم الشعراء, لذا فقد قصدهم كثير من أرباب الأدب والشعر, مادحين إياهم, ممجدين بسلالتهم, ذاكرين مناقبهم الحميدة, إضافة إلى هذا فإن الأمراء أنفسهم قالو الشعر), وقد اشتهر شعراء تلك الحقبة بوصف الحروب التي شارك بها أمراء الحلة المزيدية ضد الدولة العباسية, وهي قصائد لا تخلوا من مدح وثناء ومحاسن وتحريض على القتال, ونخوة وإنهاض العزائم, فعوامل الاضطرار والمصلحين هي التي تتحكم فيها تيارات المجتمع المختلفة بضمنها مراكز القوة والتسلط, فيأتي المدح سلماً طلباً للعطايا.
      تعقيباً على ما ذكرنا سابقاً أشار المؤرخ عوض يقول في صفحة 57 (بهذا فقد حاولت أن أترجم للشعراء المزيديين من أوثق المصادر, وأثبت للمترجم لهم صورة قد تكون غائبة عن ذهن القارئ الكريم ليقف على أرث حضارة مدينتنا الحلة الفيحاء), مع العلم أن هؤلاء الشعراء ليسوا على نمط واحد ولا في منزلة واحدة, لكن للشيخ اليعقوبي الدور الكبير في توثيق معجم شعراء الحلة, وبجهوده أنقذ مسيرة التاريخ الأدبي للمدينة, ففي الجزء الثاني من الكتاب قسم المؤرخ عوض شعراء حقبة الإمارة المزيدية على أربعة أقسام (الأمراء, أهل النيل والحلة, أصحاب المهن, المادحون), فقد ترجم المؤرخ عوض لـ(56) شاعراً للفترة ما بين (405هـ/ 532هـ), فكانت تراجم لشعراء الإمارة أيام تكوينها, وقد جاء المؤرخ على ذكرهم حسب قدم سنيّ وفاتهم, فكان سبعة أمراء من الذين نظموا الشعر, واثنان وعشرون شاعراً من أبناء الإمارة بضمنهم اثنان من الشعراء الأكراد الجاوانيين وسبعة شعراء حضروا الحلة لمهمةٍ ما , وقد اطلع عليهم المؤرخ, ومن أصحاب المهن, ذكر المؤرخ ثلاثة عشر شاعراً حضروا الإمارة لغرض المدح والتنعم بعطايا الأمراء وتخللهم ذكر لإبراهيم الغزي الذي هجا الإمارة وصاحبها الأمير صدقة عند مغادرته الحلة, وعندما قتل صدقة سنة 501هـ فرح الغزي فرحاً شديداً ونظم قصيدة يهنئ به غياث الدين السلطان محمد بالنصر.
      لكن الإمارة كانت قوتها الأدبية بزعامة آل مزيد حتى سقوطها عام 558هـ بعد أن أعلن الخليفة المستنجد بلله العباسي عن تهجير كافة المزيديين من أرض الحلة إلى البطائح جنوب العراق, لكنها بقيت الحلة تحتفظ بهيبتها العلمية والأدبية حيث رفدت بيوتاتها وأسرها القديمة الحركة الأدبية.
      بعد انتهاء سلطة الأمراء المزيديين الحربية والسياسية في مدينة الحلة, لكن الحركة العلمية والأدبية بقيت مستعرة في أزقتها ودواوينها ولواوين المدينة غير المبالية باتجاه السلطة, وغير مكترثة بالهزات الاقتصادية, وقد ذكر السيد محمد صادق بحر العلوم دور آل مزيد الأسديين واهتمامهم بالتاريخ والأدب والفقه, حين قال (وتخرج من الحلة جماعة من الأعلام طبق صيتهم البلاد الإسلامية أمثال بني طاووس وبني نما وبني معيّة وبني سعيد وبني المطهر وبني عزيزة وآل إدريس وآل ورام وآل فهد وآل السيوري وآل عوض وإضرابهم من البيوتات العلمية وذلك حتى القرن العاشر الهجري)(2). كما وصف الدكتور مصطفى جواد حالة الحلة الأدبية وأهميتها وديمومتها للغة العربية والشعر في كتابه (في التراث العربي) الجزء الثاني صفحة 287, وقد أهتم الحليون بالعلم والأدب وثبت اغلبهم في سجل الخالدين, ففي صفحة 152 ذكر المؤرخ عوض حول الأسر العلمية الحلية القديمة التي اختفى ذكر غالبيتها أما بالهجرة إلى مدن أخرى أو تغيير لقب أفراد الأسرة, وقد وثق المؤرخ عوض في كتابه صفحة 153 وما تلاها أبناء هذه الأسر وأعلامها وسيرتهم ومنها (آل إدريس العجلي, آل الأعرجي, آل بطريق الأسدي, آل سرايا الطائي الحلي, آل سعيد الهذلي, آل السوراوي, آل طاووس, آل العلقمي, آل الخيمعي, آل العميدي, آل عوض, آل المطهر الحلي, آل معيّة, آل النحوي, آل النما, آل وشاع الأسدي, آل ورام الجاواني).
      لقد ظهر شعراء وأدباء بعد سقوط الإمارة المزيدية وانتهاء سلطتها السياسية نتيجة ترسخ الحس الأدبي في نفوس أبناء مدينة الحلة برغم النكبات والأزمات الاقتصادية والسياسية, وقد أرخ المؤرخ عوض سيرة حياة هؤلاء الرواد منذُ عام 603هـ ولغاية 625هـ, وقد تجاوزت أعدادهم (25) شاعر وأديب, أما في الفصل الرابع من الكتاب فقد ذكر المؤرخ الأسر العلمية الحلية وأبناؤها المعاصرون وشعراؤها الخالدون والمعاصرون منهم (آل الشيخ ارزوقي, آل الجباوي, آل خصباك, آل خميس السلامي, آل سماكة, آل شعابث الحلي, آل شهاب (حيدر الحلي), آل الشهيب, آل الطريحي الأسدي, آل العذاري, آل علوش, آل عزام, آل عجام, آل العجان, آل الفلوجي, آل القزويني, آل القيم, آل كمال الدين, آل الكواز, آل المطيري, آل الملا, آل نوح, آل النجار الموسوي, آل اليعقوبي).
      وفي الفصل الخامس من الكتاب وثق المؤرخ خزانات الكتب العلمية الأهلية والمجالس الأدبية التي كانت موزعة على البيوتات الحلية والتي تجاوزت (12) خزانة لأشهر عوائل الحلة المعروفة باهتمامها بالكتاب والمخطوطات والوثائق, يذكر المؤرخ عوض أنه قد كان الحصول على الكتاب في الزمن الغابر في غاية الصعوبة وقد كانت المطبوعات تصل المدينة مطبوعة على الحجر من الدول المجاورة, وكان للنساخ الدور الكبير في نسخ الكتب من أصحاب الخط الحسن.
      الكتاب يُعَدّ من الكتب المهمة التي وثقت تاريخ الحركة الأدبية في مدينة الحلة وتاريخ أدباء وشعراء الحلة السيفية أيام تمصيرها وما بعداها, فكان الكتاب وليد جهد بذلهُ المؤرخ عبد الرضا عوض, بعد إصداره تجدد الأمل لدى أدباء ومثقفو الحلة بعد أن واجه المؤلف الصعوبات واليأس في جمع المصادر والوثائق لتوثيق تلك الحقبة التاريخية من تاريخ المدينة الفكري والأدبي, ثمَّ أطل علينا ببارقة الأمل, لكنهُ امتزج جهدهُ وعرق جبينهُ بالورق والحبر, فصيغت حروفه ملاحم من الكبرياء, وعزّة النفس, أسهم فيها في رفد المكتبة العربية والعراقية بسفره الجميل هذا, فكان الكتاب ثمرة جهده الرائع.
 
المصادر
1-   جبار الكواز. عبد الرضا عوض باحثاً ومؤرخاً. ص17/18.
2-   محمد صادق بحر العلوم. فقهاء الفيحاء وتطور الحركة الفكرية في الحلة, مطبعة المعارف, بغداد, 1962. ص6.


221
دروس لم يستوعبها الزعيم عبد الكريم قاسم خلال حكمه
نبيل عبد الأمير الربيعي
      ثورة 14 تموز 1958 حدثت نتيجة التراكمات المظومية التي وقعت على أبناء الشعب العراقي في ظل العهد الملكي الذي كان يسوده النظام الإقطاعي من حيث ملكية الأرض وعلاقات الإنتاج, أما المدن العراقية فكان طابعها الغالب هو الإنتاج شبه الرأسمالي الغير مكتمل, إذ يندر أن تجد رأسمالياً لا يملك أراضي في الريف العراقي.
     لهذا كان لا بد لثورة الرابع عشر من تموز 1958 كغيرها من الثورات أن تحدث تبدلات جذرية في قوام السلطة السياسية وفي كيان الدولة العراقية, وكذلك في مجمل نسيج العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وبين طبقات وفئات وشرائح المجتمع العراقي, وبين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.
     كانت هجرة الفلاحين من الأرياف إلى المدن في تزايد مستمر, وتشكلت في ضواحي المدن أحياء لهؤلاء الفقراء وهي عبارة عن زرائب لا ماء فيها ولا كهرباء ولا أية مستلزمات للصحة والخدمات, وتسودها الأمية والفقر والجهل, وخالية من رعاية الطفولة والأمومة ومعزولة عن المجتمع.
      لقد أقصت الثورة النظام الملكي وحكومته ومؤسساته, لكنها تأخرت كثيراً عن تطهير أجهزة السلطة السابقة وبخاصة الأمنية ووزارة الداخلية ومؤسسات القمع والتجسس السابقة.
      لكن الغالبية الساحقة من الصناعيين والإقطاعيين كانوا غير راضين عن الثورة, فضلاً عن إهمال الثورة من الاهتمام بتطوير وتنمية الصناعات الوطنية وخلق فروع صناعية جديدة, والاهتمام بأوضاع العمال ونقاباتهم وتخليصهم من جور أصحاب العمل وإلغاء القوانين المجحفة بحقهم وتقليص البطالة, إلا أن الثورة كانت تجابه مسألة التعامل مع الشركات الأجنبية التي كان عددها (255) شركة, كان على قيادة الثورة دراسة هذه الأوضاع بعناية انطلاقاً من مصالح الوطن الاقتصادية والأمنية والتجارية والتنموية.
      بسبب الخلافات المستمرة بين الزعيم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف منذ اليوم الأول للثورة, حيث تم تجريد عارف من كل المناصب وتعيينه سفيراً للعراق في بون, وقد تضافرت القوى المناهضة للثورة من إقطاعيين وشيوخ وملاكي وبيوتات متنفذة وكبار التجار وفلول أحزاب نوري السعيد وصالح جبر ونواب واعيان العهد البائد للوقوف مع عارف حيث تندمج مع مطامح حزب البعث الجامحة نحو الوحدة الفورية مع مصر وسوريا, ووجدت صداها الايجابي لدى العقيد عبد الوهاب الشواف والضباط القوميين في الموصل, الذين أعادوا تشكيلتهم بعد أن حلوها بعد ثورة 14 تموز 1958, وكان عبد الناصر في سوريا ينتظر المجد على حصان ابيض إلى العراق ليعلن الوحدة مع جمهوريته المزعومة.
     بعد إحالة عارف إلى المحكمة العسكرية في 9 كانون الأول 1958 وبعد عودته من ألمانيا إلى العراق بدون موافقة السلطات العليا في الرابع من تشرين الثاني 1958. وقد استغل حزب البعث القوميون الناصريون وأنصار عارف الأوضاع المتوترة هذه وهددوا القوى السياسية الأخرى بالويل والثبور, رفعوا شعار الوحدة الفورية واعتبروا أيام قاسم والشيوعيين معدودة. وهذا هو الدرس الأول الذي لم يستوعبه الزعيم قاسم من عمر الجمهورية العراقية الوليدة.
      وتفاقم الوضع السياسي بعد محاكمة عارف والحكم عليه بالإعدام واستقالة الوزراء القوميون واستقطاب الصراع السياسي وتحوله إلى تناحر سياسي وتهديدات واغتيالات, وحبك المؤامرات سراً وعلناً وبشتى الأساليب وصولاً إلى توصل فؤاد الركابي إلى تحويل حزب البعث من حزب سياسي إلى عصابات للقتل والاغتيالات وتدبير الانقلابات.
       وتعززت مواقع البعث والقوميين والناصريين وشيوخ العشائر وأيتام العهد البائد وعناصره الفاسدة في أجهزة السلطة في بعض وحدات الجيش. وانقلب العقيد الغاضب عبد الوهاب الشواف رأساً على عقب عارفياً وحدوياً إسلامياً قومياً ناصرياً, كما عبرّ عنه الضابط المتقاعد محمود الدرّة مذيع بيان ثورته في الموصل (1).
       ووصلت الأمور إلى انفجار الوضع في الموصل في السابع من آذار 1959 وما آلت إليه الأحداث الدامية وما بعدها أثر فشل ثورة الشواف تلك وما أعقبها من المد الثوري وهذا هو الدرس الثاني الذي لم يستوعبه الزعيم قاسم.
       وبعد سبعة أشهر من فتنة الشواف كما يسميها الفقيد زكي خيري, نفذ فؤاد الركابي وحزبه خطة (الحل الأوحد) أي اغتيال عبد الكريم قاسم, ونفذت الخطة بذكاء في السابع من تشرين الأول 1959 وأصيب قاسم بجروح, وهذا هو الدرس الثالث الذي لم يستوعبه قاسم.
     إنها دروس ثمينة وعظات كان يجب الإفادة منها وتحليلها واستخلاص الاستنتاجات الغنية منها وتوظيفها في العمل السياسي الواعي, وفضلاً عن ذلك فإنها دروس ليس للشيوعيين وحدهم بل للقوى السياسية العراقية كافة وأحزابها ومنظماتها وكذلك للزعيم عبد الكريم قاسم نفسه.
     وإزاء هذا الوضع عصفت بالعراق أحداث خطيرة, ونشأ في البداية تمرد رشيد لولان في كردستان العراق بحركة ضد الجمهورية الوليدة وفشل وقمع بجهود الحزب الشيوعي العراقي, وهذا الدرس الرابع. واشتد الصراع بين الضباط الأحرار واستقطب لدرجة اعدم فيه ضباط كبار مثل الطبقجلي ورفعت الحاج سري وغيرهما وحكم على آخرين بالسجن لمدد مختلفة, بدل أن يستوعبهم الزعيم وهم رفاقه بالأمس.
     وجاءت أحداث كركوك لتصب الزيت على النار, أعقبها خطاب عبد الكريم قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز 1959. وقد جابهت ثورة 1958 تحديات ومصاعب ومؤامرات داخلية وخارجية إقليمية ودولية, سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية ترمي إلى إنهاكها وإجهاضها ومن ثم الإجهاز عليها وتدميرها والغاية من كل ذلك لإعادة الحصان الجامح إلى حضيرته.
      ولعل من أسوأ ما جابهت ثورة 14 تموز 1958 وما عاناه الشعب العراقي بعد الثورة هو الخلافات بين الضباط وصراعاتهم على المناصب السيادية, وقد ترك ذلك بصماته على مسيرة الثورة ومصائرها وصولاً إلى نحرها في شباط 1963, وهذا هو الدرس الرابع بعد فوات الأوان.
 
 
المصادر
1-    رشيد رشدي. منعطفات خطيرة في تاريخ الشعب العراقي.. إطلالة تاريخية. تقديم د. نمير العاني. ط1. 2013. سانت بطرسبوج. ص167.
 



222
ديوانية عباس غضبان كرماشة ومجارش الشلب في الهندية
نبيل عبد الأمير الربيعي
تكثر مزارع الاشلاب – وهو انواع الارز – في منطقة الفرات الأوسط ومنها الهندية (طويريج) والديوانية، في نهاية الموسم يدخر المزارعون الأشلاب في مخازن تفرش بالبواري (حصران من القصب) وتسمى (المطبكة) أو (الحلا). ثم تصرف الأشلاب إلى ماكنات الجرش (الدرس) لإفرازها عن قشورها وتنقيتها. وقبل عملية الجرش تفرش الأشلاب تحت أشعة الشمس لتجفيفها تماماً، وذلك في مساحة أرض مطوقة لهذا الغرض تدعى (چرداغ) أو (بنكله).
وقبل استخدام المكائن كانت النساء تجرش المحاصيل برحى عميقة تصنع من الزفت والقار. وكانت النساء تعمل في الجرش طيلة اليوم وقسماً من الليل بصبر ومثابرة وإتقان، وكنّ يستنشقن الغبار والأتربة ومسحوق (السبوس) الذي يتعفر من جراء الجرش. ولترويح النفس وبعث النشاط كان هؤلاء بعض النسوة يتغنين الأغاني الشعبية وخصوصاً تلك الأغاني الرتيبة التي تتلائم وإيقاع الرحى.
ثم يأتي العمال فينقلون المواد المجروشة في أطباق (غرابيل) للذر ولفرز القشور التي تدعى (سبوس). وللسبوس أهمية لصناعة الورق والخشب المضغوط، ولكن لعدم وجود معامل كهذه في العراق كانت هذه المواد تستخدم للوقود أو غسل الأواني المنزلية.
ولهذه الأغاني الشعبية التي تخص العاملات في الجرش خرجت لنا قصيدة رائعة كانت ولادتها منطقة طويريج حيث المجارش هناك كما ذكر ذلك الكاتب والباحث ذياب مهدي غلام في مقالة رائعة ((طويريج ومجرشة ابن غلام وقصيدة المجرشة)) رداً على مقال للباحث محمد علي محيي الدين التي نشرت في جريدة المدى البغدادية, والذي تساءل محيي الدين فيها هل القصيدة حلية فراتية؟ أم كرخية بغدادية؟ لكن الباحث ذياي آل غلام يؤكد على أن القصيدة خرجت من مجارش جده محسن غلام حين يقول إن هذه القصيدة كانت نشيد ونشيج في نفس الوقت وخريدة العصر وقصيدة النصر للمرأة المهظومة والمظلومة... وقصيدة المجرشة لسان حال المرأة العاملة :
ما ينسمع صوت ارحاي بس أديّة أديّر
اطحن بگاية الروح موش اطحن شعير
     وقد نشرت جريدة (صدى الحقائق) بعددها الصادر في 3/4/1927 قصيدة للشاعر المشهور حسين الحلي العذاري وقدمته على أنه صاحب قصيدة المجرشة المشهورة. كما نسب السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه الأغاني الشعبية الصادر عام 1929 القصيدة إلى الملا نور الحاج شبيب, كما نشر الأب أنستاس ماري الكرملي في كتابه (مجموعة الأغاني العامية العراقية) سنة 1933, ونسب قصيدة المجرشة إلى نور الحاج شبيب. لكن الملا عبود الكرخي نشر قصيدة المجرشة مرات متعددة, فقد نشرها في جريدة (الكرخ) بتاريخ 21/7/1927 بـ(26) مقطعاً, ثم أعاد نشرها في الجريدة نفسها بتاريخ 3/6/1929 بعد أن اضاف إليها وجعلها بـ(51) مقطعاً, ثم نشرها في ديوانه بـ(74) مقطعاً, ويؤكد الباحث محمد علي محيي الدين قال : (توجد الكثير من الاختلافات بين الطبعات المتعددة بعدد المقاطع والنصوص, مما يدل على أنه يعاود التغيير والتبدير والإضافة عندما ينشرها مجدداً).
      ويعقب ذياب غلام في مقاله : (هذه روايتي وكما رويّ لي من نسب القصيدة الخريدة المجرشة لشاعرها الأصل هو من أهل طويريج / الحلة الفيحاء وعلى نسقها نظم الكرخي وأدخل بعض الأبيات في قصيدته وهي لا تتماشى مع نفسه ومفرداته البغدادية, فإن نفس واسلوب شاعر الفرات الأوسط (الحسجة) لا يمكن لأي شاعر آخر أن يجاريه لكن نرى أن الكرخي بارى شاعرها وأخذ منهُ بعض الأبيات ونشرها باسمه وهذا ما أراده الكرخي...).
      المجرشة قصيدة تبين مطالبة المرأة العاملة بحقوقها, فكانت تلك العاملات يعملن في مجارش محسن غلام في الهندية, ولدى غلام إضافة للمجارش بساتين عامرة لحد الآن, وكانت لقاءات الحاج محسن وعباس غلام في ديوانية الحاج عباس غضبان كرماشة, وهو بمثابة وكيل آل غلام في املاكهم, ويعقب الباحث ذياب آل غلام في مقاله إذ قال في جلسة اتذكرها جيداً وكان معانا الحاج حضيري وآخر من بيت الليثي وآخر من بيت الهنداوي وآخرين, كان حديثهم عن طويريج وعن ذكرياتهم عن المجارش, ثم عرجوا على قصيدة المجرشة ومن قائلها.. قال عباس غضبان إن محسن غلام صاحب أحد معامل الجرش قد تناسب مع حمولة الملالي من الجبور, وتزوج بنت ملا محمد الجبوري وأحد اقاربه ملا شبيب أو ابن ملا شبيب وهو شاعر معروف يكتب شعراً حسينياً وغزلاً احياناً, ولقد غنى الراحل عبد الأمير الطويرجاوي بعض من اشعاره, وكانت جلسات السمر تكون في الغالب عند الحاج محسن غلام في ديوانيته القريبة من نهر الفرات والملاصقة لمعمل الجرش, حيث من الممكن سماع بعض اصوات العاملات حين يطربنّ مع حركة المجرشة اليدوية... إن عاملات الجرش وخاصة (الشفت) الليلي – وهذه ميزة وخاصية عند نساء الفرات الأوسط والجنوب العراقي – هي الموهبة الشعرية والصوت الجميل الفطري, فهنّ ينظمنّ الشعر اثناء الغناء, والآخرين يسمعون هذه الأصوات والأطوار المختلفة, وقد تذكر عباس غضبان أحد الأبيات الغنائية :
بمجرشة ابن غلام لزرعلي خوخة
فيّ للگظاه الشوگ وهم دوه الدوخة
وقد زار الشاعر الشعبي المرحوم ملا عبود الكرخي چرادغ الجرش فتأثر مما شهده, والتقى بالملا شبيب وسمع منه بعض الأبيات عن قصيدة المجرشة ولقد جاراه الكرخي ونظم على منوالها ابياتاً فنظم قصيدة زجلية مطولة. ثم يعقب ذياب آل غلام قائلاً :(وهنا عقب عباس غلام وقال . وكان في القصيدة بيتين تخص محسن غلام, فطلب حاج محسن أن يحذف ما يخصه من مديح فيها على أن يعوضه (وزنة شلب) وهكذا تمت الصفقة, وحين اخذ عطائه الكرخي وذهب إلى بغداد, هناك نشرها كاملة وتحت اسمه, ولذا نرى في بعض الأبيات نفس واسلوب ومفردة ليس من صنع أو نظم الكرخي... وحين جمعتنا الأيام في منتصف التسعينات مع الحاج حضيري الطويرجاوي.. كان من جملة الحديث عن قصيدة المجرشة وناظمها ملا شبيب, وكذلك في لقاء شخصي مع كل من اللواء الركن المتقاعد خضير عباس غضبان وهو يحفظ الكثير الكثر من شعر تلك الأيام لعاملات مجرشة ابن غلام).
كما يؤكد الباحث محمد علي محيي الدين في مقاله المنشور في جريدة المدى حين قال : (مما يؤكد أن الكرخي قد نظم على غرار القصيدة الأم, وتابعه الآخرون في هذا النظم, ولو تتبعنا ما نشر على غرار المجرشة لتوفر لدينا ديوان كبير... وخلاصة ما أريد الوصول إليه أن قصيدة المجرشة فراتية بحته إن لم تكن (حلية) خالصة, وأن الشعراء الذين جاروها أو باروها ومنهم الكرخي لم يكونوا مبتكرين لها, لأنها نابعة عن معاناة حقيقية لم يكن الكرخي قد عاناها في حياته المترفة الاهبة)(1).
كما يؤكد الباحث حسين علي الشرع في مقال له (قصيدة المجرشة خرجت من مطحنة أبو دانيال وصاحبتها أم خزعل) حين قال : (وقد أفادني الأستاذ الدكتور عدنان الظاهر في رسالة :أتذكر مرّة قال فيها المرحوم والدي : إن القصيدة كلاً أو جزء منها قالتها امرأة ممكن كنّ يعملن فعلاً بالجرش من أهال الهندية/ طويريج... وقد رأيت بالفعل وكنت ما زلت طفلاً هناك ساحة كبيرة ليست بعيدة عن نهر الفرات, تعمل فيها ليلاً ونهاراً نسوة كثار خلف طواحين الحجر الرصاصية اللون, مجارش وكنّ دفعاً للسأم والملل من العملية المتكررة التي تأكل الروح, يهزجنّ ويغنينّ تماماً كشأن اغلب الحلاقين فهم يدفعون عن نفوسهم الملل بكثرة الكلام مع الزبون تحت ايديهم وتحت رحمة المقص والموس الحاد). ثم يعقب ويقول الباحث الشرع : (المجرشة صرخة مدوية للمرأة العراقية, وفيها صور كثيرة عن معاناتها ما تزال بحاجة إلى نضال دؤوب لتجاوزها عسى أن تعود المرأة لوعيها ذات يوم وتعلنها ثورة عارمة تطيح بكل العقبات التي وضعت في طريقها ومسخت انسانيتها وجعلتها في آخر القائمة من المخلوقات).
ويذكر الوجه عزت ساسون معلم في كتابه ((على ضفاف الفرات ذكريات أيام مضت وانقضت)) نقتطف منها هذه الأبيات(2):
ساعة واكســـر المجرشه             والعن أبو راعيـــــــها(1)
عشــــرة يشاركها برجـل             وحدة بمطي يخليــــها(2)
والمعنكيـــــة بهل زمـــن             شدو اجلال عليـــــــها(3)
مـــــا يصير دوم امغيمة              هم ربك ايصحيـــــــها(4)
ساعة واكسر المجرشة               وانعل أبو السواهـــــا(5)
اش چـم سفينة البلبحر                تمشي بعكسها هواها(6)
ايصير اضلن يــــا خلك                متجابلـــه آنـــــــه وياها(7)
كلما ايكيرها النـــــــــذل               انــــه بحيلي أبريــــــــها(8)
ذبيت روحي عالجــرش               وادري الجرش ياذيــــها(9)
ساعة واكسر المجرشة               وانعل أبو راعيـــــــــــها(10)
ساعة واكسر المجرشة               وانعل أبو راعي الجرش(11)
كعدت يداده أم البخـــت               خلخالها يــــــدوي ويدش(12)
وانا ستاذي لو زعــــل                يمعش شعر راسي معش(13)
هم هاي دنيا او تنكضي               وحساب أكو تاليــــــــها(14)
 
1-    بمعنى: ستأتي ساعة أكسر فيها الجرن من شدة غضبي والعن صاحبها.
2-    أي عشرة عمال يساوون رجل دابة واحدة، وآخر يملك مطياً لنفسه.
3-    المعنكية – الخيول الاصلية، اجلال – الخرق البالية التي توضع على ظهر الحمير بينما توضع السروج المزركشة على ظهور الخيول.
4-    لا تبقى الدنيا ملبدة بالغيوم، وسيأتي الصحو بعد تلبد الغيوم.
5-    أي العن من صنعها.
6-    كم من سفينة يجري هواؤها عكس رغبتها.
7-    يا خلك – ايها المخلوقات، أيها الناس، متجابله – مقابلة، أي مقابلة المجرشة ومواضبة العمل طوال اليوم.
8-    أي ما يسبب النذل – صاحب العمل – من أقذار ازيلها بعرق جبيني.
9-    القيت نفسي يائساً على المجرشة رغم معرفتي بما يتسبب من ضرر.
10- العن صاحبها.
11- العن صاحب الغلال.
12- ام البخت – صاحبة الحظ الوافر التي تقعد دون عمل وأساورها تجلجل، والخلخال حلقة جوفاء من الفضة او الذهب تزين بها أرجل النساء.
13- خوفاً من صاحب العمل.
14- تنكفي – ينتهي أمرها، وفي آخرتها الحساب.
هذا ما كان حينذاك، أما الان فيجري العمل بالماكنات الحديثة، حيث تقوم الماكنة خلال ثماني ساعات بعمل ينجزه ثلاثون من العاملات خلال أربع عشرة ساعة، ويدير هذه الماكنة خمسة عمال فقط.
 
المصادر
1-    محمد علي محيي الدين. محطات من التراث الشعبي العراقي. دار الفرات في الحلة. ط1. 2012. ص16/ 19.
2-    عزت ساسون معلم. على ضفاف الفرات ذكريات أيام مضت وانقضت. ط1. القدس. رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق. شفا عمرو. 1980. ص108/111.
 


223

حينَّ دخل فكر ماركس حياة المفكر حسين مروّة (2)



نبيل عبد الأمير الربيعي
      على عتبة الذكرى الجليلة لرمز من رموز الفكر العربي المعاصر, وقامة شامخة من قامات النضال الوطني التحرري, لنسلط الضوء على جوانب كثيرة من سيرة حسين مروّة, الانسان البالغ الثراء, المتوهج الحضور, والمناضل أبداً في انسجام تام بين فكره الطليعي وممارسته العملية الرائدة.
     محنة الثقافة من ارسطو وغاليلية إلى فرج فودّة وحسين مروّة وعشرات المثقفين, هي محنة الخصومة, خصومة السياسة الجاهلة من ابن حنبل, ابن رشد, الحلاج, الشيخ صبحي صالح إلى مهدي عامل, كانت السياسة القرينة بالجهل ودولة الغاب وانتهاك القانون, ودويلات عصابات وقطاع الطرق, ودولة الأشخاص, تذهب مهنة الكاتب وتترسخ مهنة كاتب السلطان, ومثقف البلاط والمسبح بحمد الخليفة الأمير.
      مهما طالت الأيام وعمل الجهل في قتل واغتيال المفكرين وتطوى الصحف لكن المفكر الشهيد حسين مروّة باقٍ حياً فينا, باقٍ في المجلات الثقافية والصحف, في فكر المفكرين والباحثين والهيئات الثقافية, فهو علماً من أعلام الفكر العربي, والحرص على بقاء راية الفكر الحر التقدمي, وتجديد الفكر الماركسي شريك كل المثقفين وعلى وجه الخصوص حسين مروة, لصلابة الموقف ووضوح الرؤيا.
     لم يمت حسين مروّة, ولم تنهار الأحلام الجميلة, ولم تنسد الآفاق, وما زلنا نسبح ضد التيار, لكن بالزمن نحيا وبعزيمته لا نفنى, فالتاريخ الصعب الذي خاضه حسين مروّة غماره ليصنع مجاديف نجاتنا نحو الضفة الأخرى, مهما كانت الضفاف بعيدة, وإن الرحلة إلى المستقبل تبدأ من تاريخ سحيق, غير أن النزعات المادية في تاريخنا لم تكن كافية, فلا عمامة خلفها ولا منهج مادي جدلي تمكنّا حتى الآن, لكن سنبقى على نهجك ومنهجك نقاوم ضد التيار لنصل إلى الضفاف البعيدة.
      حسين مروّة ظاهرة ثقافية فكرية تشعّ على أمته إشعاع النور الذي يكشف الطريق بضوئه المستنير, في أقواله وأفعاله حينما قال :"ولدت شيخاً وأموت طفلاً, وبين هذين الهديين قرابة ولحمة لا تفترقان, ولا غرابة أن يستعمل الأضداد في تفكيره لأنه في الحالتين لا يتوخى سوى سبر الحقيقة والتوصل إلى كشفها".
      حسين مروّة تابع دراسته في النجف وصمم للوصول إلى الهدف من تحقيق المعرفة دون المهنة, لذا يبحث عن المعرفة حتى وجدها, فأمعن في القراءة وجمع المعارف من مواردها, على كل حال أتاحت السنوات العشرون التي قضاها دراسات في جامعة النجف إمكانية التأصل في التراث العربي الإسلامي, لينفتح من بعد ذلك على الثقافة الغربية والعالمية, وكان ذلك سر نجاحه الجدلي والتفاعل بين التراثين المحلي والعالمي.
    ففي مؤلفه (النزعات المادية في الفكر العربي الإسلامي) الذي توّج به جهد عمره, أجرى مروّة عملية مسح واسعة للتراث العربي الإسلامي شملت أربعة قرون تبدأ بالجاهلية وتنتهي في القرن الرابع الهجري, وهو عصر العلماء والفلاسفة الكبار, فاستخلص مروّة بعد فرز التراث اللب عن القشور, معبداً بناءه على منهجه المادي التاريخي والمفاهيم الإنسانية, حتى نجح في تحويل التراث إلى مركز تاريخي استند إليه في صراعها الراهن والمستقبلي.
    مؤلفه هذا كان جهداً كبيراً حقاً قياساً إلى عمر مروّة كفرد, فهو كدراسة مطلوبة بشروطها الكاملة, نجدها ليست عسيرة المنال على جهد فردي لمثل هذا الجهد, فضلاً عن مؤلفاته الأخرى التي لا يخترقها النسيان, فهي أبحاث في التراث أضاءت الماضي كي ينتصر المستقبل بين تراثنا القديم وأجيالنا الشابة.
     اختزل المفكر مروّة بعض أنصار الماضي العربي, بأنها مجرد محكيات لوعي واحد بعينه هو الوعي الديني الثابت الذي لا تؤثر فيه التبدلات التاريخية, فقد جرى طمس أي دور للعوامل الأخرى في صنع المسار التاريخي, كالعامل الاقتصادي, والصراع على السلطة, وتصدير الأزمات السياسية الداخلية إلى الخارج, وطمس معالم البعد الجماهيري في حركة التشكل المجتمعي التاريخي العربي, لكن المفكر مروّة قد فسّر الصراع الداخلي الذي احتدم في التاريخ العربي الإسلامي صراع طبقي اجتماعي, كون الفقيد مروّة كان يتمتع ببصيرة نافذة, ونظر ثاقب, وفهم عميق لقوانين التطور الاجتماعي, وقد نذر حياته لتأسيس المشروع النهضوي الجديد للعرب, وقد كان مدخله إلى إعادة قراءة التراث العربي وتفسيره بأسبابه الحقيقية, والإمساك بوعي علمي متقدم.
      كان كتابه (النزعات المادية) إلا ملحمة تراثية ذات رؤية شاملة في موقف فكري مستنير فاعل, يقول مروّة في نهاية ملحمته (وبعد نحو قرن من زمن ابن سينا, استأنفت هذه الفلسفة في بلاد المغرب العربي كفاحها المجيد بوجه الإرهاب الفكري) على عتبة الذكرى الجليلة لرمز من رموز الفكر العربي المعاصر, وقامة شامخة من قامات النضال الوطني التحرري, لنسلط الضوء على جوانب كثيرة من سيرة حسين مروّة, الإنسان البالغ الثراء, المتوهج الحضور, والمناضل أبداً في انسجام تام بين فكره الطليعي وممارسته العملية الرائدة.
     إلا أن الرصاصة العمياء أوقفت هذه الرحلة الفلسفية في التوقف عن إعداد الجزء الثالث من الكتاب, لذلك افتقدت الملحمة الفلسفية التاريخية الجزء الثالث, لكن يبقى هذا الكتاب أول ملحمة ماركسية عن التراث الفلسفي العربي.


224
حينَّ دخل فكر ماركس حياة المفكر حسين مروّة (1)
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      وُلِدَ المفكر حسين مروة عام 1910 في قرية "حدّاثا" قضاء "بنت جبيل" في جنوب لبنان ـ أخذ دراسته الأولى في بنت جبيل والنبطية. عام 1924 رحلّ صغيراً وبعمر الثامنة من قريته إلى النجف ومعهُ حُلم العائلة الكبير أن يصبح شيخاً مهيباً مرموقاً كوالده, ذلك كان حلمه الأول, سبق كل أحلام الطفولة, لبس العمامة والجبة قبل أوانها الطبيعي كرمز للحلم ذاته أولاً, وكأداة إلزام له بموجبات الحلم ثانياً. لم يستطع الحلم أن يعيش معهُ في النجف أكثر من عام واحد, فبدأ الحلم ينتابه الضمور والذبول في ذاته, حتى رأى مروّة خاطراً قاهراً صارماً يعترضه ويريد أن يحملهُ على الاختيار الحاسم في مسألة دقيقة للغاية, وهي مسألة تحديد وجهة المصير, مصير حياته كلياً.
       وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم إلى المجهول, وغابت من حياته نهائياً صورة الشيخ المهيب المرموق التي كانت هي نفسها صورته كما رسمها في الحلم, لكن المجهول صار معلوماً, هو البحث عن العلم نهجاً وهدفاً معاً, بقي في النجف وتابع دراسته رغم كل الأسئلة المستنفرة في داخله, وبقي مروّة يتابع ويختار رغم سني دراسته الأربع عشرة, حتى امتلك حريته في اتخاذ القرار, هذا الشعور حيث فتح لهً أبواباً للدخول في عالم أوسع للقراءة والدرس للعلوم (الحلال), وحدها في عرف النظام الدراسي النجفي آنذاك. لكنه أخذ يقتحم بأسئلته الخطوط الحمراء من مكانها التقليدي الفاصل بين (المحرمات) من أنواع المعرفة البشرية المعروفة ويقتلعها واحداً واحداً من مكانها التقليدي, بادر مروّة لتنظيم (يوميات) القراءة والدرس لكي يتوافر له التوازن واختياره بين لون المعرفة الذي تقدمه له النجف من دراسات علوم المنطق والنحو والبلاغة وأصول الفقه والفقه الإسلامي, وبين فسحة الاستقلال الفكري وحرية المناقشة الجدية مع العلم والنص دون كوابح.
     كان الوصول إلى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف لبلدان العربية, ومن مصر ولبنان بخاصة, متيسراً في النجف, أي خارج أسوار المحيط الدراسي الديني, يقول المفكر حسين روّة في أحد النصوص (من النجف دخل حياتي ماركس) :"كان يتوافر لنا هناك أن نقرأ كتابات المفكرين والعلماء والكتّاب والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الأول فما فوق من القرن العشرين, وكذلك الكتابات الفكرية والعلمية والأدبية المترجمة عن مفكرين وعلماء وأدباء عالميين..مادة القراءة (المحرمة) علينا آنذاك كانت من الغزارة بحيث يضيق وقتنا عن استيعايها, ونحاول جهدنا أن لا ندع لحظة من الزمن تتسرب من أيدينا هدراً دون كسب معرفة ما". هذه المرحلة من حياة مروّة كانت هي مرحلة الخصب المعرفي, فرأ فيها مروّة أشتاتاً من المعارف لا تنتظمها وحدة, بل يتخللها الاختلاف حتى التناقض, قرأ الأدب الرومانسي, مع الفكر العلمي, مع الكتابات العلمية الخالصة, مع البحث الاجتماعي, نظرياً وميدانياً, تلك الكتب وذلك الوهج النفاذ هو الذي علمه الكثير ومهدّ له الطريق إلى ماركس, كانت كلمة (الاشتراكية) تتردد كثيراً في قراءاته ومنها القراءات النهضوية من كتابات نقولا حداد, صاحب مجلة (السيدات والرجال), وروايات فرج أنطوان ذات النزعة الاجتماعية, وكتابات إسماعيل مظهر وبحوثه التي تصدر في مجلته (العصور) المصرية المعروفة باتجاهاتها المادية, ثم النتاج الطليعي لشبلي شميل, الذي قدّم إلى الفكر العربي والثقافة العربية أول مرّة نظرية التطور الداروينية, التي تعتمد النظرية على استيعاب أوليات القوانين الكونية لحركة تطوّر الطبيعة والمجتمع, فضلاً عن سلامة موسى وأثره الفكري على مروّة في ذلك العهد, وأثر مجلة (المقتطف) بما كانت تُعني به من إضفاء للطابع العلمي الغالب على مجمل ما تنشره وقتذاك.
     كانت رواية (الدين والعلم والمال) لفرج أنطوان وهي رواية أقرب للبحث الفلسفي الاجتماعي, وقد اطلع عليها مروّة عام 1926م, من خلالها تعرف مروّة على ماركس وفكره, أنهى دراسته في جامعة النجف عام 1938. يقول المفكر حسن مروة :"لكن ماركس هذا الذي ألتقيته عند فرج أنطوان, لم استقبله بارتياح, ولم أشعر أنه هو الذي سيخرجني من بلبلة المفاهيم المختلفة للاشتراكية... فماركس هذا هو أولاً – فيلسوف منّا – أي من هؤلاء العمال الذين يبتسرون حل المشكلة الاجتماعية, الطبقية الكبرى بحيث ينحصر هذا الحل في اشتراك العمال في ربح العمل.. وهو مع ذلك – ثانياً – من أشد أنصار العمال غلواً, وهو – ثالثاً – له رأي في الملكية يناقض رأي أرباب العمل.. كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص هو فيلسوف من الفلاسفة؟ رغم هذه الهواجس المقلقة, وقع في نفسي أن ماركس هذا لا بدَّ له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيراً باسم (الاشتراكية).. لكن, كيف سأصل إلى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربه هذه؟ بدءاً من هذا السؤال, بدأتُ أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس.. ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي وما أزل في النجف.. لكن ماركس (الماركسي) تأخر عني وصوله بضع سنين بعد اللقاء الأّول, عند فرح أنطوان, مع ماركس (غير الماركسي).. تأخر حتى أنعقدت لي صلة خفيّة مع (الشيخ) حسين محمد الشبيبي (هو نفسه الشهيد الشيوعي المعروف الذي أعدمه النظام الملكي مع الشهيد الرفيق فهد في بغداد عام 1947..".
     منذُ انعقاد هذه الصلة دخلت علاقته الصحيحة والعلمية مع ماركس (الماركسي) وأخذ يقرأ العلم الماركسي دفعة دفعة, حتى حصل على البيان الشيوعي كهدية من الرفيق الشهيد الشبيبي شرط أن يقرأها أكثر من مرة, واحتفظ المفكر مروّة بهذه النسخة مفعماً بفرح المعرفة بأضوائها الجديدة الكاشفة, لكن هذه النسخة اختفت بشكل مفاجئ, ثم تعرف على كتاب (رأس المال).
     شارك المفكر مروّة في وثبة كانون الوطنية والديمقراطية التقدمية في نهاية عام 1947م, لم يكن شيوعياً في تلك الحقبة بل كان كاتباً وطنياً يكتب بصراحة وجرأة موقفه الوطني في صحف بغداد ولا سيما جريدة (الرأي العام) لصاحبها الجواهري, وفي مجلة (الحضارة), حتى جاء أمر إبعاده يوم 9/6/1949 من العراق قبل أن يصير الانتماء عضوياً بالفعل  أما مسألة الانتماء الحزبي فقد تأخر حتى فور وصوله بيروت أصبح شيوعياً خطراً.
     وبعد أحداث بيروت الطائفية هنا جاءت المفاجأة ويومٍ داكن من أيام شباط العاصفة يوم 17/3/1987م, حيث تسللت الجريمة العمياء في ثوب الخديعة, اقتحم مسلحون أدوات منزل المفكر الشيخ الثمانيني إلى سرير حسين مروّة, أنهضه أحدهم عن السرير.. أوقفه.. وضع فوهة مسدسه, كاتم الصوت, في أسفل ذقنه.. وأطلق رصاص الجريمة.. فتفجّر دماغ حسين مروّة, واستباحة دمهً الطاهر وهو رهين المحبسين؛ الشيخوخة والمرض, كان منظم الجريمة العقل المريض, هذا العقل الذي يخاف الضياء والفكر, هذا العدو المريض لأصحاب العقول, وهو يظن أن قتل الدماغ يذهب بضياء العقل ومفاعيل نتاجه المعرفي.

225
أنور شاؤل وجهوده في المسرح العراقي ... للكاتب أ.د. علي الربيعي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     هناك أناس يبحثون وينقبون, يقرءون ويطلعون, يحققون ويراجعون, يشرحون ويعلقون, يكتبون ويؤلفون, يوقفون أنفسهم على الدرس والبحث, يولعون بها, ويجدون فيهما لذة ومتعة لا يعدلهما متاعٍ آخر. ذلك همهم وتلك غايتهم, لا يرجون وراءها جزاءً ولا شكورا, وكأنما خلقوا ليعطوا, وسواء لديهم بعد هذا ما يأخذون, والأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي واحد من هذا النفر القليل, قضى حياته في مجال الدرس والبحث, وحبب إليه تاريخ الأدب المسرحي منذُ الشباب الرطب, فعكف على دراستها, وأعد لذلك العدّة اللازمة.
     في كل مرة لهُ انجازٌ جديد وفي مجال لا ولم يتطرق لهُ أي كاتب أو باحث, يتحفنا الدكتور بنتاجاته الأدبية والفنية, قِلّ من الكتاب أو الباحثين قد تطرق له, في مؤلفاته يسوح بنا في إسهامات أبناء الديانات والأثنيات والطوائف في مجال المسرح العراقي, كاشفاً لنا غرائبها, كالغطاس الماهر يجمع لؤلؤها وأحجارها ومحارها, فيرينا معدنها الثمين بعد أن يجليها من ما تراكم عليها من صدأ السنين ومخلفات النسيان ولآثارها وعجائبها, يبين لنا اهتمامات أبناء الأقليات الدينية في العراق في مجال الأدب والفن المسرحي ونوادر أسمائهم وأخبارهم, فقد عرفنا في الدكتور الربيعي النباهة وجميل التعبير, وحسن الخطاب, فجاءت مؤلفاته في محلها ودقتها بعد أن تناسىاها وأهملها االباحثين والمؤلفين والكتاب.
     كتاباته ليست دراسة من النوع الكلاسيكي الممل, ولكنها شذرات جمعها خلال سنوات حياته الثقافية والأدبية من بطون الكتب والصحف, حيث أثمرت الآن, هذه الثمار من سلسلة دراسات أخرجها بمؤلفات ليبين فيها دور أبناء الطوائف اليهودية والمسيحية, وقد يزيدنا مستقبلاً ما لدور أبناء بقية الطوائف في الفن المسرحي وآدابه.
      صدر قبل أيام للأستاذ الدكتور علي الربيعي كتابه الموسوم (أنور شاؤل وجهوده في المسرح العراقي), الكتاب يقع في (161) صفحة من الحجم الوزيري الصادر عن مؤسسة دار الصادق الثقافية في مدينة الحلة, والكتاب هو التاسع ضمن سلسلة مؤلفات الدكتور الربيعي, وقد صدر له سابقاً المؤلفات التالية (تاريخ المسرح في الحلة/ 2 مجلد 2005, الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح/عمان 2011, المسرحيات المفقودة / عمان 2012, محمد مهدي البصير رائد المسرح التحريضي في العراق/القاهرة 2013 ,اسكندر زغبي الحلبي زجالاً ومسرحياً/ القاهرة 2014, مسرحيات نعوم فتح الله سحار المفقودة/ دراسة ونصوص/ بغداد 2015, المسرح المسيحي في العراق/ عمان 2016, وأخيراً أنور شاؤل وجهوده في المسرح العراقي/2017).
     الكتاب الموسوم (أنور شاؤل وجهوده في المسرح العراقي) يعتبر من الكتب المهمة الصادرة في العراق, والتي أرشف فيها دور الأديب والشاعر والمحامي شاؤل وجهوده في المسرح العراقي, وقد حظي المؤلف الربيعي في مؤلفه هذا في مسرحية الراحل أنور شاؤل المترجمة عن الانكليزية (وليم تل) للمؤلف شريدان, فقد سلط الربيعي الضوء على هذه المسرحية بعد أن أقتفى أثرها حتى حصوله على النص الورقي كما يقول في ص9 (وعند تلقفي لهذا النص الورقي العتيق أنهيته قراءة, وهفا إليَّ هاجس أخذَ يلحُ عليَّ بأن أعيد نشره حتى يتسنى للقراء أن يطلعوا عليه ويقرؤوه, لذلك طفقت إلى هذا الكتاب ووعيته فيه, وزدت فوقه ما جمعته من إسهامات شاؤل في مرفأ المسرح من مقالات).
      لقد كتب الكثير من الكتاب والباحثين عن إسهامات ودور الأديب أنور شاؤل في الصحافة والأدب والمسرح, ودوره الإبداعي وجهوده في كتابة القصة, غير أنه لم يكتب عن دور شاؤل الرائد في مجال المسرح إطلاقاً إلا ما دونه الدكتور الربيعي في كتابه هذا, مع العلم أن جهود أنور شاؤل في الكتابة والترجمة للمسرح قد توقفت منذُ ثلاثينات القرن الماضي, لكن ما جمعه الدكتور الربيعي في كتابه هذا يعتبر منجزاً مهماً في هذا المجال الإبداعي التنويري, فقد عرف الراحل شاؤل بسخائه الأدبي والفكري الحداثوي التحريضي, وترجماته للمسرحيات كانت نوعية وفكرية, وما آمن به شاؤل من طروحات تقدمية.
     الكتاب تضمن أربع فصول وملحق, الفصل الأول ضمَّ حياة الراحل أنور شاؤل, حيث ذكر الدكتور الربيعي نبذة عن حياة شاؤل وأصول عائلته الحلية, وجهوده الصحفية, حيث عمل الراحل في بداية شبابه محرراً في مجلة (المصباح) التي أصدرها صديقه المحامي سلمان شينا والصادرة في العاشر من نيسان عام 1924م, وكان شاؤل يكتب باسم مستعار (ابن السموأل), ثم يعقب الربيعي على دور وجهود شاؤل في القصة القصيرة الاجتماعية التي عالجت قضايا الواقع العراقي وقتذاك بصورة خاصة, ومن مجموعة شاؤل القصصية الأولى عام 1930 (الحصاد الأول), و الثانية (في زحام المدينة) عام 1955, كما له مجموعة قصصية مطبوعة ثالثة بعنوان (رجال وظلال).
      يذكر الربيعي عن دور الراحل شاؤل وجهوده في مجال الشعر, حيث كتب الشعر مبكراً ففي ص24 قال : (وأخذ ينظمه على وفق بحور الشعر العربي, وله في ذلك ديوان شعري مطبوع بعنوان (همسات الزمن) بانت فيه إمكاناته في اللغة العربية وفي مجال نظم الشعر, ولعل قصيدته (الفلاح المنكوب) هي قمة إنتاجه الشعري كتبها في سنة 1939, وأعلن فيها عن تعاطفه الوطني مع أفقر شريحة في المجتمع العراقي).
     أما جهود الراحل شاؤل في مجال الترجمة المسرحية فيقول الربيعي في كتابه ص26 : (تتكئ تجربة أنور شاؤل في الترجمة المسرحية على مرجعيات تقف ورائها, فبالإضافة إلى كونه يجيد اللغة الانكليزية والفرنسية وقرأ لآدابها, فهو كان مهووساً بالقصّ والدراما منذ صغره, وإنّ حسه الدرامي يمكن أن يرصده القارئ من خلال قراءة قصصه التي انمازت بصراعها وصورها وحراك أحداثها إلى الدرجة التي ليست في بناؤها لبوساً درامياً).
     وقد كتب الراحل شاؤل عدة مسرحيات منها مسرحية (السموأل) التي قامت الجمعية الأدبية بتقديمها في بغداد سنة 1928م, ويذكر الدكتور الربيعي في ص26 أن الراحل شاؤل ترجم ثلاثة مسرحيات لم نعثر إلا على عناوين لثلاث مسرحيات انفرد بترجمتها (أولاهما, مسرحية (ربقة وإسحق) للكاتبة جوي دافلين)... والمسرحية الثانية هي مسرحية (موسى) للكاتب لورانس لانجار وترجمها شاؤل عن الانكليزية ونشرها في مجلة الحاصد بعددها السادس عشر الصادر في السادس من حزيران 1929, والمسرحية الثالثة هي (وليم تل) للشاعر الانكليزي (شريدان) ترجمها عن الانكليزية وطبعها في مطبعة الجمعية الخيرية ببغداد سنة 1931, وبذلك يعد شاؤل أول من ترجم هذه المسرحية وقدمها منشورة إلى القارئ العربي). كما قام شاؤل بنشر مشهدين منها في مجلة الحاصد : أولهما, مشهد من الفصل الأول نشر في العدد الحادي عشر الصادر في الثامن من تشرين الأول سنة 1931, والآخر نشر في العدد الثامن عشر الصادر في السادس والعشرين من الشهر نفسه.
     وقد ضم الفصل الثاني من الكتاب المقالات المسرحية للراحل أنور شاؤل حيث بوب الربيعي في كتابه مقالات شاؤل الصحفية في مجال المسرح وفق المصدر والعدد والتاريخ, وكانت حصيلة ذلك أربع مقالات صحفية نشرت جميعها في مجلة الحاصد التي كان يحررها شاؤل, أما الفصل الثالث فقد تضمن  نص مسرحية موسى الذي ترجمه شاؤل للمؤلف لورنس لانجر ونبذة عن حياته, وقد بين الكاتب الربيعي أسباب اختيار شاؤل لهذه المسرحية وترجمتها, إذ قال في ص57 : (ما أغرى شاؤل على القيام بهذه المهمة, فاسم المسرحية ... تفصح عن توجه الكاتب لانجر في أن يستلف قصة دينية تاريخية من أعماق الزمن ويحاجج فيها الواقع المعيشي ويحاكمه).
      أما الفصل الرابع من الكتاب فقد تضمن مسرحية (وليم تل) للمؤلف ريتشارد برنسلي شريدان, وهو كاتب مسرحي وسياسي ايرلندي, ولد في دبلن سنة 1751م وقد ترجم الراحل شاؤل هذه المسرحية إلى العربية لأهميتها في ذلك الوقت. كما تضمن الكتاب مجموعة من الصور النادرة ونصوص لمقالات شاؤل الصحفية في مجال المسرح. الكتاب يعد من الكتب المهمة لتراجم أعلام يهود العراق في وقتنا الحالي, ذات طباعة جيدة خالية من الأخطاء.
     دأب الدكتور علي الربيعي في مجال تخصصه (تاريخ الأدب المسرحي), فأخرج لنا هذه الروائع من تلك التراكمات الموزعة في الصحف وبطون الكتب, من خلال المحاورة والمحادثة والزيارة والمطالعة, فهي سياحة في عالم الفن المسرحي والاستنتاج والدراسة والبحث بعيداً عن الطرائق القديمة في الدراسات لعالم المسرح والأدب والفنون من خلال استقرائه وبحثه في نسب الفن المسرحي لأبناء الديانات والمكونات العراقية وريادتهم في هذا المجال, فمواضيع بحثه مهمة وتحتاج إلى الكثير من الدروس والتحليل والاستقراء.
     الدكتور علي الربيعي من خلال مؤلفاته في مجال تاريخ أدب المسرح قد أصاب كبد الحقيقة وحاجة المكتبة العراقية والعربية لمثل هذه الدراسات لقامات وأعلام ساهموا في هذا المجال وهذا النوع من الفن, فهو الكاتب المنتج والمتتبع للمعرفة والمبتكر لكل جديد, فقد عشق الربيعي الكتابة والصحافة وأدب الفن المسرحي منذ نعومة أظفاره.
      أقول للدكتور علي الربيعي : لقد كنت صائب الرأي في اختيارك لمواضيع وعناوين مؤلفك هذا وما سبقه, كنت موقداً ومتوقداً في مؤلفاتك, تضيء للجيل الجديد دربه سابق الطرف لا تجاري, وكائنٍ صلتَ صولة الأبطال في كل حلبة, فقد عرفتك عن قرب هادئ الطبع, جمَّ الظرف, ذا ألفة وصادق صحبة, لكَ فكر قد أخلص لقلمك, مخلصاً للأصدقاء والأحبة, تستقي الرفق والرقة واللطف والهوى والمحبة.
 
 

226
قراءة في كتاب .. شذرات من مناهل المعرفة للباحث عبد الأمير الشلاه
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      كتاب شذرات من مناهل المعرفة هو حصيلة جهد كبير ومتواصل من القراءة والمتابعة اليومية لكل ما يصدر من جديد في جميع مجالات العلوم والثقافة والأدب والفلسفة والتأريخ والاقتصاد خلال أربع عقود من الزمن جمعها الكاتب والباحث عبد الأمير الشلاه, ووضعها أمام القارئ الكريم, أي بمعنى خلاصة مطالعة أربعين عاماً وضعها جاهزة ليطالعها كل من رغب أن ينهل من العلوم والمعرفة وليتسلح بها في حياته الثقافية والأدبية اليومية. الكتاب حصيلة موضوعات وأوراق واقتباسات متناثرة في الحكم والثقافة, جعلَّ منها السيد الشلاه مشروعاً ثقافياً ضمن كتاب.
      الكتاب عبارة عن شذرات متنوعة رأى الكاتب إصدارها بكتاب على أن تفيد القارئ والمثقف, وقد أدرجها بأسلوب مبسط كما أشار إلى ذلك في صفحة 8, وكانت دعوته للكتاب إلى الكتابة بأسلوب بسيط حيث قال :" إنها دعوة للتقليل من استعمال المفردات الأجنبية الصعبة التي يصعب على القارئ غير المتخصص فهمها. إننا بحاجة إلى لغة وسيطة تخاطب أوسع شرائح المجتمع... فللمتلقي سلطة أكبر من سلطة الكاتب فهما شريكان في عملية فكرية واحدة هدفها الأساس التواصل مع المتلقي".
     الكتاب صادر عن دار ينابيع في دمشق هذا العام 2017, يحتوي على (655) صفحة من الحجم الكبير الوزيري, تضمن الكتاب خمسة فصول, تناول الفصل الأول شيئاً من أهمية إعادة قراءة التاريخ وأحداثها المختارة, في معظم الموضوعات يتحدث الكتاب عن تاريخ العراق وحضارته بمراحلها التاريخية.
     أما الفصل الثاني فقد تحدث الكاتب عن الثقافة ومفاهيمها وأهمية الكتاب واللغة للتواجد الجماعي البشري, وتاريخ تولد الثقافة ومراحلها التاريخية ومهماتها وأنواعها, ثم علاقة الثقافة بالسياسة وأزمة المثقف والثقافة العراقية, ووضح الكاتب ثلاثة أصناف للمثقف (المثقف النقدي, المثقف العضوي, المثقف الكوني), ثم يعقب الكاتب في كتابه  إسهامات المثقفين في بناء الحضارة والثقافة الإنسانية منذ الإرهاصات الأولى في التاريخ الإنساني, وأول ما واجه المثقف في مشروعه النهضوي إشكالية شرعية السلطة والمثقف, ومن ضمن توصيات الكاتب حاجة المعرفة إلى فضاء واسع, وابتعاد السلطة عن وضع الرقابة التي تتوخى الوضوح في كل شيء والموالاة لا الغموض, والمشكلة اللغوية لا تزال فاعلة إلى يومنا هذا, وضآلة حصة المعرفة إزاء حصة السلطة.
      أما الفصل الثالث فقد اجتهد الكاتب بإعطاء القارئ هذا الفصل منتجع استراحة ينهل منه المتلقي لأكثر من (660) حكمة مُحكَمة وقول حكيم, ليتزود القارئ بفيض معرفي سلوكي يتسلح به لمواجهة شؤون الحياة, ويعتقد الكاتب في صفحة 305 إن الحكم والأمثال وسيلة ناجحة من الوسائل التي يلجأ إليها الباحثون والدارسون لقراءة موضوعية حقيقية لسيكولوجية شعب من الشعوب, ويستثمر الكثير من الكتاب والشعراء طاقة الحكم والأمثال للتعبير المركز الغني والمكثف في الموضوعات التي يتناولها في أشعارهم وكتبهم.
      وقد تضمن الفصل الرابع موضوعات ومفاهيم ومعالجات اقتصادية كلاسيكية وحديثة منها ما يتعلق باقتصاد العراق والمشكلات التي تعترض سبل تطوره, وتاريخ النقد والأوراق النقدية وظاهرة التضخم والانكماش, ونشوء وتطور الرأسمالية, ومراحل تطور قوى الإنتاج, كما عرج الكاتب على الاقتصاد الإسلامي والمصارف الإسلامية, والموازنة والدخل القومي, والأزمة العالمية المالية, وأسباب المشكلة السكانية, واعتماد العراق على الاقتصاد الريعي, ووضح الكاتب ما يخص غسيل الأموال والمراحل الرئيسية لغسيل الأموال, ووضح الكاتب الكثير من المصطلحات الاقتصادية والمالية.
     أما الفصل الخامس والأخير فقد تضمن شذرات من مناهل الفلسفة, ودور الفلسفة في تطور الفكر الإنساني, وسجالات عن أخطاء الفلاسفة اليونان التي أصلحها العرب. أما موضوع إهداء الكتاب فقد أهدى الكاتب السيد الشلاه الكتاب إلى رواد شارع المتنبي التواقين للمعرفة والعدل والحرية.
    يذكر الكاتب في صفحة 16 حول موضوع إعادة كتابة التاريخ قال :" إن محاولة إعادة كتابة التاريخ تأتي وفق منظور أصحاب السلطة والمال وليس من منظور القوى الاجتماعية الفاعلة في كل منجز إنساني أو حدث تاريخي لصالح الخير والسلام", ففي تاريخ العراق القريب حاولت حاشية النظام السابق العبث بتاريخ العراق والإتيان بشواهد تاريخية لا تصمد أمام الحقيقية لتوظيفها تبريراً للحروب والمآسي, ما زالت القوى تدفع أثمان أخطاء وجرائم أباطرة التاريخ قديماً وحديثاً, لكن مع هذا نقول إن التاريخ لم يكتب بصورة عادلة مطلقاً, وإن التاريخ نسبي وليس حقيقي, ولذلك قال الشاعر الرصافي :
نظرنا بأمر الحاضرين فرابنا                فكيف بأمر الغابرين تصدقُ
     الهدف من توثيق وكتابة التاريخ هو لمعرفة الإنسان بنفسه أي معرفة ما يستطيعه الإنسان, فقيمة التاريخ لكي يحيطنا علماً بأعمال الإنسان في الماضي وحقيقة هذا الإنسان. يعقب الكانب السيد الشلاه في كتابه على دور ابن خلدون في إظهار تبعية المجتمعات لقوانين ثابتة, كما قال أكد ابن خلدون حول الحتمية التاريخية, وقد عقب الأستاذ جورج شحاته قنواتي حول دور وأهمية ابن خلدون قال :" لقد دلت الدراسات المقارنة للأدب العربي أن بن خلدون كان سبّاقاً في ميدانين, فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع, وأول من أشار إلى أهمية ابن خلدون وسماه (مونتسكيو العرب) ثم ترجمت المقدمة ومختارات منها إلى اللغات الألمانية والفرنسية والانجليزية والبرتغالية ولغات عالمية أخرى). لذلك يعتبر ابن خلدون الفقيه والفيلسوف الذي ضارع عمالقة النهضة بعبقريته العالمية منذ القرن الرابع عشر.
     استخدم الكاتب والباحث السيد الشلاه أسلوباً جديداً في فهرست الكتاب, إذ تضمن الكتاب لكل فصل فهرسة خاصة به, فضلاً عن مصادر ذلك الفصل, وغاية الباحث الدقة في التوثيق, كما اعتمد الكاتب في كتابه المهم هذا على أكثر من (239) مصدر بين كتاب ومقال في صحيفة أو على مواقع النت الالكترونية. الكتاب يمثل مختلف الاتجاهات التي جمعت خلال مسيرته الحياتية.
    لقد اسعد الكتاب جميع الذين اطلعوا عليه كما أسعدني لهذا الكم الوافر من المعلومات, في هذه القراءة للكتاب, لست هنا إلى الإشارة إلى الايجابيات والسلبيات للكتاب وإنما لأشد على يد الكاتب والباحث الشلاه بعد أن تجاوز عمره العقد السابع وهو في إبداع متواصل في كل مرة يتحفنا بمؤلف جديد وفي مجال معين بعيد عما كتبه سابقاً وفي اختصاص جديد.
    إن هذا الجهد الرائع يكشف عن عمق حب الكاتب السيد الشلاه للمعرفة وحرصه الشديد على متابعة وجمع وتوثيق المعلومات من مصادرها, إلا أنه في الفصل الأول من الكتاب لم يدخر وسعاً في الرجوع إلى بعض المصادر الموثقة وقد أشار السيد الشلاه في مقدمة كتابه, أنه قد كتب بعض قصاصات الورق وبغفلة من الزمن نسى المصدر, لكن الكتاب يعتبر موسوعة فيما جمع الباحث الشلاه من معلومات لا يستغني عنها الطالب والباحث والمؤرخ والمحب للثقافة.
      يتمتع السيد الشلاه بقائمة من المعلومات في كتابه هذا, حيث أتحف بها القراء, وهي عبارة عن فاكهة من بستان المعرفة, تكون مصدراً للباحثين لما وثق من معلومات وحقائق لقضايا تقادمت عليها الأيام, كان الغاية من كتابه هذا يخشى السيد الشلاه أن تفقد أو تنسى من قائمة من الملاحظات حول كتب ومصادر اطلع عليها, فهو طاقة لا تنضب من الإبداع في الكتابة.
     الكاتب والباحث السيد عبد الأمير شمخي الشلاه, رجل غني في عطائه, ممتع في أسلوبه البحثي, رقيق المشاعر, عذب الحديث, طيب القلب, جميل المعشر, كتب في أبواباً متنوعة بين الدراسة النقدية في شعر الجواهري في كتابه الموسوم (الجواهري هذا المغني لنور الشمس), وفي مجال العولمة. وكتابه البحثي نفطنا ثروة أجيالنا, وحقوق الإنسان في الميزان, وأخيرا كتابه هذا (شذرات من مناهل المعرفة), إلى جانب العديد من الدراسات والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية. وأتمنى لأستاذنا السيد الشلاه المزيد من الصحة والعافية, والمزيد من الإبداع والمؤلفات لتضاف إلى المكتبة العراقية والعربية.

227
الإيغال في الانتحال للجهد الأدبي والفكري
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      انتشرت هذه السرقات بين الأدباء و الكتاب والباحثين العراقيين لسهوله النشر والطبع، دون مراجعة أو موافقة من جهات ذات العلاقة، وهؤلاء المنتحلين والسرّاق ازدادوا في الآونة الأخيرة، حيث ظهر أخيراً وخلال النصف الأول من عام ٢٠١٧ ثلاثة سراّق في مدينة الحلة, الأول يحمل شهادة الدكتوراه والثاني عامل في دار نشر والثالث شاعر معروف في الوسط الأدبي والثقافي, وأحد هؤلاء شكر حاجم الصالحي.
      السرقات الأدبية والسرقات الفكرية، هي انتحال لحقوق الملكية الفكرية للآخرين، تعرّفها موسوعة ويكيبيديا العربية بأنها "إدعاء شخص صراحة أو ضمناً بكتابة ما كتبه آخر أو النقل مما كتبه آخرون كلياً أو جزئياً بدون عزو أو اعتراف مناسب. أي بمعنى أنك كتبت ما كتبه غيرك ومن أنواع السرقات، استنساخ موضوع كتاب أو بحث بكامله، وكذلك نسخ الموضوع وإجراء تغيير جزئي شكلي أو تعديله بتغيير بعض الكلمات أو الفقرات أو حشوه ببعض الفقرات الصغيرة.
     
      صدر خلال هذا الشهر (مايس) 2017م عن دار الفرات للثقافة والإعلام في مدينة الحلة كتاب يحمل عنوان (مصادر الأصفهاني في كتاب الأغاني), وهو بداية سلسلة موسوعة الشاعر علي الحسيني, يقع الكتاب في (255) صفحة من الحجم المتوسط, الكتاب يحتوي على ثلاثة أبواب, الباب الأول يحتوي على سيرة حياة المؤرخ (أبي الفرج الأصفهاني), ومصادر الكتاب, والرسائل والمكاتبات, أما الباب الثاني فيتضمن قائمة الكتب التي اعتمدها أبو الفرج الأصفهاني في تأليف كتاب الأغاني وأهمية الرواة ورواياتهم, أما الباب الثالث فيحتوي على أهم الرواة وأهم المصادر التي اعتمد عليها أبو الفرج في تأليف الأغاني.
     من خلال ما وقع خلال هذا العام من الإيغال في الانتحال, وسرقة جهود المؤلفين الأدبية والفكرية أقول :  يمارس الكاتب عمله المهني في الإنتاج الأدبي والفكري، ليس طمعاً في الثراء وإنما لتحقيق الذات وممارسة مهامه كمثقف في المجتمع. فالجهد الفكري الذي يبذله الكاتب كي يصل إلى الشكل النهائي لنتاجه الفكري أو الأدبي، يختلف كلياً عن جهد أي فرد أخر في المجتمع مهما كانت مكانته الوظيفية.
      يقول الأستاذ صاحب الربيعي في مقاله ((نصائح مهمة للكاتب للتعامل مع دور الطباعة والنشر في الوطن العربي)) أن الجهد الفكري الذي يبذله المرء للإنتاج الأدبي أو الفكري، لا يتوقف عند ساعات محددة من ساعات العمل اليومي، فإنتاج الفكرة قد يستمر طوال ساعات النهار والليل، بل حتى في المنام يستمر العقل الباطن للكاتب, العمل للوصول إلى استكمال الفكرة, وهذا المخاض الكبير ربما يستمر لأشهر أو لسنوات حتى ينتهي الكاتب من عمله الأدبي أو الفكري, فأن الكاتب يخسر أكثر مما يكسب في مجال عمله الأدبي والفكري، لكن مقابل ذلك يحصل على الشهرة والمركز الاجتماعي المرموق خاصة عند النخبة الاجتماعية، كما أن هناك فرقاً شاسعاً بين عملية سرقة صافي الجهد الفكري والبدني من قبل الطفيليين)) , ومن خلال العرض السابق، نصل إلى استنتاج مفاده : أن الكاتب يصرف جهداً كبيراً لكنه لا يحصل لقاء ذلك على أي مردود، بل العكس ينفق فوق ذلك مدخراته المالية من أجل طباعة نتاجه الفكري, لغرض دعم الجانب الأدبي والثقافي لبلده, مع كل هذا ينتحل نتاج الكاتب أحد المنتحلين الطفيليين الفاقدين للأخلاق والتي سمتهم الأولى في الحياة هي الإيغال والانتحال, وهذه الصفات مخلة بشرف مهنة الكاتب أو الباحث.
     والى حضراتكم نسخة من الكتاب المنتحل من قبل شكر حاجم الصالحي, مطابقة مع نسخة حديثة لمؤلف الكتاب الحقيقي علي الحسيني رحمه الله, أجد لا خلاف بين الكتابين إلا في الإهداء من قبل الكاتب الصالحي, ولكن بعد معرفة د. نصير علي الحسيني ابن المؤلف الحسيني, أن مؤلف والده انتحله شكر حاجم الصالحي وطبعه طبعتين لغرض الشهرة,  الطبعة الأولى عام 2011 في دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة, والطبعة الثانية في دار تموز عام 2015 في سوريا, كانت ردة فعله قاسية بسبب قرب هذا المنتحل الصالحي للعائلة ومواقف العائلة الطيبة معهُ, إلا أنه غدره وفعلته الشنيعة المخلة بشرف مسؤولية الباحث والكاتب, كتب د. نصير علي الحسيني في مقدمة الكتاب, وهي الطبعة الجديدة وباسم المؤلف الحقيقي ما يلي : ((هذه الدراسات بقيت محفوظة لفترة طويلة, واليوم أجد من المناسب أن تخرج هذه النتاجات الأدبية والعلمية إلى النور خدمة للباحثين والدارسين بعد أن هزتني وأرعبتني حادثة هذا الكتاب تحديداً التي لا أريد أن أعرج عليها)), لكن ما حيرني أن الشاعر شكر حاجم الصالحي أهدى الكتاب للشاعر حميد سعيد عرفاناً بالجميل, أي بمعنى لص يهدي كتاب مسروق إلى الشاعر حميد سعيد, وأقول للصالحي ((أي عرفانٍ بالجميل, وأي جميل صالحي)), ولكن لا اعرف ما هو رد فعل المنتحل شكر حاجم الصالحي, بعد أن وقع في هذا المطب, وهو الصديق الحميم للشاعر علي الحسيني ولعائلته الكريمة.
      من خلال الطرح السابق نجد بعض الكتاب ممن يميلون لتبرير مصادرة حقوق النشر ومؤلفات الآخرين تسميتها ((توارد الخواطر)), أو كما ذكر شكر حاجم الصالحي لأحد الأصدقاء عند معاتبته على هذه الفعلة ((انها سهواً)), وأي سهو يا صالحي بفعلتك هذه, لكن البعض يكون عذره أقبح من فعله مستشهدين بحادثة (إبراهيم عبد القادر المازني) حيث ترجم رواية عن الروسية إلى اللغة العربية واسماها (ابن الطبيعة) عام 1920م, ليفاجأ نفسه عندما قام بطبع قصته (إبراهيم الكاتب) عام 1930م بتضمينها أربع أو خمس صفحات من الرواية الروسية لابن الطبيعة بالحرف والفاصلة والنقطة ذاتها, ليقول مذهولاً مما حصل بدون إرادة منه : "لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي, فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي".
     مع هذا  كثيراً ما نسمع عن مصادرات أدبية واضحة اللفظ والمعنى والفكرة أيضاً, ولكن أغلبها هي غير واضحة المعالم, أي بمعنى أدق يحمّل هذا المدلس الصالحي عملهُ بإبداعه الشخصي فقط في الإهداء ونسبها إليه, ونظراً لوجود أمثال هؤلاء المدلسين والمنحرفين السارقين لحقوق الآخرين من البحث والتأليف أصبحت حالة مشاعة وبعيدة كل البعد عن حماية الملكية الفكرية وحق المؤلف, وبعض العبارات تتردد هنا وهناك مثل هذه التصرفات الوقحة وغير مسؤولة, ولو برّر لها قبلاً أرسطو باعتبارها استعارة وعلى حد قوله (الاستعارة هو من علامات العبقرية).
     إن هذا الانتحال والتدليس وسرقة نتاج الآخرين, مما دعاني لتتبع سقطاتهم والإطلاع عليها لفضحها, والغاية منها لإقاف الآخرين من القيام بمثل هذا العمل المشين.
 
 


228
الغناء بين الحلال والحرام
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     ظاهرة الغناء أخذت كصبغة شعبية من حيث الانتشار في العراق والوطن العربي منذ زمنٍ طويل, والبعض يقول منذ زمن العصر العباسي, كانت أحكام الناس النقدية للغناء تؤخذ بعين الاعتبار, فضلاً من قبل المغنين والمغنيات ورواد المجالس, وللأدباء والشعراء الرأي الأرجح في تقييم الغناء والأصوات الحسنة, يقال سئل حكيم عن الفرق ما بين غناء النساء والرجال, فقال : ما خلقت الأغاني إلا للغواني. وقيل : نعيم الدنيا أن تسمع الغناء من فم تشتهي تقبيله.
     قال الجاحظ : كم بين أن تسمع الغناء من فم تشتهي تقبيله وبين أن تسمعه من فم تشتهي أن تصرف بصرك عنه, وأيهما أفلح أن يغنيك فحل ملتف اللحية وشيخ منخلع الأسنان متغضن الوجه, أو تغنيك جارية كطاقة نرجس أو آس(1).
      أما المسألة الشرعية في الغناء أو ما أطلق عليه (الرخصة في الغناء) وهي تسير في ركب الحضارة ونهضتها دون الخروج أو الإخلال بمقومات الشريعة, إذ اعتبر الفُرس الغناء أدباً وعده الروم فلسفة كما ذكر ذلك الجاحظ في رسائله ج2, ص158, لذلك عندما استفتى أبو حنيفة وسفيان الثوري, ما تقولان في الغناء؟ فقالا : ليس من الكبائر ولا من أسوأ الصغائر. وقيل للعتابي فقال : حلال من الفائق, حرام من غير الحاذق, وسئل بعضهم فقال : هو من ارتياح الكرم وامتياح النعم. من قال هو مباح وإلا فليس فيه جناح, قد يعفو الله عما فوقه ويأخذ بما دونه(2).
    وقد ذكر الأصبهاني أن أثر الصحابة بهذا الأمر يشهد بعدم تحريمه, أن الخليفة عمر بن الخطاب مرَّ بدار قوم فسمع ضجة, فقال : ما لأمر؟ فقيل : عرس, فقال : وما يمنعهم أن يخرجوا غرابيلهم (الدفوف) فإنها من أمارة العرس.
     وحضر الشعبي وليمة فقال : كأنكم في نائحة, أين الدف؟. وقد حاول بعض المتزمتين من الفقهاء بحضرة الرشيد أن يفرض آراءه في هذا الشأن, فقال, لابن جامع المغني : الغناء يفطر الصائم. فقال ابن جامع : ما تقول في بيت عمر بن أبي ربيعة : أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكر. أيفطر الصائم؟ فقال : لا. فقال ابن جامع : إنما هو أن أمد به صوتي وأحرك به رأسي(3).
      وللغناء اثر لنفوس الناس إذ يقول شوقي ضيف (كأنه نعيمهم في دنياهم)(4), فهم لا يؤثرون سواه لما يبعث في نفوسهم من غبطة وابتهاج, وتذكر المصادر أن الغناء انتقل إلى العراق من الحجاز أواخر عصر بني أمية, إلا أنه انتشر في بغداد بشكل ظاهرة ملحوظة في الأوساط الاجتماعية العباسية منذ أيام تسلم المهدي ابن المنصور لصولجان الخلافة, حيث جذبت بغداد إليها المغنين والمغنيات من كل فج, ونثرت عليهم الأموال نثراً, بل كالتها كيلاً, وأول من كالها من الخلفاء العباسيين المهدي نفسه(5).
     وقد اشتهر من المعنيين في عهد الرشيد من الطبقة الأولى كل من : إبراهيم الموصلي وإسماعيل أبو القاسم وابن جامع وزلزال, ومن الطبقة الثانية : سيلم بن سلام وعمرو الغزال, ومن الطبقة الثالثة : أصحاب المعازف والونج والطنابير(6).
      وضمن الطبقات الأولى للمغنين والملحنين زرياب وقد حقق وإبدع في مجال الغناء والتلحين, إلا أن اسحق الموصلي حال دون ذلك خوفاً من المنافسة واخذ مكانه لدى الخليفة, فهاجر زرياب إلى الأندلس زمن عبد الرحمن الأوسط.
    وقد افرد العلماء والمفكرين المسلمين الوقت الكافي في بعض كتبهم في مجال الموسيقى والغناء, منهم : الكندي والفارابي وابن سينا وابن زيلة, وخصص أخوان الصفا واحدة من أهم رسائلهم, رسالة في الموسيقى لتثبيت العلاقة بين الموسيقى والفكر الرياضي والفلسفي من النواحي المختلفة.
      وقالوا بعض الحكماء : من سمع الغناء, فلم يرتح له كان عديم الحس أو سقيم النفس, وكان حكماء الهند يسمعون المريض الغناء, ويزعمون انه يخفف العلة ويقوي الطبيعة, وبالأصوات الطبيعية ينوّم الطفل, وتحدى الإبل, وتجمع الأسماك في حظائرها, وقالوا الغناء غذاء الأرواح.
      كما يذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني أن من ابرز من اتخذ الغناء لذته واهتمامه الأرأس إبراهيم بن المهدي اخو الرشيد, وأخته عليّة بنت المهدي, كانا من كبار المغنين المجودين, وقد اشتهرت لإبراهيم أصوات كثيرة وكذلك عليّة فقد خلفت فيه ثلاثة وسبعين صوتاً, أي لحناً (7).
 
المصادر
1-   الراغب الأصفهاني. محاضرات الأدباء ومحاورات البلغاء والشعراء. منشورات مكتبة الحياة. بيروت. 1961. ج2.ص718.
2-   الراغب الأصبهاني. المصدر السابق. ج2. ص715.
3-   الراغب الأصبهاني. المصدر السابق. ج2.ص715.
4-   شوقي ضيف. العصر العباسي الأول. منشورات دار المعارف. مصر. ط6. ص59.
5-   د. خير الله سعيد. مغنيات بغداد في عصر الرشيد وأولاده. منشورات وزارة الثقافة السورية. دمشق. 1991م. ص39.
6-   الجاحظ. التاج في اختلاف الملوك. تحقيق احمد زكي باشا. القاهرة. 1914م/ 1332هـ, ص37/38.
7-   أبو الفرج الأصفهاني. الأغاني. طبعة دار الكتب المصرية . ط1. 1927م/ 1345هـ. ج10. ص174.


229
المنبر الحر / الساخته جي
« في: 17:28 25/04/2017  »
الساخته جي
نبيل عبد الأمير الربيعي
(الساخته) كلمة فارسية فإذا استعملناها في تركيب منسوب إلى اللغة التركية أصبحت (ساخته جي) أي الرجل المزيف (بكسر الياء وتشديدها), وقد استخدمها ابناء بغداد في العهود القديمة, ولو دققنا النظر اليوم في أحوال سياسيو العراق ونزلت على (طينهم الحرّي) لما تمالكت نفسك, وما أكثرهم في المبدأ يهتفون في وجوب بناء دولة مدنية, أو دولة المواطنة, أو دولة القانون والمواطن, وكل منهم حرباء على طول الفضاء وعرضه, وهؤلاء هم الأكثرية بلا شك.
وهناك (ساخته جيه) في الظهور بالتمسك بالدين والمبادئ الأخلاقية والقومية, وفي الباطن (يصرطون الجمل بما حمل) , وإذا جردتهم عن لباسهم الديني الوقور ورميت أحدهم في دجلة لمنعت مديرية صحة العاصمة استعمال مائه , هؤلاء هم من يصطادون المشاريع والمقولات والمطارات في الماء العكر وهم الأكثرية, وبعضهم يستغفلون العامة في مخترعاتهم من دعوة البسطاء وسذج العامة للخرافات والحروز والأدعية والاهتمام ببعض الطقوس .
 


230
قراء في كتاب اجتماعية التدين الشعبي.. دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية
نبيل عبد الأمير الربيعي
      تعتبر الظواهر الدينية والممارسات الطقوسية انعكاس لعقيدة المجتمع, وهي سلوكيات تبحث عن طريقة جلد الذات وفق مفهوم التدين الشعبوي, والفهم الاجتماعي للتدين وفق نمط الطقوس العاشورائية التي تحدث في الأيام العشرة الأولى من محرّم, والتي أثرَّت هذه المشاهد على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمناطق الفرات الأوسط والجنوب العراقي, والسبب هو الثقافة الشعبوية في تلك الطقوس من خلال تجديدها وتفاعل المجتمع المحلي مع الرموز المظلومة التي سفكت دمائها لقسوة الحكام في العهد الأموي, وقد انتقلت هذه الطقوس لاشعورياً من جيل إلى آخر وفق مفهوم قدسية الدين والتدين الشعبوي المقدس.
      عن دار الرافدين في بيروت صدر للكاتب والباحث مهتدي رضا الأبيض كتابه الموسوم (اجتماعية التدين الشعبي.. دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية) الذي يحتوي على (222) صفحة من الحجم المتوسط ذات الطباعة الراقية الخالية من الأخطاء الإملائية والطباعية. الكتاب يحتوي على مقدمة ومفاهيم للمصطلحات الهرمينوطيقا والتأويل, وقد قسم الكتاب إلى خمسة فصول, واحتوى الفصل الأول على الرؤية الكونية للممارسات الطقسية, أما الفصل الثاني يمثل نبذة تاريخية عن تاريخ الطقوس والشعائر, والفصل الثالث مثلَّ الثقافة السياسية والاقتصادية للطقوس العاشورائية, والفصل الرابع يمثل التأويل الثقافي للطقوس العاشورائية, أما الفصل الخامس والأخير فهو مخصص حول وصف الطقوس العاشورائية, ومن ثم يليها البوم الصور لمواكب هذه الطقوس.
     الكاتب والباحث الأبيض في كتابه هذا يمتلك القلم الجريء في طرح مثل هكذا موضوع في هذا الوقت الصعب الذي قد يتعرض له الكاتب من قبل بعض الغوغاء باعتبار أن الكاتب قد مَسّ احد طقوسهم الثابتة دينياً. وفي هذا الوقت التي تهتم به الطائفة الشيعية بالطقوس العاشورائية وتعتبرها خط أحمر لا يمكن المساس بها أو انتقادها, يطرح الكاتب في ص19 موضوع سوسيولوجيا التدين الشعبي وفق عنوان الكتاب, إذ يقول (وقد تم توجيه العنوان من زاوية أخرى تتعلق بمفهوم السوسيولوجيا بسبب من الخلاف الحاصل فيما ينطوي عليه هذا المفهوم), ثم يطرح الكاتب مفهوم التأويل وفق المفهوم العربي الإسلامي إذ يقول في ص22 (إن مصطلح التأويل تمت مداولته بين الفرق والمذاهب الإسلامية, فكل فرقة أخذت تجادل وتؤوّل النصوص الدينية حسب رؤيتها للعالم... لذلك نرى أن نصر حامد أبو زيد وعلي حرب وآخرين تبنوا التأويل للنقد الأدبي وفهم الدلالة والمعاني التأويلية عن الفرّق والمذاهب الإسلامية كقراءة جديدة أكاديمية).
     لكن أجد أن الممارسات العاشورائية منها ما يكون شعائر ومنها ما يكون طقوساً, فضلاً عن أن الممارسات جوهرها شعيرة ولكن بعض أشكالها تعتبر طقوساً, لكن الإيمان عند الشيعة الإمامية له تجسيد ظاهري ومعنى باطني, فهي ليست نوعاً من أنواع الحدث وإنما هي وسيلة إعلاميّة تعبر عن أنواع الأحداث والتصرفات الاجتماعية, والبعض يعتبرها ممارسات ثقافية منها ديني ومنها اجتماعي, فالممارسات العاشورائية التي تظهر في الشوارع على شكل تظاهرات هي طقوس وليست شعائر, لأن تلك الممارسات دخلت على الشعائر الحسينية من الخارج, فمنها مسيحية أو يهودية أو هندية, فهي طقوس بدائية تمارس من اجل استمالة الأرواح العليا لجلب منافعها ودفع مضارها, أو من اجل الشفاعة وغفران الذنوب والهروب من الواقع والبؤس المؤلم, لذلك يتساءل الكاتب في ص31 ويقول (هنا ما زالت آثار الثقافة البدائية قابعة في لاشعورنا الجمعي؟ أم نحن ما زلنا بدائيين بامتياز؟ ومن المؤسف والمحزن أن نجد رجال الدين كباراً يؤلفون كتباً يحاولون شرعنة طقس التطبير, ويحولونه من طقس وثني وبدائي ودخيل إلى طقس شرعي, ويلصقونه بالشعائر الإسلامية).
    لذلك تعتبر الطقوس العاشورائية ناجمة عن الشعور بالذنب لمقتل الإمام الحسين, وإن الظلم الذي انتفض من اجله الحسين ما زال موجوداً إلى يومنا هذا, مما اتخذ من الطقس العاشورائي حفلاً تكرارياً تقليدياً من اجل الثواب والغفران للذنوب.
     فضلاً عن مساهمة جملة من العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في جعل التديّن الشعبي بعد الحرب العالمية الثانية موضوع رهان اجتماعي/ سياسي, أسهم هذا الوضع في تطوير مسار بناء مفهوم (التديّن الشعبيّ) علمياً وسياسياً, أي عندما يدخل السياسي في الديني فحتماً سيخضع للرؤى الكونية الدينية لأدلجة الدين للنهج السياسي من خلال سيطرة السياسي وكتل الإسلام السياسي على عقلية أبناء المجتمع العراقي, وهذا ما حدث بعد عام 2003م, وترويج نظرية الطاعة العمياء كمبدأً راسخاً في عقول المجتمع بفضل أفكار الفقهاء ورجال الدين.
     لذا يؤكد الكاتب مهتدي الأبيض في كتابه هذا في ص93 يقول (فإن التديّن الشعبيّ المتمثل بطقوس عاشوراء في العراق يحمل دلالات سياسية وثورية واضحة جداً, وذلك لاختزال الذكرى الحسينية لفاجعة كربلاء كلَّ المبادئ والقيم الثورية التي كرّسها صاحب الذكرى, لذلك جاء إحياء الطقوس العاشورائية مكتنزاً بدلالات سياسية كثيرة لم ترق لمزاج السلطات على مرّ العصور).
     فالعراقيون ينظرون إلى الدولة التي تدين بمذهبهم كأنها المنقذ لهم وليست دولة احتلال وانعكس هذا الأمر على الحكومات اللاحقة, إذ أحكمت حكومة البعث السيطرة على كل أنماط الطقوس الدينية الشيعيّة والسنيّة وصولاً إلى مرحلة المنع للطقوس الشيعية التي كانت عن وحدة الجامعة الشيعية الممتدّة بين بلدين متحاربين قديماً هما الدولتين العثمانية والفارسية. وبعد عام 2003م وهو عام التغيير السياسي الذي حصل في العراق وكان السبب في صعود النخبة السياسية الشيعية أكثر من مرَّة لسدَّة الحكم, هو قيام السلوك الانتخابي على أساس طائفي, وهذا السلوك السياسي بطبيعته خاضع للرؤى الكونية والإيديولوجية الدينية المترسخة في عقلية الفرد المتدين.
     يذكر الكاتب الأبيض في ص50 من كتابه العلاقة بين الوعي والطقس يقول (والجدير بالإشارة أن هناك علاقة عكسية بين الوعي والطقس, فكلما ارتفع وعي المجتمع قلَّت ممارسة الطقس, وكلما هبط وعي المجتمع كثرت ممارسة الطقس), ثمّ يتساءل الكاتب ويقول : لماذا؟, ويجيب (إن المجتمع الواعي هو مجتمع يمتلك أفراده الثقة بالنفس والشعور بالمسؤولية, وهذا يؤدي إلى العمل الصالح وتحقيق الطموح والأهداف, وبالتالي يحقق الرضا والحياة لأفراده, ويحقق الرضا للسماء والأرض والتاريخ, ويسعى إلى تحقيق الجنة الأرضية قبل السماوية, مثل هذا المجتمع لا يحتاج إلى طقوس فهو يتمسك بثوابت الدين فحسب).
    وهذا ما يترتب عليه التمسك بالطقوس الانفعالية في المجتمعات البدائية والمضطربة, لأن المجتمع البدائي أو المضطرب يكون انفعاله أعلى من وعيه, والتضامن الاجتماعي أعلى من الفردية, مما يؤدي إلى الفساد والضغوط النفسية والنقص الوجودي ولعنة السماء ولذلك يستوجب ممارسة الطقوس من اجل الشفاعة والغفران.
     أما لو عدنا إلى تاريخ شهر عاشوراء في الجاهلية كما يذكر الكاتب في ص71 (كانت تعتبر عاشوراء يوماً دينياً فتصومه, وفي هذا اليوم كانوا يحتفلون, ويعيّدون, ويكسون الكعبة, فتظهر علامات التديّن ويمارسون الطقوس, وعلّلوا ذلك أن قريشاً أذنبت ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم, وأرادوا التكفير عن ذنبهم فقرّروا صيام يوم عاشوراء, فصاموا شكراً للإله على رفع الذّنب عنهم). وهذا ما ذكره العلامة محمود شكري الآلوسي البغدادي في كتابه (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) الجزء الثاني الصفحة 288, وقد عللوا قريشاً سبب صيامهم هذا اليوم, أنه كان قد أصابهم قحط ثم رفع عنهم فصاموا شكراً, فضلاً عن أن المؤرخ جواد علي يشكك في هذا اليوم ويعطي جملة من الأسئلة الاستفهامية منها أن هذا اليوم هو صوم عاشوراء لدى اليهود وهو صيام كفارة واستغفار عندهم, ويظهر أن الرواة أقحموا اسم قريش في صيام عاشوراء لإثبات أنه كان من السُنّن العربية القديمة.
    ثم يسرد الكاتب الأبيض حول واقعة عاشوراء واستشهاد الحسين في العصر الأموي , وتبدأ الطقوس بعد ذلك ليوم عاشوراء في العهد العباسي والدولة البويهية ومن ثم الدولة الصفوية حتى عهد الاحتلال البريطاني والملكية والجمهورية, وهو توثيق وفق مصادر تاريخية لما لهذا اليوم من أهمية لدى أبناء المذهب الشيعي العراقي.
     من الواضح أن التديّن الشعبي قد انقلب إلى موضوع رهان سياسي/ ايديولوجي, فالسلطات الرسمية عملت في الحكومات اللاحقة في العراق بعد عام 2003م على توظيفه لمقاومة الطرف الآخر, كما وظفته لتجييش الشعور الديني العام وتعبئته لخدمة أهدافها السياسية. فالسلطة السياسية أو القوى الشيعية التي أسهمت في حكم العراق تدرك أنّ هذا الاستعراض الشعبي يعد أهم مصادر قوتها ومسوغات بقائها, وفي الوقت نفسه فإن المجتمع الشيعي يدرك أيضاً أنّ وصول هذه القوى للسلطة يمنح هذه الممارسات والطقوس بقاءها وديمومتها, والدليل على ذلك في ممارسات طقوس عاشوراء من كل عام تجد هناك منصات تابعة إلى أحزاب سياسية تقوم باستقبال المواكب العاشورائية لتوظيف الظاهرة نحو غايات سياسية, وهي الورقة الرابحة لصعود هذه الأحزاب لسدّة الحكم, مما حول العراق بدل من اتخاذ من ثورة الحسين ومبادئ الإصلاح لمحاربة الفساد والظلم, بل أصبح من الدول الأوائل في الفساد المالي والإداري, وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن تلك الشعائر والطقوس قد أفرغت من محتواها تماماً وأخذت توظف توظيفاً سياسياً من اجل مصالح ذاتية وطائفية.
     أما في الفصل الأخير من الكتاب يصف الكاتب مرحلة الطقس العاشورائي واستعراضه في شارع المواكب في كل مدينة عراقية, ومن نماذج هذا الطقس منها (طقس التطبير, طقس الزنجيل, طقس التشابيه), أما المقررات الخاصة بتنظيم المواكب فهي (هيئة الشعائر الحسينية, رابطة خدمة الحسين), ويوضح الكاتب أهمية هذه الطقوس والمقررات في كتابه هذا.
     من هذا نستنتج أن الكاتب وبقلمه الجريء قد سلط الضوء على هذه الظاهرة وتاريخها وما مرَّت به من ظروف المنع قبل عام 2003م وعلاقتها وصلاتها بظواهر أخرى حدثت في القرون الوسطى في المجتمع الأوروبي, وتحليل الظاهرة تحليلاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً, مما أدت به هذه الظاهرة التي اكتسبت خصوصيتها في الكم والنوع المؤثر تأثيراً اجتماعياً والمتكرر سنوياً بعد عام 2003م, والمتجدد في آن واحد عند الأجيال المتلاحقة, فتظهر في حياة الفرد الشيعي عندما تقوم بتحديد صورة العلاقة بينه وبين المقدس والطقوس اليومية, من خلال مقدس يومي متسامي بتجربته الدينية ليكون ممثلاً أوحداً وحقيقياً لمقدسٍ متعالٍ, وحشد وتعبئة السكان والمجتمع لممارسة هذه الطقوس قبل بدء موسمها لضمان استمراريتها لفترات طويلة جداً خلال السنة, مما أدى إلى سكوت المؤسسة الدينية وإجبارها على أتباع منهج الصمت والسكوت عن الكثير من الارتباطات الدينية لهذه الطقوس وتبريراتها الاجتماعية, مما أحدث هوَّة كبيرة وعميقة بين الوظائف الأساسية للدين الإصلاحي وتنامي ظاهرة التدين الشعبي الطقسي في المجتمع.
 


231

هل الأديان رسالات سلطة وصفحاتٌ من الدَم ؟

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    الأديان هي قيّم تُعلم الإنسان مفاهيم الأخلاق الاجتماعية, وليست رسالات سلطة وحكومة وتكوين دول, ولكن بعد وفاة الأنبياء أصبح تابعيهم يتطلعون للسلطة, ولو تابعنا تاريخ الأديان لوجدنا أن الديانة اليهودية التي قادها يوشع (Joshua) بن نون (ت 1245 ق.م) وهو شخصية كما تصفها التوراة بأنها دموية بامتياز, فقد سبيَّ الأمم المجاورة وما إلى ذلك, وجدير بالذكر أن كل ما تم روايته في تلك المذابح قد تم البحث فيه أوكيولوجياً (آثارياً), فلم يتم التوصل إلى كل ذلك بعد الحفريات التي استمرت عشرات السنين, وهذا ما دعا العالم الغربي إلى رفض تلك الروايات واعتبارها من الأساطير ليس إلا.
     نفس الموضوع نراه ذاته في المسيحية التي تعتبر مذابحها في العصور الوسطى الأعنف لوقتها في تأريخ البشرية منها مذابح (سان بارثليميو) عام 1572م, بالإضافة إلى مذابح أوروبا بشكل عام.
     أما الدين الإسلامي فكان الحائز على الصدارة في تلون صفحاته بالدماء الغزيرة, ومن الصعوبة نكرانها مثل مذابح كربلاء الحسين ومذابح واقعة الحرّة للأنصار, فضلاً عن مذابح كثيرة حصلت في الوقت الحاضر بعد ظهور المذهب السلفي الوهابي وتنظيم القاعدة وما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
     ما حصل من مذابح في صدر الإسلام خلال مرحلة الراشدين وتأسيس الدولة الفتية يندى لها الجبين, علماً أن التأريخ الإسلامي لم يُكتب إلاّ في مراحل متأخرة, وربما في القرن الثاني أو الثالث الهجري, قبلها كانت العرب لا تكتب ولا تؤرخ, لأنهم قوم أميون ولا تعرف القراءة أو الحساب على لفظ ابن خلدون, كما إنها ليست من الأمم التي تُقدّر التوثيق أو التصنيف, وهي صفات ترتبط بحالة المجتمع وحالة الدولة, فقد كان العرب أمة متنقلة تبحث عن العشب والماء, فمفهوم الوطن ومفهوم التوثيق غائب عن واقع العرب, فحروب الردة مثلاً لم تؤرخ, وإنما ذكرت من باب الفخر ليس إلاّ, مع أن عدد القتلى ونوعية المذابح كانت هائلة بدرجة يمر عليها التأريخ مع افتقاده للمعلومة عما جرى, والعرب عموماً يفتخرون بوحشية القتل ونوعيته, وطبيعته, ولو اتخذنا واقعة كربلاء كنموذج أو واقعة الحرَّة لتوصلنا إلى المبتغى.
     ولو سألنا أنفسنا هل أقرت الكتب السماوية الثلاثة أحكام الدولة السياسية, وهل هنالك تشريع يقرّ قيام دولة دينية أو أمرّ في إقرارها؟ نجد أغلب هذه الأديان تتجنب الجواب عن مثل هذا السؤال, لكن بعض رجال الدين والمحدثين قد مارس عمليات (الاجتهاد أو الإجماع) في إثبات أو نفي تشريع قيام الدولة, لكن السياسيين في الوقت الحاضر يحث على إيجابية قيام الدولة الدينية, لكن تحث على قيام الدولة شيء وقيام الدولة الدينية شيْ آخر.
     لقد أعطى الإنسان على مدى تأريخ وجوده على الأرض أهمية مسألة قيام الدولة وفكرة القيادة أو فكرة تنظيم أمور العباد, إلا أن الكثير من المهتمين بالجانب السياسي والديني يؤكد إن على تأويل معنى الاستخلاف إلى معنى سياسي وليس ثقافي.
     لكن فكرة (الفرقة الناجية) جريَّ بالمنطق العقلي أن يتابع من هم أهل الفكرة أولاً, ولو درسنا التاريخ لوجدنا أن هذه الفكرة التي دعت إليها الديانة اليهودية لقيادة البشرية ممن هم أكثر قدرة في التجربة وفي البيولوجيا, فضلاً عن الاختيار الإلهي تقر موقع اليهودية من بقية خلق الله, وهي النظرية التي استعارتها الطوائف الإسلامية المتعددة.
     وبسبب فكرة القيادة (الحكومة) نجد مسيرة الحقبة الإسلامية بعد بعثة النبي قد انحدر اغلب كبار قريش نحو معسكر الدين الجديد, بعد أن تيقنوا بأن النظرية السياسية القرشية لم تعد قادرة على استيعاب فكرة (الدولة السياسية) الكبرى في السيطرة على الجزيرة العربية, فضلاً عن تقرب كعب الأحبار الشخصية المتنورة في العلم اللاهوتي اليهودي, ومحاولة اقترابه (ت 32هـ /611م).
    من الخلفاء لكي يكون مستشاراً مقرباً لخليفتين وربما لثلاث, حيث تمكن من قيادة دفة الحديث والسيطرة على عقلية أبو هريرة (ت59هـ / 679م), وعبد الله بن عمر (ت74هـ /693), وهذا يدلل على أن عملية اختراق الدين الجديد قد تم التفكير به منذُ البداية, فكانت لليهودية الدور في السيطرة على سياسة الدولة وخلق الفتن وما زالت ليومنا هذا من خلق تنظيمات مذهبية لشق صف المسلمين وطعن الدين الإسلامي من خلال فكرة الفرقة الناجية وتكفير جميع المذاهب والأديان والمخالفين للفكر السلفي الوهابي الإرهابي.
 

232
أشهر الجرائم والاغتيالات في محافظة بابل للمؤرخ عبد الرضا عوض
نبيل عبد الأمير الربيعي
     الكتابة طقس, ولكل كاتب ميزَّة ونمط معين يمتاز به, وقد يشعر الكاتب بما يكتب لحظة انثيال الخواطر والمفردات وما تركه الكتّاب والباحثين في بطون الكتب من مفردات ونوادر الكلمات ببلاغتها ودلالاتها, وحقائق تاريخية يوثقها الباحثون والمؤرخون لأحداث شخصية أو أحداث تخص الأماكن والمدن والأشخاص, والمؤرخ د. عبد الرضا عوض متابع لما يحدث في مدينة الحلة من أحداث, فجاءت مؤلفاته إضافات لتأريخ المدينة ذات قيمة عالية وفائدة جمّة أغنت المكتبة العراقية والعربية من سرد الأحداث التاريخية, فقد امتلك صفات الشجاعة الكافية لقول الحق وتدوين التاريخ بصدق دون تورية أو مجاملة, فكانت مؤلفاته السبعة والثلاثون مؤلفاً عبارة عن تصانيف لفاكهة من بستان التأريخ النضرّ, حيث أصبحت مصدراً مهماً ومعتبراً يعتمد عليه فيما بعد الباحثون لما فيه من تنوع المواضيع والمؤلفات والأحداث, وتوثيق أمين لقضايا تقادمت عليها الأيام, ويخشى المؤرخ أن تنسى لذلك تم توثيقها في مؤلفاته, والمؤرخ عوض يمتلك طاقة من الإبداع في التوثيق والتمحيص ومتابعة المصادر والأفراد الذين عايشوا الحدث إن كانوا على قيد الحياة.
      الأحداث التاريخية التي مرَّت على تاريخ مدينة الحلة الفراتية, تبقى مميزة بحسنها وقبحها على مرّ الأيام, فيتناولها القلم الرفيع والحصيف في قراطيس المؤرخين والباحثين لتصبح وثائق مهمة للباحثين, صالحة للقراء والقراءة لعموم الناس.
      مدينة الحلة قدِمَ إليها الكثير من أبناء المدن القريبة والبعيدة لها, من هيت وحديثة والموصل والديوانية وكربلاء وجبَّة وديالى, هؤلاء على ما يذكر أصحاب التواريخ, يقدمون إليها للعمل فيها لما يتوفر في المدينة من تقدم حضاري وما تتصف به من إنسانية لقبول الآخر رغم الاختلاف الديني والمذهبي والقومي, من بينهم قد سكنها اليهود والنصارى والأيزيديون والمندائيون لسماحة أهلها وطيبتهم وابتعادهم عن أي تعصب ديني أو مذهبي أو قومي, فإن أهل الحلة علمانيون إنسانيون يختلفون عن مدن الفرات الأوسط بإنسانيتهم البعيدة المنال(1).
      لكل كتاب جديد للمؤرخ د. عبد الرضا عوض, نتفاجئ بمادة موضوعية وبعلمية جديدة يتطرق إليها لم يمر عليها المؤرخين والباحثين إلا مرور الكرام, لكن نجد المؤرخ يسلط الضوء عليها ويلم بجميع جوانبها ليصبح كتاباً مهماً في تاريخ مدينة الحلة التي عشقها المؤرخ عوض.
      من خلال متابعتنا لجميع مؤلفات المؤرخ نجده يغوص في أحداث التاريخ ليخرج لنا ياقوت وجواهر وزمرد الأحداث التي لم توثق خلال القرن العشرين إلا قد تطرق إليها البعض ووفق سيّر الأحداث بشكل مبسط وغير ذات أهمية لديهم, لكن المؤرخ عوض قد نقبَّ وبحث وجمع عناصر الأحداث ليخرج لنا بجواهره التي تسرّ القراء والباحثين, وأصبحت ذات شأن في مجال التاريخ, وكان أحد بحوثه هو كتابه الصادر عام 2009م تحت عنوان (أشهر الجرائم والأغتيالات والحوادث في محافظة بابل), الكتاب يحتوي على (121) صفحة من القطع الوزيري, والتي وثق من خلالها الجرائم والأغتيالات التي حدثت في المدينة منذُ نهاية العهد العثماني وحتى نهاية القرن العشرين.
      الكتاب يعتبر هو الأصدار الرابع عشر للمؤرخ عبد الرضا عوض ضمن سلسلة تراث الحلة, حيث وثق المؤرخ أهم الجرائم والأغتيالات السياسية وغير السياسية التي حدثت في مدينة الحلة والتي أثارت ضجة لدى أبناء المدينة والسلطة المحلية الحاكمة في حينها, حيث سلط المؤرخ الأضواء على مجريات الأحداث المهمة مستبعداً جرائم الشرف وجرائم غسل العار كما أشار في مقدمة الكتاب.
      تضمن الكتاب ثلاثة فصول ومقدمة, وقد شملَّ الفصل الأول الأغتيالات والإعدامات التي نفذتها السلطة المحلية في حق أبناء المدينة نهاية العهد العثماني وما تسمى بـ(وقعة عاكف) الشهيرة, تلك الواقعة التي أشار إليها أكثر من كاتب وباحث دون التعمق في مجريات أحداثها وأسماء من أعدمهم السفاح عاكف والأسباب الرئيسية والموضوعية للواقعة, وأهملها التاريخ زهاء مئة عام على الحدث, وقد صدر أخيراً للمؤرخ عبد الرضا عوض حول الواقعة ودعى ذو الشأن لإقامة مهرجان لها من كل عام, إلا أن من ذكرها من المؤرخين والباحثين منهم (الشيخ يوسف كركوش, د. أحمد سوسة, د. محمد مهدي البصير), والتي دارت أحداثها في معركتين رهيبتين الأولى يوم 17 آب 1915م والثانية عام 1916م بقيادة القائد العسكري العثماني (عاكف بيك), المعركة الأولى استمرت ليومان واشتركت فيها العشائر القريبة من مدينة الحلة مع أبناء المدينة ضد الجيش العثماني, وانتهت بانسحاب عاكف من مدينة الحلة وأطلق عليها الوقعة الأولى(2).
      والواقعة الثانية راح ضحيتها أكثر من 4000 فرد من أبناء مدينة الحلة بين الإعدام شنقاً والتهجير والإبعاد والنفي إلى ديار بكر, بين هؤلاء أطفال وشيوخ وعجائز(3), أما مصدر آخر يذكر أن عدد القتلى 1500 قتيل والذين شنقوا 127 شهيداً والذين نفوّا إلى ديار بكر 231 فرداً بضمنهم نساء وشيوخ(4).
      كما وثق المؤرخ عوض في كتابه جرائم النظام الحاكم ضد أبناء الشعب عامة وأبناء مدينة الحلة خاصة ومنها جرائم التهجير القسرّي لمكونات الشعب العراقي من الطائفة اليهودية والشيعية, الأولى نحو إسرائيل والثانية كانت نحو إيران, من خلال اتهام المهجرين بالخيانة والجاسوسية, حتى شملَّ الإبعاد والتهجير من ساهموا بثورة العشرين مطلع القرن الماضي من أبناء المدينة, فضلاً عن قرارات ارتجالية لتهجير المواطنين, وهو ما يسمى بالتطهير العرقي لأبناء الشعب العراقي, ففي الصفحة 21 من الكتاب يقول المؤرخ عوض (سميَّ تطهيراً عرقياً, ونحنُ نسميه حقداً طائفياً... ففي نعرة طائفية مقيتة علا صوت (الخليفة السادس – يعني خير الله طلفاح خال الرئيس صدام حسين) بوجوب تنظيف الأرض العراقية من : الشيعة والشعوبية والشيوعية, لأن بينهما قاسم مشترك وهو أنهم (خونة) وتاهت علينا وعليه نوع الخيانة, فيذكر المفكرون إن الخيانة نوعان, فخائن الوطن مجرم ينال عقابه وخائن السلطة لهُ شأن ثانٍ).
      لقد اشتدت حملة التهجير لأبناء الطائفة الشيعية التي بدأت سنة 1970م, وأوقفت عشرة سنين لتعاد مرَّة ثانية عام 1979م بُعيد استلام صدام السلطة من سلطة الرئيس السابق أحمد حسن البكر.
      في هذا الكتاب يوثق المؤرخ عوض الأسماء الصريحة لمن نالهم التهجير القسرّي من أبناء مدينة الحلة وقصصهم المأساوية لمن عاش أجداده في العراق عشرات السنين, ودورهم في بناء العراق ومهنهم, ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة, والبعض سلبت أموالهم وممتلكاتهم ومنحت إلى رجال أمن السلطة كهبة, وبعضِ آخر بيع في مزاد على ثلّة من وكلاء أمن النظام, وبيعت لهم بثمنٍ بخس, وسجلت المبالغ إيراداً للدولة بصفة غنيمة...!!(5).
      يعقب المؤرخ عوض في كتابه صفحة 28 يقول (أمّا في القصبات التابعة لمحافظة بابل فقد حظيت مدينة المسيب بحصةٍ أوفر في عدد المسفرين, وجاءت بعدها مدينة القاسم, ولأهالي القاسم قصة تحمَّلَ وزرها الناس الطيبين, فقد احتج أو تذمر بعض أهالي المدينة على تسفير أبناء جلدتهم, ووصل ذلك إلى أنظار سلطات الأمن فاحتجزوا هم أيضاً وأحيلوا إلى المحاكم بتهمة التعاطف مع الخونة, وأودعوا السجن..!!, وقد بلغَّ عدد المسفرين من محافظة بابل باتجاه إيران للسنين 1979/ 1980م (2412) نسمة واحتجز الشباب القادر على حمل السلاح في معسكرات خاصة, ثمَّ زجوا في المعارك الهجومية فقتل من قتل وهرب من هرب باتجاه إيران, وقد وثق تلك المأساة الأستاذ فائق محمد حسين الخليلي بكتابه (التسفير جريمة العصر), وهو من الذين شملهم التسفير, يحكي فيه معاناة ومآسي الناس الذين أصابهم التسفير(6). وقد تضمن الفصل جرائم إعدام الهاربين علناً وأمام أنظار أبناء المدينة ودفن ممن اعدموا من ثوار الانتفاضة عام 1991م في أكثر من مقبرة جماعية.
      أما الفصل الثاني من الكتاب فقد تضمن أهم الأغتيالات التي حدثت في مدينة الحلة في العهد الملكي ومنها (حادثة نجم العبود, وشاؤول اليهودي, وعدنان سلمان البراك, وغضبان الجريان, ومحمد عبد العباس مرجان, وياسين الشيخلي, والشقي إبراهيم عبدكة), وهذه حوادث الأغتيالات وثقها المؤرخ اعتماداً على المصادر التاريخية والمقابلات الشخصية لمن عاش تلك الحقبة الزمنية واطلعَّ على سيَّر أحداثها, فالكتاب يعتبر مهم للباحثين في شأن تاريخ الجريمة المنظمة وغير المنظمة, في ظل حكومات محلية متعاقبة على مدينة الحلة, وعلاقات اجتماعية كانت مسألة الثأر وأخذ حق المجني عليه دون الرجوع لحكم القانون وأسباب أخرى متعددة.
      في الفصل الثالث ذكر المؤرخ أهم أحداث العهد الجمهوري في مدينة الحلة بعد ثورة 14 تموز 1958, منها (حادثة بنت ارزوقي اللبلوه, وارزوقي الشمعوني, ومنعم جليل, وجوعي, وحادثة غازي الشعار, وهروب السجناء السياسيين من سجن الحلة المركزي, ومقتل كوادر حزب البعث, وإعدام القيادي في حزب البعث محسن الشعلان, وحادثة موفق الجراخ, وضابط أمن المدحتية, والقيادي في حزب البعث حكيم البكاء, ومجزرة المجرم غازي في مدينة المدحتية, وحادثة مقتل التاجر مهدي العزاوي). تلك الجرائم التي حصلت في مدينة الحلة أبانَ العهد الجمهوري الأول والثاني والثالث, ومرَّ عليها الزمن, وكانت مبهمة ليومنا هذا, حتى تناوها المؤرخ عبد الرضا عوض في كتابه هذا من باب توثيقها للأمانة التاريخية, فالذي حدث لا يمكن تجاهلهُ مهما كانت توجهات الأشخاص, وعليه فقد بينَّ المؤرخ عوض أبرز الأحداث التي هي سياسية في صلبها, لكنها غُلفت بثياب شتى من قبل سلطات النظام, إلا أن توثيقها من قبل المؤرخ قد نقلَ لنا حقائقها الموضوعية والذاتية وأسباب وقوعها في هذا الكتاب, كان الغرض منهُ لتسليط الضوء على مجريات أحداث حدثت في المجتمع الحلي المسالم والسمح, وقد تناقلت تلك الحوادث المجالس اليومية في وقتها ردحاً من الزمن, وكتبت عنها بعض الصحف المحلية, وحيكت حول بعضها حكايات كثيرة قد تكون بعضها بعدية عن الواقع, إلا أن المؤرخ قد سلط الضوء عليها ووثقها توثيقاً علمياً صادقاً في نقل الحقيقة.
      لكن في هذا الكتاب لم يذكر المؤرخ عوض أحداث 8 شباط 1963م والصراع السياسي بين الأطراف السياسية, وتشكيل بعض الأطراف ميليشيا لأغتيال العناصر المعادية والمختلفة معها, وما حصل من قتل وتصفيات جسدية ومحاولات اغتيال للعديد من معتنقي الفكر اليساري أو القومي, كما لم يذكر المؤرخ حوادث انتخابات عام 1962م في مدينة الحلة ومحاولة اغتيال الأستاذ عدنان الظاهر في شارع المكتبات من قبل عصابات البعث, فضلاً عن عملية قتل كاظم عبيد (أبو رهيب) سكرتير محلية الحزب الشيوعي العراقي بعد الهجمة الشرسة على الحزب نهاية عام 1979م, وقتل أثناء مقاومتهُ ودفاعه في معركة غير متكافئة مع عناصر الأمن وقوات الشرطة في ريف ناحية الكفل عام 1982م, ومقامة جبار جاسم ومقتله, ومقاومة الأبن البكر للقيادي الفلاحي كاظم الجاسم (قيود) في داره الواقعة جنوب مدينة الحلة واعتقاله من قبل قوى الأمن وجهاز حزب البعث وتصفيته.
 
سيرة المؤرخ عبد الرضا عوض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
     ولد المؤرخ والباحث والمحقق د. عبد الرضا عوض في محلة الجامعين التابعة مدينة الحلة عام 1952م, حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي عن أطروحته (الحوزة العلمية في الحلة, نشأتها وانكماشها), حاصل على عضوية في (اتحاد المؤرخين العرب, الإتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين, جمعية الرواد الثقافية المستقلة في بابل, إتحاد كتاب الانترنيت العراقيين, رئيس مجلس إدارة مجلة (أوراق فراتية) وريس تحرير مجلة (أسديون), من مؤسسي مركز تراث الحلة التابع للعتبة العباسية وشغل أول مدير للمركز عند التأسيس عام 2013م, من مؤسسي مركز العلامة الحلي التابع للعتبة الحسينية, أصدر سلسلة تراث الحلة في (37) كتاباً, ومدن فراتية (2) كتاباً, والتحقيق (2) كتاباً, لهُ كتابات في الصحف والدوريات المحلية والعربية, لهُ مشاركات في المؤتمرات العلمية داخل وخارج العراق, حاصل على العديد من الجوائز التقديرية للمهرجانات العلمية داخل وخارج العراق, أسس دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة عام 2006م وصدر عنها أكثر من 450 كتاباً.
 
 
المصادر
ــــــــــــــــــــــ
1-   محمد علي محيي الدين. كتب في الميزان. دار الفرات للطباعة والنشر والإعلام في الحلة. ط1. 2012. ص65.
2-   د. عبد الرضا عوض. أشهر الجرائم والاغتيالات في محافظ بابل.ط2. 2011. دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة. ص14.
3-     د. عبد الرضا عوض. أشهر الجرائم والاغتيالات في محافظ بابل.ص16.
4-   يوسف كركوش. تاريخ الحلة. ج1. ص181؛ د. عبد الرضا عوض اشهر الجرائم. ص17.
5-   د. عبد الرضا عوض. أشهر الجرائم والاغتيالات في محافظ بابل.ص25.
6-   د. عبد الرضا عوض. أشهر الجرائم والاغتيالات في محافظ بابل.ص28.
 
 


233
أضواء على النشاط الصهيوني في العراق (1922-1952م)

     صدر عن دار الفرات للثقافة والفنون في بابل كتابي الموسوم (أضواء على النشاط الصهيوني في العراق 1922م-1952م), الكتاب يتضمن (286) صفحة وقد تم التبويب على أربعة فصول, تضمن الفصل الأول البذور الأولى للنشاط الصهيوني في العراق. أما الفصل الثاني فقد احتوى على دور أهرون ساسون معلم في نشر الفكر الصهيوني في العراق منذ عام 1922م من خلال وظيفتُه التعليمية في مدارس شماش ومدرسة فردوس الأولاد, ودعمه المالي في فلسطين من خلال (جمعية الكيرن كييمنث) حتى ترحيلة من قبل الحكومة العراقية الملكية عام 1935م, أما الفصل الثالث فقد تضمن دور الجمعيات الصهيونية في نشر الفكر الصهيوني في العراق, وهي 15 جمعية كانت تعمل داخل مدن العراق, والفصل الرابع دور الصهيونية في تهجير يهود العراق عام 1950م, فضلاً عن دور الحكومة الملكية وبريطانيا وإسرائيل في ذلك, وكان لشلومو هيلل الدور الكبير في نقل يهود العراق المسقطّة عنهم الجنسية العراقية وفق عملية حايك مايكليبرج (علي بابا), إضافة إلى توضيح دور التنظيمات التي حاربت المنظمات الصهيونية في العراق ومنها عصبة مكافحة الصهيونية, ولا ننسى لدور أبناء الديانة اليهودية في العراق في الحركات الوطنية ومساهمتهم في وثبة كانون عام 1948م, وقد قدموا كوكبة من الشهداء منهم شاؤول طويق ويهودا إبراهيم صديق وساسون دلال وآخرين.
      لكن ليهود العراق تأريخ عريق منذ عام 745 ق.م كما تؤكد المصادر التاريخية ومنها ما يؤكده الدكتور أحمد سوسة في مقالة (اليهود العراقيون. لمحات تاريخية) في مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 22 . حزيران 1977, صفحة 104, «يرجع أقدم وجود لليهود في العراق إلى عهد الإمبراطورية الآشورية الأخيرة عندما أخضع الملك الآشوري تجلات بلانصر الثالث(745-727ق.م) قسماً من مملكة إسرائيل لنفوذه وما يسمى بسبي (سامريا 721 ق.م) وكان على رأسهم الأسباط العشرة, قام الآشوريون بتوزيع اليهود في المناطق الجبلية والتي تقع الآن ضمن حدود العراق وإيران وتركيا, وهي سياسة اتبعها الآشوريون في تشتيت أسراهم في أماكن عدة للحيلولة دون تكتلهم وقطع الطريق عليهم  محاولة العودة إلى الأماكن التي رحلوا عنها».
      يعتبر أقدم وجود لليهود في العراق زمن الإمبراطورية الآشورية الأخيرة التي دامت حوالي  ثلاثمائة عام, فقد لعبت هذه الإمبراطورية دوراً في تحطيم مملكة يهوذا وسبي السكان اليهود إلى أماكن جبلية في بلاد آشور (كردستان العراق وإيران وتركيا).
     كما قام الملك الآشوري شلمنصر الخامس (727-722ق.م) بحملة على مملكة إسرائيل ومحاصرة عاصمتها السامرة, فقد أجلى قائد الجيش بعد وفاة الملك شلمنصر الخامس ما يقارب(27290) نسمة إلى المناطق الجبلية في مملكة آشور وكذلك الملك سنحاريب (705-681ق.م) فقد قام بحملة على مملكة يهوذا  وأخذ من اليهود مائتي ألف نسمة إلى أماكن جبلية بعيدة.
     بعد استقرارهم في كردستان وجبالها كوًنوا لهم قرى خاصة بهم وانسجموا مع التجمع الكردي والبعض قد اندمج مع السكان الوثنيين والديانة النصرانية عند ظهورها, فقلدوا الأكراد في خط حياتهم إذ مارسوا أعمال الزراعة وتربية المواشي تحت حماية رؤساء القبائل الأكراد مقابل دفع الجزية لهم, فقد انتشروا في مناطق كردستان العراق كالعمادية وكفري ودهوك وعقره وزاخو والزيبار وبرواري العاليا والسفلى والمزوري والدوسكي, عمل البعض منهم في صياغة الذهب والتجارة والحياكة, والبعض عمل في مجال حقول الزراعة وتربية المواشي.
      لم يكن عددهم في تلك الهجرة الجماعية يزيد على أربعة آلاف نسمة, غير أن الكثير من الباحثين يحددون تأريخ ظهور أول مجموعة يهودية في العراق في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع قبل الميلاد, وإن هذا التأريخ يأتي متطابق مع تأريخ السبي الآشوري إلى شمال العراق بحدود عام (626 ق.م) طبقاً لسياسة الإمبراطورية الآشورية في تشتيت الأسرى الواقعين تحت سيطرتهم إلى عدت مناطق نائية منعزلة عن أي تجمع سكاني قريب, ويلاحظ إن بعض المؤرخين كان يظن إن الأسرى من السبي البابلي التقوا بأبناء جلدتهم من الأسرى في السبي الآشوري, فيوسف غنيم مؤلف كتاب (نزهة المشتاق في تأريخ يهود العراق) يقول : «إن قوافل من السبي البابلي شاهدوا أبناء جلدتهم جالية ضخمه من أعقاب شلمنصر وسنحاريب وأسرحدون فتعانقوا معانقة أعز الأخوان وتعاونوا في منفاهم على حفظ كيانهم وصيانة تقاليدهم».
     أما الوجود الثاني لليهود فيعود إلى عهد الدولة الكلدانية وما يسمى بسبي (يهوياكين) (612-539ق.م), عندما تمكن أعظم ملوكها نبوخذ نصر الثاني (604-562) ق.م من القضاء على مملكة يهوذا وأسرَ عشرة آلاف من اليهود وكان من ضمنهم نبي الله دانيال ونقلهم إلى بابل من خلال حملتين, والأخرى سبي (صديقا) عام (586ق.م) كانت علامة لنهاية مملكة يهوذا وتدمير أورشليم ومعبد سليمان وقد تم سبي أربعين ألف يهودي إلى بابل, استفاد اليهود في بابل من شرائع البلاد المتسامحة مع الغرباء فتسلم قسم منهم مراتب رفيعة في المملكة واشتروا الأراضي الزراعية ومارسوا الزراعة, أما ديانتهم فقد مارسوا شعائرهم بكل حرية فتمخض عن ذلك التلموذ البابلي الذي ضم بين طياته التعاليم اليهودية, لم يقتصر نشاط اليهود على الزراعة والتجارة فقط بل تعداه إلى ممارسة المهن المختلفة والصناعات العديدة إلى الحد الذي جعلهم يتمتعون بوضع جيد بعد مضي ستين عاماً على وجودهم في بابل (597-539 ق.م).
     أما في عهد الملك الفارسي فقد تمكن من إعادة اليهود إلى فلسطين وذلك إكراماً لزوجته اليهودية أستيرا التي كانت تحتل مكانة مرموقة  لديه فقد وصل عدد اليهود العائدين (49697) نسمة, أما المصادر اليهودية فتقدر عددهم بـسبعة آلاف قرروا البقاء في بابل والآخرون قد عادوا إلى فلسطين أرض الأجداد.
     خضع يهود بابل بعد سقوط الدولة الأخمينية عام (331 ق.م) إلى الحكم الأغريقي (331-139ق.م) بعد أن استولى الأسكندر الكبير على بابل عام (331ق.م), وقد عهد اليهود الكثير ممن كانوا يتمتعون فيه أثناء حكم الكلدانيين والأخمينيين, وبين منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وحتى الفتح الإسلامي للعراق عام (633م) خضع اليهود لأقوام عدة وإمبراطوريات مختلفة, نالوا التسامح فيها, وهذا ما حصل في عهد الفرثيين (216-139ق.م), وبين  ضيق واضطهاد وراحة وازدهار ورخاء في عهد الحكم الفارسي الساساني (239ق.م-635م) هاجر  الكثير من اليهود إلى الهند حتى أن بعض المؤرخين يعدون يهود الهند من أصل فارسي.
     كان فتح العراق على يد المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص عام 636م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بشرى خير لليهود لا سيما بعد معاناتهم الكبيرة تحت وطأة الحكم الفارسي, وعلى الرغم من ندرة المعلومات عن وضع اليهود في العهد الأموي(661-750م) إلا أن الباحثة (S. landshut) تشير إلى أن الدولة الأموية «لم تسجل أية شكوى يهودية من حالة اضطهاد  طوال العهدين الأموي والعباسي, وتتميز أحوال اليهود في العهد العباسي (750-1258م) بقسط من الحرية على المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية, فالعباسيون أفادوا من أبناء أهل الذمة في الدواوين الإدارية والمالية وكذلك في مهنة الطب والهندسة, كما عمل بعضهم في الترجمة, لكن بعد سقوط بغداد بيد المغول عام والقضاء على الدولة العباسية ليحل حكم المغول القاسي والذي جاءوا بالظلام والذل والجهل والبؤس والشقاء حيث امتدت فترة حكمهم أكثر من نصف قرن».
     ويذكر الرحالة الانكليزي (ولستد) إن في بغداد وحدها حوالي سبعة آلاف يهودي, علماً أن رحلة السيد (ولستد) كانت في عام 1830م, وفي مطلع القرن التاسع عشر قدر عددهم في بغداد حوالي 2500 أسرة  يهودية, أما في السليمانية فقد قدر عددهم بـ(300) أسرة وهم موجودون في مدن أخرى منها العمادية بنسب مختلفة في ذلك الوقت وفيها لهم كنيسان فوق قلعتها وكذلك في (صندور) وفي  (بيت النور) كنيس آخر, وفي عام 1620م إذ اهتم اليهود في هذه المنطقة وتمركزهم فيها بسبب تواجد ضريح داود بن يوسف بن أفرام المتوفى عام1620م ويدعى( ابن حران) وإلى جانبه زوجته( الست نجاد), كما لهم جالية في معبد في كفري, ويذكر يوسف غنيمة :«إن حكومة الاحتلال قامت بإحصاء لسكان العراق عام1924م فكان عدد يهود العراق 87448 نسمة موزعين على خمسة عشر مدينة عراقية أكبرها مدينة بغداد حيث كان يقطنها 50000 ألف يهودي وأقلها مدينة كربلاء حيث كان اليهود فيها لا يتجاوزون المائة وستون فرداً, أما في إحصاء عام1947 فلقد بلغ تعداد اليهود في العراق 117877 نسمة, بينهم عدد كبير من الأغنياء وذوي الاختصاصات, وكان لليهود مقبرة خاصة تقع في شارع الشيخ عمر».
      من هذا يمكن القول إن يهود العراق كانوا يقطنون بلاد الرافدين قبل بدء الدعوة الإسلامية ومن ثم استمر تواجدهم في البلاد فترة الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية وفي ظل الهيمنة الفارسية على العراق والدولة العثمانية حتى عهد الدولة الملكية في العراق, ففي ظل هذه الدول المتعاقبة على السيطرة على خيرات العراق تعرض العراقيون اليهود إلى شتى الاضطهاد الديني والتمييز السياسي والاجتماعي والاستبداد والقسوة, وفي بعض الأحيان تمتعوا بالحرية الدينية والوضع الاجتماعي الجيد في ظل الدولة العثمانية, لكن الدولة الإسلامية كانت تعتبرهم من أهل الذمة ليدفعون الجزية السنوية والخراج, ولا ننسى إن كل النظم الإسلامية بشتى أنواعها والتي حكمت العراق قد مارست شتى أنواع التمييز الديني والاجتماعي بحق اليهود والمسيحيين والصابئة والأيزيديين لأنهم كانوا يشكلون أقليات دينية مضطهدة.
 
 


234
قراءة في إنجازات عالم سُبَيِّط النيلي


نبيل عبد الأمير الربيعي
      عالم سُيبّطَ النيلي هو أحد علماء النهضة العراقية الحديثة, عُرفَ نهاية حقبة التسعينات من عصرنا الحديث في الأوساط الثقافية والعلمية واللغوية والمحافل الأدبية والفكرية, فهو مفكراً باحثاً أحاطَ بنتاجاته بجميع جوانب علم الفقه واللغة والتراث والتاريخ, وُلدَ في أسرة ريفية حلية ذات مكانة اجتماعية عام 1956م, فوالدهُ سٌبَيَّط شاعراً شعبياً مرموقاً, وشقيقهُ رمزاً ثقافياً في ناحية النيل التابعة لمحافظة بابل, ولقب بالنيلي نسبةٌ إلى ناحية النيل الواقعة شمال الحلة, أكمل دراسته الثانوية في مدينة الحلة, والماجستير حصل عليها في بعثة عسكرية إلى روسيا (الإتحاد السوفيتي سابقاً) في الهندسة الألكترونية عام 1979م من جامعة اوديسا / أوكرانيا, وحصل على شهادة دبلوم عالٍ في الترجمة من روسيا. رحل عن الحياة وهو بعمر الشباب (44 عاماً) نتيجة مرض ألمّ به يوم 18/8/2000م, تاركاً نتاجاً معرفياً زاخراً تجاوز (14) مؤلف وبحث في الأدب واللغة والثقافة.
      وقد أقام لهُ اتحاد أدباء بابل ندوة في شرح نظريته الجديدة, واستمرت هذه الندوة لثلاث أمسيات متتالية, في سابقة هي الأولى من نوعها في عمل الاتحاد, كما كتب الكثير عن حياته ونتاجاته ومنهم (الصحفي ناظم السعود, د. حسين سرمك حسن, وحاوره الصحفي علي خصباك,موسى جعفر, وجيه عباس, فرقان الوائلي, رافد عجيل فليح).
      عالم سبيط ظاهرة ثقافية متنوعة, حركت الذهن الثقافي التي تشيد بعبقريته الفذة, وكان نتاجه المعرفي كل ما هو جديد في ميدان الفكر والإبداع, وقد وصفه الراحل شيخ المفهرسين د. صباح نوري المرزوك قال : (أعتبر عالم سُبَيِّط في البحث والتأليف واحداً من تلك الظواهر الكونية المتعددة والمتنوعة).
      تنوعت معارف السيد النيلي الثقافية واتسعت لتشمل علوم اللغة والفقه والأصول والتفسير والفلسفة والتاريخ والفيزياء والرياضيات, وساعده سفره إلى روسيا على الإطلاع على مدارس الأدب والأجناس الأدبية ومناهج البحث اللغوي والتعرف على الفلسفة الأدبية وأعلام الفكر والأدب الغربي, وكان من المعجبين بشخصية (بوشكين) الشاعر الروسي مما جعله يترجم ديوانه.
      أثارت أفكاره زوبعة من الاعتراضات والاتهامات من قبل المؤسسة الدينية, وكذلك بعض أطراف المؤسسة الثقافية, حتى وصل الأمر إلى اتهامه والكفر, لكن بالمقابل حصل النيلي على تأييد ودعم الكثير من الأكاديميين وأساتذة الجامعات في العراق, خصوصا بعد بروز نجمه بعد وفاته, وبعد انتهاء حكم صدام حسين الذي كان يمثل مانعاً رئيسياً من ظهور الفكر النيلي (القصدي) إلى العلن, فعقدت بعض الندوات والأمسيات التي تتناول فكره فساهمت إلى حد ما في انتشار أفكاره واجتيازها حاجر الحدود شيئا فشيئا لتصل إلى العديد من الدول العربية و الأقليمية.
       من آثاره ومؤلفاته (اللغة الموحدة), الذي بحث فيه اللغة ومشكلاتها, ولكنهُ أسس فيها نظرية جديدة قائمة على مبدأ (القصدية) في الإشارة اللغوية, بين الدال والمدلول, ويكشف سُبيط عن وجود قيمة معنوية للأصوات قبل التركيب في الألفاظ, وهو كتاب في الدلالة والأصوات, يؤسس فيه عالم سُبيط لنظرية قصدية في علم اللغة العام تفند المبدأ الاعتباطي للعالم اللغوي فردنا ندي سوسير (ت1913م) وتكشف عن معاني الحروف وقصدية الإشارة اللغوية, والقصدية مصدرها (قصد), ونقل ابن منظور قول ابن جني في لسان العرب 12/114: أصل (ق/ص/د) ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء, ولعل أكثر الباحثين المحدثين تناولاً لهذا الموضوع هو جون سيرل الذي قال: كلمة القصدية كلمة غير محظوظة, ومثل كثير من الكلمات غير المحظوظة في الفلسفة, نحن ندين بها للفلاسفة الناطقين بالألمانية, توحي الكلمة أن القصدية بمعنى التوجه, يجب دائماً أن تكون مرتبطة بالقصد, بمعنى النيّة, مثلما أقول مثلاً: إّنني أقصد أو أنوي الذهاب غلى السينما الليلة) العقل واللغة والمجتمع(1).
      وقد ذكر سُبيط في مواضع متفرقة من الكتاب الدوافع التي أدّت إلى تأليفه والتي منها (تجريد الاعتباطية من سلاحها الفعّال في خلق الاختلاف والتناقض اللغوي والفكري) (المصدر اللغة الموحدة. عالم سُبيط .ص7). أتسمت طريقة عرضه للموضوعات بأسلوب السؤال والجواب في عدد من المباحث وكان الغرض من ذلك إيضاح الفكرة بلا تعقيد, كما استعان بالرسوم في شرح حركة الصوت الذي تحدث عنه, وذكر ألفاظاً انكليزية وأخرى روسية بغية إيجاد مفهوم موحد بين اللغات, ووضع قاعدة صوتية لكل مبحث صوتي ينتهي منهً.
      وإن المنهج القصدي في اللغة, يفسر نشوء للغات وذلك من خلال الجمع بين ظاهرتين الأولى هي استعمال تسلسل معين عند قوم و استعمال غيره عند آخرين لأداء نفس الفكرة والثانية استعمال تسلسل معين عند قوم ما لإشارة إلى أكثر من فكرة و بالجمع بين الظاهرتين و بين الظواهر الاجتماعية يتمكن من تفسير نشؤ اللغات .
      أما مؤلفه الثاني فهو (النظام القرآني, مقدمة في المنهج اللفظي), وهو كتاب يبحث في أسس المنهج اللفظي للقرآن وقواعده, ويناقش فيه قواعد النحويين وآراء المفسرين, ويعتبر من أهم الكتب التي تناولت علوم اللغة ومنهجيتها, والمنهج اللفظي منهج تحليلي لآيات القرآن الكريم, ولهُ أسس وغايات ومبادئ وطرائق مختلفة عن مناهج التفسير, وأهم غاياته الكشف عن النظام الداخلي للقرآن وفتح الأبواب للمعرفة القرآنية لتحل محل المعرفة التجريبية. واستفاد سُبيط من القراءات القرآنية في توجيه الدلالة اللغوية في مستواها الصوتي, والصرفي والمعجمي والنحوي, ورَجح بعض القراءات على غيرها معتمداً القراءة الأكثر توافقاً لمنهجه القصدي, ولم يلتزم القراءة السبعية وحدها بل أخذ بقراءات شاذة, مع العلم أن عالم سٌبيط لم يذكر في مؤلفه هذا مصادر القراءات ولم يذكر أصحابها.
    في مؤلفه (النظام القرآني) تنوعت طريقته في الاقتباس ما بين النقل الحرفي للنصوص, والنقل بالمعنى, وقد نقل آراء من دون أن ينسبها إلى مصادرها, ففي صفحة 73 قال: غَّيرَ المفسرون الترتيب في هذه الآية فزعموا أن الأصل في الآية 75 من سورة الأنفال هو (وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض), لكنه لم يذكر لنا واحداً من هؤلاء المفسرين, ولا مصطلحات نحوية أطلقها ارتجالياً متسرعاً تندرج تحت مسمى (قواعد). لكن الكتاب يكشف عن الآراء اللغوية المتنوعة وإبداع عالم سُبيط في طريقة عرض الموضوعات ومعالجة المشكلات اللغوية, ويعتبر من المجددين في هذا المجال في كثير مما سجله من معلومات ولم يكن مقلداً لمن تقدم من علماء اللغة.
      ومؤلفه الثالث (الحل القصديّ للغة في مواجهة الاعتباطية), يتضمن الكتاب موقف المنهج اللفظي من المباحث الاعتباطية في النحو والبلاغة, وناقش فيه سُبيط آراء بعض العلماء في هذا الميدان, والكتاب هو مشروع يُؤسس لعلم لغةٍ جديد قائم على القصدية المناقضة للمبدأ الاعتباطي للغة الذي قال به سوسير , وقد (نبه عالم سُبيط الباحثين في أغلب الموضوعات التي تناولها في الكتاب على ضرورة إعادة النظر في موضوعات اللغة والبلاغة ومناهج البحث اللغوي)(2), لكن من المؤاخذات على الكتاب إن طريقته في الاقتباس والإحالة متنوعة, فهو تارة يذكر المؤلف من دون ذكر المصدر وتارة يذكر المصدر من دون ذكر مؤلفه, لكن مؤلفه سُبيط قد وفق فيه (في الجمع بين الأسلوب النظري والتطبيق العملي من خلال عرض الشواهد القرآنية والحديثة أو ضرب الأمثلة)(3), كما استعمل سُبيط (بعض الرسوم والأشكال الهندسية لغرض توضيح الموضوع أو الفكرة)(4), مع هذا الكتاب يكشف لنا التنوع الثقافي لعالم سُبيط والإطلاع الواسع على مصنفات العلماء, مما جعله قادراً على مناقشة بعض الآراء. ومصطلح القصدية مصطلح واسع المفهوم ودلالته تمتد إلى الحقول المعرفية باجمعها, ولا ينحصر في الاستعمال الوظيفي للغة فقط. أما الاعتباطية فهي نقيض القصدية في كل شيء.
      ومؤلفه الرابع (النظام القرآني, المدخل إلى نظام المجموعات) وهو عبارة عن قراءة جديدة ودراسة تفصيلية للمجموعات الصغرى والكبرى التي ذكرها القرآن الكريم, اقتصر في هذا الكتاب سُبيط على النصوص القرآنية التي استدل بها على صحة تقسيم المجموعات وخصائصها, مع بعض الأحاديث النبوية, كما اعتمد في مؤلفه هذا أسلوب التحليل والاستقراء في ضوء النظام القرآني من أجل بيان المجموعة الكبرى والصغرى وسمات المجموعات القرآنية.
      أما مؤلفه الخامس (الحل الفلسفي بين محاولات الإنسان ومكائد الشيطان) وهو عبارة عن تحليل فلسفي جديد من خلال مناقشات متخيلة في عددٍ من الجلسات, متخذاً صيغة الحوار والسؤال والجواب.
      ومؤلفه السادس (ملحمة كلكامش) عبارة عن دراسة جديدة للملحمة في ضوء النص القرآني والروائي والعلمي, وهو سلسلة التطبيقات للمنهج اللفظي القصدي على وفق المنهج التاريخي والجغرافي, ومن النتائج التي توصل إليها المؤلف (أن شخصية كلكامش ليست أسطورية وإنما حقيقة منحها الله المعارف العلمية التي عجزت عنها عقول البشر في تلك الحقبة التاريخية, والدليل على ذلك استطاع كلكامش الانطلاق إلى الفضاء الخارجي مستعملاً السرعة الفائقة بآلاتٍ معينة)(5), كما تحدث فيه عالم سُبيط عن احتساب فرق الجاذبية, وأوصاف غابة الأرز المسماة بغابة الأشجار السخرية, وعن رمزية عشتار في الملحمة, و(رمزية الثور السماوي, والرمزية في شخصية (إنكيدو), وتحدث عن الُمات الثابتة للشخصية في النص الملحمي)(6), كما تناول شخصية كلكامش في تاريخ العراق القديم, وناقش العلامة قارء الطين طه باقر في قضايا تتعلق بمرموزات الملحمة.
      ومؤلفه السابع (أصل الخلق وأمر السجود) وهو بحث قرآني علمي فلسفي عن أطوار الخلق والترقي قبل آدم وعلاقاته بالسنن الكونية والشجرة التي أكل منها آدم, والكتاب يعتبر كرؤية جديدة في المفاهيم الإسلامية في ضوء المنهج القصدي.
      ومؤلفة الثامن (طور الاستخلاف, الطور المهدوي) دراسة في القوانين للتطور البشري في ضوء الحل القصدي للغة, وبين المؤلف المقصود بطور الاستخلاف استناداً إل الحل القصدي للغة, وصر عالم سُبيط من خلال المؤلف بأنهُ تم استبعاد المتكلم أو صاحب النص بصورة كاملة وأصبح النص ملكاً للمتلقي بوجهه وبالطريقة التي يريدها, وأنهى المقدمة بقوله: (لا يعتبر كتاب الطور المهدوي مجرد بحث لغوي أو قرآني معتاد, بل هو رؤية جديدة لتطور الجنس البشري وحتمية بلوغه المرحلة الفائقة من وجوده على الأرض بارتباط وثيق مع المشيمة الإلهية ولذلك فهو ينطوي على ملامح كثيرة لعلم الاجتماع والنفس والفلك والطبيعة والفلسفة والقصديّة الجديدة, فضلاً عن البحث اللغوي في وحدة موضوعية متجانسة محكمة مستخلصة من النص القرآني كنص كلي)(7).
       ومؤلفه التاسع (المبحث الأصولي بين الحكم العقلي للإنسان وحكم القرآن) بحث في موضوعات أصول الفقه الإسلامي برؤية قرآنية جديدة قائمة على مبدأ النقض لبعض المفاهيم القديمة, وقد اقتصر سُبيط على الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية , التي احتج بها لتثبيت قواعد أصولية وفقهية, وقد احتج بها لمسائل اصولية وفقهية علاوة على الاستدلال لصحة المنهج اللفظي.
      أما نتاجهُ العاشر فهو تحت عنوان (الشهاب الثاقب) يبحث في العقيدة الإسلامية من خلال شروح لبعض الفقرات من نصوص نهج البلاغة والرد على أحمد الكاتب فيما يخص العقائد الإسلامية, ومؤلفهُ الحادي عشرة(رحلة الكشف عن النظام القرآني) وهو بحث عن قصة سُبيط مع القرآن وكيفية معرفته للمنهج القصدي.
      ومؤلفه الثاني عشرة (المحاضرات القصدية) وهي مجموعة محاضرات كتبها سُبيط تطبيقاً للمنهج القصدي, وفي هذا المؤلف نقد لغوي لظاهرة الترادف والتقديم والتأخير في الألفاظ والمجاز في اللغة, وتقدير المحذوف والعشوائية في تقدير عُوّد الضمائر, وتجسد هذا النقد من خلال عرض نصوص قرآنية لكل ظاهرة وموقف القائلين بالاعتباط اللغوي من هذه النصوص, ومن ثم تقديم الحل القصدي لدلالتها بعد عرض الإشكالات اللغوية التي وجهها للذين خالفوه المنهج, وقد تطرق في الكتاب إلى الاعتراضات التي وجهت إلى الحل القصدي للغة كالقول بأنّ : (تحديد قيمة مسبقة لأصوات ومن ثم الألفاظ إنما يحجم دلالة المفردة ويضيّع المرونة التي فيها حسب علم اللغة المعمول به الآن)(8). ومن الشواهد في هذا المؤلف كانت مقتصرة على النصوص القرآنية ولم يستعن بموارد ثقافية أخرى. ونتاجه الثالث عشرة (طب القرآن), وهو بحث في آيات الاستشفاء ومواردها.
      وأخيراً مؤلفه (نجم القرآن المبين) بحث في فضائل الإمام علي. وقد صدرت أخيراً دراسة في مؤلفات عالم سُبيط اللغوية (اللغة الموحدة, الحل القصدي للغة, الحل الفلسفي, النظام القرآني)للباحث عبد الحسين موسى وادي, وقد صدرت جميع مؤلفات عالم سبيط عن دار المحجة البيضاء في بيروت بطباعة أنيقة.
     
المصادر
1-    جون سيرل. العقل واللغة والمجتمع ص128/129.
2-    عالم سبيط النيلي. الحل القصدي للغة ص236.
3-    عالم سبيط النيلي. الحل القصدي للغة ص62.
4-    عالم سبيط النيلي. الحل القصدي ص24.
5-    عالم سبيط النيلي. ملحمة كلكامش . عالم سبيط النيلي. ص9.
6-    عالم سبيط النيلي. ملحمة كلكامش ص33.
7-    عالم سبيط النيلي. الطور المهدي ص15.
8-    عالم سبيط النيلي. المحاضرات القصدية ص80.


235
معرض الفنان التشكيلي ثامر الأغا والموت بالتقسيط

بابل/ نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      افتتح عصر يوم السبت الماضي 30/5/2016 على قاعة دار الود للثقافة والفنون في مدينة الحلة المعرض الشخصي للفنان ثامر الأغا تحت عنوان (موت.. بالتقسيط), تمتاز لوحات الفنان ثامر بالمزيج التجريدي وممزوجة بالسريالية مع تطعيمها بكولاج من تخطيطات عبثية تنتمي للواقعية. ثامر الأغا فنان مهوس بالتمرد الداخلي, ثائر مع عنفوان روحه المثابرة لكي يجد لأسلوبه طريقة, وهو يمزج الحلم بالهلوسة التجريدية والعفوية الطفولية اللاإرادية, حينما يترك لفرشاته أو قلمه أن تتلاعب بهما أنامله, عزفاً افتراضياً, فهو مدون لهلوسات روحه الوثابة, لحلم كلما أراد أن يصل له ليعمل ويثابر لكنه يتركه في ذروته, الفنان ثامر فنان تشكيلي لا يعرف الاستقرار, لذلك نجد في معرضه هذا وفي اغلب أعماله هناك الفعل اللاإرادي, هو يخلق من عتمته درجات لونيه يتغازل معها أحياناً وتارة هي ممن تغازله وتتحكم بعنوانه, كثيرا ما يذهب في تنفيذ لوحته إلى التسطيح المقصود, لكنهُ من خلال التكوينات الخطية أو الحروفية المطعمة بأشكاله الهندسية أو الصورية, هو يرسم ببعد واحد لكنه يحطم جداره دائما, لا يحب المساحات الفارغة, لوحاته تعبير صادق عن واقع كلها فوضى وقلق وانعدام الموازنة في المنطق الفني المعكوس حياتياً, لواحته كأنها تميمات أو تعويذات تنقل المشاهد إلى جو مفعم بالسحرية والسخرية والسوداوية, لكنها ليست وجودية, الفنان ثامر لا يعرف أن يستقر في تكويناته.
      عند لقاءنا بالفنان المغترب ذياب آل غلام وتبيان انطباعاته حول المعرض قال:" لا يحب الخطوط المستقيمة أو المتوازية, كل شيء في لوحته كاريكاتير انتقادي عنفي مع ذاته, غاضبا حتى في ضربات فرشاته, يتماها مع التنفيذ الكرافيكي الطباعي, لكنه خارج الميكانيكية الطباعية, إيحاءاته يخلقها من عوالم فيها دهشة حومة الدرويش حينما يحوم في مداراته للتجلية, اللوحة عنده حراك عصبي بجماليه لا يستذوقها إلا ممن يعرف نشيج ونوازع النفس المضطربة في التعمق النظري للوحات ثامر, فهو رسام نخبوي غالباً لا يشرح بل يتركنا نحن المشاهدين أن نكتشف نوازعه الذاتية, ثامر فنان مثابر تجريبي لكنه في هذا المعرض وحسب ما اعتقد أنه يرسو على ضفة أن سقلها جيداً سيكون صاحب خصوصية للفن الحديث, علما أن لوحاته ليس للجدار بل بعنوان الفن المتمرد على الشارع وعلى الأفكار, ثامر الاغا فنان يبحث عن حريته من خلال حرية الإنسان, ثامر فنان بطفولة وجدَ نفسه أنه يعبر سنوات ضوئية ليرسم لكائنات هو يخلقها ويتماها معها لينقل لنا مأساته وربما مأساته هكذا وجدت معرضه اليوم".
     أما الفنان عاصم عبد الأمير فيصف أعمال الفنان ثامر الأغا بأنها:" تثير جدلاً, بين أوساط اللاعبين في الوسط الفني, نقاداً ورسامين, ربما للمغايرة النسقية التي كرست أسلوباً يقطع أي إحالة ممكنة لتجارب عراقية لها تأريخ في العرض التشكيلي, وأيضاً لما تشيء به تخطيطاته من فنتازيا لها حركة الرسم العراقي, وأبعد من ذلك التدفق بلا حدود لصور يكافح الخيال, والحدس على إنتاجها بلا انقطاع, يكثف ثامر الأغا من مشاهده الصاخبة في تعارضها السلوكية, وأعاجيب التخيّل, لكنها موحدة بالرسم, فردوسها المفقود خارج زمكنيتها الموضوعية التي لم تجلب سوى غياب الحرية وضربة الأمل".
      لوحات ثامر الأغا هي لبدع عراقي حلي انسل من أوجاعنا, تسبقها لذة الإطاحة بوثنية الأساليب الساحة في فراغها الوجودي. الفنان التشكيلي ثامر الأغا خريج معهد الفنون الجميلة/ الكرافيك/ بغداد عام 1974-1975م, شارك في كل معارض المعهد, شارك في أكثر من ثلاثة عشر معرض شخصي داخل العراق منذ عام 1974م ولغاية معرضه الأخير.


236
لماذا الإبادة الجماعية لأهلنا من الديانة الأيزيدية
نبيل عبد الأمير الربيعي
      تعتبر الديانة الأيزيدية من أقدم الديانات في بلاد الرافدين, وهي الديانة التي حملت أرث الديانات الشمسية العريقة ومنها الديانة المثرائية, بالرغم من أنها كانت  منتشرة في إيران والهند وتركيا, البعض يعتبرها من أقدم الديانات الكردية التوحيدية في فلسفتها التي تعتبر الخير والشر هي من منبع واحد, هو الله (إيزداني), كما أنهم يقدسون رئيس الملائكة (تاؤوس ملك), ومن أوليائهم الصالحين الشيخ أدي, وهو شيخ التصوف العرفاني, كما أن للشمس مكانة ومنزلة خاصة ومميزة لتجليات الله.
      الديانة الأيزيدية تعتقد بمبدأ يوم الآخرة إيماناً وعقيدة فضلاً عن أنها ديانة غير تبشيرية, تحرم القتل والزنا والربا, وتسمى بالأيزيدية نسبة إلى (ايزدان – الله) وأيزيدي بمعنى (عباد الله) وهي كلمة سومرية (ئي – زي – دي).
      يقدر عدد نفوسهم بأكثر من (500000) نسمة موزعين في العراق على أقضية شنكال/ سنجار, الشيخان, تلكيف, زاخو/ سميل, بعشيقة, بحزاني. أما تعدادهم في كردستان سوريا حوالي (17000) نسمة, منهم (12000) يسكنون في منطقة كورداغ بمحافظة حلب, والباقون يسكنون في منطقة الجزيرة (الحسكة والقامشلي), وقد هاجر أكثر من عشرة آلاف منهم إلى ألمانيا وبلدان غربية أخرى.
      أما في كردستان تركيا فتعدادهم أكثر من (25000) نسمة ومعظمهم هاجر إلى دول اوروبا, وفي روسيا الاتحادية يعيش أكثر من (250000) أيزيدي اغلبهم في جمهوريتي ارمينيا وجورجيا, وهناك اكثر من (6000) أيزيدي في منطقة كرمنشاه جنوب إيران قرية كرمين.
      من مقدسات الديانة الأيزيدية (طاؤوس ملك, الشمس والقمر), ومن المحرمات (القتل المتعمد, عدم الالتزام بالفرائض, الزنا, الزواج من غير الأيزيديين, الربا, الكذب, القسم زوراً, النميمة, سوء النية, أكل مال اليتيم). ويقسّم الأيزيديين إلى ثلاث طبقات هي (البير, الشيخ, المريد), لا يجوز الزواج بين ابناء هذه الطبقات, ويتكون المجلس الروحاني الأيزيدي من (الأمير, الباب الشيخ, البيشيمام, شيخ الوزير, رئيس القوالين).
     من كتبهم المقدسة (الجلوة, مصحف رش), الجلوة هو من تأليف الشيخ حسن بن الشيخ أبي المفاخر آدي بن أبي البركات صخر بن صخر بن مسافر الهكاري (1184-1246م), أما كتاب (مصحف رش) البعض يعتقد أنهُ من تأليف الشيخ آدي بن مسافر.
      من أهم معابدهم (معبد لالش), يبعد عن مدينة الموصل بنحو 60 كم, ولهم أعياد خاصة بهم منها (أعياد الربيع, أعياد فصل الصيف, أعياد فصل الخريف, أعياد فصل الشتاء).
لماذا الإبادة الجماعية من قبل عناصر داعش :
      السبب الأول هو لديانتهم القديمة التي تحمل أرث الديانة الشمسية الكردية, وهذا لا يعتبر سبب الإبادة لأهلنا من أبناء الديانة الأيزيدية, فضلاً عن صدور في عصور ماضية لأكثر من (73) فرماناً من قبل السلطات العثمانية لإبادة هذا الشعب المسالم, بحملات عسكرية متواصلة, وأخيراً كان فرمان الإبادة من تنظيم داعش يوم 3/8/2014م بعد اجتياحهم لمدينة الموصل. كان الهجوم على سنجار والقرى المجاورة ومجمعات الأيزيدية التابعة لها فكانت نتائج هذا الهجوم :
-         موت أكثر من 1300 أيزيدي بسبب الجوع والعطش والحصار في الجبار المجاورة لسنجار.
-         أسرّ العديد من أبناء الديانة الأيزيدية وإجبارهم على اعتناق الدين الإسلامي.
-         بيع وإهداء النساء والفتيات الأيزيديات.
-         مقتل حوالي 4000 شخص من الرجال والنساء والأطفال.
-         أكثر من 12 مقبرة جماعية مكتشفة في سنجار لحد كتابة هذا المقال.
-         العدد الكلي للمخطوفين بأيدي داعش (5838) شخص.
-         نهب ومصادرة بيوتهم في سنجار وبعشيقة وبحزاني ويابيري, كانت تقدر بملايين الدولارات.
     


237
أمراء الإرهاب في الإسلام ... أبو بكر البغدادي نموذجاً
نبيل عبد الأمير الربيعي

من أمراء الإرهاب هم كل من ( ابو الأعلى المودودي, حسن البنا, سيد قطب, محمد عبد السلام فرج, قلب الدين حكمتيار, اسامة بن لادن, ايمن الظواهري, أبو بكر البغدادي), هم صناع إنتاج الإرهاب المسلح في القرن العشرين, أرغموا بعض من أغبياء الأمة الإسلامية بمنحهم الهالّة القدسية, فكانت بقدر كبير من تخطيط وتنفيذ مشاهد القتل والتعذيب والسبي للفتيات والعنف الدامي, بما فيها مما صنعوا من أفعال بالمختطفين والمختطفات من أبناء الديانة الأيزيدية من فرض ختان النساء بأبشع الطرق، وجهاد النكاح، والجلد والرمي من السطح ، والضرب بالنعال الاسلامي وجريد النخل، وإخصاء الأطفال بربط الخصية بالخيط حتى تسقط وحدها لأنهم عبيد للدولة ( صيحات الله أكبر تتكرر مع كل خصية مربوطة) ص 294، والاغتصاب وبيع السبايا بأسعار مختلفة واحيانا تنخفض الاسعار! ومقاومة السبايا وهروبهن، وانتحار بعضهن، ووضعهن النفسي المزري، ومصير الأجنة في أرحامهن , باتت تضرب بهم الأمثال بقسوتهم, فهم خوارج هذه الأمة, عند دراسة حالة الإرهاب مطلع تسعينات القرن الماضي ولحد هذه اللحظة, البعض يفسر الظاهرة على إنها صنيعة أمريكا والبعض يعتبرها من صنيعة إسرائيل والصهيونية, لغاية هذه اللحظة ما زال عقل الفرد العربي يفسر كل ما هو ضار للأمة على إنهُ مؤامرة الغاية منها تدمير الأمة الإسلامية والعربية, فما زال العقل العربي يعيش في غيبوبة بعيداً عن الواقع, وما زالت فكرة المؤامرة راسخة في هذا العقل بعيداً عن التحليل الواقعي والموضوعي, للسبب الرئيسي وهو لما نعيشهُ من إرهاب القاعدة وداعش, وبالأمس إرهاب الخوارج والفكر الوهابي والفكر السلفي, لكن المشكلة الرئيسية هي في كتبنا الإسلامية ومناهجنا الدراسية, لذلك رسخت فكرة دراسة أدبيات ومناهج صناعة الموت والإرهاب وأخرجوا مصطلح الحاكمية, أي (إن الحكم إلا لله), وأتبعهم الغاوين فهضموا لحوم ودماء المسلمين, بالفكر والبندقية, لكن ما يسمى تنظيم داعش أصبح التنظيم الأقوى اليوم بدعم خليجي خاص, فضلاً عن تهريب النفط من حقول العراق وسوريا, وقد تزعم هذا التنظيم أبو بكر البغدادي (عبد الله إبراهيم عواد علي البدري), القائد الثالث لفرع تنظيم القاعدة في العراق وسوريا, والملقب بأمير دولة العراق الإسلامية.
لم يحمل البغدادي السلاح قبل الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003م, لكنهُ انضم إلى إلى القاعدة تحت أمرة أسامة بن لادن بعد ذلك, قبل أن يعتقل ويمضي فترة في أحد المعتقلات الأمريكية, عرف اسمهُ بعد ظهور تنظيم ما يسمى (الدولة الإسلامية في العراق) عام 2006م إثر انشقاقه عن تنظيم (القاعدة), عام 2010م, تسلم البغدادي القيادة للتنظيم بعد سلسلة من العمليات استغل فيها اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011م للإنتقال هناك والتوسع عام 2013م, للإستيلاء على أرض سوريا لتكون جسراً متصلاً بالعراق, وقد ظهر أول مرة من خلال فديو في منتصف حزيران عام 2014م, يظهر وهو يلقي خطبة في (الجامع الكبير) في مدينة الموصل, داعياً إلى طاعته , وأرتدى العباءة السوداء واعتمر العمامة السوداء.
لكن قبل هذا وفي عام 2003م التحق البغدادي بجماعة التوحيد والجهاد التي يقودها ابو مصعب الزراقاوي زعيم القاعدة في العراق, وتتلمذ على يديه وعرف بشراسته في القتال في محافظة الأنبار وتمتعهُ بحسن القيادة.
وفي أواخر عام 2005م اعتقلتهُ القوات الأمريكية لمدة أربعة أعوام في سجن بوكا في أم قصر في مدينة البصرة, فكان واحداً من بين 26 ألف سجين يقبعون في مخيم الاعتقال, لكن مع خروجه من مخيمات الاعتقال عام 2009م تولى البغدادي مهمة تسهيل قدوم النشطاء الراغبين في الانضمام إلى صفوف تنظيم الإرهاب (القاعدة) من سوريا والعراق.
بعد مقتل أبو عمر البغدادي عام 2010م اصبح البغدادي الرجل الأول في تنظيم القاعدة في العراق وتوليه قيادة ما يسمى (الدولة الإسلامية في العراق), أشرف وتولى القيادة على الهجمات والعمليات الإرهابية في العراق, وفي عام 2010م نظم 60 تفجيراً في يوم واحد في بغداد ذهب ضحيتها (110) شخصاً, كما كان البغدادي مسؤولاً بعد خروجه من السجن عما يسميه تنظيم القاعدة (المحكمة الإسلامية), وقد قوى التنظيم بعد استهداف نوري المالكي للصحوات والقضاء عليها عام 2009م, بسياسات التمييز الطائفي, مما أعطى لعناصر التنظيم فرصة كبيرة في العودة وإحياء التهم المزعومة, إلا أن هناك رأي آخر يقول أن الصحوات كانت مزدوجة الرؤيا والعمل يوماً مع الدولة ويوماً مع التنظيم الإرهابي.
السبب الرئيسي في توسيع التنظيم في المنطقة الأزمة التي اندلعت في سوريا ليعلن البغدادي دخوله خط المواجهة ووجد سوريا مساحة خصبة لممارسة إجرامه واستغلال الفوضى لتحقيق المكاسب وتوسيع النفوذ بين الأراضي السورية العراقية وخاصة (دير الزور والحسكة والرقة), واعتمد التنظيم أثناء وجوده في سوريا من خلال سيطرته على حقول الغاز بتلك المناطق, وقيامه بفرض الضرائب وبدل خدمات على أهالي تلك المحافظات واستحداث لجان تابعة لهُ بتقدير (واجب ضريبة سنوية) على رؤوس الأموال تدفع كزكاة لبيت مال المسلمين للتنظيم, وباتساع نفوذ البغدادي األن في التاسع من نيسان 2011م أن جبهة النصرة في سوريا هي امتداد لدولة العراق الإسلامية, وأنهُ تقرر توحيد جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية تحت اسم واحد بما يسمى (الدولة الإسلامية في العراق والشام) – داعش -, وقرر الاحتكام إلى أيمن الظواهري قائد تنظيم القاعدة, وأعلن أن يكون البغدادي قائداً لفرع التنظيم في العراق, ويظل الجولاني قائداً لفرع التنظيم بسوريا, وهو الأمر الذي لم يقبله البغدادي, فشنّ حرباً على (جبهة النصرة) وأعلن عدم التزامه بهذا التحكيم وتجاهل نداءات زعيم القاعدة أيمن الظواهري.
ذكر الكاتب خالد عكاشة في كتابه (أمراء الدم. صناعة الإرهاب من المودودي إلى البغدادي) ص455 قال:" تعتبر داعش الآن أقوى تنظيمات القاعدة تسليحاً وتدريباً وكفاءة عسكرية... ولذا تمتلك داعش كم ضخم ومتنوع من الأسلحة المتطورة, حصلت عليها كغنيمة من الجيشين السوري والعراقي, ومنها دبابات ومدرعات وعربات مصفحة, فضلاً عن الصواريخ بكافة أنواعها, كما إن انضمام ضباط قوميين وبعثيين سنّة من الجيشين العراقي والسوري للتنظيم, كان عاملاً مهماً زاد هذه القوات خبرة وحنكة عسكرية", لكن ما نلمسه اليوم أن تنظيم داعش بدأ يتقهقر ويتراجع بفضل قوات الجيش العراقي والعشائر وفتوى السيد السستاني من خلال قوات الحشد الشعبي الذي لقن عناصر داعش درس لا ولن ينساه.
في الفترات السابقة استقطب تنظيم داعش مقاتلين من مختلف انحاء العالم, حيث تذهب عدد من الإحصائيات إلى أن أعداد مقاتلي التنظيم تتراوح بين (20 الف و30 الف مقاتل) في العراق وسوريا, هذا وفق تقديرات حديثة نشرتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA), فيما تذهب تقارير ميدانية إلى أن اعداد المسلحين يبلغ على الأقل (200) الف مقاتل, تستحوذ بريطانيا على المرتبة الأولى, تليها فرنسا وبلجيكا ثم المانيا, ثم هولندا, وقدرت اعداد البريطانيين (700) مقاتل من بين 2000 مقاتلاً من مختلف أنحاء العالم, ونسبة الفتيات الأمريكيات أو غيرهن من اللواتي إنضممنّ لدتعش يشكلنّ نحو 10% من مجموع المقاتلين, فيما ترتفع النسبة كثيراً في فرنسا لتصل إلى 25% من مجموع المقاتلين الذين يتوجهوا للقتال في سوريا والعراق.
من ضمن المخططات التكتيكية التي لجأ إليها تنظيم داعش لاحكام السيطرة على المناطق في العراق هو تفجير مسجد وقبر نبي الله يونس, واشعال الحرائق في عدد كبير من الأراضي الزراعية, حيث اعلنت إدارة ناحية السعدية لقضاء خانقين بمحافظة ديالى في 11 مايو 2014م عن قيام تنظيم داعش بإحراق عشرات الأفدنة من البساتين, واحراق مساحات كبيرة من حقول الحنطة في ناحية (قرة تبة), والسيطرة على سد الفلوجة وغلقه, كل هذه الأساليب لقطع وسيلة العيش الأساسية للسكان في هذه المناطق, مما يوسع دائرة العنف والتوتر في المحافظة, وفتح جبهات ضغط جديدة على الحكومة العراقية, فضلاً عن استيلاء التنظيم بعد سقوط مدينة الموصل على بنوك المحافظة ومبلغ يقدر بـ (425) مليون دولار, والكثير من سبائك الذهب, ليتسلم التنظيم المال والأسلحة وملايين الدولارات من بنوك الموصل, وإطلاق سراح معتقلين من التنظيم لأكثر من (2500) معتقل في سجن بادوش, مما أضاف رصيداً كبيراً لانتحاريي داعش وعناصره, مما أدى للسيطرة على محافظة صلاح الدين وتكريت والرمادي.
انطلق التنظيم من خلال البُعد المذهبي لتعزيز سلطة داعش في العراق وبسرعة كبيرة من خلال الدعوة لابناء السنّة لدخول التنظيم, وحالة إقصاء المذهب الشيعي من خلال تفجير الإنتحاريين التابعين لداعش بمواد متفجرة في المدن العراقية في الوسط والجنوب, التنظيم بدأ بالتوسع في الفترة ما بين 2013 و2015م حيث كشفت دراسة اجرتها منظمة (ارمامنت كونفلكت ريسيرتش المستقلة المدنية) بمراقبة الأسلحة, أن التنظيم يستخدم اسلحة وذخائر مصنّعة في 21 بلداً بما في ذلك (الصين, روسيا, الولايات المتحدة, صربيا, ايران) وقد أخذت المنظمة عينات من أكثر من 1700 طلقة لأسلحة رشاشة وبنادق ومسدسات في يوليو واغسطس 2014م في شمال العراق وسوريا, ظهر أن 80% من ذخائر الخرطوش التي يستخدمها التنظيم صنعت في (الصين, والولايات المتحدة, وروسيا, وصربيا, وايران), مما يعني هذا أن التنظيم قد زود بالأسلحة عبرَّ وكلاء في المنطقة, وهناك تقرير استخباراتي قدم لملف الناتو تعرض لموضوع تسليح داعش" المعلومات إلى أن الذخائر التي انتقلت إلى سوريا والعراق للمساعدة في استقرار الحكومات هناك, انتقلت بدلاً من ذلك إلى ايدي مقاتلي داعش, ما ساهم في بروز تنظيم داعش وتعزيز قوته القتالية, فضلاً عن إيرادات التنظيم من مبيعات النفط وغيرها من المصادر تكفي لتمويل وشراء اسلحة مباشرة من بعض الشركات وتجار الأسلحة).
من هذا نستنتج أن تنظيم داعش قد تنامى نفوذه وسيطرته لعاملين: العامل الأول اقتصادي متمثل في تعدد مصادر التمويل التقليدية (تهريب النفط), والعامل الآخر سياسي يتمثل في عامل غياب الدولة القوية وغياب استراتيجية جادة للتحالف الدولي لمواجهة هذا التنظيم الذي ينتشر كالسرطان عبرَّ منطقة الهلال الخصيب.


238
أبو العلاء المعري ثائراً للكتور نبيل الحيدري
د. عبدالحسين صالح الطائي
صدر في مطلع عام 2016 كتاب للدكتور نبيل الحيدري بعنوان: (أبو العلاء المعري ثائراً) عن الدار العربية للعلوم ناشرون مع دار العرب في بيروت تناول فيه حياة المعري (973 – 1057م)، فيلسوف الشعراء الذي استحق صفة الشاعرية وتفرد بامتلاك خاصية النبوغ والابداع في مجالات الأدب والفلسفة والتراث، والعلوم حتى أبهر علماء عصره واستحق لقب (أعجوبة الدهر).
باسلوب بديع تعمق الكاتب في دراسة وتحليل شخصية المعري، فأخذنا في رحلة انسانية طويلة في فكر ونفسية وروحية أبو العلاء التي غلبت عليها سمات التشائم، مبيناً الدوافع التي أوصلته لهذه الحالة.
يذكر الحيدري أنّ المعري أصيب بالجدري فعمي وهو في الرابعة من عمره: (قضي عليَّ وأنا ابن أربع)، وعلى الرغم من معاناته الكبيرة، انطلق في الحياة وأثبت بأن الإنسان لم يوقفه عجزه أمام طموحاته الواسعة. دفعته عاهته إلى التحدي والرغبة في التكيف والطموح في إكتساب مختلف المعارف إلى درجة لعب النرد والشطرنج والتفوق على البصراء. لقد جعل من محنته ومعاناته وفقره عوامل دفع قوية وظفها بعزم ضد كل التيارات المعرقلة لمسيرته:
قالوا العمى منظرٌ قبيحٌ  قلتُ بفقدانكم يهــــونُ
والله ما في الوجود شيءٌ       تأس على فقده العيونُ
يمثل الكتاب دراسة جديدة جريئة في مناقشة قضايا حساسة تحتاجها أمتنا اليوم لاسيما التشدد والتزمت الديني، فهو يعتبر المعري مبدعا في الجانب الفلسفي ليكون ثورة فكرية على التخلف والتزمت ومناقشة قضايا الدين والحياة والمجتمع لاسيما كتابه (رسالة الغفران) التي يصور المعري فيه زيارة للجنة والنار ومحاورة الملائكة والأنبياء وهو يجيب ابن القارح في رسالته وسؤاله للمعري: (من يدخل الجنة ومن يدخل النار ولماذا) فيكون الجواب واسعا في رسالة طويلة معقدة وبأسلوب هزلي راقي متهكم يجعلك تضحك وأنت تنظر إلى حالك مستذكرا قول المعرى
ولما رأيت الجهل فى الناس فاشيا   تجاهلت حتى ظن أني جاهل
كما نجد أيضا فكر المعري وفلسفته في ديوان اللزوميات ولزوم ما لا يلزم وهذا بالشعر مقابلا للنثر في الغفران
يدخل الكاتب فى مقارنات ومقاربات بين الشعراء والأدباء مثل فصله المتنبي والمعري في الشعر والفكر والفلسفة وغيره
كما يتناول الكاتب دراسة الظروف والبيئة وتأثيرها على المعري كما يثبت الكاتب كيف استطاع المعري أن يتجاوز زمانه ومكانه وبيئته ليصلنا فيما نحن أحوج ما نكون عليه
كما يتناول فلسفة المعري فى آراءه الخاصة كثل تحريمه أكل اللحم وتحريمه الزواج ليتناول علاقته بالمرأة وهو يجادل من يدعي تشاؤمه حيث يجد ديوانا للمعري مليئا بالغزل والوصف للمرأة ونظرات في احترامها
كما يتحدث عن الرسائل التي كانت تأتي المعري من مختلف الزعماء والشخصيات الدينية والسياسية وأجوبة المعري عنها
ويناقش قضية الدين الذي ادعاه مختلف من كتب عن المعري ليجادلهم ويخالفهم ويصل الى نتيجة جديدة في ذلك
تناول المؤلف الحيدري الذين كتبوا عن المعري لاسيما من الشخصيات المختلفة حتى المستشرقين الذين أعجبوا به وسبقوا العرب بالإهتمام بعبقريته وإبداعه لأن العرب تركوه متوهمين كفره وإلحاده حيث يتناول الكاتب أيضا مناقشة كبيرة في مسألة الإيمان والكفر
يتناول الكاتب أغراض الشعر عند المعري في سبعة أبواب فريدة رائعة
كما يبحث الكاتب أهم مرحلة من المعري وهي زيارته إلى بغداد التي يعتبرها الحد الفاصل بين مرحلتين وذلك أيام كانت كباريس ولندن وفيها مجالس الفكر والأدب التي دخلها المعري محاورا مجادلا لدرجة ضاق به الحساد وتكالبوا عليه
يبدع الكاتب في تصوير أبي العلاء من أجمل الشعراء الذين ظفروا بنصيب وافر من الطبيعة الفنية، التي جعلت شعره جزءاً من حياته، فاصبح موضوع حياته هو موضوع شعره، وموضوع شعره حياته. فهو صاحب النظم البديع، شعره يدل على أنه كان عالماً بالأديان والمذاهب وعقائد الناس والفرق. كانت له فلسفتة المتميزة للحياة والكون والوجود والأديان. تباينت تقيمات النقاد له، فمنهم من جعله فيلسوفاً وجرده من الشعر، وعده آخرون شاعراً مجرداً من الفلسفة، وجمع له فريق ثالث بين الخصلتين. كان شغوفاً بالعلم والتعلم، ونتاجه الشعري والأدبي والفلسفي يعكس عمق ثقافته وسعة اطلاعه، لديه قدرة عالية على الحوار والمناقشة والمناورة الواعية في مختلف مجالات المعرفة والأدب والفلسفة.
نُقلت عنه قصص عجيبة إلى حد الإعجاز عن قوة ذاكرته وعظمة ذكائه، جعلته متفرداً متميزاً حتى قيل عنه: (ما قرأ إلا حفظ جميع ما قرأه ولم ينس منه شيئاً)، ونقل عنه قوله: (ما سمعت شيئاً إلا حفظته). اهتم بالآداب والفلسفة والتراث والجدل والعلوم فأبهر عظماء عصره فأقروا له بالنبوغ والابداع. أنصفه الكثير من الكتاب والأدباء والمستشرقون فيما بعد، فعدّوه فيلسوفا عالمياً سبق زمانه بآرائه العقلية والفلسفية والأخلاقية والسياسية والدينية.
ما مر فى هذه الدنيا بنو زمن … إلا وعندى من أخبارهم طرف
انتقد المعري وعاظ السلاطين الذين طبلوا لهؤلاء الحكام. كان صادقاً في أقواله، مؤمنا بأفكاره كل الإيمان غير آبه بردود الأفعال. تحرر من هيمنة الطقوس، فأصبح حرا مبدعا مجددا، رافضاً للتقاليد، فاتهم بالزندقة والإلحاد.
يعتقد الحيدري تجاوز المعري أحداث زمانه ومكانه ومجتمعه إلى آفاقٍ لا تعرف الحدود في الفكر، جعلته في موقع المواجهة مع قوى التخلف والتعصب والتزمت. فأصبح متمرداً غريباً في موطنه، وبسبب تكفيره وعزلته، ومضايقة أمير حلب له، الذي حاربه في فكره وطموحاته، فكر بالتوجه إلى بغداد (مدينة السلام)، التي إزدهرت بالفن والأدب والعلوم.
لقد صادف يوم وصوله إلى بغداد وفاة الشريف الطاهر، حيث أدلى الشعراء بدلوهم، فارتجل المعري مرثية فتميز، فرفعه الشريفان الرضى والمرتضى إلى منصتهما إجلالا وإكباراً. كانت بغداد تمتحن الوافدين، فتعرض المعري لإمتحان صعب نجح فيه بتفوق، فاطلق عليه لقب: أعجوبة الدهر وفريد العصر. كان حاضراً في كل مجالسها الأدبية والعلمية، كما قال عنه طه حسين: (لم يترك أبو العلاء بيتا من بيوت العلم فى بغداد إلا ولجه، ولا مجلساً من مجالس الأدب إلا حضره، ولا بيئة من بيئات الفلسفة إلا اشترك فيها).                                                                                   
عاش المعري أهم فترات حياته فى بغداد، مركز التنوير والعلم والثقافة والحوار والترجمة، خلال فترة العصر الذهبي لإزدهار الخلافة العباسية. فكان المعري محوراً لكل المنازلات الشعرية والأدبية والمذهبية والفكرية في أجواء بغداد المحتقنة اصلا بشتى المدارس والنزعات الأدبية والعقائد الفكرية والتيارات المختلفة.
كقوله فى بغداد:
لى الشرف الذى يطأ الثريا … مع الفضل الذى بهر العبادا
كان المعري شديد الاهتمام بكتبه وعلمه وأدبه يجمعها ويفسرها ويدافع عنها. شرح ديوانه سقط الزند بكتاب ضوء السقط، كما شرح اللزوميات بكتابين ودافع عنها بثالث. وشرح الفصول والغايات بكتابين، وشرح الرسائل بكتاب أسماه خادم الرسائل. ومن أعماله المعروفة (رسالة الغفران)، التي هي عبارة عن رحلة خيال إلى العالم الآخر، إلبسها ثوباً سماوياً، شغلت الكثير من الأوروبين لشدة الشبه بيها وبين الكوميديا الإلهية لدانتي. لقد تجاوزت كتبه السبع والسبعين، وعلى الرغم من أن بعضها قد أتلفها البيزنطيون. إلا أنه ترك لنا نتاجاً ضخماً يعكس طبيعة الحياة التي كانت سائدة في عصره.
لقد نسب خصوم المعري كل سوء وبدعة ورذيلة له حتى ظنّ طه حسين، حينما كان يدرس فى الأزهر أن المعرى قد جمع كل رذيلة فى الدنيا، ولكنه حينما وصل إلى باريس ورأى اهتمام المستشرقين بنتاجه الأدبي والفلسفي وتأثرهم بعظمة فكره وإبداعاته، تأثر به بشكلٍ كبير ووجد ضالته عنده.  حيث أكدت ذلك سوزان الفرنسية زوج طه حسين بقولها: (إن طـه حسين كان أبا علاء آخر، إنسانان غارقان في الليل نفسه، إنسانان يرفضان قدرا ظالما). لقد أيقن طه حسين بأن المعري يستحق أن تكون رسالة الدكتوراه عنه، وفيما بعد تلاها بكتب ومقالات خالدة وفاءً له ووفاءً للمعرفة.
وكان محمد مهدي الجواهري من المعجبين جدا بالمعرى وشعره وأدبه وفكره. حفظ الجواهري أكثر أشعار المعري ودرس رسائله وأدبه بعمق وتأثر به كثيرا كما تأثر بالمتنبي والبحتري. ولما دعي إلى مهرجان الذكرى الألفية للمعري في دمشق، وبحضور عميد الأدب العربي طه حسين إلقى قصيدته التي مطلعها:
قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا       واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
تأثر المعري بالكثير من الشعراء العرب وحفظ لهم، وشرح بعض دواوينهم كالبحترى وأبى تمام والمتنبي، ولكنه تأثر بشكل كبير بالمتنبي حتى سمى شرح ديوانه بمعجزة أحمد. ويظهر تأثره بوضوح في الكثير من أشعاره، كقوله:
وإنى وإن كنت الأخير زمانه … لآت بما لم تستطعه الأوائل
على غرار قول المتنبي:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا … بأنني خير من تسعى به قدم
ورغم عشقه الكبير لبغداد، إلا أنه عاش محنة كبيرة فيها مما اضطره لتركها متحسرا. فألزم نفسه بيته، وشعره بشيء من التشاؤم، وصار يطرق مواضيع فلسفية لم يألفها أدب العرب، كتبشيره بالنبتانية.
فلا تاكلن ما اخرج الماء ظالما        ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ولهذا لُقب برهين المحَبسين، رهين العمى، ورهين البيت. عاش زاهداً في الدنيا معرضاً عن لذاتها. توفي ودفن في منزله في معرة النعمان.
يطرق الحيدري مواضيع جريئة ويناقشها كما يجادل ما كتب عن المعري ليعطي صورة جديدة في عبقري نحن أحوج ما نكون أليه
 
 


239
دور الموسيقى في تربية النفس
نبيل عبد الأمير الربيعي
     للموسيقى دور كبير في تربية وتهذيب النفس, وقد اكتشف العلم الحديث أن جميع أنواع الطيور تتوق إلى التغريد مثلما تبحث عن الطعام خلال يومها, كما أن الإنسان البدائي يطرب على الموسيقى ويرقص ليسد حاجات متنوعة وكثيرة, والطفل لا ينام أحياناَ إلا إذا هدهده إنسان بالغناء العذب, كما أن المجنون المتهيّج لا تتم تهدئته إلا بموسيقى ناعمة أو صوت شجي, فالفن لم يكن ولن يكون ضد القيم الاجتماعية أو الأخلاقية كما يدعي بعض رجال الدين, بل كانت الفنون بجميع أنواعها دائماً من أفضل الوسائل لتطهير النفس وإرهاف المشاعر, بل حتى شحذ الذكاء وتنمية القدرات العقلية , ومثال ذلك دور العبادة في الديانة اليهودية والمسيحية في استخدامها للموسيقى الكلاسيكية في إيصال عقائدها الدينية إلى روادها.
     وقد وردت الإرشادات للموسيقى في الكتابات الكلدانية والعبرية لدورها في تحفيز الانفعالات وتهدئتها, وهي من أهم وسائل تطهير النفس وعلاج علل النفوس, كذلك المتصوفة نجدهم يؤكدون على دور الموسيقى في التربية والتهذيب والعلاج وإزالة التوتر, ويقال أن ذا النون المصري هو أول من أدخل الموسيقى في مأثور الصوفية, وأبدى الحلاج اهتماماً شديداً بها, كذلك أبدى ابن عربي أهمية الموسيقى في الحياة, فالفنون الجميلة إذن كانت واسطة أساسية استخدمها المتصوفة في نشر معتقداتهم, ولذلك قال الفيلسوف فيورباخ في هذا المعنى : يهيئ الحب للإنسان أقوى أسباب الفرح والابتهاج, ولذلك يحمل الحب صفة الإلوهية.
      للموسيقى دوراً مهماً في تحريك النفس وصياغتها وتوجيهها, كما أن الموسيقى أصبحت مصاحبة للطقوس والشعائر المصحوبة بالرقص والموسيقى والغناء تأثيرات سايكولوجية بعيدة المدى.
     


240

إدارة اللاوعي الجماعي والجمعي للكائنات البشرية

نبيل عبد الأمير الربيعي
     الخضوع الجماعي لفرد ما يحتاج إلى دراسة التاريخ, كون الفرد لا يخضع لما هو مباشر, وإركاع الجموع واخضاعها تحتاج إلى فهم قوة العقيدة من الناحية الروحية لذلك المجتمع.
      في عراق اليوم والأمس أصبح لبعض الزعماء المقدرة على اخضاع المؤيدين لسياستهم من خلال اللجوء إلى منح الامتيازات للبعض دون الآخر, لذا فإن العطايا والهدايا تعمل على تعزيز الولاء لهؤلاء الزعماء, وهذا ما حصل ابان الحقبة الزمنية الماضية للقائد الضرورة, الذي حكم العراق خلال 35 عاماً في السلطة ولم تعترض عليه أي جهة من أفراد الشعب أو المؤسسات الدينية لا في داخل العراق ولا من قبل دول الجوار, علماً أنه قام بحرب مدمرة استمرت ثمان سنوات تجاوز الموت فيها المليون نسمة من الطرفين, فضلاً عن مذابح الأنفال في كردستان العراق, ولم تتحرك أي من المؤسسات الدينية للدفاع عنهم, ثم هجوم قواته على الجارة الكويت عام 1990م وتحطيم المؤسسات الحكومية لهذه الدولة واعقبها المجازر ضد ابناء الجنوب بعد انتفاضتهم في آذار عام 1991م, لكن بعد الغزو الأمريكي للعراق تحركت ضمائر هذه المؤسسات الدينية رافعة بنادقها ضد أبناء العراق من الوسط والجنوب بدعم من تنظيم القاعدة, ومن ثم تنظيم ما يسمى داعش, والسبب لأن هؤلاء الروافض يجب إبادتهم باسم الدين.
     إن ما يحصل حقيقة أن هناك أيدي لحكومات ومؤسسات تدعم هذا الاقتتال لاستمرار الإبادة الجماعية واخضاع الآخرين لسلطتهم, فكان الهدف هو خدمة التطرف الديني لقاء فوائد لا غنى عنها وهذا ما يطلق عليه بعض الباحثين بـ( الجمهور الممغط).
      إن الصمت للغالبية العظمى من رجال الدين سببه قناعتهم بما يقوم به الحاكم المستبد سابقاً والحاكم المنتخب حالياً من تصرفات شخصية اتجاه شعبه, أو هناك تفسير آخر أن الصمت هو اضعف الإيمان, لكن هؤلاء رجال الدين من سدنة المعبد قد تركوا أبناء بلاد الرافدين يسيطر عليهم الحاكم الظالم سابقاً والمستبدين والفاسدين والسارقين لقوت الشعب بعد عام 2003م دون أن ينطقوا بكلمة واحدة, وحتى وأن نطقوا فليس لهم أذن صاغية من قبل سياسيو الصدفة في عراق اليوم.
      لا ننسى ما يحدث اليوم في العراق من ظاهرة التكفير لفئة من المجتمع أو لديانة ما بسبب الاختلاف في العقيدة, إذ أصبح سلاح التكفير يستخدم بإسراف, وقد سنّ شيوخ التكفير فتاوى تدعو إلى قتل الآخر من خلال استخدام الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة, فضلاً عن قناعة هؤلاء القتلة من دخولهم الجنة بعملهم هذا, وسيلتقي بحور العين والغلمان, ويشربوا من انهار الخمر والعسل واللبن, هنيئاً لعملكم هذا إذا كان جزاءه الجنة, وأي جنة تضم رفاتكم الممزقة, وأنا أتساءل, هل هناك أساليب يمتلكها شيوخ الإرهاب لها فاعلية في التأثير على اللاوعي الإيماني ودفعه في الاتجاه الذي يريده, لكن سلطة هؤلاء الشيوخ تمكنت من توجيه وإدارة اللاوعي الجماعي والجمعي للكائنات البشرية إلى دعوة الإنسان للانتحار ولقتل أخيه الإنسان على أساس الهوية الدينية والطائفية, وباسم الدفاع عن الإسلام من خلال الأرث الطويل من مفاهيم وعقائد بربرية هي نتاج أمراض الطفولة الإسلامية لمن يعتقد أن من ((فكرّ كفر)) لأن الفكر والكفر يحملان نفس الحروف.
      والباحث فالح مهدي في كتابه (الخضوع السني والإحباط الشيعي) ص243 يتساءل حول سطوة الدولة إذ قال : كيف تمكن أشباه الرجال في ديمقراطيات عريقة من الوصول إلى السلطة وتجديد ولاياتهم إلى فترات عديدة؟ لذلك لا خلاص لهذا البلد دون ترسيخ مفهوم المواطنة والتعليم والثقافة والنسبية وتداول السلطة بشكل نسبي من خلال فهم أفراد المجتمع لمعنى الديمقراطية ومن يقودهم .
 


241
خضير الزيدي ورواية أطلس عزران البغدادي
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     يوثق الروائي العراقي خضير فليح الزيدي حياة ومصير ما تبقى من المكون اليهودي في العراق بعد عام 2003م, هذا المكون الذي كان أحد أهم مكونات المجتمع العراقي, وقد افتقدتهُ العاصمة بغداد وباقِ المدن العراقية, كانت بداية الهجرة منتصف أربعينات القرن الماضي, ثمَ لعبت الحكومة الملكية العراقية الدور في هجرتهم الجماعية عام 1950/1951م , حيث بلغ عدد المهاجرين 120 الف عراقي يهودي غادروا البلد إلى فلسطين, ثم ختمتها الحكومة الشمولية عام 1969م بعمليات الخطف والإعدام والاعتقال والتغييب, حتى عام 1973م لم يبق منهم إلا عدد قليل من هذا المكون الذي قارب تواجده في العراق زهاء 2500 عاماً, وبعد عام 2003م لم يبق منهم إلا عدداً لا يتجاوز أصابع اليد.
     صدر عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد رواية مصورة للروائي خضير فليح الزيدي تحت عنوان (أطلس عزران البغدادي), تحتوي الرواية على 235 صفحة من الحجم المتوسط ذات طباعة جيدة خالية من الأخطاء المطبعية واللغوية, الرواية تمثل حال ما تبقى من هذا المكون في العاصمة بغداد, وما تعرضوا لهُ من حياة صعبة في بعض الأحيان, والاعتداء عليهم أبان حكم البعث وما بعد عام 2003م, الحادث الأول كان من قبل شاب فلسطيني استخدم سلاحه الرشاش للقضاء على من تبقى منهم, إلا أنهُ لم ينل مبتغاه, والحادث الثاني من قبل ميليشيا إسلامية شيعية أرهبت أبناء هذا المكون بالاعتداء على ساكني كنيس مئير طويق.
      تضم الرواية 26 فصلاً, متماسكاً ومترابطاً في أحداثها وحبكتها, ومصير شخوص الرواية نماذج بشرية رئيسية من خلال المتابعة عرفنا عنها أدق التفاصيل في سير غورها, وبطل الرواية عزران البغدادي ومحاولة تصفيته وتدخل جهات خارجية لإنقاذه, إلا أنه ظل شبحاً يخيف أهالي بغداد ويقض مضاجعهم. كانت الرواية تجربة مشوقة قد أعطى الزيدي كل فصل من فصول الرواية عنواناً مناسباً ينفرد به والفصول هي: عزران يرسم المصائر, الناس تشبه بعضها, أنف المحرّر, الشورجة معدة جائع, في مطبخ عزران, رصيف باب الأغا, اختطاف الوادي, تفاحة العشق الشهية, عينا المخصي, منظمة إخوان, الأمسية الشفافية – لندن, لمّ شمل, سائق الصرصور, موت بقرصة ذبابة.
      الرواية عبارة عن رسائل متداولة بين السيدة نورا والصحفي محمد رياض الوادي المحرر في مجلة نوارس, وهي رسائل فضائية مرسلة عبر البريد الالكتروني من إحدى شخوص الرواية (نورا) تؤكد أن الروائي جزء من المبنى السردي, لنقل الأخبار عن طريق بطل الرواية عزران الملاحق لتحركات الناس ومتابع أخبارهم الصغيرة والكبيرة, بالرغم من أن السارد الأول والمهيمن على وقائع الأحداث هو الروائي نفسه, كما أن ثيمة الرواية تضع أمامنا حياة المكون اليهودي المضطهد داخل البلد, وخطورة حياتهم, ومحاولاتهم إنقاذ أنفسهم وسط فوضى الرؤية, بعد ما يسمى بعام التغيير.
      ذكر الروائي الزيدي في صفحة 22 حول حادث وقع بالقرب من جدار الكنيس مئير طويق قال "في صبيحة يوم 5/11/2012 وتحديداً في الساعة التاسعة والنصف حدث, كان معظم الضحايا هم من المارة بصف الحائط, انفجار سيارة مفخخة في بغداد.. على مقربة من معبد مئير طويق, المعبد الشاخص هذه الساعة في حين السعدون على مقربة من شارع المدرسة الآوسية", الرواية توثق أعداد اليهود في العراق حسب وثيقة ويكيلكس 2010/2011, في صفحة 27 ذكر الروائي أنهُ" لم يعد هناك سوى ثمانية يهود عراقيين يعيشون في بغداد... وإن عدد اليهود كانوا عشرين يهودياً في عام 2003م, لكن هذا العدد انخفض نتيجة تقدم السن لمعظم المتبقين بالهجرة (العنف الطائفي)", كما ذكر الروائي حقيقة ارغب أن اعلق عليها وهي "انهُ كنيس طويق كان مغلقاً في بغداد وتحويل كنيس آخر في الديوانية إلى ورشة نجارة", أقول لكن الحقيقة كما أنا متأكد منها أن كنيس البصرة كما هو معروف قد تحول إلى ورشة نجارة بعد عام 2003 وأن الكنيس في مدينة الديوانية (التوراة) قد تم إزالته من قبل بلدية الديوانية عام 1973 وتم بناء على أرضه مجمع حوانيت بدلاً من الكنيس وهذا عكس ما نقله الروائي الزيدي في صفحة 27.
      ذكر الروائي الزيدي في صفحة 79 على لسان الصحفي محمد رياض الوادي أخبار مقبرة اليهود في بغداد /الحبيبية وحوارهُ مع الحارس ودفان المقبرة عن آخر جنازة وصلت المقبرة, فكان الجواب من قبلهُ " في عام 2008م جاءتني آخر جنازة ليهودي بغدادي وهذا كما ترى هو قبره.. رجل مُسن يدعى إبراهيم ناحييم, جاءت جنازته سراً من الناصرية", والخبر قد نقلهُ الروائي حقيقي ودقيق.
      الروائي الزيدي يسرد أحداثاً حقيقية عن واقع حال من تبقى من يهود العراق , ومن هم وافتهم المنيّة وسنوات رحيلهم, كما نقل الزيدي في روايته طريقة هروب النقيب الطيار  منير روفا إلى إسرائيل عام 1969م وفق المهمة رقم (007) مع الطائرة الروسية الصنع ميغ 21,ودوره في التعاون مع المخابرات الإسرائيلية للتعرف على تكنلوجيا السلاح الجديد (ميغ21) التي أصبحت جزءاً رئيسياً من ترسانة السلاح الجوي في مصر والعراق. الرواية دقيقة في نقل الأحداث, كما ينقل عبرّ الرواية واقع حال يهود العراق المعتدلين وخميرة المجتمع المدني, ولا زال البعض منهم يعرفون بيهوديتهم في كردستان العراق.
      في صفحة 171 ذكر الروائي الزيدي دور الدكتور نعيم دنكور في تقديم المساعدات كمنحة مالية، حيث قدم في عام 2014 اكبر هدية لجمعية الملكية للطب وذلك تبرعا لمساعدة الشباب الذين يرغبون بالتخصص في دراسة الطب وقد بلغت مليون جنيه استرليني، ويعتبر اكبر متبرع لمعهد كريك في لندن والذي يعتبر من اكبر مركز البحوث الطبية الحيوية في اوروبا. وفي صفحة 174 ذكر الروائي دور يهود العراق في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمة, ولهذا أقول الروائي الزيدي قل نقل تجربته الجديدة نحو التجريب والحداثة, ولتثبيت المصداقية السردية للمتلقي, وهي تجربة جديدة في الرواية العراقية.
 


242
مذكرات الصحفية العراقية ميادة العسكري



نبيل عبد الأمير الربيعي

 
      صدر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر للكاتبة جين ساسون كتابها الموسوم (ميادة ابنة العراق), الكتاب يحتوي على (463) صفحة من الحجم المتوسط , مزود بالصور للصحفية ميادة العسكري, الصور تخص سيرة حياتها خلال تواجدها في العراق مسقط رأسها حتى هجرتها نهاية تسعينات القرن الماضي.
       الكتاب عبارة عن مذكرات للصحفية (ميادة العسكري), عن الحقبة الزمنية التي عاشتها في العراق, وتاريخ عائلتها, وما تعرضت لهُ من اعتقال وتعذيب في سجون النظام البعثي السابق, فضلاً عن أن ميادة هي حفيدة الأستاذ ساطع الحصري من والدتها, فوالدتها سلوى ساطع الحصري , وحفيدة مؤسس الجيش العراقي في العهد الملكي جعفر العسكري لوالدها, ووالدها هو نزار مصطفى جعفر العسكري.
      للكاتبة جين ساسون عدة مؤلفات منها: (مغامرة حب في بلاد ممزقة), تمثل القصة الحقيقية لجوانا, وهي امرأة مناضلة من كردستان العراق, هربت من العراق بسبب سياسات النظام السابق القومية, كما صدر لها كتاب (إنه بن لادن), يمثل حياة بن لادن وكل شيء عنه لحال لسان زوجته وابنهُ, وصدر لها كتاب (سمّو الأميرة), وهو كتاب يمثل وقائع من قلب العائلة المالكة في السعودية وخفايا تمكنت من الظهور وأسرار معلنة, كما صدر للكاتبة جين ساسون كتاب(حلقة الأميرة سلطانة), وكتاب (بنات سموّ الأمير), وهي اعترافات خطيرة وحميمية لأميرة سعودية من العائلة الحاكمة. أّما كتاب (لأنك ولدي) فهو الكتاب الذي تابع امرأة أفغانية تبحث عن طفلها المفقود, و كتاب (طيار سمتية وطفل أسير), وأخيراً كتاب (ميادة ابنة العراق).
      الكتاب الأخير يمثل تاريخ حقبة حكم البعث والدكتاتور صدام حسين, وسلوك القوى الأمنية مع أبناء العراق ومع المعارضين سواء من الأحزاب المعارضة أو من المنتمين لحزب البعث, الكتاب يبين دور عناصر مخابرات صدام في تعقب وتعذيب المعارضين لهُ بشتى الأساليب والطرق الدموية, حتى لم يسلم من التعذيب مدير الأمن العام في النظام فاضل البراك, ثم التصفية الجسدية لهُ, وهذا ما نقلته من خلال الكتاب الصحفية ميادة العسكري.
      الكتاب عبارة عن مذكرات الصحفية العراقية ميادة العسكري وعلاقتها بالكاتبة جين ساسون, وما نال ميادة من يوم اعتقالها حتى يوم إطلاق سراحها بتوسط من المرافق الشخصي لصدام حسين (عبد حمود), تعرضت ميادة العسكري خلال الاعتقال لأبشع حالات التعذيب, مع العلم إنها كانت في وقت سابق قد أجرت لقاء مع رأس النظام صدام حسين وحازت على جائزة نقدية منه, وهو من المعجبين بكتاباتها وعمودها في الصحافة الرسمية العراقية, وكذلك لقاءاتها الصحفية مع مدير الأمن العام فاضل البراك المقرب لعائلتها, ولقائها الصحفي مع علي هاشم المجيد ( علي كيمياوي) ابن عم صدام حسين, كل هذا لم يشفع لها عند اعتقالها من مكتبها الواقع في شارع المتنبي.
      من خلال مذكرات ميادة العسكري التي نقلتها لنا الصحفية جين ساسون, تنقل لنا الكاتبة حال المعتقلات في سجن الأمن العامة الواقع في منطقة البلديات في بغداد, كان سبب اعتقالهن لأسباب واهية لا يتطلب كل هذا التوقيف والتعذيب, لكن خوف النظام وعناصر أمنه كان يتلذذ باعتقال السجينات واغتصابهن, حتى أصبحت عملية التجاوز الجنسي والجسدي للسجناء السياسيين في سجن البلديات.
      كانت الزنزانة رقم (52) في سجن مديرية الأمن العامة في البلديات تشهد حالات التعذيب بوسائل لا يطيقها الجسد والروح الإنسانية, اعتقلت ميادة العسكري في تموز 1999م, الاعتقال كان من خلال مفرزة أمنية يقودها مقدم الأمن(محمد جاسم السعدي) وزملاؤه, وسبب الاعتقال لمساهمة مكتبها الطباعي في طبع بعض كتب الأدعية الشيعية, فضلاً عن طبع بعض الجهات المعارضة للنظام منشورات تفضح النظام وقد تم توزيعها قرب مكتبها, ففي صفحة 36 ذكرت الكاتبة حول عملية الاعتقالات حيث قالت:"(في نظام صدام حسين, عندما يعتقل فرد من الأسرة تكون الأسرة كلها متهمة.. حتى الأجنّة في الأرحام)", كانت الزنزانة رقم (52) كما وصفتها ميادة :ذات رائحة عفنة جداً إلى حد أنني اعتقدت أن ميتاً مزمناً غطى أرضيتها الصغيرة", الزنزانة رقم (52) تضم مجموعة من المتهمات تجاوز عددهن (18) سجينة, ومن ضمن السجينات سمارة التي كان سبب اعتقالها هو تسجيل والدها اسمها باسم جدها, وبعد أن كبرت تزوجت بعمر مبكر جداً لرجل عراقي قتل في الحرب العراقية الإيرانية.
      كانت وسائل التعذيب في سجن مديرية الأمن العامة في البلديات حسب ما ورد في الكتاب في صفحة 64 , ذكرت ميادة:"حينما أمر المحقق مساعديه ليبدأوا بربطي وصاروا يشدوا وثاقي إلى الكرسي الذي جلست عليه... حالما وضعوا قطبي بطارية على كلتا أذني... وقبل أن أتمكن من المقاومة والاعتراض راح المحقق المهذب!! يفتح التيار الكهربائي ويغلقه. الألم الذي شعرت به اكبر من ألم الولادة, وكلما توقف الألم قليلاً أعاد تشغيل الجهاز مرة أخرى".
      كانت تهمة إحدى السجينات التجسس لصالح إيران, والجلادون في سجن البلديات لن يتوقفوا عن تعذيبها إن لم تعترف بكونها جاسوسة لإيران أو إسرائيل, بهذه التهمة سواء أكان ذلك تلفيقاً أم نتيجة التعذيب والخوف فهم سيعدمونها.
      وصفت ميادة العسكري صدام حسين من خلال مذكراتها في هذا الكتاب في صفحة 88 بأنهُ " الشخصية الكارزمية مقلداً (فيدل كاسترو) في حين كان يعمل بدأب في الوقت نفسه على تصفية خصومه داخل الحزب والدولة والمجتمع".
     في زمن النظام السابق نظام حزب البعث والدكتاتور صدام حسين, كان النظام يقوم بعمليات تصفية جسدية مع كل المعارضين من العراقيين, كانت تتم عمليات التصفية عشوائياً, من خلال متابعة الأحداث من خلال مذكرات ميادة العسكري, أجد لم تشفع لها مكانتها الصحفية من الاعتقال أو نسبها كحفيدة لجعفر العسكري, الرجل الذي أسس الجيش العراقي وكان من أشهر قادته, فضلاً عن أنها حفيدة ساطع الحصري مؤسس الفكر القومي العربي وقريبة نورس السعيد.
     في عراق البعث لا يشفع للبشر شيء أبداً, فالداخل لأروقة الأمن والمخابرات العراقية مفقود والخارج منها مولود, من خلال الكتاب تمكنت الكاتبة جين ساسون من سرد وقائع قصة الصحفية والكاتبة ميادة العسكري ونساء الظل السجينات اللواتي شاركنها زنزانة الأمن العام, وبحكم خبرتها الصحفية والأدبية نقلت لنا ميادة الصورة الحقيقية للحدث في ذلك الدهليز المظلم لأمن النظام, ليشعر القارئ بما حدث في تلك الحقبة المظلمة, وليعيش حياة السجينات المتهمات لحظة بلحظة.
      الكتاب يحتوي على الأسماء الصريحة والحقيقية للسجينات ولأزلام النظام وعناصر مديرية الأمن العامة, الكتاب حصد مبيعات هائلة في العالم أجمع, ولا تزال أحداثه تتفاعل بقوة في أوساط العراق كافة, وأصبح الشغل الشاغل على صفحات النت والصحف العربية والعالمية.


243
يونس بحري .. أسطورة الإعلام العراقي

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     يُعتبر يونس بحري أحد الإعلاميين الذين ذاع صيتهم مطلع أربعينات القرن الماضي بعد انقلاب مايس عام 1941م , فهو كاتب وصحفي ومذيع ومغامر وسائح , كانت إبداعاته مرتجلة بسبب نبوغه وطموحه , جاب أوروبا وآسيا , سافر لعدة مدن منها افغانستان وإيران والهند وجاوة وحضرموت وليبيا وتونس وباريس الذي سجن فيها , ثم عاد إلى العراق عام 1933م وكتب قصصاً عن أسفاره تصلح حديثاً للمجالس.
    ولد الإعلامي يونس صالح أغا الجبوري عام 1897م أو 1900م (كما تذكر بعض المصادر)(1)  في مدينة الموصل / محلة السوق لأسره كادحة , فوالده صالح أغا عمل يوزباشي في الجيش العثماني يقوم بتأمين البريد بين استنبول مركز الدولة العثمانية وولاية الموصل.
    درسّ في طفولته لدى الكتّاب بمدينة الموصل , وبعد ذلك التحق بالمدارس الرسمية حيث أكمل الدراسة الابتدائية والمتوسطة ثم التحق بدار المعلمين الابتدائية في بغداد عام 1921م , حيث ذاق ذرعاً بهذا الدار من مديره , لكنه طرد منه بعد مرور شهرين أو ثلاثة لمجادلته مدير الدار ,  وتوجه نحو الوظيفة وتعين كاتباً في وزارة المالية عام 1923م , ومثلما لم تسعه مدينته الموصل , لم يعد العراق يسعه , فغادر العراق عام 1923م إلى استنبول وانخرط فيها لدراسة العلوم البحرية , ولكن الظروف الصعبة التي عاشتها تركيا العثمانية  بعد الحرب الأولى ومخاض تركيا في حرب الاستقلال جعلته يرجع ثانية إلى العراق , ثم قرر السفر خارج العراق سائحاً في عدد من الدول الأوروبية والآسيوية ولم يكن يمتلك الكثير من المال فعمل باعمال بسيطة ثم عاد إلى الموصل عام 1925م(2).
      في 29/2/1929 التقى لأول مرة بفتاة هولندية في مدينة نيس بفرنسا, والحسناء الهولندية تنتمي لأسرة ارستقراطية وأمها بارونة المانية ثرية, ووقعت بينهما رابطة حميميه من الحب والغرام وكانت رغبته بالزواج منها عارمة جداً, إلا أنها كانت عازمة على الاستقرار بينما كان صاحبنا في أوج جموحه وطموحه والسعي وراء ملاكماته الصحفية ومغامراته في تحقيق بعض المآرب المادية التي كان يسعى إليها (3).
    تزوج يونس بحري لأول مرّة من امرأة موصلية اسمها (مديحة) فأنجبت له ولدان وبنت هما (الأدميرال رعد يونس بحري قائد الاسطول الفلبيني .د. لؤي بحري , استاذ الحقوق الدولية في جامعة بغداد , د. سعدي يونس , الفنان الاكاديمي المسرحي لهُ الفضل في ادخال فن التمثيل النيتومايم إلى العراق في الستينات من القرن الماضي , د. منى بحري , الاستاذة في جامعة بغداد كلية التربية قسم علم النفس) , لكن هؤلاء الابناء تبنت تربيتهم جدتهم لأمهم (مريم خانم) بسبب اهمال والدهم لهم , كانت جدتهم تمتلك مدرسة لتعليم فن الخياطة في الموصل , اهمل يونس بحري عائلته بسبب رحلاته المكوكية في البلدان الاوروبية والآسيوية , تعلم من خلال رحلاته اكثر من ستة عشر لغة عالمية اساسية قراءة وكتابة عدا اللهجات المحلية , كان بحري مزواجاً فتعددت زيجاته حتى وصلت إلى اكثر من اربعين , فكان يتباهى بهنَّ أمام  أصدقاءه قائلاً : بدأت بشهريار الإيرانية وانتهيت بشهرزاد السورية .
    عام 1925م عاد إلى العراق باسم (السائح العراقي) , عاد مثقفاً بلغات ومعلومات واسعة , نشر مقالات انتقد فيها ساطع الحصري انتقاداً مريراً وشتمه لسوء تصرفه في مؤسسة المعارف العراقية , غادر العراق عام 1929م إلى الكويت ومنها إلى السعودية  كان مغامراً حتى وصل اليمن والتقى الإمام يحيى بن حميد الدين زعيم اليمن فأكرم وفادته , كما عبر البحر الأحمر نحو أفريقيا واخترق أرتيريا والحبشة والسودان الشرقي ومن ثم السودان الغربي وعبر الصحراء الكبرى مشياً على الإقدام لوحده , وصل بعد 48 يوماً إلى جبال الأطلس , ووجد نفسه في المغرب , فزار فاس ومكناس ومراكش وكازابلانكا والرباط وطنجة , ثم عبر إلى أوروبا نحو اسبانيا ووصل فرنسا والمانيا وبلجيكا وابحر إلى انكلترا , وصلها منتصف الثلاثينات حتى شارك مع سباحو العالم لعبور بحر المانش باسم العراق وفاز بالمركز الأول مسجلاً سابقة لا مثيل لها فأطلق عليه تسمية يونس بحري ومنح جواز سفر دبلوماسي ألماني بهذا الاسم ولأول مرة .
    ذكر البروفسور إبراهيم العلاف في حلقة لقناة الموصل المتلفزة حول حياة يونس بحري , إذ قال: كان رجلاً عجائبياً حقاً , ففي فترة من حياته في الهند كان يعمل كراهب في النهار وراقص في ملهى بالليل , ويجد مع ذلك وقتاً ليقوم بعمل إضافي مراسل لأحدى الصحف الهندية , وفي وقت آخر أصبح مفتي في اندونيسيا ومره جاءه أحد سكان الجزيرة المعروفين مصطحباً معهُ فتاة في منتهى الجمال يريد منه أن يعقد قرانه عليها .. فأستحسفها يونس لأن الرجل كان مُسناً ودميماً وافهمه أنه لا يجوز شرعاً عقد قرانه عليها , فصدقه الرجل لأنه (مفتي) وترك الفتاة فتزوجها المفتي".
    عام 1930م اشترك يونس بحري مع الأديب الكويتي الشيخ عبد العزيز الرشيد بإصدار مجلة في اندونيسيا باسم (الكويت والعراق) , كما أصدر مجلة أخرى بعنوان (الحق والإسلام) , كما أكد الأستاذ قاسم الخطاط إذ قال : في عام 1931م عاد يونس بحري إلى العراق فأصدر جريدة باسم (الميثاق) , وعندما وقعت حادثة اصطدام سيارة الملك غازي ملك العراق بعمود الكهرباء أدت بوفاته (4), صدرت جريدة الميثاق وبصفحتها الأولى كلها مجللة بالسواد تحت عنوان (مقتل الملك غازي) والإشارة في المقالة إلى وجود أصابع انجليزية وراء الحادث للتخلص من الملك الوطني الشاب الذي كان يدعو إلى التخلص من الاستعمار , وبدأ يوزعه في بغداد فجراً وهو على دراجته النارية , متهماً الانكليز وعملائهم الأمير عبد الإله ونوري السعيد بقتل الملك , مما تسبب ذلك في مظاهرات صاخبة نجم عنها هجوم المتظاهرين على القنصلية البريطانية في الموصل , وحين خرج القنصل البريطاني مونك ميسن قتله عدد من المهاجرين , مما دعا الشرطة إلى الذهاب لبيت يونس بحري لإلقاء القبض عليه وتقديمه إلى المحاكمة , لكن بحري هرع إلى السفارة الألمانية يحتمي بالسفير غروبا الذي قام بوضع خطة لتسفيره خفية عام 1939م إلى ألمانيا قبل اندلاع الحرب الثانية , وذلك من خلال التمويه , إذ جعله عضواً ضمن أعضاء وفد صحفي وصل بغداد على متن طائرة خاصة حشر بحري نفسه فيها ضمن أعضاء الوفد , فوصل برلين.
يونس بحري وإذاعة قصر الزهور
    قبل مغادرة بحري العراق عام 1939م عمل كمذيع أول في إذاعة قصر الزهور التي أقامها الملك غازي , وجد فيه الملك غازي إنساناً يؤدي من خلاله أغراضه السياسية وخصوصاً بعد أن نصب بحري أول مذيع في الإذاعة العراقية عام 1936م , وهو أول من نطق على موجات الأثير (هنا بغداد .. إذاعة المملكة العراقية) بصوته الجهوري .
    في رحلة بحري إلى ألمانيا عام 1939م عمل مذيعاً في محطة برلين العربية الإذاعية مع المذيع تقي الدين الهلالي , وقد أشار على ادولف هتلر على ضرورة افتتاح وقت الإذاعة الأول بسور من القرآن الكريم لجذب المستمعين العرب لمتابعة الإذاعة , يبدأ يونس بحري خطاباته بـ(هنا برلين, حي العرب) , من خلال دعوته لتحرير البلاد العربية من الاحتلالين البريطاني والفرنسي , كانت لبحري علاقات متميزة بالحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورشيد عالي الكيلاني , كانا حلفاء للألمان ضد الانكليز , وبعد اندحار ألمانيا توجه إلى أمارة شرق الأردن التي وصلها بما يشبه المعجزة , وهناك التجأ إلى الملك عبد الله أمير شرقي الأردن, وقد طبع بحري خطاباته عام 1956م في بيروت تحت عنوان (هنا برلين) بثمان أجزاء.
يونس بحري إماماً لجامع في باريس
      ارتبط اسم يونس بحري بإذاعة برلين, حيث أكد عبد السلام العجيلي في مذكراته قال: بأحداث كثيرة, وحكايات غريبة, مثيرة تارة ومضحكة تارات, من تلك مثلاً حكايته في جامع باريس الذي بني في العشرينات من هذا القرن, وكان يحوي, إلى جانب المسجد والسوق والحمامات العربية, مطعماً مغربياً وملهى ليلياً. كان يونس يؤذن للصلوات الخمس في مئذنة المسجد بصوته العريض, ويتولى الإمامة بالمصلين عند الحاجة, وفي الليل كان يرأس تخت الموسيقى في الملهى, فيعزف على العود, ويغني الأدوار التي كان يجيدها تمام الإجادة, ولا يتأخر عن المشاركة في الرقص الشرقي مقلداً أشهر العوالم في شارع عماد الدين في القاهرة, ويروون أن فيصل بن الحسين, ملك العراق, حين زار باريس في إحدى السنين , وصلًى الجمعة في مسجدها لاحظ أن خطيب الجمعة كان يلقي خطبته البليغة المؤثرة بلهجة عراقية بينة , وحين أثبت تحت عمامة الإمام الضخمة وجه يونس بحري لم يملك نفسه عن الضحك وهو يقول : هكذا جامع يحتاج إلى هكذا خطيب (5).
يونس بحري يسبح مع التماسيح
      قبل أن تستقل جزر الميلانو ويصبح اسمها اندونيسيا, وهي مشهورة بنهرها الكبير الذي يتجنب الناس السباحة فيه لكثرة تماسيحه وخطرها على كل من يغمس قدمه في مائه. وجد يونس نفسه ذات يوم في تلك الجزيرة خالي الوفاض, فتفتق ذهنه عن طريقة طريفة يملأ بها جيبه الخالي, أعلن في الجرائد المحلية أن السائح العراقي المشهور يونس بحري سيقطع ذلك النهر الخطر سباحة, متحدياً التماسيح الشرسة المفترسة , وأن على من يرغب في مشاهدة هذا التحدي أن يحضر إلى ضفة النهر في مكان معين, وفي اليوم الفلاني والساعة الفلانية بشرط أن يدفع سلفاً ثمن تذكرة المشاهدة.
      وسرى هذا النبأ سريان الهشيم في أنحاء الجزيرة, فتقاطر الناس متزاحمين على شراء التذاكر حتى تحصل منها مبلغ كبير . وقبل الموعد المضروب بيومين دسّ يونس بحري إلى الحاكم الهولندي في الجزيرة من يقول لهُ بأن هناك أجنبياً مجنوناً يعتزم أن يقطع النهر المخيف سباحة على يديه , ملقياً نفسه في فكوك التماسيح الفتاكة , مما لا نجاة له فيه من الهلاك, وأن هذا الأجنبي من بلد تحكمه بريطانيا العظمى فلا يبعد أن يتسبب هلاكه بأزمة سياسية بين بريطانيا وهو لندا!! عند هذا... وزيادة في الاطمئنان أمر بأن يقف على باب الفندق الذي يقيم فيه ذلك الأجنبي المجنون حارسان مسلحان يحظران عليه الخروج إلى أن ينتهي الموعد المعلن عنه, وهكذا خرج يونس بحري من هذه العملية ببضع مئات من الجنيهات قبرَ بها إفلاسه (6).
يونس بحري مؤسس حزب التراخي العراقي
      ذكر السيد سعيد علي في يوم كان في النجف الأشرف كان ذلك قبل ثمان وعشرين سنة , كان في مكتبة الشيخ محمد كاظم الكتبي في قيصرية علي أغا في سوق الحويش من النجف, وكان في المكتبة الكتبي والعلامة محمد صادق بحر العلوم والشاعر الشيخ عبد الغني الخضري والمحامي محمد رضا السيد سلمان, وما هي إلا دقائق حتى جاء الأستاذ على الخاقاني صاحب كتاب (شعراء الغري) ومجلة (البيان) مصحوباً... برئيس حزب التراخي يونس بحري! فعجبنا كيف اهتدى الخاقاني إلى يونس بحري وكيف أدرك بحري الخاقاني, وكيف جاء يونس بحري النجف الأشرف ليكون في مجلسنا يقعد متربعاً كما نفعل...واني لأذكر أن صاحب المكتبة الشيخ محمد كاظم الكتبي قد سأله عن حزبه التراخي الذي يرأسه فقال يونس بحري : إنه لا مناص لي من البداية فأقول إنه قبل عقدين من السنين أنشأت بألماني جريدة عربية لقبتها بـ(جريدة التراخي) وفسرتها بأنها صوت حزب التراخي بالعراق وجعلت أرسل بها إلى مشاهير العراق كنوري السعيد, وتوفيق السويدي, وبهجة العطية, وأحمد مختار بابان, وفاضل الجمالي, والسيد محمد أبي طبيخ, والسيد محمد الصدر, وسعد صالح, وصالح جب, وأرشد العمري, وغيرهم من الحاكمين في ذلك الزمان, وأدعوهم في صحائفها إلى الانضمام إلى حزب التراخي هي ثوب عليهم وبطش بهم , وسعى إلى انقلاب واجتهاد في دينونة وحساب فيأمر نوري السعيد مدير الأمن العام بهجة العطية بالتحري والتفتيش, فيتراكم في مكتب العطية من أوراق العيون وآذان والجواسيس والمخبرين, ما كان تلاً من الحدس والتخمين, وما فسر هذا التل من الأوراق ولا وضّح شيئاً من أسرار الحزب وأهدافه, وبعد سنين قصدت بغداد . والكلام ما زال ليونس بحري. لأزور الربوع فإذا بالشرطة يعتقلوني في المطار ويقودونني إلى بهجة العطية مكبلاً بالقيود الحديدية, وإذا بمدير الأمن العام بهجة العطية يسألني البوح والإفشاء , والاعتراف لأن نوري السعيد الملقب بأبي صباح يريد أن يكتشف حقيقة حزب التراخي, فقلت لهُ: لئن جمعتني نوري به فسوف أبوح له بكل أسرار الحزب, ولأن بهجة العطية كان يريد أن يحظى من نوري السعيد وأجلسني الأخير عن يساره, وهو يسألني بلهجة من أخذ بتلابيب الكابوس, وقد كنت كابوسه أن أفضل الكلام عن حزب التراخي: ما مرماه , ومن هم أعضاؤه؟ فقلت لهم مستريحاً مطمئناً, لا تفصيل ولا برطيل حزب التراخي أعضاؤه من أمثالكم فمن التراخي عضوه دخل في حزب التراخي.. وما إن سمعنا هذا حتى أغرقنا في الضحك, وسأله الخاقاني عن مآل نوري السعيد بعد أن سمع عبارته النابية؟ فقال يونس بحري:إن نوري السعيد كاد يموت من الضحك (7).
   انتقل يونس بحري إلى بيروت في الخمسينات , وكان اسمه ذائع الصيت , فيحتفى به ويوثق البعض علاقته به , ويقيم في بيروت زمناً , وكان صديقه الصحفي الكبير جبران تويني (ابو غسان) صاحب صحيفة (النهار) صديقه المفضل , ومن بيروت زار سوريا والأردن , وزار مصر بطلب من القيادة المصرية الجديدة واحتفى به الرئيس جمال عبد الناصر وأنور السادات .
    لما وصلت أخبار يونس بحري في مصر إلى العراق ولقاءاته بالقادة المصريين , خشي الهاشميون في العراق والأردن , وبالأخص نوري السعيد أن يكون ليونس بحري دوره الإعلامي في مصر ضد كل من نظامي الحكم في العراق والأردن , فوجد كل من عبد الإله والملك عبد الله في الأردن أن يرسلا بطلبه , وأن يصفحا عنه أن اعتذر لهما , فما كان منه إلا أن يعتذر فيصفحا عن كل ما ارتكبه بحقهما , وما كاله ضدهما من شتائم مقذعة .
    وفي مصر , تعرف من خلال صديقه الفنان الموصلي الأصل نجيب الريحاني بالراقصة جمالات , فشبكها حباً وهياماً .. ومن خلالها أيضاً تعرّف على الفنانة المطربة هدى سلطان معرفة عميقة وهام بها وهامت به وقد أهداها خاتماً نادراً من الماس , يؤكد الدكتور عبد الرحمن بدوي في لقاء مع د. إبراهيم العلاف حين ألتقاه عام 1982م في باريس , أن الدكتور بدوي كان يعرف يونس بحري منذ أيام باريس , وانهُ التقى به في القاهرة ابان الخمسينات , وكانت أغنية المطربة المصرية هدى سلطان المشهورة ( من بحري ونحبوه) كانت بحق يونس بحري الذي " شبك جمالات وشبكها" , كان صديقة الشاعر فتحي قورة قد كتب كلمات تلك الأغنية الشهيرة , لا نعرف مدى مصداقية هذه المعلومة.
   عام 1956 أثناء وجود يونس بحري في مصر , توصل نوري السعيد إلى سحبه من ترسانة الرئيس جمال عبد الناصر وشبكته الإعلامية , فوصل يونس بحري إلى العراق واحتفى به , كما اتفق معه أن يكون مسؤولاً في الرد على إذاعة صوت العرب من القاهرة , كي يلقن عبد الناصر دروساً لا ينساها , فوافق يونس  ودون أن يعلم أن القدر له ولكل النظام الملكي في العراق بالمرصاد.
عودة يونس بحري قبل ثورة تموز1958 إلى العراق
    قبل ثورة تموز 1958م عاد يونس بحري إلى بغداد , فأرسل في طلبه نوري السعيد , وطلب منه أن يذيع مقالاته ضد عبد الناصر ففعل , فاعتبر بعد ثورة 14 تموز 1958 كأحد أنصار نوري السعيد , بعد ساعات من ثورة تموز القي القبض على صديقه اللبناني صلحي الطرابلسي الذي اعلم الجهات المسؤولة عن مكانه , فاعتقل يونس بحري وكان ثاني المعتقلين بعد سعيد قزاز وزير الداخلية في الموقف العام , كان معه في السجن وفي قاعة واحدة توفيق السويدي وكلاهما يُكنى (بأبي لؤي) , وفي يوم جاء ضابط السجن منادياً : من (أبو لؤي) .. فخاف السويدي لأنه توقع أن يكون وراءه شراً ولم يجب .. وأجابه يونس بحري وكانت المفاجأة أن الضابط أحضر مظروفاً يحوي مائة دينار فوقع بحري واستلمها .. وبعد ايام جاءت رسالة إلى توفيق السويدي تقول : هل استلمت المائة دينار؟
     اعتقل بحري لفترة تقارب السبعة أشهر واطلق سراحه دون محاكمة لعدم كفاية الأدلة , وبوساطات من زعماء وقادة عرب وأجانب, وقد تعرف أثناء اعتقاله إلى رئيس عرفاء السجن (رسن) فقال له مرة : لماذا لا تقوم بانقلاب وتستولي على السلطة؟
فأجاب: كيف وأنا رئيس عرفاء؟
فقال : وكيف استطاع رئيس عرفاء دولة افريقية القيام بثورة ... وحين سمع عبد الكريم قاسم هذه المحادثة أرسل في طلبه وقال له : أتريد أن تفسد عليّ جنودي؟
    بعد إطلاق سراحه أفتتح عام 1959م في منطقة الكرادة ببغداد مطعم (بوران) في شارع الرشيد , وأخذ يرتاده كبار الشخصيات السياسية والفكرية والسفراء , فكان أشبه بمنتدى , وكان يونس يقوم بطبخ الأكلات المختلفة التي تعلمها أثناء سفراته , وهناك صادف مرور عبد الكريم قاسم الذي تسبب بهروبه مرة أخرى من العراق وسافر إلى لبنان , كان يتصل بشخصيات عسكرية معادية لثورة تموز ويحضر بعض لقاءاتهم لتغيير نظام عبد الكريم قاسم بسبب تفرده بالحكم.
    عاد يونس بحري إلى بغداد في سبعينات القرن الماضي بعد أن أدركته الشيخوخة حتى توفى عام 1979م  يصفه البعض بأسطورة الأرض باعتباره مؤسس لـ(16) إذاعة واتقنَّ 16 لغة , وحمل 15 جنسية , يونس بحري من تباينت الناس في تقيمها لهُ , فثمة من وصفه بأقذع التهم , وثمة من انصفه ومنحه الحق المشروع لحريته التي مارسها سياسياً وثقافياً وإعلامياً , وصف من البعض بالدعارة والتجسس وانعدام الأخلاق , ووصف من البعض الآخر بصفات العظمة الخارقة .
    كان يتصف يونس بحري بسرعة الإقناع والجاذبية والسحر وسرعة البديهية والنكتة , فهو جهوري الصوت , يتقن التقليد والتمثيل ببراعة , لا يهمه نقد الآخرين أو شتائمهم أو مدحهم له , فلسفته في الحياة ( الحياة لحظة زمنية لا فرق فيها بين كبيرة وصغيرة) , لهُ القدرة الخارقة للاتصال بالملوك والزعماء والوصول إلى صناع القرار , عمل مستشاراً لرؤساء وملوك , ومحرراً ورئيس تحرير , أصدر عدة صحف , وبائع كتب متجول , وموزع صحف , وكاتباً ومؤلفاً , عمل مذيعاً ومدير إذاعة ومعلقاً رياضياً وسباحاً ورحالة.
    ليونس بحري مؤلفات كثيرة , وأول كتاب أصدره كان تحت عنوان (العراق اليوم) عام 1924 , ويؤكد البروفسور إبراهيم العلاف أن الكتاب محفوظ في مكتبة الأوقاف في الموصل , ومن كتبه المنشورة ما يلي :
1-           صوت الشباب في سبيل فلسطين الدامية والبلاد العربية المضامنة . 1933 .
2-           العراق اليوم (بيروت 1936)
3-               تاريخ السودان . القاهرة 1937.
4-               هنا بغداد . بغداد 1938.
5-               الجامعة الإسلامية . باريس 1948.
6-               دماء في المغرب العربي . بيروت 1955.
7-               الحرب مع إسرائيل وحلفائها. بيروت 1955.
8-               تونس . بيروت 1955.
9-               الجزائر. بيروت 1956.
10-          ليبيا. بيروت 1956.
11-                             المغرب . بيروت 1956.
12-                             هنا برلين : حي العرب (8 أجزاء). بيروت 1956.
13-                             سبعة أشهر في سجون بغداد . بيروت 1960.
14-                             موريتانيا الإسلامية . بيروت 1961.
15-                             ليالي باريس (باريس 1965)
16-                             محاكمة المهداوي . 1961.
17-                             وحدة أم اتحاد . 3 سنوات تخلق أقداراً جديدة . 1963.
18-                             العرب في المهجر . بيروت 1964.
19-                             العرب في أفريقيا.
20-                             أسرار ثورة مايس 1941 . بغداد 1968.
21-                             ثورة 14 رمضان المباركة . بيروت 1963.
 
    أكد البروفسور إبراهيم العلاف انه : صاحب شخصية نادرة , مثل يونس بحري ما كان له الطبع ولا الرغبة في أن يقضي وقته مع عائلته , فهو صاحب نفسيه قلقة مهاجرة , وسايكولوجية غير مستقرة لا تهجع أبداً , فهو إنسان غير غادي , قادر على أن يكون شخصية قيادية له كاريزما ساحرة في لحظة تاريخية معينة , لكن سيرة حياة بحري بحاجة إلى دراسة وتحقيق وفحص دقيق , لأن هناك جملة أسرار لم يكشف عنها حتى اليوم , لكن تعتبر مؤلفاته مصادر أساسية لسيرته الشخصية والإعلامية والأدبية , لكن المؤرخ معن عبد القادر آل زكريا يستعد لنشر كتاب يتحدث عن حياة السائح بحري يتضمن أكثر من 1000 صفحة وأكثر من 500 صورة ووثيقة تخص بحري , حيث ابتدأ آل زكريا مشروع كتابه سنة 1990 , ومن المحتمل أن ينشر الكتاب في لندن .
 
المصادر
1-    هناك من يرى أن ولادته عام 1900 أو 1904 في نص التقارير الصادرة من السفارة الهولندية حول سيرة يونس بحري . المصدر مجلة الموسم . العدد3. السنة 2013 . ص256.
2-    مير بصري. اعلام السياسة والأدب في العراق. ص288/289.
3-    مجلة الموسم . العدد3. السنة 2013 .ص256 .
4-    مجلة الموسم . العدد3. السنة 2013. ص256 .
5-    د. عبد السلام العجيلي . حفنة من الذكريات. ص184/186.
6-    د. عبد السلام العجيلي. في كل واد عصا. ص119. دار الحوار. اللاذقية. ط1. 1984
7-    مجلة الموسم. العدد. السنة 2013. ص273/274.
 
 


244
الرثاثة في العراق..أطلالُ دولة.. رمادُ مجتمع

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     الرثاثة في اللغة مصدر الفعل رثَّ, أي الرديء المتاع وسقط البيت, ولا تحدث بفعل القدم بل بسبب اضمحلال شروط الحياة السليمة,وما تلحق بروح الإنسانية من رثاثة الحياة والمكان وتطبع السلوك الفردي والاجتماعي في سياق التاريخ والمؤثرات البيئية الاجتماعية والخطوات الرديئة للسياسيين بسبب رثاثة العقل السياسي السلطوي.
      صدر عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر للكاتب فارس كمال نظمي كتابه الموسوم (الرثاثة في العراق.. أطلالُ دولة .. رمادُ مجتمع) حجم الورق من القطع الوزيري , الكتاب يحتوي على 376صفحة ومبوب على فصلين ,الأول ما يخص رثاثة الدولة والسلطة والفصل الثاني يخص رثاثة المجتمع والفرد,والكتاب عبارة عن مجموعة نصوص لنخبة من الباحثين والكتاب العراقيين بلغوا أكثر من (30) كاتب وباحث, ساهموا في أرشفة الحقبة الرثة من تاريخ العراق, كما أكد الأستاذ نظمي في مقدمة الكتاب إذ قال الكتاب:«يستهدف أرشفة هذه الحقبة الرثة في تاريخ بلادنا,عبرَ مقاربات علمية متنوعة غايتها التوغل تشريحياً في الجسد العراقي المعتل للخروج باشرافات ورؤى إصلاحية وإشفائية تستند أولاً وأخيراً إلى التفكير النقدي المتمسك بموضوعية المنهج وحيادية الافتراضات», إن السبب بما يحصل في العراق بسبب الفكر القومي سابقاً والتطرف الديني الطائفي في الوقت الحالي, فالسلطة الحالية قامت بأصنمة الدين وجعلت منهُ كائناً استعلائياً روحياً مقدساً لا يمكن إرضاءه إلا بوساطة رجل الدين وأداء بعض الطقوس.
      بعد إثني عشر عاماً من سادية الصراع على السلطة نجحت الفئة الرثة من ساسة الصدفة بتفتيت الهوية البشرية وإعادة صياغتها وفق سياستها وطائفيتها ,ففي صفحة 33 من الكتاب أكد البروفسور كاظم حبيب أن«مصطلح الفئات الرثة ينطبق على الجزء الأكبر من النخبة السياسية العراقية الحالية, سواء أكان هذا الجزء في السلطة التنفيذية أم في السلطة التشريعية أم السلطة القضائية,أم من يجلس منهم على مقاعد وثيرة في بقية أجهزة الدولة والقوات المسلحة»,وهذا ما يعني أن النخب السياسية المنحدرة من فئات اجتماعية هامشية هدفها استنزاف موارد الدولة العراقية وفق أساليب المافية من خلال الرشا والنهب والسلب, فهي لا تعرف الوطن ولا الدين الذي تتبناه شكلياً,فالوضع القائم في العراق أصبح يخدم الفئات الرثة ذات النعمة الحديثة التي لا يهمها تطوير البلاد من الجانب الاقتصادي وإنما همها سرقة المال العام وتعظيم ثروتها على حساب الاقتصادي الوطني وقوت أبناء العراق, مما آلَ إليه العراق بسبب سياسات الفئات الرثة إلى تفتيت الأرض العراقية ووحدة البلد والشعب إذ سمحت باجتياح داعش واحتلال مسلحيه لما يقارب ثلث مساحة العراق.
       وفي مقال للباحث فارس كمال نظمي في صفحة 44 تحت عنوان«اختراع الهوية الطائفية واستنسال الرثاثات»أكد نظمي «أن المجتمع العراقي لكل ما حدث ويحدث اليوم,إذ جرى تزييف وعيه, وهدم ثقافته السياسية, وشفط أمواله عبر تعميته بخلافات فقهية سطحية عمرها عشرات القرون, لينكفء على نفسه فاقداً أي فاعلية في التأثير في الأحداث», وهذه كارثة مصيرية عصفت بالعراق بعد عام 2003م, فأغلب المثقفين باتوا اليوم يتحدثون عن مظلومية الشيعة وأخرون يتحدثون عن مظلومية السُنة, حتى بات المجتمع العراق في صراع تعدد الهويات المذهبية والأثنية, وأصبحوا وقوداً دينياً طائفياً بخساً لآلة التطرف الديني والفساد السياسي, فالمتأسلمين هم سبب هذا البلاء في العراق وما أصابه من إرهاب دموي واغتصاب لمستقبل العراق, فمزيفي الدين والسياسة والتاريخ احترفا السرقة والتزوير وشرعنة الطائفية وسرقة حُلم الشعب بمستقبل أفضل بعد ذهاب حكومة البعث.
      أما مقال الدكتور مهدي جابر مهدي «الرثاثة السياسية في العراق بعد 2003»,فقد أكد في صفحة 52 أن «الإرث الطويل للاستبداد والقمع والعنف الذي عاشهُ العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة سنة 1921م سواء في الأنظمة الملكية أو الجمهورية», مما ميَّز الحكومات المتعاقبة على العراق قد شكلت التخلف والتبعية والاستبداد طوال 85 عاماً من فشل النخب السياسية في بناء الدولة المدنية الوطنية , وارباك الاستقرار وتوظيف الحكومات من خلال التلاعب بالرموز الدينية والقومية , وشيوع ثقافة اللامبالاة وانتشار الغيبية بين أفراد المجتمع, والعلاقات غير المتكافئة بين السلطة والمواطن, وتبعية المواطن للسلطة على مدى ثمانية عقود,وأصبحت المدن العراقية كانتونات تحتمي خلف الجدران الأسمنتية, وكرست ثقافتها داخل المجتمع من خلال التمايز والكراهية, والابتعاد عن ثقافة التسامح والمحبة بين مكونات الشعب العراقي.
      أصبح الشعب العراقي يمتاز بالتمسك بالهويات الفرعية بعد عام 2003م, وقد أكد ذلك الدكتور صالح ياسر في مقال تحت عنوان«التحولات الرثة في خريطة العلاقات الطبقية-الاجتماعية في العراق بعد 2003» في صفحة 74 أصبحت«بعض مناطق بغداد مثلاً مجرد جزر منعزلة من الغنى في محيط كبير من الفقر والحرمان , هذا يكون دور النظام الحاكم لحماية من يملك ممن لا يملك! وبذلك يصبح المالكون أسيري البيروقراطية الحاكمة عندما تهددهم بثورة الجياع»,فالمهمشون هم فقراء المجتمع وثورة الفقراء أصبحت الفزاعة التي يهدد بها الحاكم الطبقة البرجوازية والبيروقراطية ,فنظرة سريعة إلى الأحزاب الحاكمة يتبين لنا أنهم يمثلون الرأسماليين الجدد من خلال سرقة المال العام بعدة وسائل منها عقود المقولات من خلال مقاولين ثانويين للقطاع الحكومي وفي عقود التجارة الخارجية التي كانت العمولة تشكل نسبة كبيرة من قيمتها الإجمالية .
      أما ما يخص الجانب الصحي بعد عام 2003 , فقد ذكر الدكتور كاظم المقدادي في مقاله «الإدارة الرثة لنظامي الرعاية الصحية والبيئة في العراق»حول واقع الأطباء العراقيون في العراق الذي أصبح صعب جداً,ففي صفحة 85 ذكر الدكتور المقدادي أن المجلة الطبية البريطانية نشرت مقال لها ذكرت:«حتى الآن من الصعب للغاية العثور على أطباء عراقيين لديهم الاستعداد للعمل في مناطق معينة لأنهم يخشون على حياتهم..كما أظهر مسح شبكة معرفة العراق IKN لسنة 2011م أن جميع الأسر العراقية تقريباً (96,40%) ليس لديهم تأمين صحي على الإطلاق, وأن 40% من السكان يرون خدمات الرعاية الصحية في مناطقهم سيئة أو سيئة جداً, ونتيجة لذلك يسعى العديد من العراقيين الآن للحصول على الرعاية الصحية في الخارج, ويلجأون بشكل متزايد إلى بيع منازلهم وسياراتهم وممتلكاتهم الأخرى لكي يتمكنوا من تحمل نفقات تلك الرعاية.. فضلاً عن ما كشفت عنه لجنة النزاهة النيابية في شباط 2012 عن وجود أكثر من (11) ألف وثيقة مزورة في وزارة الصحة, فضلاً عن (40) ألف كتاب مزور تم الكشف عنها في وزارات ومؤسسات الدولة من بينها وزارة الصحة»,الجرائم الإدارية ارتكبت في حكومات تدعي الإسلام هو الحل, وتتاجر بصحة أبناء العراق بغياب الرقابة الحكومية الصارمة , فقد دخلت الأدوية المنتهية الصلاحية المراكز الصحية والمستشفيات, منها السامة والقاتلة, وتباع بعض الأدوية المسروقة في مذاخر وصيدليات بعض الصيادلة أو من خلال الأرصفة والباعة المتجولين, وهل تعلم وزارة الصحة أن من خلال دراسة عراقية رسمية بأن أكثر من (400) موقعاً ملوثاً بمستويات عالية من الإشعاع وسموم ديوكسين, وأن أكثر من (143) موقعاً ملوثاً باليورانيوم, وبعلم الحكومة العراقية التي اطلعت على تقرير فريق الكشف عن الآثار المشعة للمخلفات العسكرية في آب 2010م.
       السياسة كما نعرفها من خلال متابعتنا لما لها هي «نشاط إنساني يهدف إلى تحقيق المنفعة العامة المشتركة», يعني دخول الأخلاق لعالم السياسة هو انسجام العملية السياسية مع حرية الاختيار, لكن ما يحدث في العراق حالياً غير هذا , وهذا ما أكده الدكتور شيرزاد أحمد أمين النجار في مقاله «رثاثة التحول الديمقراطي في العراق بعد 2003م »,ففي صفحة 117 ذكر الدكتور شيرزاد أنما يحدث في العراق بعد عام 2003م من ظاهرة«هي نتاج الرثاثة السياسية التي خيمت على العراق, فبدلاً من تحقيق الديمقراطية دخلت البلاد في نفق معتم من الصراعات الطائفية والجهوية. وعوضاً عن إقامة الديمقراطية ,بدأت ملامح إعاقة الديمقراطية أو بدقة إسقاط الديمقراطية, تلقي بظلالها عليه, وتزامن كل هذا مع تشكيل مجلس حكم يعكس الطوائف والمكونات الأثنية والقومية في العراق» , لذلك تم تسييس الهويات الأثنية والمذهبية وبروز التصدعات الاجتماعي/ السياسية, مع العلم إن عملية الانتقال إلى الديمقراطية تحتاج إلى مستلزمات ثقافية فكرية اجتماعية, لذلك لم تنجح الديمقراطية في بلدنا وسببت النكوص والتراجع بسبب انحراف العملية الانتخابية عن أهدافها مصداقيتها وصعود المتطرفين الطائفيين إلى السلطة, وأصبحت الانتخابات مجرد شعارات فارغة ومفرغة من محتواها.
      وهناك رأي للدكتور مظهر محمد صالح في مقال تحت عنوان «الطبقة الرثة والاستبداد الشرقي في العراق» حول الطبقة الرثة بعد عام 2003م في صفحة ص135قال إن«انهيار العقد الاجتماعي الثنائي أو المزدوج, وانهارت الدولة صبيحة التاسع من نيسان 2003 وصارت الحياة فوضى تكتسحها جحافل من الجيوش الأجنبية, وشاع الخوف بين الناس...انقضاض فئات من سكان الأكواخ والعشوائيات ...على الممتلكات العامة عشية سقوط النظام السياسي السابق, قد جاء بمثابة الثار من السلطة المركزية المهزومة, مارسته طبقة لا تمتلك مشروعاً وطنياً بحق,إنها الطبقة الرثة وليدة العقد الاجتماعي الرث!», مما أصبح جل اهتمام الطبقة الرثة اليوم الاقتتال والاستحواذ على الريع النفطي وتقاسم الثروة النفطية بعد أن تبددت آمالهم في حكم العراق بنظرية الخوف, فضلاً عن إهمالها البنية التحتية الزراعية والجانب الصناعي والتجاري.
      أما رأي الدكتور لؤي خزعل جبر في مقالته«الدولة الفاشلة في العراق.. قراءة تحليلية في مؤشرات الرثاثة الدولية» إذ أكد الدكتور جبر في صفحة 149 أن العراق على مدى عشر سنوات (2005-2014)«وقع ضمن الإنذار في قائمة العشرين دولة الأكثر فشلاً في العالم» وفشل الدولة تؤكده ما حصل لضياع ثلث مدن العراق في حزيران عام 2014م وعدم قدرة الحكومة المركزية من حماية مواطنيها من العنف والدمار الذي طوق المدن العراقية في ظل حكومة الدكتاتور نوري المالكي.
      كانت لديمقراطية المحاصة السبب الرئيسي في انتشار الطائفية والأثنية في العراق , الدكتور حسين الهنداوي أكد ذلك في مقاله «ديمقراطية المحاصصة الطائفية في العراق ورثاثة البراديغم .. الأنموذج» وتجربة انتشار الفكر السلفي الداعشي الرهيب في بعض مدن المنطقة الغربية مما ساعد على أعمال القتل الجماعية وهذا ما أكده الدكتور الهنداوي في صفحة 161 إذ قال «ما يقترن به من أعمال قتل جماعية في دير الزور وتلعفر, وسبي النساء في سنجار, وسرقة ممتلكات المسيحيين كغنائم, ونحر رقاب صحفيين أجانب في حلب والحسكة ,وإعدام آلاف الجنود الروافض ذبحاً بعد السيطرة على قاعدة سبايكر في تكريت, فيما أعتبر أكبر مجزرة في تاريخ العراق كله», كانت هذه الأعمال الجرمية مسوغة تحت الغطاء الشرعي والديني وبفتاوى التكفير لإنزال حالات الرعب في قلوب أبناء العراق المسالمين .
      أما الأكاديمي والباحث الدكتور صادق إطيمش في مقالته «رثاثة الشعار ووهم الدولة في فكر الإسلام السياسي .. العراق تطبيقاً» فقد أكد في صفحة 184 على ضرورة فصل الدين عن الخطاب الديني «عبرَ الإلمام الفكري بهما..الهادف إلى مواجهة الإسلام السياسي عبر تفكيك بنيته المصطنعة القائمة على دمج قسري للغايات الغيبية الغامضة بالتفكير السياسي الدنيوي», كثيراً ما يجري الخلط المتعمد بين الدين والخطاب الديني في المؤسسة الدينية التي لا تعبر بالضرورة عن جوهر الدين, لذلك الكثير من المثقفين كانت دعوتهم الأخيرة إلى التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية لمقاومة الرثاثة والدعوة للدولة المدنية بعيداً عن الاستغباء الطائفي والابتزاز الديني التي يمارسها الإسلام السياسي خلال العقد الأخير داخل إطار الحكومة العراقية, لذلك نتمنى تظافر الجهود جدلياً لعودة الحياة المدنية لبناء مستقبل الوطن العراقي.
      أصبح العراق بؤرة خطرة للأمراض النفسية والاجتماعية والبدنية هذا ما أكده الدكتور عبد جاسم الساعدي في مقال تحت عنوان«الأمية في العراق.. رثاثة التعليم وضحالة تشريعاته» ,في صفحة 191 ذكر الدكتور الساعدي«إذ تفاقمت أشكالها وبواعثها منذ الاحتلال الأمريكي 2003م حتى الآن, فتضاعفت الفئات الاجتماعية المتضررة من التهجير القسري والتوترات الطائفية والحملات الأمنية والاغتيالات والتصفيات السياسية والمذهبية والتفاوت الاجتماعي والطبقي وانتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري والسطو على وظائف الدولة من دون شروط ومعايير إدارية نزيهة» مما أصبحت الأزمات في العراق السرطان الذي من الصعوبة استئصاله ,وقد جاء في تقرير برنامج الغذاء العالمي وصندوق الأمم المتحدة للأطفال عام 2010 موضحاً أن 19% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10-14 سنة لا يذهبون حالياً إلى المدرسة, وأن نسبة الأمية بين العراقيات تبلغ 24%, وهذا يعني أن مجمل عدد الأميين في العراق يبلغ 6 مليون إنسان , لذلك نجد أن المؤسسات التربوية لا تمتلك التمويل الكافي لبرامج محو الأمية ,ولم تعي الحكومة العراقية وأحزابها حجم الكارثة ومضاعفتها بسبب هذا الكم الهائل من الأميين في وسط النساء والأطفال بعد أن أعلنت الحكومة السابقة عام 1991 خلو العراق من الأمية.
    في الفصل الثاني من الكتاب تناول  الباحث فارس كمال نظمي مقال تحت عنوان «سيكولوجيا إنتاج الرثاثة في المدينة العراقية» إذ ذكر في صفحة 204 واقع المدن العراقي «انحساراً مريراً في الطابع الحداثوي للمدينة العراقية في الجزء العربي من البلاد, إذ يجري كل يوم تجريف قدرتها على إنتاج الأنسنة, بل تقويض هويتها حد التصحر» بسبب الصراع المذهبي المناطقي مما أدى إلى جسامة الخراب في الحياة العراقية المدنية , حيث اختلت هذه المدن التدين الزائف وتراجع تحضرها وتطورها الحداثوي عبر تهشيم الرموز للهوية المدنية وإحلال محلها المظهر اللاهوتي أو القبلي , وقد أصبحت اليوم بغداد بحالة مأساوية يرثى لها , بسبب عداء المتأسلمين اليوم للجمال والتمدن والتحضر والنظافة والمستقبل, واهتمامهم بكرنفالات الطقوس وميثولوجيا الماسوشية للفكر الديني, فأصبحت الأسلمة طاردة للوطنية مستغرقة في عصابها الحضاري والسياسي المشوه.
      كما احتوى الكتاب مقالات حول الثقافات الرثة لكتّاب عراقيون , منهم «الدكتور سيار الجميل,والدكتورة أسماء جميل رشيد والباحث سعد محمد رحيم والدكتور المعماري خالد السلطاني والباحث الدكتور رشيد الخيون والدكتور حميد البصري والدكتور لؤي خزعل جبر والدكتور ضياء الشكرجي والكاتب جاسم محمد المطير والإعلامي عماد جاسم», حيث ذكر الإعلامي عماد جاسم في مقال له تحت عنوان «المال السياسي ورثاثة التجربة الإعلامية بعد 2003م.. شهادة حية من الميدان»,حيث أكد في صفحة 361 «باتت رثاثة المشهد العراقي في السنوات الأخيرة أمراً لا تخطئه العين... فقد شهدت الأعوام الماضية ولادات مشوهة لعلاقات مبطنة بين شخصيات سياسية مقربة من زعامات الإسلام السياسي مع مسؤولي مكاتب إعلامية لصحف وقنوات فضائية, الأمر الذي أنتج سماسرة دخلوا ميدان العمل الإعلامي كمحللين سياسيين أو تبوؤوا مناصب في الحكومة تمكنّهم من لعب دور الوسيط بين السياسيين والمؤسسات الإعلامية»,مما يعني هذا انحدار المهنية الإعلامية نحو التدني والابتذال وانعدام المصداقية والمعايير المهنية, وكل هذا بسبب ارتباط الإعلام بالمال السياسي.
     


245
ذكرى رحيل العراقي البروفسور نعيم دنكور
نبيل عبد الأمير الربيعي
      ولد السيّر البروفسور نعيم دنكور في العاصمة بغداد عام 1914م ,لعائلة أصيلة بارزة في الطائفة اليهودية في بغداد, جدهُ الحاخام الأكبر عزرا دنكور, أسست عائلته أقدم المطابع الأهلية للكتب  عام 1904م, وكانت تستورد الورق من السويد ,والدهُ الراب الياهو عزرا دنكور تاجر الورق في بغداد (تولد 3 حزيران 1883م) الذي درسَ في مدارس بلدته ثم انصرف إلى التجارة والأعمال , واهتم بالمطبعة التي أنشأها أبوه فوسعها وطورها, ونشر بعد الحرب العالمية الأولى مئات الكتب العربية ولا سيما كتب دائرة المعارف, والكتب المدرسية للمدارس الابتدائية والثانوية والعليا, وكان في مقدمة مستوردي الورق وآلات الطباعة والحروف المطبعية, أسرة دنكور هي أول من طبع القرآن الكريم في مطابعها, أصدر سنة 1929م جريدة (الدليل) التجارية الأسبوعية, ثم أخرج سنة 1936م (الدليل العراقي الرسمي) في مجلدين ضخمين بالغتين العربية والانكليزية , وقد غادر الياهو العراق في تشرين الأول 1973م وأدركته المنية فيها في 26 تشرين الأول 1976م ([1]) .
     أكمل السير نعيم دنكور دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد وسافر إلى المملكة المتحدة عام 1930م لدراسة الهندسة في جامعة لندن, بعد إكماله الدراسة عاد إلى العراق الوطن الأم للالتحاق بالجيش العراقي لأداء الخدمة الإلزامية, ثم قام ببناء مؤسسات ضخمة ناجحة في العقارات والصناعات , تزوج عام 1946م من رينية دنكور وهي أول ملكة جمال بغداد منذ عام 1947م ,وقد توفيت في لندن عام 2008م, وقد عرفت خير مثال للمضيفة الفاضلة التي تميزت بكرمها العراقي وأدب الضيافة لكبار الأسر النبيلة في أوروبا , ضمن مشاريع السير نعيم دنكور الناجحة حصل على امتياز شركة كوكا كولا في العراق مع شريكه المسلم أحمد صفوت في خمسينات القرن الماضي.
     بالرغم من نجاحه الباهر في مجال العمل والصناعات الحرة في العراق هاجر من البلد عام 1964م بسبب الأوضاع السياسية المضطربة وملاحقة الحكومة لليهود في العراق, عندما ترك العراق استقر في المملكة المتحدة تاركاً خلفه كل ممتلكاته وتجارته الناجحة وأصدقاءه, بعد مجيء البعث إلى السلطة في تموز عام 1968م , أصدرت مرسوماً على يهود العراق أما العودة أو مصادرة جميع ممتلكاتهم , اختار اللجوء تاركاً ممتلكاته وأمواله, مارس حياته العملية في انكلترا في بناء العقارات وتطوير الأعمال التجارية , وبعد فترة وجيزة التحق به أبناؤه الأربعة تاركين موطنهم الأصلي العراق.
      ضمن أعماله الخيرية أسس مركزاً اجتماعياً في غرب كنسنغتون للمهاجرين الجدد وتقديم الخدمات المختلفة لهم , هذا المركز الخيري يعد صراً علمياً كبيراً ومشروعاً ثقافياً اجتماعياً عظيماً , حيث النسبة العظمى من الطلاب فيه من ذوي اللاجئين الذين لا يجيدون  الانكليزية , وتكون الانكليزية اللغة الثانية لهم, فيساعدهم المركز ليتخطوا الحواجز اللغوية من المرحلة السابقة إلى المستوى (A) .
     عام 1971م أسس مجلة (سكرايب) ليهود بابل, وذلك لتوحيد الشتات اليهودي العراقي , وقد ترأس تحريرها باعتباره المساهم الكبير فيها لأكثر من ثلاثين عاماً, كان للمجلة دور في توثيق تاريخ تجارب المهجر, كما أنشأ مؤسسة (المنفيون) كمؤسسة خيرية في مساعدة ودعم الجانب التعليمي في بريطانيا وأنحاء العالم, ومن ضمن نشاطات المؤسسة مساعدة المدارس من الهدم ومشروع الأرز في القدس وإرسال عشرة آلاف من الأكياس أسبوعياً للمدن الفقيرة.
      عند سماع البروفسور نعيم دنكور بالحصار والجوع والمرض الذي أصاب العوائل العراقية نتيجة الحصار الاقتصادي المفروض على العراق بعد حرب الخليج الأولى , قام سراً بإرسال ما يقارب من مليون باون استرليني عبرَّ مكاتب تحويل للأموال موثوق بها لدعم العوائل المحتاجة , لكن كان للسير دنكور شرطان في منح هذه العوائل, الأول أن لا يعرف المحتاج من أرسل المساعدات والثاني أن لا يقال للبروفسور دنكور مَن استلمها([2]).
      قدم البروفسور نعيم دنكور عام 2005م منحة مليون جنيه استرليني لطلاب الجامعات البريطانية, وفي تموز عام 2006م حصل على أعلى وسام في بريطانيا من الملكة اليزابث الثانية في عيدها الثمانين ,عندما منحته وسام الإمبراطورية البريطانية جزاء لأعماله  الخيرية في دعم مجال التعليم.
      يعد البروفسور نعيم دنكور من كبار المؤرخين والمعلقين السياسيين والنقاد في بريطانيا في مقالاته وتعليقاته في الصحف البريطانية ولا سيما في مجلة (سكرايب), تظهر هذه المقالات على مدى إطلاعه على ما يحدث في بريطانيا والعراق والبلاد العربية والإسلامية.
      من ضمن مشاريعه الخيرية , ذكرت صحيفة (التايمس) أن المليونير العراقي دنكور تبرع بثلاثة ملايين باوند كمنح لزمالات علمية للتلاميذ العراقيين الفقراء في الجامعات البريطانية وفي غيرها من الأقطار , لذلك نقدم للبروفسور دنكور كل التقدير والإحترام الخاص لمواقفهُ الوطنية والنبيلة في مجال دعم العلم والتعليم ومساعدة الفقراء والمحتاجين, الذي بقى طوال حياته بمشاعره وقلبه مشدوداً للعراق.
      عام 2010م انتخب البروفسور نعيم دنكور رئيساً فخرياً لرابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق بدعوة من البيروفسور سامي موريه , يعتبر دنكور من مؤسسي صندوق رأس الجالوت في لندن(The Exilarch's Foundation, London) الذي يرأسه. ويعتبر من كبار أعيان العراق في لندن ، إذ وهب الكثير من ثروته لخدمة أبناء وطنه العراق .
     رحل السير البروفيسور نعيم دنكور يوم 20 نوفمبر 2015م في لندن بعد أن تجاوز عمره الواحد بعد المئة.
 
 
     من القصائد الرائعة للشاعر د. جبار جمال الدين، مهـنئاً بهـا البروفيسور نعيم دنكور على لقب "سير" من ملكة بريطانيا اليزابث الثانية "إذ قال :
 لَقَبُ "السِّير" الّذِي قَدْ حُزْتَهُ............هُـوَ فَخْرٌ لِيهــــــــــــــُودٍ وَعَـرَبْ
يَا نَعِـيمٌ! وَلَكَ الـنُـعْـمــَى الّتِي...........ِهيَ لِلْحُرِّ ابْتِــــــــــــــغاءٌ وَطَـلَبْ
يَدُكَ الْبَيْضاءُ كَمْ بَاعٍ لَهَا  فِي.............دُرُوبِ الْخَيْرِ شَـــــــعّتْ كاللَهَبْ
قَدْ جَمَعْتِ المَجْدَ مِنْ أطـْرافِهِ............وَالنّدِى جاءَكَ مِـــــــــــنْ أمٍ وَأبْ
يا سَلِيلَ الرّابِ دَنْكُورٌ وَمــنْ.............شَيّدُوا للْشّعْـــــبِ مَجْدًا مِنْ ذَهَبْ
وَارِثَا آشُـورَ وسِنْـــــحارِيبَ.............والنّهْـرَينِ  والْمَــــــــــاءُ العـَذِبْ
يَا ابْنَ فِيلونَ الذينَ خــــَطّ لَهُ............فِي ثَـنايا فِكْرِهِ أعْــــــــلى الرُتَبْ
ياابنَ مَيْمُونَ الّذِي أصْغَى لَهُ............مسمعُ الأفلاكِ مِن شرْقٍ وغربْ
يا ابنَ كمونه يا مـنْ قدْ عَلا.............جاوزَ الجوزاءَ فيمـــــَا قَـدْ وَهَبْ
لقبُ "السـير" دليـــــــلٌ إننا.............أمّـةٌ ســيـدَةٌ طُـــــــــولَ الحِـقَـبْ
والعراقيُّ أبِيٌّ شـــــــــــامِخٌ.............نفسُهُ دونَ عَطـــــــــاءٍ لمْ تطِبْ
ياابنَ عِزرا ايّها الكاتبُ فِي..............صَفْحَةِ الكاتبِ ما يَجْلي الكَرَبْ
وحِوارٍ بـينَ أدْيـــــــــانٍ لَه..............غايةٌ تَسْمو على أسْمَى الشّـهُبْ
حَسْبُ دنكور فــــــــــخارا...............إنّهُ عـالمٌ  فَـذٌ  أريبٌ فِـي الأدَبْ
 
المصادر
1-    بصري.مير. أعلام اليهود في العراق الحديث . دار الوراق للنشر. لندن. ط3. 2009. ص174.
2-      الحيدري. نبيل. مقال حول توثيق دنكور لفلم عن يهود العراق في قصة لاعبي كرة الطائرة. موقع الكتروني. فراديس العراق.    http://www.iraqparadises.com/?page=news&id=4210
 
 
 


________________________________________
[1] بصري.مير. أعلام اليهود في العراق الحديث . دار الوراق للنشر. لندن. ط3. 2009. ص174
[2] الحيدري. نبيل. مقال حول توثيق دنكور لفلم عن يهود العراق في قصة لاعبي كرة الطائرة. موقع الكتروني. فراديس العراق.    http://www.iraqparadises.com/?page=news&id=4210
 


246
أضواء على كتاب .. يهود العراق والمواطنة المنتزعة للدكتور كاظم حبيب
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     ليهود العراق دور كبير ومتميز في جميع مجالات الحياة العراقية , السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية , كونهم فئة اجتماعية غنية من سكان العراق منذ العهود الآشورية والكلدانية/ البابلية ,حتى أصبحت حياة اليهود التقليدية لا تختلف عن حياة المسلمين والمسيحيين العراقيين وأتباع بقية الأديان في علاقاتهم اليومية, فتطبعوا بطباع العائلات العراقية, وكانوا يشكلون جزءاً عضوياً من المجتمع العراقي بغض النظر عن الاختلاف في الدين والمذهب الذي كان يمارس في بيوت العبادة. كانت لغة الأم ليهود العراق هي اللغة العربية في المناطق العربية واللغة الكردية في المناطق الكردية, لذلك هم مواطنون عراقيون أصليون من أتباع الديانة الموسوية.
      صدر للباحث والكاتب الدكتور كاظم حبيب عن دار المتوسط كتابه الموسوم (يهود العراق والمواطنة المنتزعة), الكتاب يحتوي على (800) صفحة من القطع الوزيري , وغلاف متميز ,وطباعة جيدة خالية من الأخطاء اللغوية والطباعية. يتكون الكتاب من جزأين , الجزء الأول يحتوي على سبعة عشر فصلاً يمثل تاريخ أبناء الديانة اليهودية في العراق منذ السبي الآشوري الأول (721ق.م) وحتى هجرتهم الأخيرة عام 1971م, أما الجزء الثاني فتضمن استطلاع من قبل الدكتور حبيب لرأي يهود العراق وأوضاعهم ممن هاجر من العراق واستقر في البلدان الأوروبية أو استوطن في إسرائيل, يشمل الاستطلاع إجاباتهم ممن أسقطت عنهم الجنسية العراقية, وقراءة مكثفة في أجوبتهم من قبل الدكتور حبيب. كما احتوى الكتاب على مجموعة صور مهمة لم تنشر سابقاً في المصادر ومواقع التواصل الاجتماعي أو المواقع الالكترونية, يعتبر هذا الكتاب الثاني للدكتور حبيب حول تاريخ يهود العراق .والدكتور كاظم حبيب كاتب وباحث وسياسي عراقي معروف صدر له أكثر من 20 كتاباً وكراساً في الفكر والاقتصاد والسياسة والمجتمع للفترة بين (1968-2015م) والكثير من الدراسات والمقالات المتنوعة.
      الجزء الأول من الكتاب تضمن حال يهود العراق منذ بداية سبيهم من قبل الدولة الآشورية عام 721 ق.م وحتى هجرتهم عام 1971م, وقد أشار الدكتور حبيب إلى دورهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الحضارة الآشورية والبابلية, ودورهم في ظل الفتح الإسلامي, ومن ثم استمر وجودهم في العراق خلال حقبة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية , وفي ظل الهيمنة الفارسية والعثمانية, وفي عهد المماليك فضلاً عن عهد الدولة العراقية الملكية والجمهوريات الخمس المتتالية,إذ ما تزال مجموعة صغيرة جداً منهم متواجدة في كنيس طويق لا يتجاوز عددها أصابع اليد .
      ذكر الدكتور حبيب في ص28 إذ قال(خلال جميع هذه العهود تعرض اليهود أحياناً كثيرة للاضطهاد الديني والتمييز السياسي والاجتماعي,كما تعرضوا إلى الاستبداد والاضطهاد والقسوة مع بقية رعايا ومواطني هذه الدول, ومن قبل النظم السياسية التي سادت فيها, وتمتعوا أحياناً أخرى بالحرية الدينية والوضع الاجتماعي الاعتيادي والوضع المالي المتباين من فئة اجتماعية أخرى كبقية أبناء وبنات الشعب العراقي), لذلك نستنتج أن يهود العراق خلال جميع المراحل السياسية قد تعرضوا إلى الاستبداد والاضطهاد إلا في النصف الأول من عهد الدولة العباسية,إذ كان هناك تسامح ديني إزاء الأديان الأخرى من غير المسلمين أكثر تسامحاً مما كان عليه الموقف مع أتباع المذاهب الدينية في الإسلام, لكن في العهد الأخير من الدولة العباسية مارس الولاة الاضطهاد والقسوة مع أبناء الديانة اليهودية وحتى مع بعض الفرق الإسلامية.
      كما أكد الدكتور حبيب في ص31 على دور الوزير في الدولة العباسية علي بن عيسى في اضطهاد أبناء الديانة اليهودية بما يسمى (أهل الذمة)من مختلف الديانات عدى الديانة الإسلامية,إذ قال:" ويؤكد هذا النص الموقف الديني المتزمت للوزير علي بن عيسى إزاء أهل الذمة, إذ أنهُ وصفهم في طبقة تقع بين المسلمين والبهائهم بقوله (ليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب), كان هذا التمييز موجوداً وملموساً لدى الغالبية العظمى من المسؤولين و الكثير من علماء الدين والقضاة والقادة العسكريين في تلك العهود". كما بين الدكتور حبيب في ص53 إحصائيات السكان اليهود والمسلمين والمسيحيين وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى خلال القرون المنصرمة في جميع مدن العراق وأشار في ص57 إلى دور يهود كردستان العراق في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والذي بلغ عدد نفوسهم في عام 1950 حوالي (13000) نسمة وهم من من أسقطت عنهم الجنسية العراقية وهاجروا إلى إسرائيل من مجموع (124826) مهاجر يهودي من العراق إلى إسرائيل.
     كما تضمن الجزء الأول من الكتاب مدارس اليهود في العراق وتأثيرها على الواقع الثقافي والتعليمي على أبناء الديانة اليهودية والديانات الأخرى , ودور المثقفات والمثقفون العراقيون اليهود في الحياة الثقافية العراقية قبل الهجرة القسرية لهم , وقد ذكر الدكتور حبيب في الفصل الخامس من الكتاب مقارنة بين نموذجان متقدمان من مثقفي وكتاب يهود العراق المهجرين أو النازحين إلى إسرائيل, هم كل من الدكتور ساسون سوميخ وكتابه (بغداد الأمس) , والبروفسور سامي موريه وكتابه (بغداد حبيبتي –يهود العراق- ذكريات وشجون).
      أمّا في ص91 من الكتاب فقد ذكر الدكتور حبيب موضوع المعهد التجاري إيجيبي في الحضارة البابلية , وهم عائلة تجارية اهتمت بالمعاملات والعقود التجارية المالية والسفاتج والسندات التي تخص تلك الحقبة, إلا أن الدكتور على معنى اسم إيجيبي اعتماداً على كتاب يوسف رزق الله غنيمة ( نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق)صفحة 73 أنه تصحيف لأسم يعقوب اليهودي وهذا ما أكده للدكتور حبيب البروفسور سامي موريه من خلال رسالة أرسلها الدكتور حبيب للبروفسور موريه , لكن الدكتور صباح عبد الرحمن في كتابه (النشاط الاقتصادي ليهود العراق) ط1. ص10 , ذكر "أن إيجيبي تعني عندي أو بحوزتي" ولا أعرف مَنّ المصدر الصحيح الذي يجب أن نعتمد عليه لتعريف وترجمة مصطلح (إيجيبي) .
لكن من خلال إطلاعي على الكتاب وجدت هناك لبس وخلط من قبل الدكتور حبيب , وأرجو أن أكون صائباً في هذا الموضوع , ذكر الدكتور حبيب في ص125 حول دور الأدباء العراقيين في الواقع العراقي إذ قال"من هنا نشأ التشابه الفعلي والتقارب الكبير بين الأفكار التقدمية والديمقراطية التي يطرحها شاعر عراقي مسلم مثل جميل صدقي الزهاوي أو معروف الرصافي أو محمد مهدي الجواهري, وشاعر عراقي يهودي مثل أنور شاؤول أو مراد ميخائيل" , وفي التعريف للشاعر مراد ميخائيل في الهامش ذكر الكاتب حبيب عن تعريف لحياة ودور الشاعر والصحفي مراد العماري , مع العلم أن لكل منهم حياته وليس مراد ميخائيل هو نفسه مراد العماري, أرجو من الدكتور حبيب أن يراجع هذه الصفحة لغرض التصحيح في الطبعات المقبلة.
      الكتاب يعتبر من المصادر المهمة في الوقت الحاضر لأنه طرح بعض الموضوعات والمقابلات التي لم يتطرق إليها أي كاتب وباحث في الشأن اليهودي في داخل العراق وخارجه,خلال العقود السابقة وما بعد عام 2003م. من الأمور التي طرحها الدكتور حبيب في الجزء الثاني من الكتاب بعض الأسئلة المهمة على يهود العراق المهاجرين ومن مختلف الطبقات الاجتماعية, كأسئلة استطلاعية لرأيهم عن أحوالهم حين كانوا في العراق وما حدث لهم من تميز معاشي وعملي واجتماعي, وما أصابهم من إساءات من قبل أجهزة الدولة أو من الناس كونهم يعتنقون الديانة اليهودية , ثم تطرق عبر الاستطلاع عن رأيهم في الحركة الصهيونية ومجزرة الفرهود, وتأثير الدعاية النازية حقبة الأربعينات من القرن الماضي (1933-1945), وهل للدعاية النازية دور في مجزرة الفرهود في بغداد والسلب والنهب في مدينة البصرة؟, وما هي الدوافع الخارجية والداخلية لمجزرة الفرهود وتأثيرها النفسي على أبناء الديانة اليهودية في العراق؟ وهل جميع يهود العراق كانت لهم الرغبة في الهجرة عام 1951م أو قبل صدور قانون إسقاط الجنسية عام 1950م؟, وكيف تعامل العهد الجمهوري الأول مع يهود العراق؟ وهل يشعر يهود العراق بالمرارة لإسقاط الجنسية العراقية والنزوح من العراق؟ أسئلة كثيرة ومهمة تجاوزت (30) سؤال , كانت لها أهمية لمن يطلع على الكتاب ليخرج باستنتاجات وواقع حال اليهود وتمسكهم ببلدهم العراق ,كانت إجاباتهم واقعية برفضهم للهجرة القسرية عام 1951م وكذلك الفكر الصهيوني, ومصداقيتهم ووطنيتهم وتحملهم الاضطهاد , وتقديمهم لعشرات الشهداء ومئات الضحايا أبان الحكومات السابقة , ومشاركتهم في التظاهرات الوطنية واليسارية, حتى تم إفراغ العراق من هذا المكون المهم , ثم بدأت الأعمال الإرهابية بعد عام 2003 من تفريغ العراق من المكونات الأخرى من المسيحية والشبك والأيزيدية والصابئة المندائية. مع هذا من خلال هذا العرض الموجز للكتاب المهم ,يعتبر الكتاب مهم للطلبة والباحثين في شأن تاريخ يهود العراق .


247
الجذور التاريخية للديانة المسيحية في العراق

نبيل عبد الأمير الربيعي

      حسب موروث الكنيسة, فإن الذين نقلوا الأنباء الجيدة إلى بلاد ما بين النهرين كانوا: توماس الرسول, ثم أداي (ثاديوس) وتلاميذه أكاكاي وماري, (وعلى وفق كتاب التاريخ الكنسي) الذي ألفه الراهب أوسابيوس والذي عاش بين العامين 260 و240 ميلادية, يعدّ ماري أبا لتاريخ الكنيسة, ومصدراً رئيساً لتأريخ المسيحية, من العهد الرسولي (عهد الرسول), وحتى عصر أوسابيوس, وكان توماس وثاديوس من الرسل الإثني عشر , في حين أن أكاكاي وماري كانا من السبعين الذين رافقوا يسوع.كان المسيحيون الأوائل هم من اليهود الذين يتعبدون في الهيكل والمعابد, وكان الكتاب المقدس المكتوب بالعبرية هو كتابهم المقدس الذي يتعبدون به, وكانوا يختلفون عن زملائهم اليهود فقط بالإيمان (بيسوع من الناصرة) كالمسيح المنقذ. وعلى الرغم من الخلافات المستمرة بين عموم اليهود والمسيحيين واليهود, إلا أن الفريق الأخير ظل كطائفة يهودية ضمن اليهود خسروا الحرب ضد الرومان في سنة سبعين للميلاد وتشتتوا خارج القدس([1]).
      على الرغم من أننا ليس لدينا تفاصيل تاريخية لأعمال الكنيسة في بلاد ما الرافدين خلال القرن المسيحي الأول , إلا أن هناك كثيراً من الأدلة التي كانت تدل على سعة انتشارها في القرن الثاني, ويشمل هذا وجود الكنائس والكتاب والشهداء, فكان تاتيان وبرديصان في القرن الثاني من المتحولين من العائلات النبيلة الوثنية, وقد كتبا الفلسفة والتعاليم اللاهوتية المسيحية باللغتين الآرامية واليونانية, وكان الملك أبكار الثامن صديقاً لبرديصان وقد تحول نحو المسيحية تحت تأثير برديصان. ـما جليمان وكيلمكيت فقد توصلا إلى أن هناك أدلة قاطعة على وجود الطائفة المسيحية في بلاد الرافدين قبل العام 170 ميلادي([2]).
     إن أعداداً كبيرة من الوثنيين الذين يشكلون غالبية سكان البلاد أصبحوا مسيحيين, فضلاً عن كثير من اليهود الذين كانت المسيحية قد انتشرت على أيديهم في البداية. وكانت واحدة من أولى المناطق التي دخلت الديانة المسيحية هي منطقة حدياب أو أديابن (حالياً أربيل) , ودهوك, والسليمانية.من المرجح أن المسيحية تغلغلت إلى شمال بلاد الرافدين قادمة من الرها/أديسا (حالياً تركيا), قبل غيرها من المناطق, كان في أديسا كنيسة منذ وقت مبكّر, وعدّت أول بيت مسيحي تاريخي للعبادة, وأقدم من المصلّى الذي وجد على حدود مدينة دورايوربس على الفرات التي بُنيت بين 232/256م, وأن مدينة أديسا دمّرت في فيضان عام 201([3]) ومنها امتدت المسيحية إلى بلاد الرافدين.
      عقد المطران إسحق في العام 410 ميلادي المجمع الكنسي في عاصمة الامبراطورية الفارسية وبإذن من الملك الفارسي يزدجرد الأول الذي اعترف بالمسيحيين طائفة مستقلة تحت حكمه, مع مسؤوليته عن توفير الحماية لهم, وأنشئ مجمع كنسي آخر في العام 424 للميلاد تحت رعاية الأسقف داديشو , وعقد في مدينة الحيرة, عاصمة لدولة تابعة للدولة الساسانية, وتقع جنوب غربي بغداد ([4]) .
      تشير المصادر إلى أن (مار ماري) عمل أوّل إنجاز إنجيلي في بلاد الرافدين عندما خدم فيها كرسول تبشيري,إذ أرسله (مار ماري) من أديسا إلى الشرق فوصل أولاً إلى نصيبين ثم تحرك إلى أربيل عاصمة أديابين (حدياب) في كردستان العراق, فعمل على تنصيرها وتنصير كثير من بلاد الفرثيين كما مذكور في سفر أعمال الرسل 9: 11 ([5]) .
      تؤكد الوثائق التاريخية الكنسيّة أن المسيحية دخلت إلى بلاد الرافدين في القرن الأول الميلادي, إذ قال جاثليق المدائن طيمثاوس الأول المتوفي سنة 832م ما معناه "كانت الديانة المسيحية منتشرة لدينا بعد صعود المسيح إلى السماء بنحو عشرين عاماً " ([6]), كما أن أول نص مكتوب عن وجود المسيحيين في بلاد الرافدين جاء من كتاب برديصان ,إذ قال:" إن المسيحية نودي بها في الشرق منذ القرن الأول الميلادي", وفي شمال بلاد الرافدين قبل غيرها من المناطق, يؤيده التقليد الذي يروي أن مار أدي بشّر بالمسيحية وتمكن من تعميد رجل إسمه (فقيذا) نحو سنة 99م, وهو من فقراء أربيل, وألتحق بمار أدي الذي كان يكرز في أمارة حدياب (أديابين) لمدة خمس سنوات , ثم عيّن (فقيذا) أسقفاً لأربيل سنة 104/114م ,وأن مار أدي ومار ماري كانا أول مبعوثين بشرا بالمسيحية في مدينة كرخ سلوخ (كركوك حالياً) والمناطق المحيطة بها ([7]).
      وقد ذُكرت بلدة الموصل لأول مرة في التاريخ عام 570م, حين شيّد الراهب النسطوري إيشو عياب بر قسري في حصن عبرايا (هيكلاً كبيراً وديراً), وأصبح دير إيشو عياب يعرف اليوم بكنيسة ما أشعيا, وفي عام 590م شيّد الملك كسرى الثاني أبرويز دوراً كثيرة حول الدير للسكنى فيها, وفي عام 627م دحر كسرى الثاني الإمبراطور البيزنطي هرقل في معركة دارت قرب نينوى فتحولت هذه القصبة من فارسية إلى رومانية, وخضعت لإدارة أنطيوخس حاكم تكريت, وأخيراً استسلمت المدينة عام 637م إلى العرب المسلمين من دون قتال, يومئذ صارت تظهر عند الجغرافيين والمؤرخين بإسمها الحالي الموصل (أي نقطة الإتصال) ([8]).
      وقد عرف في مدينة الموصل دير يونان بن أمتاي أو دير يونس , وهو معبد آشوري ثم أصبح ديراً, وإن الشخص المدفون في النبي يونس هو الجاثليق الشرقي حنانيشوع الأول, الذي أنشأ ديراً في هذا المكان في القرن الرابع الميلادي في إثر الانتشار المبكر للديانة المسيحية في مدينة نينوى المندثرة, وحين توفيَّ حنانيشوع الأول دفن في الدير وليس النبي يونان المذكور في العهد القديم (سفر يونان) الذي لم يأت قط إلى هذه البلدان, وقد التبست هويته لدى البعض لأن ثمة ديرين آخرين بتسم دير النبي يونس أو يونان, أحدهما قرب دمشق والآخر قرب الأنبار, فقد فتح قبره سنة 1350م وظهر جسده محفوظاً وكأنه نائم, والجامع الحالي لا يُرى متجهاً نحو مكة, بل نحو الشرق كما كان شأن كل كنيسة قديمة, حتى أن حجر التجديد الذي وضعه إبراهيم الخاتوني سنة 1365م بمثابة المحراب تحتّم وضعه عرضياً بالنسبة إلى الجدار الذي هو في صدر الجامع, وذلك لتحديد القبلة الجديدة, كما أن المدخل الرئيس هو مقابل جدار المذبح, شأن باقي الكنائس ([9]).
      أما في جنوب العراق فقد بدأ بناء الأديرة في بواكير القرون الميلادية الأولى, شيّد معظمها في الصحارى والأماكن البعيدة عن المستوطنات,أما ما كان منها في الحواضر والمدن والقرى فيعّد كنيسة ([10]), وفي منتصف القرن السادس الميلادي أسست الإدارة الساسانية مقاطعة (كورة) تسمى بازيجان خسرو, وكانت تقع على طول سقي النهروان بدءً من كلواذة (بغداد حالياً) في الشمال مروراً بالمدائن ودير العاقول إلى النعمانية, وكانت تضم خمس نواحٍ (طتسيج) من بينها بيت داريا (بداريا/ بدرة) وبيت كُسايا (بكسايا) ([11]). وإلى الشرق من هذه الكورة كانت تقع كورة جوخي وغرب الجبل (مابذان الساسانية , ماه الكوفة في بداية العصور الإسلامية) التي كانت تشمل المنطقة ما بين بدرة ومندلي, وتُدار من المدائن, ضمت هذه الكورة أسقفية نسطورية ما بين الأعوام 554 و576م , إذ كانت مقراً لمطرانية نسطورية في منتصف القرن الثامن الميلادي , وكانت باه أردشير مقراً لمقاطعة حملت الاسم نفسه تمتد من دجلة وسلوقيا نزولاً إلى كوثا ومدينة بابل (أرض بابل القديمة), وأطلق العرب عليها إسم بهرسير([12]).
      في منتصف القرن الثالث الميلادي أسس بنو لخم إمارة في الحيرة تحت حكم الساسانيين, وكانت سيطرتها السياسية أيام النعمان بن المنذر في نهاية القرن السادس الميلادي تمتد من الأنبار إلى البحرين, ومن تخوم صحراء عين تمر عبر السواد إلى النعمانية على نهر دجلة ([13]). وقد اعتنق المسيحية كثير من ملوك الحيرة , وقد خرج منها عدد من رجال الدين الذين كان لهم الأثير الكبير في نشر التعاليم المسيحية في الحيرة وما حولها واحتلوا مكانة عظيمة في تاريخ الكنيسة, كما شهدت الحيرة في عام 424م انعقاد مجمع داد يشوع لتنظيم شؤون الكنيسة النسطورية ([14]). كما تأثرت مساحة أراضي ميسان بوجود أهوار ومسطحات مائية وقد انتشر فيها الدين المسيحي وكانت الإدارة في إقليم ميسان منسجمة مع الإدارة الكنسية , وفي بداية العصور الإسلامية خضعت الإدارة الكنسية لتغييرات مهمة بسبب إنشاء مدينة البصرة, لذلك تأكد لنا من خلال متابعة ما شهده العراق من بدايات المسيحية وانتشارها على أيدي عدد من رسل المسيح في القرن الأول في عهد الفرثيين الذين حكموا البلاد ما بين سنة 250ق.م/226م ,بناء الأديرة والكنائس وتأسيسها منذ القرون الميلادية الأول, بحيث لم تخلو منها الصحارى والمفازات والبطائح ورؤوس الجبال, ويؤكد حديثنا هذا التنقيبات الآثارية والموحات الميدانية عن المزيد من الأديرة والكنائس في أغلب أراضي العراق.


المصادر
________________________________________
[1]سعد سلوم. المسيحيون في العراق. التاريخ الشامل والتحديات الراهنة. مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية.ط1. 2014. ص35
[2] المصدر السابق. ص37
[3] سفر أعمال الرسل الأول 2:8-11
[4] المصدر السابق. ص40
[5]المطران اسطيفان بابكة. أبرشية حدياب عبر التاريخ. مجلة بين النهرين 31. عام 1980. ص  274/275 .
[6]رفائيل بابو إسحق. تاريخ نصارى العراق. من إنتشار النصرانية في الأقطار العراقية إلى أيامنا . مطبعة المنصور 1948. ص3/4.
[7]فرست مرعي. انتشار المسيحية في كوردستان. مجلة الصوت الكلداني.دهوك. 2005. ص11.
[8]الأب جان موريس فييه. الآثار المسيحية في الموصل. ترجمة نجيب قاقو. مراجعة وتنقيح وتصحيح الأب البير أبونا. بغداد 2000. ص13/15
[9] تافرنييه. العراق في القرن التاسع عشر, ترجمة وتعليق بشير فرنسيس وكوركيس عواد. بغداد 1944. ص143.
[10] علي بن محمد الشابشتي. الديارات, تحقيق كوركيس عواد .ط2 مطبعة المعارف. بغداد 1966.ص18
[11] أبو حنيفة الدينوري. الخبار الطوال, دار إحياء الكتب العربية. القاهرة 1960. ص70.
[12] ياقوت الحموي. معجم البلدان. بيروت 1990. ص563
[13] الحموي. مصدر سابق. ص379
[14]الأب صلاح أبو جودة . مسيحية الحيرة حتى نشأة الإسلام. مجلة المشرق. السنة الخامسة والسبعون. العدد الأول 2001.ص149.

248
حنا بطاطو ونهجه في تفسير تاريخ العراق المعاصر
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    العراق البيئة المتنوعة والمتعددة الثقافات , وقطب المشكلات والمعضلات, والجدار السامق التي تصطدم عليه كل التحديات, والأخطر من ذلك تبلور مستوياته وطبقاته الاجتماعية ضمن البنية التاريخية الواحدة ,والحدود الجغرافية التي تكاد تقترن بمواصفاته ببلدان أخرى مجاورة أو بعيدة فيها عن تنوعاته وتلوناته وتشابكاته , ولكنها ليست شبيهة بما في العراق.
     صدر عن دار الرافدين في بيروت كتاب (حنا بطاطو.. في سيرته ومنهجه وتفسيره لتاريخ العراق المعاصر) من إعداد وتحرير الكاتب والباحث مازن لطيف ,الكتاب من حجم الكبير (الوزيري) وذات طباعة جيدة , يحتوي على (205 صفحة),الكتاب يتضمن ثلاثة أجزاء ومقدمة, الجزء الأول والثاني تخللَ سيرة حياة الباحث, أمّا الجزء الثالث فقد تضمن نصوص ومقالات للباحث بطاطو قد تمت ترجمتها من قبل الباحثين في الشأن العراقي من النصوص الانكليزية إلى العربية بعد مراجعة رأي الباحث بطاطو, والكتاب هو أول كتاب يصدر عن حياة الكاتب والباحث الفلسطيني حنا بطاطو من قبل كتاب وباحثين كبار أمثال (سيار الجميل, فالح عبد الجبار,إبراهيم الحيدري, ماهر شريف,رياض الأسدي, أسعد أبو خليل, زهير الجزائري, صالح الطعمة, أحمد القاسمي).
     قدم الباحث مازن لطيف كتاب مهم أغنى بها المكتبة العراقية والعربية عن سيرة حياة الباحث حنا بطاطو فضلاً عن بعض النصوص المهمة والمترجمة بما تخص الأحزاب السياسية التي عملت في العراق أبان حقبة الثلاثينات ولغاية نهاية السبعينات من القرن الماضي, وتحليل علمي اجتماعي للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مر بها العراق أبان الحكومات الملكية والجمهورية ,فضلاً عن الدراسات النقدية في سيرة الباحث حنا بطاطو ورؤيته التاريخية كمؤرخ مهم لتاريخ العراق المعاصر.
     حنا بطاطو من مواليد القدس عام 1926م, نشأ وترعرع فيها ودرس في مدارسها, وغادر فلسطين وهو في الثانية والعشرين من العمر وأختار الولايات المتحدة الأمريكية عام 1948 للدراسة في حقل الدراسات الروسية, ومع بداية الخمسينات أخذ يدرس تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ العراق الذي جذبه موضوعه لأنه كان نجماً قد بزغ في العالم, خصوصاً مع إعادة تتويج الملك فيصل الثاني عام 1953م , ذكر الباحث سيّار الجميل في ص13 "لقد أشتغل بطاطو على العراق منذ تلك اللحظة التاريخية وجاء إلى العراق كي يتدارس طبيعته الاجتماعية والعلاقات بين طبقات المجتمع, وحالات الصراع, ورافق تطوراته السياسية السيئة على امتداد أكثر من عشرين سنة على تغيير النظام الملكي في 14 تموز 1958 إلى النظام الجمهوري, وبقي بطاطو متعلقاً بالعراق حتى رحيله, إذ توفي في ويستد/كونيكتيكوت يوم 24 حزيران 2000م".
     لقد تميز بطاطو في منهجه وخطواته التطبيقية الذكية لدراسة واقع العراق المعاصر دراسة تخصصية منذ أن كان طالباً في الدراسات العليا عندما أكمل دراسته عن تاريخ العراق المعاصر مهتماً بالشيخ والفلاح وعكف على دراسة تراكيب العراق الاجتماعية المعقدة التي كان يبحث عن مصالحها وعلاقاتها الاقتصادية, أكد الباحث سيّار الجميلي في ص19 أن بطاطو"كان يؤمن إيماناً عميقاً , بأن أية سلطة تتكون في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط إنما تقوم أساساً على درجة القرابة لضمان استمرارها, ولقد وجدَّ ذلك بأعلى درجاته في العراق... كونه يعتقد أن التاريخ الاجتماعي في العراق هو مجموعة بنى تحرّك التاريخ السياسي لهُ" وهذا ما يؤكده الواقع السياسي للعراق المعاصر منذُ ثورة تموز 1958م ولغاية هذه اللحظة التي نعيشها في واقع العراق السياسي وتردي حالته الاقتصادية وتبديد خيراته بيد الفاسدين والمفسدين بسبب القرابة والتبعية والنظرة الحزبية الضيقة والعشائرية والطائفية التي توسعت بشكل كبير بعد عام 2003م.
     الباحث بطاطو من خلال مقالاته وكتابه (العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية)    الذي بلغ عدد صفحاته في أجزائه الثلاثة 1316 صفحة من القطع الكبير, قد اعتمد في كتابه على ثلاثة منابع نظرية هي (ماركس, ماكس فيبر, جيمس ماديسون) كأدوات منهجية وكمادة تجريبية مستقاة من المجتمع الغربي في تحليل واقع المجتمع العربي وخاصة العراقي, كما اعتمد بطاطو في مؤلفه هذا على كم كبير من المصادر تمثلت في الملفات السرية للأحزاب والشخصيات الناشطة في العهد الملكي لمديرية الأمن العام في بغداد, وتقارير الاستخبارات السرية البريطانية المتعلقة بالفترة (1917-1931م) والملفات السرية للرائد الانكليزي ج.ف, ويلكنز الذي كان مستشاراً للحكومة العراقية  ورئيساً لإدارة التحقيق الجنائي, وأوراق ومدونات ومخطوطات حزبية شيوعية وبعثية صادرتها الشرطة , ومدونات لاستجوابات أجريت لأعضاء من الكادر الشيوعي اعتقلهم البعثيون في العام 1963م, وسجلات  البريطانية العامة والمصادر العربية المطبوعة, وجملة مقابلات أجراها مع شخصيات سياسية ناشطة وقيادية من مختلف الألوان, فضلاً عن عدد من المذكرات والتصريحات التي أدلى بها أعضاء في اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار, ولكن لسوء الحظ أن تغطية كتاب بطاطو للعراق تنتهي في عام 1978م, أي قبل تولي صدام حسين للحكم ودخول العراق في حرب مع إيران وحرب أخرى لاحتلال الكويت , ومن ثم ثمان سنوات حصار وأخيراً سقوط النظام عام 2003م. .
     كان بطاطو يؤمن بالطبقات في مجتمع كالعراق لكن لو تابعنا واقع المجتمع العراقي لتأكد لنا أنه بعيد عن الصراع الطبقي وإنما هناك صراع فكري ثقافي وصراع بين البدو والحضر أو أهل المدن وأهل الريف, وصراع القوميات والطوائف, ولذلك تميز المجتمع العراقي بظاهرة المجتمعات المختلطة التي جذبت البعض وكانت طاردة للبعض منها , وقد تبين حقيقة ذلك في الآونة الأخيرة من صراع الأديان والطوائف حتى أصبحت بعض المناطق تمثل طائفة ما , أمّا أبناء الديانات الأخرى غير الإسلامية فكان مصيرها القتل والتهديد والتهجير خارج العراق , لذلك أكد الدكتور سيّار الجميل في ص32" أن انشغال بطاطو بالطبقة على حساب الفئة أو النخبة قد فوّت عليه جملة من المفاهيم,بل وعكس اهتمامه بالطبقة عموماً وإطلاقه أحكامه التي لم تكن كلها صائبة ,فهو لم يدرك العلاقة بين الإقطاعي والفلاح العراقي, وخصوصاً في علاقة شيخ قبيلة بأي فرد من أبناء قبيلته , فهو في أكثر الأحيان ابن عمه أو قريبه, فالعلاقة غير منفصمة بين الإقطاع والفلاح, بل قد تكون متشنجة أو متوترة أو معدومة الثقة, وفي العرق القبلي والعشائري في العراق أن ابن القبيلة لا يمكنه أن يتخلى عن شيخه". فالإقطاع في العراق لا تنطبق عليه أبداً قيم الإقطاع الأوروبي, بل وأن الشيخ والفلاح في العراق يمثل حالة قرابة وصلة رحم لأن البنى الاجتماعية في العراق وخصوصاً الزراعية قد اعتمدت مصالحها على علاقة الفلاحين بالقبيلة.
     يعقب الباحث فالح عبد الجبار في ص54 على أدوات المبحث الذي قدمه بطاطو لتحليل البنية الاجتماعية ذات الطابع الانتقالي في العراق " يقسم ماكس فيبر الطبقات إلى ثلاثة عناقيد . العنقود الأول الطبقة ذات الملكية . العنقود الثاني الطبقة المنتجة . العنقود الثالث الطبقة الاجتماعية ... استخدم بطاطو هذا التقسيم أساساً لدراسة الطبقات الوسطى في العراق, ولعل التعديل الوحيد الذي إضافة , اعتماداً على المعطيات الملموسة للواقع العراقي, أنه خلص إلى وسم البنيان السياسي والاجتماعي للدولة العراقية بعد تموز 1958بأنه حقبة الطبقة الوسطى", محاولاً تفسير الواقع الاجتماعي بعين نقدية فاحصة ومن دون التسليم بمنهج أحادي الجانب, ولصعوبة تطبيقه على دراسة الطبقات الاجتماعية في العراق, ما زال هذا البلد يسير نحو النمو وما زالت الطبقات هشة وغير مكتملة , وقد أكد هذا الرأي الباحث إبراهيم الحيدري في ص96 إذ قال "إذا كان هناك تمايز ديني / طبقي في جنوب العراق , فهناك تمايز طبقي/ عرقي في الشمال, وإذا كانت الأكثرية من العرب تخضع لعادات وتقاليد إسلامية, فإن أهل الريف يخضعون إلى عادات وتقاليد وعصبيات عشائرية مصبوغة بصبغة إسلامية, ولهذا لم يشكل العراقيون آنذاك أمه تستقطب مشاعرهم وولاءاتهم, كما أشار إلى ذلك الملك فيصل الأول في مذكرة قدمها إلى الحكومة العراقية عام 1932".
     وعلى أية حال الكتاب مهم ويتضمن واقع تحليلي لما مرَّ ويمر به العراق من خلال النصوص التي وردت في الكتاب وبترجمة بعض الباحثين لتوضيح تاريخ العراق السياسي والاجتماعي ودور الأحزاب السياسية العلمانية والدينية وتدخل دول الجوار في المشهد السياسي العراقي , مما أدى إلى التدهور الذي يمر به العراق في الوقت الحاضر .
 


249
رائد المسرح الديواني جبار عبد الكريم الأصفر
نبيل عبد الأمير الربيعي
  ولد المناضل الراحل جبار عبد الكريم الأصفر في مدينة الديوانية عام  1932 , درس الابتدائية في مدرسة الديوانية الثانية وكان مكانها قديماً محل بناية  متوسطة الاستقامة حالياً , كان متفوقاً في دراسته الثانوية , وعندما أكملها لم يتمكن من مواصلة الدراسة بسبب الحالة المادية لوالده المناضل عبد الكريم الأصفر (كرم الأصفر ) , كان الظرف لم يكن يسمح له الذهاب إلى بغداد لإكمال الجامعة, حيث كانت العائلة كبيرة ومكونة من الأب والأم وثلاثة أخوه وأربعة أخوات فأضطر التقديم لدورة المعلمين وقتها للتخرج كمعلم والعمل في المجال التربوي.
  كانت اول تعيين له عام 1953 , وأول مدرسة باشرَّ فيها  ناحية الصلاحية , ثم خدم في مجال التعليم متنقلاً في المدارس التالية (مدرسة المناهل والإرشاد والميثاق) , أما عام الإحالة على التقاعد فكان عام 1983.
  بما أن والده عبد الكريم الأصفر كان صديق للشهيد الراحل فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي  وهم يعملون سويه في ميناء البصرة عندما تعرفوا على شخص أرمني (فاسيلي) شرح لهم عن مبادئ وأفكار الحزب الشيوعي , فكان هدف الشهيد  فهد تشكيل الحزب الشيوعي العراقي ووالده عبد الكريم الأصفر في مدينة الديوانية , مما دعا إلى  تشكيل أول خلية ماركسية في الديوانية كان قبل عام 1928 , وكانت الكتب الحزبية تصلهم من الحزب الشيوعي اللبناني عن طريق المراسلة , حيث طلبوا منهم الحزب الشيوعي اللبناني فتح مكتبة لبيع الكتب لتكون غطاء لوصول الكتب للمدينة , وفعلا افتتح المناضل الراحل عبد الكريم الأصفر أول مكتبة في الديوانية عام 1926 ومكانها كان مقابل عوينات القادسية حالياً .
  عندما ولد الراحل الأستاذ جبار الأصفر وجد أمامه مكتبة زاخرة بالكتب تشمل جميع   الاتجاهات الثقافية , فكان الراحل جبار الأصفر قارئ من النوع الجيد ولهُ قدرّة على سرعة الحفظ وتقبل المعلومات  , وفعلا أصبح موسوعي القراءة ,حافظاً جيد للشعر ,ولم يفارقه الكتاب لأخر لحظه في حياته , وكان آخر كتاب أعاد قراءته أكثر من مرة (علي سلطة العدالة الإنسانية ) للكاتب عزيز السيد جاسم , أي كان قبل يوم من وفاته .
  اختص الراحل جبار الأصفر بتدريس اللغة العربية ,حيث كان بارع جداً بها , له الكثير من القصائد في اللغة الفصحى والشعبية , اشترك مع المرحوم علي جاسم الحمد و مسلم هاني و عزيز الفؤادي و نجم الموسوي وغيرهم في تأليف فرقة مسرحية قدمت الكثير من الأعمال المسرحية منها الناقدة والشعبية الهزلية مثل (عنتر وعبلة في القرن العشرين ) وهي مسرحية استخدمت الشعر الشعبي للحوار , (خمس مقاتلين على خط النار ) للكاتب المصري علي سالم و ( أغنية على الممر ) حيث تم تعريقها و تم إخراجها من قبل المبدع الراحل عبد السادة ناجي الأطرقجي, وقد استخدموا السلاح الحقيقي فيها ,ومسرحيات أخرى منها  مسرحية ( كهوة طرف ) و( قاووش الزلم )و ( الأشجار تموت واقفة) وغيرها من الأعمال , وآخر عمل تم تقديمه كان بعنوان ( الحاج زباله) بعدها توقفوا عن العمل بسبب مضايقة حزب البعث لهم كونهم يحملون الفكر الماركسي وأعضاء  في صفوف الحزب الشيوعي العراقي , وكانت مطالبة سلطة البعث بالعمل لنشر أفكاره ليس إلا , وهذا لا يتوافق مع أفكارهم ومبادئهم ,كما كانت للراحل الأستاذ جبار الأصفر عدت مشاركات مسرحية من خلال المسرح المدرسي . توفي الأستاذ والمناضل جبار الأصفر في السابع والعشرين من رمضان عام 1432 المصادف 28 /8 /2011
 
مسرحية( أغنية على الممر ) إخراج عبد السادة الأطرقجي
 
  كان السلاح المقترح استخدامه في عرض المسرحية من الخشب , ولكن عند مرور قائد الفرقة الأولى ليرى التدريب على المسرحية , أدخلهم دورة على السلاح الحقيقي لمدة أكثر من أسبوع , بعدها زودّ العرض المسرحي خمسة بنادق ومسدس وهاون 60ملم  تم استخدامه لليوم الأول فقط , حيث احترق الديكور , كان هذا العرض في مدينة الديوانية , وعند طلبوا منهم عرض المسرحية في السماوة كان المتفق عليه أن تخرج مظاهره بعد العرض تشجب الاحتلال الصهيوني  لفلسطين وقد تمَّ ذلك .
  يقول ولده عماد جبار الأصفر تعليقاً عن دور والده والآخرين في مجال المسرح :انهم كانوا لا يتقاضون أجر عن العروض المسرحية , وأغلب ريع العروض كان لدعم نادي الديوانية الرياضي , وكانوا يذهبون لمكتب المحافظ لا لدعوته للحضور بل لعرض علية شراء بطاقات حضور المسرحية  . كما يؤكد الأستاذ كامل الأطرقجي وهو من عائلة مناضلة ومعروفة في مدينة الديوانية والأبن البكر لأحد المخرجين والمؤلفين المسرحيين :إن مسرحية (أغنية على الممر) كان آخر عمل أخرجه والدي عبد السادة الاطرقجي وبعدها اعتزل الفن (ميدانيأ) لكنه كان يحترق شوقا للمسرح . كان ذلك في عام 1969 , ودائماً كان يردد مع نفسه , لا يمكن أن أعيش بدون مسرح .
  ويعلق الروائي سلام إبراهيم عن دور هؤلاء المسرحيين الرواد في المدينة :كانوا يلتقون في محل عمي خليل الحلاق لم يكونوا ممثلين فحسب , بل كانوا  صاحبي نكتة ونوادر ما زالت المدينة ترويها , ومازال عمي خليل الحلاق حياً يرويها في المقاهي والمناسبات. كما يقترح الروائي سلام إبراهيم تجميع هذه الصور والشهادات التقديرية كي توضع في عرض دائم في نقابة الفنانين في الديوانية , على أمل إقامة متحف في المدينة يضم كل ما يتعلق بمبدعيها من الفنانين كي يحفظ وتتطلع عليه الأجيال القادمة .


250
الباحث والمؤرخ وداي العطية


نبيل عبد الأمير الربيعي
ولد الباحث والمؤرخ وداي العطية الغضبان في قرية الإيشان التابعة لمركز قضاء لشامية في 5 تشرين الثاني 1889م, ينتسب إلى عشيرة الحميدات إحدى بطون عشيرة طي, وقد تيسرت الفرصة لهُ أن يتعلم القراءة والكتابة على يد معلمهُ الأول الشيخ الملا علي, وأظهر تفوقاً في علوم الدين ومنها التفسير, كما تعلم الحساب والخط وبعض قواعد اللغة العربية, والتاريخ والشعر والطرائف الأدبية والقصص والأساطير التي لها صلة بسيرة العظماء والأبطال في حروبهم , كما كان متأثراً بأفكار كل من الشيخ جواد الملك والشيخ علوان الحميدي وهم من علماء النجف المشهورين آنذاك(1) .
واصل الشيخ جهده في الإطلاع على المعلومات وتوسيع افقهً فيها , لذا بدء باقتناء الكتب وشرائها ومتابعة ما يكتب في الصحف والمجلات , كما كان متابعاً باعاً لحوادث العشائر(2) . شغلت المطالعة والقراءة معظم أوقاته وتفرغ للبحث, وتكاد تكون جهوده متخصصة في التاريخ وعلم الأنساب الذي يعده من الأمور المطلوبة والمعارف المرغوبة , وتنوعت قراءاته فطالع علوم الاقتصاد والفقه الإسلامي وعلم الاجتماع, جمع النادر من المخطوط والمطبوع واستقاها من (السطور والصدور)ويقول إن المعلومات تندثر لا سيما إذا أكثرت أو طال عليها الزمن , وإن كل علم غايته الدثور إذا لم يخرج من الصدور إلى السطور (3), كان يتحمل مشاق السفر للبحث عن المعلومات وإسناد الحقائق.
امتهن الباحث وداي العطية زراعة الحبوب بعد أن استصلح قسماً من اراضي الشامية التي كانت مغمورة بالمياه, فعملت أعداد كبيرة من الفلاحين في مزارعه, وتعامل معهم بطيبة الأب ذي القلب الواسع الرحب الراعي والمدافع عن حقوقهم ومصالحهم, حيث يقسم المحصول مناصفة بين الفلاحين ومالك الأرض واستمر على هذا المنوال حتى صدور قانون الأصلاح الزراعي في بداية السبعينات من القرن الماضي, اظهر حرصه على إدخال المكننة الزراعية الحديثة في الزراعة للتخفيف عن كاهل الفلاح وبذلك يعد أول من ادخل الأساليب الزراعية الحديثة إلى منطقة الشامية , كما كان لهُ دور في تأسيس مصنع لكبس التمور (علامة القطة) , فضلاً عن اهتمامه بنشر الوعي الزراعي والتوجيه باستخدام الوسائل الحديثة في الإنتاج(4) .
لقد تدهورت صحته في سنوات عمره الأخيرة وأصيب بعدد من أمراض الشيخوخة وادخل مستشفى النجف العام , ففارق الحياة في 18 آب 1983م عن عمر ناهز الرابعة والسبعون عاماً .
مؤلفاته المطبوعة
1-    على هامش الجزء الخامس من تاريخ العراق بين احتلالين للأستاذ عباس العزاوي . المطبعة الحيدرية . النجف. 1953.
2-    تاريخ الديوانية قديماً وحديثاً. المطبعة الحيدرية. النجف. 1954م.
المخطوطات
1-    تاريخ مدن الفرات الأوسط وأنهاره وبعض عشائره.
2-    حرب الشعيبة وما بعدها في الثورة العراقية خاصة السماوة.
3-    حوادث سنة 1936-1937م, بما في ذلك سقوط وزارة ياسين الهاشمي الثانية, وتشكيل وزارة حكمت سليمان.
4-    تاريخ قبيلة بني حسن, وذكر بطونها وافخاذها.
5-    تاريخ الحلة والنهروان وعشائره وكذلك لوائي الدليم والديوانية.
6-    التعليق على بعض ما جاء في كتاب الحقائق الناصعة لمؤلفه الشيخ فريق مزهر الفرعون 12 آيار 1952م.
7-    المتصرفون في لواء الحلة والديوانية.
8-    تاريخ قضاء عفك وذكر قبائلها وانسابها.
9-    مجموعة تاريخية وادبية متنوعة.
10-                      تاريخ انساب بعض القبائل الفراتية.
 
 
المصادر
1-    الهيمص.الشيخ عبود. ذكريات وخواطر عن أحداث عراقية في الماضي القريب. بغداد 1989. ص23 ؛ د. صباح مهدي رميض. الشيخ وداي العطية الغضبان (رجل الريف المثقف) سيرته.. ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة. عرض تحليل (1889-1983) ,جامعة بغداد كلية لتربية .ابن رشد. قسم التاريخ.
2-    رميض  د. صباح مهدي .مصدر سابق. بدون رقم للصفحات ودار النشر.
3-     العطية. وداي. مصدر سابق. المقدمة.
4-    رميض  د. صباح مهدي .مصدر سابق. بدون رقم للصفحات ودار النشر.
 
 


251
الباحث والمؤرخ وداي العطية


نبيل عبد الأمير الربيعي
ولد الباحث والمؤرخ وداي العطية الغضبان في قرية الإيشان التابعة لمركز قضاء لشامية في 5 تشرين الثاني 1889م, ينتسب إلى عشيرة الحميدات إحدى بطون عشيرة طي, وقد تيسرت الفرصة لهُ أن يتعلم القراءة والكتابة على يد معلمهُ الأول الشيخ الملا علي, وأظهر تفوقاً في علوم الدين ومنها التفسير, كما تعلم الحساب والخط وبعض قواعد اللغة العربية, والتاريخ والشعر والطرائف الأدبية والقصص والأساطير التي لها صلة بسيرة العظماء والأبطال في حروبهم , كما كان متأثراً بأفكار كل من الشيخ جواد الملك والشيخ علوان الحميدي وهم من علماء النجف المشهورين آنذاك(1) .
واصل الشيخ جهده في الإطلاع على المعلومات وتوسيع افقهً فيها , لذا بدء باقتناء الكتب وشرائها ومتابعة ما يكتب في الصحف والمجلات , كما كان متابعاً باعاً لحوادث العشائر(2) . شغلت المطالعة والقراءة معظم أوقاته وتفرغ للبحث, وتكاد تكون جهوده متخصصة في التاريخ وعلم الأنساب الذي يعده من الأمور المطلوبة والمعارف المرغوبة , وتنوعت قراءاته فطالع علوم الاقتصاد والفقه الإسلامي وعلم الاجتماع, جمع النادر من المخطوط والمطبوع واستقاها من (السطور والصدور)ويقول إن المعلومات تندثر لا سيما إذا أكثرت أو طال عليها الزمن , وإن كل علم غايته الدثور إذا لم يخرج من الصدور إلى السطور (3), كان يتحمل مشاق السفر للبحث عن المعلومات وإسناد الحقائق.
امتهن الباحث وداي العطية زراعة الحبوب بعد أن استصلح قسماً من اراضي الشامية التي كانت مغمورة بالمياه, فعملت أعداد كبيرة من الفلاحين في مزارعه, وتعامل معهم بطيبة الأب ذي القلب الواسع الرحب الراعي والمدافع عن حقوقهم ومصالحهم, حيث يقسم المحصول مناصفة بين الفلاحين ومالك الأرض واستمر على هذا المنوال حتى صدور قانون الأصلاح الزراعي في بداية السبعينات من القرن الماضي, اظهر حرصه على إدخال المكننة الزراعية الحديثة في الزراعة للتخفيف عن كاهل الفلاح وبذلك يعد أول من ادخل الأساليب الزراعية الحديثة إلى منطقة الشامية , كما كان لهُ دور في تأسيس مصنع لكبس التمور (علامة القطة) , فضلاً عن اهتمامه بنشر الوعي الزراعي والتوجيه باستخدام الوسائل الحديثة في الإنتاج(4) .
لقد تدهورت صحته في سنوات عمره الأخيرة وأصيب بعدد من أمراض الشيخوخة وادخل مستشفى النجف العام , ففارق الحياة في 18 آب 1983م عن عمر ناهز الرابعة والسبعون عاماً .
مؤلفاته المطبوعة
1-    على هامش الجزء الخامس من تاريخ العراق بين احتلالين للأستاذ عباس العزاوي . المطبعة الحيدرية . النجف. 1953.
2-    تاريخ الديوانية قديماً وحديثاً. المطبعة الحيدرية. النجف. 1954م.
المخطوطات
1-    تاريخ مدن الفرات الأوسط وأنهاره وبعض عشائره.
2-    حرب الشعيبة وما بعدها في الثورة العراقية خاصة السماوة.
3-    حوادث سنة 1936-1937م, بما في ذلك سقوط وزارة ياسين الهاشمي الثانية, وتشكيل وزارة حكمت سليمان.
4-    تاريخ قبيلة بني حسن, وذكر بطونها وافخاذها.
5-    تاريخ الحلة والنهروان وعشائره وكذلك لوائي الدليم والديوانية.
6-    التعليق على بعض ما جاء في كتاب الحقائق الناصعة لمؤلفه الشيخ فريق مزهر الفرعون 12 آيار 1952م.
7-    المتصرفون في لواء الحلة والديوانية.
8-    تاريخ قضاء عفك وذكر قبائلها وانسابها.
9-    مجموعة تاريخية وادبية متنوعة.
10-                      تاريخ انساب بعض القبائل الفراتية.
 
 
المصادر
1-    الهيمص.الشيخ عبود. ذكريات وخواطر عن أحداث عراقية في الماضي القريب. بغداد 1989. ص23 ؛ د. صباح مهدي رميض. الشيخ وداي العطية الغضبان (رجل الريف المثقف) سيرته.. ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة. عرض تحليل (1889-1983) ,جامعة بغداد كلية لتربية .ابن رشد. قسم التاريخ.
2-    رميض  د. صباح مهدي .مصدر سابق. بدون رقم للصفحات ودار النشر.
3-     العطية. وداي. مصدر سابق. المقدمة.
4-    رميض  د. صباح مهدي .مصدر سابق. بدون رقم للصفحات ودار النشر.
 
 


252
قراءة في كتاب صراع الدولة والجماعات في العراق

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
في مرحلة متقدمة من استفحال أزمة صراع الدولة مع الجماعات الطائفية والعرقية في العراق, مما أدى إلى خسارة الدولة جزء من هيبتها و وسائل الضبط والسيطرة على الواقع الأمني للمواطن, والفصل في المسائل الحقوقية وتحولها أداة بيد من انتزعوا منها ذلك الامتياز, والعودة بها إلى ما قبل الدولتية , فطغيان سلطة المؤسسة الدينية  الطائفية أو القبلية أو الجماعات المسلحة مما يؤدي إلى تفكيك مؤسسات الدولة وإسقاطها بشكل تام , والعمل باستقلال كامل أو شبه كامل عن مؤسسات الدولة بأعراف وقوانين مختلفة.
 صدر للكاتب سعد محمد رحيم كتابه الموسوم (صراع الدولة والجماعات في العراق) عن دار سطور للنشر والتوزيع, الكتاب يحتوي على (220) صفحة من القطع الصغير , ذات طباعة جيدة وخالية من الأخطاء اللغوية والطباعية . احتوى الكتاب على قراءة جيدة لواقع الدولة وصراعها مع الجماعات العرقية والطائفية ودور لغة الخطاب السياسي والديني في العراق ,وموضوعة الديمقراطية التي لا تتكرس في الوعي الجمعي والسلوك العام إلا بتفعيل مبدأ التسامح, وأسباب الفشل في إدارة الدولة لمواردها, فضلاً عن دور المثقف والسلطة في واقع حياة المواطن العراقي, والأسباب الحقيقية لاغتراب المثقفين , وتحليلات الاقتصاد السياسي للعنف , وخاتمة الكتاب حوار على موقع الحوار المتمدن مع الكاتب سعد محمد رحيم.
أكد الكاتب سعد محمد رحيم في ص16 على دور "الخطاب الاجتماعي والخطاب التعليمي والخطاب الديني/ الطائفي بلونها الناري الصارخ, وهو لون مصنوع أكثر مما هو طبيعي", ومن الممكن التأكيد على دور الخطاب والإعلام للقادة السياسيين في الوضع الاجتماعي والسياسي العام للبلد, فقد تبنى أغلب القادة السياسيين الخطاب العرقي والطائفي في دغدغة عواطف أبناء المجتمع العراقي, ولغة السياسي اليوم أصبحت هي المهيمنة على جزء واسع من وعي أبناء المجتمع, كما أن الخطاب الديني الطائفي لهُ تأثير خطير على أبناء الرافدين من خلال استخدام المصطلحات  الخاصة بالطقوس الدينية والتراث القديم, مما أدت إلى انعدام الفرصة للحوار وفق الجانب الديمقراطي في النقاش , وتحصن عقول السياسيين والطائفيين والعرقيين  بالتحليل والنقد وإقصاء الآخر.
كما أكد الكاتب في ص29 حول مصادر الثروة السائب وقد " أرسى دعائم مؤسسات المجتمع الأهلي الدينية/ الطائفية والعشائرية على حساب مؤسسات المجتمع المدني, فيما أضحت الأخيرة نفسها أحياناً ساحة لاغتناء فئات متسلقة انتهازية طارئة عليها, وجدت فرصتها في استثمار هذا المجال المقبول والمشروع لمصالحها الأنانية الخاصة" لذلك أصبح المشروع المدني الديمقراطي هو الضحية بسبب صراع المؤسسات الطائفية والعشائرية فضلاً عن الفساد ونهب المال العام واستنزاف الموارد في غير مجالاتها وقنواتها, مما حذا بالاقتصاد العراقي إلى الانهيار وتولي الأمراض والعاهات وتدهور الواقع المعيشي العراقي.
وهنا يعتب الكاتب على دور المثقفين التنويريين في العراق إذ أكد من خلال قوله  في ص49هم " لا يشغلون سوى مساحة ضيقة وهامشية من الحقل الثقافي الذي يدور فيه الصراع حول المعنى, وغالباً ما تعلو أصوات المثقفين بالشكوى من حالة تهميشهم" , لكن المثقف العراقي أصبح مغترب وانعزالي بعد عام 2003م بسبب سياسات الحكومات ما قبل 2003م, وقد أخفق المثقف في إيجاد خطاب ثقافي مؤثر في المجتمع العراقي فضلاً عن دوره الكبير ومسؤوليته الوطنية والأخلاقية " لكن أقول للمثقف الدور في إنشاء الخطاب الثقافي التنويري ومأسسة فعالياتهم الثقافية من خلال فضاء التواصل والتحاور مع فئات المجتمع ونبذ ثقافة العنف بجميع أشكاله.
من خلال  مطالعتي للكتاب أجد الكاتب متفهماً لواقع صراع الدولة والجماعات وما أصاب مؤسسات الدولة العراقية بعد انهيار النظام من محاولات تصفية البنية التحتية للثقافة في البلد , ولكنه يتساءل في ص71"أليس الخراب الحاصل اليوم يعود في أحد أسبابة الرئيسة إلى هذا النزيف الثقافي المريع الذي أفرغ وما زال يفرغ البلد من نخبه وعقوله وإمكانياته الإبداعية تاركاً المجال لأدعياء ومحبي السلطة من أشباه المثقفين والموتورين والمتعصبين ضيقي الأفق من أصحاب الفكر العشائري والطائفي والشوفيني وشذاذ الآفاق ليعبثوا بمستقبل البلاد ويدفعوها باتجاه الهاوية؟" مع العلم المثقف في الوقت الحالي يحلم في دولة المؤسسات والمجتمع المدني والعلمانية والتعددية والحرية بمعناها الكوني, لكن المثقف العراقي أصبحت جسوره تنهار مع أبناء المجتمع بسبب جلوسه في مملكته العاجية, وانشغال ـبناء المجتمع بدعاة الأصولية والهويات الضيقة والطقوس الدينية .
في الوقت الحالي أصبحت المؤسسات الراعية للطائفية والأثنية والعرقية تضفي هاله من القداسة والرهبنة على الجانب الديني مما أدى إلى الصراع بين مذاهب الدين الواحد لغرض الاستحواذ, وفي ص108 أكد الكاتب "لا نأتي بجديد حين نقول أن مثل هذه المجتمعات المنقسمة على نفسها تكون أكثر عرضة للصراعات المسلحة ويكون السلم الأهلي فيها مهدداً على الدوام, إذ تنمو العصبيات والمغالبة في الحصول على الامتيازات مع الميل لممارسة العنف" وسبب هذا العنف جيوب اللصوصية والفساد من جهة وبروز جيوب سرطانية في جسد الاقتصاد الريعي من جهة أخرى فضلاً عن التبذير للموارد بلا شعور وطني , فأولئك الذين يغرفون من مصادر الثروة السائبة يديمون التناحرات الطبقية والعرقية والطائفية واللجوء إلى العنف والإرهاب والكراهية وخاصة في مجتمع ذات اقتصاد ريعي.
أخيراً الكتاب في هذا الظرف مهم جداً للقارئ والمثقف العراقي كونه يدرس مقاربات ورؤى نقدية حول أربعة محاور هي ( العنف, السياسة, الثقافة, الهوية) .
 
 


253
مَنّ هُم فاقدوا ماء الوجه ؟

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     إذا أردت أن تعبر عن سلوك شخص ما ارتكب عمل مشين للخلق  والشرف والعرف العام , فإنكَ تقول عنهُ (فقدَّ ماء وجهه) , وفي الواقع دائماً ما يكون وجه من يشعر بالخزي منكساً رأسه , ناكساً بعينية إلى الأسفل , والكل يعلم إن جميع الشعوب تشير إلى أن البشر في كل مكان في العالم تجمعهم النزعة ذاتها وهي الأبتعاد عن فقدان ماء الوجه .
     لكن ما يحصل الآن في العراق بعد عام 2003م من التعامل بالرشا والمحاصصة وفق توزيع المال العام والمراكز الحساسة وتعيين المقربين والتطاول على أخذ نسب معينة من المشاريع مقابل حصول المقاولين على العمل هو فقداء ماء الوجه للساسة العاملين في دفة السياسة العراقية وإدارة الدولة وفق نهج المحاصصة الطائفية .
     من يفقد ماء الوجه تجده تعلوه حمرة الخجل بطريقة لا إرادية , والعين تغرورق بالدموع عندما تجيش المشاعر , خاصة المشاعر الأخلاقية مثل السخط أو العزة , ولا أعرف أي من المشاعر لهؤلاء الساسة من باعوا الضمائر  ,اصبح ثلث العراق بيد الإرهاب , والفقر تجاوز 30%  في بعض المحافظات و60% في محافظة المثنى , متى تشعروا بالسخط وصحوة الضمير وتغرورق العيون لما فعلتم بالعراق وأهل العراق .
     من خلال ثقافتنا وسلوكياتنا نعتقد أن الشرف لا علاقه له بالمشاعر إلا عندما يكون على مرأى من الناس , فيمكننا أن نشعر بالخزي بعيداً عن أعين الناس , فمتى تشعروا بالحرص على هذا البلد , هل تمتلكون المشاعر والأنتماء الوطني , أم انتمائكم لجهات أخرى أولاً .
      أيها السياسي والمسؤول العراقي , أنا اخاطبك كعراقي عاش على تربة هذا الوطن , وشرب من ماء الفرات ودجلة , وتغذى على منتجات تربته , وتنفس من هواءه , أقول وبحرقة , إن اهتمامك بشرفك معناه أن ترغب في أن تكون أهلاً للإحترام , الخطأ الذي ارتكبته في سرقة المال العام , أو تعيين من هم غير أكفاء في المسؤولية , أدركت أنك ارتكبت خطأ يقلل من شأنك واحترامك , فإنك تشعر بالخزي , سواء كان ذلك على مرأى من الناس أم لا , ماذا يعني تعيين محافظ الموصل أثيل النجيفي لـ(6) من المستشارين في البلديات قبل سقوط الموصل , وهم الآن قياديين في تنظيم داعش , أين شرفك وشرف المسؤولية من هذا العمل , أنت من أضاع الموصل وأهلها بعملك هذا وعمل الآخرين ممن هم في دفة الحكم وقتذاك , لقد اضعتم شرفكم وفقدتم ماء الوجه , ولن ولم يرحمكم التأريخ في هذا الفعل الشنيع .
      أنا أسأل هؤلاء السياسيين , هل أنتم مع شرف المهنة والمسؤولية أم ضده ؟ وهل تفتخروا بما فعلتم من أعمال تسيء للشرف أم تفتخروا بها ؟ , لكن أقول : الشرف موجود داخل كل إنسان عراقي طبيعي , مهما كانت درجة ثقافته وتنوره وتقدمه , لذلك يجب أن تفكروا وتحسبوا الف حساب للشرف , لكنكم  افتقدتموه , وابتعدتم عن التعامل مع الشرف . من المؤكد أن الشرف لم يفرغ بعد , أنا اخاطبكم بشرفكم , وهذا لا يعني أن الشرف يمثل عورة الرجل أو عورة المرأة ولكن الشرف هو غيرتكم على بلدكم وشعبكم .
     إن شرف المرء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجوانب من الهوية الوطنية , ويستقي منها عضويته في فئة اجتماعية ما بطرق عديدة , وعليه فمنظومة الشرف من شأنها أن تضعك في موضع المساءلة حتى إذا لم تقترف ذنباً , أو لم يقترف أحد خطأ في حقك , فالشرف ليس بالأمر الشخصي بوجه خاص في جماعة اجتماعية ما , ببساطة على المسؤول العراقي الحفاظ على ماء الوجه , أو عليه أن يخسره من خلال فشله في الحفاظ على العراق , أما النجاح فهو من خلال مشاركته في الحفاظ على العراق واهله وعلى الهوية الوطنية , بعيداً عن الطائفية والعرقية .
     لذلك أقول كما قال شكسبير (( أما إذا كان الطمع في الشرف خطيئة , فإن روحي أشد الأرواح إثماً)) , فإذا كان الشرف وفق عرفكم خطيئة فأنا أشد إثماً للحفاظ عليه منكم .
 


254
حوار مع المناضل حميد غني جعفر الاسدي (جدو) , ليروي  قصة النفق والهروب من سجن الحلة المركزي عام 1967


حاوره - نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   سجلَ الشيوعيون العراقيون، وأصدقائهم، منذ اليوم الأول لتأسيس حزبهم في آذار عام 1934 العديد من المواقف البطولية المشهودة، في صراعهم ضد الأنظمة الدكتاتورية والرجعية، دفاعا عن مصالح العمال  والكادحين والفلاحين وجماهير الشعب، بالرغم من البطش والإرهاب الذي رافق مسيرة الحزب على امتداد أكثر من ثمانين عاما ، وارتقى بعضهم من الاحداث إلى مستوي الأسطورة ومنها محاولات الهروب لأكثر من مرة ولأكثر من سجن سواء كان سجن نقره السلمان او سجن بعقوبة عام  1956 وعمليات الهروب الجماعي من منطقة بدرة وجصان ،و سجن الفضيلية في بغداد  ، و سجن الكوت عام 1956 , كذلك في شباط الأسود عام 1963، وسجن   الحلة عام 1967 , الذي استمر العمل والحفر فيه لمدة (58) يوماً ، وهي أحداث لم  يطلع عليها جيل الشباب الثوري المنضوي فى صفوف الحزب إلا الجزء اليسير، الغرض من هذا الحوار  لتسليط الضوء على صفحة نضالية من صفحات نضال الشيوعيين فى السجون ، هذه الوثيقة المهمة التي يجب أن نزيح عنها الغشاوة ، ونلتقي بمن هم الاهم فى هذآ المجال ممن عايشوا فترة حفر النفق والهروب من  السجن للعودة القمة صفوف الحزب والعمل داخله ، ولكسر شوكة النظام الدكتاتوري الذي كان يتبجح بقدرته وقساوته على كسر شوكة المناضلين من خلال حجزهم وراء القضبان  ، لأن عمل الرفاق هذا أصبح جرس إنذار لتنامي المد الشيوعي  وقدرته على العمل في الزمن الصعب .
    من هذآ ننطلق لكتابة وتوثيق  تاريخ ومناضلي الحزب سيما أن كثيراً من صناعه لا زالوا علي قيد الحياة ، ولإماطة اللثام عن أسرار مهمة خشية ضياعها بعد أن ضاعت الكثير من الحقائق عن التاريخ المجيد للشيوعيين العراقيين بسبب الظروف التي مر بها الرفاق والحزب ، يؤكد الرفيق والباحث محمد علي محيي الدين " أن تاريخ والحزب أمانه فى أعناق جميع الشيوعيين من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار وعليهم الكتابة " ، لتاريخ الحزب العريق  الذي تجاوز عمره الثمانون عاماً وهو ما زال شاباً يافعاً يقدم الخير لأبناء بلاد الرافدين ، كان لنا هذا اللقاء مع المناضل حميد غني جعفر الملقب ( جدو) لصغر عمره داخل سجن الحلة وقتذاك ، وأحد المشاركين  فى حفر نفق سجن الحلة عام 1967 للهروب نحو طريق الحرية والعودة لصفوف الحزب المناضل من أجل وطن حر وشعب سعيد .
  ولد المناضل حميد غني جعفر عام 1943 في البصرة ، عاد والده بالعائلة إلى مدينته الأصلية ومسقط رأسه  بغداد  - الكاظمية  بسبب وفاة الجد (جعفر) ليستقر في بيت أجداده في محلة - أم النومي - والمعروفة - بموسكو - فكانت نشأته وتربيته في الكاظمية ودراسته في مدرسة المفيد الابتدائية في الكاظمية ، كان الأنضمام للحزب الشيوعي العراقي وهو في التاسعة عشر من العمر أي عام 1962 بعد اطلاعه على أدبيات وسياسة الحزب ، ولدوره المهم في حفر نفق سجن الحلة المركزي كان لنا معه لقاء لنتعرف ونطلع على معاناة السجناء السياسيين الشيوعيين وبطولاتهم للتخلص قيد السجن الرهيب ، ولذا أرى انه آن الأوان اليوم لأطلاع الرأي العام والأجيال الجديدة من الشيوعيين العراقيين على إحدى المآثر البطولية للشيوعيين  .. وما أكثرها في السجل الطويل والمشرق لحزب فهد وسلام عادل الخالدين أبدا :
 
•        نتمنى أن نعرف بداية العمل , ومتى تم انضمامك لصفوف الحزب الشيوعي العراقي؟
•        كان انتمائي للحزب الشيوعي العراقي وأنا في التاسعة عشر من العمر أي عام 1962 وعن طريق الرفيق الراحل - محمد عبد الأمير الدباش - وكان المسؤول الحزبي هو الرفيق الشهيد - جواد أحمد السلطان - شاركت في كل المهمات والفعاليات النضالية التي يكلفنا بها الحزب والتي اتسمت بالنشاط والحيوية في تلك الفترة بحيث يكاد لا يمر يوم دون فعالية نضالية ابتداءً من توزيع بيانات الحزب بصورة علنية , ثم المشاركة في المظاهرات المستمرة للمطالبة بالسلم في كردستان ، ويشرفني إني لم أتخلف عن أية مهمة أو فعالية نضالية  حتى كان انقلاب الثامن من شباط الفاشي الدموي وشاركت مع رفاقي في المقاومة الباسلة للانقلاب الأسود ، وبتوجيه من الحزب كنت قد شاركت بإذاعة بيانات الحزب - يوم الإنقلاب - من جامع الأمير بعد كسر باب المسجد واستخدام جهاز المايكرفون لإذاعة البيانات والنداءات الحماسية الداعية لمقاومة الانقلاب ، كان معي الرفيق سامي احمد السلطان وأخيه الرفيق حسن والرفيق الراحل عبد الوهاب المنذري ، ثم وبتوجيه من الحزب اتجهت إلى مركز شرطة الكاظمية وشاركت مع الرفيق الشهيد سعيد متروك ورسول محمد أمين والرفيق الراحل محمد أمين الأسدي ، وبعد عملية احتلال المركز تم اعتقال كافة الشرطة ورجال الأمن بعد تجريدهم من السلاح ثم كسرنا مشجب السلاح لتوزيعه على رفاقنا المقاومين ومن بينهم الشاعر مظفر النواب وحمدي أيوب والملازم الشهيد خزعل السعدي وغيرهم كثيرون .
 
•        متى تم الاعتقال بعد سيطرة الانقلابين على السلطة؟
•        اعتقلت في اليوم الأول للانقلاب مع الرفيق المنذري أي - 8 - 2-1963 - وحكمت بالأشغال الشاقة المؤبدة ثم أرسلت مع رفاق الكاظمية إلى سجن نقرة السلمان ، ثم نقلت إلى سجن الحلة المركزي أواسط العام 1966 بعد أن قضيت ما يقارب الثلاث سنوات في سجن نقرة السلمان , ومن هناك اختارتني المنظمة التي يقودها الراحل حسين سلطان إلى مهمة حفر نفق سجن الحلة وتمت عملية الهروب في ليلة الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر الاشتراكية أي ليلة - 6 - 7 - تشرين ثاني 1967.
 
•        هل كانت هنالك محاولة هروب آخرى قبل محاولة الهروب من سجن الحلة عام 1967؟
•        كنت معتقل فى  مركز شرطة الكاظمية  أواسط حزيران من عام 1963 وردتني رسالة من الرفيق المرحوم فائق جواد الخياط يستفسر فيها عن عدد الرفاق الشيوعيين المعتقلين ويتساءل عن إمكانية الهروب للمشاركة معنا ولم يذكر تفاصيل أخرى سوى التأكيد على ان تكون العملية قبل - 1 - 7 - 1963، وغمرتني الفرحه الكبرى بان رفاقنا يواصلون نضالهم بهمة وشجاعة   منقطعة النظير   ويتحدون الطغيان الفاشي، وتدارست الرساله مع عدد من الرفاق الجيدين  الصامدين  واتفقنا علي انة توجد إمكانية للهروب ، إذ  أن هناك داخل ساحة الموقف - الهول - ممر ضيق وفي نهايته باب صغير من الخشب وهو مقفل من الداخل ولا توجد حراسة عليه ، ويطل الباب على شارع فرعي بجانب المركز - من جهة اليسار - وساحة الموقف  مخصصة للموقوفين العاديين وكذالك الممر الضيق هو الآخر ينزل فيه العاديون أيضا وليس لنا بهم من صلة ، وتلك هي المشكلة التي واجهتنا لكن ولحسن الحظ كان لأحد رفاقنا علاقة صداقة مع أحد هؤلاء النزلاء العاديون، وكان هذا الموقوف - العادي - شقيق لأحد رفاقنا - خارج المعتقل - والمدعو - علي قديفجي - وهو ينزل في الممر قرب الباب المذكور وقد اتفق معه - رفيقنا مهدي السيد نور - على توفير المستلزمات المطلوبة وكانت بسيطة (منشار صغير  ودرنفيس  وقالب صابون رقي) لغرض وضع الصابون على المنشار عند قطع القفل - كي لا يظهر صوت - واتفقنا على تنفيذ العملية في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، حيث يخلد الجميع الى النوم ، وفي الموعد المحدد من تلك الليلة وكانت أواخر حزيران ، تسلل الرفاق كل من (مهدي السيد نور، رشيد عبود متروك، وأنا)  الى الممر لمساعدة الصديق - علي قديفجي - في تنفيذ العملية ، وإذا بأحد الموقوفين العاديين النائمين  أو هكذا كان يبدو لنا فى ساحة الموقف ينهض من فراشه ويصرخ بأعلى صوته ... شرطة ... شرطة ...الشيوعيين يريدون ينهزمون حتي عدنا وبسرعة البرق الخاطف الى فراشنا , بحيث دخل افراد الشرطة إلى غرفتنا فلم يلاحظوا شيئا , وكان الهدوء والسكون التام يخيم على غرفتنا فوجد الشرطة الجميع في حالة نوم عميق حتى ظنوا بأن هذا الموقوف الذي ناداهم والذي يدعى - مجيد - ويكنى - قنبلة - كان يغط في حلم عميق فلم يصدقوا به حتى صفعه احد افراد الشرطة على وجهه وشتمه ، وهكذا وللأسف الشديد فشلت ولم تسنح لنا المحاولة الفرصه للمشاركة ونيل الشرف العظيم  فى حركه حسن سريع بعد أن عرفنا عن انطلاقها فى الأول من تموز 1963، هذه الحركة الثورية كما لم يتسع لنا الوقت لتكرار المحاولة حيث نقلنا إلى الموقف العام في الباب المعظم - وزارة الصحة حالي- . بعد عام ونصف من الاعتقال والتنقل بين مركز شرطة الكاظمية ومركز شرطة الوشاش والموقف العام في باب المعظم ومعتقل خلف السدة ومواجهتنا لأبشع أساليب التعذيب الهمجية التي تفوق التصور ، تم تسويق أبناء الكاظمية الذين يربو عددهم عن المائة مناضل الى المجلس العرفي العسكري الأول في معسكر الوشاش برئاسة محمد نافع احمد بدعوى مقاومة انقلاب الثامن من شباط الأسود عام 1963.
 
•        متى بدأت محاولاتكم الأولى وساعة الصفر للشروع بحفر النفق في سجن الحلة؟
•        كان سجن الحلة يحتوي على قلعتين كبيرتين , القديمة وتسمى الوسطى والجديدة ،  وضمت القلعتان المئات من المناضلين الوطنيين من شيوعيين وديمقراطيين تقدميين ومن مختلف الطيف العراقي ، وحين وصولي للسجن نسبت إلى القلعة الجديدة وفي الردهة الأولى ، وتم التعارف بيني وبين المنظمة الحزبية في السجن التي يقودها نصيف الحجاج ، وجرى تكليفي بالعمل في لجنة إعداد النشرة الإخبارية اليومية والتي كانت تقرأ صباح كل يوم على السجناء ، وكانت غرفة الإخبار تقع في بناية صغيرة منعزلة تحتوي على خمس غرف صغيرة ، اثنان على جهة اليمين واثنان على جهة اليسار أما الخامسة فكانت في العمق وبابها قبالة ساحة القلعة ، ويبدو إنها كانت مستشفى للسجناء وتم الغائها فيما بعد ، وتم استخدام ثلاثة منها لنزول السجناء وواحدة لإعداد النشرة الإخبارية والأخرى التي في العمق صيدلية لمعالجة السجناء . استقبل سجن الحلة في نيسان من العام 1967 حسين سلطان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منقولاً من سجن نقرة السلمان ، وانضم فور وصوله إلى المنظمة الحزبية التي تتكون من (نصيف الحجاج وكمال شاكر ومحمد ملا كريم وحسين ياسين) ورفيقا آخر لا يحضرني اسمه ، وكان الرفاق الثلاثة الأوائل على وشك انتهاء محكوميتهم  وما أن مضت فترة وجيزة على مجيء حسين سلطان - أبوعلي - حتى انتهت محكوميات الرفاق الثلاثة وأطلق سراحهم ، ثم تسلم مسؤوليتها فيما بعد الرفيق حسين سلطان وانضم إليهم أيضا الشاعر مظفر النواب وحافظ رسن   .
 
•        هل كان للمنظمة الحزبية في سجن الحلة المركزي دور في توجيه الرفاق داخل السجن بالالتزام والتعاون في حفر النفق؟
•        كان لدور المنظمة الحزبية في إدارة شؤون السجناء وحياتهم اليومية بكل مفاصلها وخضوع الجميع بلا استثناء لطاعة المنظمة والالتزام بكل توجيهاتها وقراراتها ، بحيث لا يمكن لأي رفيق مهما كانت شخصيته أو درجته الحزبية القيام بأي عمل أو تصرف مهما كان صغيرا دون علم وموافقة المنظمة إدراكاً منهم بأن المنظمة تمثل الحزب وان احترامهم وطاعتهم لها هو احترام وطاعة للحزب الذي وهبوا حياتهم لأجله ، فهم قد تربوا في المدرسة الوطنية الكبرى الحزب الشيوعي العراقي وإيمانا منهم بمبدأ القيادة الجماعية المتجسدة بقيادة الحزب . إذن لا يمكن أن يكون هروب فردياً أو جماعياً  دون علم المنظمة الحزبية وموافقتها وهذا يدركه جيدا كل المناضلين في السجون , وعلى هذا فإن عملية هروب كبرى مثل عملية حفر نفق وهروب جماعي من سجن الحلة المركزي عام 1967 ليست إلا من صنع الحزب الشيوعي العراقي تخطيطا وتنفيذا ، وليس من أية جهة أخرى إطلاقا ، كما يزعم البعض في محاولة لإبراز عضلاته على انه المخطط والمنفذ للعملية  يسعى لتهميش وإلغاء دور المخطط والمنفذ الحقيقي ، باستغلال الظروف القاهرة والقاسية التي مر بها الحزب حيث ظلت الحقيقة غامضة عن الشارع العراقي وحتى على  الكثير من الشيوعيين طيلة هذه الفترة العصيبة من تاريخ الحزب ، بفعل سياسة القمع البوليسي وانعدام حرية الفكر والرأي وحرية الصحافة والنشر إضافة لعدم وجود شبكات الانترنت فقد ظلت الحقيقة حبيسة، وأرى أنه آن الأوان لكشف الحقيقة بأمانة وصدق ، لقطع الطريق على المتقولين والأدعياء ، حفاظا على تاريخ الحزب الناصع المشرق لأنه أمانة بأعناقنا ولن نسمح بالتشويه والتزوير لتاريخ الحزب العريق.
 
•        مَن الرفاق مِنَ صاحب فكرة حفر النفق   من سجن الحلة والهروب المركزي؟

•        من هنا أرى لزاما عليَّ أن أبين الحقيقة بضمير نقي وبصدق وأمانة الشيوعي المعهودة
, نتحدث عن كيفية بدا العملية ومن هو مصدر الفكرة ، إن فكرة الهروب لابد أن تراود كل مناضل ثوري وهو أمر طبيعي جداً ، وعلى هذا كانت المنظمة الحزبية التي كان يقودها - نصيف الحجاج - تفكر بعملية الهروب الجماعي من موقع - المطبخ - في القلعة القديمة واختارت الشخوص المنفذين للعملية , وبدأت العمل بصنع حاجز خشبي يحجب الرؤيا عن ربية الحراسة فوق السطح - قبالة المطبخ - ، وكان هذآ فى نيسان   من العام 1967 قبل مجيء الراحل حسين سلطان منقولا من سجن نقرة السلمان إلى سجن الحلة وذالك في أواسط نيسان من العام ذاته 1967,  وبعد إطلاعه على الفكرة ، من قبل المنظمة الحزبية ، وجد فيها مخاطر كبيرة وجدية بفعل موقعها قبالة ربية الحراسة , وقد كان حسين سلطان يحمل مشروعا جديد للهروب الجماعي أيضاً , ولكن من موقع آخر أكثر أمانة وضمانة من الموقع الأول ، وهو غرفة الصيدلية داخل القلعة الجديدة وكان الراحل سلطان قد أخذ فكرة هذآ الموقع من الصيدلية   من رفيق كان معة فى سجن نقره السلمان، وكان هذا الرفيق يدعى - سالم - سجيناً في سجن الحلة عام - 1964  .
 
•        من هم المجموعة التي قامت بحفر النفق ، ومن هم المشرفين عليه من سجناء منظمة الحزب؟
•        اقتنعت المنظمة الحزبية بمقترح حسين سلطان الذي كان يقودها الرفيق نصيف الحجاج ، وتم الاتفاق على إلغاء فكرة الهروب من الموقع الأول ، والبدء  بالعمل من الموقع الثاني وهو الصيدلية في القلعة الجديدة ، وتم اختيار الرفاق المنفذين الأربعة وكنت احدهم , إذ ابلغني حسين سلطان شخصياً بهذه المهمة المشرفة واختار أيضا الملازم فاضل عباس ونحن الاثنين من الكاظمية والاثنان الآخران عقيل عبد الكريم حبش من الناصرية وكمال ملكي من الموصل ، وللأمانة  أن اذكر أن عقيل وفاضل كانا قد اختيرا للعمل من الموقع الأول أي المطبخ وعملا فيه فعلا ، والأربعة المذكورين هم فريق التنفيذ ، أما فريق الأشراف كانوا ثلاثه وهم الشاعر مظفر النواب وحافظ رسن وحسين ياسين.
 
•        ما هي واجباتكم داخل السجن، وكيف تم ترتيب وقتك بين الواجب وعمل حفر النفق؟

•        كنت أقوم إضافة لعملي في لجنة إعداد النشرة الإخبارية ، كان عملي الآخر فى الكشك لبيع المشروبات الغازية والحليب ، و كنت أقرأ النشرة الإخبارية صباح كل يوم في القاووش رقم واحد الذي كنت نزيل فيه , وكذالك أساعد الرفيق حسين سلطان في قراءة أدبيات الحزب أو البريد الحزبي داخل القاعات والغرف التابعة لمنظمتنا ، ثم كنت أعمل ليلا مع الرفاق المكلفين في حفر النفق.
 
•        متى بدأ عملكم الفعلي بحفر النفق داخل سجن الحلة المركزي؟
•        بدأت عملية حفر النفق فى أوائل تموز من العام 1967 , وكان عملنا بشكل يومي وعلى مدى ساعتين فى اليوم بسبب شدة الحر وخلو الهواء من الأوكسجين وضيق التنفس  تحت الأرض ، ومن اهم الصعوبات والمعوقات التي واجهتنا هي كيفية تسريب وإخفاء التراب ، وقد استخدمنا أكياس السكر أو الطحين لتكديس التراب فيها حتى امتلاء محيط الغرفة بأكياس التراب ، وكان العمل يجري بشكل منتظم والتزامات صارمة وسرية تامة ، وتفانٍ لأنجاز المهمة.
 
•        هل هنالك اتصال بين منظمة السجن ومنظمة الحلة وقيادة الحزب لتقديم المساعدة على الهروب؟
•        كان حسين سلطان علي صلة وثيقة  بالتنظيم الحزبي خارج السجن , كانت  تلك الصلات والمراسلات بينه وبين قياده الحزب حول هذآ الموضوع ، كانت محلية بابل على علم مسبق بعملية الهروب ، وقد هيأت المستلزمات الكاملة لإنجاحه ، فقد أرسل حسين سلطان صبي للحزب عن طريق أحد الرفاق رسالة يطلب فيها تهيئة المستلزمات اللازمة لإنجاح العملية ، وتهيئة السبل الكفيلة بإخفاء الهاربين ، ولكن حدوث الانشقاق الكبير وخروج جماعة القيادة المركزية عن الحزب ، ادي لحدوث خلافات بين  المعتقلين المشاركين بالعملية . عند زياره الرفيقة آبلة الشيخ الى السجن لمواجهة أخيها عزيز الشيخ وطلبت اللقاء بحسين سلطان ، أكدت على أن منظمة الحلة للحزب لا يستطيعون إيواء الهاربين من السجن في المدن بل توجد إمكانية لإيوائهم في الريف ، كما أكدت على إمكانية المساعدة المادية في المواجهة الثانية.
 
•        بأية وسائل تم حفر النفق وكيف بدأتم؟

•        تم حفر النفق بأدوات بسيطة وبدائية حصلنا عليها من خلال عملنا في السجن ، منها  ملاعق و قلم حديد و فأس صغير .
 
•        كم كان طول النفق ، وهل هنالك من الرفاق من ساعدكم باحتساب مسافة طول النفق  عن  مكان الخروج ، وانا عرفت ان هنالك كان كراج لنقل المسافرين بجانب السجن وكانت النية بالخروج والهروب منه؟
•   كان طول النفق ( 17 )مترا أما الارتفاع ( 70-75 ) سم ، و العمل يجري بشكل منتظم وبالتزامات صارمة وسرية تامة وتفان لانجاز المهمة ، وليس هناك أي تفكير أو نوايا سلبية ، وكانت الروح الرفاقية الشيوعية هي السائدة بيننا , وقد واجهنا مواقف خطيرة كادت تعصف بأحلامنا وآمالنا لكن وحدة الإرادة والتماسك الرفاقي تمكنا من تحقيق الهروب .
 
•        هل توقف العمل في حفر النفق، وهل واجهتكم مشاكل مع الرفاق في السجن؟
•   ظلت روحية التعاون السامية هي السائدة بيننا ، حتى أواخر أيلول من عام 1967 حيث أعلن الانشقاق الكبير والخطير في الحزب , والذي قاده عزيز الحاج أو ما يسمى بالقيادة المركزية ، فكانت الكارثة إذ انقسم الحزب وتمزقت وتشتت تنظيماته وأضعفته أمام العدو، وكان لهذا الانقسام والتمزق انعكاساته المباشرة بطبيعة الحال على السجناء السياسيين في جميع السجون العراقية ومنها نحن في سجن الحلة ، في وقت كان فيه العمل في النفق على وشك نهايته ، وقف السجن على قدميه في نقاشات ساخنة حادة من الصباح حتى ساعات متأخرة من الليل , واحتدمت المناقشات وتحولت إلى صراعات ومشاجرات اتسمت بالعنف في كثير من الأحيان , وبفعل تلك المشاحنات والتوترات العصبية توقف العمل في النفق ، وسادت الفوضى العارمة في السجن , وغابت الروح الرفاقية , و إزاء هذه الفوضى العارمة وحالة الانفعالات والتوترات العصبية ، اتخذت المنظمة الحزبية بقيادة حسين سلطان قرارا بإجراء استفتاء عام لكل السجناء , وتحديد موقف كل منهم بحرية وقناعة تامة في أن يكون الرفيق مع الحزب ولجنته المركزية أو مع المنشقين ، وكان قرارالاستفتاء من قيادة المنظمة قد وضع حدا للصراعات والمهاترات ، وعاد الهدوء إلى السجن بعد أن انقسمت المنظمة الحزبية الواحدة إلى منظمتين ، وعلى النحو التالي: منظمة الحزب اللجنة المركزية (حسين سلطان ، لطيف حسن الحمامي، عبد الأمير سعيد، جميل منير - حميد غني جعفر) أما المنظمة التي تمثل القيادة المركزية "المنشقين" فهي (الشاعر مظفر النواب، حسين ياسين، حافظ رسن) وبسبب وقوفي مع الحزب مما  أثار غضب واستياء المجموعه ضدي ، حتى بذل حسين ياسين عدة محاولات لإقناعي بالانضمام إليهم فرفضت , ولذلك حاول المنشقون إبعادي عن عملية الهروب بأي طريقة . وبعد عودة الهدوء واستتباب أوضاع السجن ، جرى الاتفاق بين منظمة الحزب والمنشقين على العودة إلى العمل في النفق وانجاز ما تبقى منه وكان المتبقي بحدود ثلاثة أمتار , وكان ذالك في أوائل تشرين الأول عام 1967.
 
•   من خلال صغر مكان العمل فى النفق تتكدس كمية كبيره من التراب ، كيف يتم التخلص منها ، وما هي المشاكل التي واجهتكم أثناء حفر النفق؟
•   هنالك عقبات ومعوقات كبيره  ومنها هو كيفيه التخلص من التراب المستخرج من النفق , فالغرفة صغيرة لا تستوعب كميات التراب ، لأن الضلع من جهة اليسار فيه فوهة النفق والضلع الثاني هو باب الصيدلية الرئيسي ومنها الدخول والخروج بقي ضلعان فقط احدهما امتلأ بالتراب حتى السقف أما الضلع الآخر من جهة اليمين فقد صنعنا له صندوق كبير من الخشب و الفايبر، وكدسنا فيه التراب وظلت هذه المشكلة تواجهنا فترة حفر النفق ، وطرحت على حافظ رسن الذي كان على اتصال يومي بحسين سلطان ليزوده بتقرير شفهي عن آخر التطورات وما يواجه العاملين بالنفق من معوقات ، وتم التنسيق  بينهما والاتفاق على الطلب من إدارة السجن ومن خلال ممثل السجناء على جلب ثلاثة أحمال من التراب لاستعمالها في تحصين سقف كابينة المقهى والمكوى لقرب حلول موسم الشتاء , وكان ذالك لغرض التمويه على إدارة السجن والتخلص من التراب , وقمنا فعلا بجلب التراب أنا وكمال وفاضل إلى المقهى في وضح النهار ، وبعد أن خلد الجميع إلى النوم ، قمنا بنقل التراب من النفق إلى المقهى بترتيب خفارة ليلية فاضل وعقيل ساعة وحسين ياسين وجدو ساعة أخرى ، لكن معضلة التراب ظلت قائمة فقمنا بملء العلب الفارغة من التايد أو الحليب ورميها في حاويات الأوساخ لينقلها المنظفون صباح كل يوم خارج السجن في الأماكن المخصصة للقمامة . وكانت وحدة الإرادة والعمل الجماعي والروح الرفاقية والتفاني ونكران الذات، كفيلة بتذليل كل الصعاب والمعوقات , وكنا نتدارس سبل معالجة تلك المعوقات ونطرحها على حافظ رسن وبدوره ينقلها إلى حسين سلطان ، وكنت أشاهدهما يلتقيان يوميا  ويأخذان الساحة ذهاباً وإياباً ليناقشا الأمور ليجدان الحل الملائم لها ، بهذه الروحية المتفانية كان يجري العمل حتى أواخر أيلول من العام 1967 , وبحدوث الانشقاق غابت الروح الرفاقية وتغلبت الأنانية وحب الذات كما أوضحنا،  لكن العمل هذه المرة لم يكن بذات الروحية الشيوعية التي كنا قد بدأنا بها قبل الانشقاق فقد تغيرت تماماً وتناسى العاملين للأسف شيوعيتهم وباتت النزعات الأنانية وحب الذات والتعامل بروحية - الند للند - وتعرضت للكثير من الضغوطات والمضايقات بهدف إبعادي عن عمل حفر النفق , وتضجرت من ذلك حتى أخبرت الرفيق حسين سلطان مسؤول المنظمة بالأمر ، فأشار علي بضرورة التحلي بالصبر وأني في مهمة حزبية ويجب مواصلة العمل سيما وأنه أوشك على نهايته ، والتزمت برأي حسين سلطان و واصلت العمل ، لقد كانت قيادة أبو علي للمنظمة تتسم بالضبط الحديدي والدقة في تنفيذ لكل مهمات الحزب وتوجيهاته , وكان يحظى بتقدير واحترام كل السجناء.
 
•        هل تم تفتيش قاعات السجن من إدارة السجن كروتين دوري ، أم بسبب علاقاتكم الطيبة مع إدارة السجن كانت تبتعد عن أهمية التفتيش للقاعات؟
•   ذات يوم شديد الحرارة فوجئنا  بزيارة مدير السجون العامة ، وبعد لقاء لجنة التنظيم معه ، وطرح مطالب السجناء إليه , رفض تلك المطالب وقام بجولة يستطلع فيها أوضاع السجن ، و بصحبه مدير السجن والمأمور وعدد من الحراس ، وعلى غير العادة المتبعة لم يرافقه ممثل السجناء ، و ابتدأ جولته من القلعة الوسطى ثم جاء إلى القلعة الجديدة واتجه إلى الممر الذي تقع فيه غرفة النفق ، وكنا نراقب بقلق شديد ما سيحدث خشية أن يطلب فتح باب الصيدلية فتقع الكارثة وتضيع كل الجهود وتتبدد الآمال في الالتحاق بالحزب ، كانت لحظات من الفزع والخوف ، وما إن لمست يداه القفل على الباب ، حتى كدت اصرخ , لكني تماسكت وكان بجانبي فاضل الذي كان بصراحة أكثر تماسكاً مني ، وسأل المدير مرافقيه عن الغرفة، فأجابه احدهم إنها غرفة تواليت مهجورة فرفع المدير يديه عن القفل وعاد من حيث أتى فكانت فرحة لا توصف غمرت الجميع وكأننا كنا في حالة اشتباك مع العدو وتحقق لنا نصرا عظيما ، ومن فرط فرحتي ناديت السجناء المتواجدين في الساحة وقلت : تعالوا اشربوا الشاي على حسابي، ولم يدرك السجناء سر فرحتي .
 
•        هل تستطيع أن تحدد بالضبط الفترة التي استغرق فيها حفر النفق؟
•   انتهى العمل في حفر النفق في نهاية تشرين الأول عام 1967 واستمر العمل لمدة (58) يوماً ، علماً تقديرات  السلطة كانت بعد هروبنا واكتشاف آمر النفق بـ(9) أشهر وأن يكون العمل ليل نهار لإتمام الحفر.
•        متى تم الانتهاء من حفر النفق ، وكيف تم الاتفاق على الهروب؟
•   في نهاية في نهاية تشرين الأول عام 1967 إنتهى العمل فى إكمال و  حفر النفق وفى زياره أخي حسين للسجن قبل هروبي بعشرين يوماً طلبت منه أن يجلب لي بعض الحاجيات الضرورية (دشداشة وسترة وحذاء رياضة) مما أثار استغرابه بشكل واضح وقال :
أنت بالبيت متلبس دشداشة ... . شلك بيه ... ولك شغلة الدشداشة مو خالية ....
فأجبته على الفور: مو الدشداشة أروح من البجامة والحذاء أريده للرياضة الصباحية ....
   ولم يكن مقتنعاً بما قلته له ، لكنه قد لبى كل طلباتي ، والحقيقة كانت هذه الطلبات باتفاق مع حسين سلطان ، لأني كنت قد أخبرت أبو علي بأني لا اعرف احياء الحلة ولا شوارعها , ولم  أراها من قبل , فأين أتوجه عند الهروب ، فقال لي حسين سلطان :
  لا عليك سأكون بانتظارك عند الخروج في باب الكراج لأصطحبك معي إلى الريف ، ولذا كانت الدشداشة والسترة هي المناسبة لوضع الريف ، وفي هذه الفترة كنا قد بلغنا بالعمل في النفق نهاياته ، فقد أصبحنا على مقربة من الكراج الملاصق لسياج السجن الرئيسي ، بعد أن تركنا مقدار طابوقتين أو ثلاثة وهي الفوهة التي تتسع لعبور شخص ، وتوقف العمل لحين ورود إيعاز من الحزب .
 
•        هل كان هنالك تنسيق مع منظمة الحلة لترتيب مستلزمات عملية الهروب؟

•   كانت منظمتنا الحزبية على اتصال دائم مع منظمة الحلة - محلية الحلة - وكان من المتفق عليه بين منظمة السجن والمحلية، بأن تقوم المحلية بتهيئة المستلزمات الضرورية لتسهيل عملية الهروب , ومنها تهيئة سيارات من داخل الكراج لنقلنا إلى مكان يختاره الحزب , ولم يكن لنا علم بهذا المكان ، ولكن ووفقاً لما قالته الرفيقة وابلة الشيخ لحسين سلطان من أن الحزب يستطيع إيواء الهاربين في الريف ، ولا يستطيع إيواءهم في المدن ، وعلى أن تكون السيارات بحماية عدد من الرفاق من تنظيم الحلة ، على هذا الأساس توقف العمل ولم يكن هناك أي موعد متفق عليه بين مجموعة العاملين في النفق مع منظمتنا الحزبية  , لكن الذي اتضح إن المنشقين قد استغلوا فترة توقف العمل  ليواصلوا العمل بمفردهم ومن وراء ظهر منظمتنا ودون علمي كشريك في العملية ، إذ قاموا برفع الطابوقتين أو الثلاث ، وقاموا بتغليف النفق بالبطانيات وبسحب سلك كهربائي إلى داخل النفق للإنارة وهذا ما كنا قد اتفقنا عليه مسبقاً ، واتضح لنا هذا الأمر في هذه الليلة الحاسمة ، وعندما أوشك العمل على نهايته حدثت بعض الإشكالات والألتباسات التي توقف العمل بسببها لفترة شهر ، ثم عدنا لأنجاز العملية وقمنا بتغليف ارض النفق والسقف بالبطانيات كي لا يظهر اثر للتراب في ملابسنا - عند الزحف داخل النفق - والخروج من فوهة النفق إلى مرأب السيارات وكانت عملية الهروب في ليلة تاريخية هي ذكرى اليوبيل الفضي لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ليلة 6-7 تشرين ثاني عام 1967.
 
•        هل حدث خلاف بين الرفاق السجناء داخل السجن لكيفية الخروج من السجن إلى الحرية؟
•        هذه الليلة التي أسميناها "بالحاسمة" لأنها كانت مفاجئة لنا ولمنظمتنا الحزبية التي كانت تتهيأ مع كافة السجناء للاحتفال بالذكرى الخمسون لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى التي اعتاد السجناء السياسيون من شيوعيين وتقدميين الاحتفاء بها وتمجيدها كل عام  فهي من التقاليد الثورية ، وفي غمرة الاستعداد للاحتفال بهذه الليلة المجيدة ، لم يدور في خلد أي منا أن يحدث ما حدث في تلك الليلة ، إذ لم يكن هناك أي اتفاق أو موعد محدد مع منظمتنا ، أو بين منظمتنا ومنظمة المنشقين على تنفيذ عملية الهروب ، وكان الجميع بانتظار الإيعاز من الحزب أو محلية الحلة التي كانت تتهيأ لتسهيل عملية الهروب عبر خطة دقيقة ، يمكن من خلالها خروج اكبر عدد من السجناء ، لكن الذي اتضح  أن المنشقين كانوا يخططون بمفردهم وحددوا هذه الليلة للهروب لوحدهم من وراء ظهر منظمتنا ، واستخدموا أساليب ملتوية بهدف إبعاد النظر عما يخططون ، إذ جاء صباح يوم 6 / 11 حافظ رسن لحسين سلطان وابلغه بأنهم "المنشقين" سيعقدون اجتماع لهم في القاعة الكبيرة رقم (7) المحاذية لغرفة الصيدلية ، فأجابه أبو علي أنه أمر يخصكم ، وبعد سويعات من صباح ذالك اليوم جاء مظفر النواب ليطلب من أبو علي أيضاً الأسماء المستعارة للرفاق الذين تقرر هروبهم لتثبيتها في هوياتهم على أن يأتي صباح اليوم التالي لاستلامها ، بهذه الأساليب الملتوية حاولوا إبعاد النظر.
 
•        كيف عرفتم بأن المنشقين يحاولون استغلال النفق للهروب بدون علمكم؟
•        قبل ساعة من تنفيذهم للعملية ، افتضح أمر المنشقين عن الحزب (القيادة المركزية)، حيث كنت أقف في الكشك لمزاولة عملي لبيع المشروبات الغازية عصر ذلك اليوم السادس من تشرين ثاني ، شاهدت عناصر من المنشقين - من القلعة القديمة - وهم يدخلون القلعة الجديدة ويتجهون إلى القاعة رقم (7) المحاذية لغرفة الصيدلية ، ويحمل كل منهم بيده رزمة أأو تسمى بلهجتنا الدارجة (بقجة) من القماش وكان عددهم بين 12-15 شخصاً وفي مقدمتهم حافظ رسن والشاعر مظفر النواب وحسين ياسين وعقيل حبش وفاضل وأخرون ، كما وشاهدت شخصاً يقف في باب القاعة ، وفجأة انقطع التيار الكهربائي لحظات ، ثم عاد مرة أخرى ، هذه المشاهد الثلاث (البقجة - انقطاع التيار الكهربائي - وقوف شخص في باب القاعة) لفتت نظري  وبقيت أراقب هذه الحركات المريبة ، وتبادر إلى ذهني الشك سيما بعد انقطاع التيار الكهربائي ، واتجهت مسرعا إلى حسين سلطان الذي كان هو الآخر ؟ في الساحة يراقب هذا التحرك ، وأخبرته بخطورة الموقف , فقال لي أبو علي محذراً:
   (جدو) هل أنت متأكد مما تقول من هذا الكلام الخطير .
  فقلت له : نعم , وإلا لماذا قطع التيار الكهربائي يقيناً إنهم سحبوا السلك الكهربائي إلى داخل النفق , والبقجة بأيديهم بالتأكيد يخفون فيها ملابسهم التي يخرجون بها ، ثم قال:
   تذكر يا رفيق انك ستكون المسؤول أمام الحزب إذا ظهر خلاف ذالك ,فأجبته على الفور وبقناعة تامة:  نعم أنا المسؤول ، فأشار عليَّ أبو علي بحمل شيش من الحديد كان في الكشك استخدمه لكسر الثلج وتوجهت به إلى باب الصيدلية الرئيسي لكسر القفل , أما حسين سلطان (أبو علي) فقد ظل واقفاً في الساحة أمام الممر وإلى جانبه الرفيقين صاحب الحميري وعبد الأمير سعيد لمراقبة الموقف ، وقبل أن أضع الشيش في القفل ، استرق السمع من خلف الباب للتأكد من الحقيقة فسمعت وقع خطوات بطيئة وحذرة وصوت همس يقول :
   هل الإنارة جيدة ؟ أيقنت ساعتها أن المنشقين يغدرون بنا وناديت من خلف الباب بصوت منخفض على حسين ياسين قائلا له :
   هل هذه هي الأمانة الحزبية التي تربيت عليها ؟ .. الغدر برفاقك , وهنا رفعت القضيب الحديدي (الشيش) لكسر القفل ، وإذا بشخص يحاول أن يجذبني ويأخذ الشيش من يدي و يبدو  انه مكلف من المنشقين بحراسة باب الصيدلية ، وتشابكت الأيدي كل منا يحاول جذب اآخر إليه ، وأخيراً انتصرت عليه بجذب الشيش وطرحته أرضا وقبل أن أسدد له الضربة كان الثلاثة "ابو علي وصاحب الحميري وعبد الأمير سعيد" قد جاءوا مسرعين ومنعوني من ضربه إذ كانوا في الساحة يراقبون الموقف ، وعندما شعر حسين ياسين بافتضاح أمرهم ويبدو أنه سمع أصوات مشاجرتنا فناداني بصوت خفيض ومرتعش من خلف الباب قائلا :
 جدو جدو ...  تعال هنا نتفاهم ، فأجبته :
   ليس لي تفاهم معكم , التفاهم مع الحزب , وكان جوابي هذا إلى حسين ياسين.
 
•        كيف تم الاتفاق مع المنشقين على ساعة الهروب بعد أن ظهرت المشاكل في المنظمة الحزبية؟
•         أوعز حسين سلطان للرفيقين الحميري وسعيد باتخاذ اجراءات احترازية لأن القضية أصبحت مكشوفة أمام السجناء , وطلب منهما الوقوف في باب القلعة ومنع خروج أو دخول أي من السجناء خشية تسريب خبر النفق إلى إدارة السجن ، فتضيع كل الجهود سدى إضافة لما قد يتعرض له السجناء من أذى ، ثم دعاني أبوعلي للذهاب معه إلى القاعة الكبيرة التي يجتمع فيها المنشقون  بعد خروجهم من غرفة النفق ، وكان هناك الشاعر مظفر النواب وحافظ رسن وحسين ياسين وآخرون ، كانت الوجوه متجهمة غاضبة ومرتسمة عليها الانفعالات والتوتر العصبي ، وبدأ الكلام أبو علي وبكل هدوء قائلا:
   رفاق نحن جميعا مناضلون شيوعيون وإذا انقسم الحزب اليوم , فلابد أن يتوحد غداً وتجارب الحزب غنية بهذا الشأن ، وهنا انبرى مظفر النواب مقاطعا بانفعال وعصبية شديدة قائلا :
   لا .... لا .... انتم يمين ورفع يده اليمنى إلى الأعلى  , ونحن اليسار ورفع يده اليسرى , ولا يمكن أن نلتقي أبدا , ولا اقصد هنا الإساءة لشاعرنا الكبير الأستاذ النواب فهو صديق عزيز وأكنَّ له كل التقدير والاحترام فأنا على اتصال وتواصل معه ، وقد أكد هذا الرجل إصالته كمناضل ثوري وما زال يحمل هموم شعبه ووطنه ويعيش قسوة الغربة ، والمهم أن أبو علي قد شعر أن لا جدوى من النقاش بمثل هذا الجو من التوتر والانفعال وليس هناك متسع من الوقت في إطالة الحديث بسبب خطورة الموقف إذ أصبح مكشوفا أمام السجناء ، فاستدرك أبو علي قائلا :
 المهم الآن إن نتفق على كيفية تنظيم عملية الهروب ، فأجابه النواب:
    واحدا منا  وواحد منكم ، فأجابه أبو علي :
   إذا كان هذا رأيكم فلا باس، ولكن يجب أن لا يكون الأول منكم فاستغرب النواب كلام أبو علي واستدرك قائلا :
  من الأول إذن؟ أجابه أبو علي: الأول جدو , مشيرا بيده لي ، فوافق النواب ، لكني في الحقيقة رفضت أن أكون الأول احتراماً وتقديراً لأبو علي كونه أكبر مني سنا ثم أنه عضو لجنة مركزية  وحاجة الحزب إليه اكبر فقلت له:
  لا ... أنت الأول وبعد هذا الحوار الساخن المتوتر ، تم الأتفاق على العشرة الأوائل خمسة منا وخمسة منهم وبالتناوب ، أي واحد منا وواحد منهم ، وبدأنا التهيؤ للأنطلاق، وأعطاني أبو علي مبلغ خمسة دنانير ، وهكذا تم التنفيذ بما اتفق عليه فكان أبو علي قد خرج الأول ثم تبعه النواب ومن بعده (جدو) وهكذا وبعد خروج المجموعة الأولى ، حدث الهرج والمرج والتدافع والتسابق بين السجناء ، حتى علمت إدارة السجن أخيرا من حارس الكراج ، كان الحارس خائف من خروج الأشباح أم الجن من حفرة الكراج ، فصاح بصوت علي شرطي المرور الموجود لتنظيم السير قرب السجن ، وأبلغ شرطي المرور حرس السجن عن عملية الهروب . وبذالك حاول المنشقون الإيحاء للرأي العام والشيوعيين العراقيين بأن هذه العملية البطولية هي من انجاز القيادة المركزية - المنشقين - والواقع فإن الذي ساعد المنشقين في تعزيز هذا الانطباع للشارع العام هو عاملين رئيسيين ,  الأول .هو أن تنفيذ الهروب تم بعد وقوع الإنشقاق بحوالي الشهرين ، والثاني. أن غالبية الهاربين كانوا من المنشقين ، وأن رفاق الحزب كانوا قلة إذ لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة ، أما كيف ولماذا كان ذالك ، هذا ما يجهله الشارع والشيوعيين العراقيين الذين غابت عنهما الحقيقة تماماً وعلى مدى أربعة عقود من الزمن بسبب سياسات النظام البوليسي القمعي وإنعدام حرية الصحافة والنشر ، وليس هذا بخافٍ عن شعبنا وقواه الوطنية الذين عانى الأمرين من نار ذلك النظام الفاشي الدموي ولن تسنح فرصة مناسبة لكشف هذه الحقيقة ولذا أرى إنه آن الأوان اليوم لإطلاع الرأي العام والأجيال الجديدة من الشيوعيين العراقيين على إحدى المآثر البطولية للشيوعيين , وما أكثرها في السجل الطويل والمشرق لحزب فهد وسلام عادل الخالدين أبدا.
 
•        هل اتخذتم الاحتياطات اللازمة بعد الهروب من حمل هويات مزورة لتجاوز السيطرات الأمنية ؟
•   بداية تموز من العام 1967 كلفت المنظمة ثلاثة رفاق بمهمة الأشراف على عمل الهويات , ثم تهيئة الإعداد للهويات –المزورة –وسحب الصور للرفاق الذين تقرر هروبهم وهم الشاعر مظفر النواب والمعلم حسين ياسين من أهالي الناصرية وحافظ رسن , لكن الهويات المزورة لم تسلم لأعضاء منظمة الحزب واستفرد بها أعضاء القيادة المركزية .
 
•        هل هربت من السجن مع بقية الرفاق , وبعد خروجك من السجن أين اختفيت , وكيف تم اتصالك بالحزب لغرض العودة للنضال؟
•   خرجت الثالث عبرَّ النفق كما كان متفق عليه من خلال الكراج , وتنسمت عبير الحرية التي حرمت منها لسنوات , واتجهت بخطوات هادءه إلى باب الكراج وكان الحارس جالساً في باب الكراج ، ألقيت عليه التحية , فرد التحية بطيبة , ثم وقفت أمام باب الكراج انظر يمينا وشمالا بحثاً عن حسين سلطان (ابو علي ) كما هو متفق عليه فلم أجده ، وانتابني شعور بالقلق والحيرة لأنني لا اعرف من أين اتجه وأي طريق اسلك ، فأنا لم أرى مدينة الحلة من قبل , وبينما أنا بهذا الحال ، وإذا بعربة تجرها الخيول (ربل ) تتجه نحوي , ودون أي كلام قفزت إلى داخل العربة وجلست على أحد مقاعدها حتى ذهل الحوذي من فعل المفاجئة والتفت بوجهه نحوي متسائلا ؟...ها عمي وين تريد ...أجبته على الفور :
   عمي أريد كراج بغداد , وبعد أن اطمأن قال :
   ممنون عمي ...وأخذت الخيول تجر العربة وهي تركض خببا باتجاه كراج بغداد وعند الوصول إلى الكراج ، أعطيت الحوذي أجرته وترجلت على عجل ، الآن أنا حر طليق في عالم الحرية الرحب وبدأت أحث الخطى وعيناي تبحث عن أشخاص كانوا قبل لحظات معي بين أربعة جدران ، فلربما قد سبقني إلى هذا المكان أبو علي لكني لم أجده أيضا .
 
•        كيف تمكنت من الانتقال من مدينة الحلة إلى بغداد , ومع مَنّ من الرفاق الهاربين من السجن؟
•   كانت السيارات منتشرة وكثيرة ، لكن الركاب قليلون , الأمر الذي يتطلب الأنتظار لوقت طويل ، وهذا ليس في صالحي بهذا الظرف المحرج ، سيما لم يكن معي المال الكافي لاستئجار سيارة لحسابي الخاص ، وبينما أنا بهذه الحيرة والقلق شاهدت مظفر النواب وحسين ياسين وحافظ رسن وفاضل عباس اتجهوا نحوي وهم ينظرون إلى السيارات أيضا ، ثم اتفقنا على استئجار سيارة لحسابنا الخاص , واتفقنا فعلاً مع أحد السواق لنقلنا إلى بغداد الحبيبة , انطلقت السيارة بنا صوب بغداد ، كان مظفر يرتدي الزي العربي العباءة والعقال وتبدو عليه علامات الهيبة والوقار , ونظر مظفر بطرف عينيه الى السائق وبادره بالسؤال
خوية اسمك بالخير ؟
فأجابه السائق: ...اسمي حسين ..وانت حجي شسمك ؟
فأجابه مظفر بدون تردد: ....آني اسمي زاير ثويني ، ثم سأل مظفر السائق مرة أخرى:
خوية أبو علي هل هناك سيطرة تفتيش في الطريق ؟ وقبل أن يجيبه السائق ، شعر مظفر كما يبدو بأن سؤاله ملفت للنظر فاستدرك قائلا : ...خوية أبو علي ...والله عندي هذا خادمك – مشيرا بيده لي لأني أصغرهم سنا – طالب إعدادية وناسي هويته بالبيت ...وأحنا مستعجلين وجايين لبغداد لاستلام جنازة ،أجابه السائق وهو ينظر لي : ...والله يا زاير ثويني اكو تفتيش بالطريق مو ماكو ...بس أنتوا من توصلون السيطرة ...أقروا آية الكرسي وإنشا الله كلشي ماكو ، وشكره مظفر على نصيحته .
ومرَّ الوقت ثقيلا وكان الجميع متوجسون إلى حد كبير لأنهم يعلمون إني الوحيد بينهم بلا هوية وهذا مصدر القلق ولذا كانوا يخشون من أي طارئ قد يفاجئنا ، وأخذت المسافة تقصر شيئاً فشيئاً حتى أصبحت بغداد على مرمى البصر منا ، وعند الساعة العاشرة ليلا وصلنا إلى بغداد وتوقفت السيارة في ساحة المتحف "علاوي الحلة " فاطمأنت نفوسنا وزال الخطر وترجلنا جميعا من السيارة على عجل ، وبينما كنا نهم بالافتراق كل إلى جهته قال لي حسين ياسين :
 تجي ويانة فقلت له ؟....لا أشكرك هذا حدنه وياكم ، وأتجه الأربعة إلى الجهة التي حددوها سلفا ، فيما اتجهت أنا إلى وجهة أخرى , شعرت بفرحة عارمة تغمرني وأنا في الطريق إلى الكاظمية من منطقة علاوي الحلة (مقابل سينما بغداد ) وأنا الآن حرّ طليق وعلى موعد مع حبيبتي مدينة الكاظمية ومع الحزب .
 
•        ماذا كان يجول في خاطرك وأنت حرّ طليق في مدينة الكاظمية ؟
•   وصلت إلى (باب الدروازة ) فتواردت إلى ذهني صور المقاومة البطولية أبان انقلاب الثامن من شباط الأسود عام 1963 وارتسمت أمامي صور احتلالنا لمركز الشرطة والتظاهرات والنداءات التي وجهناها إلى الجماهير التي هبت لمقاومة الانقلابيين الفاشست ، وسلكت الأزقة الضيقة المظلمة خشية السير في الشوارع الرئيسة ودخلت (عكد الكنجلي ) كما يسميه الكاظميون وهو من الأزقة القديمة المظلمة ، وتذكرت عريف الأمن (جاسم عفتة ) عندما مسكني يوما ها هنا أواخر عام 1962 , وكان الوقت ليلا أيضا ،وكنا قد خرجنا للتو من اجتماع حزبي وكنت احمل معي محضر الاجتماع الذي كان من ورق الرايز الشفاف وملفوف على شكل قطعة حلوى ، سارعت حينها وبسرعة غير ملحوظة من أحد إلى وضع المحضر بين إصبعي السبابة والإبهام ورفعت يدي إلى الأعلى ليفتشني العريف جاسم ، ولم يجد أي شيء عندي فانصرف ومعه شرطي الأمن (محمد جواد حساني )حتى دهش الرفيقان الذين كانا معي وقالا أين أخفيت المحضر يا رفيق ؟ وواصلت السير مسرعا وكانت الساعة  الحادية عشر ليلا باتجاه محلة "البحية وأم النومي " حيث كان يسكن أخي  " جعفر " لكني لم اعرف بالضبط أين منزله (كونه مستأجرا ) وذهبت إلى بيت عمه "والد زوجته "وسألته عن بيت جعفر النداف ، وخرج أبو جاسم (عم زوجته )وقد غلب عليه النعاس – كما بدا عليه – فضلا عن كونه كريم العين – ولم يعرفني ، وسألني قائلا:     شتريد منه بهذا الوقت ؟أجبته على الفور:
   أنا نداف وعندي شغل مستعجل وأريد مساعدته غداً في العمل ، واصطحبني الرجل الطيب إلى بيت أخي ، وتحاشيت الكلام معه طيلة مسافة الطريق كي لا ينتبه ويعرفني  من خلال صوتي وبعد ذلك  ينشر الخبر في المنطقة ويفتضح أمري ، ثم أشار بيده إلى زقاق ضيق يقع بيت أخي ، وهنا بادرته وطلبت منه الرجوع لداره وشكرته على صنيعه ومعروفه لأنه كان نائماً وربما سببت له الإزعاج بعد عودته لبيته ، توجهت أنا صوب الباب وطرقته بهدوء ، وخرج أخي فأصابه الذهول وكأنه غير مصدق لما يرى أدخلني البيت بسرعة وهو ينظر إلى الشارع ليطمئن لخلوه من المارة والفضوليين وبعد نيل قسط من الراحة قلت لأخي جعفر: لحسن الحظ أن أولادك جميعهم نائمون فلا تخبرهم بشيء وعليك أن تأخذني حالا إلى بيت أخي حسين ، لأنه يسكن في مدينة الحرية (الدولعي ) بعيداً عن محلتنا (أم النومي ) فاصطحبني جعفر على دراجته الهوائية إلى الدولعي وكانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل , وعند وصولنا فوجئ الجميع أيضاً واستيقظ أخي حسين ثم طلب من جعفر أن يأتي في الصباح الباكر لينقلني إلى بيت عمي في الوشاش لحين عودة حسين من الدوام  حيث كان قد التحق للخدمة العسكرية جندي مكلف بعد إطلاق سراحه من سجن نقرة السلمان ، وفعلا جاء جعفر مبكراً صباح اليوم التالي لينقلني إلى الوشاش وعلى دراجته الهوائية أيضا وهو يحب الحزب لكنه ليس شيوعيا وكان قد شارك في مقاومة انقلاب الثامن من شباط الأسود عام 1963 أما حسين فقد كان رفيقا شيوعيا .
 
•        هل اتصلت بقيادة الحزب للعودة إلى النضال بعد هروبك؟
•   في مساء يوم -7-11-1967 وهو اليوم الثاني للهروب كان أخي حسين قد ابلغ الحزب ، وجاء رفيق من الحزب ليلاً إلى الوشاش ونقلني إلى بيت

255
جدلية المثقف والسياسي العراقي

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    اصبج المواطن العراقي اليوم بدون ثقافة ترشده والمثقف بدون تيار يدعمهُ , والسياسي اعتمد على طائفته وعشيرته ليفوز بالمكاسب الشخصية والمصالح الفئوية , نحن امة مسحورة وفي حالة  غيبوبة اجتماعية , يخيّل إليها أصنام فيها حياة والعصي تتسربل بجلود الحياة , لذلك نحتاج إلى نظرية  اجتماعية تقلب هذه المفاهيم , المبدأ أن السياسي حفيد المثقف وهو ملح المجتمع  ونورهُ ولكن إذا فسد الملح فبماذا يُملَح, وإذا انطفأ السراج فبمن يوقد؟ حتى ينكشف الغطاء عن عين المواطن , وحتى ينطق المثقف فيرتفع الخرس , وحتى يسمع السياسي فيزال الطرش , فتنفتح منافذ العتم ليصبح المجتمع راشد.
  اصبحت جدلية المثقف والسياسي تدور في حلقة مفرغة , لأن الأخير فكره متعلق بالمكاسب والمصالح وتارك مصلحة البلد الأولى , في حين أن المثقف يختبيء في الظلمات مثل الزوايا الميتة في مرايا السيارات , سيأتي زمان يلعن المثقف الخرس بألفاظ لا تقبل التأويل , عندما يصمت عن بث موسيقى الوعي المنعشة , أو يجند كلماته للحاكم في ممارسة حرفة بدون حرفة, الآن وما يمرّ به العراق من  محنة ينبغي على المثقف أن يكون لهٌ الدور المهم في المجتمع.
   لماذا يصمت المثقف , وعندما ينطق بعد خرسه  يهلهل ويصفق على مرأى من الجمهور , ومستعد دوماً أن يصفق للذي فاز بالاستحواذ على المكاسب والمناصب , البلد يغرق في بحر من الدم والفساد الذي نخرَّ كل مؤسسات الدولة , وقد اقتطعت اجزاء من البلد , من الأرض والأفراد , نجد المثقف صامت أخرس والبلد تتربص له عيون الذئاب وريب المنون من قوى الظلام ودول الجوار التي لا ترغب بأن يتعافى بعد حروب وتجويع وحصار دام اكثر من عقدين من الزمن , القوى الظلامية وما تسمى بـ(داعش) أو (دولة الخلافة ) تشحنها الكراهية لتبرمج آلية العنف والعنف المتبادل , لماذا هذا الصمت ؟ هل نحن نعيش في مجتمع أتقن الصمت وممارسة الاحتجاج العام والخفي وفي إجازة مفتوحة إلى يوم يبعثون.
   الديمقراطية التي اتى بها الامريكان بعد عام 2003 تعلن على تقديس الزعماء اكثر من تشهيرهم وفضحهم , لذلك قد وصلنا إلى الكوارث وحالة استعصاء لا تنتهي في العادة إلا بثلاث كوارث : احتياح خارجي وتحلل داخلي يفضي إلى حرب أهلية , أو تخبط إلى أجل غير مسمى في براد مشرحة الموتى , اصبح العراق مشروع لثلاجة الموتى , واتمنى ان لا يتحقق ذلك  فهذا ما ترغب به قوى الظلام ,  لذلك اكتب والقلب يعتصر لما آل إليه العراق , هذه الكلمات موجهة للمثقف والسياسي , لأن هنالك مؤشر خطير يدعو إلى تقسيم العراق حسب الطوائف والقوميات وهو ما يعرف بمشروع بايدن , وقد نادى البعض بذلك والآخر طلب  تشكيل دولة في الشمال وبارك لها أخيراً رئيس وزراء إسرائيل , المخطط كبير وخطير ونحن لا نحرك ساكن للحفاظ على وحدة العراق  وفي غيبوبة تاريخية .
  دائما اسأل نفسي , لماذا توالت علينا الكوارث ؟ هل حقاً نحن شعب واحد ؟ لكن أجد الإجابة أن هنالك جلدٍ جماعي للذات وبصمت , ما وصلنا إليه بسبب انعدام احترام الرأي  والرأي الآخر  الذي اصبح بمرور الزمن يتشبث بالخصام والنزوع إلى الإيذاء بعضاً لبعض و الانفصام العام في شخصية المجتمع .
  انا لي ثقة عالية بأن المثقف الحق هو من صدع  ووقف في وجه القوة بكل اشكالها , يرى ( الصادق النيهوم) في كتابه محنة الثقافة مزورة أنه: (منذ عصر سومر وحتى ظهور الإسلام كانت الثقافة سلاحاً مهمته تجهيل الناس اكثر من تثقيفهم. ولهذا السبب سكتت جميع الثقافات عن قضايا الإنسان وفشلت في تطوير مجتمعات حقيقية محررة من عبادة الأصنام الحية الميتة) . ويقول المثل الانكليزي : (إذا اردت أن تعرف حقيقة الإنسان فاعطه مالاً أو سلطة ) .إن نصف المصيبة  هو ضعف وعي المواطن والانتماء الحقيقي للوطن والمثقف الصامت , ولكن كل المصيبة هي في التحام مثقف مأجور بعجلة السياسة.
   أما سرّ الديمقراطية فيبقى في بذرة المعارضة , ولا معارضة بدون فكر , ولا استقلالية في التفكير بدون حرية التعبير . إذا كانت  ثقافتنا صدق وعدل , وأن الخطأ لا يقاربنا , و الوهم لا يتخللنا , فلماذا نفشل في الالتحام بمركبة الفضاء الحضارية ؟
  يصنف المثقفون اليوم إلى ثلاثة اصناف : المثقف الوهمي أو الكاذب , والمثقف المهاجر , والمثقف الحقيقي . الأول فيلسوف السلطة والمشترى بثمن بخس,  والهدف أن يستخدم سلاحاً لتجهيل المجتمع أكثر من توعيتهم , وهذا ما نشاهده اليوم عبر وسائل الاعلام والقنوات الفضائية . لكن حرفة الثقافة اجدها مليئة بالتحدي وغير مريحة عموماً , فالمفكرون في العادة فقراء مفلسون وهم يتعاملون مع أخطر الكائنات (الكلمة) التي اخترعها البشر, والثقافة هي رسالة ومسؤولية .
  أما المثقف المهاجر الذي هاجر في العقود السابقة بسبب واقع السلطة الغاشمة , والوطن اصبح ليس فيه مكان للمواطنة , وقد تقوقع في شرنقة يجتّر فيها افكاره ضمن جدار سميك من العزلة لتحفظ عليه حياته وكرامته , أما المثقف الحقيقي  المهدد بالتصفية من جهات مختلفة ومتعددة , المهدد بالتشويه والاغتيال بطريقتين , أما اغتيال افكاره في لعبة الصراع الفكري حتى لا تنتقل عدوى افكاره ومشاريعه التحررية  إلى المواطنين , أو تصفيته واغتياله جسدياً . لذلك نجد أن اصلاح المجتمع يتم  بتغيير ذاتي يبدأ من الأفراد ثم المجتمع , وهذا منالنا كي يصبح السياسي حفيد المثقف وتلميذه البار لا العكس , فمن خلال ممارسة المثقف  دوره في التوعية من خلال استخدام  كافة السبل والوسائل لنشر الثقافة الواعية لرفع المستوى الثقافي للمجتمع .
   

256
المفكر كريم مروة و .. أفكاره حول تحديث المشروع الاشتراكي

نبيل عبد الأمير الربيعي
  يحاول المفكر كريم مروة تقديم بعض أفكاره حول تحديث المشروع الاشتراكي    ، وهو ينطلق من تجربته الطويلة والغنية فى الحركة الاشتراكية    العربية، وهو ما يراه دروسا ضرورية في اليسار العربي المعاصر.  ويدخل في سجال مع الأفكار القديمة التي سادت بإسم الماركسية، مستشهدا بنصوص بالغة الدلالة في كتابات ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين.
الكتاب صادر دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع عام 2013 يحتوي على 224 صفحة من الحجم المتوسط، أما محتوياته فيتضمن الكتاب قسمين، القسم الأول يحتوي على أفكار تحديث المشروع الاشتراكي في زمن الثورات العربية المعاصرة، دروس غنية لم تتعلم منها الأحزاب اليسارية القديمة والجديدة، ثم يدعو المفكر مروة    الوصول كيفيه تحرر وعينا العربي من اسر الماضي ومفاهيمه القديمة   ، ثم يطرح بعض الأفكار حول التحديث والدروس المقدمة للحاضر والمستقبل باسم المشروع الاشتراكي.  أما القسم الثاني فتضمن دروس وذكريات في ثورة المجر عام 1956 وكوريا وروسيا وكوبا، وبعض الانطباعات السريعة عنها من قبل اليسار العربي، ثم يختم الكتاب بذكريات المناضل الاشتراكي بول لافارغ مع ماركس وانجلز، فقد وضعها المفكر مروة لأهميتها    وارتباطها بموضوع الكتاب.
  بسبب انهيار التجربة الاشتراكية كتب الكثير عنها ولأكثر من كاتب من اليسار واليمين، فقد مضى البرنامج المفضل البرنامج المفضل البرنامج المفضل البرنامج المفضل أكثر    من عقدين ونيف علي الانهيار لذلك الزلزال اثر بشكل كبير علي مجمل الأحزاب الاشتراكية فى آلذي آلعآلم العربي والغربي، تعتبر هذه التجربة للبناء الاشتراكي لا بد من التوقف عن أسباب انهيارها بالشكل السريع وأخذ الدروس والعبر، وقد ص 13 "قصرت، وما تزال مقصرة، فى استخلاص الدروس الغنية التي قدمتها والعبر لها التجربة الاشتراكية بفعل إنهيارها. فهي ما تزال في معظمها غارقة في أزماتها، تعيش على هامش الأحداث الجارية، فاقدة البوصلة التي كانت تتمثل بالفكر الماركسي. وهو فكر عظيم ومآ يزال فكرا عظيما بمنهجه المادي الجدلي، حتى وأن كان الكثير من مفاهيمه تحتاج إلى إعادة نظر ".     
   الخلل الذي قاد التجربة الاشتراكية إلى الانهيار، تضعنا أمام مهمة تاريخية شبيهة في أمور عديدة، قد حان والوقت لأحزابنا    ميسور تتحمل مسؤوليتها فى هذآ الخضم الهائل من التحولات التي تشكل الثورات العربية المعاصرة    آحد أبرز تجلياتها، لذلك    ص 15 "يتصل الأمر الأول بضرورة قراءة التجربة لمعرفة عناصر الخلل التي قادتها إلى الانهيار وقادت أحزابنا إلى الوقوع في أزماتها الراهنة "، من الضروري تحديث المشروع الاشتراكى وفق المعطيات السابقة والتجارب للمعسكر الاشتراكى    فى الوقت الحالي يعتبر البرنامج المفضل البرنامج المفضل البرنامج المفضل البرنامج المفضل أكثر من ضرورة من أجل التجديد، فالعصر هو عصر التجديد والتغيير وهذه مهمه الشباب اليساري    من أجل مستقبلهم ومستقبل بلدانهم، فقد حان الوقت ص 18 "بالنضال على جميع الجبهات والأدوات المختلفة، ضد الذات في الدرجة الأولى، وضد كل ما يمكن أن يأتينا من خارج معرفتنا ومن خارج إرادتنا، ومن خارج حدود بلداننا. والتحرر المقصود هنا هو التحرر من سلطة الماضي، ومن سيطرته على الوعي والمشاعر والأفكار والقيم والبرامج، وكل ما يتصل بشؤون الحياة ".
  يؤكد المفكر كارل    ماركس فى رساله تحليلية فى كتابه "الثامن عشر من برومير، لويس بونابرت" (إن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يواجهونها. وهي معطاة ومنقولة لهم من الماضي)، كما يؤكد فلاديمير لينين بمقاله بعض خصائص تطور الماركسية في روسيا "في 23 آب 1910" كان إنجلز    يقول فى معرض الحديث عن نفسه وعن صديقه ماركس آن مذهبهما ليس مذهبا جامدا، بل هو مرشد للعمل.  إن هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخاذة هذا المظهر في الماركسية الذي يغيب عن البال في الكثير من الأحيان "، كان السبب فى هزيمة أليسار العربي    هو رواسب التخلف والأعاقات الذاتية والموضوعية الداخليه والخارجية، مع العلم آن العقل العربي    مؤهل للإبداع والتنوير    والإفادة من منجزات الشعوب الأخرى، لكن الشعوب العربية هي أسيرة لتاريخها وهذا التاريخ مسيطر عليها ومتحكم بوعيها وحركتها للتقدم، مع العلم ص 24 "أن ماركس كان يدافع عن أفكاره ومفاهيمه في زمانه، فإنه كان ينصح رفاقه دائما بعدم تقديس الأفكار والمفاهيم وتحويلها إلى عقائد جامدة.  وكان استنادا إلى فهمه لحركة التاريخ دائم الاستشراف للمستقبل ".
    لقد وضع ماركس مفاهيمه الاشتراكية صفة الاشتراكية العلمية بدل الاشتراكية الطوباوية، لكن التحريفية فى   الحركة الاشتراكية تشبه التكفير آلذي ما آل إليه التعصب الديني ومواجهة أهل الفكر من التنويريين آلذي يحاولون تحرير الدين من سلطات بعض المؤسسات والأحزاب والحركات الدينية، لذلك    فإن فكر ماركس كان يقوم أساسا ص 27 "على النقد بكل معانيه، نقد الواقع ونقد الأفكار ونقد المفاهيم".
   أن الحتمية التاريخية تفترن بالوعي الذي يرافق نهوض القوى الجديدة، بعيدا عن البعض يعتقد آلذي ميسور حركه التاريخ    حركه عفوية، لكن ماركس يؤكد على الحتمية التاريخية في تسلسلها الزمني والانتقال الطبيعي للمراحل والتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية    ، فالحتمية وفق منهج ماركس المادي الجدلي، هي حتمية مشروطة يتلازم فيها الوعي مع الإرادة مع نضوج الظروف الموضوعية للتغيير، والتغيير هو الثورة التي تحدد وفق شروط بسبب التراكم الكمي للنضال، من الوعي والإرادة، مما تحدث قفزة نوعية نحو التغيير.
    يؤكد المفكر    كريم مروة    بما أشار ماركس الوصول العوامل المادية باعتبارها المحرك الرئيسى للتطور ص 32 "ماركس تأكيد علي ميسور العوامل المادية    هى المحرك الرئيسى، وأن حمودي الصراع الطبقي هو الشكل الملموس آلذي يتجسد فيه دور مضت هذه العوامل المادية والذي جعل ماركس يحدد اربع تشكيلات اقتصادية اجتماعية قبل الشيوعية   مرت بها البشريه منذ فجر التاريخ .... وإن الطبقات التي حددها ماركس ورسم صورتها وحدد شكل تطورها في كتابه لم تعد هي ذاتها اليوم، بعد كل ما شهدته البشرية من تطورات كبرى وتحولات في عملية الإنتاج وفي وسائلها وأدواتها ... الا ميسور ذلك    لا يعني ميسور حمودي حمودي حمودي hammoudi الصراع الطبقي    قد زال    اقتراحات للإنتهى    ، فهو صراع ابدي ولا يمكن أن يزول ".  وقد استشهد مروة بما كتبه بليخانوف عام 1918 من وصايا يقول بليخانوف ص 35 "أنا الآن، كماركسي - ديالكتيكي، سأسمح لنفسي لبعض الوقت    ميسور أكون ناقدا لماركس، ومن دون أن أتخلى عن أو أتبرأ من أي شيء كتبته في الماضي، سأفضح عن (حماقة) لا تغتفر من وجهة نظر البلاشفة ... أنا اعتقد ميسور ديكتاتورية    الطبقة العاملة بمفهوم ماركس لن تتحقق ابدا - لا الأن ولا فى    المستقبل " .
      إن ديكتاتورية البروليتاريا، التي وصفها بأنها ديمقراطية الأكثرية ماركس    ص 47 "لم تكن في آخر قراءاتي لها منذ نصف قرن، لا في الشكل ولا في الجوهر، في صالح التطور الذي جرى التنظير له على أنه الأساسي من الأفكار ... فإن هذه المقولة قد أسهمت ... في خلق نمط من الاستبداد نقيضا، في المبدأ وفي التفاصيل، للاشتراكية ولفكر ماركس بالذات. وهو الاستبداد الذي ساد في الدولة وفي المجتمع في بلدان التجربة، وفي حياة الأحزاب الشيوعية ".  هكذا عندما انتصرت ثورة اوكتوبر، تم الحديث عن دكتاتورية البروليتاريا.  وظل يتراكم هذا الخطأ التاريخي إلى أن قاد التجربة إلى نهايتها الكارثية، فكان الحزب الشيوعي السوفيتي يعتبر رديف لدكتاتورية البروليتاريا    وهو تعبير مناقض للحياة    ، فلا بد من تحولات جديدة لتطور الوعي والإسهام في الإبداع وصيغ جديدة للأحزاب المناضلة من أجل التغيير، وهذا لا يمكن إلا إذا تصدى لها    ديمقراطيون حقيقيون داخل الحركة الاشتراكية، لذلك علينا أن نعيد النظر بتجارب الأحزاب الشيوعية وفق التطور والديالكتيك ومقولة ماركس "ليس إدراك الناس، هو الذي يعين معيشتهم، بل على العكس من ذلك، إن معيشتهم الاجتماعية، هي التي تعين إدراكهم ...".
   إن ماركسية ماركس هي فلسفة وعلم للتغيير وفق منهجها الأساسي المادي الجدلي الذي يشكل قاعدة التحليل    ، فالنصوص القديمة تشيخ وتموت وتولد دائما بديل جديد منها حركه لا حصر لها    ولا نهايه    ، لأنه يحمل في ثناياه منطق متجدد بسبب الاكتشافات العلمية المتطورة.  لذلك علينا إزالة طابع القدسية والديمومية عن المفاهيم والمقولات التي تجعل منها قيما مطلقة بمستوى البديهيات والمسلمات ذات الطابع الديني، لذلك يؤكد مروة ص 48 "لا أرى سبيلا لتحقيق المشروع الذي أدعو إليه إلا بالسياسية، فهي طريقي الواقعي والعملي إلى التغيير الذي أنشده بإسم الاشتراكية ... إلا أن اشتداد القمع، من طرف السلطات الحاكمة، من شأنه أن يؤدي إلى ضعف السياسة وضعف السياسة يعني حصرها في مكان واحد وفي اتجاه واحد لذلك. نشهد على الدوام، لدى السلطات القائمة المنبثقة من أنظمة إستبدادية بصيغها المختلفة، نزوعا في أحد اتجاهين: الإتجاه الأول، ينزع إلى إلغاء الأحزاب والمؤسسات، التي تعبر عن التعدد في المصالح والأفكار ... الاتجاه الثاني، ينزع إلى تشجيع وإحياء أنماط جديدة من الفاشية المقنعة التي تعمم قيما ومفاهيم جديدة من نوع ما بدأت تنتجه عولمة الرأسمال .... إن كل ذلك يدعوني إلى التأكيد بأن الحزب الواحد الذي ساد في التجربة الاشتراكية المنهارة كان خاطئا في المبدأ وفي الشكل وفي الجوهر ".   
  من خلال متابعه الكاتب كريم مروة والمفكر لواقع الثورات العربية بالربيع العربي ومآ يسمى   وقراءته لهذه الثورات، يتساءل عما بواقعية تمكنت مضت مضت مضت مضت هذه الثورات من تحقيقه وسبب الثورات بسبب التراكمات للنضال من أجل الحقيقة وكيفية تحصينها ومآ حققته من انجازات    يؤكد ص 54 "تحصين هذه الانجازات من ثلاث أخطار، خطر المبالغة في تقديرها وتقييمها، وخطر الشعوبية التي ما تزال تستولي علي عقول بعض المشاركين فيها من الشباب، وخطر القوى السلفية التي تستقوي بالمشاعر الدينية للاستيلاء عليها "، لكن الثورات التي حصلت في اليمن وتونس والمغرب، وسوريا على الطريق، فقد سقطت بفعل الثورة رموز الاستبداد وهي رموز لم يكن بمستطاع أحد أن يتصور سقوطها، ولو بثمن باهظ ص 55 "حصل هذآ الانجاز الكبير بفعل الإرادة الشجاعة للجماهير التي خرجت الوصول الشارع ولم تغادره الا بعد ميسور تحقق من إنجازات المرحلة الأولى من الاساس الثورة ... المرحلة التي تمثلت بإسقاط حكم الاخوان المسلمين الذين استولوا علي الثورة بسبب الخطأ آلذي وقع فيه شباب الثورة، ودفعوا ثمنه وسيدفعون مزيدا من العنف في المرحلة المقبلة لتحقيق عملية إسقاط حكم الأخوان "وبالفعل سقط حكم الأخوان بإرادة الجماهير المحبة للسلام والتغيير، لكن على الثورات أن تكون لها قائد تاريخي يحدد المهمات بواقعية حسب الضرورة والإمكان مجتمعين، إضافة إلى سلمية الثورة كي لا تقدم التضحيات البشرية والمادية ، وضرورة ميسور تكون الأحزاب حاملة مشاريع التغيير لها الدور القيادي فى قيادتها وفى تحديد برنامجها ومسارها.                 
   مع كل ما حدث من تغيير فى رموز الدكتاتورية فى    الاقطار العربية التي غيرت مضت مضت مضت مضت هذه الرموز يؤكد مروة   ص 58 "لكنني لا أخفي قلقي من ضعف الأحزاب في قيادة الثورة، لا سيما أحزاب اليسار، وقلقي من دور الحركات التكفيرية حتى وهي تتراجع، ودور الخارج باتجاهاته المختلفة، وما يبدو من مؤيدا للثورة، وما يبدو منه معارضا لها، وقلقي من الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي لن تستطيع السلطة التي أنتجتها الثورة أن تقدم لها حلولا سريعة "، يؤكد ضرورة الحفاظ علي لذلك مروة علي الثورات العربية السلمية    المعاصرة ويقترح جملة امور مهمه    لقوى أليسار العربي منها ص 62 "إنني أقترح القضايا التالية كمحاور يتشكل منها برنامج قوى اليسار وسائر قوى التغيير. وهي قضايا أعتقد أن بإمكانها أن تمثل من حيث المبدأ قاسما مشتركا بين مكونات اليسار داخل كل بلد عربي، بتنويعاتها المختلفة، مضافة إليها قوى آخرى ذات مرجعيات    مختلفه تتلاقى اقتراحات للتسعى لان تتلاقى    ، فى ما بينها حول المصلحة المشتركة    فى أحداث ووووالتغيير   فى بلداننا "، وقد أكد    المفكر مروة علي مجموعة    قضايا    مهمه منها   القضية المتصلة ببناء الدولة    التي يفترض ميسور ينص دستورها علي الفصل بين سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافة إلى ما يتعلق بالمجتمع المدني ومؤسساته المختلفة، أن المجتمع المدني البديل من المجتمع الأهلي، لان المجتمع الأهلي    يمثل القبائل والعائلات والتيارات الدينية فيما يمثل المجتمع المدني توزيع المواطنون مدنيا بين أحزاب ومؤسسات وجمعيات اجتماعية وثقافية    ، ونقابات عمال ومهن حرة وأرباب عمل.  اضافه الوصول القضية التي تتعلق بالمسألة الوطنيه    من الإستقلال والسيادة الوطنيه    ، ومنع أي تدخل خارجي في شؤون البلد المعني، أما القضية الأخرى    فيما يتعلق بشروط تحقيق التقدم ووووالإقتصادي لإخراج البلد من التخلف المزمن فى كافة جوانبه    منها الخطط الإقتصادية للتنمية وووو، وقد أكد مروة على الاهتمام بالموارد الطبيعية التي تشكل ثروة البلد بأنواعها    ، وهي مصدر غنى للبلدان العربية    وأساس تقدمها الإقتصادي والاجتماعي، اضافه الوصول أهمية التنمية الإجتماعية وهي التنمية التي تعنى بالبشر وبحياتهم ومعيشتهم ومآ يتعلق بالضمانات الإجتماعية    أهمها الضمان الصحي ووووالسكن وموضوع وأهمية التخلص من الأزمة التي مضت مضت مضت مضت هذه تحول بعض المدافن فى بعض المدن    الوصول    أماكن للسكن، ومن القضايا المهمة الاهتمام بالتعليم والثقافة والمعرفة في فروعها كافة، والاهتمام بالتراث الثقافي والاجتماعي   آلذي يشكل الاساس فى تحديد الهوية للفرد والمجتمع، ويعتبر الشباب والاهتمام بة وتنشئته    تعليميا وتوفير فرص العمل لهم    وتأمين كل الشروط لنشاطهم البدني والترفيهي    ، والسهر على تلبية الحاجات الأساسية التي تسهم في تكوين شخصيتهم .  كما هنالك أمور مهمة قد تطرق لها مروة من جملة القضايا التطرف الديني الذي اتصف بالارهاب بكل معانيه وضرورة الحد منه، كما    من الضروري الاهتمام بالبيئة والمحيط وبكل ما يتصل بالحفاظ علي الحياة   وبحماية الطبيعة ضد محاولات تدميرها، وهنالك آمر مهم    وفى زمن العولمة ما يتعلق بوسائل الإعلام المرئية عامة   منها علي وجه الخصوص، قد اتخذ    فى الكثير من مؤسساته طابعا خطيرا لجهة تشويش الراي العام وتشويه وعيه خدمة للمال الموظف فى مضت مضت مضت مضت هذه الوسائل من قبل المؤسسات الرأسمالية الكبرى وفق ايديولوجية معينة.
   يتطرق المفكر كريم مروة لذكرياته عن ثورة المجر التي كانت متزامنة مع وجوده عام 1956 مع صديقه الشاعر العراقي كاظم السماوي، يذكر كثير من التفاصيل لما جرى من محاكمات لقادة الأحزاب الشيوعية لاوروبا الاشتراكية كلها من قبل القيادة السوفيتية المتمثلة بستالين، قبل وفاته بأعوام قليلة، المجر ورومانيا وبلغاريا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا ص 93 "فحكم على بعض هؤلاء بالإعدام، ونفذت الأحكام فورا وبدون إبطاء. وكان من بين هؤلاء أمين عام الحزب الشيوعي المجري راجك، وعدد من رفاقه. وحكم على بعضهم بالسجن أعواما طويلة، وأودعوا    فى السجن. وأخرج كثير منهم من المواقع التي كانوا يحتلونها من دون أن يدخلوا السجن .... علما بأن ما كان يحصل، في ذلك الوقت، كان فضيعا وفق ما أشارت إليه الوقائع اللاحقة ومنها تقرير خروشوف إمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي    آلذي أدان نهج ستالين الاستبدادي بعد ميسور قدم عرضا وافيا للجرائم الكبيره التي ارتكبها بحق رفاقه الشيوعيين قادة ومناضلين، وبحق الشعب السوفياتي بعامة. كان راجك الأمين العام للحزب الشيوعي المجري، الذي أعدمه ستالين، شخصية تاريخية مرموقة في المجر .... كان من بين هؤلاء تيتو، زعيم يوغوسلافيا، الذي اكتفى ستالين بطرده وطرد بلاده من أسرة الدول الاشتراكية، وإخراج إتحاد الشيوعيين اليوغوسلاف من الحركة الشيوعية العالمية ".
   وعند انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (شباط 1956) فقد أدان خروشوف بوضوح سياسة ستالين في كل المجالات، وأدان نهجه الاستبدادي، وكشف عن الجرائم التي كان قد ارتكبها خلال عهده الذي استمر من عام 1924 حتى عام 1953 العام الذي غادر فيه الحياة.  ثم يذكر مروة دعوه    المؤسسة الكوبية للصداقة مع الشعوب لزيارة كوبا والاطلاع علي واقعها السياسى والثقافي    ، ويذكر بالتفصيل عن رحلته والقيادات الثقافية والسياسية الكوبية التي التقى بها، ثم رحلته الوصول موسكو    بعد انهيار الإتحاد السوفياتي    عام 1989 يقدم مروة من خلال الكتاب ذكرياته وإنطباعاته القديمة والحديثة عن الحركة الاشتراكية ومصائرها فى ثلاثه بلدان    اشتراكية، وهي ذكريات تسلط الضوء على الخلل، وتحمل ملامح ما يقلق في تلك التجارب التي حصلت فيها تحولات بدأت مبكرا كما حصل في المجر، وما يزال بعضها متمسكا بأفكاره كما يحصل في كوبا، ويختم الكتاب بمقال    "ذكريات شخصية عن كارل ماركس، ثم ذكرياته عن المناضل الاشتراكي بول لافارغ مع كارل ماركس وفريدريك انجلز.
 


257
ملحمة مجرشة الكرخي ومعانات المرأة العاملة العراقية
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    يتمتع الشاعر   الملا عبود الكرخي بمنزلة مأثورة لدى الشعب العراقي اضافه الوصول مكانته الأدبية فى الشعر الشعبي، وكان شعره لسان الشعب وصوته المدوي   فى قضاياه الوطنيه   من أجل حياة حرة كريمة.
   ولد الشاعر عبود بن الحاج حسين السهيل الكرخي   فى جانب الكرخ من بغداد عام 1861 م ومنه أخذ كنيته التي عرف بها بين الناس، نال قسطا من التعليم في أوائل حياته على أيدي الملالي (الكتاتيب) حيث تعلم فيها القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، كما أرتاد بقدر معين حلقات الدرس التي كانت تعقد حينذاك في مساجد بغداد والكاظمية. فكانت لها الأثر الكبير في الحياة الأدبية والثقافية لما كان يدور فيها من أحاديث وما يلقى فيها من خطب ومحاضرات يشارك فيها كبار رجال الدين.
   كان والده تاجرا واسع الثراء يتاجر بالإبل والجلود بين مختلف بلدان الشرق الأوسط، وقد دفع ولده عبود إلى خوض غمار الحياة العملية وهو ما زال صبيا يافعا لم يكن قد تجاوز بعد الخامسة عشر من عمره، بدأ الشاعر، الملا عبود الكرخي يقرض الشعر وهو ما زال صبيا يرافق قطارات الإبل عبر الصحارى إلى مختلف البلدان، ولقد بدأ نظم الشعر في بداية حياته الشاعرية باللهجة البدوية متأثرا بالمحيط الذي وجد نفسه فيه والناس الذين اتصل بهم ورافقهم ومعظمهم من البدو الرحل.
  عمل أكثر من عشرين عاما في تجارة الإبل، وإن زخم شاعريته الفذة قد تميزت بالاندفاع ووفرة العطاء بعد أن استقر ببغداد بمدة طويلة، حيث مارس الكرخي أعمالا عديدة ومتنوعة وقد شارك مع بعض العراقيين في تأسيس شركة لنقل المسافرين بين أمهات المدن العراقية، وكانت وسائل النقل التي تعتمدها هذه الشركة في أعمالها تقتصر على العربات التي تجرها الخيول. كما مارس الكرخي أعمالا آخرى منها التعهد بتجهيز الطعام ومواد المعيشة واللوازم الأخرى لبعثة ألمانية كانت تعمل فى انشاء   خط حديدي بين بغداد وسامراء، وقد ساعد ذلك على كسب قدر حسن من الاطلاع على اللغة الألمانية، وعند نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 وتورط العراق في معمعتها بحكم كونه جزءا من الإمبراطورية العثمانية حينذاك، وجهت السلطات العسكرية التركية حملة من العراق، عبر إيران للمساهمة في الحرب ضد روسيا القيصرية، كجزء من المجهود الحربي العام. ورافق الكرخي هذه الحملة بصفة مترجم، حيث وقع الشاعر أسيرا بأيدي الجيش القيصري، وعندما أعلنت الثورة العربية في الحجاز على الحكم التركي عام 1916 تمكن الكرخي من الفرار من الأسر، ومن ثم الانحياز إلى جانب الخارجين على الطاعة التركية.
    ارسل الكرخي فى مجال الصحافة   لمدة طويلة تناهز الستة عشر عاما، وخلالها أصدر عدة صحف شقت لأول مرة الطريق أمام الشعر والفكاهة الشعبية ليحتلا مكانا لائقا في دنيا المطبعة والكلمة المطبوعة. لكن كل من يدرس تاريخ الشاعر الكرخي، لا يشك انه قد استجاب دون شك لذلك المد الثوري العارم الذي هب في وجه المحتلين الانكليز، ولا يشك في أن الكرخي قد ساهم فعلا بشعره خلال تلك المرحلة العاصفة في تاريخ العراق. ولقد قيل إن الحاكم العسكري البريطاني في بغداد كان قد دعاه إليه يوما، وطلب منه أن يتعهد بعدم كتابة الأشعار الحماسية، ولكن الكرخي أجاب بكل إباء، مصرا على أن يكون إلى جانب الشعب ومدافعا عن حرية الوطن.
   في عام 1942 مرض الكرخي وأصبح عاجزا عن كتابة الشعر، ثم لزم داره إلا أحيانا قليلة، وبعد أن ألح عليه المرض وضعف قواه توفي في اليوم التاسع من شهر تشرين الثاني عام 1946.
  لقد كتب الكثير عن الملا عبود الكرخي منها ما قال الرصافي "... انتهت الشهرة في الشعر العامي اليوم في العراق إلى حضرة صديقنا الملا عبود الكرخي، الشاعر المطبوع آلذي طالما احدثت   ارتجاجا قصائده الرنانة فى مجامع العامة وابتهاجا فى نفوس الخاصه فى أنحاء القطر كافة، فهو جدير بأن يعد نابغة العراق في الشعر العامي على الإطلاق "، كما أعجب بشعره الصحفي روفائيل بطي فقال" و اعجابي عظيم بأمير الشعر العامي (الملا عبود الكرخي) لأنه شاعر شعبي يتغلغل في طبقات الأمة كلها وهو يكنز في أشعاره ثروة طائلة من أحساس العامة وصور   أفكارها ونظراتها إلى الحياة "، ويصفه ويصف قصائده الأب أنستاس الكرملي مخاطبا إياه" سيدي الأستاذ المحبوب الملا عبود الكرخي   : ... آن كل قصيدة من قصائدك تساوي ديوانا من دواوين   المولدين الذين يكررون معاني من سبقهم ... وامتاز شعرك بحفظ لغة العراق الخاصة به وبآدابه وأخلاقه وارثه ".
   مع هذآ الوصف لشعر الملا عبود الكرخي والإيجابية فى مواقفه الوطنيه هنالك جوانب سلبية فى شعره منها   عدم التفريق بين الملاك بالوصف والاقطاعي والسركال والفلاح فى شعره إنما يدل دلالة واضحة علي انة لم يستطع ميسور يفهم تماما الاسم الاسم التناقض الطبقي الحاد آلذي يتميز بة الريف العراقي، وأنه كان ينظر إلى "مجتمع الزراعة" أو الريف نظرة عامة دون أن يعير الأهمية اللازمة للعلاقات الانتاجية القائمة بين مختلف فئات الريف من اقطاعيين كبار وملاكين صغار وسراكيل وفلاحين أغنياء وفلاحين معدمين بصورة مطلقة.
   من مميزات الشعر عند الكرخي أنه نحا في شعره على وجه العموم منحى التقرب من الفصحى، بل والانغمار في ذلك إلى حد حشر المفردات الفصحى حشرا ضمن إطارات شعره الشعبي وبشكل جعله ينزل بشعره إلى مستويات ركيكة في كثير من الأحيان، يقول الملا عبود الكرخي في قصيدة له بعنوان (الطب العتيق والمدرسة القديمة):
اسمع يا عراقي شعر منه شعور
يتفجر سلس، محبوب للجمهور
سالم من سنير وشبرق وطحلب
وطخات وصحصحان واوقص وسهلب
وتكعكع والنقاخ ومترع وغيهب
وحملاق وفهق والتنخ وديجور
من هذه القصيدة نجد أن الكرخي ينطلق من تقييم شعره من حقيقة أنه ينبذ استعمال العبارات والكلمات الجاهلية القديمة، لكن يتصف شعر الكرخي بثلاث صفات هي (أن شعره يفهمه البدو والحضر، ولكونه من السهل الممتنع وكونه ملمعا بكلمات هندية وفارسية وألمانية وعبرية وروسية أحيانا) لأنه كان ملما بهذه اللغات، لكن هنالك بعض المؤاخذات   علي شعر الكرخي انة خال من الصورة الشعرية الفنيه والتشبيهات الأدبية ذات المستوى الرفيع والاستعارات الجميلة التي تثير فى نفس السامع القارئ الإحساس بالجمال اقتراحات للوالشعور بالمعاناة وذلك بسبب حقيقه كونه لم يبدأ من أدب الفلاحين مثل:
سمعتم ما جرى في معبد السريان
أعني بالكنيسة أيها الأخوان
أو من قبيل:
خطابكم أيها الكيلاني الهمام
مطلقا أثر كل الأنام
   كما هنالك ناحية سلبية أخرى في أشعار الكرخي هي صفة التكرار لا في المعاني فقط، وإنما في الألفاظ والبناء الشعري أيضا، ومنها على سبيل المثال في قصيدته (يا بلد بغداد):
يا أم الخلافة ويا وطن هارون ..... مستنصر مع المستكفي والمأمون
المدارس والمكاتب أهلها يفنون .... تعسا للزمان الصرنه بي معيار
   لقد كرر الكرخي هذين المقطعين بشكل تام تقريبا في اثنين من قصائده أحدهما قصيدة (مكتبة الزهاوي) بقوله:
يا أم الخلافة ويا وطن هارون ..... مستنصر مع المستكفي والمأمون
المدارس والمعاهد أهلها يفنون ..... كومي بسرعة حالا واكسري الأصفاد
  كما من   الناحية الأخرى من الجوانب السلبية فى شعر الكرخي، هجاؤه المقذع البذيء واستعماله   من القول، بداعي الهزل أو أمعانا في الهجاء، مع العلم ميسور الكرخي من ايجابياته انة أسس مدرسة خاصه فى الشعر الشعبي ما تزال تحتل مكانتها   حتي اليوم، ولا ننسى ملحمة المجرشة ومعانات المرأه العاملة العراقية التي عانت من الظلم الجهل المطبق والاستغلال والأضطهاد الإجتماعي والعائلي المزدوج مع العلم انة وقف ضد الدعوة لسفور المرأه   فى ذلك الوقت، إلا أنه دعى لتعلم المرأة وتثقيفها وتسلحها بالعلم والمعرفة   ، ويصور الكرخي حاله   الكدح المضني لعاملة المجرشة والمعاملة القاسية اللاإنسانية   التي تتلقاها من صاحب العمل، وعلى لسان عاملة المجرشة) صب الكرخي جام غضبه على آلة الجرش، من مقاطع القصيدة:
ساعة واكسر المجرشة ............. واشتم أهل كل الوشر
بقران أجرش ساهرة .............. من المغرب لوجه الفجر
ساعة واكسر المجرشة ......... وأضرب على متوني ضرب
وألعن أبو الكير وزف ............. والمجرشة ويده وكطب
استادي على راسي النذل ........... كل ساعة لنة منتصب
ويكول هذي عبدتي ............ من السوك أنا شاريها
فى حين تستمر الأيدي العاملة بالنحول نتيجة التعب والأرهاق وسوء   الظروف المعاشية:
ساعة واكسر المجرشة ........... وانحر على المناوي
ايدي انبرت من هالعمل ............ والجسم مني خاوي
ساعة واكسر المجرشة .......... وألعن أبو كلمن جرش
بالشلب أجرش للفجر ........ وأقبض فلوسي من دبش
لكن كانت ظروف العمل فى ذلك الوقت قاسية جدا وإن اصحاب الجرش  كانوا   كثيرا ما يلجأون الوصول الأعتداء بالضرب علي العاملات لأقل هفوة:
ساعة واكسر المجرشة ......... واسكن بحي الحلة
استادي   المضعوف البخت ......... ظالم. وادنى زله
يلخمني لخمة على حلكي ........... وشفتي يدميها
لقد اشتهرت ملحمة المجرشة في مختلف أنحاء العراق وذاع صيتها كثيرا، حتى أصبحت أبياتها مضرب للأمثال، تقع القصيدة في أربعة وسبعين مقطعا، أو مائة وخمسين بيتا مع مطلعها، وقد ترجمت إلى اللغة الفارسية، فقد كانت تتميز بأسلوبا لغويا لأنها تميل إلى التقرب من الفصحى، كما ميسور سبب نجاحها كانت تميل بلهجتها وكلماتها الوصول لهجة الفلاحين   فى الفرات الاوسط، لكن ما أشيع من لغط بعد وفاة الكرخي أنها لم تكن من نظمه وهذا إجحاف بحق الراحل ملا عبود الكرخي. يذكر الشاعر والناقد زاهد محمد في كتابه (دراسات عن الملا عبود الكرخي) الصادر عام 1971 عن وزارة الاعلام العراقي المركز الفلكلوري -1 - دار الحرية للطباعة ص 180 "إن ناظمها هو المرحوم (ملا ناجي بن جاسم بن جواد) الصائغ الحلي واخر   يقول إنها من نظم ملا نور الحاج شبيب، ويتفق معظم الأشخاص الذين ينسبون القصيدة لهذا اقتراحات للذاك من الشعراء   وعدا الكرخي - على إنها نظمت من قبل أحد شعراء الفرات الأوسط، بينما يشذ على ذلك بعضهم فيقول إنها لشاعرة عمارية "، ثم يعود ويذكر البعض إن" قصيدة المجرشة الاصلية هي للشاعر الكبير السيد علي بن الشاعر الخالد السيد حيدر الحلي، وقد نظمها عام 1920 وهي رواية السيد عبد الحسن بهية الحلي البالغ من العمر 90 عاما (عبد الجبار السامرائي - اضواء على المجرشة - مجلة التراث الشعبي - العدد السادس شباط 1970 ص 112 "لكن يعود الشاعر والناقد زاهد محمد للرد علي مضت هذه الاقاويل والاتهامات فى كتابه المذكور أعلاه ص 181 "إلا أنني بعد أن محصت هذه الآراء، قمت بدراسة المجرشة نفسها، مقارنا إياها بالأتجاه العام لشعر الكرخي، مضيفا إلى ذلك ما يتيسر لدي من معلومات بهذا الخصوص، توصلت إلى رأي قاطع بصحة نسب المجرشة إلى الشاعر الشعبي الكبير، المرحوم الملا عبود الكرخي ، وإنه لا يمكن الطعن بنسبتها إليه ".
  لكن المطرب الراحل محمد القبنجي يؤكد في مجلة الفكاهة العدد 124 في 14 -1-1969 ما يلي "ان المجرشة كرخية، واني لم اسمعها إلا من لسانه، وكل ادعاء يخالف ذلك لا يستند إلى الحق والواقع" والسبب لأن القبنجي قد غناها بصوته وهو المعاصر للكرخي وسمع القصيدة مرارا من فمه، ثم يستطرد القبنجي قائلا: "إن المجرشة نشرت في الصحف العراقية عام 1924 كما صدرت في كراس مستقل، ثم نشرت في فاتحة الجزء الأول من ديوانه المطبوع عام 1933 ولم نسمع أن أحدا أدعاها لنفسه، أو شكك في نسبتها للمرحوم الكرخي "، وأخيرا مهما كان من أمر هذه القصيدة الرائعة، فإن القصيدة من نظم شاعرنا الكبير الملا عبود الكرخي.
مقاطع من القصيدة:
ساعة وأكسر المجرشة وألعن أبو راعيها
ساعة واكسر المجرشة وألعن أبو السواها
إشجم سفينة بالبحر يمشي ابعكسها اهواها
إيصير أظلن ياخلكك متجابلة آنه وياها
كلما يكيرها النذل آني بحيلي ابريها
          .....................
ساعة واكسر المجرشة واكصد أبو الحملة علي
واطلب مرادي وانتحب بلجي همومي تنجلي
نار البكلبي اسعرت يهل المروة وتصطلي
ما شفت واحد ينتخي من اهل الرحم يطفيها
                     .............
ساعة واكسر المجرشة وألعن أبو اليجرش بعد
حظي يهل ودي نزل والجايفه حظها صعد
سلمت أمري واسكتت للي وعدني ابهالوعد
نصبر على الدنيه غصب للحد وانباريها
              .............
ساعة واكسر المجرشه واشغر أنا لسابع سمه
وادعي على الجان السبب أمي وأبوي بالعمه
أم كشره وام بوز الجلب جي يرضه ربي امنعمه
كعدها بأعلى مرتبه وجوخ وزري يجسيها
                 ............
ساعة واكسر المجرشه وألعن أبو راعي الجرش
كعدت ياداده أم البخت خلخالها يدوي ويدش
وآني استادي لو زعل يمعش شعر راسي معش
هم هاي دنيا وتنكضي وحساب أكو تاليها
              . ..............
ساعة واكسر المجرشه والبس لباس التنتنه
جي فوكك درد الله، النذل استادي ضربني بميجنه
بالهيمه عطشان الأسد والهوش معتاش ابهنه
هل مال أبو هدلان للدجله شرب صافيها
             . ..............
ساعة واكسر المجرشه وانحر على النمسا ومجر
هناك أنكر تبع وقحطان والطائي ومضر
ترضه يالمسير سفينة نوح يا رب البشر
عبيات ابو ها اكحيله واحضان الجرد يشبيها
              . ............
ساعة واكسر المجرشه واقسم أنا برب الفلق
ويللي ابطن الحوت ابن متي النبي يونس نطق
كله كتبته بالورق عندي فقط إلا الزلق
ما قيدتها بدفتري اوغيري فلا قاريها
           . ............
ساعة واكسر المجرشة واكطع من الدنيا الأمل
للجرش ما أرجع بعد إلا بابره يخش جمل
كل يوم ناصبلي عزه استادي النغل ما الثول
عقلي انذهل جسمي نحل روحي السكم لافيها
                . .............
ساعة واكسر المجرشة واصعد برجلي للفلك
واوصل السابع سما وبيدي ألزمه للملك
من يوم أمص جمعي، الدهر لاحكك على عمري وكللك
يعبر علي. كل وكت للملعنه يجزيها
              . ..............
ساعة واكسر المجرشه وانحر على أهل الصيره
وانشد على شيوخ العرب أهل الشيم والغيره
يرضى إلهي بالرفاه العبده أم خنفيره
تخدمها حره وكل وكت كاس الصبر تسكيها
              . .............
ساعة واكسر المجرشة وألعن أبو الكيرها
واحركك أبو كل من ابمنشاره وفاسه انجرها
بعناد هالظالم استا دي رويحتي مرمرها
للكفر يا أهل الرحم إبن الزنه يقريها
            . ...............
ساعة واكسر المجرشه وألعن أبو اليكطع مهر
طفله على شايب هرم يفطن على حفر البحر
وصله سختيانه الوجه واللحية تشبه للأبر
الله ما يقبل هالبشع لرويحتي سابيها
           . ...........
المصادر
1 -    عبود الكرخي - ديوان الكرخي بجزأين ط 2 - مطبعة المعارف - بغداد 1956
2 -    علي الخاقاني - فنون الادب الشعبي - الحلقة الرابعة - مطبعة الازهر - بغداد 1962
3 -    زاهد محمد - دراسات عن الملا عبود الكرخي - الصادر عام 1971 عن وزارة الاعلام العراقي المركز الفلكلوري -1 - دار الحرية للطباعة
4 -    عبد الجبار السامرائي - اضواء على المجرشة - مجلة التراث الشعبي - العدد السادس شباط 1970
 




258
أشهر مغنيات بغداد مطلع القرن العشرين
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   الغناء جزء من الحياة وقد بدأ من المعبد مع الطقوس والتراتيل ثم أضيف له فن الرسم والنحت وبمرور الزمن انفصلت هذه الفنون عن المعبد واستقل المعبد عن هذه الفنون عبر العصور، يعتبر الغناء العنصر المكمل للحياة، إذ أمتد عمره بامتداد حياة الإنسان، لذا ترى الغناء العنصر الأول لمجالس الأنس والغبطة، يضفي على المجلس البهجة والانشراح، وقد عرف الغناء بأنه ترجيح الصوت وترديده، والبعض قال الغناء كل شيء حسن يشتاق السمع ويرتاح له، وقد ذكر في كتاب الأغاني "إن ابن ميزان المغني مر بحلقة كان ابن جريج يحدث فيها، وعنده جماعة من أهل العراق فيهم الرجل الصالح عبد الله بن المبارك، فدعاه ابن جريج وطلب أن يسمعه شيئا من الغناء، فقال له: أختر ثلاثة لا أزيدك عليها، فقال: أريد الصوت الذي غناه ابن سريج على جمرة العقبة ثاني أيام (منى) فقطع حتى تكسرت المحامل فغناه " (1) .
  وقد كتب في هذا المجال الباحث والشاعر العراقي عبد الكريم العلاف في كتابه (قيان بغداد في العصر العباسي والعثماني) الذي كان أول بحث في هذا المجال وقد سد فراغا في المكتبة العربية في مجال تأريخ الغناء، وقد أهتم ولاة بني العباس والدولة العثمانية بالبذخ في بناء القصور وزغارفها وجلب القيان من المناطق التي تحت رعاية الدولة العثمانية، فقد اهتم السلطان عبد الحميد بالقيان وقد جلب أكثر من ثلاثمائة قينة منهن اثنتا عشرة قينة خاصة له "والفينة تسمى بعرفهم (قادين) كانت القيان تؤهل من حسن الهندام والأحاديث الشيقة باللغة التركية، وتتعلم بعض الأشعار الغزلية ويدربونها على الغناء إذا كانت الفتاة ذات صوت رائق ... وهؤلاء القيان وكل ما في قصورهن هن تحت رعاية (والدة سلطانه) سيدة دار الحرم، وإذا هي توفيت صارت إحدى الخوازن أو كبيرتهن في مكانها وتسمى باسمها وتلقب بلقبها " (2) . 
   كانت بغداد في ظل العهد العثماني يشغل كاهلها الإستبداد والأستعباد لا عدل ولا مساواة ولا أنس ولا طرب ولا جوار ولا قيان حتى إعلان الدستور العثماني عام 1908 م فانطلقت الحريات العامة وفتح باب الهجرة للقيان في الملاهي والأفراح، فأخذ محبي الغناء يهوى سماع مختلف أصوات القيان العربيات والأجنبيات ومشاهدتهن، فكانت مدن العراق (بغداد، الموصل، البصرة) قد اشتهرت بهن وتعاقدوا مع أرباب الملاهي ليمارسن الرقص والغناء فيها، فكانت منهن الشاميات والحلبيات وأشتهرت منهن "(طيره)، لكن أظرفهن (فريدة ستيتية) حتى هزج شعراء العامية ببغداد وباسميهما في بستة غنائية رباطها (طيره أو فريدة بالبلم) " (3) ، كما ابتدع فن رقص القيان في ملاهي بغداد بسبب حرية حزب الإتحاد والترقي العثماني.
   كان للمغنية (طيره) دور في شهرة أغنية (شمس الشموسة) للشيخ سيد درويش إذ غنتها في مجلس الشيخ خزعل أمير المحمرة يومذاك مقابل الخلع الثمينة والأموال الطائلة، كما اشتهرت (منيرة المهدية) "التي جاءت من القاهرة عام 1919 مع جوقها الموسيقي فأقامت في سينما (سنترال) الذي سمي أخيرا بالرافدين بعد أن أحترق " (4)    ، وقد تهافت جميع الهواة على مشاهدتها وبقيت في بغداد زهاء خمسة عشر يوما، فقد "لقبها معروف الرصافي ب (ملكة غناء العرب) بقصيدة كان مطلعها:
هلم إلى ذوق طعم الأدب هلم إلى نيل أقصى الأرب
هلم إلى ذا الغناء الذي منيرة منه أتت بالعجب
فلا غرو إن ملكت في الغنا ء وإن أحرزت فيه أعلى الرتب " (5)
   كانت ملاهي بغداد عبارة عن صالات للغناء والرقص الذي كثر إقبال الناس عليها، وقد أشتهر في تلك الفترة عام 1907 مقهى سبع في الميدان، كما شيدت بلدية بغداد عام 1913 مسرحا للرقص والغناء ترفيها لسكان بغداد، فكان موقعه غربي بغداد، فقد اشتهرت في هذا الملهى ( بديعة لاطي وأختها خانم لاطي)، استمرت هذه بالعمل حتى قيام الحرب العالمية الأولى 1914. "ثم أنشئ (حسن صفو) في سوق الشورجة ملهى أخر بأسم (قهوة الشط) واشتهرت المغنية (وزة نومة) وأختها (ليلو نومة) والراقصة (هيلة)، كما اشتهرت الراقصة (رحلو جرادة) في مقهى سبع في الميدان، أما في مقهى (طويق) في الرصافة فقد اشتهرت الراقصة (ألن التركية) والراقصة (ماريكة دمتري) والدة المطربة عفيفة اسكندر عام 1917 " (6) .
    كما اشتهرت عام 1921 كل من (صديقة الملاية وجليلة أم سامي وبدرية أنور) حيث انتشرت الملاهي في محلة الميدان، من هذه الملاهي (الهلال، الجواهري، المنير، نزهة البدور، الأوبرا العراقية، الفارابي) "وظلت هذه الملاهي تعمل حتى عام 1940 فقد أمرت أمانة عاصمة بغداد بنقل هذه الملاهي خارج بغداد وزادت عددها من الملاهي منها (ملهى أبي نؤاس، ملهى شهرزاد، ملهى أريزونا، ملهى ليالي الصفا) فكانت تعرف بالملاهي الشعبية الشرقية " (7) .
    أما في الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد ذكر الباحث والشاعر عبد الكريم العلاف في كتابه (قيان بغداد) "وهؤلاء القيان نجوم الغناء البغدادي إن صح هذا التعبير وأولهن المطربة سليمة مراد، وقد اشتهرت بلقب (سليمة باشا) وظلت محافظة عليه لا تعرف إلا به، إلى أن أصدرت الحكومة العراقية بيانا بإلغاء الرتب العثمانية، فصارت تدعى سليمة مراد، كانت مغنية قديرة أخذت من الفن خطا وافرا بعيدا، فكانت فيها البلبلة الصداحة والمطربة المؤنسة " (8)  . كما اشتهرت منيرة عبد الرحمن الملقبة ب (منيرة الهوزوز) التي اشتغلت بالغناء عام 1928 في ملهى الهلال ... والتي رحلت بعد عز وسعادة يصفها العلاف "تحن إلى ماضيها حنين المحب إلى لقاء حبيبه، وتشتاق إليه وتتلهف كتلهف الظمآن إلى زلال الماء، وظلت قابعة بين جدران غرفة ضيقة تنبعث منها كلمة حزينة هي صدى يجيش به قلبها المعذب " (9)  ، كما كان للمطربة سلطانة يوسف دور في الغناء فأحسنت هذا الدور منذ الصغر، كذلك المطربة عفيفة اسكندر ذات القلب النابض بالحب والجمال، يصفها العلاف "إنها كالشمعة تحترق لتضيء الناس"، كما اشتهرت المطربة الراقصة زكية جورج التي نزحت من مدينة حلب مع أختها (علية جورج) كانت خفيفة الروح ترضي من يقع في أحبولتها، والمطربة زهور حسين التي عرفت بفارسيتها وتدعى (زهرة)، عشقت الغناء وهامت به وهي فتاة صغيرة، إضافة إلى صديقة الملاية التي كانت تمتلك الصوت الشجي تضيف به فسحة الدار انضمت إلى مجالس التعازي الحسينية النسائية فغلب عليها أسمها، كانت صداحة مؤثرة قوية التعبير على الرغم من احتفاضها بنبراتها الأنوثية.
  كانت هنالك مطربات منسيات قد غابت عن ذاكرة الفن منها صبيحة إبراهيم مارست الغناء منذ عام 1941 حيث كانت تردد أغاني أم كلثوم، وذات يوم التقت بالفنانة نظيمة إبراهيم فأعجبها صوتها فشجعتها على الغناء على المسرح، أما المطربة وحيدة خليل الذي كان لها الحضور البارز في سلم تطور الأغنية العراقية ونهوضها في بداية الأربعينات. كما برزت المطربة مائدة نزهت، وقد قطعت شوطا في مجال الغناء بلغ 30 عاما، فقد ختمت القرآن الكريم وبرزت مواهبها الغنائية وأصبحت مطربة إذاعة بغداد أواسط الخمسينات، كما برزت من المطربات أحلام وهبي في مدينة البصرة عام 1938 فقد عرفت الفن من خلال منيرة الهوزوز وألحقت بإذاعة بغداد عام 1958 م، كما اشتركت بفلم (بصرة ساعة 11) وفلم (ليالي العذاب) عام 1961 والفلم العربي (بأمر الحب) عام 1965. كما كان للمطربة لميعة توفيق التي ولدت نهاية الثلاثينات الدور في مجال الغناء وتقدمت إلى الإذاعة في الخمسينيات، كانت صاحبة صوت ولون غنائي معروف وتجيد اللون الريفي.
   كانت أغلب الأغاني لما ذكرنا أعلاه تتميز بذات كلمات جميلة والحان بارعة تهز المشاعر، والعبارات الطيبة التي تزيد السامع طربا للصوت الشجي والنغم الصادح، إضافة للكلمات التي توصف البيئة الريفية الشعبية في المجتمع العراقي، حيث تدور الأغاني لاظهار العواطف وإثارتها بين الغزل والحنين والعتاب والبكاء والعشق والحزن والأسى، إضافة لأغاني الفلكلور، فقد جمعت الأغاني من اللحن الجميل والنغم الأصيل والشعر المأثور ذات الوزن.
المصادر
ــــــــــــــــــــــــ
1 -    أبي الفرج الأصفهاني - الأغاني - ج 1 - ص 157
2 -    عبد الكريم العلاف - قيان بغداد في العصر العباسي والعثماني - الدار العربية للموسوعات 2006 - ص 189-190
3 -    المصدر السابق - ص 199
4 -    المصدر السابق - ص 201
5 -    المصدر السابق - ص 202
6 -    المصدر السابق - ص 204
7 -    المصدر السابق - ص 206
8 -    المصدر السابق - ص 209
9 -    المصدر السابق - ص 215
 
 



259
ازدواجية الشخصية العراقية ودائرة الصراع النفسي

نبيل عبد الأمير الربيعي
   لا يمكن تفاصيل العقار كاملة تفاصيل العقار كاملة بناء مجتمع سليم وشخصية   متوازنة من دون تحقيق فكرة المواطنة وترسيخ مقولة "الدين لله والوطن للجميع"، لذلك نحتاج لإعادة   تفاصيل العقار كاملة تفاصيل العقار كاملة بناء الفرد والمجتمع والدولة علي أسس علمية اجتماعية شاملة الوصول فلسفة ومنفتحة علي الذات والمستقبل والآخر وتهدف الوصول إعادة تفاصيل العقار كاملة بناء الفرد العراقي المنقسم والمجتمع علي ذاته وتعميق الوعي الاجتماعي والوحدة الوطنية.
   سلط الضوء على شخصية الفرد العراقي عالم الاجتماع د. علي الوردي من خلال محاضراته وأصداراته من الكتب في منتصف القرن العشرين، ومن خلال طروحاته ودراساته المنطقية، خلق الوردي مواجهة مباشرة مع العقليات الدينية الجامدة التي أصابت النص الديني بالجمود والانغلاق على طروحاتهم الدينية القديمة المتحجرة، فقد نقد الوردي بقسوة التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي.
   كما فشل رجال الدين فشل ذريع فى دراسة ووشخصية الفرد  ودراسة  واقعيته بسبب كثرة مواعظهم الأفلاطونية، مما عزز الازدواجية في تعزيز السلوك التناقض بين الرضوخ للحكام الطغاة وسلوكهم أتجاه مواطنيهم، مما أدى إلى سطوة التعاليم الدينية على حياة الفرد، لذلك يؤكد الوردي "أن كل مدينة يكثر فيها رجال الدين ينتشر فيها ازدواج الشخصية على درجة كبيرة، ذلك لان الانسان فى هذآ المجتمع مضطر ميسور يكون دينيا فى ناحية  ودنيويا فى ناحية اخرى. ورجل الدين عادة يحترف بث التعاليم الدينية، فهو يبثها قولا ويقبض على ذلك أجرا " (1) .
   نستدل من خلال متابعتنا للتاريخ أن كل دين مهما كان نوعه، لا يكاد ينتشر حتى ينشق على نفسه، لذلك يعزون المؤرخون أسباب النزاعات بين الأديان بشق عصا الجماعة إلى شخصيات التاريخ، لكن التفرقة طبيعية ولازمة من طبائع العقل البشري، بسبب نزاع المصالح، لذلك نرى رجال الدين متمنطقين بآراء أرسطو المناقضة للواقع الحياتي، فهم قد وضعوا قوانين تناقض الواقع تناقضا كبيرا، فهم مبتلين بداء ازدواج الشخصية، فهم يتكلمون بمنطق أرسطو بين طلب الجاه أمام الحكام الطغاة وما يعيشه أبناء المجتمع في الواقع المرير، لذلك نجد "ميسور عيب   البرهان المنطقي انة لا يستطيع أن ينمي في النفس عقيدة، فالعقيدة بنت الإيحاء والتكرار. ولهذا السبب نجد وعاظنا ومفكرينا لا ينجحون فى تبديل أخلاق الناس اقتراحات للتغيير عقائدهم الا  نادرا، فهم يحاولون دائما أن يقنعوا الناس عن طريق الجدل وإقامة الدليل وما أشبه " (2) .
   لقد أصبح الدين في الوقت الحالي دعوة الأفراد لحمل عبء ثقيل على كاهلهم بدل أن يصبح طريق لبث الثقة والطمأنينة في قلب الفرد لتجعله متفائلا في حياته، كما أصبحت الطقوس الدينية تسلطية من خلال أداء الطقوس المعقدة، لكن الحقيقة إن علاقة المخلوق بخالقه هي علاقة تصحيح الإنسان من خلال وصايا الرب أتجاه المخلوق، لكن نجد الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين) يضع هدفان أحدهما   للمواجهة المباشرة   مع العقليات الدينية الجامدة التي أصابت النص الديني بالجمود وجعلت مراجعه التاريخ الإسلامي من المحرمات، فكان دور رجال الدين وعظ المظلومين وترك الحكام الطغاة والتواطؤ معهم، فكان هدف الوردي من كتابه هو لبحث طبيعة الإنسان التي أثارت رجال الدين من الوعاظ، كما يؤكد الوردي أن التغيير بالكلام لا يمكن لأن الطبيعة البشرية معقدة بسبب ما يحمل بداخله من الحسد والشهوة والأنانية.
  كان وما زال رجال الدين متحالفين مع رجال السلطة والطغاة، فهم ينزلون لعنة الله على الفقير ويتركون الطغاة يباركون تصرفاتهم مع المواطنين، من هذآ يتأكد   لنا ميسور المنهج الوعظي هو سبب فى حمودي الصراع النفسي، فقد زرعت في داخل الإنسان هذه البذرة التي أدت بنشوء معضلة الصراع النفسي، لذلك يري الوردي آن   الوعظ  ذو ضرر بليغ   فى تكوين حمودي hammoudi الصراع النفسي   وفى تكوين الشخصية الفردية، لأن الواعظين هم في نظر المراجع الجهات التربوية الرادعة في المجتمع، لكن الأفراد سيعانون من الصراع النفسي بين التعليمات الوعظية الشكلية والواقع الذي يعيشه، يرى فرويد "إن اغلب ظواهر الحمق والهستيريا وارتباك الأعصاب   سببها التصادم آلذي يحدث فى داخل النفس بين مبادئ الخلقية الانسان يهفو إليه ومآ فؤاده من شهوات جنسية عارمة " (3) .
   لذلك يخرج الصراع النفسي برأي الوردي من دائرة التفسيرات المذهبية والدينية إلى الطابع الغيبي، مما يخلق دائرة صراع نفسي يحقق ازدواجية الشخصية لأن "شر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقا معينا في الحياة، في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه بإتباع طريق آخر معاكس له" ( 4) ، لذلك في هذا المجتمع الذي يتأثر بما يطرح من قبل رجال الدين "ينمو الصراع النفسي لدى بعض الأفراد وقد يلجأ بعض الأفراد إلى حياة الانعزال أو الرهبنة" (5) ، لذلك نرى ميسور من تسيطر عليه توجيهات رجال الدين يتقمص أفراد   المجتمع شخصيتين هما أحدهما ك تصغي لما ينصح به الواعظون وأخرى تندفع لما يروق في أعين الناس من ترف و جاه و مال، لذلك نجد الفرد يمتلك وجهان أحدهم يداري رجل الدين في وعظه وآخر يداري بها الناس.
     أما المجتمعات التي تتمسك بقيم الإسلام البداوه وقيم فنجد أفرادها   يمتلكون شخصيات مزدوجة لان البداوه تؤكد علي التغالب والرياسة والتفاخر، في حين الإسلام يؤكد على المساواة والتقوى، لذلك "فهو يمجد القوة والفخار والتعالي في أفعاله، بينما هو في أقواله يعظ الناس بتقوى الله وبالمساواة بين الناس " (6) ، الطبيعة البدوية طبيعة غزو وسلب وحرب فمن غير الممكن ومن المستحيل أن يكون البدوي مسلما حقيقيا إلا إذا كان المجتمع في حالة حرب مع أعدائه، فأهل العراق كانوا واقعين تحت تأثير واقعين متناقضين هما واقع القيم البدوية و واقع القيم والنزعة الإسلامية من جهة أخرى، لذلك نرى أن الدين لا يردع الإنسان عن أي عمل يرغب أن يقوم به، لو نتابع ما يحدث فى العراق أثناء فترة الانتخابات لمجالس المحافظات والنواب نجد المرشحين والناخبين يعودون لأنتماءاتهم العشائرية البدوية والطائفية لتصبح الانتخابات ألعوبة بيد السياسيين   خوفا من ميسور تاخذ مناصبهم من قبل الآخرين المنافسين لهم، فلوا أشترك جميع المواطنين في الأنتخابات وأختاروا من هم يمثلوهم بحق ولهم دافع وطني في بناء الدولة ومؤسساتها خدمة للجميع لما وصلنا لما نحن عليه، لكن الواقع   يختلف، فقد أبتعد العراقيين عن النزعة الدينية الحقيقية وتمسكوا بالطقوس والقيم الطائفية، وقد ساهموا رجال السياسة في توطيد الطائفية والعشائرية والسبب الرئيسى هو وعود قادة الأحزاب السياسية والكتل للعراقيين   بالوظائف الحكومية، وهي مطمح أنظارهم، لذلك نجد النفس البشرية تهوى الإيمان بالدين من جهة ومغريات الحياة من جهة أخرى، فنجد جميع الطوائف في ثورة مستمرة لإنتزاع السلطة والسيطرة على الأمكانيات المادية من ثروات العراق.
   لقد أخذوا هؤلاء السياسيون الجدد من الديمقراطية وصناديق الأقتراع وسيلة للسيطرة والطغيان، لكن الديمقراطية في الأمم الحديثة تكون نتيجة معارك ثورية طاحنة قامت بها الشعوب من أجل امتلاك حريتها وإدارة دفة الحكم   .
    لقد حكمت القيم التقليدية مجتمعنا قرونا طويلة، لكن من غير الممكن ميسور   تقف مضت مضت هذه القيم بوجه التطور الحضاري التي ستحطم كل القيود، فقد أصبح العالم بفضل العولمة قرية صغيرة، فالحضارة والتطور في طريقها إلى المجتمعات الشرقية ومن الصعب في بلد ما أن يمتنع عنها المجتمع، وستصبح تهديدا واقعيا ضد القيم والعادات والأفكار البالية   ، لذلك سوف تقع المجتمعات الشرقية في مخاض لولادة المجتمع الحديث مقابل دفع الخسائر الباهظة، مع العلم ميسور اغلب رجال الدين وقفوا بقسوة   فى طريق تيار الحداثة و بشكل معاكس، مع العلم عليها أن تقف وتوظف كل أمكانياتها مع هذا التطور العالمي والانتقال إلى الضفة الأخرى لمواكبة ما يحصل في العالم الغربي   .
 
1 -    شخصية الفرد العراقي ص 47-48
2 -    خوارق اللاشعور وأسرار الشخصية الناجحة - ص 13
3 -    د. حسين سرمك - علي الوردي عدو السلاطين ووعاظهم - ص 36
4 -    نفس المصدر السابق ص 37 
5 -    د. علي الوردي - وعاظ السلاطين - ص 16
6 -    وعاظ السلاطين - ص 18



260
في الأحوال والأهوال. المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف ... للباحث فالح عبد الجبار

نبيل عبد الأمير الربيعي
    صدر عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر كتاب (في الأحوال والأهول .. المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف) للباحث د. فالح عبد الجبار، الكتاب يحتوي على 165 صفحة من القطع المتوسط، تضمن الكتاب ثلاث مباحث وملحق يتضمن ثلاث نصوص فلسفة في التسامح الديني والسلام ونبذ العنف السلبي .
   تناول الكاتب أزمة الهوية العربية وحلول المؤسسة المنتجة للخطاب الثقافي بدل الفرد المثقف المتشظي والمتجزئ، أي حلول استبداد المؤسسة قبل بروز الفرد والمنتج، إضافة إلى تعدد مضمون مفهوم الثقافة أو تبعية المثقف، مع العلم إن الثقافة تعتبر البناء المنطقي أو السلوك العارف، وبوجه عام ثمة إمكانية   لتعيين مفهومين للثقافة الأول تعرف الثقافة كنظاما معرفيا يشتمل على انتاج المعاني أو منتجات العقل والثاني فهو نظام معرفي يتوخى تحديد موقع الجماعة أو المجتمع في الزمان والمكان.
   يؤكد الكاتب عبد الجبار ص 27 "إن هناك عدة محاولات لتقسيم الثقافة إلى عصور أو أنماط، ويرى كثرة من الباحثين أن هذا التقسيم المجرد، التقريبي، يعد   لدراسة تباين اشكال أدراك آلعآلم وتوليد المعاني "ثم يعقب لما طرحه دريدا من فرضية وجود تباينات جذرية بين" الثقافات الأسطورية والثقافات الأبجدية والحضار الألكترونية ما بعد الأبجدية "ينطوي علي نمط من أنماط الثقافة   المذكورة أعلاه، عالم معرفي وبنية خاصة. فالثقافة الميثولوجية التي سبقت عصر التدوين احتفظت بالكثير من معالمها في بوادي وأرياف العالم   ، فالبداوة   فى رحلة أفول، والأرياف تفقد عذرية الأنغلاقات السرمدية السابقة . لكن نجد أن العصور الكلاسيكية قد أنتجت لنا حقولا أكثر غنى في مجال الأدب والفن والفلسفة حتى وجد هيغل صداه، الذي قسم تطور الروح المطلق لعل ما آل سقراط إليه في أثينا أو معركة الغزالي وأبن رشد، إضافة إلى ظهور الفقيه والفيلسوف والمتصوف في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية على التعامل مع هذه الأنماط المعرفية.
  لكن الأنهيار العقلي والفلسفي مما عزز إلى حروب الحضارات وما واكبها من دمار وزعزعة الأستقرار بفعل التعاقب المدمر للسلالات، لذلك أن أهم معلم ص 31 "يميز التحول الثقافي في هذا العهد هو انقسام الحقل الديني إلى ثقافة عليا، ثقافة الفقيه والمتكلم، اي ثقافه النص والاستنباط وثقافة   دنيا، وثقافة الطقس الصوفي "لكن الواقع الثقافي في العراق وبعد سقوط الدولة العثمانية ومجيء فيصل الأول إلى العراق قد طالب إلى محاولة إبعاد التمايز الديني والأثني مما أثر ذلك ص 46" احتجاجات البعض من أنهم لم يعودوا يتبينون اليهودي عن المسيحي والشيعي من السني والجنوبي والريفي عموما من أبن المدينة ".
    لذلك أنتجت الحقول الثقافية المتمايزة ثلاثة أنماط من التخيل الثقافي للهوية القومية ص 54:
"يقيم التخيل الأول هوية الانتماء الحضاري علي   الدين الإسلامي أساسا للحدود الثقافية .. أما التخيل الثاني فيبنىي هوية الانتماء علي الأثنية جاعلا   إياها حاملا والدين محمولا بالضرورة "وتضطر التخيلات القومية إلى البحث عن عنصر تمييز بأي ثمن، حتى لو كان خارجيا على ثقافتها.
   لقد نمت سبل عدة للنظر إلى الثقافة، النظرة الارتقائية التاريخية التي ترى أن الثقافة البشرية أو التاريخ البشري واحد سوى أنه يمر بمراحل متدرجة، وأن تباين ثقافات شعوب المعمورة، إن هو إلا درجات في سلم التطور الأرتقائي، فكل نظام معرفي كما نعلم ينمو ويتطور في إطار نظام لغوي خاص، وثقافة محلية خاصة، وتنتج هذه الثقافة مقولاتها كتنظيم العالم انطلاقا من أشكال التنظيم الاجتماعي نفسه.
   يرى الكاتب فالح عبد الجبار من خلال طرح موضوع العولمة ومسارها البنيوي الجديد وأحد خصائصها، الخاصية الثانية (المواطنة والقومية) ص 82 "إن الدولة القومية تشهد أنفصال المواطنة عن الانتماء القومي، فالعولمة بحكم منطقها، أفضت على مدى القرن العشرين كله إلى حركة هائلة للسكان غيرت وجه المجتمعات المتقدمة "مما أدى هذا الحال إلى أنفصال المواطنة كحق مكتسب عن الانتماء الثقافي الأثني كحق موروث، وهو ينطوي على نزاع من شأنه أن يعم العالم، بين البنية الثقافية والبنية المتجانسة الوجوه   المتعددة الثقافات.
   أما المجال السياسى القومي لللل   فقد أدت التحولات الوصول خفوت الفوارق بين الاشتراكية الديمقراطيه والليبرالية، وتضاؤل الهامش النقدي لليسار الماركسي لا ريب ص 83 "آن سقوط الاشتراكية القائمه   ونهاية الحرب الباردة، من جانب وضمور قوى النقابات من جانب آخر، أنشأ تحولا في نمط الحركات الاجتماعية "أما الخاصية الأخرى في ظل انطلاقة العولمة فهو أحتدام التوتر الثقافي على نطاق كوني، فثورة الاتصالات والمعلومات تفتح صندوق باندورا، كما يقال، الضاج بكل أنواع الثقافات.
    يقسم الباحث فالح عبد الجبار المذاهب إلى ثلاث توجهات ص 88 "التوجه الأول هو الليبرالية المسلحة التي ترجح كفة الصراع، أما التوجه الثاني فهو ليبرالية السوق، أما التوجه الثالث فهو الأتجاه الديمقراطي الإجتماعي الساعي الوصول   لجم الإقتصاد   الكوني الطليق بإنشاء حكومه عالميه، تنجي العالم من أنفلات قوى السوق "، لكن اقتصاد السوق بدأ   زحفه البطيء منذ الثمانينات ليتحول الوصول تيار قوي يخترق الاقتصادات الأوامرية، إختراقه لعالم اقتصاد الكفاف البالي.
   آن   اللائمة الأولى علي هذآ الغرب باعتباره المسؤول عن استمرار هذآ التخلف فى المقابل ص 90 "نشهر كل أسمالنا الفكرية إذا ما عز لأحد من الغرب أن يضغط باتجاه الإصلاح .. دون أن نقر بفشلنا". يختم الباحث كتابه بمقالات للاسكتلندي يونيو لوك وعمانوئيل كانط ومقال اللاعنف اقتراحات للالعنف السلبي للمهاتماغاندي وقصيدة   للشاعر السويسري آلان روشا (نواح المدن القتيلة) مضت مضت هذه النصوص هى خلاصة تجربة اوروبا فى الخروج من محنة الحروب الدينية والتعصب المذهبي وتقلب الحكام   بين مذهب واخر   تبعا للأهواء والمصالح.



261
عماد جبار الفنان التشكيلي الذي تعددت مواهبه بين الرسم والنحت



نبيل عبد الأمير الربيعي
تنوعت أعمال الفنان عماد جبار وذلك لشمولها بعدة أساليب منها الرسم والنحت، في الرسم استخدم الطريقة التكعيبية والتنقيطية والرسم الحديث، أما عن النحت فقد تعددت لدى عمل الفنان أنواع الخامات من الفخار والمعادن والخشب والورق والأسلاك المعدنية والمخلفات الصناعية، وفي بعض أعماله تبين العلاقة الحميمية بين المرأة والرجل وحالة الأمومة النبيلة، هنالك عمل فخاري يحتوي على أربعة وجوه، تمثل أربع حالات للمرأة العراقية من ضاحكة وعابسة ومتألمة وكادحة ناظر للمستقبل، مع العلم إن المجتمعات الأخرى قد تجاوزت هذه المرحلة التي نعيشها بل سارت نحو التشابك وبدأت تنهض من هذا الواقع، لذا فيجب علينا أن ننهض من واقع الفردية إلى الحرية والعدالة الاجتماعية لنضع للمرأة مكانتها في المجتمع.
عماد جبار مواليد الحلة عام 1957 خريج معهد إعداد المعلمين - بغداد قسم الرسم، عمل في التعليم الابتدائي كمعلم فنية، تفرغ بعد عام التغيير 2003 بطلب من مديرية تربية بابل للعمل في مركز الأشغال اليدوية بسبب تعدد مواهبه ونشاطاته، أقام ثلاث معارض شخصية، شارك بعدة معارض في مناسبة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي بعد التغيير، شارك ب (6) معارض لمعركز الأشغال اليدوية، شارك في المعارض التي أقامتها نقابة المعلمين وقاعة بابل وقاعة عشتار، وشارك خارج المحافظة بمعارض منها في (كربلاء والنجف وبغداد)، عضو نقابة الفنانين - بابل، عضو جمعية التشكيليين بغداد، اعتمدت إحدى المواطنات السويديات على دراسة أعماله الفنية في تقديم رسالة الماجستير بعنوان (الفن والتراث العراقي)، من خلال أهمية أعماله الفنية في الوسط الفني التشكيلي، كان لنا معه هذا الحوار:
•         بداياتك الفنيه كفنان، وفي أي مرحلة أصبح عماد جبار الفنان التشكيلي؟
كانت بداياتي الفنية في مرحلة الابتدائية وفي الصف الأول، كان والدي إنسان بسيط وأمي، لكنه كان يعشق الفن يرسم الأشكال كالطير والوردة بشكل جميل، كنت أقلد والدي في الرسم وأنا أتابع أعماله البسيطة، لكن في الصف الأول الابتدائي كنت أرسم بصمات التطريز للطالبات وبنات الجيران، وهنالك فضل كبير من معلم التربية الفنية على الفنان عماد جبار، أتذكر منهم (طه فرحان)، قد شجعني على الرسم، كذلك للشهيد (جعفر وتوت) له الدور والأثر في تشجيعي على الرسم في المرحلة الابتدائية، كان يعرض أعمالي في المعارض التي تقام من قبل مدارس تربية الحلة، وقد حصلت على الهدايا من خلال عرض أعمالي، أما مرحلة المتوسطة فكان للأساتذة (سمير بهية، كاظم نجم، عبد الغني المصري) الدور الكبير في تطوير موهبتي، أما مرحلة الاعدادية فكان يهتم بأعمالي الفنية الأستاذ البغدادي (محمود سامي) الذي سلمني مفتاح غرفة المرسم كي أقوم بأعمالي الفنية، كان هذا دافع تشجيعي للاهتمام بالجانب الفني وتطوير مهاراتي، كان هدفي في المستقبل أدخل أكاديمية الفنون الجميلة لأكمل دراستي ولأطور موهبتي الفنية، قدمت أوراقي إلى أكاديمية الفنون الجميلة بعد اجتياز المرحلة الاعدادية، من ضمن المتقدمين حوالي (400) طالب، كان الترشيح لكل قسم (10) طلاب، قدمت لاختبار في قسم الرسم فقدمت عملي التخطيطي للجنة، عندما أعلن عن أسماء المقبولين في هذا القسم كان تسلسلي الأول في القائمة، كذلك قدمت للاختبار في قسم النحت وكان المشرف على الاختبار الفنان الراحل محمد غني حكمت ، سألني الراحل هل لديك أعمال نحتية في محافظتك؟ كان جوابي بالنفي، غلف عملي ووقع عليه بالقلم الأخضر، فعندما أعلن عن أسماء المقبولين كان تسلسلي الأول، في حينها في فترة معاون العميد الفنان (سامي عبد الحميد)، كان لإختيار لقسم النحت وأكملت أوراق التسجيل، لكن استدعيت من قبل الأستاذ مخلد المختار ورئيس الاتحاد الوطني في الكلية للعام (1972-1973)، طالب بقسيمة الانتماء للحزب، فكان جوابي لن و لم انتمي لحزب البعث، فسألني كيف قبلت في الكلية؟ كان جوابي من خلال الاختبار كان تسلسلي الأول، فأجابني إن الكلية مغلقة للطلبة البعثيين، فراجعت عميد الكلية الأستاذ الراحل أسعد عبد الرزاق حول ما دار من حوار مع الأستاذ مخلد المختار، صدمني بجوابه :: لدينا تعليمات بعدم قبول الطلبة الغير بعثيين، خرجت من الكلية وخسرت دراستي الجامعية وحلم العمر، لكن حافظت على المبادئ والفكر اليساري الذي أحمله ولم أحيد عنه، بعدها قدمت أوراقي لمعهد إعداد المعلمين قسم الرسم، أكملت دراستي، وطورت موهبتي بجهود ذاتية إضافة لموهبتي، مع العلم إن من كان يحاربني ورفض قبولي في كلية الفنون الجميلة أصبح الآن أستاذا في نفس الكلية.
•         من خلال متابعه أعمالك الفنيه كما نلاحظ تعدد الأساليب و المواهب، ما هو جوابك؟
•         هذآ راي النقاد لان لي اعمال كثيره من ناحية التخطيط والرسم بقلم الرصاص بالألوان المائية والباستيل والستريت، استخدم الكولاج في اللوحة والمواد الزيتية، وهنالك أعمال أستخدم العجينة أو بعض المواد كطريقة للصق، أتت التعددية في الفن كوني أعمل بعض اللوحات كالطرق على المعادن، أما في مجال النحت كوني خزاف عملت أكثر من (50) عمل، كما لي أعمال النحت على الخشب، أو عمل المجسمات من مادة الجبس.
•         هل بالإمكان لفنان ميسور يتحرر من عقدته، وأن يخلق جمالا من الأشياء التي حوله؟
•         فى مجال الفن البيئي استعمل المواد التالفة ومخلفات المواد الطبيعية اقتراحات للالصناعية المهملة، تبدوا للآخرين غير ذات قيمة، أنا أميل لهذا الجانب أكثر من غيرها من ناحية الجوانب الفنية، لأنني أخلق منها كمواد مهملة لوحات وأعمال ذات جمالية رائعة، كما تتوفر في الطبيعة أشياء ومواد كثيرة مهملة، هذه المواد غير جميلة وبالإمكان خلق موضوع فني منها وإضافة بعض الألوان لتبدوا لوحة جميلة.
•         يمتلك الفنان التشكيلي نزعة جمالية يتحدى بها عناصر الطبيعة، هل يمتلك الفنان التشكيلي العراقي إمكانية لخلق من هذه العناصر لوحات فنية؟
•         علي العموم الطبيعة جميلة، لكن القبح نجده في المواد التالفة و مخلفات عمل الإنسان والمواد المتروكة، أو المخلفات الصناعية، فبالإمكان كوني فنان أن أعمل منها أعمال فنية ذات بعد جمالي، تركن في زوايا البيت أو القاعات.
•         من اعمال الفنان عماد جبار لوحات تنقيطية، فهل تأثرت بمدرسة فنية، أم هو الإبداع؟
•         بدايه اي فنان يبدأ بالموهبة، ومن خلال الإطلاع على مدارس الفن التشكيلي والدراسة والخبرة والمثابرة، مما يتمكن هذا الفنان من وضع بصمته الخاصة في أعماله، فأنا جربت الفن التكعيبي و فن التجريد وما بعد الحداثة والأكاديمي كدراسة، والفنان بتقدم التجربة قد يتأثر بمدرسة فنية ما ، لكن أنا أجد نفسي حر في رسم اللوحات والعمل النحتي وأرسم ما أرغب فيه.
•         تستخدم فى بعض أعمالك ماده العجين، ممن تتكون هذه العجينة؟
•         أنا ميال للنحت وضمن أعمالي ذات الملمس آلذي أعشقه، استخدم مادة العجينة المتكونة من (النشا وغرا الأخشاب)، تلك المادة التي تصنع منها أعمال الزهور والأعمال البسيطة التعليمية، لكني عملت منها أعمال عديدة على شكل كتل ونقاط وتكوينات على اللوحة التشكيلية، واستخدم الباليتات التالفة في المشاغل من خلال مركز الأعمال اليدوية.
•         لديك اعمال جميلة من ماده الطين، و اهتمامك الأكثر الطرق على النحاس؟
•         ايام طفولتي كنت اذهب القمة شاطئ نهر الحلة القريب من مقام الإمام الفارسي لأجلب الطين الحري لأصنع منه الأعمال والتماثيل، pursuant مفهومي منها ألعاب الاطفال، لكن بسبب الثقافة السائدة في المجتمع نهاني والدي من عملها، بعد أن حطم أعمالي جميعها والتي كنت أضعها على سطح البيت لتجفيفها ، لكن بعد التخرج من المرحلة الدراسية والعمل كمعلم فنية في مدارس الحلة و كان ولعي بهذا الفن (النحت)، بدأت أمارس هوايتي جديد من، لكن بعد تكليفي من قبل مديرية تربية بابل بعد عام التغيير 2003 واستلامي لقسم السيراميك في مركز الأشغال اليدوية، قمت بالتحضير من خلال موهبتي لعمل النحت الفخاري، كما أقوم بفن الطرق على النحاس، فتمكنت أن أصنع أعمالي على رغبتي الخاصة، فقد عملت في مركز الأشغال اليدوية وفي أكثر من قسم منها (النجارة، الرسم، الجلود، السيراميك، الطرق على الجلود)، اهتمامي الأخير هو الطرق على المعادن، مع العلم قلة من الفنانين من يستخدم فن الطرق على المعادن في أعماله.
•         نلاحظ آن موضوع المرأه يتكرر فى اغلب أعمالك الفنيه، ماذا تعني المرأة بالنسبة للفنان عماد جبار؟
•         جميع أعمالي فى مجال المرأه يعتبر جانب تحريضي وليس ظهورها كجسد، المرأة بجميع معانيها جميلة والأجمل مقارنتها مع الكائنات الأخرى، لذلك أجسد دور المرأة في المجتمع في أغلب أعمالي النحتية، موضوع المرأة قد شغل الكثير من الفنانين، وقد شغلني أنا أيضا، أنظر إليها كونها كائن مظلوم في المجتمع الشرقي بصورة عامة وفي مجتمعنا العراقي بشكل خاصة، فنظرتي للمرأة من خلال ثقافتي وتفكيري لدعوتها للتحرر، فقد جسدتها في أعمالي، مع العلم إن المرأة تعتبر نصف المجتمع، لذلك قمت بمعرض شخصي في مدينة بابل الأثرية بمناسبة يوم المرأة العالمي بدعوة من مجلة نون و السيدة ميسون الدملوجي، عرضت حوالي (57) عمل جسد دور المرأة في المجتمع بين نحت ورسم، وقد حضرها وزير الثقافة السابق و وزيرة البيئة، كانت احتفالية كبيرة ورائعة، اهتمامي بتحرر المرأة بشكل كبير لأنها جزء من ثقافتي و توجهي، فهي ليست غريبة على الفنان عماد جبار، لكن مظلوميتها في مجتمعنا العراقي، فعلينا نصرتها من خلال الأعمال الفنية والمطالبة بحقوقها، لذلك أنا أطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات تجاه المرأة.
•         لماذا أهمل درس الفنيه والنشيد فى مدارسنا الإبتدائية والثانوية؟
•         فلسفة الدولة الحالية فى جميع مجالات كسياسة الفن، تحاول أن تجمد هذا المجال بأساليب ووسائل معينة، هنالك أدلة كثيرة منها تحديد عدد حصص درس الفنية وبتعمد، وعدم توفير ورش درس الفنية في المدارس، إضافة إلى ضعف دعم تمويل معلمي درس التربية الفنية بالمواد، أما المعارض التي تقام حاليا هي معارض شكلية إذا قارنا ذلك بفترة الستينات والسبعينات، إضافة لانحسار المهرجانات الفنية، في السابق كانت العوائل تقوم بزيارة للمعارض الفنية التي تقام من قبل المدارس و الثانويات، الآن قد ابتعدت العائلة عن هذا الجانب، وقد انحسرت هذه المعارض الفنية، حتى وأن أقيمت فهي شكلية، في الآونة الأخيرة تم تحديد الأعمال الفنية في المعارض المدرسية وذلك بطلب من مديريات التربية، على أن تقدم كل مدرسة (10) لوحات فنية فقط خلال العام الدراسي، أنا أعلن ذلك كوني مسؤول عن المعارض الفنية المدرسية، وكوني أحد الحكام عن إعلان جودة العمل الفني المدرسي، مع العلم عندما نتابع تأريخ الفن التشكيلي نجد إن الفن بدأ من المعبد وهنالك علاقة ترابطية بين الفن والمعبد، لكن الآن تم الاهتمام بالمعبد وترك الفن دون المستوى المطلوب.













262
حكاية من بغداد  للروائية .. أثيل ستيفانادرور


نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   الروائية أثيل ستيفانادرور عالمة آثار بريطانية أختصت بالدراسات المندائية واليزيدية، وهي إبنة رجل دين مسيحي، كتبت أثيل مجموعة من الروايات الرومانسية، فقد صدرت الرواية  عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر ترجمة الباحث زهير القيسي أحمد، الرواية تحتوي على 363 صفحة من القطع المتوسط وتحتوي على 34 فصلا ، تحكي عن واقع العاصمه بغداد وهموم   الارمن فى عهد الوالي العثماني محمد باشا، الرواية   تبين زياره لأحد البريطانيين المدعو ديفيد لعمه البريطاني الثري آلذي يعمل فى العاصمه بغداد و آلذي رحل عن الحياة قبل لقاءه، فيصف حال العاصمه بغداد   وطرق التنقل بين البصرة وبغداد عن طريق نهر دجلة بالمراكب التجارية الانكليزية، فى تلك الفترة كان الاضطهاد المستمر من لدن الدولة العثمانية للأرمن وخوف   هؤلاء فى بغداد من انتهاك الجيش العثماني لأبنائهم و هتك أعراض النساء من وسرقة دورهم وأموالهم، الروائية تصف محلات بغداد وأزقتها من (عكد النصارى) وكيفية تنظيف المدينة   بوسائل بدائية من نقل القمامة المكدسة   فى أزقتها ص 19 "هناك في الانتظار أن يأمر مسؤول في البلدية زبالا ليحملها بعيدا على حماره الذي لا تتسع له الأزقة إلا بالكاد،   أما ما تبقى من القمامة فتتكفل الكلاب السائبه بها ".
   تذكر الروائية اثيل   واقع حال النسوة المسيحيات فى بغداد ففي ص 20 تصفهن "فأزارهن الحريرية مطرزة   بخيوط الذهب تطريز يد والفضة، وتغطيهن من رؤوسهن إلى أقدامهن، حتى لا تكاد تتبدى معالم أجسادهن سوى بعض العجائز اللواتي أنكشفت وجوهن .... فمن السهل جدا تمييز المسلم عن المسيحي وعن اليهودي رجالا ونساء بثيابهم ويمكنك أيضا تمييز الكردي والفارسي عن سواهما، وزد على ذلك فيما يمكنك تمييز التركي الطوراني الشاب عن العثماني من الحزب القديم عن طريق ملاحظة وضع طرابيشهم على رؤوسهم   ... وهو مائل على الجبهة أو مائل إلى الخلف! ".
   الرواية تصف مرحلة مهمه من تاريخ وبغداد   والعلاقات الإجتماعية بين أبنائها ذات الديانات والمذاهب المتعددة، كما تصف واقع حال العلاقات بين أبناء بغداد عند رحيل آحد أبنائها عن الحياة مهما كانت ديانته   ففي ص 22 تبين الروائية حالة الحزن والبكاء عند النسوة وهي تخاطب إبن حماها ديفيد  "فثمة بعض النسوة البائسات القادمات كان عمك رحيما بهن وها قد جئن إلى هنا لينحبن وينتحبن، أليس ذلك وحشية ... خذ   مثلا هؤلاء النواحات ... إن عمتك تتحملهن لأن عمك رقيقا بهن، أما لدى أهل بغداد (البغادة) فهن مألوفات ويسموهن (العدادات) وهن محترفات   لطم الصدور والنواح وتعداد مناقب الميت وفضائله ... ".
   تصف الرواية أحياء بغداد وسكنتها من الأثرياء ومنها ص 30 "وفي الكرادة يسكن الأتراك واليهود والمسيحيين لهم حضورهم الصيفية" ذلك هو حال طبقات بغداد الإجتماعية وحالات أبناء الأحياء الفقيرة مثل عكد النصارى والبتاوين   وبين أحيائها الأخرى، كما تصف الرواية محلات بغداد وحوانيتها بما فيها   من انواع الفاكهة والحبوب والبقوليات، لكن بغداد عند الغروب تصفها الروائية أثيل هي الأجمل ص 33 "في ألوان الغروب كأنها مدينة مصورة في كتاب حكايات خرافية بنباتها ومسطحاتها المواجهة للسماوات المعتمة في حين تتألف البيوت البنية الممتدة على الشط كأنها من معدن مصهور".
   لأبناء بغداد عادات وأعراف الشرق، فقد تأثروا بقوانين أبناء الصحراء ص 20 "بحيث يقتل المرء أخته أذا أخطأت وهو الآخذ بالثأر بموجب قانون الصحراء وقد يكون الفاعل كارها كذلك، ولكن يتوجب عليه أن يفعله" فكانت حالات غسل العار تحدث في هذه المدينة بسبب تملك أبنائها صفات الثأر للسمعة والمكانة الاجتماعية.
   هنالك طقوس تمارسها نساء بغداد منها شموع خضر الياس حاملات تمنياتهن بأمل يسعفهن الحظ فيصلها النهر إلى أهدافها ... لكن من ضمن العادات ومضت هذه الجميلة هنالك عادات و   ذمية قد أستمرت ولحد الأن وهي إنتشار الرشوة فى المؤسسات الحكومية فى العهد العثماني   ، تذكر الرواية ص 50 "إن القانون بيد الأتراك ... إنها مسألة الرشوة تخص المحامين والقضاة والوالي نفسه "لكن ديفيد القادم من انكلترا لمدينة بغداد يصف من يأخذ الرشوة في انكلترا ص 62"   ، if قبل قاضي انكليزي رشوة فسينبذ ويحتقر   القمة الأبد "فهو سلوك غير طبيعي لمن يحمل المبادئ والمكانة الاجتماعية"، لكن الرشا عندما تصل إلى القضاء فلنقرأ على البلاد السلام.
    عبر مراحل التاريخ   وفى مدينة السلام بغداد كانت اغلب الحكومات لا يستقر لها راي   واستقرارها، if لم تضع عين العسس للتجسس علي معارضيها، فكان للوالي العثماني المقيم في بغداد عيون على أبنائها ص 66 "لكن عصبة الإتحاد والترقي تبث جواسيسها كما كان   الأمر فى الماضي وهم أذكى من أسلافهم "فكان أبناء بغداد يحنون للحرية والعدالة والمساواة والاستقلال، فكانوا يتذكرون حكومات أيام عبد الحميد وهي الأسوء لكنها خير من الطغيان والطغاة.
    تذكر الرواية واقع التنقل بين   جانبي الرصافة والكرخ، كانت التنقلات لأهالي بغداد عبر جسر منصوب علي زوارق   ومصنوعة من الاخشاب والبعض يتنقل عبر اسطة البلم ص 76 "البلم المستدق الطرفين واسع البطن لة مجذافان مصبوغ باللون الأبيض مصنوع   من الاخشاب وفيه بعض المقاعد المكسوة بالقماش وتظله قطعة من القماش تحميه من الشمس "، كانت البيوتات البغدادية ذات الشرفات تطل علي نهر دجلة بين البساتين الوارفة الملأى   بالنخيل، ثم تصف الرواية وصول الصحف الأجنبية إلى بغداد ومنها ص 80 "الصحيفة العربية الاعتيادية (طنين) لسان عصبة الاتحاد والترقي وبعض الصحف التركية الأخرى".
   كان أبناء وعوائل الطائفة اليهودية يعيشون في بغداد بأمان وسلام، يعتبر اليوم المهم والمقدس لهم هو يوم السبت ص 96 "كانوا يتنزهون قرب الشاطئ وأغلبهم من اليهود البغداديين الذين   كانوا يتنزهوا   علي نحو هذآ مساء كل سبت دون ميسور يهتموا بحماية رؤوسهم من الشمس ... غير إن الشباب اليهود كانوا   يلبسون الجاكيت والبنطلون الأوربيين دون ميسور يستطيعوا التوفيق بينهما، كان ثمة الكثير   من النسوة اليهوديات تجمعن مع بعضهن فى مجموعات   يتنشقن هواء الأصيل الندي، ولكن فى   غالبيتهم بدينات ويرتدين ثيابا بيضاء   وخضراء وصفراء وزرقاء من الحرير مطرزة   بالفضة ... خير مثل للقومية الحية موجودة اليوم ... لقد حافظ اليهود على تقاليدهم ودينهم وإن عاشوا في ظل حكومات أجنبية، إنهم لو عادوا القمة فلسطين وحققوا استقلالهم لن يكونوا   البرنامج المفضل أكثر من شعب كما هو حالهم اليوم ".
   تصف الرواية حال واقع البيوتات البغدادية من (البادكير) وهي فوهة المدخنة التي يتسرب منها الهواء   القمة السرداب وكذلك الجدران العاليه ذات النوافذ الصغيرة   فيتقسم البيت القمة قسمين كبيرين ص 201 "أحدهما للنساء (حرم) والثاني للرجال (ديوخانة)"، كما تصف الرواية واقع المذابح للأرمن في ظل الحكم العثماني وخوف عوائل (عكد النصارى) في بغداد من أن تطالهم أيدي المعادين لهم ص 208 "ظل عكد النصارى أياما راضخا تحت وطأة   الخوف من المذبحة، وإذ لم يحدث شيء، التقط العكد أنفاسه وعادت الحياة تدريجيا إليه كالمعتاد، في حين ظلت الأحاديث متواصلة بقصص   الفظائع الرهيبة ".
   لنهر دجلة دور كبير في تهديد أبناء بغداد من الفيضان فكانت السدة الترابية التي أقامها البغداديون لحماية مدينتهم في فيضان الربيع، ولقد كانت السدة واطئه خربها الفيضان عدة مرات وكسرها وأغرق المدينة ص 230 "هنالك أسطورة تروى عن دجلة عندما فاض وتدفق مياهه، ولكن حية عجيبة حالت بجسدها بين المياه وبين المدينة فتحول تيارها إلى ناحية أخرى، أما الحية   فقد ظلت فى مكانها متحجرة   وصار الناس يشعلون المصابيح لها ويقبلونها ".
    بعد دخول التكنلوجيا إلى بغداد من معامل النسيج ووسائط النقل النهري والبري فكانت من عجائب أهل بغداد يتحدثون عنص 258 "إحدى عجائب بغداد، تلك السيارة التي وصلت   القمة الوالي (محمد باشا) ... إنها أول سيارة تراها بغداد فيا لها من أعجوبة "   فقد وصف الراحل علي الوردي في المسير والبعض ينظر تحت السيارة ليرى قوائم تلك الخيول. مع ما كتبت الروائية أثيل عن مدينة بغداد في ظل الحكم العثماني، فهي تصف الوصف الدقيق لحياة أهل بغداد ابان الحقبة الماضية   وسيطرة الدولة علي المجالات السياسية والاقتصادية   ، لكن تبقى بغداد مركزا للدولة تتطلع إلى الحرية والديمقراطية والنظام المدني العلماني ضمانا لحقوق الأقليات وحرياتهم للتقدم والازدهار، فمتى تعود بغداد لعهدها الذهبي.


263
التشكيلي عاصم عبد الأمير: الاطفال هم رسامون كبار، وقد منحوني أشياء كثيرة



أجرى الحوار - نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    ملأ الفنان التشكيلي عاصم عبد الأمير سطح اللوحة الفنية بكل ما حملت ذاكرته من حياة وتفاؤل، فقد ولد في ناحية الدغارة التابعة لمدينة الديوانية عام 1954 وكانت لهذه الناحية التي تحيطها المزارع والبساتين الدور في استلهام أعماله الفنية، حيث أوحى بأن أعماله رسمها عندما كان طفلا يعبث بالألوان لينتج عملا عفويا يفوق كل التقنيات والأساليب، فقد استوحى رموزه من حياة الطفولة والبيئة الريفية، فكانت رموزه في لوحاته (الطفل والزهرة والحبل والديك والقطة والنخلة والورقة والناي والنخلة) فهي البراءة في رموزه الإبداعية لينطلق من خلال الفن التشكيلي إلى النجومية فأصبح يجمع بين الفن التشكيلي والكتابة والتأليف والنقد الفني والجمالي بجدارة، فقد ألف أكثر من أربع كتب في مجال الفن التشكيلي والنحت وما زالت أربع مؤلفات تحت الطبع وله مئات المقالات في الصحف العراقية والعربية ومواقع النت، مع العلم انه أستاذ للفن التشكيلي في جامعة بابل كلية الفنون الجميلة، وللأستاذ والفنان سمير يوسف له رأي بحق الفنان عاصم عبد الأمير إذ يقول (عاصم من الشخصيات الممارسة والمتمرسة في الفن وله عقلية فنية في اللوحة بشكل عام وله فلسفة في الدراسة وتأريخ الفن العراقي الحديث)، أما زميله الأكاديمي والأستاذ في كلية الفنون الجميلة جامعة بابل د. باسم العسماوي فيقول ( عاصم فنان معبأ بأفكار وممتلئ بأعماله على منطقة الطفولة، ومنطقة جواد سليم بالذات وهو المنطلق الأول، ولكن من وجهة نظري هذه المنطقة ذات التضاريس الجوادية والطفولية فهي في توسع على اعتبارها منطقة فكرية وأدائية، الفنان عاصم ليس متوقفا بهذه المنطقة ولكنه متواصل بتواصل هذه المنطقة، وأتمنى على الدكتور عاصم أن ينطلق باتجاه رحب أكثر وأن لا يحصر نفسه بهذا الضيق وعليه أن يتنفس بفسحة واتجاهات فن الطفولة، ولكنه متباطئ في أعماله والمخزون والمكنون في الداخل)، فكانت لجريدة لطريق الشعب هذا الحوار مع د. عاصم عبد الأمير.
   * متى كانت البداية الفنية؟
   * ربما العودة إلى أيام الطفولة في ناحية الدغارة التابعة للديوانية وهي مكان ولادتي، كانت هناك في داخلي ملكات عديدة أي بدايات التخطيط الأولى، وكان أخي الأكبر (راسم) رساما وقد قطع شوطا كبيرا وجيدا، إذ أصبح لنا مرسم داخل البيت للرسم بالباستيل والزيت والتخريم على الخشب، وهذا الرسم فيما بعد تحول إلى فضاء رمزي مهم لي، وفيما بعد تحول إلى نوع من الحلم اجتاحني في داخلي حتى هيمن على شخصيتي بالكامل لتوجيه خبراتي، فكان الفن التشكيلي هوايتي و هاجسي، وكانت هوايتي الأخرى الغناء وتجويد القرآن والرسم وأمارس الخط العربي و التمثيل ولكن بعد الدراسة الإعدادية بدأت معالم الموهبة تتضح، وهناك خطين سارا باتجاه متوازي في حياتي هما الكتابة والرسم، وهكذا تم تنمية الإحساس حتى ذهبت إلى أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد وتخصصت في الفنون التشكيلية فيما بعد.
 
   * إلى أي مدرسة فنية ينتمي الفنان عاصم عبد الأمير؟
  * بعد قراءة كل تيارات الفن أصبحت أستاذا في كلية الفنون الجميلة جامعة بابل لأدرس المواد النظرية الأساسية لنقد الفن التشكيلي ومنها علم ظاهرات الفن وتأريخ الفن وفلسفة الفن وعلم الجمال، و لم أنتمي إلى منهج فني معين، ولكن آخذ مناهج عديدة وطفت بها وقد تأثرت بالكثير من الفنانين، لكن بالحقيقة أجد بصمة خاصة لي مثل ما يسمى فنا تلقائيا أي فن غير قصدي أو فن ارتجالي، كما كنت أكتب لكي أصل إلى مرحلة ما، والفن فيه الوعي واللاوعي والقصد و اللا قصد والتعبير والهواجس، فهو منظومة متكاملة وهذه المنظومة تتفتح على حين غره للفنان حينما يواجه السطح التصويري الأبيض وهذا العدم كيف يحوله إلى وجود.
 
  * هل البيئة لها تأثير على أعمالك الفنية، مع ما ذكرت انك من ناحية الدغارة ذات الطبيعة الزراعية والريفية؟
  * بلا شك، هنالك في الدغارة تشكلت ملامح موهبتي في الرسم والكتابة، فقد كنت أقرأ كثيرا ولدينا مكتبة كبيرة في البيت، فقد رسمت الكثير، ومن هناك كانت تمثلاتي الجمالية الأولى، وأتذكر في الدغارة كان هنالك راعي للأغنام يجوب الناحية ودارنا كان يطل على الشارع الرئيسي في سوق الدغارة و وكنت أسمع عزف الراعي، فقد كان يحمل معه نايا وأصبحت هذه الثيمة أشبه بإيقونة من ضمن أعمالي، دائما أرسم عازف الناي إزاء هذا الخراب الكبير، هذه بعض تداعيات الطفولة.
 
  * ألاحظ هنالك بعض الثيمات من الموروث الشعبي في أغلب لوحاتك الفنية؟
   * أكيد هناك أحيانا فيها قدرة عالية من التخيل في الثيمات، ربما إسلامية أو أعثر عليها على الجدران وأحيانا تقررها الصدفة، وأحيانا الخبرة لها الدور فأنا أنمي الفكرة كما يرعى المزارع نباتاته.
 
  * يصف الكاتب والفنان المغترب علي النجار أعمالك الفنية بالرسوم الكتابية وذات جذور (أرابكسي) تكمن من الاشتقاقات العلاماتية الخطية من أرث الطبيعة؟
  * علي النجار فنان عراقي ستيني ومن المؤثرين جدا في الوسط الفني للأسف غادر العراق إلى السويد، ولكنه بخل بحقه و لم يكتب عنه النقاد كثيرا مع إنه أحد ألمع فناني العراق وأحد أشد التجارب الستينية إخلاصا، ولكن له محاولات في الكتابة وأنا أشكر له هذا الرأي، لكن أنا أنتج علاماتي وأضع بصمتي الخاصة وأحاول أن أرفعها إلى الإزاحة، وهناك هوية شخصية أقترحها على هذه الأشكال حتى تلعب مع هذه وأغيرها وأن أكيفها لصالح هويتي الشخصية، وهنالك المحيط أيضا فيه البعد الرمزي والارتجالي، فأنا رسام ارتجالي في عملي للوحة، لكن هذا الارتجال يقلل الوفاض من مرجعيات عديدة، هناك تحركني مرجعيات كثيرة منها العودة إلى الطفولة والثقافة التي عملت فيها والفكر يلعب الدور الأساسي، لكن مع هذا هنالك خبرة الرسام الذي يعرف ماذا يريد وهذا شيء أساسي.
 
  * هنالك رأي لبعض المختصين إن أعمالك الفنية لها تأثر بأعمال العملاق الراحل جواد سليم، فقد تميزت أعمالك بالشجرة والورقة والزهرة و وهذه تنحدر من موسومة نفس الجذر الأثري؟
  * بدون شك، وهذا صحيح إلى حد ما، في كثير من أعمالي فيها مسحة من جواد سليم، وجواد علم من أعلام الفن العراقي والعربي، وأعتقد نجح كثيرا، الفنان إسماعيل فتاح الترك حينما قال (إن الفن العراقي يمر من تحت نصب الحرية)، كل الفنانين تخرجوا من تحت أنامل هذا المبدع في النحت والرسم، ولكن في فترة ما كنت أشير إلى حد ما لهذا الفن المكاني والذي تستهويه دائما من البيئة التراثية السومرية.
 
 * تحتوي أعمالك على مفردات فولكلورية عراقية محلية، فهل هي مجرد أفكار أم صراع أساليب لديك كفنان؟
 * كان لدي الأهم هو كيف أنمي تجربتي الفنية الشخصية، وكيف انمي مراجعاتي وقراءاتي للأشياء، وهذا هو المهم، كل فنان له أطروحته الخاصة ومرجعياته وحيثياته، أنا أحد الفنانين الذين يحاولون توظيف مرجعيات أعمالي إلى هويتي الشخصية، بحيث عندما تجد عمل ما تقول هذا عمل عاصم عبد الأمير و هذا شيء أساسي بالنسبة لي.
 
  * ألاحظ في بعض أعمالك الفنية فيها تأمل من فضاء الطفولة وأحلام الصغر، هل تحلم بعودة ذاكرتك للطفولة واستخدامها كظاهرة في بعض أعمالك؟
  * هذا أكيد، في فترة الثمانينات وخاصة في معرض جماعة الأربعة (الرابع) تبين ذلك لي، هنالك بعض المؤثرات من فن الأطفال إلى هذا اليوم، لا زلت أستوحي الكثير من أخيلتي وتصوراتي، الأطفال هم رسامون كبار، وقد منحوني أشياء كثيرة منها محاولة اقتحام السطح الأبيض المرعب الذي قال فيه ماركيز (إن هذا السطح المجهول ... كيف يتحول المجهول إلى معلوم!)، الأطفال قد وفروا لي هذا الشيء وكذلك وفروا لي عملية التعامل مع التقنيات والحرية في التعامل مع الأفكار والأشكال، وبالتالي أرسم كطفل ولكن لا أستنسخ ما يفعله الأطفال إنما أحاول أن أزيح تراكيب الطفولة وأكيفها لصالح منطقي الخاص في فهم الرسم.
 
  * لك تصريح لإحدى الصحف العراقية تقول فيها (إنا فنان وضع نفسه على عتبة الدرب الطويل) ماذا تعني بهذا؟
  * العالم الفني صعب وقد قال الفنان الراحل جواد سليم ذات مرة (الفن سهل لمن لا يعرفه وصعب لمن يعرفه)، وبالتالي الفن إنتاج معرفة جديدة تتلقى من خلال البصر، وهذه المعرفة تحتاج إلى إبداع وثقافة وخبرة فهو يشبه الفكرة والرواية، إذن الفنان ينتج معرفة جمالية حول إنتاج الواقع والذي يصدم عادات المتلقي التقليدي وهذا شيء أساسي.
 
  * نلاحظ إن أعمالك الأخيرة تجمع ما بين الأسلوبية والتعبيرية وبعض المؤشرات الخطابية من الحضارة الإسلامية؟
  * الجمع بين أسلوبين أو أكثر مهم في العمل الفني، الأعمال الكبيرة دائما لها آراء كبيرة، وبالتالي العمل الأصيل في داخله يودع ويطلق للقارئ أسئلة كبيرة، وهذه الأسئلة من الممكن إعادة إنتاجها، وعبر التأريخ تبقى الأعمال الكبيرة مثار للجدل والأسئلة لأنها عميقة وتحمل طاقة الانتشار في داخلها و أما الأعمال التشبيهية الأكاديمية فهي دائما تكتفي أن تقرأ في الصدمة الأولى، العمل الفني الحديث يثير في داخلنا أحاسيس عجيبة وفيه طاقة دائما تتجدد.
 
  * أرى من خلال قراءة أعمالك إن هنالك حالة توتر في بناء معالمها الفنية؟
  * أنا أحترم هذا التشخيص، لأن العمل الفني يتيح لي التوتر من زوايا عديدة وهذه مهمة يطلع عليها المتلقي.
 
  * ما القاسم المشترك بين كتابك (حداثة النسب لا حداثة حائرة) و كتابك (المحرم والمباح)؟
  * ليس فقط هذه الكتب التي أصدرتها، وأضيف كتاب آخر (جواد سليم أجنحة ريادة أم ريادات) وكتاب آخر (ذاكرة الثمانينات) وآخر (عاصم عبد الأمير من خلال الطفولة)، هذه الكتب الأخيرة ستطبع في الأشهر القادمة في بيروت وفي دائرة الشؤون الثقافية، وهناك الكثير من الأفكار والدراسات هي قيد الإنتاج.
 
  * من خلال متابعتك للمعارض الفنية العراقية، هل تؤمن إن هنالك فن راقي متواجد في العراق؟
  * الآن لا يمكن القياس، لأن المرحلة التي يمر بها البلد صعبة، وقد أضرت الفن كما ارتد واقع الفن بقوة وضرب مفاصل الثقافة العراقية في الصميم، لكن ليس هنالك تجارب حقيقية داخل العراق، هنالك رسامون يعملون ليل نهار في البيوت وفي محترفاتهم وهم فنانين رائعين، وكثرة هذه التجارب وأنا أحترمها بشغف عالي.
 
  * هنالك رأي لحضرتك (إن جواد سليم ضوء مشع في تجربتي)؟
  * هذا أكيد، جواد سليم لامع يمتلك أحد أخطر التجارب من الذين عاصروا الفن العربي، نحن كنا صغار وقد تأثرنا بجواد سليم، ولا زال الكثير من الفنانين يحاولون أن يحذوا حذوا هذا الفنان العملاق، لكن المهم كيف يضع الفنان ملامح شخصيته الخاصة به؟ ، وهذا هو الأساس الصحيح.
 
  * ماذا يعني لك الموروث الحضاري البابلي، وهل تجده موروثا خصبا لاستمداد أفكارك واستدراجها إلى أعمالك الفنية؟
  * هنالك رموز كثيرة من بابل ومن آشور وسومر والتراث الشعبي والأماكن الحلية، دائما أحاول الاستعانة بمصادر الموروث ولا أقف عند حد ما، وأحاول أن أستعير وأحول وأعيد إنتاج هذه الأشكال.
 
  * ما هي مشاريعك المستقبلية؟ مع العلم أني ألاحظ إقلالك من المشاركات الفنية؟
  * الإشكال الذي يدور في واقع الحال، إن المعرض الشخصي لأي فنان يكلف كثيرا، والأعمال الكبيرة ليس لها سوق للفن داخل العراق، وبالتالي هذه معاناة كبيرة والفنان تكلفه الكثير من الناحية المادية، والعمل الفني يحتاج إلى تكاليف، يجب أن أقدم نفسي بشكل يليق بالمعرض منها (طبع الدليل والكارتات وتأطير الأعمال وإيجاد قاعة لعرض أعمالي)، هذه كلها تكاليف مادية، أنا أسأل هل هنالك جدوى من هذا؟ وأجيب لا أعتقد، فقد أقمنا معرضا مهما في الشهر السابق في قاعة حوار وهم (جماعة الأربعة) وقد قيل بحقهم (إنها من أهم المعارض التي أقيمت في بغداد من الاحتلال الأمريكي ولحد الآن)، أيضا أقمنا معرضا آخر في عمان وكان من المعارض الرائعة، وقد زار المعرض الكثير من الفنانين العراقيين.
 
 * لقد كرمت من قبل إتحاد الأدباء والكتاب العراقي المركزي بسبب كتاباتك وتأليفك؟
 * أنا أشكر إتحاد الأدباء العراقي المركزي لهذا الاهتمام والعناية، وكنت أتمنى من جامعة بابل أن تبادر بهذا التكريم كوني أحد تدريسيي هذه الجامعة، ولكن شيء من هذا لم يحصل، وهذا شيء مؤسف و أيضا عتبي على إتحاد أدباء وكتاب مدينتي بابل، لكن على أية حال تكريمي من قبل الاتحاد المركزي هو شرف لي وللجهود التي بذلت في حقل الكتابة والتأليف وكذلك الفن وأنا سعيد بذلك، هذا يعطي إحساس بمتابعة الإتحاد للجهود المبذولة للمكرم والتي تبذل في حقل الكتابة النقدية وكذلك في حقل الرسم.
 
 * لماذا أهمل درس الفنية في المدارس العراقية؟
 * هذا إشكال بنيوي في الشخصية العراقية، العراقي لا يمتلك ثقافة فنية حقيقية مع الأسف الشديد، لكن في أوروبا دائما يعتبر للفن الأولوية، وقد جربت دول أوروبا الدين وفشلت وجربت السياسة في دول دستورية رائعة كما جربوا الثقافة والفنون، كما للثقافة والمتاحف أولوية واهتمام، الأطفال في دول أوروبا يتابعون الأعمال الفنية وتبدأ المدرسة بتعليمهم الذائقة الفنية من خلال زياراتهم للمتاحف والمعارض، فهي دول تعرف كيف تبني مستقبل أبنائها، لكن في العراق والوطن العربي قد ضيعا الاهتمام بهذا الجانب، الآن ما يحدث إن هنالك شخصيات سياسية تحارب الفن والثقافة، أي بمعنى إنهم يحملون ثقافة أخرى، وأنا أؤكد لهم إنهم لم ولن ينجحوا بمسعاهم! هذا لأن من غير الممكن للعراق أن يسير بساق واحدة، في الزمن البائد البعثيون سيروا العراق بساق واحده كقاعدة (العراقيون بعثيون وأن لم ينتموا) لكن هذا النظام سقط، أعتقد على الحكومة أن تترك للناس حرياتهم الشخصية، فالحريات مكفولة من قبل الدستور وهذه أبسط حقوق التعبير عن الرأي بعد السباحة الطويلة في الدم، علينا أن ننتج دولة مدنية عصرية يكون فيها المواطن هو السيد وهذا شيء أساسي لإطلاق الحريات لأبناء العراق من خلال ممارسة حياتهم الفنية في جميع مجالاتها من الغناء والرسم والتمثيل وممارسة العقائد.
  وقد كانت للدكتور عاصم عبد الأمير الإصدارات التالية والتي بعضها طبع والآخر ما زال تحت الطبع في بيروت ودار الشؤون الثقافي:
  1 - الرسم العراقي حداثة تكييف ... دار الشؤون الثقافية - بغداد 1999
  2 - تخطيطات محمد غني حكمت .. حداثة نسب لا حداثة حائرة - دار الشؤون الثقافية 2000
  3 - أولى اللغات في العالم - تأليف مشترك مع المعماري محمد مكية وجبرا إبراهيم جبرا وعادل كامل - طبع في مؤسسة ليزر لاين 2002
  4 - حداثة النسب لا حداثة حائرة
  5 - المحرم والمباح
  6 - الأبواب للفنان محمد غني حكمت - عمان
  7 - جواد سليم أجنحة الأثر ريادة أم ريادات - بيروت
  8 - الرسم العراقي ذاكرة الثمانينات - دار الشؤون الثقافية
  9 - عاصم عبد الأمير مخيال الطفول - قيد الطبع - بيروت
 
 
 







264
الباحث عامر جابر تاج الدين يؤرخ لمدينة الحلة الفيحاء من الناحية السياسية والاجتماعية والإدارية للقرن الماضي

نبيل عبد الأمير الربيعي
     الحُلة تلك المدينة العريقة بتأريخ حضارتها البابلية التي نشأت في موقع Site لا يبعد عن مدينة بابل الأثرية في منطقة زراعية خصبة, فقد بنا بني مزيد دولتهم عام 459 هـ من قبل زعيمهم (صدقة ابن مزيد الأسدي) على هذه الأرض وقرب شاطئ الحُلة المتفرع من نهر الفرات , فكانت قريبة من مركز الخلافة لمدينة بغداد  وتتوسط مدن الفرات الأوسط , فكانت تحتل مرتبة متميزة في مجال  العلم والأدب والفقه , وفي مطلع القرن العشرين كانت مركزاً للوعي السياسي لنشاط أبنائها في الحركات الدستورية التي ظهرت في إيران وتركيا عامي (1906-1908) فدخلت لهذه المدينة الصحافة والتلغراف والبريد , فمن الصحف العربية التي وصلت لهذه المدينة (المقطم والهلال) ثم صدرت صحيفة داخل المدينة باسم(الفيحاء) , أما التعليم فقد اتخذ الناس من المساجد مدارس يعلمون أولادهم الخط  العربي وتلاوة القرآن حتى تأسس أول مكتب ابتدائي في الحلة عام 1899 ومن ثم تأسست مدرسة الأليانس لأبناء الديانة اليهودية , ويؤكد عبد الله الفياض " إن تقدماً فكرياً قد أخذت جذوره تنمو هنا وهناك, وإن هذا التقدم الفكري لا بد أن  يتمخض عن نمو في الوعي السياسي والاجتماعي ".
    الباحث والمؤرخ (عامر جابر تاج الدين) من مواليد الحلة عام 1948 اهتم في الدراسة و البحث لتأريخ مدينته الحُلة الفيحاء  التي تنصب على العصر الحديث بين فترة الاحتلالين العثماني والبريطاني , فكانت دراسة تاريخية مهمة قدم من خلالها لأبناء مدينته قدراً مهما في تأريخها السياسي من خلال كتابه (تأريخ الأحزاب والجمعيات السياسية في الحلة 1908-1958) الصادر عام 2007 عن دار الشؤون الثقافية في بغداد  والذي يتضمن (560) صفحة من القطع الكبير , الذي تناول فيه أحداث الحركة الوطنية في الحلة بأحزابها وجمعياتها , الباحث يؤكد في مقدمة الكتاب ص7 " هي دراسة  تناولت نشوء  وتطور الأحزاب السياسية التي تكون في المدينة خلال النصف الأول من القرن العشرين, وتحديداً بين الأعوام (1908-1958) , وشملت العهدين العثماني والملكي والأخير على فترتين.. الأولى بين الأعوام (1919-1935) والفترة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية وشملت الأعوام(1946-1958) وبعد هذه الفترة ألغت الحكومة إجازات الأحزاب لتبدأ مرحلة جديدة (1955-1958) تركزت على العمل السري  أثمرت عن علاقات نتج عنها جبهة الاتحاد الوطني 1957 وتوجت في النهاية عن قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ",وكتابهُ الثاني (الحلة ..لمحات اجتماعية وإدارية وفنية 1858-1958م)الصادر عام 2013 عن وزارة  الثقافة  عن بغداد عاصمة الثقافة العربية  وقد تضمن الكتاب (480) صفحة من القطع الكبير , إضافة لكتابه (تاريخ مساجد الحلة ..رحلة في عالم الإيمان والأديان)لم يذكر اسم دار النشر ولكن الكتاب يتضمن (404) صفحة من القطع الكبير مضاف إليه الصور ذات الورق الصقيل والملونة لمساجد الحلة , وهنالك مؤلفات ثلاث تحت الطبع منها (تاريخ المزارات والمقامات في الحلة و تأريخ مصارف الحلة والجزء الثاني لكتاب الأحزاب والجمعيات السياسية 1958-1968) , فقد كثف دراساته في تاريخ المدينة في جميع جوانبها المتنوعة, والباحث عامر تاج الدين عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق وعضو الجمعية العراقية للتصوير وعضو حلقة الحوار الثقافي في لبنان , حاصل على شهادات تقديرية وامتيازات من جهات إعلامية عديدة , نشر مئات المقالات والبحوث والتراجم في مختلف الصحف والمجلات العراقية .
   كتاب الباحث عامر تاج الدين (الحلة..لمحات اجتماعية وإدارية وفنية 1858-1958) يتناول واقع الحلة الاجتماعي والإداري والفني  زهاء قرن كامل من تسلسل الإدارة المدينة من قبل متصرفو الحلة , فكان الكتاب عبارة عن سفر مهم قدمه الباحث عن تاريخ المدينة الاجتماعي والإداري , بسبب واقع المدينة المهم  التي صنع أبنائها  الكثير من الأحداث السياسية والإدارية والاقتصادية والفكرية والعسكرية , إلى جانب أهمية مدن العراق الرئيسية كالبصرة وبغداد والموصل , يؤكد الباحث لسبب اختياره هذه الدراسة في ص7" بسبب أن  المتصرفين ظاهرة لم تخضع سابقاً للدراسة كما تكونت هذه الدراسة أيضاً نتيجة البحث المتواصل عن المعلومات التي جمعتها خلال تلك الحقبة , وتدوين تاريخها الإداري...وذكر أهم الحوادث التي شهدتها مدة البحث", بدوري اثني على يد الباحث لما قدمه من بحث ودراسة مهمة عن تاريخ المدينة فهو جزء من تاريخ العراق , فمدينة الحلة من المدن المهمة لأنها تعد وريثة مجد دولة بابل , كما كان لها الدور السياسي والاقتصادي لبلاد ما بين النهرين حيث أصبحت مقراً للحوزة العلمية و مركزاً للاجتهاد والإفتاء زمن العلامة(الشيخ الطوسي) .
   فقد عرضَ الباحث  تاج الدين في كتابه  التشكيل الإداري للدولة العثمانية عام 1858 وتعاقب الحكام على المدينة  حتى احتلال العراق من قبل الاحتلال الانكليزي بداية الحرب العالمية الأولى  وواقعة عاكف عام1916 وتأثيرها في المجتمع الحُلي, بسبب هذه الواقعة قد تم إرهاب أبناء المدينة من جميع طوائفها وخرج معهم يهود الحلة يرتلون بالعبرية  المزامير التي من عادة اليهود تلاوتها في ساعة الضيق فقد" استباح الجيش مدينة الحلة وفعل فيها الأفاعيل من الحرق والهدم والنهب والسلب والقتل وضرب فيها أربع محلات حيث شمل محلة الوردية , أما محلة المهدية فلم يتعرض لها بسوء احتراماً لأخذ زعمائها .....ثم شكل محكمة عسكرية لمحاكمة من القي القبض عليهم فحكمت المحكمة بشنق 127 رجلاً ونفي  231 رجلاً وكانت عمليات الشنق تجري على دفعات يوماً بعد يوم" حتى قصة المشنوق الأخير يحمل رقم(127) يدعى الياهو بن مردخاي من الديانة اليهودية  وكان أصم وأبكم ويعمل ببيع الفرارات و سبب إعدامه لاستهزاءه من القوات العثمانية  لاستفزازهم بكل شجاعة , فقد عده الدكتور علي الوردي بان عدد المعدومين كان ينقص واحد بما يسمى (واقعة الحلة الأولى), وقد أشار الراحل أنور شاؤل في كتابة قصة حياتي في وادي الرافدين ص38 "كانت البيانات المعلقة على صدور جميع الذين أمر عاكف بك بشنقهم تحمل جملة واحدة هي الثورة على الدولة العلية العثمانية عدا الورقة التي علقت على صدر المشنوق الأخير فقد ذكر فيها إن الجريمة كانت  امتناع المحكوم عليه عن صرف الليرة العثمانية ", فكانت ثورة من قبل أبناء الحلة على حكامها بسبب الوعي السياسي والاجتماعي عندما أساء الأتراك لأبناء المدينة في المعاملة , من خلال مراجعتي للكتاب لاحظت إن تاج الدين قد نهج نهجاً غير متعصب أو منحاز لجهة معينة , لكن كانت الدراسة ذات نهج علمي رصين بعيداً عن التمجيد والتهليل, معتمداً في البحث على الوثائق التاريخية المهمة  لعرض تاريخ الحوادث , فقدم الباحث من خلال جهده  لجمع المعلومات والوثائق المهمة  خدمة للمدينة والبلاد .
   أشار الباحث تاج الدين في ص13 إلى مكون المجتمع الحُلي من العشائر العربية و الأكراد ومن الديانات المسيحية والإسلامية واليهودية ,فيؤكد"أما الأكراد فهم قبيلة الجاوان ... سكنوا الحلة المزيدية بالعراق " ثم يعقب على عادات العشائر في المدينة في الحقبة الماضية حيث" بقيت العشائر على عاداتها  التقليدية كالاعتزاز بالأنساب وعادات أخذ الثأر ,وديات القتل ,وكانت الدولة العثمانية غير قادرة على السيطرة عليهم",كما يؤكد الباحث  في ص15 "أن الحلة تمتلك اقتصاداً زراعياً قادراً على تحقيق فائض في الإنتاج وتتمتع بموقع جغرافي يرتبط مع المدن المجاورة بشبكة من الطرق ووقوعها على نهر الفرات أكسبها شهرة تجارية وعسكرية  حيث عند فيضان دجلة يصبح الطريق الوحيد هو نهر الفرات" ,أما الجانب الإداري فيؤكد تاج الدين إن أول من تولى أمر الحلة هو "شبلي العريان الدروزي عام 1858وهو من دروز سوريا .. أواخر أيام عمر باشا..حيث شغل المنصب عشر سنوات ...كان قوي الإرادة , استتب الأمن في عهدة واستطاع السيطرة على السلب والنهب وكان يتولى بنفسه قيادة مجاميع عسكرية مسلحة لإرهاب السكان وإجبارهم على دفع الضرائب  والأموال للحكومة", ثم يعقب الباحث عن تأريخ دخول التلغراف لمدينة الحلة أوائل عام 1861 " إضافة إلى تأكيد الباحث في مجال آخر إن مدحت باشا دعا إلى تشكيل وتأسيس لجنة لإسكان العشائر وتوزيع الأراضي عليها في مدينة الحلة عام 1870 فترة رئاسة متصرف لواء الحلة (مظهر باشا) .
  أما واقع الحلة الأدبي فيذكر الباحث تاج الدين في ص29 إن المدينة " انفردت بتكوين نهضة شعرية لعدة أسباب :
1-    موقعها الجغرافي الجميل 2- الهدوء السياسي بسلامتها 3- بسبب أن مؤسسيها بنو مزيد الأسدي فقد نشأت مطبوعة بطابع العروبة فأصبح الشعر سليقة يجري على كل لسان 4- انتقال الحوزة العلمية لها قرابة قرنين ونيف 5-توافد شخصيات للدراسة في الحلة  مما جعل الشعر فيها بغزارة , إضافة لأسباب عدة ذكرها الباحث.
  ثم يعرج  الباحث إلى تأريخ تواجد الطائفة اليهودية في المدينة  عام 1305هـ وقصة منارة النبي ذو الكفل  والصراع على مرجعية المقام والقبر للمسلمين أم لأبناء الطائفة اليهودية فيذكر الباحث تاج الدين في ص135"كانت مدينة الحلة مكون مجتمعها من الديانات المختلفة ولها أماكن للتعبد لكل ديانة وبكل حرية . وعوملت الأقليات على أساس المساواة مع المسلمين في المجتمع العراقي , فكان إلى جانب المساجد التوراة والكنيسة ",فكان لليهود مكانين للعبادة بما تسمى التوراة  الأول وهو مندرس حالياً في شارع الري في الموضع الذي اتخذه حاج عيسى  معملاً للكاشي سابقاً والتوراة الثانية في الجباوين في عكد اليهود ولا تزال البناية موجودة, وكان في هذا المكان تجمع لليهود " , حتى هجرتهم من المدينة عام 1951 , فيذكر الباحث في ص 309 لمحه موجزة عن تاريخ أصل يهود العراق والسبي البابلي القديم , ولكن في مطلع العشرينات من القرن الماضي حافظ الدستور العراقي على "حقوق اليهود وكان مستوى  وعيشتهم مرتفعاً , وقد عبرَ الملك فيصل الأول عن التسامح العراقي تجاه الأقليات في خطاب ألقاه في حفل من الاسرائيليين في بغداد بتاريخ 21 تموز 1921 ( ولا شيء في  عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي واسرائيلي , بل هناك شيء يقال له العراق ... ولكنا  منسوبون إلى العصر السامي ولا فرق في ذلك بين المسلم والمسيحي واليهودي "وعلى أساس هذا التآخي حيا الزهاوي الملك فيصل قائلاً:
                     عاش النصارى واليهود ببقعة .......والمسلمون جميعهم إخوانا  
   كما أشار الباحث إلى عائلة  أحمد سوسة إذ يذكر في ص311 " يذكر سوسة  في مذكراته ص107 : كان والدي رجلاً صالحاً مستقيماً في معاملاته صادقاً في مخالطاته صريحاً في كلامه مما جعله محبوباً لدى عارفيه وكانت له منزلة ذات شأن في المجتمع  حتى عين عضواً في مجلس إدارة اللواء", أما في ص 312 فيؤد الباحث تاج الدين " كان لليهود دورُ في الحياة الحزبية في الحلة لم يقل شأناً فقد انتموا إلى جانب العرب  في محلية الحزب الشيوعي ومنهم "داوود الياهو" خياط ويوسف نسيم أبو زنة ونعيم صالح العابد... وغيرهم , وفي الوطني الديمقراطي أصبح يوسف اسرائيل مقرراً للحزب وإبراهيم المختار محاسباً " أما " الأستاذ داوود معلم يعقوب من سكنة عكد اليهود في محلة الجباويين أديب ومفكر له في الأدب والنقد آراء صائبة ", وقد انتشرت في المدينة ظاهرة الياهو ففي ص 317 عمل الياهو" قطعاً  ذهبية بمهارة فائقة فكانت مصوغات جميلة لا غش فيها فهو لم يخلط أية معادن رخيصة أخرى عندما يقوم بصياغة القطع التي يطلبها  الزبائن منه , وتدرب أغلبية صاغة الحلة كصناع تحت يده ", لكن بعد الهجرة " لم يعرف اليهود في أي بلد في العالم عيشاً أرغد من العيش الذي عرفوه في العراق".
   يؤرخ الباحث تاج الدين  في عهد الإدارة البريطانية  أحداث وأعمال حدثت في المدينة من الناحية العمرانية منها إنشاء (جسر بروكنك) قبل عام 1921  وإنشاء السكك الحديدية عام 1916 , وانتشار المقاهي وتعرّف الحُلة على الشاي قبل الحرب العالمية الأولى , وتاريخ إنشاء أول كنيسة كنادي ومكان للعبادة لأبناء المدينة , ثم يعرج على تاريخ تشكيل الشرطة المحلية في المدينة نهاية حزيران عام 1919, وتاريخ تأسيس فرع لدائرة الري في الحلة عام 1920 , وإن أول سيارة  أهلية  تدخل  الحلة  سنة 1919 تعود إلى أحمد سوسة, أما تأريخ أول إحصاء وتسجيل للنفوس  فكان عام 1921 , وأول متصرف في العهد الملكي لمدينة الحلة كان علي جودت الأيوبي عام 1921 ومن ثم ناجي شوكت وتحسين العسكر  وسعد صالح جريو ,أما سجن باب المشهد فيؤكد الباحث تاج الدين إن"منتصف الثلاثينيات دعت الحاجة إلى بناء سجن جديد لأن السجن الحالي أصبح وسط المدينة وكانت فكرة اختيار موقع لبناية  السجن آنذاك في موقع غير مأهول بالسكان منتصف عام 1936 ", أما أول جريدة ومطبعة  في المدينة فكانت جريدة الفيحاء وصدرت على أثر وصول مطبعة الفيحاء" وكان الخواجة الياهو عزرة دنكور الذي تعهد بجلب ماكينة الفيحاء وأدواتها لصاحب هذه الجريدة من ميناء البصرة إلى لواء الحلة " أما أول نادي فكان في بداية شهر  تشرين الثاني 1926 باسم نادي البلدية , وإن أول فرقة اطفائية  أنشئت في مطلع شباط عام 1927 , ويؤكد الباحث تاج الدين إن أول ماكينة كهربائية ابتاعها الأسطة جابر  صاحب السيارات المشهور  وقد كانت قوتها الحصانية 12 حصاناً لينير بها داره الذي يدعى بـ(منزل المظفرية) الذي تم بناؤه حديثاً , ثم أصبح فندقاً لمبيت الزائرين  والوافدين إلى الحلة  مع مقهى ملحقة به ,كما أشار الباحث تاج الدين إلى أن أول من امتهن التصوير هو (محمد علي شنطوط).
  لقد تم تأسيس  بلدية الحلة في العهد البريطاني  وتم تنصيب محمد أفندي أغا في المجلس البلدي في لواء الحلة ففي ص 219  أشار الكاتب إن من" وسائل التبريد عند الحُليين (موسم الحر) جاء في التقرير الإداري عام 1929: تقوم البلدية برش الجادة العمومية في كل يوم مرتين وهذا مبدأ استعمالها وتزيل الأوساخ والقاذورات من الجادات والأسواق ويتم تشييد المقاهي على حافة النهر ابتغاء أن تحصل على إيرادات يكثر وارداتها " , كما كان من واجبات المتصرفية في لواء الحلة تقديم تقرير إداري لما أنجز خلال عام من عمل المتصرفية وهذا شيء جيد ليعرف المواطن الحلي  ما قام به المتصرف من أعمال العمران والبناء والخدمات .
   كان النشاط الثقافي والفني يهم أبناء الحلة بسبب الواقع الثقافي الذي تتمتع بع اغلب العوائل الحلية فقد تم تقديم عمل مسرحي مطلع عام 1932 من قبل فرقة الراحل حقي الشبلي , وبدعم من أسطة جابر بالتبرع بإقامتهم في منزل المظفرية مجاناً تشجيعاً منه للفن ,أما أول صالة عرض سينمائية فيؤكد الباحث تاج الدين في ص280 "هي سينما الحمراء الشتوي في الحلة فتحت في عام 1942 من قبل  إسماعيل شريف في بناية مجاورة للبريد ", أما من الناحية المصرفية فيؤكد تاج الدين في ص 296 "افتتح في الحلة مصرف الرافدين فرع الحلة /5 عام 1946 ... وكان الأستاذ نوري كاشف الغطاء من أوائل مدرائه" , وقد اهتمت الشركة الوطنية للإنشاء والتعمير بتسيير سيارات "في شوارع الحلة بتاريخ 28-1-1948 وكانت سيارتان تسيران من المحطة إلى السجن المركزي ".
   من خلال مراجعتي للكتاب فهو يعتبر مصدر مهم لمن يروم البحث في تأريخ المدينة لاعتماد الباحث على الكثير من المصادر والوثائق المحفوظة في مركز حفظ الوثائق والصحف والمجلات والمقابلات الشخصية والصور الوثائقية , فأنا اشد على يد الباحث تاج الدين لهذا السفر القيّم الذي بذل الجهد الكبير من الوقت والبحث لتقصي الحقائق بشكل مستقل  بعيدا عن أي ميول سياسية أو مذهبية , البحث يمثل حقائق مهمة في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية , فقد قدم المعلومة المهمة بالقسط اليسير خدمتاً للمدينة وأهلها ولتأريخ العراق  والمجتمع  بنظرة فاحصة وسديدة , فهو جهد مضني  في عمل جمع من خلالها المعلومات والوثائق والصور  لتأريخ مدينة الحُلة .


عامر تاج الدين_-الحلة لمحات اجتماعية وادارية وفنية

265
الصحائف البغدادية ..نبذ وخواطر , ذكريات وأحاديث , أعلام وأقلام


كتاب الصحائف البغدادية  لفؤاد طه محمد البغدادي

نبيل عبد الأمير الربيعي
   مدينة بغداد حقاَ هي مدينة الأسرار والأحلام ودار الخبايا والخفايا وعجائب الليالي والأيام , فقد كتب عنها الكثير  ممن زارها من الكتاب والرحالة  أو المستشرقين , فكانت شهادات  تنطوي على الوفاء والانطباع الذي تركته مدينة بغداد في قلوب زوارها ,يذكر الباحث د.عبد الستار الراوي في هذا الكتاب في ص167 "إن أبا جعفر المنصور شيّد عاصمة جديدة على موقع قرية تعرف باسم(بغداد) منذ أيام حمورابي (القرن 18 ق.م) وسماها مدينة السلام تيمناً بالجنة , وكأنه قد فهم الجزء الأول من اسمها المركب في لغة أهل (بابل )القدماء, إلا وهو(البستان)  أو (الجنينة) حيث إن لفظة (باغ)الآرامية تعني ذلك , أما الجزء الثاني (داد)فيعني (الحبيب)إذن معنى (بغداد)هو (جنة الحبيب).
  صدر للباحث فؤاد طه محمد الهاشمي البغدادي عن دار  ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع ضمن سلسلة بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام 2013 وعلى نفقة وزارة  الثقافة العراقية كتاب يخص مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية , تحت عنوان "الصحائف البغدادية ...نبذ وخواطر , ذكريات وأحاديث , أعلام وأقلام", الكتاب يحتوي على  194 صفحة من القطع المتوسط , تضمن الكتاب ملتقطات بغدادية  حول أحياء  وأزقة بغداد  وبعض الشهادات ممن تعزز حب بغداد العباسية في نفوسهم  إضافة إلى زيارات حديثة لبغداد من  مثقفين وأدباء وفنانين ورحاله عرفوا هذه المدينة الجميلة عن قرب .
    الكتاب  كان على فصلين , الفصل الأول احتوى  على ما كتب عن معالم بغداد الأثرية التي  بقى بعض من  معالمها لحد الآن, وممن زال من معالمها وآثارها بسبب  جيوش الاحتلال التي  طمست بعض معالمها منها سور بغداد التأريخي و باب الطلسم الذي اتخذه الوالي العثماني كمخزن للعتاد والبارود فقد تمد  نسفه من قبل الضابط (طه محمد شريف علي جهيم) بأمر عسكري بعد انسحاب الجيش العثماني المنكسر عام 1917 من  مدينة بغداد ودخول الجيش الانكليزي المحتل لها كما ذكمر ذلك الكاتب في ص 44,فقد أقدم الأتراك على نسفه لأنهم اتخذوه مستودعا للبارود ثم انسحبوا ليدخل الجنرال ستانلي مود ويحتل بغداد في 11 آذار 1917 ,كما أشار الكاتب إلى إن هذا الباب كان مأوى للأشقياء والسراق ففي ص 39 يذكر الكاتب قد "قتل الشقي ابن الخبازة  بالقرب من الباب الوسطاني , الذي كان وكرا يلجأ إليه عدد من أشقياء بغداد أمثال (طه ابن الخبازة)الذي لم يكن شقيا بل فارسا من (محلة الفضل) دافع عن أبناء محلته,فكان باب الطلسم أو ما يدعى بالباب الوسطاني وكراً للأشقياء منهم "عباس السبع وخماس ابن شاله وصالح ابن الدهان وعمران الشبلاوي وممودي أبو شكر والشقي سمرمد وابن عبدكة " إضافة للكثير من الأشقياء الذين كانوا يرددون بفخر "نحن أبناء الطلسم".
   كما أشار الكاتب إلى بعض أحياء وشوارع بغداد وهي من معالمها للفترة الماضية لتوثيق ذلك في كتابه الذي يعتبر ذات أهمية تاريخية  لمن يبحث في تاريخ هذه العاصمة العباسية التي بناها الخليفة المنصور مثل "محلة فرج الله و والسور والصرافية والميدان وجديد حسن باشا والبارودية وقمر الدين والفضل والقرة غول وتبة الكرد وحمام المالح والحيدر خانة والعاقولية "والكثير من أحيائها ,لكن الكاتب قد وضح بشكل أكثر عن محلة فرج الله  معتمدا بذلك على الجدول المنشور على ص 21 من أطلس بغداد للأستاذ احمد سوسة  الذي يضم محلات بغداد ومساحة ونفوس كل محلة مع بيان لعدد الدور والقصور والعمارات ,كما أشار الكاتب في ص 21 من كتابه ,أما في ص23 فقد أشار الكاتب إلى شارع القشلة ومدرسة الحميدية  التي اتخذت مدرسة الحقوق مكاناً لها في بناية المدرسة الحميدية وقد أدار مدرسة الحقوق المرحوم "موسى الباججي " ,إضافة إلى الإشارة إلى أول تظاهرة شعبية في شارع القشلة عام 1904  ضد قرار سلطاني صدر من  دار الخلافة الإسلامية – استنبول  بتسجيل عدد النسوة في العراق والذي اعتقد أهالي بغداد بأنه يمس تقاليد موروثة وعادات عربية ويمس شرفهم وكرامتهم , فخرجت تظاهرة يتقدمهم السيد احمد النقيب معلنين السخط والاستياء لهذا القرار ,فقصد الجميع (سراي الوالي)ولم يخرجوا إلا بعد أن قرر الوالي تأجيل النظر في أمر  التسجيل".
  الكتاب يتضمن  مواضيع وأمور مهمة  تخص العاصمة بغداد في العهود الماضية , فهو وثيقة مهمة لتوثيق تاريخ مدينة كانت رمزاً للعواصم العربية , فقد عرفت في تآلفها وتعايشها مع جميع أبناء الطوائف والديانات الأخرى ,إضافة إلى  ما تضمنه الكتاب  بمواضيع تخص تاريخ المحاكم المدنية من خلال مقال بعنوان "بناية المحاكم المدنية"ولماذا أطلق عليها اسم (الدفتردار ), والدفتر  ذلك المصطلح اليوناني أي بمعنى جلد الحيوان لأنه كان يستعمل للكتابة وقد اتخذ العثمانيين اسم(الدفتر دار) عن الإيلخانيين كما ذكره الكاتب في صفحة 28  أي بمثابة وزير المالية  , لكن  المصطلح بقى يستخدم حتى ألغى في تركية عام 1841م , ثم يتطرق الكاتب  إلى (قصر الشابندر )في ص 30  لعائلة تألق اسمها التاريخي حيث تحول القصر إلى مقهى معروف  على مستوى العراق والوطن العربي فهذه" الاسرة البغدادية لم يبق لها مما يقرن باسمها إلا مسجد في الأعظمية وخان في شارع المستنصر وقد بيع بثمن بخس وهذا المقهى, وقد جرت عدة محاولات لبيعها لولا كفاح الحاج محمد ابن كاظم ابن سعودي الخشالي عميد المقهى ",ثم يعرج الكاتب على دار القلمجي  فهم عائلة اتخذت من التبغ تجارة لهم في بغداد  وكان عميدهم أيوب القلمجي .
   يؤرخ الكاتب تاريخ غرفة تجارة بغداد في ص33  فكانت تمثل" أول غرفة تجارية بالمعنى الصحيح...وكانت مرجعاً للأمور التجارية والاقتصادية وعين لها :
1-  مركوريان- مدير شعبة المصرف العثماني رئيساً
2-  شاؤول معلم حسقيل –رئيساً ثانياً
3-  الحاج ياسين باشا الخضيري المستشار الأول
4-  يهودا زلوف- مستشارا ثانياً
أما الاعضاء فهم (شاؤول شعشوع,محمود الأطرقجي,الحاج عبد المجيد حمودي ,إبراهيم حاييم معلم إسحاق,عزيز شكر ,كريكور اسكندر),أعلنت الغرفة لزوم تسجيل الشركات وان تحصل كل شركة على إجازة ", كما تضمن الكتاب ما احتوت به  ساحة البقحة على طوب أبو خزامة ,فكان مكانه في مدخل سوق الهرج القريب من وزارة الدفاع  ويعود تاريخ هذا المدفع إلى عهد السلطان مراد الرابع , فقد ألف أبناء العامة من البغداديين القصص والخرافات والحكايات حول هذا الطوب منها أن الانخفاض الواضح على ضهره  "يفسره البغداديون بأنه جاء نتيجة ضربة كف السلطان سددها إليه بعد أن حرن وتوقف عن المسير " فكان الطفل الوليد لا بد أن يكتسب  شهادة ميلاده من قيام أمه أو جدته بإدخال رأسه في فوهة المدفع ثلاث مرات , وروحانية الطوب تسري على شفاه المرضى ودفع موجات الرمد والحمى والحصبة والحسد.... وقد ذكر احد المواطنين اليهود – وهو من بيت بحر ,تحت التكية إن أمه حملته في أول أيام ولادته الى طوب أبو خزامة وفعلت به ما تفعل بعض الأسر المسلمة بأبنائها ".
   يذكر الكاتب ضمن موضوع (بغداديات شاردة) لبعض المصطلحات التي تطلق على أزقة ومحلات بغداد  وتاريخها ومصادرها مثل ( الجشمحية,محلة سوق الغزل , البلانجية ,الدنكجية, الحفرجية, الكلخانة, عقد الفتاتيل , الاسكجية,عقد النقاقيب  , الدوكجية,البواديش , الدهامشة, سوق حمادة ) وغيرها من الأسماء, إضافة إلى التطرق لتاريخ  محلة رأس القرية والحمّامّات منها" حمام  القاضي وحمام حيدر  وحمام ياسة بنت أيوب وحمام تاجة بنت الطبقجلي وحمام بنجة علي وحمام الشورجة وحمام عيفان وحمام يونس )  وما كتب من شعر شعبي عن حمّامات بغداد, ثم يعرج الكاتب إلى تاريخ إنشاء عمارة الدامرجي في ص57  وفي ص60 يذكر الكاتب  نبذة عن تاريخ طاقات بغداد منها (الطاق الأظلم , طاق المشير هدايت , طاق السقا,طاق احمد الخبل ) .
  أما الفصل الثاني فقد تضمن الكتاب مجموعة  الشهادات لعشاق بغداد  منذ الدولة العباسية وحتى يومنا هذا من أبناء بغداد وشعرائها وأدباء وشعراء عرب  ومستشرقين زاروا بغداد  وكتبوا بحقها ما يسر الناظر فبغداد كانت وما تزال لم تبرح بهوى أفئدة الشعراء لتاريخها وجمالها وجلالها لكن  ما يؤلم من يقرأ ما كتب عن بغداد في العصور السابقة وما حالت إليه بغداد من دمار يحز في النفس  فمن شهادة يوغسلافية للمخرج السينمائي (جورج سنمو سكي) في ص122"بغداد رائعة نظيفة,بخلاف عواصم كثيرة زرتها , بينها أجنبية اشعر إنني شرقي الثقافة والمشاعر , وجدت في بلدكم شيئاً مختلفاً انه سحر الشرق الحقيقي ,حيث نهضت الحضارة ها هنا , ممثلة في بابل ورموزها" , ثم يتطرق الكاتب في ص155 إلى تاريخ طرق النقل وأنواعها  في العراق ,ثم يذكر الكاتب في ص181 مقال عن الدكتور  (خالد ناجي داود الزبيدي)  وطريقته البغدادية لمعالجة الحروق , الدكتور من مواليد بغداد عام 1923 تخرج من الكلية الطبية العراقية عام 1945 ونال درجة الماجستير في الجراحة عام 1948 ثم حصل لقب الاختصاص  في الجراحة العامة  و" فتح عيادة طبية شعبية لمعالجة  المرضى من الفقراء استمرت  أكثر من عشر سنوات  وكان أجرة  المريض تتراوح بين 150-250 فلسا شهريا ثم اصدر مع أشقاءه مجلة باسم  (العيادة الشعبية) التي تصدر مرتين في الشهر وبحملة (15) ألف نسخة للدفعة الواحدة "لكن الدكتور الزبيدي " ابتكر(الطريقة البغدادية) لشفاء الجروح والحروق,ونتيجة ذلك وجهت الجمعية الطبية البريطانية دعوة للدكتور البغدادي لإلقاء بحث أمامها حول الموضوع " حتى أحيل الطبيب النابغة إلى التقاعد عام 1979.
   الكتاب مهم  للباحثين في شأن العاصمة بغداد  فهو يحتوي  على المأثورات البغدادية التليدة ,ولتاريخ مدينة هي أجمل عواصم البلاد العربية , لكنها في الوقت الحاضر أهملت ومزقت أحيائها بسبب الفوضى والحرب الطائفية والمذهبية .




266
محطات من حياة وفكر هادي العلوي للباحث مازن لطيف
نبيل عبد الأمير الربيعي
   عندما أتابع ما صدر من كتب ودراسات وأبحاث  للمفكر العراقي هادي العلوي  , أرى نفسي أقف أمام  موسوعة  علمية تراثية زاوجت بين الماركسية والتراث الإسلامي  والتصوف, رجل زهد في الحياة وتفرغ للبحث والدراسة خدمة للبشرية جمعاء  ولأظهار الحقيقة  ليس إلا.
    فهو شخصية فكرية  مهمة في القرن العشرين  "قدم للمكتبة العراقية والعربية والعالمية  أكثر من 20 كتابا تناولت التصوف وقضايا التراث الإسلامي ..تميزت بتحليل ونكهة ماركسية" .
     يؤكد الباحث مازن لطيف في كتابه"محطات من حياة وفكر هادي العلوي " الصادر عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر ص9"لم يدرس فكر هادي العلوي دراسة علمية ومعرفية حتى  هذه اللحظة سوى الدكتور ميثم الجنابي في كتاب (هادي العلوي ..المثقف المتمرد) مع العلم ان العلوي يعتبر احد اهم عشرة مفكرين في القرن العشرين , هذا ما اكده المستشرق الفرنسي جاك بيرك.
   الكتاب من اعداد  وتحرير الصديق مازن لطيف , هذا الناشر الذي هدفه  خدمة الثقافة والفكر لكل ما يقدمه من بحوث ودراسات لما يخص الشأن الثقافي العراقي , فهو خلية نحل تعمل جاهدة ليل نهار في نشر الفكر والثقافة , عهدته انسان سمح بسيط طيب المعشر محب للاخرين , متعاون مع من يبحث في الشأن الثقافي العراقي .
   جمع الكاتب اغلب من كتب  عن حياة وفكر  المفكر العلوي ومنهم د. ميثم الجنابي د. رشيد الخيون و وديع العبيدي وعلاء اللامي والشاعر والناقد مالك مسلماوي وخالد سليمان وزيد الحلي  ومازن لطيف وأخيرا بحث للراحل العلوي حول الجذور التاريخية للعمالة نشر عام 1980 حول التواطؤ مع الاجنبي ضد مصالح الوطن والشعب.يؤكد البروفسور ميثم الجنابي ان المفكر هادي العلوي "وجد في التاوية نراه يظهر في تسمية الحكيم بوصفه تشخيصا لسمو تطلعاته وتحررا من عبودية الأشياء والرغبات. فهو لا يعمل ولا يرغب ولا يتكلم ولا يأخذ ولا يحتاج إلى أن يتظاهر ويتبجح ويتفاخر. انه خلاء كالتاو. وهي الذروة التي ينبغي عليه بلوغها من اجل تحقيق ذاته بوصفه حكيما. وفي هذا تكمن رسالته الكبرى. انها حكمة سلب الغريزة والطباع من حاكميتها وحكمها من اجل بلوغ حالة الطبيعة كما هي. ومن خلالها الخروج إلى عالم الأشياء والمتغيرات والحاجات بوصفه مجلى التاو.
وفي الصحابة يتمظهر في شخصية سلمان الفارسي الذي كانت تستولي عليه مسألة العدل في الحياة العملية للناس. بينما كان أبو ذر الغفاري يجسد في ذاته الالتزام الشخصي بالمبادئ عبر الامتناع عن التملك وإيثار الفقر اختيارا وسط الإغراء الشديد وعدم التزوج بأكثر من امرأة. أما الزنادقة مثل عامر العنبري فوجد فيه نموذجا للمثقف القطباني الذي تمظهرت في صفاته الكبرى مثل امتناعه عن الزواج واكل اللحوم، وعدم حضوره صلاة الجمعة، ومقاطعته حكام البصرة في خلافة عثمان، والتدخل لحماية المستضعفين من أهل الذمة ممن تسلط عليهم من المسلمين. بحيث وجد فيه مثقفا إسلاميا استشرف المطلق في عبادته الفردية خارج الطقوس المنظمة اجتماعيا. انه جسّد في ذاته المثقف القطباني عبر مساعيه للتحرر من أحادية النص المقدس ومعارضته السياسية للظلم الاجتماعي.
في حين تجسدت شخصية المثقف القطباني عند الجهم بن صفوان في استيعابه الخاص لفروض الصراع ضد المظالم الاجتماعية للدولة ونظامها العسكري."
ففي ص 14 يؤكد الجنابي ان" العلوي يمثل ماساة المثقف العراقي والعربي المعاصر . انها مأساة التجول والتحول بين ايديولوجيات واحزاب وتشرد وهجرة وتجاذب لا علاقة له بالحلم والمعرفة "ثم  اشار في ص 29" لم يكتب هادي العلوي افكاره ومواقفه حسب قاعدة خالف تعرف , على العكس . لقد بقي العلوي مجهولا بما يتكافأ مع حقيقة ابداعه , وقد تكون كتبه  المثيرة عن التعذيب والاغتيال في الاسلام من بين اكثرها دلالة بهذا الصدد"اما موقف العلوي من الماركسيةص35" لا يصنع مشروعا , وذلك لان الماركسية تسحق كل مشروع فردي حر, والسبب ليس فقط في كونها فلسفة متكاملة تجعل من ينتمي اليها داعية في افضل الاحوال , بل بسبب طابعها التوتاليتاري المبطن وانساقها الايديولوجية المتشددة".
اما الكاتب بديع العبيدي بمقاله "هادي العلوي وعصرنة المشاعية " يؤكد في ص53 ان المفكر العلوي يستحق الاشارة هنا باعتباره احد اكبر المغرمين والمغامرين المعاصرين بالفلسفة المشاعية , متحديا اي رأي يشكك في واقعيتها او امكانية تحقيقه على ارض العراق المعاصر " العلوي دعى اخيرا الى تشكيل جمعية بغداد المشاعية وحدد خطوطها الرئيسة وفق التشكيل المعاصر , لغرض مساعدة الفقراء  العراقيين في ظل ظروف الحصار الامبريالي الغربي .اما الكاتب علاء اللامي في مقال بعنوان "اشكالات التصنيف المنهجي والسيّري :هادي العلوي نموذجا" يؤكد في ص69 "ان العلوي من حيث اصالة وجدة انجازاته الفكرية , ومن حيث سجاياه الممارساتية الحياتية . اكبر بما لا يقاس من بعض من يصح ان تطلق عليهم صفة مفكر , مع ان هذا البعض قد لا  يستأهل الا بالكاد صفة الباحث العادي " لكن في نهاية المقال يؤكد العبيدي لوصف المستشرق الفرنسي جاك بيرك " بانه من اهم عشرة مفكرين في القرن العشرين كما وثق ذلك عدد ممن رثوه بعد وفاته او حاوروه في حياته ...مع انني لا اميل الى هذا النوع من التقييمات المبتسرة والتي تختزل الشخصيات بمأثور الاقوال" وهذا رأي الكاتب لكن الحقيقة ان العلوي هو المفكر والموسوعة لقرن العشرين كما وصفه بيرك.
يحقق الشاعر والناقد الادبي مالك مسلماوي في شخصية العلوي معجميا بمقاله عام 1998 من ناحية مفهوم اللغة بشكل عام  واللهجات الخاصة والعامة وفق خارطة لهجات اللغة العربية حسب ما كتبه المفكر العلوي في المعجم ففي ص 98 يؤكد مسلماوي " العمل المعجمي يجشم هادي اواخر ايامه , واذا كان يراوده القلق با العمر قد لا يمتد كي ينجز العمل الذي سلخ له خمس عشرة سنة من عمره وهو يجمع مواده ".
  في القسم الثاني من الكتاب يؤكد الكاتب خالد سليمان في مقال بعنوان "هادي العلوي رجل استعاد لذاته مكان الفقر الاول " المقال يخص انطباعت وذكريات عن العلوي  من حوارات  الكاتب مع العلوي للاعوام  نهاية التسعينات من القرن الماضي  والحديث عن الطفولة ومكان الولادة اذ اشار في ص 108 "كان للطفولة المغلقة التي عاشها العلوي عوامل كثيرة منها عامل القلق العام الذي كان جزءاَ من تطور هوية الاسلام الحضارية والوجدان القمعي والتخلف الاقتصادي  والثقافي والارث الذي تركته الامبراطية العثمانية ",اما في ص109 فقد كانت مقال للكاتب زيد الحلي بعنوان "العلوي..رؤية قديمة جديدة جديدة " اذ يؤكد في ص118 ان العلوي " عانى محنة الاغتراب عن وطنه وكانت الغربة الاولى سفره الى الصين اوائل عام1977 حين رشحه الشيخ جلال الحنفي ليحل مكانه مدرساَ اللغة العربية في جامعاتها بعد ان مكث الحنفي في الصين اكثر  من عشر سنين ", وللشاعر احمد عبد الحسين مقال بعنوان "عن المتصوف هادي العلوي" ففي  ص 121 اشار الى ان " كان هادي  اخر من طهرهم اللهب المقدس الذي اشعله اهل الله بقولهم (ليس منا من خالطته الاغيار الثلاثة اي المال والسلطة والدين ) ولطالما ردد ذلك القول بفعله قبل ان يردده بلسانه فاكتسب عداوة شياطين هذه الاغيار من عبيد المال وكلاب السلطة وكرادلة المعمّمين", اما الباحث ماز لطيف فكان مقاله بعنوان "عن كتاب ..هادي العلوي .. المثقف المتمرد" للبروفسور ميثم الجنابي " فيؤكد في ص 126 ان الكاتب " يكشف لنا .. عما فيه من هموم المثقف الاجتماعي المتمرد ظو وعبر ذلك حاول الجنابي الكشف عما في شخصية هادي العلوي وتمرده من قيمة كبرى بالنسبة للانتماء الفعلي لارض الحقيقة لا لسماء التملق والكذب والخداع  ".
  للمثقف والأديب دور في بناء المجتمع والإنسان الحالي من خلال رفع الوعي والإدراك وحبهُ وتمسكهُ لوطنه , ثم الإبداع والتحرر من الجهل والتخلف والخوف والجبن والتردد والتوجه للعمل لإزالة من ذهنهُ الأجواء الكابوسية و البوليسية التي عاناها, والتعامل مع الحياة بروحية عالية من التفهم والحوار.
  للمثقف والأديب دور في بناء المجتمع والإنسان الحالي من خلال رفع الوعي والإدراك وحبهُ وتمسكهُ لوطنه , ثم الإبداع والتحرر من الجهل والتخلف والخوف والجبن والتردد والتوجه للعمل لإزالة من ذهنهُ الأجواء الكابوسية و البوليسية التي عاناها, والتعامل مع الحياة بروحية عالية من التفهم والحوار.
   كان النظام السابق يزج الصحف والمجلات بمواد في المدح من خلال الضغط على الأدباء والشعراء بكتابة قصائدهم بحب القائد , وتلك لا علاقة لها بالثقافة والأدب, كل هذا والمثقف يستمر بمواجهة الأنظمة ليصل صوتهُ وسطوع إبداعه رغم ضجيج التصفيق الإعلامي وأضوائهُ من لدن أشباه المثقفين والأدباء العراقيين والعرب ممن كان يسترزق من أموال السلطة لمد النظام ورمزهُ الدكتاتوري.
   في الوقت الحالي عليك الكتابة والنقد ولكن لا تخص جهة معينة وإنما لغة العموم لكي تسلم من الدعوة القضائية , أو يتضمن اسمك قائمة الغير مرغوب بهم , وهذا ما يذكرني بقوائم ابن الطاغية عدي صدام حسين حين أصدر ثلاثة قوائم تطالب بتصفيتهم من الكتاب والأدباء العراقيين المعادين للنظام, ونفس الأسماء أصبحوا الآن غير مرغوب بهم متهمين بميولهم للنظام السابق أو معادين للعملية السياسية.
 










267
في البصرة ظهرت الاشتراكية... سبقت ماركس بألف عام



نبيل عبد الأمير الربيعي
    للبصرة  طبائع مائية مفتوحة على الخليج وفيها الأنهار وغابات النخيل , توابل وأفكار ولؤلؤ ,تمزج ماضيها بحاضرها كما تمزج امرأة حسناء قدح القهوة بالحليب ,وتجلس  على أريكة ناعمة ترقب الشاطئ البعيد ,تقرأ جريدة اليوم , لها طبع الطير إذا هاجر , وإذا عاد , هي رقاص ساعة العراق في ترددها بين بحار ماء ونخيل وسفن وأقمار واسماك ونوارس , شبان تولعوا بفكر القرامطة , ووجدوا فيها ثورتهم , فهي أول ثورة شيوعية سبقت ماركس بألف عام , نادت بالمشاعية البدائية وإلغاء الملكية الخاصة والدعوة للتعاون في بناء دولة الاشتراكية الأولى.
   هم شيوعيو القرامطة , التي أتى بها احمد بن الأشعث من بلاد فارس إلى الكوفة وسمي بقرمط  لقصر قامته وساقيه ويديه , ثم انتشرت لخير الناس وتخلصهم من الشقاء إلى الشفاء , مع العلم إن الفرس أصحاب خبرة طويلة في صنع الأديان والألهة والجواري والخمور!!! نادى هؤلاء الشبان بالشيوعية هي امتداد لثورة الزنج.
    أفلحت القرامطة بإقامة الدولة قبل ألف عام في جنوب العراق , حكومة شعبية اشتراكية , قادها الكادحون بسبب الجوع الذي  أجبرهم الأقطاعيون على العمل في مزارعهم لقاء لقمة خبز لا يوفون بها ,كانت شبه كومونة الزنج , استمرة خمسة عشر عاماَ, امتدت إلى البحرين وكادت تسقط دولة الخليفة العباسي في بغداد , لولا الحملة التي قادها أخ الخليفة والقضاء عليها , فهي ثورة المضطهدين.
    كانوا فقراء وكادحي البصرة ينتظرون نبي جديد, يتوكأ على منجل ومطرقة, في العهد الملكي , أزعج هذا الفكر رجال الحكم و وزير الداخلية صالح جبر , وبخ مدير امن البصرة  لعدم استطاعته القبض عليهم ومعاقبتهم, حتى قدم استقالته من امن البصرة وتفرغ للعمل كنوتي  على ظهر إحدى السفن  العاملة في استخراج اللؤلؤ من شواطئ الخليج مع  جماعته من الكويت , أصبح تاجرا للمجوهرات معروف في المدينة , كلها بفضل الشيوعيين في البصرة , لولا قضيتهم لما أصبح بهذا الوضع وهو لا ينسى جميلهم .


268
في بابل ..أمسية شعرية مع الشاعر الكبير كريم العراقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
   ضمن النشاط  الثقافي لدار الود للثقافة والفنون في بابل أقامة أمسية يوم الجمعة 2-3-2013 للشاعر المغترب (كريم العراقي) , وقد أدار الأمسية الفنان والعازف (سعد العواد) مرحباً بالشاعر في بلده ومدينته الثانية الحلة الفيحاء , مدينة الأدباء والمثقفين والعلماء,وقد حضر أبناء الحلة من مثقفيها وأدبائها الأمسية فرحين بزيارة العراقي لمدينتهم.
   استذكر الشاعر العراقي في الأمسية كل أصدقاءه في الحلة من عماد جبار وناجح المعموري وموفق محمد  ومزاحم علي عباس, وكيف كانت انطلاقته الشعرية الأولى في المهرجان الشعري في مدينة الديوانية , وهو شاب بعمر الورود ثم شهرته من خلال قصيدته الذي طلبها الحضور (بهيجة يا بهيجة) مع عزف موسيقي للفنان سعد العواد التي تمثل الصورة الشعرية الصادقة لوثبة كانون عام 1948 ولرفض الشعب العراقي لمعاهدة بورتسموث ولسقوط أول شابه عراقية على جسر الشهداء في بغداد الشهيدة (بهيجة) ,وقصيدة عن الأم التي غناها  الفنان كاظم الساهر بصوت الشاعر الشجي قد أدمع عيون الحضور, ثم تناول الشاعر قصائده الأولى من ديوانه (المطر وأم الظفيرة ), جزء من قصيدته أم الظفيرة ثم قصيدة (كان صديقي وكانت حبه الأبدي)
كان صديقي وكانت حبه الأبدي
بل كان حبهما حكاية البلد
واستغرب الناس كيف القصة انقلبت
إلى خصام إلى هجر إلى نكد
أما أنا الشاهد المجروح بينهما
سيفان من نار يختصمان في كبدي
   ذكر الشاعر العراقي  قصة الموال الذي أبكى  الشاعر نزال قباني يقول كريم العراقي ,انه كان مع الفنان العراقي كاظم الساهر في القاهرة عام 1996، حين أتصل بالشاعر الراحل نزار قباني ليسمعه لحن قصيدة (زيديني عشقاً)، ويبدو أن لحن الساهر لهذه القصيدة لم ينل الأعجاب الكافي من الشاعر الراحل، ما دفع الفنان الساهر إلى أن يخبره بأن كل من سمع لحن هذه القصيدة أعجب به، حتى أن الشاعر كريم العراقي الذي يكتب أغلب نصوص أغنياته، قد طار فرحاً وبهجة بهذا اللحن, وكم كان الأمر مدهشاً ومفرحاً لكريم العراقي أيضاً، حين طلب الشاعر نزار قباني من الساهر أن يسمح له بمحادثة كريم بالتلفون، ما جعل كريم يطير من الفرح والسعادة, حتى أن الكلمات تعثرت على طرف لسانه كما يقول, ولعل أجمل وسام ناله كريم العراقي هو ما قاله قباني عن قصيدة (الغربة) التي كتبها كريم، وقدمها الساهر على شكل موال، إذ أبدى قباني إعجاباً كبيراً بالقصيدة قائلا له: لقد أنزلت بهذه القصيدة دموعي ياكريم... ويقيناً إن إعجاب قباني بهذه القصيدة دفعه لأن يطلب من كريم أن يرسلها له بخط يده عبر الفاكس، ولم يكتف قباني بعرض إعجابه بالقصيدة عبر تلك المكالمة فحسب، بل كتب رسالة خطية لكريم العراقي يستذكر فيها مناخات العراق، ومفردات الحياة العراقية بدءاً من (شعر بلقيس) وحي السفينة في الأعظمية، مروراً بالسمك المسقوف، وشاي أبو الهيل، و إنتهاءً بجسر الحديد، والقباب، والمنائر الرائعة .   
   قرأ الشاعر كريم العراقي  للحضور عدداً من النصوص الشعرية التي كتبها خلال فترات مختلفة من حياته الإبداعية، ومنها: (يدنية أنتي الحرمَّتيني من اهلي) و(سلامي إن شا الله يوصل سلامي) والموال الذي قدمه المبدع كريم منصور: (من شاف كوخ وقصر بالعيد يمشّن سوَّه )ثم قدم الفنان سعد العواد اغنية ترحيبية بالشاعر العراقي (بس تعالوا) .
 
 

الشاعر كريم العراقي والعازف الفنان سعد العواد


جانب من حضور امسية الشاعر كريم العراقي


جانب من حضور امسية الشاعر كريم العراقي

269
أحد أهم قضاة العهد الملكي العراقي...القاضي داود سمرة



  نبيل عبد الأمير الربيعي

  اهتم أبناء الطائفة اليهودية في العراق بالتعليم ونشر الوعي الفكري والثقافي  من خلال بناء المدارس و توفير  المناهج التعليمية  وفق الطراز الأوربي الحديث , فقد "أسست الطائفة أول مدرسة عام 1830 لتعليم التوراة وأصول الدين ومبادئ القراءة والكتابة والحساب وفي عام 1864 أسست جمعية الإليانس  الإسرائيلية الفرنسية مدرسة عصرية ابتدائية ومتوسطة للبنين, وأخذت تدرّس العلوم واللغات بالإضافة إلى اللغتين العبرية والعربية والديانة الموسوية ...ثم أسست الجمعية الفرنسية سنة 1893 مدرسة للبنات لعلها كانت أول مدرسة للبنات في العراق"(1), كان الاهتمام بالجانب التعليمي من قبل الطائفة  كي ينالوا أبنائهم الشهادات العليا والعمل في الوظائف الحكومية , ففي مطلع القرن العشرين أخذ أبناء الطائفة بالتطلع لدراسة الحقوق في استنبول وفي طليعتهم " نعيم زلخة وداود سمرة ويوسف إلياس" الذين نالوا إجازة الحقوق عام 1905 من مدرسة الحقوق في استانبول وعادوا إلى بغداد للعمل وفق اختصاصهم , لكن في بغداد افتتحت مدرسة الحقوق عام 1908 فانتمى إليها عدد غير قليل من الشباب  ومنهم " صالح قحطان وإبراهيم الكبير وروبين بطاط وعبودي سيتي وإبراهيم خزوّم وسليم اسحق وغيرهم "(2).
    ساهم أغلب هؤلاء الحقوقيين في نشر مقالاتهم في المجلات , وقد عرف بذلك صالح قحطان الذي ولد في بغداد عام 1893 وعمل مستشاراَ حقوقياً لدى وزارة المالية عام 1922 وانتخب نائباَ عن بغداد عام 1939, كما عمل  القاضي داود سمرة في مجال القضاء في الحقبة الملكية وكان من أبرز قضاة العهد وقتذاك , حيث اختارته محكمة التمييز في سنة تأسيسها نائباَ للرئيس وهو أول عراقي يشغل هذا المنصب , أما رئيس محكمة التمييز فكان بريطاني الجنسية, استمر سمرة بهذا المنصب لمدة ثلاثين عاماَ ولم يتركه إلا باختياره.
   ولد القاضي داود سمرة في بغداد في " 2 طبيث5638 عبرية المصادف في أوائل كانون الثاني سنة 1878 ميلادية من أبوين عثمانيين هما حسقيل وكحيلة"(3), أكمل داود سمرة دراسته الابتدائية في مدرسة الأليانس (school) ببغداد, فدرس اللغات كل من العبرية والعربية والانكليزية والفرنسية وبعض العلوم, وقد كان من الطلبة المتفوقين على دفعته في الدراسة الابتدائية , ثم أكمل الدراسة الإعدادية في الإعدادية الملكية عام 1894, ويذكر القاضي سمرة في مذكراته" كانت المدرسة مؤلفة من سبعة صفوف , ثلاثة ابتدائية وصفان للمتوسطة وصفان للإعدادية, لكن التلاميذ المتفوقين على الدفعة  في الإعدادية وعدهم مديرهم سليم سامي بأن يسعى لإرسال الطالبين الأولين  من الصف المنتهي  إلى استانبول للالتحاق بالمدارس العالية على نفقة الحكومة"(4), لكن صديقه الحميم نعيم زلخة  قد طلب  منهً أن يترك وعد المدير ويسافر سويتاً لغرض الدراسة , وقد لجأ نعيم إلى أحد معارفه وطلب منه  أن يواجه كبير الحاخاميين في بغداد(يوسف حييم) لكتابة رسالة إلى رئيس الطائفة الإسرائيلية في الإستانة  لغرض تأمين معيشة الطالبين على نفقة الطائفة طيلة أيام دراستهم في  تحقيق ذلك , فسافروا من بغداد في أوائل أيام آب عام 1899 فكانت سفرة شاقة على البغال من بغداد إلى حلب حسب ما يذكره سمرة في مذكراته ص22 مروراَ بالفلوجة ودير الزور ثم حلب فالاسكندرية عن طريق البحر الأبيض المتوسط بواسطة باخرة حتى وصولهم استنبول في 14 أيلول عام 1899.
   كان هم داود سمرة ونعيم زلخة تحقيق أمانيهم واعتمادهم على رسالة الحاخام (يوسف حاييم) لرئيس الطائفة الاسرائيلية في الاستانة, إلا أن أمانيهم باءت بالفشل لأن كان رد رئيس الطائفة في الاستانة (إن المبالغ تصرف على المحتاجين ولا يمكن صرفه على طلاب المدارس) , وبجهود ومعاناة يومية قد تحقق هدفهم لتوفير وسائل العيش والراحة والدراسة من خلال اتصال داود سمرة بأحد أقاربه لأمه وهو رجل ثري معروف كان يسكن بغداد ورحل لغرض العمل في استنبول لغرض التجارة, فخصص لداود سمر نصف ليرة تركية شهرياً مقابل تحريره المكاتبات من الفرنسية إلى التركية والعربية والعبرية في أوقات الفراغ حتى يوم تخرجه وقد نال إجازة مدرسة الحقوق  وعاد إلى بغداد في نيسان عام 1905.
    مارس داود سمرة" المحاماة في بادئ الأمر, ثم عين حاكماَ في محكمة استئناف الموصل (تشرين الأول 1909) فمحكمة استئناف بغداد( كانون الثاني 1910) ونقل في آيار 1914 م إلى الشام فآثر الاستقالة واستئناف مزاولة المحاماة"(5).
   شغل سمرة وظائف هامة في القضاء العراقي بدءاَ من عضوية استئناف محكمة الموصل  ثم محكمة بغداد فمحكمة تمييز بغداد , حيث شغل المنصب زهاء خمسة عشر عاماَ ليصبح نائب رئيسها حتى تاريخ اعتزاله عام 1946 , لكن في نفس الوقت كان سمرة يقوم" بالتدريس في كلية الحقوق(1919-1951) ووضع كتاباَ في أصول المرافعات الحقوقية وقانون محاكم الصلح والإفلاس والتنفيذ  ,أعيد طبعها مراراَ"(6).
    عمل سمرة في ديوان التدوين القانوني , فكان له دوراَ في كتابة قانون الحكام والقضاة رقم(31)لسنة1929 والقانون الذي حل محلهً رقم(27)لسنة1945 وقانون الخدمة القضائية رقم(58)لسنة 1956 والقانون المدني رقم(41) لسنة 1951 وقانون المرافعات المدنية والتجارية رقم(88) لسنة 1956 , كان له دور في كتابة أول دستور عراقي لسنة 1925.
   من المعروف عن القاضي داود سمرة انه يمتلك القدرة في أحكام الشريعة والفقه الإسلامي بحكم دراسته لها وتوليه القضاء على وفق أحكامها الفقهية في النزاعات و الخصومات حتى عام 1955 , ويعرف عن سمرة  إن له مجلس ثقافي عام يعقده في داره ببغداد تناقش مختلف المواضيع من لغة وتأريخ وثقافة وأدب وفلسفة وموروث شعبي وفقه إسلامي  , كما إنه يتميز بفلسفته القانونية والقضائية  التي برع فيها أكثر من غيرها.
   حصل القاضي داود سمرة أبان العهد الملكي على وسام الرافدين من الدرجة الرابعة ومن النوع المدني عام 1932 , وقد منحهً الوسام جلالة الملك فيصل الأول تقديراً لخدمته في القضاء والتدريس.
   رحل داود سمرة عن الحياة عام 1960 وقد تجاوز من العمر (82) عاماَ , وقد قدم للمكتبة القانونية مصنفات ومؤلفات في القانون منها :
1)شرح قانون الجزاء
2) شرح قانون الإجراء
3)شرح قانون أصول المحاكمات الحقوقية
4)شرح قانون المحاكم العلمية
5)قانون أحكام الصلح المؤقت وما يتعلق به من الأنظمة والبيانات
6)مذكرات داود سمرة نائب رئيس محكمة تمييز العراق عن دار ميزوبوتامبيا
   عرفت الأوساط الثقافية العراقية داود سمرة "فقيهاَ ضليعاَ وحاكماَ صلباَ نزيهاَ لا تأخذهَ في الحق لومة لائم, معتزاَ بحرمة القضاء, معتزلاَ للمجتمع خشية التأثر في أحكامه القانونية "(7). غادرت  عائلة داود سمرة العراق عام 1971 بعد مضايقات رجال الأمن أبان حكم البعث , وكان من ضمن أبناءه فريد داود سمرة الذي عمل مهندساَ في مديرية البريد والبرق العامة , فقد انتخب نائباَ عن البصرة ثم بغداد, وقد مارس الأعمال التجارية المختلفة حتى رحيله من الحياة عام 1982.
 
المصادر
(1) يوسف غنيمة – نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق ص305
(2) نفس المصدر السابق ص227
(3) مذكرات داود سمرة ص9 عن دار ميزوبوتاميا
(4) مذكرات داود سمرة ص15
(5) مير بصري-اعلام اليهود في العراق الحديثص73
(6) مير بصري- اعلام اليهود في العراق الحديثص74
(7) يوسف غنيمة- نزهة المشتاق في تأريخ يهود العراق ص278









270
شاعر العرب الكبير الجواهري  و ثورة 14 تموز 1958 وزعيمها عبد الكريم قاسم



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
  ولد شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري عام 1900 أو 1903 في  مدينة النجف التي تتكأ على أطراف الصحراء , هي مدينة العلم والشعر  والأدب  لأبناء وادي الرافدين , ويؤكد الراحل مصطفى جواد إن : ( النجف سميً بهذا الاسم لأنهُ  يعني أرضاً عالية يشبه المسنات, تصمد الماء عمّا جاورها وينجفُها الماء من جوانبها أيام السيول ولكنهُ لا يعلوها فهي كالنَجد والذي تغلب على شكلها الاستطالة) ,فقد أسسّ أبناء هذه المدينة اتجاهاتهم الأدبية الرصينة ومسارح سياحتها الروحية , حيث أنجبت  مئات العلماء والشعراء ,منهم :( محمد رضا الشبيبي , محمد سعيد الحبوبي , حسين الشبيبي وأخيه محمد باقر الشبيبي , اليعقوبي , أحمد الوائلي و محمد مهدي الجواهري ) , تلك القامات الشعرية العراقية , كما كانً من الأدب الحداثوي الروائي جعفر الخليلي , ثم خرجت هذه المدينة إضافة لرجال الفكر والأدب المناضلين في الحركات التقدمية والوطنية اليسارية وممن شاركوا في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني , فكانت أول مدينة عراقية تمردت ضد الاحتلال.
  لقد تَحدّرَ  الجواهري من أسرة عريقة بنى مجدها العلمي الشيخ ( محمد حسن ) صاحب كتاب جواهر الكلام , وقد ظهرت موهبة الجواهري  في الشعر وهو بسنّ مبكرة لموهبته الكامنّة فيه , وكانت أول قصيدة قد نشرت  لهُ عام1921 ,وأول مجموعة شعرية كانت باسم ( حَلبَة الأدب) .
  بعد إكماله الدراسة تنقلّ الجواهري بينَ مجال التعليم ودائرة التشريفات في البلاط الملكي ثم العمل في مجال الصحافة , وقد أصدر أكثر من صحيفة منها ( الفرات, الانقلاب , الرأي العام ) وأصدر صحف بأسماء أخرى منها ( الثبات, الجهاد, الأوقات البغدادية , الدستور , صدى الدستور , الجديد , العصور),لكن كانت جريدته  ( الرأي العام ) الأطول عمراً ,ثم دخل المجلس النيابي عام 1947 ممثلاً عن كربلاء , وبعد ثورة 14 تموز 1958 أنتخبَ رئيساً لاتحاد الأدباء والصحفيين العراقيين , لكنهُ غادر العراق إلى براغ بعد محاولات الاعتداء عليه  وتوقيفه لساعات عام 1961, حيث استغلَ الدعوة لتكريم ( الأخطل الصغير) ليغادر البلاد , ليحلً ضيفاً على اتحاد الأدباء التشيكوسلوفاكيين.
   الجواهري ذلك النجم الساطع في الشعر العربي ملءَ العيون , فكان يتصف  بغزارة في الشعر وذو ذاكرة عجيبة , يُذكر أنهُ  كسَبَ الرهان من السيد علي الحصاني , أحد أقربائه , ليرة رشادية لقاء حفظ ( 450) بيتاً من الشعر في مدة  لا تتجاوز الثماني ساعات.
   عند اندلاع  ثورة تموز عام 1958 ( كانَ الجواهري يعمل في مزرعته في قضاء "علي الغربي" التابع لمدينة العمارة , وما أن سمعَ الجواهري بذلك حتى تركَ مزرعته والتوجه  إلى بغداد, وإذا بهَ يرى على واجهة السيارة صورة لزعيم الثورة عبد الكريم قاسم , عندما تأملها جيداً عرفَ  صاحبها و أعادة ذاكرته إلى عام 1947 في لندن , كان الجواهري ضمنَ وفد إعلامي عراقي  , لبى  الجواهري دعوة الحكومة البريطانية .. لم ينسجم الجواهري مع الوفد فانفصلَ  عنهُ , وأثناء ذلك أُصيبَ  في ألم في أسنانه فراجع السفارة لهذا الغرض , وتطوع ضابط  شاب لمرافقته إلى طبيب أسنان بريطاني شهير , كانَ هذا الضابط يدعى عبد الكريم قاسم) (1).
  فكان للجواهر الدور في دعم ثورة تموز 1958  وزعيمها عبد الكريم قاسم في أول أيامها , فكان معها  روحاً وإبداعاً , كانَ (أول بيت زارهُ الزعيم عبد الكريم قاسم منزل الجواهري , وإذا كان عبد الكريم قاسم زعيم السلطة السياسية والعسكرية , فإن الجواهري كانَ زعيم السلطة الثقافية والفكرية الموازية , إذا جازَ القول) (2) ,  وكانَ للجواهري  الدور الريادي في مجال الشعر والصحافة , فقد أنتخبَ نقيباً للصحفيين بعدَ ثورة تموز 1958 , بعد أن أدرجت لوحة لترشيحات أسماء المرشحين , وكان يتصدر اللوحة اسم  الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وبعد الاقتراع بصورة سريعة كانت النتائج كما يلي :
1-    محمد مهدي الجواهري (نقيباً ) 2- محمد السعدون ( نائباً)  3- جلال الطالباني ( عضو)  4- عبد الرحيم شريف ( عضو)  5- لطفي بكر صدقي (عضو)  6- محمد الجندي( عضو)  7- فاضل مهدي ( عضو)  8- محمد شوكت ( عضو) , وفاز بعضوية لجنة الضبط كل من  " فائق بطي , علي الخليل , محمد كريم , منعم الجادر"
   وقد عقدت النقابة مؤتمرها الثاني برعاية الزعيم عبد الكريم قاسم في قاعة الشعب في بغداد .
  يذكر الجواهري أول  لقاء مع الزعيم قاسم بعد توليه قيادة الثورة  في ج2 من مذكراتي : ( دخلت وزارة الدفاع لأجد في القاعة الأوسع والأفخم  فيها صاحبي القديم ( الزعيم) الذي تلقاني  بكل ترحاب وطوقني بذراعيه واصعدني إلى المنصة وأجلسني بجانبه لأرى القاعة مليئة  بصور متلاحمة ... هي صور أعضاء مجلس الوزراء)  .
  من هذه الذكريات والتي تؤكد مدى العلاقة المتواصلة بين الزعيم والجواهري , فكان الزعيم يزور الجواهري في داره ويستمع إليه , وكان يحسب الجواهري على التيار اليساري الداعم للجمهورية  الفتية , لكن عندما  دبً الخلاف بين الزعيم قاسم وحلفاءه , كان موقف الجواهري مع الصف الثاني وكرس جريدته لشّن حملات قاسية  على الزعيم وحكومته ومنها ما حصل في ( الميًمونة) التابعة  لمدينة العمارة , وقد صدرت جريدة ( الرأي العام) بافتتاحية ( ماذا في الميمًونة) , وكان نص الافتتاحية ما قامت به الشرطة من عمليات اعتقال بصفوف الشيوعيات في الميًمونة , وعند أول لقاء بين الشاعر الجواهري والزعيم قاسم في اتحاد الأدباء بعد هذه الافتتاحية , فما كان إلا العتاب من قبل الزعيم للجواهري على تلك  الافتتاحية , كان رد الشاعر بعصبية على الزعيم مما أفقد الزعيم توازنهُ لهذا الردّ الغير متوقع  من صديق قديم وعزيز , كانت جريدة (الرأي العام) تعرض  ما يحصل من تجاوزات على الحريات العامة, وقد عادت الشرطة ورجال الأمن في زمن الجمهورية إلى نفس الأساليب التي كانت تستخدم اتجاه العناصر الوطنية والتقدمية , فكانت تمثل نفس التشابه في العهدين الملكي والجمهوري.
  بهذه المقالات المنتقدة للتصرفات الغير مسؤوله من قبل رجال الشرطة ودائرة الجنايات العامة , مما بدأت المضايقات للشاعر حيث وصلت حدّ اعتقاله لساعات , مما اضطره  للاغتراب  عن بلده ِ لعدة سنوات تاركاً بغداد ليستقر في براغ.
  بالرغم من كل هذه المواجهات والنزاعات بين الجواهري والزعيم قاسم , لكن الشاعر الجواهري قد أنصف الزعيم  بفصل كامل في الجزء الثاني من ذكرياته (ص161-ص281) فكان الشاعر الجواهري يؤكد بأن الزعيم : ( كان نظيفاً , وطنياً حققَ إجراءات  وطنية وإصلاحات للعراق  وللعراقيين , لكنهُ اعتمدَ  على أناس غير مؤهلين  ليكونوا في عداد  الساسة ) , كان لتمرد الشاعر  على زعيم الثورة وانشقاقه  عنها , إلا أن قصائدهُ  كانت شجاعة  تخاطب العهد الملكي ومنها قصيدة بعنوان ( هاشم الوتري) :
أنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ.............أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
مستأجرين يُخرًبون ديارهم............ ويُكافئونَ على الخراب رواتبا
متنمًرين ينصبوًن صدورهم...........مثل السباع ضراوةً وتكالبــــــا
حتى إذا جدًت وغىً وتضرًمت....... نارٌ تلفُ أباعداً وأقاربــــــــــا
لزموا جحورهم وطارَ حليمهم........ ذعراً وبُدلًت  ألأسود أرنبــــــا
 
   كان  الشاعر الجواهري  يؤكد  في مذكراته ج2 ص83 على إن الزعيم قاسم : ( حقيقة كانَ عبد الكريم قاسم من أكثر أقرانه نظافة , ومن أكثرهم وطنية , ومن أشدًهم انتماءاً للفقراء , وهو من بيئة فقيرة  انسحبت جرائر بؤسها على كل مراحل  حياته... كما أنهُ عدو الاستعمار بكافة أشكاله والبريطاني منهُ خاصة .. كانَ يملك ضميراً حياً , ونزاهّة نادرة , وبساطة في  اللباس والحياة والمأكل , مما جعلهُ يضاف إلى قائمة المترفعين عن المظاهر والمكاسب  وجًاه الثروة , وهو ما أغفلهُ من الكتاب والصحفيين والمؤرخين), ويكفي الجواهري فخراً قولهُ :
 
وما طالَ عصر الظلم إلا لحكمةٍ .............تنبئ أن لا بدً تدنوا المصارعُ
 
   وهنالك قصائد عديدة يتمسك الجواهري فيها بحب بلاد الرافدين ومن بينها نونيته الأشهر ( دجلة الخير ) عام 1962 ومما جاء فيها  بذلك الصدد:
يا دجلة الخير أدري بالذي طفحت...........بهِ مجاريك من فوقِ إلى دونِ
أدري بأنكِ من ألفِ مَضَت هدا .............للآن  تهزينَ من حكم السلاطينِ
تهزين إن لم تزنِ في الشرق شاردةٌ........من النواويسِ أرواحُ الفراعينِ
يا دجلة الخير كم مِن كنز موهبةُ ......... لديك في القمم المسحور مخزونِ
لعلَ تلكَ العفاريت التي أحجزت.......... بحملات على أكتاف دلفينِ
لعلَ يوماً عصوفاً هادراً عرماً........... آت فترضيك عقباه وترضيني
 
  كانت أبيات شعر الجواهر قد تغضًب بعض أو ترضي بعضاَ , لأنها سعت لكي  تكون بعيدة عن المشاعر والعواطف , التي كانت عمرها حكماً عادلاً في تقييم  الوقائع التاريخية , ثمَ نجد  قصيدة حاشدة في ما يحدث من أحداث في بلاد الرافدين وقد وثقها الشاعر الجواهري ومنها:
( بإسم الشعب , إنشودة السلام , عيد العمال العالمي , المستنصرية ) وغيرها من القصائد التي يخاطب بها الطلبة والشبيبة العراقية عام  1959 , فقد كان الجواهري محرضاً على حب الوطن والمساهمة في بناءه , وما جاءَ في البيت الشعري :
فخرنا إنا كشفناه لكم ..........اكتشاف الغَد للأجيال فنُ
 
وكانَ من أجمل قصائد الشاعر في الحنين للوطن وإلى دجلته هذه القصيدة :
 
حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني ........... يا دجلةُ الخير , يا أم البساتينِ
حييت سفحكِ ضمآناً ألوذ به ............ لوذ الحمائمِ بينَ الماءِ والطينِ
 
   فكانَ في أسلوبه الخاص والمعتمد القديم من حيث العبارة واللفظ , لكن يبقى شعر الجواهري شعراً محدثاً بإضفاء المعاصرة عليه , فما كان لهُ إلا الخلود , فقد انتهى عصر الأدب بعدَ رحيل الجواهري , ويذكر الناقد فاضل ثامر : ( لم يكن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري  شاعراً عابراً في تأريخنا الشعري , بل كانَ ظاهرة متميزة مرتبطة  بنمو درجة الوعي السياسي والاجتماعي والفني في المجتمع العراقي .
بعد هذا الإنجاز الكبير في المسيرة الشعرية والنضال والغربة , والإنجاز الأدبي  والثقافي , فقد رحلَ الجواهري  في إحدى مشافي العاصمة السورية دمشق يوم 27-7-1997 عن عُمر يناهز الثامنة والتسعين , ونظم لهُ تشييع رسمي وشعبي مهيب , شاركَ فيه  أغلب أركان القيادة السورية , ودفنَ في مقبرة الغرباء  في السيدة زينب في ضواحي دمشق, تغطي قبره خارطة العراق المنحوته على حجر الكرانيت وكلمات تشير لقبره ( يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير ) .
 
 
 
 
 
 
 
 
المصادر
ــــــــــــــــ
(1) د. جليل العطية – الجواهري شاعر من القرن العشرين ص74
(2) د. عبد الحسين شعبان ( الجواهري جدل الشعر والحياة ص291
 


الشاعر محمد مهدي الحواهري والزعيم عبد الكريم قاسم


سميح القاسم والجواهري ومحمود درويش صوفيا 1968 -في مهرجان الشبيبة العالم


قصيدة أحب أيها القلب للجواهري


قصيدة عند الوداع للحواهري


مسودات تبين طريقة الحواهري في نظم الشعر


من ذكريات ثورة تموز1958

271
حوار مع الدكتور حيدر عبد الاوحد حولّ مملكة أومّــــا... حضارة وادي الرافدين الموغلة في القدم

حاوره : نبيل عبد الأمير الربيعي
 

    يرى المنقبون الاثاريون إن مدينة( أومّا) من أهم المدن التاريخية في حضارة وادي الرافدين الموغلة في القدم الواقعة على نهر (ايدنو) القديم، لكونها من أهم ممالك فجر السلالات السومرية بحدود 3000 ق.م , أطلال تلك المملكة المسمى محلياً (تل جوخة) الواقعة غرب مدينة الرفاعي  بـ (23)كم ،ولهذه المدينة العظيمة عدة مميزات في تأريخ حضارات وادي الرافدين , أعطتها الريادة في مدن العراق القديم , حيث تعتبر أول مدينة وحدت  دويلات المدن السومرية  في امبراطورية سومرية  واحدة بقيادة الملك السومري (لوكال زاكيزي) الذي أرضخ جميع مدن بلاد سومر تحت قيادته  وبذلك أصبحت (أومّا) أول عاصمة لأول امبراطورية  في تاريخ وادي الرافدين , مما جعل تلك العاصمة أغنى مدينة في مدن العراق القديم , لجلب الملك (لوكال زاكيزي) لأهم كنوز مدن بلاد وادي الرافدين  ووضعها في عاصمته ومدينته , وكذلك تقديم القرابين من أمراء وكهنة وقيادات  المدن الأخرى إلى معبد الإله (شارا) في (أومّا) ومعابدها الأخرى , يشار إلى إن محافظة ذي قار تضم أكثر من 1400 موقع اثري منتشرة في عموم مناطق المحافظة، فضلا عن وجود العشرات من المدن والمواقع الأثرية غير المكتشفة لاسيما المواقع المغمورة بالمياه الواقعة في مناطق الأهوار جنوبي الناصرية,كان حوار لنا مع المنقب الآثاري (حيدر عبد الواحد عريبي)تولد الحلة 1971 خريج جامعة بغداد –كلية الآداب –قسم الآثار , ماجستير آثار الحضارة السومرية جامعة (كوكو شيكان –طوكيو) حالياً يدرس لإكمال الدكتوراه في نفس الجامعة ,ساهم في التنقيب في المواقع الاثارية  ومنها أم العقارب و كان رئيس البعثة لمدة سنتين للتنقيب في المنطقة ,وعضو فيها لمدة ثلاث سنوات , ساهم في التنقيب في الموقع مع الراحل (دوني جورج):
*متى بدأ التنقيب في  موقع أم العقارب؟
* التنقيبات بدأت بهذا الموقع عام 1999 برئاسة الراحل ( دوني جورج ) وأنا أحد أعضاء الفريق في التنقيب  ,وبعد مرور عامين أصبحت رئيس بعثة التنقيب للفترة 2001 -2002 , لكن الحرب الأخيرة أوقفت كل أعمال التنقيب وقد سافرت للدراسة لليابان عام 2006 لغرض الدراسة على نيل شهادة الماجستير , أكملت الدراسة عام 2007 , لكن زملائي أكملوا العمل بعدي في التنقيب في هذه المنطقة , ومن المؤسف كان هنالك انقطاع منذ عام 2003  ولغاية عام 2008 , في هذه الفترة كانت هنالك هجمة شرسة على الموقع من قبل أفراد  محليين و هؤلاء أدوات من قبل مافيا الآثار العالمية في خارج القطر ونحنُ نمتلك معلومات  عن هؤلاء المهربين, مع العلم إن المنقبين اليابانيين كانوا مهتمين بآثار العراق كمهنيين أكثر من العراقيين في هذا الجانب .
لمن ترجع هذه الدولة مملكة أوما ؟
 الدولة ترجع  للدولة السومرية أي التابيتات السومرية , ومن خلال الأقمار الصناعية تم اكتشاف  المناطق الاثارية من قبل الجهات العالمية المختصة في اليابان , مع العلم في جامعة كوكو شيكان يمتلكون معهد لدراسة آثار العراق , كانوا أغلب اساتذتي من اللذين زاروا العراق  وعملوا في التنقيبات الآثارية ومنها آثار ( كيش, وتل الكبة) في ديالى  وفي الآثار القريبة من مدينة كربلاء.
*حضارة مملكة (أدمّا) ماذا تعني لبقية المدن الاثارية ؟
* المدينة سومرية كاملة , في عصر السلالات كان البلد غير موحّد وكان لعدة دويلات  وبعد مرور 2500 عام , كانت مملكة (أدمّا) هي العاصمة , وهنالك مدن أصغر فأصغر لهذه الدولة  السومرية, , مملكة أدمّا حسب رأيي  كانت عاصمة لأمة مهمة جداً  وخاصة السومريين , وهنالك آلاف الرُقم الطينية التي تؤكد ذلك وهي من المدينة السومرية , عند التنقيب في مكان هذه المملكة كانت الطبقة الأولى بآثار هذه المملكة تمثل عصر فجر السلالات الثالث كان يمثل لفترة 2400 ق.م , إذا ننزل بالتنقيب نحو الأعمق قد نجد مدن أخرى وأقدم  لهذه المدينة .
* كيف نعرف باعتبارك مختص  بآثار الحضارة السومرية إن هذه المملكة تابعة للمدن السومرية ؟
* من خلال دراستنا يمكن معرفة ذلك , إضافة للمقارنة والتحليلات من خلال  الرقم والآثار والحجر والقطع الفخارية التي عثرنا عليها في هذا الموقع نعرف ان هذه المدينة  من المدن السومرية  , ونعرف تاريخها من خلال مواقع أخرى مثال ذلك تشابه  قطع الفخار  من حيث بدّن القطع الاثارية  والشكل ,وقد ثبت علمياً ان الموقع تابع للمملكة السومرية , وأغلب القطع الاثارية عثرنا عليها من خلال فتح القبور والبيوت في الموقع , إضافة لحاجيات هذه السلالة , واللطيف اننا عثرنا في الموقع على مواد فخارية كانت تستخدم لحفظ مادة شراب البيرة والمكياج للنساء أو حفظ الزبد والخبز او الحليب وكذلك الحنطة , ومن الحنطة هنالك مادة تدعى ( الأمّار ) وهي  تستخدم لصناعة شراب البيرة اذ يتم صناعة اربعين نوع من شراب البيرة , كانوا ابناء هذه المملكة  يصنعون شراب( الواين ) ولهم مقولات وحكم جميلة منها ( لذة الخمرة تذهب عنك وعثاء الطريق ) ومثل آخر قريب مما يعني ( البيت الذي لا تدخله الخمر  لا يدخله الخير ) حتى جلساتهم كانت مؤرخة بصناعة البيرة والخمرّة .                                                                                                                 *كيف تم اكتشاف هذا الموقع ؟
اكتشف الموقع الاثاري من قبل منقبي الآثار العراقيين بقيادة الدكتور الراحل (دوني جورج) , مع العلم إن الراحل طه باقر وغيرهم من علماء الآثار العراقيين كانوا يمتلكون مسوحات عن  المواقع الاثارية وآخرها كانت من قبل  (آدمز) عام 1972 ومع ذلك المواقع لم تمسح  كلها بشكل جيد ودقيق , حالياً المسوحات تتم عبر الستلايت و (GBS) وهم  جماعات استكشافية للآثار عملهم خدمة  البشرية عكس ما موجود من آثاريين قد يكونوا عملهم  مع المهربيين  من المافيا العالمية للآثار  لسرقتها , وكان المرحوم (دوني جورج) يمتلك قائمة سوداء باسماء مهربي الآثار  من المافيا العالمية , موقع آثار مملكة ( أومّأ ) عبارة عن مدينة كاملة من المعابد والقبور  والقصور والحارات السكنية , مع العلم المعبد السومري الذي عثرّ على اثنين من المعابد  , احدهما طولهُ (160) م  وقد أطلق عليه المعبد الأبيض , وسمي بهذا الاسم بسبب طلاء جدرانه بالجبسون الأبيض , يحتوي  على ثلاث بوابات ضخمة و(16) عموداً اسطواني الشكل قطرهُ (160) سم , وهنالك غرفة للآلهه لكن لم نجد فيها تماثيل للعمادة , لكن قد يوجد مع العلم التنقيب  يحتاج إلى امكانيات مادية ووقت وجهد , والمعبد الآخر تم العثور عليه من قبلي وقد أطلق عليه الراحل (دوني جورج , المعبد (H)  نسبتاً لأول حرف من اسمي (Haedar)  , لكن عام 2001 , والمعبد كانت عرض جدرانه بعض الأماكن (11) م وبارتفاع (8) م  , وأكثر السقوف كانت  من خشب الأرز الذي جلب  لغرض البناء من لبنان  حسب ملحمة كلكامش , وقد استخدم القصب على شكل ( باريّه) للسقوف , وللمعبد أهمية كبيرة  كونه معبد سومري والمعبد الوحيد في بلاد الرافدين تمكنا من معرفة كل تفاصيله , جدران المعبد تم بائها من اللبنّ مع العلم إن السومريين  قد دفنوا هذا المعبد للحفاظ عليه , لكن السبب الرئيسي لم يعرف لحد الآن أي في عصر السلالات  الثالثة (2500) ق.م  .
كم كان عدد أعضاء فريق التنقيب ؟
فريق التنقيب تابع لوزارة السياحة والآثار , يتكون من رئيس الفريق وأعضاء بحدود أربعة أو خمسة أعضاء  من المنقبين الآثاريين , إضافة إلى العمال  المساعدين للحفر والتنقيب , لكن التنقيب حالياً متوقف بعد عام التغيير .
ماهي الآثار التي تم العثور عليها في هذا الموقع ؟
من الآثار المكتشفة من خلال فتح القبور القديمة في موقع مملكة ( أومّا)  السومرية هنالك أدوات لحفظ المكياج للنساء من هذه الألوان التي تم العثور عليها اللون الأحمر والأسود والأخضر والظل الكستنائي , كما تم العثور على الجرّه الحمراء اللون , التي كانت تحتوي على مادة باللون الأحمر , يبدوا كانت تستخدم لطلي الشفاه عند النساء , ومن هذه الأدوات نتمكن من معرفة مستوى الرقيّ الذي وصلت إليه تلك المملكة قبل 2500 عام ق.م .
كم حارة سكنية في هذه المدينة السومرية ( أومّا)؟
هي عبارة عن أبنية إدارية  تقوم بخدمة القصر والمعبد  , لأن المعبد هو مركز ديني  اقتصادي ,أي مكان للعبادة وتقديم القرابين , ومركز تجاري اقتصادي إداري , وكان  يدار من قبل كبير الكهنه في الشؤون الإدارية ( السانكا) ,و يساعدون (السانكا) مجموعة من الكهنة في المعبد تدعى ( داتوا), ويعتبر إله مدينة ( أومّا) هو ( شارا ) وهو إله الغلة الزراعية , ومن اللطيف  قد عثرنا في هذه المملكة وفي أحد التابليتات  كانت كميات كبيرة وهائلة من الحنطة والشعير  تقدر بعشرات الآلاف من الأطنان .
هل استخدمت أدوات وطرق للسقي بشكل متطورة في هذه المملكة السومرية ؟
من خلال التنقيبات عثرت على بئر كبير وفي جانبه فتحة قريبة من قمة البئر , كانت تستخدم لسقي المزروعات , ونقل المياه عبرّ السواقي التي كانت مبنية من الطابوق ( الآجرّ) ومغطاة بالقير  وبإتجاه  منحدر من منطقة مرتفعة إلى منطقة منحدرة تدريجياً  , وبتدريج غير محسوس , أي من هذا يتأكد لنا إن هنالك طرق مستخدمة لتجهيز المياه من أماكن معينة إلى أبعد نقطة  وحارة في المملكة .
هل استخدمت في مدن المملكة أنابيب  لتصريف المياه الثقيلة  ؟
عثرنا اثناء التنقيب على أنابيب لتصريف المياه الثقيلة ,و في هذه المملكة  وكانت على نوعين , منها أفقية وأخرى عمودية , عبارة عن أنابيب مصنوعة من الفخار  وبأقطار مختلفة منها بقطر ( 10) سم وأخرى (20) سم وأخرى (50) سم  , الأنبوب الأخير كان موضوع بشكل عمودي  يدخل نهايته إلى باطن الأرض بعمق (12) م  أو أكثر نزولاً .
من خلال الحديث , تعتبر مملكة (أومّا) مملكة سومرية , لماذا سميّ الموقع بأم العقارب؟
لكثرت العقارب ذات اللون الأخضر في المنطقة الآثارية والقريبة منها .
هل هنالك إضافة أو تعليق   تنوي إضافته للحوار ؟
أطلب من الجهات المعنية وذات العلاقة ومنها وزارة السياحة والآثار بالعودة بعمليات التنقيب لآثار هذه المملكة وبقية المناطق الآثارية, والاهتمام  بأعمال التنقيب في الآثار العراقية الأخرى, كما إني أمتلك الكثير من الأحلام   من ضمنها الرغبة في إقامة مركز للدراسات في الجنوب يهتم بآثار مملكة سومر , كما أرغب من خلال هذا المركز من تعليم أطفال العراق أهمية الآثار والمواقع الآثارية وهي تَمتّ بصلة لتأريخ العراق  وحضارتهُ , وهذا ما لمستهُ في أغلب دول الغرب باهتمامهم بتأريخ مدنهم وحضارتهم , كذلك على الجهات المعنية ووزارة التربية بالاهتمام بتعليم الأطفال احترام تأريخ مدنهم من خلال المواقع الآثارية وأهميتها , ومن الممكن عمل سفرات مدرسية للمواقع الآثارية  , كي يطلع التلميذ والطالب على آثار وادي الرافدين .
 
 


المحاور نبيل الربيعي مع الدكتور حيدر عبد الواحد


بئر لسقي المزروعات وللشرب


د.حيدر عبد الواحد في مملكة اوما للتنقيب




272
دافيد صيمح.....الشاعر العراقي المتمسك بنظم ودراسة الشعر العربي العمودي



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    لليهود العراقيين دوراً بارزاً وكبيراً وفاعلاً في  جميع المجالات الحياتية  ومنها مجال الثقافة العراقية , كانت للحياة الإجتماعية العراقية التأثير والارتباط بحياة  يهود العراق, وقد عرف إن جميع الكتاب والشعراء اليهود قد اشتهروا في العراق لكن لم تبرز  بينهم امرأة  واحدة يمكن الحديث عنها في الوسط الأدبي , رغم إن هنالك  الكثير من المناضلات  من نفس الطائفة  قد شاركنً  في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية , ويرى الباحث كاظم حبيب في كتابه ( اليهود والمواطنة العراقية ص76) :" بأن عدداً كبيراً من الأدباء  اليهود العراقيين على الرغم من مشاركتهم في الحياة الثقافية ,وإصدار بعضهم الصحف والمجلات مثل مجلة المصباح في العشرينات والثلاثينات , فأنهم لم يتركوا بصماتهم الواضحة المتميزة في الأدب العراقي , قصة وشعراً ونثراً, ويمكن القول بأنهم كانوا جزءاً من الحياة  الثقافية العراقية وليس جزءاً متميزاً منه" .
     من خلال ذلك نذكر الشاعر دافيد صيمح الذي واصل في تنظيم الشعر وفقاً لعمود الشعر العربي التقليدي , وقد نشر قصائده في مجلات عديدة , واشترك في كثير من  المحافل  الشعرية , وعمل جاهداً على التواصل بين الأدباء والشعراء من الوسطين العربي واليهودي .
    ولد الشاعر العراقي دافيد صيمح في بغداد عام 1933 , وأكمل دراسته الابتدائية في بغداد , وعمل معلماً للغة العربية في مدارسها , وفي عام 1950 اضطر للرحيل من العراق بسبب الضغوطات الحكومية على أبناء الطائفة اليهودية وقرار رقم (1) عام1950 الذي أصدرته حكومة توفيق السويدي بإسقاط الجنسية العراقية عن أبناء الطائفة اليهودية واقتلاعهم من جذورهم في وادي الرافدين ليعيشوا في وسط اجتماعي  وثقافي غريب عليهم , وبهذا خسر العراق  نخبة من أبناءه الطيبين وبجميع المجالات والاختصاصات , هرحل الشاعر دافيد صيمح  ليحمل معهُ أعز هدية قدمت لهُ في العراق ,  هو ديوان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري , الذي أهداه إياه حينما كان أستاذاً  للأدب العربي  في المدرسة .
   واصل الشاعر دافيد صيمح  نظم الشعر العربي وأعدّ ديواناً شعرياً آنذاك , بيد إن الحالة العصيبة التي حلت بيهود العراق عام 1948 حالت دون نشره , في عام 1954 شارك  مع (ساسون سوميخ وشمعون بلاص) في تأسيس " ندوة أنصار الأدب العربي" في تل أبيب , وفي عام 1959 أنجز حلمه بإصدار مجموعة مختارة من شعره بعنوان " حتى يجيء الربيع" , وهي المجموعة اليتيمة التي أصدرها   خلال مسيرة حياته الأدبية .
   أكمل الشاعر صيمح دراسته الجامعية لدراسة الأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس , وفي منتصف  الستينات أوفدته جامعة حيفا إلى جامعة اوكسفورد لمواصلة دراسته , حتى نال  شهادة الدكتوراه عام 1969 بموضوع أطروحته " النقد عند أربعة من أقطاب  الأدب العربي المعاصر هم:عباس محمود العقاد,محمد حسين هيكل, طه حسين, محمد مندور".
   انظم الشاعر إلى هيئة التدريس في جامعة حيفا بعد عودته إلى  القدس , كتب  الكثير عن الأدب المعاصر , وقدم الدراسات والبحوث حول "توفيق الحكيم" , ثم عكف على  دراسة الأدب القديم  بثلاث لغات " العربية والانكليزية والعبرية" , فقد تعاطى معظمها مع علمي "العروض والقافية " مع الأساليب البلاغية في الشعر العربي.
    في آخر أيامه وضع الشاعر دافيد صيمح كتاباً باللغة العبرية حول "أدب الحب عند العرب" , فقد دمج بين  البحث النظري وبين نماذج مختارة من الشعر والنثر , ثم قام بتحقيق مخطوطة  بعنوان " روضة القلوب ونزهة المحب والمحبوب" لعبد الرحمن بن نصر الشيزري الذي عاش في القرن الثاني عشر للميلاد.
    عام 1997 رحل الشاعر العراقي دافيد صيمح عن عمر ناهز (64) عاماً, بسبب إصابته بمرض العضال الذي نخر جسده النحيف وهو لم ينجز التحقيق في المخطوطة المشار إليها.




273
إيلي عمير ...الروائي الذي عرّف الآخرين بالحضارة العربية من خلال رواياته



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     حين يرجع المرء بذاكرته إلى الوراء , إلى عهد الطفولة والصبا , تكون هنالك  صور يحملها  لكل ذكرياته السعيدة والحزينة  وأيامه الحلوة والمرة , الطفولة الناعمة والشقاء والمرارة في تهجيره وقلعة من أصوله وجذوره الحقيقة لتنبت في  أرض بعيدة  عما يتوقعه ومختلفة عن ثقافته وعاداته وتقاليده , أن يشترك مع الآخرين بالسعي لكسب العيش , والكل يذهب في طريقه للعمل الذي يختص به , فهو جانباً  يتساوى فيه الجميع في الإنتاج والبناء والعيش والتطبع على علاقات و أجواء جديدة , ثم يغادرون الحياة ببطء.
   ولد الروائي العراقي الأصل واليهودي الديانة إليلي عمير  في بغداد 26-أيلول1937 , كان اسمه في سجلات النفوس العراقية ( فؤاد الياس خلاصجي) من خلال الحوار مع الباحث مازن لطيف في جريدة تاتو في 3-8-2012 , وقد هاجر مع عائلته  من العراق  إلى إسرائيل عام 1950  وهو في الثانية عشر من عمره , وقد أصدر الكثير من الروايات  وبين أهم نتاجاته الأدبية  رواية (ياسمين) التي طبعت عام 1995 وترجمة  من قبل حسين سراج  في مصر عام 2007 ,وهي تروي قصة حب بين نوري وهو يهودي من أصل عراقي وبين ياسمين الفلسطينية المسيحية من شرق القدس ,الهدف من الرواية من أجل تعزيز الإدراك والتعرف المتبادل بين الطرفين  , الذي سيؤول في نهاية المطاف إلى السلام الحقيقي.
    ترجمت أغلب روايات إيلي عمير من اللغة العبرية إلى اللغة العربية منها (ياسمين, ديك الفداء, المطيرجي, حب شاؤول, لقاء بين مجهولين ) , وقد خصص الروائي عمير  حيزاً كبيراً في رواياته للشخصيات الشعبية العراقية وللفلكلور العراقي والأكلات الشعبية  العراقية , فاز بالعديد من الجوائز الأدبية والاجتماعية وله برامج في الراديو والتلفزيون.
   من خلال مطالعة رواية (ياسمين)  نجد إن المؤلف أبرز التناقضات  الشخصية الموجودة  من خلال شخصية أبو نبيل الصديق لأبو جورج واللذان يمتلكان  صحيفة في القدس  الشرقية , وكان ابنه نبيل عضو في حركة فتح , ويقوم بعمليات فدائية , أما شخصية غدير البدوية  الساكنة في جبل (اسكوبست) في القدس الذي قابلها نوري وتعرف عليها عندما  احتلت إسرائيل القدس , لكن المخابرات الإسرائيلية ( الشين بيت ) رفضت ذلك , فهو صراع بين الأجيال والشخصيات في إسرائيل من خلال المفاهيم للعلاقات والعوائل وسيطرة الأنظمة الحكومية التي ترفض  بعض العلاقات.
    الرواية خلفيتها سياسية وفيها العديد من الشخصيات المصرية التي تشيد بالزعيم عبد الناصر , إلا أن الكاتب إيلي عمير ذات التوجهات اليسارية العلمانية يدعوا  من خلال الرواية إلى إقامة  دولتين في فلسطين , وإن القدس يجب أن يرفع عليها أعلام الدول العرابية والإسلامية وإسرائيل والفاتيكان , وتصبح القدس عاصمة عالمية , كما أن عمير يرفض الاحتلال واضطهاد الفلسطينيين  ولا يجب معارضة الشعب الفلسطيني , بل إحلال السلام.
    يعلق عمير على الرواية في إحدى الأمسيات الأدبية التي أقيمت في القاهرة في وقت سابق قبل التغيير , بمناسبة صدور  الرواية وترجمة بعض فصولها في مجلة ( اكتوبر) قال :" لقد بدأ الغزو الثقافي العربي الإسرائيلي  تتزايد وتيرته في أعقاب السلام مع مصر , وأنا لا أخشى هذا الغزو ....لذلك أقول لا تخافوا من  الانفتاح على الثقافة العبرية , هل من الممكن العيش بسلام بدون أن نقرأ ونتعرف على ثقافة الآخرين؟" , ثم يركد الكاتب عمير في كلمة افتتاحية ألقاها من خلال المأدبة التي أقيمت على صدور الكتاب باللغة العربية " إن الهدف من الكتاب هو التغلب على العوائق السيكولوجية القائمة بين الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي " كما يشيد عمير حول التطبيع " يتوجب على الطرفين الفصل بين الثقافة والسياسة واعتبار الأدب جسراً بين الشعوب والحضارات" , من هذا يؤكد عمير على أهمية التقارب بين الحضارات ,وأن يكون الأديب جسراً  بين الشعوب .
     كما كتب عمير  العديد من الروايات منها قصة ( ديك الفداء)و(المطيرجي) و ( حب شاؤول) و(لقاء بين مجهولين) , يتميز عمير بذكر أحداث وشخصيات واقعية في رواياته , وهو يصور جانباً مما يسميها معاناة اليهود في العراق من خلال تصوير معاناة سليم أفندي , من هذا ترى إن المنجز الأدبي للمهاجرين من الأدباء اليهود العراقيين ترتبط منجزاتهم الأدبية  على مستوى التاريخ للحالة اليهودية في المرحلة التي يصورها  إضاعة للصدق , فهي مرحلة معينة من حياة اليهود في العراق.
   خصص عمير حيزاً كبيراً في رواياته للشخصيات الشعبية العراقية وللفلكلور العراقي والأكلات  الشعبية  العراقية , حيث بات التحليق في سماء الثقافة والحضارة العربيتين سمة من سمات  المشهد الأدبي الإسرائيلي , إذ تتفاعل في المشهد الثقافات العربية والعبرية , وقد سيطر أغلب  الأدباء والمثقفين من المهاجرين العراقيين على مواقع ثقافية أكاديمية  مهمة في إسرائيل , وقد اخترقوا الحواجز الثقافية  الغربية عبر الكتابة بالعبرية , وتسجيل للذاكرة العراقية بالكتابة  بالعربية .
    كان من الطبيعي أن تتوجه نخبة من الشباب اليهودي العراقي في بداية قيام دولة إسرائيل إلى الكتابة الروائية والصحافية بالعبرية , لتمكنهم من هذه اللغة  وآدابها , لكن جمهور القراء كان محدوداً ومقتصراً على العرب فقط , فالشباب العراقيين من الديانة اليهودية ذو الميول الشيوعية  انتقلوا للكتابة بالعبرية بدلاً من العربية , لكون اللغتين توأمين للغة الآرامية , ومن أبرز هؤلاء الكتاب سامي ميخائيل وشمعون بلاص وإيلي عمير , وقد شكل الحنين إلى الوطن  الأصلي العراق أبرز المشاعر المشتركة لجميع الكتاب اليهود من أصل عراقي .
   






274
اسحق بار موشيه... الروائي الذي نتطلع إلى عبق التراث والشخوص من خلال رواياته



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    يتنقل اسحق في رواياته بين محلات حافظ القاضي بشارع الرشيد ومحلاته مستذكراً لحظات ذکريات صباه الطويلة في محلات بغداد (الدهانة والشورجة والبتاوين وبارك السعدون وابو سيفين )ودرابينها المتلاصقة بيت على بيت ، کان من هناك ضحكات وخوف في إحدى تلك البيوت البغدادية , بعد اقتلاع أبناء الطائفة اليهودية من جذورهم  في بلدهم العراق والزج بهم في (فلسطين) ,مما أدى  إلى ظهور مشكلات الهوية  وأزمة اغتراب نشعر بها في رواياتهم وكتاباتهم  حيث الحنين إلى الوطن الأصلي( العراق ) , وقد نشأ الفن القصصي العربي بين هؤلاء الأدباء اليهود من خلال تأثرهم بالأدب العربي بسبب جذورهم الأولى في مدارس العراق , والعادات والتقاليد العائلية  التي تشربوا بها , ومن هؤلاء الروائي اسحق بار موشيه , وقد ظهرت بعض التأثيرات البغدادية  في روايته (بيت في بغداد).
   ولد الروائي العراقي الأصل اسحق بار موشيه في بغداد في 23 كانون الثاني عام 1927 وفيها أمضى طفولته وصباه وأوائل شبابه، وسط واقع اجتماعي جيد وفي عائلة ميسورة, درس في مدرسة  راحيل شمعون الإبتدائية وأكمل دراسته الإعدادية في متوسطة الرصافة عام 1943 , ثم الإعدادية الأهلية وهي مدرسة يهودية كانت تدار من قبل الطائفة اليهودية في بغداد, التحق  بكلية الحقوق ودرس فيها بين عام (1945-1948) , وعمل في عدد من الصحف كمحرر، منها صحيفة "الشعب" و"الأهالي" , بعد هجرته القسرية أسوة بأبناء الطائفة اليهودية في العراق عام 1950 غادر العراق متوجهاً إلى فلسطين ,أسس صحيفة "الأنباء" التي تصدر في القدس ,عمل معلقاً سياسياً في "دار الإذاعة الإسرائيلية" لفترة (1958-1968) , حرر زاوية ( المقتطفات الاجتماعية ) لمجلة  " المشرق الجديد " توفي اسحق بسبب مرض القلب بمانشستر في التاسع من شهر كانون الأول عام 2003 وحيداً حزيناً بعيداً عن أحبابه نائيا عن ذكرياته.
   صدرت له أول مجموعة قصصية بعنوان "وراء السور" ومجموعة قصصية ثانية بعنوان "الدب القطبي وقصص أخرى" عام 1974 و "رقصة المطر وقصص أخرى" عام 1974 ونشر الأولى من سلسلة مذكراته التاريخية بعنوان " الخروج من العراق" عام 1975 .
  يعتبر الحنين إلى الوطن الأوّل من الذين هجروا من وطنهم واقتلعت جذورهم من بلاد وادي الرافدين , حيث يتشوقون إلى الحارة الشعبيّة, ذلك النبض للحياة اليوميّة للمدينة العراقيّة ,وتلك ملامح مشتركة نجدها في روايات اسحق بار موشيه، وربّما لم يسجل الأدب العراقيّ الواقع اليوميّ للمدينة بالعمق والتفصيل الذي سجلته نصوص الكتـّاب اليهود في قصص شمعون بلاص، وفي نصوص سمير نقـّاش ، وفي روايات سامي ميخائيل ونعيم قطـّان ومذكرات سوميخ..
   يقول الراحل اسحق بار موشيه في رواية (بيت بغداد):" الآجال محدودة, كل من يولد مكتوب في سجله من اللحظة الأولى : متى ستأتي لحظته الأخيرة " ,وفي موضع آخر من الرواية يقول بار موشيه: " والله لا يكشف أسراره لأحد,إلا إذا اختار ذلك اختيارا إنه عز وجل له حكمته00 0 ولحكمته لا توجد حدود لاختياره ,لا يوجد أي تفسير سوى ما يعرفه هو ويرضى بالكشف عنه" كما يذكر الروائي الراحل  اسحق بار موشيه  في أكثر من موضع حبه لقصص كامل كيلاني وتأثره بـ(مجنون ليلى) و(المعلقات) و(المتنبي) وبعض عبارات من قصة ( علي بابا ) في الأدب الشعبي العربي 0
  هنالك أثراً نلمحه عند إسحاق بار موشيه  حيث يميل إلى بدء الجملة بالاسم ثم إتباعه بالفعل وهو من تأثير العامية وقد نمّى اسحق بار موشيه هذا الاستخدام حتى أصبح السمة البارزة لأسلوبه ونلاحظ وجود كلمات وعبارات محددة منها في رواية(ما وراء الحياة) (الله يرحمه)ص239 و في رواية (بيت في بغداد) ( كان الله في عونها ) ص68 0
    يؤكد الدكتور جلاء إدريس " أن في كتابات إسحق بارموشيه حيث حفل إنتاجه الروائي بالحديث المسهب عن مبدأ الحرية متأثرا في كثير من المواقف بآراء الجبرية التي تسربت إلى الفلسفة اليهودية في العصور الوسطى وقد انعكست هذه التأثيرات في عبارات محددة ومواقف واضحة في كل كتاباته وخاصة روايات(العرش ـ قليل من العطف ـ اللعنة الأولى ـ المسدس ـ ما وراء الحياة ـ وراء السور)".
وفي مقال للقيادي الفلسطيني (ابو مازن ـ محمود عباس )يقول:" صدر عن دار النشر السفاردية عام 1972 في القدس تحت عنوان " الخروج من العراق " لمؤلفه اسحق بار موشيه مدير الإذاعة الإسرائيلية ، وصف فيه حالة اليهود العراقيين عند وصولهم إلى إسرائيل والمعاناة التي لا قوها ، والتمزق النفسي والعائلي الذين عانوا منه واللامبالاة التي جوبهوا بها والاحتقار الذي كان سمة كل من استقبلهم هناك ، فيقول كنت أتجول بين القادمين كلما منحت لي الفرصة وابحث عن معارفي وأهلي وأصدقائي ، لقد تحول الجميع إلى أعزاء قوم ذلوا واستبيحوا مرتين مرة بيد حكومة العراق ومرة بيد حكومة إسرائيل التي لم تدرك خطورة ما قامت به تجاه طائفة يهودية من اعرق وأعظم الطوائف بالعالم" .
ويذكر الروائي اسحق بار موشيه في روايته "الخروج من العراق" : " لقد أصبح القادمون مهاجرين مشتتين حقا وقد قدموا خاليي الوفاض من كل شيء وظهر لنا في تلك الأيام أن أحدا في إسرائيل لم يكن ينتظر أن نأتي إلا هكذا ، وإننا بالنسبة للجميع يجب أن نأتي هكذا ، كنا نتذكر مؤسساتنا العظيمة وآثارنا المجيدة في العراق ونحن نتبادل نظرات خرساء ، وعندما كنا نتقدم نحو الوسط الإسرائيلي الثابت الأركان بحكم كونه قد وصل قبلنا وضرب جناحيه قبلنا فقد كنا نتبادل نظرات نكراء لم يكن أحد طرفيها يفهم الطرف الآخر ",  ويؤكد الكاتب مازن لطيف علي في مقال على موقع الحوار المتمدن العدد: 3039 " ولأهمية هذا الكتاب قامت الحكومة العراقية بترجمته في ثمانينيات القرن العشرين من اللغة العبرية الى اللغة العربية، في طبعة خاصة وللتداول المحدود من منشورات ما سمي "مجلس قيادة الثورة في العراق" وصدر بعنوان " الهروب من العراق".
 
رواية "بيت في بغداد "
يدور الحوار بين أبطال كتاب اسحق (بيت ببغداد) بما يلي:
ـ هل تعرف فلان؟
ـ لا
ـ انه من الصف الفلاني
ـ لا، ما شأنه؟
ـ أبوه قتل
ـ والمدير والمعلمون يعرفون ذلك؟
ـ نعم، لا يقولون لنا شيئا لكي لا نخاف
ـ بعض الطلاب لا يأتون الى المدرسة
ـ آباؤهم يمنعونهم من المجيء من شدة الخوف.
 
    يستمر اسحق في نهاية كتابه بشرح ما جرى لليهود في تلك الأيام العصيبة ببغداد: "في الطريق سمعتُ عمي أبو البير ووالدي يوصي أحدهما الآخر بأحكام إغلاق الأبواب وعدم الخروج حتى لو كان البيت خالياً من الطعام. ذهبنا إلى روضة مناحيم صالح دانيال فاصطحبنا أختي البرتين. الطرق مقفرة. الأحياء التي نمر بها كلها أحياء يهودية. الآباء يُمسكون بأيدي أبنائهم ويسيرون بسرعة. عند أبواب البيوت كنا نسمع المزاليج وهي تطبق والأبواب وهي تُغلق بقوة وشدة. وعندما وصلنا إلى البيت مطمئنين إلى أننا كلنا هناك، أغلقنا الباب بالمفتاح وأخذنا نقنع أنفسنا، كل على طريقته، بأننا الآن في أمان".
 
ثم يؤكد " إن أعجب ما صعب علينا هضمه هو إن البلاد التي قدمنا اليها لم تكن تعرفنا مثلما كنا نحن نعرف أنفسنا وتاريخنا ، وقد تعزز لدينا الاعتقاد وبمرور الزمن بأن الجهل لم يكن جهلاً وإنما تجاهلاً مقصوداً ، وفي كل دراسة طالعناها عن يهود أوروبا الشرقية ، كنا نحمل على الاعتقاد ان هؤلاء فقط هم يهود العالم ولا مكان بينهم لليهود والمعروفيّ الأصل والفروع والقادمين من الشرق ، كان مؤلما ومهيبا معا ان تخلو الكتب المدرسية من تاريخنا ومن ثقافتنا ومن أسماء كتبانا ومثقفينا وحاخامينا وعلمائنا وشعرائنا ووجهائنا ، نحن الذين أنتجنا في القرن الأخير فقط طائفة من أحسن كتاب العراق وقضاتها ومفكريها ، كنا نستجدي هنا اعتراف البلاد بنا فشعرنا إننا كالأيتام على مأدبة اللئام " .و يقول الروائي  سامي ميخائيل: " إن أبناء جيلي حينما يتكلمون عن العراق إنما يتحدثون عن وطنهم الأوّل".
 
 روايته يومان في حزيران :
   يقول الباحث البروفسور كاظم حبيب  في مقال بعنوان (المثقفون العراقيون اليهود قبل التهجير  ) عن حادثة الفرهود بحق أبناء الطائفة اليهودية في يومي الأول والثاني من حزيران عام1941 في بغداد  :" لقد اتسع دور يهود العراق في الحياة الثقافية العراقية في أربعينيات من القرن العشرين بشكل ملموس وتميز بالحيوية والثقة بالنفس والتفاعل مع المثقفين العراقيين من المسلمين والمسيحيين والكرد وغيرهم , بالرغم من الجريمة البشعة التي ارتكبها البلطجية والقوميين اليمينيين المتطرفين الأوباش التي أطلق عليها "الفرهود" , في يومي الكريستال الأول و الثاني من شهر حزيران من العام 3143 ضد اليهود ببغداد ومن ثم في العام ذاته بالبصرة , رغم إن قوميي وبلطجية البصرة الأوباش لم يتسن لهم قتل المواطنات والمواطنين اليهود بسبب الموقف الحازم والشريف الذي وقفه أهل البصرة إلى جانب العائلات اليهودية بالمدينة وضد هؤلاء الأوباش. في التصاق بارزا وفي تلك الفترة برز مثقفون عراقيون يهود شاركوا في أجهزة الدولة ولعبوا دورا بالنظام الملكي والدفاع عنه.
  في ذاکرة الزمن ورحلة الأيام والبحث عن شهود عاصروا أيام الفرهود يحدثنا الأستاذ اسحق بار موشيه  في رواية  "يومان في حزيران" ما دار عن تلکم الأيام الخوالي والناس ملتهبة ، من جراء سماع الناس لإذاعة راديو برلين وتحريضاته وتعليقاته عن اليهود والانكليز والامريكان والأهالي لأهم ما يقوله راديو برلين يقول:
صباح يوم وأنا راقد في السرير ، وجدتني أقول لنفسي هذا الکلام وحزنت أکثر لأنه للمرة الأولى تأتيني کل هذه الأفكار وأنا أحادث نفسي ، کأنني أتحدث إلى شبحي المعلق في أعلي الشباك دون أن اعرف سبباً للکلام..
قبل ذلك بيوم ، استمعت إلى  حديث بائس دار بين والدي في الخان وبين رجل يدعي حيدر ، حيدر کان شخصاً أمياً ، طيب النفس ، يقوم بأعمال السمسرة البسيطة ، فيجلب المشترين إلى والدي بعد أن يكون قد أقنعهم بحسن البضاعة ، ثم وعندما يقتنون ما يريدون ، يصحبهم إلى الخارج فيأخذ حقه منهم ، ويعود إلى والدي قائلا بخفة دم تتنافي مع قامته القصيرة وجسده الممتلئ .. لعب إيدك ابو ايلي . إلا انه يوم أمس عاد واخذ حقه بسرعة وقال : أبو إيلي الحالة صارت قاسية
--- ليش يا حيدر ؟
---هيچي أشو متعجبني ، الحرب هالأيام بس الله يدري إشوکت راح تخلص ، ومحد يعرف إشلون الانكليز راح يخلصون منها
ظهر هذه المرة على والدي أنه يحب هذه المرة ألا يقطع الحديث حسب عادته ، وأن يجامل حيدر لعله يستخرج منه أقواله شيئاً ، قال والدي ضاحكاً
---عندك وكت تتأمل الانكليز اشلون متضايقين ؟
---ليش لا يا أبو إيلي ؟ سمعت بالاخبار إن هتلر جند لهم مية ألف مليون جندي
 إنهدم بيت أبوك يا حيدر ، العالم كله ما بي ربع هالعدد من السكان ؟ يعني هتلر جند کل اللي وياه عليه ؟
فظهر علي حيدر إنه متعجب ، كأنه اكتشف إن العدد الذي ذكره هو كبير حقاً، ويفوق عدد سكان العالم ولكن عينيه استمرتا تشعان ذكاء ورغبة في التغلب على قصور معرفته . كان حيدر يحب والدي ويستحب كرمه وعطاءه ، فهو يعطيه حق السمسرة بأكثر مما يعطيه الآخرون . صمت حيدر برهة قصيرة ، ثم قال:
صحيح أبو إيلي ، إشراح يستفادون الانكليز من هاي الحرب ؟
---ما أعرف ، مدا تشوف  هتلر هو اللي شنها
 والله ما أعرف ، شبچت الأمور ، بس إشراح يستفادون الانكليز منها ؟ مو ديصرفون مليون من هالپاونات ؟ راح إيفلسون حتماً ويصيحون الداد ويطلبون التوبة ويرجعون
--- شنو هالافكار العجيبة اللي عندك ياحيدر ؟ منين جبت هالفكرة ؟
---خطرت إبالي هسه
---وليش ماخطرت إبالك إن هتلر هو لازم يتوب  ؟
فتطلع حيدر الي والدي مستنكرآ ، إلا إن ذكاءه الفطري عاد فتغلب قال  : هتلر هو الاقوى ، والقوي مايحب التوبة
صحيح منطقك عجيب يا رجال ، أنت شاطر بالسمسرة ، ليش ماتتوسط بين هتلر والانكليز ؟
فضحک حيدر ضحکة طويلة من أعماق قلبه
ضحك الجميع حيدر وأبو أيلي
 
كنت استمع الي المحادثة وأنا مرتبك ، ثم أنا فضولي جداً ولكن في آخر الأمر لم تغب عني الطرافة والظرف في هذا الحوار .وقد استنتجت إن حيدر تجرفه الموجة العامة المرئية في العراق ، من تأييد المانيا في حربها ضد انكلترا وحلفائها . والموجة هذه تغذيها إذاعة المانية قوية باللغة العربية تكمن قوتها في وقاحتها في شتم الانكليز وتقديم النكات عنهم ، ولعن سيطرتهم علي البلاد العربية عامة والعراق خاصة ، والتنبؤ کل يوم وآخر بقرب الانتصار عليهم وبقرب وصول جيوش هتلر لتحرير الأمم المغصوبة وتخليصها من إثم الانكليز وعار سيطرتهم ، ثم إن الإذاعة تسمع بأعلي صوت في المقاهي ، ناهيك عن البيوت والمكاتب الرسمية.  
لم يكن حيدر بالطبع مدعياً , فهو يلتقط كل شيء ويؤيد ما يجده خفيفاً علي نفسه وقابلاً للفهم ، وربما عرف دعائيو هتلر کل هذه الأمور فكانت دعايتهم قابلة للفهم ، تتحدث جيداً إلى العواطف ، وتجيد إثارتها . حيدر کذلك لم يکن إلا إنساناً بسيطاً من العامة . وقد حافظ دائماً علي علاقته بالتجار الذين يتعامل معهم من أجل كسبه البسيط . وعموماً كنت أتغذى علي مثل هذه المحادثات ، وأقول لنفسي إنها مقياس جيد لما يجري في صفوف العامة . كنت أعرف بتجارب الشيخوخة المبكرة ، إن المقاييس يضعها بالضرورة أصحاب العلم الضئيل آو الكبير ، الذين يوجهون الرأي العام من مقالات الصحف ومن الإذاعات . وكنت أقرأ هذا واسمع ذلك ، فيزداد حزني لما أراه قادماً لا محالة ولا اعرف كيفية تحديده ، ولا اعرف أيضاً موعد قدومه ، کما لا أعرف أبداً كيفية تحاشيه.
ذهبت تلك السنة إلى المدرسة المرکزية وسبقني إليها أخي الأکبر منذ عام ، لأن متوسطة الرصافة تنتهي صفوفها في الثاني المتوسط ؛ ولأن المتوسطة المرکزية أقرب إلي بيتنا الذي يقع في محلة الدهانة من متوسطة الرصافة ، وهو أمر يجب تدبره والاهتمام به نظراً لان الشارع أصبحت مخاطره أکثر ، ونظراً لأن صديق والدي في وزارة المعارف وهو مراقب الحسابات العامة في الوزارة ( داود سلمان ) قال إنه سيضمن لأخي ولي أحسن معاملة في المتوسطة الجديدة . وعلي کل حال فمن بدأ في طريق معين يجب آن يسير فيه حتى النهاية . علي کل حال أيضا فأخي سوف يسجل في الإعدادية الأهلية وهي فاتحة خير وسوف ألحق به أنا بعد انتهاء هذه السنة.
 
  يؤكد الكاتب سلام عبود في مقال بعنوان(يهود العراق وخرافة البحث عن وطن افتراضي ) في موقع الحوار المتمدن العدد: 2895 – 21-1-2010  :"لا يخفى على أحد أنّ عقيدة الدولة الدينيّة المنتصرة استطاعت أن تفترس جزءا حيويّا من هوية المهاجر العراقيّ وتكوينه التاريخيّ. ظهر هذا جليّا من خلال تغيّر في الأسماء : داوود الى دافيد ومعلّم الى موريه، وتغيير في التعامل مع قواعد اللسان والتعبير اللغة".
   لقد حاول شموئيل موريه تبرير التحول من العربيّة الى العبريّة لدى بعض الكتاب اليهود من طريق ربطه بعامل السوق (ايلاف 20 -10-2006). وهذا تبرير طهريّ، خجول، يشير إلى بعض من شظايا الحقيقة وبعض من نصال الإشكاليّة الثقافيّة، لكنه لا يجيب عن الأسئلة الجوهريّة, وحينما ناقش سامي ميخائيل، باعتباره أحد المتحولين، هذا الأمر مع صحيفة (داغسنيهيتر) السويديّة لم ينكر عامل السوق أيضا، لكنه لم يشأ أن يخفي أنّ السوق هنا يرتبط ارتباطا لا فكاك فيه بعامل السياسة والهويّة الثقافيّة وأفضليّة سبل الدفاع عن المواقف, يقول سامي ميخائيل" أن تكون يهوديّا، متحمّسا في مناهضة الصهيونيّة وتكتب بالعربيّة، ذلك أمر غير مغر بشكل خاص في أيّة بقعة من العالم". ولم يتوقف الأمر على الأسماء واللغة فقد تغيرت أيضا قواعد الانتساب إلى الوطن الأمّ, وربّما تكون صيغة " اليهود النازحين من العراق"،
  ولرابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق في إسرائيل الدور في نشر مؤلفات اليهود النازحين من العراق والأبحاث التي كتبت عن يهود العراق, وهي جمعية علمية ثقافية اجتماعية أدبية تأسست عام 1980 غرضها وعقد الندوات العلمية والثقافية والأدبية,و المحرك الأساسي لهذه الجمعية هو البروفيسور دكتور سامي (شموئيل) موريه - أستاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية، وبعدة جامعات في إسرائيل وخارجها، والشاعر الأديب أيضا - وقد نشرت هذه الرابطة بمبادرته، آثارا أدبية لكتاب عرب يهود، انتقلوا تحت ظروف متناقضة ومختلفة إلي إسرائيل، فأصدرت كتاب قصة حياتي في بلاد الرافدين للمحامي أنور شاؤل، وهو أول كتاب يصدر عن الرابطة، ثم أصدر البروفسور سامي موريه كتابه القصة القصيرة عند يهود العراق، وأصدرت الرابطة أيضا لسمير نقاش روايته التي يسميها كعادته رواية عراقية " نزولة وخيط الشيطان" ومسرحية "المقررون" ثم رواية "تنبؤات رجل مجنون في مدينة ملعونة"، عام 1995م  وهو ما يوحي بوجود شعور عام لدي هؤلاء الكتّاب والشعراء بانتمائهم للثقافة العربية ، وسبل التعبير عنها، حتى من غير لغة كتابته ظل مربوطا بشكل ما بالثقافة العربية.
 
  
 

275
مجلة نهرايا ...وذاكرة العراق التراثية والثقافية

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   الذاكرة هي انعكاس  لحقيقة الوجود الإنساني ومستوى  وعي الذات الثقافي , فذاكرة تأريخ العراق القديم بدأت بذكريات الألواح الطينية  ومكتبة سرجون الأكدي ودار الحكمة,الذاكرة هي الابنة الشرعية للعدالة وذاكرة العراق لا يمكن لها أن تظل في حضن الظلم والظلام إلى الأبد , لكنها كانت  عبارة عن مراحل تاريخية  معبرة عن طبيعة الوعي الإبداعي الإنساني  بوصفة ذكرى الأجيال وهي السر الكامن لفكرة تأرخة الأحداث ,لكن بعيداً عن الاحتراب والتجزئة , أي ذاكرة  لا تجعل من اللغة  لغواً ومن الرواية حكاية , فكان صدور مجلة نهرايا بحلتها الجميلة , وهي مجلة فصلية  تهتم بذاكرة العراق وتراثه, وكان توقيت صدورها  مناسباً مع  اختيار بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام 2013, فمجلة نهرايا تعني ( بيت نهرايا) الآرامي العراقي القديم أي بلاد النهرين .
    بغداد  العاصمة لعبت الدور المثالي في نقل موروث الأزمنة المتراكم من أصولها الأولى منذ دولة سومر وبابل  وآرام ,المجلة تهتم بإحياء التراث والتطلع للحداثة , التراث هو إعداد لنفحات القيم الأصيلة الخالدة , كما يصفه د. علي ثويني بمقالته الأولى في المجلة (بيت نهرايا وعرس بغداد الثقافي 2013) :فأمسى لنا التراث متراس وملاذ وشرفة استئناس ورومانسية  وإطلاق عنان الخيال وحنين ماضوي"  لكن الخيبة في دراسة التراث  والتخبط بينه وبين التاريخ" فمن تجارب  النكوص يرتقي الإنسان ومن الأمة تلد الهمة ولا سيما إننا  أمه قدرنا نحاكي العنقاء, وتجاربنا تشير إلى إننا ننتفض لنشرع في البناء" .
   العدد يحتوي على عدة أبواب  منها الافتتاحية التي كتبها الدكتور علي ثويني , وشهادة نهرايا للباحث البروفسور  ميثم الجنابي بما يخص ( الذاكرة العراقية وذكرى القلوب الحية) يؤكد الجنابي إن " الذاكرة والذكرى والذكريات كل واحد تعكس حقيقة الوجود الإنساني  ومستوى وعي الذات الثقافي , وإن الذاكرة العراقية قديم قدم العراق , وليس مصادفة أن ترتبط به ذكريات الألواح  الطينية العظمى , ومكتبة سرجون ودار الحكمة , أي تلك المراحل واللمحات التاريخية الكونية الكبرى المعبرة عن طبيعة الإدراك الواعي لحفظ الإبداع الإنساني  بوصفه ذكرى الأجيال" , أي إننا بحاجة إلى ذاكرة  تاريخية تتجاوز حالة الاحتراب , إننا بحاجة إلى ذاكرة وطنية عراقية حية وفعالة , تتمثل وتعبر عن تجارب الأفراد والجامعات والمجتمع والأمة بأشكال ومستويات ومظاهر لا تحصى  في الأشخاص والشعائر والقصص والحكايات والغرائب والوقائع والحقائق , نحن بحاجة إلى ذاكرة أوسع من أية شخصية أياً كانت وفي الوقت نفسه البحث عن كل شخصية  فيها  حالة أو مستوى يمثل حياة العراقي .
    أما ذاكرة الفن العراقي فقد شملت مقال للكاتب حسين شهيد عن (الخطاط هاشم محمد البغدادي) بين تاريخ ميلاده وعمله  وتأثره  بالخطاطين الأتراك  واهتمامه  بخطوط الحافظ عثمان وشوقي  والحاج أحمد كامل وحامد الآمدي حتى رحيله عام 1973, أما ذاكرة المكان فقد تضمنت مقال  عن( دور السينما في بغداد أيام زمان) للكاتب غالب وشاش , وذاكرة الثقافة  عن أول مذيعة هي (صبيحة المدرس) ثم ذاكرة الصحافة تضمَنّ مقال للكاتب  والباحث مازن لطيف عن مجلة الحاصد(مدرسة أنور شاؤول الصحفية والأدبية )ودوره وإسهاماته  الصحفية في العراق بإبراز الجانب الثقافي  والاجتماعي ليهود العراق فكان يطلق على أنور شاؤول بـ(صاحب الحاصد) وعند ذكر الحاصد يخطر على البال أنور شاؤول , حتى  تاريخ أغلاق مجلة الحاصد في عددها الأخير (13) في آذار 1938 وقد كتبت مجلة الهاتف مقالاً  في وداع المجلة التي جمعت ونشرت لأغلب  أدباء وشعراء يهود العراق وحاولت لم شملهم , كما ساهمت الحاصد في تأسيس وانتشار  القصة العراقية , أما ذاكرة الكتب والمكتبات فكان مقال للكاتب علي أبو الطحين (هكذا تأسست مكتبة مكنزي) فقد تضمن المقال تأريخ تأسيس المكتبة ونبذة عن حياة ( كينيث مكنزي), إضافة إلى أن المكتبة كانت توفر الكتب العلمية والأدبية الانكليزية المختصة بالعالم العربي والإسلامي والنشرات والدوريات  فكانت المكتبة تستلم شحنات  من الكتب أسبوعياً من دور النشر البريطانية , أما أعراف وتقاليد فكان مقال حول( أغطية الرأس عند العراقيين للكاتب غفور البغدادي وتاريخ لبس العراقيين أغطية الرأس  بأنواعها من السدارة واليشماغ والعقال الوبر والطربوش والكوفية والجراوية وتقاليدها , إضافة لمقال عن (المسبحة في أعراف العراقيين ومراحلها الزمنية) للكاتب عبد الكريم جعفر أحمد , بين تاريخ استعمالها عبر الأجيال المختلفة من الديانات الوثنية والسماوية ثم انتقالها من بلاد وادي الرافدين إلى الدول الأخرى ,ومن ضمن الأعراف والتقاليد مقال حول( طقوس أكلة الباقلاء) .
    وقد خصصت المجلة باب للشخصيات العراقية ومن أهمها ( الأب  انستاس الكرملي) للكاتب عبد الحميد ناصف حيث أشار الكاتب إلى  ولادة الأب الكرملي واهتمامه بلغات عدة كالسريالية والعبرية والحبشية والصابئية والفارسية والتركية والانكليزية والايطالية والفرنسية والاسبانية إضافة  إلى اللغة العربية , وقد نادى الكرملي  باعتماد اللغة العربية والإشادة بها مما  تعرض للنفي عام 1914 , ثم اهتمام الحكومة العراقية به وجعلته من أعضاء مجلس المعارف  والجمعيات العلمية  ومجمع المشرقيات الألماني حتى رحيله عام 1947 , كما كتب الباحث مازن لطيف  مقال عن الشخصية البغدادية ( جلال الحنفي .. ذاكرة بغداد التراثية) وأشار الكاتب إلى دور الحنفي كإمام للجامع وقيامه بتدريس اللغة العربية في معهد اللغات الأجنبية  في بكين وشنغهاي  في  الصين عام 1966 , ومن مناقبه الفنية إنه درس  علم التجويد في معهد الفنون الموسيقية في بغداد , فقد ترك مخطوطات جليلة لا حصر لها ثم خصص للمجلة باب عن مدائن عراقية وتسميات المدن وشجون وأصول وفصول منها  مدينة بغداد وسامراء  , ومقال لعزيز الحجية ( معلومات تاريخية نادرة ومهمة عن بغداد) , وكيف تعرف العراقيين على شرب الشاي وتأسيسهم لأول معمل خياطة , والكثير من المعلومات المهمة عن المهن والشخصيات البغدادية , أما باب حرف ومهن عراقية فقد كتب زهير الدجيلي عن ( وسائل النقل في بغداد  قبل قرن من الزمان) منها وسائل النقل النهرية والبرية والجوية وباب ما يخص الغناء  والموسيقى مقال للكاتب د. عدنان رشيد ( الحزن في الغناء العراقي) فكان الحزن يتسم بطابع مميز بسبب تراكمات الظلم والقهر وغياب العدل والحرية  على إضفاء الحزن على الأغاني العراقية  , ومقال للكاتب محمد جعفر عن الفنان  الراحل ( حسين سعيدة ...ذلك الصوت الرخيم) , أما ما يخص العمارة العراقية فكتب الدكتور علي ثويني مقال حول( الخانات في العمارة العراقية الإسلامية ) منها خان جغان وخان مرجان وخان السلطان والمسافر خانة ,   احتوى العدد باب من التراث العراقي منها (أسرار العدد12 ..لأعداد المقاييس والنظام الستيني) ومقال للقصاص العراقي ( الأول أبو مخنف لوط بن يحيى ) ثم باب المحفوظات الرياضية وتاريخ الكرة العراقية للكاتب سلام توفيق , وقد ذكر الأسماء  والسيّر لشخصيات لامعة  في الكرة العراقية وسيرة أبطالنا في كأس آسيا عام 2007.
    أما الذاكرة الشعبية فقد تضمنت مقال عن ( المقاهي الأدبية في النجف الأشرف وذاكرة الستينات) للكاتب حسن  حكيم , ثم مقال حول شقاوات بغداد للكاتب سعيد الهزاز ورحلات ومذكرات حول أخبار العراق منذ أكثر من مائتي سنة , ومقال حول الديانة المندائية تأريخهم  وشخصياتهم وأفكارهم ومعتقداتهم وكتبهم ودياناتهم, وطريقة التعميد وأنواعه , وتختم المجلة بلقاء للكاتب والباحث مازن لطيف مع الدكتور  سعيد الجعفر أحد أهم الشخصيات والرموز الثقافية  المقيمة في السويد  حول الكتاب العراقيين العصاميين منهم د. علي  الوردي  وإبراهيم السامرائي  وهادي  العلوي ومظفر النواب والشهيد محمد باقر الصدر , ثم تضمن العدد رحلة ولي العهد العراقي المصورة إلى السويد عام 1936 , وقد احتوى  العدد أكثر من (45) صورة تراثية  وتاريخية  مهمة تمثل الذاكرة العراقية .
     مشروع المجلة بعيد عن الطائفية والقومية وهي تتبنى الطرح الوطني العراقي والمواطنة الجامعة دون التفريق أو التفريط , و يدعوا مدير تحريرها  د. على ثويني من خلال المجلة إلى رفدها ودعمها بالمقالات الخاصة بالتراث والذاكرة العراقية لديمومة المشروع , مواضيعها تتعلق بالإنسان العراقي  بشتى مواجهاته الفكرية ومصالحه الآنية لمسح الفضاء العراقي الوطني بشماله ووسطه وجنوبه لكل الحقب والأزمنة , نتمنى للمجلة الاستمرار بالصدور والدعم من المثقفين العراقيين لدعم الذاكرة العراقية بشتى المواضع.


276
قراءة............... في كتاب  مذكرات سجان ..بعد خراب البصرة   للكاتب والروائي جاسم المطير




نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    " أنا واثق إن دجلة والفرات ينطلقان يتعانقان في صدر شط العرب  بعد موتي , مثلما كانا في حياتي , لكنني أسأل نفسي هل ينتهي الرعب من  حياة الناس على شواطئ الأنهار كلها , ذات يوم قادم بوجود الشرطة  أو من دون وجودها ؟ ..." تلك المفردات التي بدأ بها الكاتب  جاسم المطير روايته "مذكرات سجان ..بعد خراب البصرة" الصادر عن دار أمل الجديدة للطباعة والنشر والمتضمن (254) صفحة من الحجم المتوسط وبـ(21) عنوان وثلاث هوامش , من خلالها يستحضر الكاتب واقع حياة السجين السياسي والسجان في ظل الأنظمة الملكية وبداية عهد الجمهورية ثم  واقع حياة أبناء مدينة البصرة أبان  الانقلاب العسكري في شباط عام 1963 ,ثم يستخدم الكاتب من خلال الرواية أدواته الروائية من أجل اختراق روح الفاشية التي سادت  في أرض العراق, لرفع معنويات الإنسان وحقيقته إلى أعلى مراتب الخير والعدل والإرادة.
   الرواية هي مذكرات لحياة السجين السياسي جاسم المطير  التي كتبها من وراء قضبان السجن عندما كان سجين في سجن نقرة السلمان الصحراوي , فهي تقدم للقارئ الوجه الحقيقي لدولة الإرهاب , أنجزت الرواية بتاريخ 30/12/1965 وقد تم تهريبها  خارج السجن من خلال السجين (سامي أحمد عباس العامري), ثم استلمها الكاتب عام 1972 في بغداد ونشرت لأول مرة  عام 1998 في عمان عن دار الفكر العالمي .
   الرواية تصف حال السجان عبد الهادي في مدينة البصرة وظلمه للسجناء حيث يسأل السجان نفسه في ص14:" هل أنا سجان ..هل أنا حامي الظلم في  قرية من قرى البصرة أو المدينة بقراها كلها, أو في العالم أجمعه", ودائماً يسأل السجان نفسه لا يدري هل يظل بقية حياته ينتقل من شعور إلى شعور حتى إحالته على التقاعد , مع العلم ان شعوره وملامّة نفسه في خدمة المتسلطين على الدولة  , كما يصف الكاتب  حالة السجناء داخل سجن مراكز التوقيف وسجن  نقرة السلمان , ففي ص 15 يصف المواطن السجين " بان المواطن حيوان كلاهما المواطن والحيوان ينبحان حين يجوعان ويضربان , وإن الحب والحقد  متعادلان حين يتفسخان في قلب السجان" وهذا ما يحصل  في السجون العراقية أبان العهود السابقة من تعذيب السجناء وعمليات  تصفيتهم بمذابح جماعية كما حدث للسجناء الشيوعيين في سجن بغداد المركزي وسجن بعقوبة  حين قتلوا برصاص الشرطة .
   أشار الكاتب في ص20 , بوصف حال المفوض أحمد جبار ومعاملتهُ الغير  إنسانية للسجناء عند التحقيق سواء كانوا سجناء سياسيين أم غير ذلك من التهم , كان احمد جبار في مركز شرطة العشار " ينبذ فضلاء الناس ماسكاً بيده في الليل والنهار عصا  غليظة لأنهُ من أولئك الذين ربتهّم الدولة على حقيقتها  القاتلة" فكان النقاش والحوار مع المفوض غائب في الأنظمة السابقة حتى إن المنطق كان غائباً , باعتبار المفوض  أو الشرطي هو ابن الدولة , فهو حارس نظامها وبعصاه يحمي الدولة  لبقاء ديمومتها , فكان في أكبر مراكز شرطة البصرة (مركز شرطة العشار) يتم التعذيب بحق السجناء السياسيين  الحاملين لأفكار الغد الجميل الأفضل لبلادهم , فكانت العصا هي لغة الحوار مع السجين باعتبارها العقل والضمير لأفراد الشرطة في التحقيق , أما الضحية فكان عليه أن يصبر بعقله وضميره . فكان  السجناء الشيوعيين قد تلوعوا من عصا  المفوض أحمد جبار التي  سماها الكاتب في روايته بـ(السم الأصفر) أو (العصا الصفراء), يصفهُ الكاتب بأنهُ " طويل القامة , وقح في الكلام البادئ بالشتيمة ولا ينتهي  إلا بشتيمة , ليس في قلبهُ أي نبتّه من الرحمة" فكانت ضرباته بهذه العصا على الرأس والقفا والساقين والقدمين  كما يصفها السجين  (صادق نوري) في الرواية " كانت كلماته النابية موجهه إلى قادة الحركة الشيوعية وكل المثقفين , مطلقاً بوجه المعتقلين  شتائم لا تعد ولا تحصى" أما أثناء تدوين أقوال واعترافات السجناء  كان بارع في التزييف والأقوال التي تكون الشرطة بحاجة  إلى تدوينها , لكن هذا المفوض أخذ في أحد الأيام عقابه  من السجين الشقيّ (إبراهيم سالم) حسب وصف الكاتب المطير في ص23"فتحت أبواب الموقف لذهاب الموقوفين إلى الحمامات للاغتسال ...وقد استطاع إبراهيم تشويه فلسفة المفوض أحمد بقوة  لكماته في كل مكان من وجهه",مما حدّى بمديرية شرطة البصرة إلى التحقيق في الأمر ومعرفة الأسباب حتى تمت إحالة المفوض إلى التحقيق بسبب  تصرفاته الشرسة بحق السجناء لتهدئة الموقف .
   تعتبر الرواية وثيقة مهمة لحياة السجناء الشيوعيين داخل  مركز شرطة العشار والسجون الأخرى , وعمليات  التعذيب والمعاملة مع السجناء من قبل رجال الشرطة والمحققين  فترة النظام الملكي  وأوائل العهد الجمهوري حتى انتهاء الانقلاب العسكري ودور عصابات الحرس القومي في شل الوضع في العراق بجميع الجوانب , إذ كان السجين يمارس بحقه  شتى أنواع التعذيب لإيقاف تفكيره والكلمة الحرّة والموقف الحر وقضيته العادلة, كما تصف الرواية واقع حال مدينة البصرة والحياة البسيطة لأبنائها داخل أسواقها وأحيائها  ودقات ساعتها العملاقة القريبة من مدينة العشار  , وسوقها الكبير  سوق الهنود والفروع والشطآن والبساتين المحيطة بالمدينة والأخواخ البائسة  القريبة من  الشط الرئيسي وحركة شحن وتفريغ البضائع , يصفها الكاتب و كأننا نعيش معهً تلك الفترة لحظة بلحظة , كما يصف حياة ضابط الشرطة العقيد المتقاعد عبد الهادي  ووصية والدهُ لهُ قبل دخول مسلك الشرطة " لا تنصر خسيساً يا عبد الهادي" مع العلم الكاتب يتسائل هل توجد أكثر خسة من رجال الشرطة التحقيقية أو رجال نظام الدولة الخسيسة  بحق أبنائها , فكان الكاتب يصف مشاعر الضابط عبد الهادي  في ص29" كنت أشعر كأنني طير أصابتهُ رصاصة صياد كلما  استلمت أمراً من مديري أو من مدير مديري ...منها لنقل عدد  من الموقوفين المراد أدانتهم والحكم عليهم بأشد العقوبات ...لأكون وحشاً معهم قبل المحاكمة وبعدها" , كانت الأحكام العرفية في البصرة وكل الإدعاءات الكاذبة التي انطلقت من وزير الداخلية (سعيد قزاز) , منها إطلاق الرصاص على صدور عمال  شركة النفط المضربين عن العمل وكذلك طلاب المدارس الثانوية  ممن أغلقت مدارسهم في الثامن من كانون عام 1953".
   فكان الكاتب جاسم المطير الذي عايش الأحداث في تلك الحقبة يصف حال ضابط الشرطة العقيد عبد الهادي  وصراعهُ مع نفسه حول الظلم الذي لحق بإنسان مظلوم من أبناء البصرة , فكان يحدثهُ صديقهُ مدرس التاريخ (ناصر جابر)  حول واقع حال عملهُ في سلك الشرطة والمتاعب النفسية من هذا العمل الشاق بحق أبناء مدينته, من ناحية المعيشة فهم فقراء الحال ومعوزين "هذا الجزء من عالم المدينة يسكنهُ  فقراء حفاة يعيشون في محيط أشبه بخندق محفور في  أعماق الأرض يحاول مقاومة الفقر والجوع دون جدوى للصعود  منها إلى سطح المدينة تخلصاً من روح الحفر , يتنفسون رائحته في كل لحظة" فالمدينة كان أغلب أبنائها فقراء مطروحين في أكواخ محلات فقيرة وبائسة منها( الخندك و الجبيلة والحكيمية) وغيرها  من أمكنة الفقراء المساكين على طول البصرة وعرضها , كان أغلب  أبنائها يخافوا من الجوع والحكومة ,كانت عبارات الحب  والسلام تختفي من بين العلاقات الناشئة  بين الفقراء, فكان الكاتب يردد في روايته ص44"يا ترى ما هي الحكمة وراء هذا الفقر  في الخندك, لماذا اختارت السماء هذا المكان بالضبط"  وفي ص46" انظر إلى المدينة وإلى سكانها بشكل خاص تركوا الأرياف البعيدة هرباً من ظلم قسا عليهم  بجلد ظهورهم بسياط الملاكين والإقطاعيين , أو من فيضان أكل زرعهم ودمرهُ" , كان أغلب  أبناء المدينة من الفقراء , وقد نزحوا من الأهوار إلى المدينة ليأكلوا  قوت يومهم ثم ليموت أطفالهم من المرض , أما أبناء المدينة من ميسوري الحال فيصف الكاتب حياتهم بين السفرات  إلى عبدان والتمتع مع نساء مبغى عبدان حيث يجدون أجمل الفتيات الإيرانيات وكيف يتم الاتفاق مع بنات الهوى حول زواج المتعة كي تكون بالحلال ففي ص51" كلهم يؤكدون انه زواج حلال مائة بالمائة...بهارا أخبرتني وأمها أكدت ذلك وقد أخبرتني إن بإمكاني الاستفسار من الشيخ رضا في جامع خرم شهر..على عمل حال ساعة واحدة فقط سيغفرها لكَ الله يا أبا عمار..." كانت أحاديث وأحاسيس شخصية  وذكريات عن البصرة وتاريخها وعن  عبدان مأخوذة ومنقولة من أحاديث وذكريات أصدقاء الكاتب  جاسم المطير , فكان يذكر مبغى الدوّب بالعشار ومنطقة الكواز بالبصرة , ولكن البصرة فيها بيوتات راقية من اغنيائها مثل ( آل باش أعيان وبيت البجاري وبيت الذكير وعائلة الملاك وآل المظفر وعائلة  البدر وآل الغنام وبيت الشيخ خزعل صاحب أكبر  وأجمل قصرين) ويذكر الكاتب في روايته الأسباب الحقيقية لخسارة الشيخ خزعل عرش العراق  بالتنافس مع طالب النقيب مما ارتأت  بريطانيا أن تختار فيصل ملكاً للعراق , مع العلم أن أغنياء البصرة قد استفادوا وسيطروا تدريجياً على تجارة العشار للاستيراد والتصدير وحصولهم على وكالات تجارية انكليزية باستيراد الشاي السيلاني والمواد العطارية  الهندية والأجهزة الكهربائية .
   يعود الكاتب في مواضيع أخرى من الرواية يصف أعمال الضابط عبد الهادي الدنيئة بحق السجناء السياسيين  لحراسة مصالح الحكومة وسياستها , مع العلم ان دور ضابط الشرطة الحقيقي هو حراسة القانون والنظام العام ومصالح الناس و وجودهم, كان ضابط التحقيق حارساً للغرف المظلمة تُعّد نظاماً متكاملاً  من الأفكار والأساليب والمعدات لمحاربة عقائد الناس ومسار حياتهم  ومصالحهم , مع العلم في أيام شبابه كان هذا الضابط يكتب الشعر والمقال  كي يختص في الأدب مستقبلاً , لكن دخوله مسلك الشرطة كانت بإرادة والدهُ  لا بإرادته , فأصبح شرطياً للحكومة بلا إرادة , فقد انحاز إلى  مملكة الظلم بدون وعي , مما كان يصارع نفسه لما يعيشهُ السجان ضابط الشرطة أثناء  أداء الخدمة وأثناء حياته المعيشية حتى ساعة أُحالته على التقاعد , فأخذت علاقته بجاره مدرس مادة التاريخ (ناصر جابر) تزداد  ويتحاور معهُ عن الواقع الذي يعيشه المجتمع البصري , مع العلم إن مدرس التاريخ كان يحمل الأفكار الماركسية مما يزداد الحوار التنويري من خلال اطلاعه على الكتب الفلسفية والتاريخية , فكان ناصر يتحلى بالطيبة وبأفكار المستقبل لتغيير واقع الحياة التي يعيشها  أبناء مدينته, إلا أن ايدي عملاء النظام وصلت  لهذا الأستاذ  حتى تم اغتياله ووجدوه مقتولاً ومرمية جثته قرب النهر , فقد ضاعت الحقيقة بعد يوم دفنه.
   فقد تعلم الضابط المتقاعد وابنه في الحوار من ناصر جابر كلمات غريبة مثل( الحرية والمساواة والحق والعدل  والقانون والإنسانية) , كانت هذه الكلمات تحمل شدة البأس  في القتال لكنها كانت تداس بأحذية عملاء السلطة و بسنابك  خيل الخيالة , تتمزق تحت زحف السيارات المسلحة والدبابات , يُعرّض حاملي هذه الأفكار للعزل والسجن والتعذيب وربما  للتهجير , فقد أشار الكاتب في ص86" لا حاكم وجدتهُ يحترم هذه  الكلمات أو يتحمل وجودها أو سماعها ...قيل أن  للناس حرية , لكن أمرها لم يستتب إلا للحكام فقط ...أستاذ التأريخ المقتول  ظل حياً في عقول الناس وهو يصرخ : انتم أيها السادة الحكام أكثر عبودية من جميع الناس الفقراء  في جميع المدن الواقعة في هذا الزمان" كما أشار الكاتب إلى الحوار الذي دار بين الضابط المتقاعد وابنه للسفر إلى بغداد فهي بنظره أكبر من مدينة البصرة ص88" في بغداد يا ولدي الدولة كلها بيد شخص اعرفه  لا يرد لي طلباً ,بهجت العطية مدير الأمن العام في الدولة العراقية كلها, قد يساعدك في بغداد لتترقى, وظيفتهُ أكبر من وزير  انه ابن مدينتنا" , لعب بهجت العطية الدور الكبير في قمع المتظاهرين والحريات  وزج الكثير من الأحرار والوطنيين في السجون والمعتقلات , كان بهجت العطية  يلعن يومياً في الشوارع والأسواق والسجون مثلما يلعنون الشيطان, كانت أجساد السجناء والمتظاهرين والمعتصمين تنوح من أسياط عملاء بهجت العطية  ورجاله, حيث يستمر صولجان  السجانين ضاغطاً على عقولهم لينتزع منها علومهم وأفكارهم , كل سجان هناك يأتمر بأوامر بهجت العطية.
  كما تشير الرواية إلى إحصاءات في غاية الأهمية حول تاريخ مدينة البصرة في فترة حكم بني العباس في ص91" كان الخليفة  يترك عاصمة الخلافة بين حين وآخر ليزور مدينتنا , يجتمع بعلمائها أكثر  من اجتماعه بحكامها ... مزيد من العمل لتطوير العلوم والفقه واللغة والطب  والرياضيات وحتى الموسيقى.. صدر منهُ ذات يوم أمراً يقول: سجلّوا  لي في سجل خاص أسماء العلماء كلهم من أبناء هذه المدينة , أريد إحصاءً كاملاً , جمع أعلام وحكام المدينة له الإحصاء وقيل لهُ بعدَ يومين :  عدد العلماء في البصرة سبعمائة ...أحد عشر ألفاً يا مولانا الخليفة عدد تلامذتهم.. سرّ سروراً عظيماً ...خصص للجميع رواتب  مجزية , بالغ في إكرامهم وفي احترامهم" ثم جمعَ مؤلفاتهم فتجاوزت  أكثر من مائتي ألف كتاب , فأمر الخليفة بنقل الكتب كلها  إلى عاصمة الخلافة بسفن كبيرة مع حراسة مشددة عبرَ نهر دجلة .......بينما أصدر أمراً من بهجت العطية لإحصاء عدد الرجال المعارضين  للحكومة وتقييد أيديهم وتصديرهم لسجون بغداد وغيرها ", من هذا تعتبر الرواية  مهمة جداً وهي عبارة عن إحصاءات ومذكرات سجين سياسي ومرحلة الشباب والعمل المهني لضابط سجان في سلك الشرطة العراقية  حتى وصوله لمرحلة الكهولة  ثم الندم على ما فعل بالموقوفين من السجناء  السياسيين والعاديين, حتى وصل بالبعض منهم لحالة الوفاة في السجن أثناء التعذيب, إضافة لتلفيق بعض التهم بحقهم رغبة لمرؤوسيهم و وصايا وزارة الداخلية لاتخاذ أقسى العقوبات, فكان ضابط الشرطة في حالة خضوع وخنوع أمام كبار رجال الشرطة وشبق السلطة ينزّ من نجوم أكتافهم , فكان الضابط عبد الهادي يحاور نفسه في ص99" في  هذه السن المتقدمة احتفظ ببقية من طباعي, بقية من تلك العهود البدائية الأولى, ارتدّ اليها في الظروف الصعبة القاسية معانداً نظرية صديقي عن خرافة العلاقات الإنسانية في هذا الزمان" , كان الوعي يحرك التاريخ على مر الأزمان الماضية والحاضرة , فكان الوعي غير مرغوب  فيه من الحكومة , قال الضابط القاتل أنور نوري المختص بجلد المعتقلين في غرفة الشعبة الخاصة  في ص101" قتلت سلطان الوعي لا  الوعي نفسه...من يجرؤ أن يقول نعم؟ قتلت غضب الوعي ,  اقتلعت عينيه , منعت كلمته, لكن الوعي نفسه ظل حياً , كلما مدّ الله في حياتي وحياة الحكومة سأظل قاسياً مع الوعي , لا بد من انتهاء قوة الوعي من عقول الناس قبل أن تكبر فتنتهي حياة  الحكومة ذات يوم".
   الرواية  تشير إلى معانات الكاتب جاسم المطير  أثناء فترة الاعتقالات والتعذيب لأنه يحمل الفكر اليساري التقدمي  فكانت كلماته تبين معانات  من عذاب التعذيب في سجون العهد  الملكي ثم فترة الانقلاب العسكري عام1963, فكان الجلاد مسلكهُ بشع وقبيح وحيواني , مع العلم إن الحيوان  نفسهُ لا يمارسه في البراري والأدغال بحق فصيلته , لكن هؤلاء جلادي  الشعب قتلوا أناساً عديدين, كان كل شيء يتقهقر إلى الوراء في زمن الفقر والقتل والكذب والخنوع , يذكر الكاتب في ص 231" صار المبدأ الرسمي  لرئيس شرطة الحرس القومي هو المساواة التامة في معاملة سكان الغرف المظلمة ...كان يتسكع في الليل  بين الغرف المظلمة , ينتقي أساليب العذاب  ليصبها في هذه الغرفة , ثم يُسلّب نعمة العقل لإنسان الغرفة  الأخرى ...كل مواطن يجب أن يكون ملحقاً بالحرس القومي وبثورته أو يقتل أو يسجن بأقل احتمال" فهم يدافعون عن حق دولتهم ولا يبالون  كم نفساً  أزهق , كم بيتاً أحرق , كم طفلاً أيتم , اختفت السعادة لمدة تسعة شهور من عام 1963 , انتشر غبار الوباء المتوحش  الذي عميّ في كل ناحية واتجاه من المدينة , كان شباط شهر وباء  في بلاد الرافدين .
    الرواية متميزة بوصف واقع مدينة البصرة لسجين كتب روايته من وراء قضبان السجن , تبين حال السجناء والسجان وإدانة دور الدولة في المعاملة مع مواطنيها من حملة الفكر النيّر ,كما يبين دور عناصر انقلاب شباط 1963 الدموي ,  الذي سادَ العراق وروح الانتقام من قبل عناصر الحرس القومي والروح الفاشية  التي سادت ارض العراق , الرواية تنقل حقائق تلك الفترة , و تمثل الحقبة الزمنية التي مرّ بها العراق وأبناء بلاد الرافدين.
 
 




277
قراءة في كتاب.... دورة القمر القصيرة ليهود العراق...البزوغ والأفول في تأريخ العراق الحديث





نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     من الأهمية  الضرورية أن ندون المواقف التاريخية لحقبة منصرمة للذاكرة  العراقية, وإعادة كتابة تاريخ العراق الحديث  وفق رؤى حداثوية جديدة وعلى أسس علمية, فما زال  لدى العراقيين الكثير من الذكريات  عن يهود العراق الذي انحسر وجودهم ودُرّست الكثير من معالمهم المادية , عندما ندون تاريخ مجموعة أثنية  أو دينية , يعني إننا ندون تاريخ العراق كله نظراً لأن طوائف العراق  وأقوامه يرتبطون بوشائج التاريخ و جغرافية الحياة المشتركة .   
 صدرَ عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر ضمن سلسلة بغداد عاصمة الثقافة العربية للكاتب مازن لطيف كتاب "دورة القمر القصيرة ليهود العراق ..البزوغ والأُفول في تاريخ العراق الحديث" المتضمن (192)  صفحة من الحجم المتوسط, احتوى الكتاب مواضيع شتى تخص الطائفة اليهودية في العراق وهي مقالات بعضها نشر للكاتب في الصحافة العراقية وبعضها مقابلات مع كتاب عراقيين عايشوا أبناء هذه الطائفة, الكتاب يُعَد مصدر مهم لتاريخ مغيب بقصد أو بدون قصد لمرحلة مهمة من تاريخ العراق الحديث , فكانت حقبة منصرمة حريّ بالكتاب والباحثين وطلبة الدراسات العليا الغوص في أعماقها  لتؤرخ وتدون التراث العراقي  وتدون الذاكرة العراقية وكان من بين هؤلاء الكاتب والباحث الغيور مازن لطيف عاهد نفسه وضميره أن يظهر الحقائق المغيبة  لعراقيين عاشوا حقبة من الزمن من خلال ذكرياتهم عن يهود العراق الذي انحسر وجودهم  ودرسّت الكثير من معالمهم, فكان باحث شجاع في الزمن الصعب والذي تحمل الكثير , فقد أصبح في الوقت السابق كل من يبحث في هذا المجال يتهم  بالعمالة أو التجسس أو الخيانة للوطن , والغرض من ذلك التعتيم والتشويه لأبناء العراق الذين ساهموا في البناء بجميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية , فدون الكاتب الكثير عن أبناء العراق من الطائفة اليهودية فهم يرتبطون بوشائج التأريخ والجغرافيا والحياة المشتركة.
  لقد عاصروا أبناء الديانة اليهودية فترة طويلة تجاوزت (2500) عام , عاشوا الحقبة الزمنية المنصرمة حتى فترة الخمسينات التي  أدت لانحسارهم , وقد طرح الكاتب مازن لطيف السؤال التالي (لماذا يهود العراق  بعد العام 2003) ولماذا الآن يتم الكتابة عن تاريخهم ومساهماتهم الفعالة في بناء الدولة العراقية ودورهم الاقتصادي الكبير ومساهمتهم في ترسيخ اقتصاد العراق وتأسيسهم المصارف والصيرفة والاستيراد والتصدير وبناء  المعامل وغيرها , ثم صدر قانون رقم (1)  لسنة 1950 لاسقاط الجنسية العراقية عن يهود العراق , لكن بعد سقوط النظام البعثي في نيسان 2003 بدأت الكتابة عن تأريخ أبناء هذه الديانة لتكون خطوة جريئة نحو انصافهم , حيث كان يصف كل من يكتب عنهم بالعمالة  للصهيونية  وولائهم لدولة اسرائيل , و من تجرأ بالكتابة عن يهود العراق فقد حاولوا تشويه صورتهم والتقليل من دورهم في بناء العراق الحديث, كما أشار الكاتب مازن لطيف في ص15  " بعد أن تخلص الشعب من أعتى  سلطة دكتاتورية كانت تحرم وتمنع أية محاولة لتناول يهود العراق , وبعد تحرير  العراق من القمع السياسي الفكري , شرح الكثير من الباحثين في تدبيج المقالات والدراسات  والرسائل الجامعية عن يهود العراق", فقد تحرر الأديب العراقي من سياسة القطيع , وتجرأ الطلبة  والأكاديميون والصحفيون بأن يكتبوا الحقيقة عن تاريخ يهود العراق فهم جزء من تراث  العراق وماضيه ,وفي  ص 16 يؤكد الكاتب" هم عراقيون أصلاء اكتوت قلوبهم بفراق العراق ومعظمهم  يحبوّن العراق والعراقيين  إلى درجة الهوّس".
  تضمن الكتاب مجموعة من المواضيع المتفرقة والتي تخص أبناء العراق من الديانة اليهودية , والكتاب خالي من الأخطاء المطبعية واللغوية وجميل في إصداره لكن تعوزه بعض صور الشخصيات  لتدعم المواضيع ,وقد تضمن أسماء أهم الصحفيين اليهود ودورهم المهم  في تأسيس واستيراد الورق والطباعة , وكانت اسم عائلة (دنكور) لها الدور في ذلك , فقد لعبت الصحافة اليهودية العراقية دوراً مهماً في حراك المجتمع العراقي والارتقاء في الجانب الثقافي والاجتماعي ليهود العراق منذُ صدور أول صحيفة (هادوبير) عام 1963 أي ستة أعوام قبل ظهور جريدة الزوراء على يد مدحت باشا  عام 1869 كما يذكر الكاتب مازن لطيف عن دور اليهود العراقيين في ترأس تحرير الصحف  لأسماء يهودية لمعت في الذاكرة العراقية , لكن من جراء الدعاية القومية ضد يهود العراق والتي كان يقودها الطابور النازي , فقد توقفت في ثلاثينات القرن الماضي لاسباب تتعلق بالتوتر في الوضع  العالمي, فقد أصدرت أكثر من (14) صحيفة ومجلة في شتى المجالات , وعمل العديد من الصحفيين العراقيين اليهود في الصحف العراقية باخلاقيتهم المهنية وبحرصهم المثالي , ويذكر الكاتب مازن لطيف منهم " منشي  زعرور, مراد العماري, نعيم قطان, سليم البصون, مير بصري" إضافة دور المطابع اليهودية والتي قدر عددها بقرابة(15) مطبعة توزعت انشطتها بين طباعة الكتب والصحف  والمجلات العلمية والأدبية وغيرها من المطبوعات , ويؤكد الكاتب  في ص24 إن " يهود العراق أول من استورد الورق الطباعي , وادخل مهنة الطباعة والنشر إلى العراق" فأسست باكورتها في بغداد عام 1884 وهي مطبعة  بيخور , كان قد أسسها الحاخام يهودا بيخور, فتاريخ هذه الديانة يمتد لأكثر من 2500 عام , نخبة العراق تمكث في وجدان هذه الطائفة بين  الفيصل والميزان  في عشق طين وادي الرافدين , فأبناء هذه الديانة والمعروف عنهم بكاؤهم معنا على كل نائبة  تصيب عراقنا الحبيب , يؤكد الكاتب في ص38" لم نجد يهودياً  تشفى بحرب أو دمار أو احتلال , ولم  نجد مثقفيهم إلا نفحات الانتماء تتدفق  بين سطور كتاباتهم" , فقد شكل ادبائهم ومثقفيهم رابطة أسموها (رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق )والتي أصدرت أكثر من (44)  كتاباً حول ماضيهم في العراق , ويترأس الرابطة الأديب البروفسور شموئيل( سامي) مورية , كما صدرت هذه الرابطة "قاموس اللهجة اليهودية  البغدادية" بـ(350) صفحة من القطع الكبير ( لغيلا سويري ) وهو مؤرخ للهجة العراقية البغدادية التي حافظوا عليها منذُ العصر العباسي الزاهر  وهي لهجة مزيج من الأرامية (النبطية) والعربية.
  تضمن الكتاب " مذكرات طفلة في عهد عبد الكريم قاسم" , الذي يعد عهدة عصراً ذهبياً  ثانياً, بالنسبة  ليهود العراق , إذ أن عهد الملك فيصل الأول هو العصر الذهبي الأول لهم, فكانت ذكريات السيدة الفاضلة التي رمز لها الكاتب (ر.خ) المولودة في العراق عام 1951 , تتذكر ساعة قيام ثورة تموز 1958 , أشار الكاتب في ص42" فقد أصبحت تعني بأنها وطائفتها أصبحوا أحراراً ولا توجد تفرقة بينهم وبين باقي أفراد الشعب ..بعد أن كانت مسلوبة منهم في العهد البائد, وهي إعادة حق التعلّم في الجامعة , واعادة جواز السفر لخارج العراق" , فدخلوا جامعة بغداد وتعلموا الطب وكافة الدراسات العليا بدون أي قيد أو شرط" , كما تروي السيدة (ر.خ) ان مدرستها فرنك عيني كانت تقيم في عهد الثورة كلّ سنة حفلة لتوزيع الجوائز على الطلاب الممتازين في دروسهم , وكانت الحفلة تقام  في بداية كل شهر حزيران" ولكن بعد رحيل الزعيم بتغيير النظام ومجيء نظام قومي جديد تدهورت أوضاع اليهود وبدأت المضايقات  وأجبر من تبقى منهم على الرحيل من العراق في أول فرصة تتاح لهم.
    كان التسامح الديني  لهُ مناخاته المنوطه بطبيعة التسامح منذ فترة العهد العثماني , أو تصعّب الولاة العثمانيين  في بغداد  وعُدّ داود باشا من أقسى الحكام  في معاملة اليهود , واشتهر بواقعة الطوفان العرمرم والطاعون المبيد الذي ضرب بغداد  وأحالها إلى ركام بشري,أما في العهد الملكي  فقد اقترن هذا الحكم بجريمة التسفير ضد اليهود العراقيين عام 1950 , ويذكر الكاتب يوم وصول الملك فيصل  إلى العراق ليكون ملكاً دستورياً  صباح يوم 18 تموز 1921 " قدم فيها الحاخامات اليهود في العراق إلى الأمير الحجازي  نسخة مذهبة من التوراة ومعها لوح ثمين كتبت عليه آيات توراتية" , والدور الكبير الذي لعبه وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل  في فترة الحكم الملكي" يعدّ أشهر وأنزه وزير عراقي في تاريخ الحكومات العراقية المتعاقبة" , فكان لليهود العراقيين الدور الكبير بعد تأسيس الدولة العراقية في العمل التجاري منذ انتخاب  أول  غرفة لتجارة بغداد عام 1926 , فكان أغلبها من يهود بغداد , كما ساهموا في وجودهم كأعضاء في البرلمان وانخراطهم في الحركة  الشيوعية ابتداء من أول تجمع لها عام 1922 , كما شارك يهود العراق في التظاهرات والثورات  الوطنية.
   الكتاب  يعد مصدراً مهم وجيد لتأريخ  يهود العراق ودورهم البارز في جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية  وهو الانجاز الثاني للكاتب في هذا المجال المنسي لأبناء هذه الديانة , كما أن الكاتب  معروف بمقالاته ومدوناته الدقيقية في نقل المعلومة , فقد أرشف الأحداث والأخبار بمنهج علمي على ضوء  الزوايا المنسية من تأريخ العراق .
   كانت هنالك نقطة سوداء في تأريخ العهد الملكي أبان أحداث الفرهود في حزيران عام 1941 , حيث شمل الفرهود محلات ودور العراقيين اليهود بعد سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني وعودة القوات البريطانية  من الأردن , مع العلم كان لأبناء هذه الديانة في العراق الدور الكبير في تسيير الصناعات العراقية والمهن الحرّة ودورهم في الأدب  والفن والشعر والغناء والصحافة والقانون, ثم واكبت الحكومة الملكية محاربة أبناء هذه الديانة بمشروعها التعسفي (تسقيط الجنسية) فقد هُجرّ أكثر من (100) ألف عراقي يهودي بعد قيام دولة اسرائيل عام 1947 وحملت هجرتهم الجماعية اسم (عملية عزرا ونحميا) , مع هذه القسوة والتهجير يذكر الباحث  والأكاديمي د. سامي موريه " إن العراق قدري الذي يلاحقني في كل مكان أحلّ به في هذا العالم الذي أصبح صغيراً ... بل ابقى على لهجتي العراقية بكل لغة اتكلم بها" أما العراقية اليهودية نيران البصون ابنة الصحفي العراقي سليم البصون فتذكر في ص 55" الحقيقة  انني لا اعتقد انه يوجد أي يهودي عراقي لا يحب العراق " فترى  اليهودي العراقي يتلهف لرؤية أي عراقي كان مسلماً أو مسيحياً , ويذكر الكاتب في ص 57 دور اليهود العراقيين في مجال الزراعة والتجارة في مدينة الديوانية , ومن العوائل المتميزة في هذا المجال عائلة خلاصجي وعائلة ساسون معلم وعائلة موسى , حيث كانت عائلة خلاصجي من أشهر العوائل اليهودية التي نزحت من ناحية الكفل عام 1890  وكان جدهم عزرة داود خلاصجي من المهتمين في مجال الزراعة وانتاج الشلب في الديوانية , وقد لقب الياهو خلاصجي بـ( ملك الديوانية) .
   أما في مجال الأدب و الصحافة فقد وضع الكاتب مازن لطيف فصل كامل عن دور الشخصيات اليهودية العراقية في مجال الصحافة فكان من أهم هذه الشخصيات القاص بار موشيه  وصالح نعيم طويق وسليم البصون ومراد العماري والأديب والصحفي مير بصري  والصحفي والأديب أنور شاؤول فكان لهُ الدور في توعية الجماهير  العراقية من خلال مجلة الحاصد التي كان يصدرها وهو في مرحلة الثانية كلية الحقوق , حيث اصدر  العدد الأول في 27-7-1930, يؤكد الكاتب مازن لطيف في ص105" من خلال اطلاعنا على المجلة وجدنا إن(مجلة الحاصد) جمعت ونشرت لأغلب أدباء وشعراء يهود العراق  وحاولت لمّ شملهم لأن أغلبهم كانوا ينشرون في صحف مختلفة ...إن الحاصد وصاحبها ما زالا خالدين في  الثقافة العراقية ومدرسة الصحافة العراقية " .
   في نهاية الكتاب كان ملحق لباحثين عراقيين يتحدثون عن يهود العراق حاورهم الكاتب , منهم من رمزَ له( زأ.ق) الذي يؤكد على أن الشعب العراقي خسرَ" خسارة فادحة باجبار اليهود على الرحيل  من وطنهم العراق , وهي مؤامرة امبريالية صهيونية رجعية غرضها تغذية اسرائيل بدم حار من أبناء العراق  من اليهود العراقيين " واللقاء الثاني كانَ مع الكاتب والسياسي عزيز الحاج حيث يؤكد الحاج في لقاءه على أن " شغلً يهود العراق  مناصب هامة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة بعد ثورة العشرين وأول من يتصدر اسمه في هذا الشأن  هو ساسون حسقيل الذي كانَ مع جعفر  العسكري حاضراً في مؤتمر القاهرة الذي قررّ قيام دولة عراقية ملكية وتتويج فيصل الأول ملكاً على العراق " , كما يؤكد الحاج " عند اسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين عام 1950 كنت في السجن حين صدور قرارات تسفير اليهود العراقيين ...إن المثقفين العراقيين الموضوعيين المنصفين تألموا للغاية واعتبروا القرارات خطة أو مؤامرة بين الحكومة وبريطانيا  وبين المنظمات  الصهيونية لاجبار يهود العراق على السفر لاسرائيل ".
  من هذا يعتبر الكتاب مبادرة من الكاتب على القيام بمشاريع مستقبلية للخوض  في تدوين  مواقف تاريخية واحياء  سير وحوادث سوف يكون بالاعتماد على جمع شتات الكلمات  في الصحف والمجلات والروايات الشفوية التي تؤرخ الأحداث  كي يكون مصدر تاريخي مهم  في تدوين الذاكرة العراقية المغيّبة , ويعد مشروعاً لا بدَ منهُ لاعادة كتابة تاريخ العراق  الحديث وفق رؤية حداثوية جديدة , ومن خلال هذا المقال والقراءة أشد على يد الكاتب الجريء ماز ن لطيف  لجرأته  على تقديم السفر الثاني بحق هذه الديانة وأبنائهم التي ظلمت وأغبن حقها وحرمّت  من حقوقها  كمواطنين ففرطت بهم الحكومات العراقية وارسلتهم هدية ثمية لدولة إسرائيل.
   
 

278
إلى الشَهيد سَلام عادِل .. يا  رَفيقي .....أخَذوك إلى اللَيل وهُم يرتَجِفون كأنكَ أنتَ تعاقبهم *



نبيل عبد الأمير الربيعي
 

"لحظة أن سَـمَلوا عينيك العاشقتين
أضاء النفق المظلم بالعشق الأحمر
واحتـُضِر الموت
قال رفاقك لِمَ تتَوَجع
إلا رجفةُ صًبر
وتوجعَ مما غارَ السفودَ بعينيك
الكونُ وَصاحَ الصمت
أدرتَ عماك المبصرَ للشَعب
أعطيتَ بيانَ الصَمت
وتقويمك فاجتمع الوَقت " (1)
 
  ولد الشهيد حسين أحمد الرضي "سلام عادل" في مدينة النجف عام 1922 , درس في بغداد حتى تخرج من دار المعلمين الابتدائية في بغداد عام 1943 وفيها بدأت علاقته بالحزب ، وعُين معلماً في مدينة الديوانية عام 1944 ومن هناك أنضم لصفوف الحزب ......عند زيارتي لمدينتي الديوانية  قبلَ أسابيع , كان لقائي برفيقي أبو سامر (جبار عليوي) سكرتير محلية الديوانية للحزب ,عَرضَ علينا أحد الأصدقاء سجلات مدرسة الديوانية الثانية , كانَ من ضمن الأسماء اسم الرفيق (سلام عادل) معلم في هذه المدرسة مما شوقني  للإطلاع على جميع المعلومات التي تخص سجل المعلمين والصفحة الخاصة بالشهيد ,ورسم الرفيق الشهيد , مما حفزني لكتابة هذا المقال بحق الرفيق سلام عادل .                                                                                      رشح الشهيد سلام عادل إلى الحزب الشيوعي العراقي في منتصف الأربعينيات وكان شخصية هادئة محبوبة متواضعة جماهيرية ,ويتميز أيضا بالنشاط والحيوية وسرعة البديهية ,لذلك خلال فترة قصيرة أصبح عضواً في الحزب وكان اسمه الحزبي (مختار) و بعد أن أصبح عضواً في لجنة مدينة الديوانية للحزب و لنشاطه المميز كُشف كشيوعي من قبل أجهزة الأمن وتم فصله من العمل عام 1946 , ثم اشتغل مفتش باصات وفصل مرة أخرى من العمل لقيامه بتنظيم إضراب لجباة ومفتشي الباصات ، وعمل بعدها معلماً في مدرسة خاصة و من ثم معلماً في مدرسة الهاشمية الابتدائية وفي نهاية عام 1948 تم فصله من العمل مجدداً ، وأحترف العمل الحزبي براتب قدره ستة دنانير ، اعتقل في عام 1949 بعد مشاركته بإحدى المظاهرات وحُكم عليه بثلاث سنوات سجن فعلي في سجن "نقرة السلمان" تلتها سنتان إقامة جبرية  خرج من السجن في بداية عام 1953, وفي اليوم الأول لوصوله للرمادي لتنفيذ حكم الإقامة الجبرية عليه لمدة سنتين هرب واختفى وقرر الحزب إرساله إلى البصرة ليصبح مسؤولاً حزبياً للمنطقة الجنوبية ،وقد تزوج في هذه الفترة من رفيقة الدري (ثمينة ناجي يوسف) ,وفي عام 1954 حضر الرفيق الشهيد سلام عادل مؤتمر الأحزاب الشيوعية لدول الكومنولث في لندن ,وفي عام 1955 أصبح الشهيد سلام عادل سكرتيرا للحزب الشيوعي العراقي ومنذ ذلك التاريخ أصبح اسمه الحزبي (عمار) ,وعمل جاهدا على تعزيز وتوطيد وحدة الحزب ومعالجة الكتل والتيارات الانشقاقية عند نشؤها وبالطرق التنظيمية الأصولية , وفي عام 1958 كان للحزب وللشهيد سلام عادل دورا متميزا في نجاح ومساندة ثورة 14 تموز المجيدة ,حيث صدر بيان الحزب في اليوم الأول للثورة باسم الحزب الشيوعي العراقي يؤكد على صيانة الجمهورية وتوطيدها ، والبيان كان إعادة إشهار بأن منظمة البصرة قد عادت للنشاط, في عام 1961حضر الرفيق الشهيد سلام عادل المؤتمر 22 للحزب الشيوعي السوفييتي ..وألقى كلمة هامة حول الأوضاع في العراق والمخاطر التي تهدد الجمهورية والاستقلال الوطني بعد أن تعرضت لضربـة مؤلمة ،لكن في هذه الفترة  لفت انتباه الشهيد سلام عادل ما  ذكره عبد الكريم قاسم حول الأحزاب واصفا إياها بانها "رجس من عمل الشيطان"  في خطابه في عشية الأول من  آيار إن هذه النظرة الغريبة لدور الأحزاب والحياة  الحزبية في صيانة الثورة وتطويرها, نقل الانطباعات عن عبد الكريم قاسم من خلال اللقاءات معه والذي كان عامر عبد الله والرفاق متواجدين, وبإصرار من سلام عادل وافق (م.س) على أن يتم اللقاء القادم بمشاركة عامر عبد الله وعبد القادر إسماعيل وتم اللقاء.
ومن خلال المناقشات التي استعرض فيها الوضع السياسي والمخاطر التي تواجه الجمهورية والأساليب المتجددة التي يلجأ إليها الاستعمار وعملائه و بالأخص تفرقَة صفوف القوى الوطنية ودق آسفين بينها وبين السلطة الوطنية لإضعافهم جميعا وتمرير مؤامراته. إن ذلك يتطلب بالضرورة إحياء جبهة الاتحاد الوطني وإطلاق الحريات الديمقراطية للعمل السياسي, ضحك عبد الكريم قاسم ورد على سلام عادل بسؤال هو، لماذا يحتاج حزب المليون؟؟؟؟؟؟؟
يقصد مظاهرة الأول من ايار التي قدر عدد المساهمين فيها بمليون متظاهر) إلى الجبهة! وأردف بسؤال آخر هو (ثم مَنّ مِنّ الأحزاب يمكن أن ينضم إليها! هل تقصد الحزب الوطني الديمقراطي !(2), لكن بعد إن غدر حلفاء الأمس مساعدة بعض دول الجوار والرجعية للإطاحة بالجمهورية وبمنجزاتها صبيحة الثامن من شباط عام 1963 , أوعز الحزب إلى جميع رفاقه  بمساندة الثورة بكل الأساليب ومنها الدفاع حتى بحمل السلاح وقد أصدر الشهيد سلام عادل البيان طبعـه بنفسه وتعلم الطباعة فيه,  يقول بطاطو في الكتاب الثالث ص292: سرعان ما خط الرضي "سلام عادل" بياناً تم لصقه على الجدران عندما لم تكن الساعة تتجاوز العاشرة إلا بالقليل، كما تم توزيعه باليد وتلاه خطباء الحزب, وكانت لهجة البيان قاسية وشديدة الانفعال وجاء فيه : " إلى السلاح ! اسحقوا المؤامرة الرجعية الامبريالية , أيها المواطنون يا جماهير شعبنا العظيم المناضل , أيها العمال والفلاحون المثقفون وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين! " قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين في محاولة يائسة  للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الامبريالية والرجعية , وبعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في (أبو غريب) وانكبوا على إنجاز غرضهم  الخسيس , فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع .
" يا جماهير شعبنا المناضل الفخور! إلى الشوارع! طهروا بلدنا من الخونة
" إلى السلاح دفاعا عن استقلال شعبنا ومكتسباته
" شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية وكل مؤسسة وكل حي وكل قرية
" سيلحق الشعب، بقيادة قواه الديمقراطية، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة، كما فعل بمؤامرة الكيلاني والمتآمرين الآخرين.
" إننا نطالب الحكومة بالسلاح!
إلى الأمام إلى الشوارع! اسحقوا المؤامرة والمتآمرين. و بعدها  تم أعتقال الرفيق سلام عادل في 19 شباط 1963م أي بعد انقلاب 8 شباط 1963م ,و بواسطة احد المتخاذلين من الحزب (مهدي هاشم) , تم إلقاء القبض على الشهيد سلام عادل بأحد أوكار الحزب , وقد تعرض لأقسى  التعذيب, وبأساليب  شديد تقشعر له الأبدان على يد الحرس القومي حيث شوّه جسده ولم يعد من السهل التعرف عليه ، فقد فقئت عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين وكُسرت عظامه وقطعت بآلة جارحة عضلات ساقيه وأصابع يديه وقُتل معه بعد الانقلاب آلاف الرفاق الشيوعيين والديمقراطيين والعديد من قادة الحزب منهم " محمد حسين أبو العيس" و "حسن عوينة" و "جمال الحيدري" و "جورج تللو" .
يصف  الراحل ناجي يوسف سلام عادل"كان الرضي هادئا و اقرب إلى الخجل منه إلى التباهي....لم أره إلا في مناسبات نادرة، و لم اكتشف انه كان سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي العراقي إلا بعد ثورة تموز، و لكنه كان باستطاعتي أن أقول انه من الرجال الذين يقدمون أنفسهم بكل رحابة صدر للقضية التي يؤمنون بها"
روى بعثيون سابقون إن سكرتير الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل قد تعرض لأنواع غير مسبوقة من التعذيب على أيدي جلاديه بعد اعتقاله في شباط 1963.
وبينوا لـ( الناس): إن الذين اشرفوا على تعذيب القيادي الشيوعي أطفئوا أعقاب السجائر في وجهه واستخدموا المنشار لبتر بعض أجزاء جسمه فرد عليهم قائلا: الأفضل لكم ولي أن تقتلوني  لأنكم لن تنتزعوا مني شيئا.

فاحم الشعر والشاربين
في منتهى البساطة...
بقميصه العمالي المتواضع،
ومن خلال صفحات الجريدة
المفعمة برائحة الأصباغ
يتطلع إلى البعيد
بثقة وشجاعة(3)
 
شخصيات تتذكر الشهيد سلام عادل:
تلميذه المسرحي الكبير سامي عبد الحميد عن ذكرياته عن سلام عادل حيث كان يدرسه مادة الرسم وكيف انه إمام شخص مقنع ويمتلك الحجة وقادر على إقناع الآخرين بما يملكه من أفكار ومبادئ ويذكر في هذا الصدد انه لجا إلى بيت الفنان سامي عبد الحميد قبل الثورة بعد ضغوط أمنية من قبل أجهزة نوري السعيد في منتصف الليل وعندما فتح الباب وجد إمامه حسين احمد الرضي (سلام عادل)وهو يعتمر الغترة والعقال فبدت علامات الخوف على سامي عبد الحميد فهدئه قائلا لا تخف ستضيفني للصباح وسأغادر البيت بعدها وفعلا تم ذلك .(4)ويذكر الرفيق حسان عاكف بحق الشهيد سلام عادل" شكلت الطريقة التي عالج بها سلام عادل ورفاقه معضلات الحزب السياسية والتنظيمية والفكرية والعلاقاتية منذ صعوده  إلى اللجنة المركزية , وخصوصا بعد أن تسلم دفة القيادة في الحزب في حزيران 1954 ,شكلت مآثر نضالية حقيقية ساعدت بشكل جلي على تخليص الحزب من عزلته ومن العديد من المواقف والسياسات المتسمة بالمغامرة اليسارية والجمود الفكري , وأسهمت في الانتقال بالحزب صوب ضفاف الواقعية السياسي و المواقف الموضوعية الملامسة لملامح الواقع الوطني العراقي "(5).
ومن كتابات الرفيق الشهيد سلام عادل:
 رد على مفاهيم برجوازية قومية تصوفية1-
2-سياستنا وطريقنا لحل المسالة القومية الكردية في العراق حلا عادلا
 3-البرجوازية الوطنية في العراق
 4-وجهة نضالنا في الريف
 انتفاضة 1956 ومهامنا في الظرف الراهن5-
 الإصلاح الزراعي6-
إذن هكذا كان الشهيد سلام عادل قائدا سياسيا جماهيريا ومنظما حزبيا وكاتبا متميزا ومهتما بالخط والرسم والشعر والرياضة والمسرح
وبعد الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963 وسقوط الحكومة الوطنية واغتيال قادتها ,شن فاشست الحرس القومي حملات دموية ضد الشيوعيين والديمقراطيين أدت إلى اعتقال الشهيد سلام عادل يوم 19 شباط ,وتعرض الشهيد بعدها إلى أبشع أنواع التعذيب على أيدي الزمر الفاشية حيث فقئت عيناه وقرضوا لحمه بالشفرات وهشموا عظامه بعمود من حديد واقتطعوا يداه . . .وبالكاد تم التعرف على شكله
وأعلن استشهاده يوم 7 آذار 1963 وظن هؤلاء الطغاة إن باستشهاد قائد الحزب ورفاقه الإبطال قد انتهى الحزب الشيوعي العراقي
 
المصادر
ــــــــــــــــــــــــ
 
*من قصيدة للشاعر مظفر النواب –رثاء لسلام عادل
1-      الشاعر الكبير مظفر النواب –قصيدة مرثية للشهيد سلام عادل
2-      موقع الناس – مأثرة سلام عادل في توجيه دفة الحزب بعيدا عن الانعزال والتطرف اليساري
3-      للشاعر السوفييتي ص. مارشاك
4-5  المدى – العدد

 
 
 
 
 

279
الثقافة السياسية ومنظمات المجتمع المدني

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    إن ثقافة المشاركة  هي المجال الوحيد للثقافة السياسية التي تعطي الفرصة  الحقيقية لتأسيس منظمات المجتمع المدني , لتأخذ دورها الحقيقي في العملية السياسية  , وفي ظل بنية ثقافية تقوم على المساواة  وحرية العمل السياسي للقوى والتنظيمات السياسية المختلفة , وبمساعدة الإطار الثقافي للعملية السياسية  لمنظمات المجتمع  المدني أن ترسخ قيّم ومبادئ الممارسة الديمقراطية.
   لذلك يعتبر الدور البارز لمنظمات المجتمع المدني هو نقل العملية السياسية إلى مستوى العمل  المؤسسي عبر محور التنافس بين القوى  السياسية باعتبارها  العمود الفقري لعملية  صنع واتخاذ القرارات السياسية , فلا وجود للديمقراطية إلا بوجود منظمات المجتمع المدني  و ايلاءها الدور الفعلي في التعبير عن مصالح  القوى المتنافسة , لكن بشرط  على أن  لا تتدخل القوى الرئيسية وتمس حرية عمل هذه المؤسسات , وتحقيق استقلالية هذه المنظمات كشرط أساسي لضمان  الممارسة الديمقراطية الحقيقية , وإبعاد الدولة لاتخاذ هذه المنظمات  كأداة للسيطرة على المواطنين أو الدعوة لإنشاء تنظيمات مدنية على الصورة التي تناسبها لتكون بديلاً عن التنظيمات المدنية المغيبة لتمنحها السلطة والقوة والنفوذ والثروة , وتضييق الخناق على المعارضة والأحزاب  والقوى الشعبية الفاعلة, لهذا مما لم تأخذ منظمات المجتمع المدني دورها الحقيقي في  تنمية المشاركة السياسية للمواطنين , من غير الممكن خلق نظم سياسية ديمقراطية  تنافسية فيها.
   من غير المتصور تأسيس أنظمة ديمقراطية بغياب منظمات المجتمع المدني ودورها الفاعل , ولا يمكن لأركان العملية الديمقراطية أن تتكامل من دونها , فهي عملية وعلاقة طردية  بين الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني , ولا ديمقراطية حقيقية  بغير مجتمع مدني  فاعل  ونشيط , فكلما قويت  منظمات المجتمع المدني وازدادت  فاعليتها ونشاطها  ضعفت  قدرة الحكومة  على التعسف إزاء حقوق المواطنين وحرياتهم , ولذلك حرصت أغلب الحكومات على إبعاد منظمات المجتمع المدني عن  دورهم الحقيقي في ممارسة الديمقراطية  والتطاول عليها , ولهذا تكون الدعوة لاستقلال هذه المنظمات لهدف ضمان حرية الرأي والعمل والحركة لها لصيانة الديمقراطية من محاولات التشويه والتخريب الناجم  عن تدخل وتعسف الحكومة.
   من هذا ولضمان التحولات الديمقراطية وللتعددية الحزبية يجب أن تنظم عملية انتقال السلطة وتقرر الآلية التي بمقتضاها هذا الانتقال بين القوى السياسية العاملة في مساحة العمل السياسي , وإن مبدأ تداول السلطة يعمل على تقنين الصراع السياسي بالاستناد إلى قاعدة الانتخاب و الاحتكام إلى أصوات الناخبين من خلال صناديق الاقتراع بإرادة الشعب  وتوجهاته واختياراته في تقرير من يتولى الحكم من بين القوى السياسية .
   من أولويات الممارسة الديمقراطية استبعاد أسلوب التعاقب الثوري على السلطة من قبل القوى السياسية الفاعلة على ساحة العمل السياسي  واللجوء إلى التعاقب الديمقراطي عليها عن طريق القواعد الدستورية الضامنة لإمكانية التداول السلمي لها بين هذه القوى , فلم يحدث أن انتقلت السلطة من حاكم إلى آخر  ومن نُخبة إلى أخرى  انتقالاً سلمياً نتيجة انتخابات تعددية  حرة  في أغلب  الحكومات المتعاقبة , ولذلك ينبغي أن لا تبقى  السلطة حكراً على النخب الحاكمة وإنما أن تكون مفتوحة أمام الجميع وفي متناول كل القوى السياسية الفاعلة.
   فالثقافة الديمقراطية من شأنها  إعادة  وإدماج الجماعات والفئات من جديد في إطار  العملية الديمقراطية عن طريق منظمات المجتمع المدني  وخلق الإجماع  الوطني بعيداً عن العصبيات القبلية والمذهبية الطائفية والصراعات العصبية العشائرية التي من شأنها فتح أبواب النزاعات الأهلية وتهديد كيان الدولة , ولذلك لا يمكن لأي دولة أن ترتقي إلى مستوى  الدولة الوطنية إلا بالديمقراطية كقيم وممارسة.
 
   
















280
الهوية العراقية والسياسة ومَن أُحِب

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
  هنالك أشياء ما ترهبنا في وطن تعرض للحروب والخراب والحصار  لسنوات مريرة, وأجد من هذه الأشياء المخيفة هو صوت المفخخات والقنابل , يقشعر بدني وتتسارع دقات قلبي , أخاف منها على نفسي وأحبتي , فهو رمز انتظار الموت المؤجل والإعدام المؤقت , أصبحت أكره هويتي , قد تكون اللعنة التي أصابت بلاد الرافدين , فهي لعنة قاتلة ومميتة , أصبحت الهوية العراقية هي الطائفة  المقيتة والانتماءات العمياء للمذهب  , فهي تؤلبّ على قتل الإنسان لأخيه الإنسان كي يلغى وجوده لأنهُ من غير دينه أو طائفته, متى يمتلك العراقي  قلباً فارغاً مجرداً  من خيبات الأمل والندم والغضب والخوف والحقد والحزن  والشك بالآخرين .
  متى نعود لطفولتنا البريئة لنستعيد الحنين إلى الأماكن التي عشنا فيها , لم يكن  البغض الطائفي إلا حرب مدمرة وفخ لقل كل جميل  في الحياة , نحنُ الناجين من الحروب والحصار والقتل على الهوية , محاربين قدماء أقوياء , وشهيتنا مفتوحة للحياة والحب والعشق والانجازات والسعادة والمعرفة ,إذا كانت الحروب شأن الرجال لذلك قد  يكون فقدان  الأحبة شأن النساء , المرأة العراقية تمثل السلام  والتصالح والوئام مع ذاتها , كم من النساء فقدنّ الحبيب والأخ والأب والابن .
   كل أملي أن أهدئ من روعي , كلما وقعت عيناي على مشاهد المفخخات العنيفة أو الاغتيالات المروّعة , متى أتخلص من سماع سمفونية القتال الكريهة , كم اعتدنا الخوف والموت الذي رافقنا أكثر من  ثلاثة عقود , فقد استنزفت الحرب أجمل سنوات الشباب  والمراهقة , دمرت بيوتاً وأسراً كاملة , حيث  أصبحت مصنعاً لإنتاج الأرامل والثكالى واليتامى , فكان وقت الحرب ثقيلاً بطيئاً , فهو مستنقع وحل تتقاذفهُ مشاعر انعدام الثقة  وجروح نتنة  دفعناها من أعمارنا وأحلامنا , لذلك أصبحت لا أشعر  بانتمائي لهويتي , لكن أرغب وأعشق مدينة طفولتي ( الديوانية )  .
  الحرب الطائفية ذات الوجه القبيح والشرير القاسي , من  موت وخوف وقلق , أصبحت بيوتنا ملاجئ نركض  إليها عند وقوع  القتل , مع هذا فمدننا التي تجمعنا  وتحمينا , نجتمع مع من نحب ونصادق عبر وسائل الاتصال  الحديثة , الشراكة والحب هي هويتنا الآن , لكن هويتي أشعر ببرودة الانتماء إليها وأتمنى الانفصال عنها, فقد كانت سبب نقصان في أحلامي وحياتي, لكن أرضي الحقيقية كانت أماكن عشقها , وأجد  فيها نفسي , لكن انتمائي الحقيقي لمن أحب وأعشق , هذا تصوري الشخصي وانتمائي .
   في مدن أصبحت فيها نسائنا ضائعة  الهوية , مسجونة في  دوامة عمليات الالتحاف بالسواد  حتى الوجه لا أرى إلا ثقوباً في عمود , متى تحاول  نسائنا استرداد بعض جمالهنّ وألقهن وفتنتهنّ وانوثتهنّ, أما نبضات القلب  في بلاد النهرين أصبحت زائفة وكاذبة  , و الهوية لا أشعر بعاطفة لها , لكن لقلبي نوع من العطف  والعشق لإحدى نساء مدينتي , أعشقها حتى الجنون , أصبحت منقذي من وحشتي وضياعي , كانت سبب لسعادتي وأملي  في حياتي القادمة , لا أعرف قد يكون حُلم من  أحلامي , متى يتحقق  لا أدري , أشعر بعاطفة قوية اتجاه تلك المرأة  الرائعة ذات الوجه الطفولي الليلي , يعجبني وضوحها وبرائتها وتوهجها في العتمة وضحكتها واستسلامها وشهوتها ونزوتها , فهي مفرطة  في التزيين والعطر , لا ترتدي المساحيق لجمالها  , ولا تضع شعراً مستعاراً ,تلك هي  فرح اسم على مسمى , امرأة من الدرجة الأولى ,فهي في الليل تصبح امرأة عاشقة  شبقة , وتصير أكثر صدقاً وشفافية واقتراباً من جوهرها ومعناها .
   حبها لي دفعني  استيعابها واستكشافها  والكتابة عنها , لكن لعل أكثر ما أقلقني هو السؤال كيف أكتب عن امرأة سالتحق بها  وهي تشبه تلك النساء التي أولدتها قصص ألف ليلة وليلة, لكنها امرأة عصرية  مثالية  قوية .
  لذلك علينا أن  نتوجه  لحبيبتنا ونتخلص من الفوضى وأهل السياسة وخصامهم على السلطة والسلطات  على كافة أنواعها ومختلف مساربها , هذه السلطات لا زالت الآمرة الناهية  في شؤون الناس , كي أضمن حياتي  مع امرأة  مختلفة وناضجة ,  لأتخلص من واقعي المرير وأبتعد  عن هويتي اللعينة , لا يمكن أن أسمح لنفسي بانتقاد  العالم العربي من دون أن انتقد بأشد قساوة  هويتي وإلقاء اللوم على الحرب الطائفية والوضع  السياسي وملامتهم  ومسؤوليتهم لواقع البلاد  التعس.
   يحدثني البعض عن الانتماء للهوية ؟ جوابي :لا أنا لا أودّ الانتماء إلى هذا البلد الذي يكرهني ويرفضني , أي من البلاد رفضت أبنائها مثل العراق؟  لذلك أسعى كي لا أقطن فيه بقية عمري , يجب أن أكون قاسياً مع أمري   كي أغدو طيباً  لكل من حولي ,كل ذلك جُبلَ فينا إرادة يمكن أن تحرك جبالاً.













281
المنبر الحر / وصار العمر محطات !!!
« في: 16:20 23/11/2012  »
وصار العمر محطات !!!


الشاعر مهدي محمد علي1
نضال عبد الكريم*
صدفة كان لقاءنا في موسكو. كنت أبحث عن صديق أو صديقة يشاركونني سهرتي التي نويت أن أسهرها وتوجهت إلى الأكاديمية الزراعية فلم أجد أحداً غير مهدي(1) الضيف عند صديقنا جوشن، فسألته: هل لك بالسهر؟ أجاب: وأنا أبوه .. قلت فلنذهب إذن ! وبدأت السهرة ورحلة التعارف.
حدثني عن رحلته من بادية السماوة على ظهر الجمال هو وصديقه الشاعر كريم كاصد وكيف عانى في الكويت واحتجز هناك، ومن ثم رحلة انتقاله إلى اليمن وحياته فيها وعمله في جريدة الثوري وإرساله إلى كوبا كصحفي يمني لحضور مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي. وكان كلما يسألني: هل نرقص؟ أقول له: أريد أن أسمعك فحديثك فيه أشياء ممتعة لم اسمع مثلها من قبل .
كان يكف ويستمر في الحديث فحكى لي  بأنه يحاول إكمال الدراسة في موسكو وأنه يعيش حياة تشرد ولا احد يتبناه. كنت أصغي إليه باهتمام وبين قصة وأخرى هناك سيل من النكات والتعليقات الساخرة.ودعته بعدها ومضى ... وبعد  أيام  عرفت بأنه سيغادر إلى سوريا وان هناك جمعة صغيرة لتوديعه عند احد الأصدقاء فذهبت لتوديعه وكتبت له عنواني في موسكو وسافر كما يسافر كل الأصدقاء !المدهش إني استلمت بعد أسبوع رسالة يشكرني فيها على تلك السهرة ويقول أنه يراسل كل الذين يعرفهم في البلد الذي يغادره ومن يريد التواصل معه فليستمر . واستمرت المراسلة و أحسست من خلالها بأني أمام إنسان جميل الروح والوقع على القلب وبدأت صداقتنا تتحول إلى شوق وشيء يشبه الحب.. وبما أني لم أكن أعرف أين سيكون مصيري بعد التخرج  ولم يكن الأمر بيدي فلم أتسرع ولم أفصح بشيء . بعدها كتب قصيدة وأرسلها لي ؛               
ذلك الأبيض الداكن       
اّه يا نفسي
كيف أكرهتني؛ مرة أخرى
على دخول النعيم الرهيب
جحيم الحب المحبوب
كيف مضيت بي ثانية ؟!
أنا الذي ضرب على قفا كفيه
بعصا الحب
أنا القابع في ظل الوردة التي ضيعها الناس
أنا الضائع كالظلً في الظلام العتيق ؟!
آه يا نفسي
كم تدعين وتكابرين
وأنت لا تملك آثارٍ على قفا الكفين
من سعادة غابرة ؟!
آه يا نفسي
كيف  تُقبلين على غدٍ ابيض
شديد الغموض ؟!
أنت يا نفسي
أيتها القابعة في ظل الوردة
الضائعة في الظلام العتيق
المغامرة في الرحيل نحو الجحيم المحبوب
أنتِ
أنتِ
أنتِ
__________________ دمشق 1984
وهكذا اتخذت قراري بالسفر إلى دمشق ودمشق فقط لأن عشق الرسائل أصبح ناضجاً وجاهزاً للقطاف!!!! سألني في رسالة أخرى كم وزنك يا نضال؟ قلت 45 كغم أجابني سوف أزنك في المطار فإذا كان وزنك اقل من خمسين فسوف ارجع البضاعة !!! ضحكت وقتها ولم اخذ كلامه مأخذ الجد. وجاء يوم السفر ووصلت إلى دمشق وكان يوما شتائياً مشمساً وجدت فيه مهدي مع باقة ورد كبيرة في انتظاري في المطار.سلمت عليه وعلى صديقه الفنان قاسم الساعدي وقلت لهما لقد رأيتكم ورأيت شمس دمشق وأنا سعيدة ولكني سأرجع لموسكو لان وزني اقل من خمسين.. باي !!! فشدني إليه وقال عمي قابل حتى لو اقل من خمسين... وانطلقنا الى بيت قاسم وفيه استقبلني آل بيته بكل الرحب والسعة. قلت له قاسم أبي ونبال أمي فإذا كان لديك طلب فاطلبه منهما! فلم يكذب خبراً :خطبني منهما واستأجرنا بيتاً مفروشاً تزوجنا فيه بحفل بسيط ضم اقرب أصدقاءه وبدون ثوب عرس أو بهرجة.
كان يعمل بمجلة الهدف الفلسطينية وكان أكثر من نصف الراتب يذهب للإيجار والباقي لا يكفي لسد الرمق... وبدأت محطة البحث عن عمل لي وكانت الإجابة دائماً هي عندنا فائض من المهندسين والقطاع العام يعتذر لأن مصانعه صغيرة ولا تحتاج إلى مهندس. كنا نحتال على الوجبات احتيالاً وكان يحزن علي باعتباري بنت عز فأقول له هون عليك فعندنا اليوم القليل من الرز سأطبخ تمن طماطة... و في اليوم التالي أجد كمشة من العدس فأطبخها ونأكل ونضحك ونقضي أوقاتا حلوة بين المكتبة الظاهرية وسينما الكندي والنادي السينمائي وفي البحث عن عمل مناسب لي دون جدوى. حملت بطفلي الأول وسارت الأمور بشكل عادي حياتياً ولكننا نزداد حباً وتمسكاً ببعض. كان صديقنا المترجم صالح علماني يقول دائماً "أراكما مثل عصفورين حنونين !!" ولكن حدث ما عكر صفو حياتنا إذ فقدت الطفل في شهري السابع من الحمل بسبب سوء التغذية وعدم الالتزام بالذهاب إلى الطبيب في المستشفى. حاولت التخفيف عنه فقلت لقاسم: "عندما تأتي غداً اجلب معك بلنكو وضعه في كيس المغذي و لن ينتبه عليك أحد" قالا لي "ملعونة تنكتين وأنت في حال يرثى لها". قلت لهما: "أنا هكذا دائماً صلبة أمام الصعاب". بعدها انتبهت إلى إني امتلك ستة أساور ذهب بيدي لبستها عند نجاحي في السادس الابتدائي وبقيت في يدي حتى تلك اللحظة. قلت له نحن نملك ثروة اذهب وبعها فذهب على مضض واتضح أن الصائغ الذي اشتراها هو نفس الصائغ العراقي الذي اشتراها منه أبي وعرفني بعدما سأل عن اسم أبي . كم صغيرة هي الدنيا. ورجعنا إلى حياتنا بين السينمات والمسارح والأمسيات الأدبية حتى ضاق بنا الحال أكثر فحزمنا أمتعتنا واستدنا مبلغاً من الحزب وغادرنا إلى ليبيا وهناك بدأت محطة اشد قسوة .فقد وصلنا بنغازي بعقد عمل لمهدي وعين فورا كمدرس في معهد إعداد المعلمات ولكن لم يكن لديهم سكن حينها وقالوا :" دبروا رؤوسكم يا جماعة".
 تشردنا بين بيوت الناس والفنادق. وفي كل مرة يقول لي: "سأرجع لسوريا" فأقول له: "لا عودة إلى الوراء، اصبر". وفعلاً.. بعد فترة حز في نفس عراقي جميل حالنا فأفرغ غرفة بناته و أسكننا فيها فبقينا عندهم ستة أشهر ثم حصلنا على مستودع في بناء و مساحته كبيرة ، قسمناه بقواطع وعملنا منه بيتا جميلا ولكنه بيت لا تدخله شمس ولا ضوء. و عندها فكرت بالإنجاب من جديد ولكن مهدي رفض وقال لي: "انسي الموضوع وهذا موقفي. ليس لأني لا أحب الأطفال بل لأني أخاف من عدم قدرتي على تلبية حاجاتهم!!!" قلت له: "وضعنا الآن لا بأس به وهناك عناية جيدة بمريضات السكر الحوامل". ووافق أخيراً... و تمنيت أن تكون بنتاً هذه المرة وكان لي ما تمنيت. كنت ارقد في المستشفى كلما اضطرب السكر ويأتي هو لزيارتي يومياً فأطلب منه أن يحكي لي حلقة اليوم من مسلسل سوري للأطفال كنت أتابعه... فيجلس ويقصها علي حتى جاء موعد الولادة. وخاف علي كثيراً من العملية القيصرية ولكني كنت أقول له إنها عملية بسيطة وكل النساء يعملنها ولكنه كان لا ينام الليل من قلقه علي  حتى جاءت ابنتنا بدون خسائر أو أضرار ولدت سليمة معافاة وجلسنا نتناقش بالاسم الذي سنختاره لها. طرح هو عدة أسماء وقلت أنا: "أطياف"... فصفن وقال لي: "فليكن أطياف كما تحبين" و أنشد وقتها يقول
سميتها أطياف بنتي الوحيدة       علّي أرى في النوم عيشة سعيدة
وقال "وحيدة" لأنه كان متأكداً من أني لن أفكر بطفل ثان. والجميع قالوا: "طبعاً! تسمي كذا أسماء لأنك شاعر!" فيضحك ويقول: "إنه اختيار نضولتي!!"
عشنا في ليبيا ثلاث سنوات ونصف. بدأ مهدي يتضايق من القذافي وحكمه و التخلف الذي يلف البلاد... وبدأت هجرات العراقيين إلى الغرب فقلت له: "فلنسافر مثلنا مثل الآخرين إلى أوروبا" فقال: "لا. لا أريد الابتعاد... سأموت كشاعر إذا عشت هناك و إن كنت تودين السفر فسافري أنت و أطياف!" وضعني في اختبار عسير فقلت له: "لن أتركك مهما حدث". فقال: "نعود إلى سورية". قلت له : "أنسيت ما ذقناه من عذاب وجوع فيها؟" قال: "الآن الوضع مختلف فنحن نملك المال الذي يوفر لنا عيشة كريمة". وكان له ما يريد. عدنا إلى سورية مع أطيافنا و أطياف .
هذه واحدة من قصائده التي أحب أن يسمعني إياها كل فترة. كان يستحسن فيّ أنني عندما يقرأ الشعر أشعل له سيجارة كلما انطفأت سيجارته أو أسقيه رشفة مما يشرب فيحب هذا فيّ كثيراً...
حالة حب
يحدث أحياناً
أن أنظر إليك نظرة محددة
جانبية أو من فوق
فأحس بأنني موعود بك منذُ زمن بعيد
وتحسين بنظرتي فتبتسمين !
يحدث أحياناً
ونحن معاً نجلس في الباص
أو نسير متلازمين
يحدث أن اشتاق إليك
أو تشتاقين إلي
فنلتفت إلى بعضنا
ونبتسم دون حاجة إلى توضيح!
يحدث أحياناً
أن تمتد يدانا في لحظة واحدة
إلى الشيء نفسه
وللغرض نفسه!
يحدث كثيراً
أن ننظر لبعضنا نظرة محددة
جانبية أو من فوق
يحدث كثيراً
أن نشتاق إلى بعضنا ونحن متلازمان
يحدث أحياناً
يحدث كثيراً
يحدث دائماً                                                                       دمشق 1985
 
في دمشق نصب علينا صديق سوري و أخذ كل ما جنيناه من ليبيا واختفى. تألم مهدي كثيراً... ليس على المال الذي يروح ويأتي بل على من كنا نسميه صديقاً. كانت قرصة مؤلمة لنا انتقلنا بعدها إلى حلب وسكنا في بيت صديقنا الذي آوانا في ليبيا وكان هو في لندن. عشنا في بيته 14 عاماً دون أن يطالبنا بإيجار أو مقابل. كانت سنيناً هنية وكان بيتنا ملتقى لكل من يحب السهر والموسيقى والشعر. سهرة الخميس كانت قائمة دون اتفاق. كان يتمشى لساعة كل صباح في حدائق حلب وكنت أفيق كل صباح وعند راسي كأس مملوءة بالياسمين أو أي من ورود الموسم وبقيت أصحي على ياسميناته لحين وفاته .
بعد ذلك انتقلنا إلى الأشرفية الى بيت صديقنا عدنان عاكف وبدأت أحوالي الصحية تسوء و أصبت بإعاقة لازمت فيها الفراش لـثلاث  سنين فكان لي العون والحبيب والمساعد وظل يحمل إلي الزهور كل صباح ويقوم بواجبات البيت وتلبية طلباتي واستقبال المعالج الفيزيائي الذي كان يحاول أن يجعلني أقف فقط ولكن رجلاي لم تعودا تحملانني. كنت أصرخ صراخاً فظيعاً والمعالج يقول: "ليس هناك طريقة غير هذه وستمشين يا نضال وواثق من ذلك." كنت اطلب منه استراحة وأقول: ؟سيظن الجيران عندما يسمعون صراخي بان زوجي يضربني وإلا فلماذا هذا الصراخ كل يوم؟" كان يضحك ويقول: "لا عليك سوف أجعلك تمشين". ومهدي يعتصر قلبه ألماً عندما أتأوه و أبكي أحياناً وعندما قاربتُ الشفاء مرض مهدي بالكبد و عرفنا انه لن يعيش أكثر من سنتين... وكانت الفاجعة التي كسرت ظهري. فقد كانت صحته في تراجع سريع ودخل المستشفى وكانت أطياف قد انقسمت شطرين بيني وبينه ولكنه تحسن قليلاً وعادت به أطياف إلى البيت ومعه باقة ورد كبيرة وقال كل سنة وأنت سالمة اليوم عيد زواجنا. لم ينس هذا اليوم رغم مرضه... يا للرجل العظيم.
استمريت في علاجي إلى أن استطعت أن أخطو بضع خطوات باتجاه باب الغرفة وسط تهليل مهدي وصلواته على محمد و آل محمد. كنا نجلس كل في فراشه أمام التلفزيون وكان يطرب لسماع زهور حسين وداخل حسن وعزيز علي ويوسف عمر وحبيبه اليمني أبو بكر سالم... كانت عيونه تدمع ألماً ولوعة لفراق بصرته أو ربما لأنه يعرف بأنه سيموت ويدفن في حلب. كان يذوب أمام أعيننا رغم إرادته الجبارة والالتزام بالدواء والطعام دون ملح أو لحوم وأنا أين كنت؟ جالسة في فراشي لا استطيع أن أقدم له كاس ماء أو حبة دواء.... إلى أن جاء يوم فقد فيه الذاكرة والتواصل... أصبحت أحكي معه فلا يفهم ما أقول. شعرت بخطورة وضعه و اتصلت بأصدقاء شباب لنا وجاءت أطياف وعندما وضعوه على الكرسي لنقله الى المستشفى نظر الي نظرة ذات معنى وقال: "أنا ذاهب لأموت !!!! سأموت ..." ونقل إلى مستشفى خاص وعملوا له الإجراءات الاسعافية وأنا اجلس في البيت لا حول ولا قوة لي سوى الاتصال كل عشر دقائق. قالوا لي انه نقل إلى مستشفى حكومي ثم إلى العناية المشددة... وقتها عرفت أن لا أمل يرجى وفارق الحياة في الساعة السابعة صباحاً من 30_11_2011.
كان سريره في الغرفة مليئاً بالمعاجم والكتب والجرائد وقصاصات كان يكتبها بصعوبة إضافة الى القران الكريم الذي لم يكن يستغني عنه. قلت لأطياف: "أنت بطلة يا ماما.. فلندع الحزن جانباً ونخرجه في جنازة لائقة." وفعلا اتصلت بمكتب الحزب وبكل أصدقاءه وكلهم حضروا بسرعة وقلت لهم: "أريد ان أدفنه في قرية شيعية قريبة من حلب، فيكفي انه سيدفن خارج الوطن" وكان الوضع وقتها خطراً ولكنهم جازفوا ودفنوه في "نبّل" وأنا في البيت انتظر عودة المشيعين .
قال لي احد أصدقاءه: " لقد دفناه في نبّل كما طلب" قلت له: "ماذا؟" قال: "لقد أوصاني بأن يدفن في نبّل إذا مات". قلت :"الحمد لله". لقد نفذت وصيته دون أن أدري بها وهذا أيضاً من توارد الخواطر بيننا.
زرت القبر مرة واحدة قبل مغادرتي حلب وكان الريف معبئاً بالدبابات والرصاص... كانت مجازفة إذ أن اشتباكاً كان من الممكن أن يقع في أية لحظة. كان القبر على طرف مزرعة والعصافير تزقزق... قلت في نفسي: "لا بد أنك مسرور الآن فنم قرير العين يا حبيبي".
ودعته ومضيت.  قريباً ستمر ذكراك السنوية الأولى فهل من يقول لي كيف أصل إلى نبّل و أبكيك و أضع وردة على قبرك ؟؟؟ هل يوجد أقسى من ذلك في هذه الحياة الفانية؟
ستظل في القلب أبا أطياف فنحن لن ننساك.
وداعاً ايها الحبيب الرائع والحنون والطيب والإنسان!!!
وداعاً.
دمشق 11-11-2012 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*زوجة الشاعر مهدي محمد علي
(1) الشاعر مهدي محمد علي




زوجة الشاعر -نضال عبد الكريم


مهدي محمد علي في شبابه



282
ودعاً يا أبن الجنوب ...الشاعر مهدي محمد علي


 
نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   أهديك باقة وردة حمراء لذكرى رحيلك يا ابن الجنوب ...  لتكون ذكرى عطرَه ... لي إيمان بحق إنك تعيش فينا وبيننا...يا ابن البصرة الفيحاء ,التي كانت يوماً ما مسرحاً للأدب والموسيقى والمنتديات الثقافية التي لمعت من خلالها أسماء  في  جميع مجالات الأدب والشعر والفن والسياسة ,تلك المدينة التي ذابَ الشاعر  في أحيائها مُذّ  وعاها حتى غادرها قسراً إلى المنافي نهاية السبعينات بعد فرط عقد التحالف , كانت النوارس تطوف على شاطئها أسراباً أسرابا , وبساتين ممتدة تحوي أشجار النخيل والحمضيات وأشجار البمبّر , هي جنّة الشاعر  , عشقها لتأريخها وتراثها , فقد تألقت من هذه المدينة قامات باسقة في الأدب والشعر والفن بأنواعه , مثل نخيل مدينتهم , مهدي محمد علي ذلك البصري الذي عَبرَ من سُدّم تواريخها إلى تخوم المستقبل .
    في أبو الخصيب ولد الشاعر مهدي محمد علي عام 1945 وتخرج من مدارسها وكانت آخرها  إعدادية الكفاح , حيث درس مع زملاءه ( حيدر الكعبي وسعود عبد العزيز السياب وأياد مروان عبد المجيد وسحاب عبد العزيز وآخرين ) ثم أكمل دراسته في كلية الآداب  جامعة بغداد  وتخرج منها عام 1968 , مارس التدريس في مدارس الحلة والبصرة , وقد نشر أول قصائده عام 1961 ,لكن استخدام سلطة النظام القمع ضد قوى اليسار والقوى التقدمية عام 1978 مما أدى إلى هروبه من العراق  عبر بادية السماوة في رحلة كانت بواسطة  النقل ( الجمال) زهاء أربعة عشر يوماً , مع صديقه الشاعر عبد الكريم كاصد حتى وصولهم دولة الكويت متخفياً في صحراء البادية , وفي  هذه الدولة احتجز الشاعر حتى تم انتقاله إلى اليمن الديمقراطية وقتذاك بجواز سفر  منتحل , حيث عمل في جريدة الثوري  اليمنية وشارك كصحفي يماني  في مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي المنعقد في العاصمة هافانا.
   ثم رحل إلى مدن شتى  متنقل في المنافي إلى أن  استقر في مدينة حلب السورية منذُ بداية  الثمانينات , وقد وثق رحلته بقصيدة :
في أول هذا العام
غادرت الوطن بزيّ بدويّ
وعبرت صحاراه على ظهر بعير
في قافلة من رحل ورياح
ونياق وأدلاّء
ورجال تبحث عن رزق ما بعد الصحراء
سبعة أيام بلياليها
لم نعرف غير ذلول ليل
وسماء ورمال
وصحارى تصفر فيها الريح
في آخر هذا العام حلمت:
إني أرحل نحو الوطن المغلوب
بقطار تحت الأرض
يمرّ بأحياء تحت الأرض ومحطات
تكتظ بأعداء وعيون جواسيس
         .................
لكني...
قابلت أخي في زاوية الشارع
عجلاً , أتلفت
ودعت أخي و أفقتُ
تذكرتُ
 بأني لم أرَ أمي في الحلم
 
   حاول الشاعر إكمال دراستهُ في موسكو لكنهُ غادرها نحو سوريا , عمل بمجلة الهدف الفلسطينية وتزوج من رفيقة دربه (المهندسة نضال عبد الكريم) بعد أن التحقت به برحلة من موسكو إلى دمشق وأنجبا بنت اسمها أطياف, تحت ظروف معيشية صعبة  رحل إلى ليبيا لغرض العمل وكانت هذه المحطة أكثر قساوة , حيث عمل الراحل في مدينة بنغازي كمدرس في معهد إعداد المعلمات , ثم عاد إلى سوريا واستقر في مدينة حلب.
  أصدر الفقيد العديد من المجاميع الشعرية والمقالات والدراسات , وكانت أولى مجاميعهُ الشعرية ( رحيل ) عام 1978 و (سر التفاحة)  عام 1987 و ( شمعة في قاع النهر) عام 1995 و ( خطى العين)عام 1995    و(قطر الشذى )عام    2008  , ولهُ كتاب نثري خصصهُ لمدينتهُ الأولى بعنوان ( البصرة .. جنة البستان ) , وقد عملَ الفقيد مسؤولاً عن القسم الثقافي في مجلة الثقافة الجديدة لأكثر من عشرين عام. في لقاء مع رفيق دربه الشاعر عبد الكريم كاصد يقول " إنهُ كان مدرساً في الحلة والبصرة وكان همهُ الشعر فقط , كانت آخر خاطرة كتبها ليلة وفاته ستنشرها زوجته نضال عبد الكريم في الثلاثين من هذا الشهر بمناسبة مرور عام على رحيله.
  لقد شارك الفقيد بعد التغيير عام 2003 في المربد الثاني , وقد ذكر الشاعر هاشم شفيق في (كتاب في جريدة) حيث حاورهُ , يقول الفقيد " إنني شجرة في حديقة عامة أنتظر أن يلتفت أليّ أحد العابرين فينبه عابراً آخر فآخر .. حتى يقبل الناس نحوي" , وتذكر  وداد فاخر في مقال بعنوان (مهدي محمد علي  يا طائر الورشان البصري) وداعاً , حيث تذكر الفقيد بهذا المقال "عرفتك أيها الورشان البصري  الجميل رائعاً في كل مواقفك وأفكارك .. ويوم التقينا في خليتنا الحزبية منتصف سبعينات القرن الماضي , كانت البسمة لا تفارق شفاهك والنكتة العفوية ملازمة لكِ في  حلّك وترحالك ... عندما تفرقنا أيدي سبأ كما يقال هرباً من سيف الجلاد الذي لا يرحم , وغاب كل عن الآخر لنعيش عوالم جديدة بعيداً عن هَسيس سعفات النخيل على شطئان نهر الخورة والعشار .. ولأن جموع الورشان الجميلة تختفي بين سعفات غابات النخيل في البصرة عند أول لفحة برد تجتاحها , لكني لا أعرفها طيوراً مهاجرة , فكيف استعجلت الرحيل أيها الورشان الجميل " .
    الفقيد كان لم يهادن طوال حياته المؤسسات السلطوية التي عملت وما زالت على تدمير منجزات الثقافة العراقية المتنوعة والمتعددة عبر توجهاتها المعادية والقاسية لكل جميل ومبدع , فقد اصطف مع السلطة بسبب الترغيب والترهيب بعض المثقفين والأدباء , فماذا على الجماهير أن تفعل وهي تجد نفسها  مخيرة بين مثقف وآخر  محسوبين عليها , هؤلاء المثقفين كانوا يحملون على الأكتاف ليصلوا لمواقع السراب وليحققوا غاياتهم ومصالحهم , لكن البعض بقوا بعيدين عن عيون  السلطة , أما صامتين أو متوزعين في المنافي.
   للفقيد مهدي محمد علي يردد دائماً مقاطع من شعر  لنازك الملائكة منذ أكثر من أربعين عاماً لقصيدة بعنوان (بئر) :
أتذكر صندوقاً كبيرا
كنت اكنز فيه مئات الصحف
وقصاصات الأوراق
وأشياء أخرى
أتدلى فيه كما أتدلى في بئر
بحثا عن صحيفة قديمة
أو قصاصة ورق
أو تلبية لعبة طفل
بحثا عن أجزاء لعبة محطمة
لقد ابتعد الصندوق
ابتعدت غرفتي
وابتعد الوطن
 
  كانت الأبيات تذكره لعاشقة الليل ورائدة الحزن الذي استمر حزنها وليلها الطويل , فراحت تتفنن بالحزن والليل , فكان حزنها الخاص يستولد أشكالاً شعرية مختلفة .
  كانت قصائد الراحل في المنفى تتصف بوقائع الحياة اليومية في ذلك المنفى , ثم تتناول قصيدة فيها عبودية المرأة بعنوان ( بستان) :
 
مذُ غادرني البستان
صرت أحاوله في بيتي
في سطح إذ يوجد
أو في الغرفة
أو فوق الطاولة:
اللفت على قارورة ماء
والثوم
وشمندرة
الباقلاء
وجذع الملفوف
والحمص
والجزر فكان الكل كما بستان
في طبق مكسور !
 
   رحل الشاعر بعد معانات من اصابته بمرض الكبد حيث أقام في مستشفيات دمشق زهاء أكثر من عقدين ونصف , وكانت فاجعة الرحيل صعبة على عائلته وأصدقاءه , فقد تراجعت صحته ودخل المشفى , كانَ يذوب أمام أعين الأصدقاء حتى جاء  يوم فقد فيه الذاكرة والتواصل , وفارق الحياة صباح يوم 30-11-2011 , لكن الراحل قد أوصى بأن يدفن في ( نبّل) إذا مات , وقد نفذت وصيته من قبل الأصدقاء ... تقول زوجته أم أطياف "سيظل مهدي في القلب , فنحنُ لن ننساه ... وداعاً أيها الحبيب الرائح والحنون والطيب والانسان " .
 










283
أشتهيــــــــــــــــــــك

صبرا نجار

اشتهيك مطرا يغسل احزانى
ينقينى من سواد همومى وايامى
اشتهيك عطرا يفوح فى ارجائى
يضيف بسمة امل لحياتى
اشتهيك شمسا تذيب ثلوج حنينى
...تدفئ قلبى ومشاعرى
اشتهيك قمرا يضئ سمائى
يضئ سواد ليالى حرمانى
اشتهيك ضحكة طفلا يلعب امامى
ليتك تقرأ كلامى وتشعر بحنانى
كى تعلم كم احبك واخفيك سرا فى قلبى
فأنا مازلت أسيرة لحبك ولن ابالى

sabra_na@hotmail.com


284
قراءة في كتاب أوثان القديسين ...جدل المعرفة والحضارة والوجود  للكاتب سعدون محسن ضمد



  نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    الإله والمفهوم الإلهي من صناعة الوعي ,باعتبارهُ صورة يصنعها الإنسان للموضوع  الخارجي الذي يحاول إدراكه , كما يحدث بالنسبة لبعض المفاهيم المتعلقة بكائنات يسمع بها الإنسان ولا يراها, فهنا سيضطر الإنسان لأن يشكل المفهوم معتمداً على خياله وعلى الأساطير المتعلقة  بنفس الموضوع .
  كان هذا مقدمة لكتاب (أوثان القديسين.. جدل المعرفة والحضارة والوجود) للكاتب سعدون محسن ضمد الصادر عن دار ميزوبيتاميا ,وقد احتوى على (165) صفحة من الحجم المتوسط , وقد أشار الكاتب ضمد إلى تورط الوعي البشري  وهو يخوض  غمار تجارب إدراكية  تفوق قدرات  المنظومة  المسؤولة عنه,ولنأخذ مثال  على ذلك (السِعّلات) , فهذا الكائن الخرافي كثيراً ما يكون مركباً  جملة من الأوصاف , وسبب كونه مركب من أوصاف هذه الكائنات , إن الإنسان  عندما يريد أن يشكل صورة إدراكه عن (السِعّلات) فإنه سيضطرّ لجمع بعض الصفات الحيوانية المخيفة من ذاكرته , على هذا الأساس سيكون مفهوم  (السِعّلات ) مفهوماً مصنوعاً في وعي الإنسان ولا علاقة له بواقع هذا الحيوان إن كانَ لهُ واقع.
   وهنالك نوع من الفلسفة التي أبدع بها الإنسان واضطر لها  ومنها ما يؤكده الكاتب ضمد في ص 17" الأيام السبعة التي هي تقسيم  لما يعرفه الزمن محضّ اقتراح الإنسان وحده فرض هذا الموضوع وقبلَ به , فرضه على الآلهة , التي هي صنيعة أخرى لوعيه " , أين كان الرب قبل خلق الوجود ؟ وإذا كانَ الرب  هو خالق الزمان  فمتى تمَ لهُ خلق هذا الزمان.. ولهذه الأسئلة الشرعية تحتاج لإجابات قد عرضها الإنسان بسبب موضوع الإدراك خارج نطاق الزمان والمكان
 ,ولهذا فإنَ غياب وعي الإنسان  الذي يسير وفق الزمان والمكان , لا يستطيع أن يوصل الإنسان بلا زمان ومكان , ولذلك جَزّأ  الزمان إلى مجموعة من مقاطع , ونجد إن الزمن الإنساني لا ينطبق على البيئة  الموجودة في الكواكب الأخرى ,كما يؤكد الكاتب في ص20 إن" حدود  وعي الإنسان ومن ثم وعي حضارته .. لا يستطيع  إلا أن يكون تقطيعياً , الأشياء يجب أن تكون مقطعة إلى أجزاء .. الزمان مجموعة  مقاطع تبدأ باللحظة ولا تنتهي بالسنة, المكان أيضاً مجموعة مقاطع تبدأ ولا تنتهي " , ولذلك  اهتم الإنسان بنفسه لمعالجة المعلومات بعضها بالبعض الآخر للأرشفة  وأهمية تقطيع الزمان والمكان , وهذا ناتج عن تراكم الخبرة من خلال تجاربه اليومية والموروث الاجتماعي من قبل الجماعة .
   ثم يعرّج الكاتب  على إدراك  الوعي ومضمونه , الوعي المركب بشكل يملّي سلفاً  مفهوم الحدود في عملية التقطيع , وإن حدود الكون تلقت بمفردتي البداية  والنهاية الموجودات في منظومة الوعي الإنساني  , لذلك قد عجز الإنسان عن  إدراك وتخيل اللانهاية المخيفة  , من هذا يعلق الكاتب ضمد في ص25" فكل محاولاتنا التي تنصب في إطار البحث  عن تخليص الإله  من محدوديته (الزمان والمكان) هي بتعبير واضح وصريح عن سلطة هذه المحدودية  وكيف إنها تشكل  الممكنات الصادرة لحدود وعينا" لذلك نلاحظ محاولة الإنسان  بالإقناع إن الله قد خلق الكون في سبعة أيام  قد فشل في الوصول لقناعاته بسبب مفهوم البداية والنهاية اللامحدودة , لكن الآية الكريمة  من سورة آل عمران  تؤكد "إن  ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام  ثم استوى على العرش  يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً" ولذلك يدخل طرف آخر إضافة للزمان والمكان هو  الحدث , ويعبّر  عنه الكاتب في ص28 " هو عبارة عن ضفيرة إدراك مكونة من جمع بعدي  المكان والزمان اللذين يشكلان حاضنة للحدث أو الواقعة , فبداية  الحدث ونهايته ومكنته ونوعه , أركان أساسية ليست في الحدث فحسب , بل في فهمه واستيعابه وإدراكه " وهذا ما يؤكد على المعنى الحقيقي  للتأريخ الذي هو وعي الإنسان الفرد والجماعة باعتباره يسجل وقائع الحدث في الماضي , وهو عبارة عن ما سجلته  الذاكرة الإنسانية ولذلك اهتم الإنسان بالتاريخ عبر الحدث التاريخي من خلال مفردة الوعي , أي إذاً نحاول فهم حدث ما علينا أن تقطع الحدث التاريخي إلى عدة مقاطع لمقاطع الفلم التاريخي والذي يرتبط كل حدث بزمان ومكان خاصين , يضاف إليهما الفعل وهذا يمثل الأرشيف المعلوماتي لمنظومة  الوعي  الإنساني , أي الحدث له بداية وله نهاية مما يدل  على إنها تمثل مجموعة مقاطع التي حفزت على ذلك الحدث وقد مثلها  الكاتب  في ص29 بـ" ضفيرة وعي مكونة فقط من مكان" ولكن تفاصيل أي  حدث بأن الزمان يتجزأ ليرافق كل جزء من الحدث أو عدة  أحداث وهذا يخص الحدث الملموس , لكن هناك أحداث ووقائع لا تستطيع منظومة حواس الإنسان أن تتحسسها أو  يتعامل معها إدراك  بصورة مباشرة , لكن نلاحظ إشراك  الخيال في عملية الإدراك .
  ثم يطرح الكاتب موضوع الخيال وما يقع من أحداث لأسباب مجهولة تدفع بالإنسان اتجاه ص31 " الخيال باعتباره آلية في الإدراك تستطيع أن تتعامل مع الغائب أو  الماوراء طبيعي" وهذا ما يدركه الإنسان من خلال حدث الزلزال التي تحصل  لأسباب مجهولة , ولكن من خلال حواس الإنسان لم يستطع  أن يتحسس أسباب هذا الحدث إلا بدافع الخيال الذي  يعتبر الصورة الذهنية الغير ماثلة أمام الحواس , لكن  الصورة الخيالية قد تكون صوراً محدودة جزئية أو كلية واسعة المدى و  ويؤكد الكاتب في ص33 "لو لم يملك الإنسان القدرة على التخيل لما أدرك كل المفاهيم المتعلقة بالغائب أو وراء الحدث , لأن الخيال هو الباب الوحيد الذي يمكن له أن ينفتح على تلك المديات الإدراكية" لذلك يفسر الإنسان القديم كل الأحداث الكبيرة والعنفية التي  تحدث في الأرض هي غضب الآلهة  وعدم رضاها, وهذا يعود لخيال  الإنسان حول الحدث , لكن الحدث مهما كان الإنسان واسعاً لا يستطيع  أن يطور معارفه  إلا بتجاربه وحصيلته المعرفية , من هنا  يستطيع الإنسان من خلال الخيال أن ينتج الأسطورة والخرافة ويطرح  الكاتب سؤال كالآتي: لماذا يلجأ الإنسان إلى الخيال ؟ ) .. الجواب على هذا السؤال بشروط ثلاث هي :
1-      وجود موضوع للإدراك تستطيع الحواس أن تتحسسه.
2-      تكامل الحواس وقابلتها على أداء مهامها.
3-      وجود خلفية معلوماتية أو قاعدة بيانات تناسب الموضوع  المدرك وتعتبر بيئة مناسبة له .
  ثم يعقب الكاتب على حالة إذا تخلف احد الشروط الثلاث فإن منظومة الإدراك تفزع  على الخيال لينسج لها موضوعا للإدراك  تسد به هذا الفراغ الحاصل , مما يضطر الإنسان لخلق الموضوع  من خلال تخيله , ولذلك جاء دور الخيال ليصور ويبدع في الأسطورة  المليئة بالوهم والخرافة , أما الغياب الجزئي للشروط أعلاه  ما يجعل الإنسان يتخيل الأجرام المضيئة أو الآلهة أو الكائنات  البشرية التي ارتقت مصاف الآلهة  , إضافة إلى الإدراك أثناء الليل والذي يجعله مُدْرَك غير تام مثل شبح يظهر  للمتلقي  يكون مخيفاً.
   لذلك يؤكد الكاتب  إن غياب الشرط الأول بسبب عدم حضوره المباشر عند الحواس وخاصة التواصل عبر الانترنيت فلا حاسة العين تكون فعالة ولا الأذن و لا اللمس , فيعمل الخيال على تشكيل هذه المعدلات  ليرحم بها الصورة الذهنية الناقصة , لكن الاتصال عبر الانترنيت يُنجي المرسل من الكثير من الضغط الأخلاقي  وهذا ما يعانيه الفرد الشرقي  من الكثير من الحدود والضوابط الأخلاقية تحت ستار من الخجل والانضباط  كما أن الإنسان لا يستطيع أن يتخيل موجوداً ما , لا يسمع ولا يرى , لكن السمع مرتبط بالأذن البشرية كذلك الرؤية مرتبطة بجهاز  الإبصار البشري.
  يؤكد الكاتب لموضوع دائرة الوعي المغلقة  وحالة رسالة الكائنات الفضائية من قبل الوكالة الفضائية (ناسا) باعتقادها وجود كائنات بشرية في الفضاء الخارجي وقد تضمنت الرسالة  قرص من الذهب الخالص يحتوي على تسع وخمسين لغة من لغات البشر وبعض الانجازات  الموسيقية التي أبدعها الجنس البشري , إلا أن الكاتب كان يعلق على هذا  الموضوع بان الرسالة كانت  تنقصها قابلية التواصل مع كائنات أخرى ,غير أن الكائن البشري بمعنى علماء الفلك ص53 " يتخيلون دائماً  بأن  الكائن الحي بعينين وأذنين وأنف وحنجرة ؟ وصاحب حضارة شبيهه بالحضارة البشرية  , وهذا الوهم يجد تأكيده  في السعي الدائم للعلماء المهتمين بالحياة خارج الأرض لاكتشاف كواكب تحتوي على بيئة شبيهه بالبيئة الموجودة على كوكبنا " وهذا خير دليل على عجز الإنسان عن الخروج  عن ضائقة منظومتنا الإدراكية , واحتمال توسط الخيال مكنّ الإنسان من توقع وجود كائنات  في الكواكب الأخرى , كما إن البشر لا يستطيع أن يفكر خارج إطار اللغة التي  تطورت لاحقاً وأصبحت عبارة عن منظومة هائلة من المفاهيم والمفردات التي يستخدمها الإنسان  في إدراك الواقع ونقل خبرته الإدراكية  ومن هذا نخرج بصيغة  إن الخبرة التاريخية للإنسان أثّرًت على طبيعة إدراكه للأشياء ويؤكد الكاتب ضمد في ص60 "فإنَ الحصيلة المهمة من وراء  رحلتنا مع الخيال  الجامع, أنها كشفت لنا مقدار ضيق وقسوة الدائرة التي تقيّد قدرتنا  على الوعي والإدراك , فنحنُ  لا ندرك إلا الأشياء التي يمكن لنا  أن ندركها".
  أما حول الحاجات وعلاقتها بالأخلاق وضبطها ,ومن خلالها قد حكمت تاريخ الأخلاق البشرية أشار الكاتب في ص63 منها"تحريم الزواج من لأقارب أو من نسميهم بالمحارم " وهكذا وجدت المجمعات البشرية نفسها أمام خيار  أحادي, هو تحريم زواج البناة من الأخوة والآباء , وقد اتفقت على هذه الحرمّة جميع الثقافات  تقريباً , كما هو وارد في صفات البدو واللصوصية المفرطة والتعامل مع السرقة بتساهل مفرط أو اعتبروها معياراً للرجولة والشجاعة  ومن باب آخر يكرمون الضيف بشكل مفرّط , وهذا يدل على إن الوعي الإنساني  لهذه الفئة داخل إطارها الضيق الذي نشأ عن الأسباب الطبيعية  والبايولوجية ووعيهم وفق الزمان والمكان وآلية الخيال.
  لذلك يتطرق الكاتب ضمد إلى حكم الوعي والحكم ففي ص 72 يذكر"إن حضارة الإنسان مرتبطة بالطبيعة المحيطة به , وإن هذه الحضارة أثرّت بالهيئة التي  تكون عليها  هذه الطبيعة " مع العلم إن الحضارة هي نَبْتت لوعي الإنسان الذي يحدد بالحواس وتجربة الجسد الإنساني, الذي عبرّ عنهُ الكاتب بـ " جراب الحضارة للمجتمع الإنساني " ولذلك بدون الإنسان من غير الممكن لوجود الحضارة ولا معنى لوجودها فهي تُمثل الفن والقانون والأخلاق والعرّف والعادات والقدرات التي يكتسبها الإنسان  من واقعهُ داخل المجتمع , ولذلك للوعي دور مهم في خلق الحضارة الإنسانية  كسلطة هائلة على وجود المحيط بها وهي حضارة مملوكة من قبل الإنسان, لكن الكاتب ضمد يطرح سؤالاً مهم وهو ما معنى  قولنا إن الأشياء موجودة  ؟ أو ما معنى قولنا بأن الأشياء معدومة ؟ ويفسّر الكاتب ذلك بأن العدم اللاوجود , كما أن الوجود  هو اللاعدم وطرح أسئلة فلسفية كونها خُلق إنساني بحت , من هذا يدرك الإنسان الألوان  بسبب طبيعة التحسس للألوان الموجودة في  عينية  ومنظومته الإدراكية , أي بمعنى اللون الأحمر غي موجود بانقراض  الحضارة  الإنسانية  فإن هذا اللون سينتهي وجوده وتفسيره وفي ص 78 يؤكد بأن" يدخل الضوء لشبكية العين فيحدث تأثيرات تنقَل بواسطة الأعصاب وعلى شكل نبضات  كهربائية للمخ , فينتقل  الجزء المخصص للرؤية في المخ بهذه النبضات  وهذا الانفعال يولد انطباعاً يسميه الإنسان أحمر " ومن هذا يؤكد على أن مفهوم الوجود عبارة عن خبرة إنسانية , وهنالك تساءل  هل يمكن أن نقول بأن المكان والعدم بالنسبة للجنين والنملة والبكتريا واحد ؟ كذلك الزمان ؟  مما نستدل إن الوجود مفهوم إنساني ولا يجب أن يُنسَب لغير الإنسان , والوجود موجود في الساحة التي يمتد بها الإدراك  فقط لأنهُ أنتجهُ الإدراك الإنساني , في هذا ما يُحيلّنا إلى الحواس واختلافها في الكائنات الحية  وحرارة الجسد والتاريخ التطوري بين  الكائنات الحيّة مما جعلَ كل منظومة إدراك تعتمد حواساً مختلفة وهذا ما ينعكس على بقية الحواس من البصر والشمّ الذي يؤثر على مفاهيم متعلقة بالجمال الجسدي, هي الأخرى أشياء تؤثر بعملية الوعي والبعض منها لا تتأثر بها مع العلم إن الهدف الرئيسي هو معرفة منظومة الإدراك البشرية  والسكة التي تسير عليها واسعة أم محدودة.
  لقد طرح الكاتب ضمد من خلال هذه المواضيع عدة أسئلة فلسفية تتعلق بالوعي البدائي , منها ما هو مؤثر بين الخيال والأسطورة من جهة والدافع  والمعرفة من جهة أخرى , والمعايير التي من خلالها يمكن تمييز المرحلة ,كما عرّجَ الكاتب على نظريتي المسخ والتطور وتطور الوعي الإنساني والمقارنة بين الإنسان كإنسان والقرد الذي لم يتمكن  لاختلاف رؤيتنا الحقيقية  للشبه سبباً تقنياً , أي الإدراك ومنظومته العلمية  والتعارف على الأشياء , ثم يطرح مفاهيم الحياة والموت وتأثيرها على التحكم بمصير الإنسان  والدراسة الكيفية لها , ولم يتوقف هذا الكائن في عملية صناعة الحياة  ما بعدَ الموت مما يخلق مفاهيمهُ عن الواقع  .
  ولو سألنا أنفسنا هل للموت مشكلة؟ أوليس الموت واقعة ضرورية كلية لابد لكل فرد أن يعانيها يوماً ما؟ أو لسنا نعرف جميعاً هذه الواقعة، لأننا نشاهدها لدى الآخرين؟

لكي يكون في مقدور الباحث الجاد أن يتحدث عن "مشكلة الموت"، وأن يتبين على أي نحو يمكن أن تكون للموت مشكلة حقيقية، عليه أن يبدأ بتحديد معنى "مشكلة" من ناحية، وأن ينظر نظرة ـ إجمالية من غير شك ـ إلى معنى "الموت" من ناحية أخرى. حتى إذا ما استطاع أن يتبينه، تيسر له أن يحدد عناصر هذه المشكلة ومداها، سواء من الناحية الوجودية العامة ومن الناحية الحضارية.
 
أوثان الوعي الفكري:
   هنالك الكثير من الأسئلة التي تتعلق بالوعي  الفكري للكائن الإنساني وتوضع الوعي بأنهُ حضارة الإنسان وجسَد له ُ الوجود  المحيط به , والعالم الماوراء  ومنظومة هذا العالم ومفاهيمها بين ثلاث هم ( الله , الدين , الإنسان) مفردات مسؤولة  عن خيط العلامة بين الإنسان من جهة والإله أو الرب من جهة أخرى , وخلال رحلة المفهوم للتاريخ , فقد عرف الإنسان ( الإله) منذ العصور القديمة والطقوس الدينية فترة العصور الحجرية  , وممارسة الشعائر تجربة المقدس , مما خلق بين مفهومين العلة والمعلول  , والعلة هو الإله  الذي لا تدركهُ الحواس لأنهُ مغاير بطبيعته لمظاهر العالم , من هذا نلاحظ الإنسان في الألفية الثالثة يستعمل نفس مفهوم الألوهية  المطلقة التي تتجاوز جميع الحدود الزمانية والمكانية والإدراكية,وقد شكل مفهوم الآلهة التمييز بين الجمادات التي كانت يعبدها والحيوانات كذلك , في أوقات متقدمة من مراحل تطور ثقافة الجنس البشري , فقد واجهة هذا الكائن الصواعق والبراكين والزلازل وهي القوى الطبيعية , فكان يبحث عن كيفية  أن يتقيّ هذه الظواهر ومواصل لمفهوم الإله الذي هو تجريد للقوى المتحكمة بهذه النشاطات الطبيعية , ثم الخوف من الموت وهل هنالك حياة ما بعدَ الموت ومقارنة الجسد , فيمر عبرَ رؤى تشبع لديه الحاجة لنفي فكرة العدم المؤلمة مما اتخذَ الإنسان  فكرة تقديس الأجداد وثقافة عبادتهم ثم تعددت الآلهة على مواصفات شكل الإنسان , وهذا ما كان في العصور القديمة ثم تقديم القرابين لها بمثابة الرشوّة لدفع غضب الرّب المخيف  وحماية النفس الإنسانية , مما سبب لهذا السلوك إلى تعدد اللآلهة  في تلك العصور وما تتحدث عنها أساطير بابل  حول الخلق والصراعات السماوية , مما نشأت فكرة الدين بمنظومته المتكونة من التفسير للظواهر وعبارة من الضوابط الأخلاقية لضبط سلوك الفرد داخل الجماعة , ثم تطور الدين  وتحول من معادلة بين القائد وجماعته البشرية إلى كونهُ  معادلة بين الإله والبشر وهذا ما أثبتتهُ أسطورة ( اينوما آليش) في أساطير بلاد ما بين النهرين , وبتواجد الرب والدين لا بدَ من تواجد الوعي كمفهوم , وفي أعلى مسلة حمورابي نجد أن الرسم المنحوت يشير إلى أن هذا الملك قد شرعته الآلهة , وقد أكد ذلك الكاتب ضمد في ص 147 وهي أهم التظاهر للعبقرية التي صنعت الحضارة وسُنَتّ قوانينها من أناس مميزين وقد أدانت لهم البشرية بالجميل وقد فسرت الحضارات القديمة البطولة  بالخيالية واعتبرتها دليلاً على ألوهية الإنسان أو كونهُ نصف إله  ومنهم الملك (سرجون الأكدي) الذي تشبه قصتهُ قصة موسى في كتاب  (موسى والتوحيد ) لعالم النفس فرويد , الذي تلخص إلى قصص الأبطال  الأسطورية , وهي عبارة عن طفل يولد و يوضع في سلّة  مع مجرى تيار النهر , ويفسر فرويد ذلك بأن الطفل يرمز للسائل المنوي والسلة حكاية عن البويضة  أما النهر فهو عنق الرحم أو السائل السابيائي , مع هذا إن أغلب الأساطير تدلل على أن الأبطال والملوك إضافة إلى الإنسان القديم كانت لأحداث مخيفة غير مفهومة نازلة من السماء وقد دللَ لنا التأريخ في دولة الفراعنة باعتبارهم أبناء السماء وعند الأغريق كان هرقل , أما في حضارة وادي الرافدين كان حمورابي وهذه الأمور تتكرر مع  ظهور الدول في العصور القديمة وقد تنتقل كذلك في أم البطل وهي الأم الهامشية  إلى مرتبتها الاجتماعية العليا لإضفاء هالة من القدسية على البطل  والأم , لذلك كانَ معظم الملوك القدماء أما أبناء آلهة  أو أنصاف آلهة أو آلهة مما دفعها لاستخدام كلمة المقدس لتجعل منهُ منبعاً خارقاً , ولو تمعنّا في كل ما طرح إن المسؤول  الوحيد عن الجدّل  بين الدين والإنسان هو الإنسان بسبب إعطاءه الأوصاف القدسية  للأفراد, وقد عرّضَ الدين عن التطرف ووصلَ به الأمر إلى الزيّ الذي يجب أن يرتديه الفرد لديانة ما وهذا ما يؤكدهُ الفكر السلفي , ولو دققنا جليّاً المفهوم للكتاب السماوي لكل الديانات السابقة للديانة الإسلامية وكتبهم المقدسة , والتي تعتبرها الديانة الإسلامية بأنها مقدسة وقد أوقعهم في الخطأ والحيرة ,باعتقادي أن تلك الكتب لا تحمل بين دفتيها لا كلام الله ولا كلام الرسول , فهي مرويات  الحواريين عن عيسى , وقد استغلت المؤسسات  الدينية (الدين) وكرستهُ لمصالحها مما تحولَ الدين إلى مجرد مطيّة نصل من خلالها  لغاياتنا الخاصة.
  فلاسفة الضرار ومُحترفو التبرير الديني دائمو التأكيد على أن انحطاطنا المُخيف محض كبوة، وارتداد عن كمال إنساني، بلغه أسلافنا! وأن محاكاة ـ تجديدية وتحديثية ـ لهؤلاء الأسلاف، تُبلغنا حتماً كمالهم الإنساني، وتُعيد لنا إمرة الأرض اغتصابا ,حاجتنا ماسة لتأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، كخطوة واعدة على طريق بناء صرحنا الفلسفي! لم يعد مقبولاً أن نلوث بتخلفنا نقاء الحياة وطُهرها!  صحيح أن الصروح الفلسفية لا تُشيد إلا بقلوب وعقول عاشقة للحرية، عارفة بأهمية النضال من أجل الحقيقة! كل هذا وأكثر صحيح، غير أن الأمل يظل قائماً في قيام مدرسة أنسنية في الفكر العربي، تُعبد الطريق نحو تفكيك البنية التحتية لفلسفة الضرار! خنوثة التخلف العربي تُحتم التمكين للفلسفة في ثقافتنا!
العالم المُعاش شديد الخضوع للأفكار الصحيحة والزائفة على السواء ـ للأسف الشديد ـ، لدرجة دفعت بعض الظرفاء للقول بوجود تناسب طردي بين الأثر الذي تُحدثه أية فكرة في حياة البشر وبين درجة الخطأ الكامنة فيها! أصحاب البصائر النفاذة هم وحدهم القادرون على إدراك الفاصل بين الصحيح والزائف! 
 





285
واقع الشخصية العراقية اليوم بعد الغزو الأمريكي

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
  لقد وجدت الشخصية العراقية بعد عام 2003 عام التغيير أسيرة في ثقب تأريخي أسود , فاندفعت قسراً مستنزفة طاقة الماضي  النفسية لديها لتتحرك في مدارات شُقَت لها سلفاً بمعول المخططين لأمركة الزمان والمكان العراقي, فالتعصب والتفكير النمطي والطائفية التي شهدت  سفك الدماء العراقية من جرائها , ما هي إلا طاقة ماضٍ جاهل وإسطوري  جرى استحضارها في مختبرات العولمة المتوحشة , مما ولدت القتل  وسفك الدماء الثمينة , هي الدماء المحلية  التي كان هدفها إلغاء القدسية للحياة والتشاركية مع الآخرين لا جمع الأرصدة المليارية التي تُكدس في خزائن  ما وراء البحار .
  من هذا بعد دخول الأمريكان للبلد كان هدفهم نشر السايكوباثيا العسكرية في صفوف  المعتقلين العراقيين في سجونهم ,ومنها سجن أبو غريب السيء الصيت , وكان من صفاتها بأنها مضادة للمجتمع وافتقادها  الشعور بما هو صواب وما هو خطأ , وبالعنف والقسوة والسادية والأنانية  وعدم المبالاة تجاه حقوق العراقيين , وبعدم الشعور بالذنب, وعدم  التعلم من تجارب الآخرين والامتعاض  من العقوبات وعدم الاكتراث , مثال ذلك دور المؤسسة العسكرية الالمانية النازية في الشعب النازي والشعوب المجاورة , فقد كان غزو العراق من قبل القوات الأمريكية قد كشفت  عن سادية السجان الأمريكي في سجن أبو غريب  , فكانت أفعالهم هي التفريغ الانفعالي الأخرق للشخصية الرأسمالية , والدعوة لغسل أدمغة الشعب العراقي بأسلوب شديد الحدة من خلال تلقين الأفكار في ظل الظروف التي يجري من خلالها تعريض الفرد العراقي لأوضاع نفسية وبدنية مجهدة للغاية  ليتقبل تلك الأفكار تحت وطأة الإنهاك النفسي والجسدي بدلاً من قبولها عن طريق  الإقناع الواعي في ظل الظروف الاعتيادية , وقد تطرق لذلك  العالم  الروسي بافلوف , لقد تعرض الكائن الفرد العراقي من خلال غزو القوات الأمريكية   لثلاثة أدوار للشدة والضغط المصاحبين لتكنيك غسل الدماغ منها:
الدور الأول: تَبلّد حواس الإنسان المجهد بعد الغزو.
الدور الثاني: ازدياد قسوة هذه المثيرات , إذ يصبح الفرد العراقي ضعيف  الاستجابة أمام الأحداث القوية  وجاد الاستجابة أمام الأحداث الضعيفة.
الدور الثالث :تبدل عادات ذلك الفرد إلى نقائضها , فقد ينقلب  حبه لفكره أو موضوع إلى كره شديد  أو بالعكس.
   فكان ذلك بعد الغزو الأمريكي عام 2003 بتغييب الأمن المقصود من خلال  صناعة الإرهاب وافتعاله ودعمه والتغطية عليه , وهذا ما حدث عامي 2006 و2007 , إضافة إلى لعبة الاستمرار في قطع التيار الكهربائي للمناطق السكنية والصناعية والهدر لمليارات الدولارات  ولما يخصص لتطوير  منشآت ومشاريع تطوير الطاقة الكهربائية , إضافة إلى لعبة معاناة العاطلين والباحثين عن السكن ولعبة ضخ مئات الآلاف  من السيارات المستوردة والمستهلكة , وتردي الخدمات في جميع المجالات الصحية والتعليمية , وإغراق المدن  بالفوضى  الطائفية والعرقية , مما أحدث إجهاداً نفسياً وإحباطاً  معنوياً في الشخصية العراقية , مما توغلت في الاغتراب والاكتئاب , و تحقق الدور الثاني كما ذكر في عملية غسل الدماغ العراقي , والدور الأخير  والثالث في مرحلة غسل أدمغة العراقيين , القادم لا محال لكن البعض  يعتقد أن نجاح عملية غسل الدماغ مرحلياً قد تفشل في نتائجها  النهائية بسبب الوعي الإنساني والوطني والانتماء العراقي وجذوره المتأصلة في تربة بلده .
 لكن للمثقف العراقي الدور الكبير في التغيير ليضع العربة على السكة الصحيحة لا كما نلمسهُ من خلال النخبة التي أصبحت صامتة  منزوية في صومعتها الثقافية , مع العلم لها شأنها القادم في إعادة تأهيل شخصية الفرد العراقي .
 
 


286
يهود الحلة ...تأريخهم وعلاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية


 
احد بيوت اليهود في مدينة الحلة


نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      كانت البدايات الأولى في بابل  يوم القضاء على مملكة يهوذا في فلسطين عام(612-539)ق.م  من قبل الملك  الكلداني نبوخذ نصر , فقد أُسُر ملك مملكة يهوذا  (يهويا كين) مع حاشته وقادة جيشه , وحملهم إلى بلاد بابل كأسرى حرب (1) , لكن تم إسقاط دولة بابل على أيدي الغزاة الفرس الأخمينيين عام(539)ق.م , وقد سمح ليهود بابل بالعودة إلى فلسطين  عام (536) ق.م إلا إن البعض رفضوا العودة لانسجامهم مع المجتمع البابلي آنذاك.
     بعد دخول الجيوش الإسلامية  فاتحة لبلاد الرافدين قد تحسن حال اليهود , وقد لعبت الشخصيات اليهودية  دوراً في مجال التجارة  والمال في عهد الخليفة العباسي المقتدر (907-932)م , ثم بعد دخول المغول لبغداد عام (1258)م ترك بصمة على سكان العراق بالتراجع ومنها مدينة الحلة من تخلف في مختلف نواحي الحياة  بما فيهم اليهود , ولكن بتعاقب المحتلين للعراق من عهد الجلائريين وإلى سيطرة الدولة العثمانية على العراق عام(1534)م فقد عرف عهد السلطان سليمان القانوني من رشد وحكمة وتساهل, ولما كانت الحلة جزء من ولاية بغداد فإن اليهود وباقي الأقليات فيها كانوا  يعيشون في جو من الأمن والاستقرار, وسبب ذلك كان يرجع لالتزام الطائفة اليهودية بدفع الجزية المعتدلة لملتزم الضرائب.
   في عام(1765)م زار الرحالة الدنماركي (نيبور) الحلة وذكر في رحلته إنه "مر بالقرب من مرقد النبي (حزقيال) ,وإن مئات اليهود سنوياً يزورون قبره , كما وصف حالة التجانس والانسجام بين المسلمين  واليهود"(2).
    كان اليهود في مدينة الحلة  يعيشون في جو يسوده الأمن والاستقرار وحالة من التفاعل والحوار الثقافي  مابين الأديان , فقد كان المسلمون واليهود من أهل الحلة وباقي المدن الأخرى يزورون مرقد  ذو الكفل(حزقيال) باعتباره أحد الأنبياء الصالحين.
   فقد نال اليهود اهتمام كبير في عهد الدولة العثمانية إذ تولى يهود العراق نقل الأموال من بغداد إلى الأستانة لأن الحكومة العثمانية كان من مصلحتها أن يتولى أمر الشؤون المالية وسك النقود , وتجلى ذلك في  منصبهم( صراف باشي) وهو منصب رئيس الصرافين , والسبب في ذلك يعود إلى خبرتهم في شؤون المال والحسابات المالية . وقد" قدر عدد اليهود في العراق بشكل عام سنة 1919م ب(86488) نسمة من مجموع سكان العراق البالغ  عددهم(2694282) نسمة"(3), أي نسبة عدد اليهود إلى سكان العراق بحدود 3% ,وكان " عدد يهود الحلة (1063) نسمة حسب التوزيع السكاني ليهود العراق بتقديرات سلطات الاحتلال البريطاني عام 1920(4).
     تمكن أبناء الطائفة اليهودية الحلية في العمل في شتى المجالات  من النشاط الاقتصادي مثل ( التجارة والصيرفة  واستثمار الأراضي الزراعية ) وغيرها , و"كان ليهود الحلة زقاق في مركز المدينة  يدعى ( عكد اليهود) أو بوابة اليهود"(5),ويحتوي على مركز للعبادة وهنالك بوابة خشبية تحمي هذا الزقاق إذ تغلق  عند المساء وتفتح صباحاً.
    لقد اهتم يهود الحلة بإقامة الصلاة في دور العبادة الواقعة في محلة الجباويين وأخرى في محلة التعيس ,أمثال صلاة الغفران وصلاة القمر , وقديماً يهتدون للصلاة  في وقتها بالنفخ في الأبواق المصنوعة من قرون الأغنام أو من المعادن , فيذهبون مجتمعين إلى كنيسهم الموجود في محلة التعيس أو الموجود في محلة الجباويين للصلاة وطلب المغفرة, وقد بقيت الكنيس الموجودة في محلة التعيس لحد الآن و لكنها في الوقت الحالي استخدمت من قبل معامل النجارة وأهملت تماماً, إذ تحتوي على دكة دائرية للجلوس ولواويين لراحة المصلين,أما في الأعياد يجتمعون في دور العبادة نساء ورجال وبعد إكمال الصلاة تذهب النسوة حاملات الزهور إلى حديقة النساء في مركز مدينة الحلة للراحة مع أطفالهنّ والبقاء حتى المساء .
    لقد تعايش  اليهود مع المسلمين في المدينة وأطرافها, فقد حدثت حالات انسجام اجتماعي  والتعرف على عادات وتقاليد كل منهم للآخر, لكن كانوا يرفضون الزواج من الأديان الأخرى وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى قصة الفتاة سيرح (سارة) "وهي فتاة يهودية من أهالي الحلة  رفضت أسرتها الزواج من شاب مسلم رغم علاقة الحب التي كانت تجمع بينهما مما اضطرها إلى الخضوع إلى إرادة أهلها فانتهت قصة حبها بالفشل , ومع ذلك فإنها رفضت السفر بصحبة  والديها إلى إسرائيل وفضلت أن تعيش بقية عمرها برعاية جيرانها المسلمين  من أهل (عكد اليهود ) وبالقرب من حبيبها إلى أن فارقت الحياة"(6) ودفنت من قبل بلدية الحلة, فقد كانت تعيش على  ما تحصل عليه من معمل الخياطة التي تديرهُ.
    لقد تأثرت الطائفة اليهودية في الحلة بالعادات والتقاليد الحلية فيما يتعلق بالالتزام بموضوع الحجاب أو علاقتها مع الرجل , فضلاً عن التطبع الاجتماعي الذي نتج عن التفاعل الاجتماعي الذي استمر حقباً تاريخياً على مدى عقود من الزمن مما جعل أبناء الطائفة اليهودية تألف العادات والتقاليد السائدة في المجتمع الحلي والتي أصبحت جزءاً مهماً من ثقافة المجتمع السائدة ,  فظلت أسيرة الثقافة التقليدية  السائدة , حيث كانت المرأة من الطائفة اليهودية  تقضي معظم  حياتها داخل المنزل لحين مجيء قسمتها من الزواج , "فكانت عاداتهم في الزواج أن أهل البنت هم الذين يتقدمون لخطبة الشاب اليهودي  من أهله ويدفعون المهر الذي تدفعهُ للشاب , بينما إذا كانت الفتاة  اليهودية كبيرة العمر وأقل جمالاً فإنها تدفع مهراً كبيراً حتى يقبل بها الشاب اليهودي(7), وزواج الفتاة  في سن مبكر من العادات والتقاليد اليهودية المألوفة.
    أما الختان للأولاد فكانت فريضة يجب ممارستها للوقاية الصحية من الأمراض وكونها شعيرة  من شعائرهم الدينية و علامة من علامات حلف الدين بين الله (يهوه) وبين أبناء الطائفة, وقد حدد يوم الختان اليوم الثامن من الولادة , كما تشدد التوراة احترام يوم السبت وتعاقب على استباحته من تشريعاتهم المهمة .
   أما في الميراث فيعتبر الذكر  المفضل دائماً على الأنثى , لذلك "كان حقوق  الولد  في الميراث أكثر من حقوق البنت , فالبنات لا يرثن إذا ترك الوالد أولاداً ذكوراً , ويوزع ميراث الأب على الأبناء ويعطي الابن الأكبر ضعف نصيب الابن الآخر"(8),لكن العائلة اليهودية الحلية  التي لم تلتزم بهذه الخصوصية في الإرث هي عائلة (خضوري مير دلومي) , وإنما فضلت توزيع الإرث حسب التشريع الإسلامي وقانون الأحوال الشخصية , وقد برزت هذه العائلة في ميدان التجارة والاستثمار في الأراضي الزراعية والعقارات وكانت تسكن محلة جبران   .
       وقد اهتم أحد أبناء  هذه الطائفة بجانب إنشاء محطة لتوليد الطاقة الكهربائية عند زيارته لانكلترا وهو  من عائلة (آل سوسة) فقد استورد مولده عام1923 وبإدارة (منشي سوسة) إذ عملت بطاقة (25 كيلو واط) وتزود الدور بالكهرباء مقابل  رسوم شهرية , وعرفت بمحطة كهرباء سوسة(20) , فكانت تعمل  حتى عام 1938 إذ أنشأت الحكومة العراقية محطة جديدة لتوليد الطاقة الكهربائية بطاقة (100 كيلو واط) في منطقة باب الحسين.
    كانت العلاقات الاجتماعية الطيبة والتسامح بين العوائل والانسجام , فقد ذكر الأديب والمحامي أنور شاؤول  نتيجة التسامح الديني هو قيام الحاجة ( وضحه أم الهادي) وهي من النساء الحُلياّت  بإرضاع أحد أبناء الطائفة اليهودية المدعو (أنور شاؤول) بسبب وفاة والدتهُ  وهو أبن سبعة أشهر , إذ لم تكون هنالك مشكلة  دينيه , فكلتا  الديانتين الإسلامية واليهودية  لا تمنعان رضاعة الغريب  رغم الاختلاف بين ديانة المرضعة وديانة الرضيع , ويذكر الأستاذ فلاح أمين الرهيمي " هنالك قصة المرأة اليهودية (مسعودة) من سكنت محلة التعيس التي تبنت طفلاً عام1921 كانت تعتقد إن الطفل بالتبني أصبح  على دينها يهودياً , وعندما بلغ ذلك الطفل الرابعة عشر من العمر أصابهُ مرض فتوفى على أثره , فأرادت  المرأة المتبنية أن تدفن الطفل المسلم في مقبرة اليهود والتي تقع في الجانب الغربي من مدينة الحلة , فرفض أهالي المحلة ذلك وأختلف الطرفان فكان حل المشكلة من قبل الشيخ محمد سماكة وكيل السيد (أبو الحسن الأصفهاني) في الحلة قائلاً:" بأن الطفل مسلم لأنهُ لم يبلغ الحلم ولم يعلن ارتداده  وعليه يدفن الصبي في مقبرة (مشهد الشمس), فوافق الطرفين لاعتقاد اليهود إن النبي يوشع  ردت إليه الشمس في هذا المكان"(9).
     وهنالك تبادل الاحترام بين أبناء الطائفة اليهودية لأبناء الحلة من المسلمين فعند  جلوس أبناء هذه الطائفة في المقاهي العامة وأراد تناول فنجان قهوة من صاحب المقهى  فيجلب اليهودي الحلّي  معهُ فنجان القهوة  الخاص به , إن كان من محتسيها فيشرب  ويعيد الفنجان إلى جيبه , وقد اتبعت هذه الطريقة حتى في مناسبات إقامة الفاتحة لأبناء المحلة من المسلمين , وقد شارك يهود الحلة  إخوانهم المسلمين بجميع مناسباتهم  كمشاركتهم في أيام محرم رجالاً ونساء , بعض النسوة يشاركنً في تعازي عاشوراء مع بيوت المحلة ليوم استشهاد سيدنا الحسين (ع), ويذكر  الأستاذ فلاح أمين الرهيمي  إن" اليهودية ( غزالة) التي كانت تشارك النسوة الحليَات  في المآتم الحسينية التي تقام في مدينة الحلة  خلال أربعينات القرن الماضي , إضافة إلى قيامها  بمداواة  الأطفال المرضى من ( رمد العين) دون أخذها أجرة عن ذلك"(10).
  أما في مجال التعليم  فكانت أول المدارس التي فتحت في الحلة عام1890 ,فقد فتحت مدرستين في لواء الحلة الأولى مدرسة(مدراش) في مركز الحلة والثانية في ناحية الكفل  لأبناء الطائفة اليهودية , كانت تعلم التلمود والقراءة والكتابة باللغات العربية والعبرية والفرنسية والانكليزية إضافة للغة التركية , وكانت تعتمد على تمويلها من خلال التبرعات من أثرياء يهود الحلة  الذين يقومون بزيارة المعبد ومرقد ذو الكفل وفي المناسبات الدينية و وقد بلغ عدد طلبتها حوالي (40) طالب , وكان من الشخصيات المعروفة التي تخرجت من هذه المدارس الأديب أنور شاؤول والدكتور أحمد سوسة وحبيب بيك آل عبد الجليل, وقد فتح أحد أعضاء البعثة التبشيرية عام 1910 التي أرسلها رئيس الأساقفة(كنتر بيري) مدرسة أخرى في مركز مدينة الحلة (مكان الاتصالات الحالية) وكان يطلق عليها ( الأسكول)  وأول مدير لها مسيو(تهامة) وقد بلغ عدد طلابها (175) طالباً  و"من أشهر مدرائها (نسيم  ملول) وقد تعلم على يد بعض معلميها أحد رجالات الجيش البريطاني اللغة العربية وهو الطبيب (سندرسن باشا) فقد اجتاز اختبار اللغة العربية الذي أجرتهُ سلطات الانتداب  البريطاني ليصبح الطبيب الخاص للملك فيصل الأول"(11).
    أما في مجال التجارة في مدينة الحلة فقد بدأ عمل ابتدأت من الفئات الدنيا المتمثلة بالصبية  الذين يبيعون الحاجيات على الرفوف المعلقة في رقابهم مروراً بالحلقات الوسطى للتجارة بين مدينة الحلة وباقي المدن العراقية والأرياف , "ثم الوصول إلى الحلقات الكبرى في التجارة الدولية  من استيراد وتصدير بين العراق والدول الأخرى عبر الشركات التي أصبح اليهود وكلائها المعتمدين على ما تعلموا من لغات في مدارسهم الخاصة "(12),فضلاً عن امتلاكهم لرأس المال  وروابطهم الحميمية  وتبادل المعلومات والخبرات فيما بينهم في ميدان التجارة والصيرفة  حتى أصبحوا مستوردين للبضائع من الهند وبريطانيا مباشرة ودون وساطة للتجار البريطانيين ,كما دخلوا مجال تصدير الحبوب والتمور ," حيث استخدموا  طريقة المقايضة مع الفلاحين  حاملين المواد الاستهلاكية على حيواناتهم من (الصابون والأقمشة وبعض الأواني المنزلية ) مقابل حصولهم على الحبوب من الحنطة والشعير ويعودون مساءاً محملين بما يحصلون علية في ذلك اليوم "(13) ليتم عرضهُ في محلاتهم للبيع, وقد اشتهر بهذه التجارة "(خضوري اليهودي) صاحب محل لبيع المواد الغذائية في سوق اليهود في مدينة الحلة (حالياً سوق الدجاج) , كان يبيع المواد بربح بسيط لكسب الزبائن  والبيع الكثير ومثال ذلك عام1937 كان سعر ربع كيلو الشاي الاسطنبولي بـ"(15) فلس للمفرد فكان العطار اليهودي يبيعه بسعر الجملة(12) فلس ولكن العطار اليهودي كان يستفاد من بيع الكيس والصندوق الفارغين ب(10) فلوس ومبيعاته الكبيرة كان يربح أكثر. 
   أما في مجال تجارة الأقمشة فكان من أشهرهم في لواء الحلة "(خضوري وصبري اليهودي ومنشي شنشول والياهو دالي) الذين سيطروا على تجارة بيع الأقمشة في الأسواق التجارية  في عموم لواء الحلة فكان البزاز  عام 1937 يبيع ذراع القماش بـ(20)  فلس للمفرد والبزاز اليهودي يبيعهُ ب(15) فلس , إذ كان الربح بوجود مستورد الأقمشة الرئيسي يهودياً  بسبب تفاوت بيع أسعاره بين البزاز المسلم واليهودي من طائفته" (14).
     وفي مجال تجارة الأدوية وفتح أول صيدلية في مدينة الحلة لصاحبها (سيمون الزاجي) من يهود الحلة عام1934والذي كان موقعها في محلة الجباويين, فقد كان يبيع الأدوية وتحضيرها للمواطنين ثم أغلقت عام1951 أثر تسفير صاحبها إلى فلسطين,كما "اشتهر الطبيبان اليهوديان(ضياء ماميش ويعقوب ناجي ويعقوب وذن ونسيم خضوري) فقد عملا في مستشفى الحلة الملكي,وفي مجال التمريض عملت (جوليت اليهودية وراشيل بنت ابراهيم وخاتون بنت ابراهيم)الواتي عملنً في مستشفى الحلة الملكية,ومن القابلات اليهوديات التي اشتهرت بالولادة في محلة المهدية مركز لواء الحلة(بدرية اليهودية) ثم عملت مساعدة للطبيب (يوسف جبور) بعيادته الواقعة في بداية (عكد اليهود) عام1948 "(15) .أما في مجال طب الأعشاب فقد اشتهر (ابراهيم اليهودي) فقد زاول هذه المهنة في ناحية المدحتية حتى هاجر عام1950" (16), وهنالك أسرة "اشتهرت بمجال الاقراض والربا لمساعدة التجار في المساهمة في السوق العراقية مثل أسرة (شاهين وساسون معلم وشاؤول وراحيل وزبيدة وحوكي)"(17).
     وفي مجال الصياغة فقد زاولها أبناء الطائفة اليهودية منذ القدم في لواء الحلة واشتهر بهذه المهنة عائلة (عزرا الياهو)وهو من  العوائل  اليهودية التي ذاع صيتها في الحلة  , كما اشتهر في هذا المجال" (الياهو حسقيل وناجي اليهودي), حيث كانت صياغة الياهو تضرب المثل بين النساء وينسب إليه (ذهب الياهو), وكان الياهو من العوائل المنتمين لصفوف الحزب الشيوعي العراقي في لواء الحلة  وكان من الناشطين السياسيين" (18).
     أما في مجال الخياطة فقد اشتهر  كل من ( صالح دنكور وأبو البير) وكذلك من النسوة (مسعودة ورجينة ونائلة ومارسيل وسيرح) ,والأخيرة كانت تعلم النساء الحليّات للخياطة إذ تعمل بعنوان(الصانعة) دون أجور .
     وفي مجال التمثيل المسرحي فكان "من أوائل الرواد في هذا المجال الممثلة (فضة) والممثل(أبو صيون) عام1918وهم من الطائفة اليهودية ,حيث كانوا يديرون مسرحاً غنائياً في محلة السنية في مركز الحلة , فكانت مسرحياتهم من مشهد واحد"(19) , وكان التوجه الثقافي لمرحلة الانتداب البريطاني بسبب تعرض الثقافة في العراق إلى عملية الصهر والتوجه  نحو الثقافة الأوروبية.كما اشتهر في جانب المحاماة وبرع فيها كل من(عزرا منشي كباي) و(أنور شاؤول) المولود في مدينة الحلة عام1904 وقد اشتهر في مجال الأدب وإصدار مجلة الحاصد الأسبوعية الأدبية عام1929 والمتخرج من كلية الحقوق-بغداد عام 1927ومارس المحاماة وتولى إدارة شركة التجارة المحدودة بين عامي1945-1960وكتب قصيدة بحق مدينة الحلة اسماها (مسرح الصبا):
             يا ديارا حبها تيمني            لك في قلبي غرام ابدي
   وقصيدة عبر فيها عن عمق احترامه للإسلام  من خلال هذه الأبيات الشعرية:
          إن كنت من موسى قبست عقيدتي          فأنا المقيم بظل دين أحمدِ
           وسماحة الإسلام  كانت موئلي            وبلاغة القرآن كانت موردي
 
     ولا ننسى دور أبناء هذه الطائفة في مشاريع الري فقد كان المهندس (سليم) الذي كان يعمل  في دائرة ري الفرات الأوسط والمشرف على مشروع ري الخميسية عام 1947 المغذي لناحية  المدحتية.
      لقد عمل أبناء هذه الطائفة في جميع مجالات الحياة في لواء الحلة , وكان الانسجام بين أهالي الحلة وهذه الطائفة وليس هنالك حواجز دينية أو اجتماعية كما لهم الدور في الأنشطة السياسية من  خلال انضمامهم إلى الأحزاب السياسية العراقية التي كانت تعمل في الساحة العراقية , وعندما "عقدت معاهدة  عام 1930 لرسم العلاقات بين بريطانيا العراق التي قابلها الشعب العراقي بالرفض والتظاهرات الجماهيرية  التي اشترك فيها أبناء الحلة بمختلف الطوائف والأديان ضد  وزارة نوري السعيد أثناء جولة الملك فيصل الأول في منطقة الفرات الأوسط"(21).
      ولكن حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 والمعروفة بحركة مايس, لقد أوجدت  القلق بين أبناء الطائفة  اليهودية في الحلة تمثل الصراع العربي الصهيوني في فلسطين , فقد كان من يؤيد الحركة الصهيونية موقفاً لتقسيم  فلسطين وإقامة دولتين أحدهما عربية والأخرى يهودية , وبالمقابل نجد البعض الآخر أبناء الطائفة  اليهودية على النقيض وذلك من خلال قرار تقسيم فلسطين عام1947 , "إذ نشر العديد منهم المقالات الصحفية السياسية التي تميزت بين اليهودية كديانة  والصهيونية كمذهب سياسي , إذ أدان  البعض من يهود الحلة الأساليب الصهيونية في إيجاد الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين ويحمّلون  الاحتلال البريطاني على العراق وفلسطين مسؤولية تقسيم الأخير"(22) , وقد ساهموا في التظاهرات التي طالت لواء الحلة يوم  3 تشرين الأول عام1947 وأغلقت المحال التجارية والأسواق والمقاهي من قبل كافة الحليين  من المسلمين واليهود.
      لقد انتشر الفكر الشيوعي في أغلب مدن العراق  الرئيسية مثل البصرة والعمارة والديوانية ومنها مدينة الحلة وتكونت أول خلية شيوعية في مدينة الحلة ومن المنتمين لهذه الخلية من أبناء الحلة اليهودي ( موشي) الذي كان يعمل خياطاً للرجال والنساء في مدينة الحلة وبحكم عمله كان يؤثر في زبائنه الذين يأتون إليه (23).
    أما "الأعضاء من الطائفة اليهودية من مدينة الحلة في اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي , فكانت تظم كل من (نعيم صالح  ويوسف نسيم أبو زنة وداود الياهو)"(24) وهم من أصحاب  محال تجارية من سكنة (عكد اليهود) والذين كان لهم  دور كبير في كسب أبناء الأقلية اليهودية في الحلة إلى تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي إضافة إلى "انتماء( الياهو الصائغ)  الذي شارك في أنشطة الحزب وقد اعتقل فيما بعد بتهمة انتمائه  للحزب و أودع في سجن الحلة"(25), كما انتمى بعض أبناء الطائفة اليهودية إلى بقية الأحزاب السياسية  أمثال حزب الأحرار برئاسة سعد صالح جريو الذي كان  متصرفاً للواء الحلة  وكذلك انتمائهم للأحزاب السياسية الأخرى كحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي وجماعة الأهالي أمثال (يوسف إسرائيل وسليم خضوري وهير شالوم).
     لقد اهتم أبناء هذه الطائفة بالتطلعات السياسية للعراق ومشاركتهم الأحزاب السياسية للتعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية إزاء الأوضاع التي يمر بها العراق  آنذاك "ولحين قيام الدولة العراقية  بإسقاط الجنسية العراقية عام 1950 عن أبناء الطائفة  لمن يرغب السفر لفلسطين , فقد بلغ عدد اليهود ممن أسقطت  الجنسية العراقية في لواء الحلة (2201) وعدد البالغين منهم (1161) أما عدد القاصرين (1040)" (26) , وبلغ عدد "اليهود العراقيين المهاجرين إلى فلسطين في نهاية عام1951 (121512) يهودي" (27) , حيث هاجر معظم أبناء الأقلية اليهودية  العراقية متوجهين  إلى فلسطين وأغلبهم  من التجار والملاكين وذوي الدخل المحدود وهي عبارة عن هجرة عوائل بأكملها تاركين ديارهم وملاعب الصبا والشباب وذكريات  مدينتهم الذين تربوا فيها وأملاكهم وأعمالهم. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ملامح من التأريخ القديم ليهود العراق –  د.أحمد سوسة ص125
2- مشاهدات نيبور  في رحلة من البصرة إلى الحلة – كارستن نيبور ص88-89
3- الدور الاقتصادي لليهود في العراق(1920-1952)م-احمد عبد القادر القيسي ص9
4- نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق -يوسف رزق الله غنيمة ص209
5- قصة حياتي في وادي الرافدين – أنور شاؤول ص24
6- الحلة بين العشق والانتماء ج1 –جعفر هجول ص47
7- مجلة المصباح العدد102 في 17-11-  1926   
8- الكتاب المقدس – سفر التثنية 21-  170 
9- مقابله مع الأستاذ فلاح أمين الرهيمي تموز2011 
10-مقابله مع الأستاذ فلاح أمين الرهيمي تموز2011
11- يهود العراق –تأريخهم وأحوالهم وهجراتهم – يعقوب يوسف كورية ص237
12-الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية –الكتاب لأول –حنا بطاطو ص380
13الطائفة اليهودية والنشاط الاقتصادي –صباح عبد الرحمن ص53
14-الطائفة اليهودية والنشاط الاقتصادي –صباح عبد الرحمانص65
15- تاريخ الديوانية قديما وحديثاً –وداي العطية ص310
16-الدرة البهية – عبد الرضا عوض ص158
17- خطط الحلة – خليل إبراهيم نوري ص33
18- تاريخ الأحزاب والجمعيات  السياسية –عامر جابر تاج الدينصص353
19-المسرح في الحلة البدايات –محمد حسين المرعب ص28
20- تاريخ الصناعات والحرف –عبد الرضا عوض ص181
21- الموسوعة السياسية – عبد الوهاب كلبالي ص416
22- اليهود والمواطنة العراقية – د. كاظم حبيب ص160
 
 

الشاعر والصحفي انور شاؤول

 
انور شاؤول

 
بيوت ليهود الحلة

 
شنشيل  في مدينة الحلة

 
عكد اليهود في الحلة
 

287
انتصار أمين منشد تروي  رحلة النضال والفداء..للشهيدتين أنسام (الموناليزا) وسحر



حاورها-نبيل عبد الأمير الربيعي
 
      إلى المسافرين في طريق الشمس والمضحين من أجل وطن حر وشعب ينعم بالسعادة والطمأنينة ... الذين واجهوا قوى البغي  والاستبداد ... حلموا بحقولٍ خضراء تُشيّع فيها ورودُ حمراء .. لكن يستشهد الرفاق وهم يعرفون إن مقارعة الظلم لحياة حُرة كريمة , والبعض يستشهد غدراً من قبل عملاء النظام , والكُل في عُرفّ النضال هم شهداء وشهيدات , لأن الحياة لا توهَب لهم إلا مرة واحدة , الجلاد في بغداد ينعم بمرتبة الآلهة  و جلاوزتهُ عاجزون عن منح الحياة  وإدامتها , لأنهم أشاعوا في بلاد الرافدين بلاد الموت والجوع والقهر والاستبداد وتبنّوا آلهة الموت.
   من العوائل العراقية  الجنوبية, التي قدمت الشهداء وكل ما تملك في سبيل حياة حرة كريمة  وشعب يتمتع بالسعادة , هي عائلة منشد...( الوالد أمين منشد 1911, الوالدة أم داود 1932,داوود1948, أنسام1951 ,أمير 1954 , انتصار 1959, وكوثر 1962 , سحر 1964) ولدوا من رحم الناصرية المسكونة بالإبداع والنضال , رفدوا الحياة بالجمال والحب والبطولة " من مدينة التراب والحرّ القائظ الساكنة على ضفاف الفرات مدينة النخيل والرز مدينة السومريين التي علمت العالم فن الكتابة والقراءة والقانون ، من المدينة المهملة ذات البيوت المهدمة والشوارع البائسة والاضطهاد على كل المستويات في العصر الحديث ، من مدينة الجوع والقتل الجماعي مدينة الفقراء والفلاحين مدينة الثورات والانتفاضات ، من هذا الرحم الذي أنجب الحزب الشيوعي العراقي ليتلاقف  بناتها وأبناؤها الميامين ليعبِروا به طرقات العراق مدن العمال المسلوبة حقوقهم وقرى الفلاحين الفقراء المنهوبة أرزاقهم وقوتهم والمضطهدة إرادتهم ليرفعوا علم الحرية والكرامة عاليا وليصبح الوليد عملاقا مهابا بسواعدهم ودمائهم الزكية ، وعلى مر النكبات وتآمر المتآمرين ، نحتفي اليوم بتلك الدماء الطاهرة التي عمدت تراب عراقنا الحبيب آملين أن تزهر سعادة و وطنا حراً لا طائفياً أو قومياً ، نحتفي اليوم بالأبطال الميامين الذين لم يهادنوا الأراذل من الجلادين قتلة أبناء الشعب "(1) , في لقاء مع الرفيقة انتصار منشد لتروي رحلة النضال والفداء رحلة عائلة قدمت فلذتي كبها للوطين والحزب  :
*ماذا تتذكرين عن الشهيدتين أنسام وسحر وعن فترة شبابها  ومدرستها وعملها؟
الشهيدة سحر كان عملها كاتبه في المتوسطة والشهيده أنسام (موناليزا) معلمه ,عندما كانت سحر في المرحلة الابتدائية كانت تذهب مع الشهيدة منى وهي أختها و معلمتها في مدينه البطحاء والاثنتين يأتيان كل أسبوع إلى البيت مره واحده بسبب بعد البطحاء عن منطقه الإسكان منطقة سكن العائلة.
*متى كان  ارتباطكم بتنظيمات الحزب ودخولكم معترك العمل السياسي؟                                                عام 1976 الأخت منى كانت المسؤولة عن رابطه المرأة العراقية في مدينة الناصرية , و بداية انتمائي للرابطة كان عن طريقها , ومن ثم كان انتمائي للحزب الشيوعي بواسطتها ,علاقتي جداً جميله معها كنا نخرج ونناقش الأمور الحزبية أيام التحالف الجبهوي مع الحزب الحاكم بداية السبعينات من القرن الماضي , وكانت دائما تتُابع وتُلاحَق من قبل رجال الأمن في مدينة الناصرية , كان همهم بأي طريقة ليلقوا القبض عليها ,وأتذكر في يوم ما كنا نمشي سويه بعد خروجنا من بيت إحدى صديقاتها لمحنا من بعيد سيارة امن تتابع خطواتها , كان هذا قبل حملة التصفيات لعناصر الحزب ,وكتبت عن هذا الموقف شعراً بسيط لكن اعتقد مؤثر و لم ينشر إلا بعد استشهادها 7/9/ 1986:
 كنا أنا و الموناليزا نمشي على الجسر متونسين                                                                                                                                                                                                جسر الناصريه اللي ما هدته السنين
                                                                                                                                                                                                                                                           كالتلي الهوا عليل أخذي منه اشكثر ما تردين                                                                                                                                                                                                    ومن بعيد لمحنه سيارة                                                                                                                                                                                                                              كالتلي اذا أخذوني الأمن شسوين                                                                                                                                                                                                                أصفنت ..كالتلي أخذي الرقم وللأهل إتبلغين                                                                                                                                                                                                       هذوله يدهسون البشر وهم متونسين                                                                                                                                                                                                              وبعدها بعشر سنين استشهدت واندفنت بأرض غريبة وبأيادي مو عراقيين                                                                                                                                                                أتمنى أشوف قبرج بأرض عراقنا ومرصع بالنياشين                                                                                                                                                                                            تتحدث عن بطولاتج وكل ما تستحقين                                                                                                                                                                                                              ساعتها افتخر وأكول جسدج الطاهر حضن ارض وادي الرافدين.....
 
كتبت هده الأبيات لأنني كما قلت كلما اخرج معها كانت تُتابع من قبل عناصر أجهزه الأمن , وأيضا عندما كانت تخرج لوحدها كانت تتابع بشكل مستمر من قبل شخص بالأمن ومع الأسف هو واحد من جيراننا في منطقه الأسكان يدعى( نعيم مطشر),  وهو نفس الشخص الذي سجل كل المدعويين في حفله عرس أخي داوود( أبو نهران) عام 1976 وقد وبخوه الامن حينداك.                                                       ماذا كان *يحدث من مضايقات لباقي أفراد العائلة  في تلكَ الأيام العيبة والتحالف الجبهوي على وشك الانفراط؟ الشهيدة منى وبكونها معلمه, كانت في بداية الحملة على رفاق الحزب يأتي لمدرستها الكثير من رجال الأمن, لغرض تهديدها لغرض ترك العمل في تنظيمات الحزب, وترغيبها بأن سيجعلوها غنية ويعطوها منصب عالي في دائرتها ,كانت إجاباتها و بكل شجاعة" لا أريد مالكم ولا مناصبكم وحتى لو تطردوني من وظيفتي سأبيع حلزيات بجانب المدرسة ولا أحقق رغبتكم", وعندما كانت تستمر بدوامها قبل الحملة كانت المعلمة المخلصة المحبوبة أمام المعلمات وأمام الطلاب, وبعد إن اشتدت الحملة لملمت ما بقي لديها من هموم وحب لطلابها ومدينتها وقررت الرحيل إلى المجهول, كان هذا نفس يوم فصلنا من ثانوية الحرية  أنا والشهيدة سحر وكوثر , وقد آلمها ذلك كثيراً , وأصبحت عصبيه المزاج وتتسائل لمن حولها من أخواتها " لماذا تركنا المدرسة والمفروض أن نستمر بالدوام غصباً عنهم".
*لكن هنالك سؤال وهو هل كانت الرفيقة منى تنوي الاستمرار  في وظيفتها لتتحدى أزلام النظام من رجالات الأمن ؟
الحقيقه لا نستطيع , فقد هددونا باستدعاء  رجال الأمن ليلقى القبض علينا , وبعدها في نفس اليوم ذهبت منى ولم تعد ولم نراها حتى سمعنا باستشهادها,  لكن قبل أن تستشهد كان رجال الأمن بشكل مستمر يسالون عنها أقربائنا , وكانوا يطلبونها حيه أو ميته , المهم السؤال المتكرر من قبل رجال الأمن , أين هي ؟ كنا نسمع  هذه الأخبار من أقربائنا بعد رحيلنا من الناصرية , وبعد رحيلنا جاء رجال الأمن وصادروا البيت  والآثاث ولم يعد لحد الآن.
لكن لم نعرف ما حلً بالرفيقة أنسام (موناليزا) ؟*
استشهدت الموناليزا في كردستان مع البيشمركه ومع الأسف والحزن الذي أصابنا لم تدفن بيد عراقي بل بيد بعض الأتراك وهم نفسهم اللذين قتلوها على الحدود بين العراق وتركيا , وهي كانت دائما تقول لي "أريد ان أدفن بشمال عراقنا بقبر ناصي ويحيطه الورد والياسمين" وانا رديت عليها  "ارض عراقنا كلها للطيبين " , هذه حقيقة  كنت متألمة بداخلي من اسمع بخبر استشهادها ولم أستوعب ما تكلمت به لي لي عام 1976 , لكن أصبح حقيقة عند استشهادها لكن الغير حقيقي كما قلت قد أسجيت في ارض غريبة وليس بأرض العراق وطلبت  من أخوتي أن تنقل من مكانها هذا وتدفن في أرض كردستان العراق حسب رغبتها , لكن الجواب كان ظرف نقل جثمانها الطاهر في الوقت الحالي صعب , له مخاطر على جثمان الشهيدة الموناليزا .
*متى تمَ ترككم لمدينة  الناصرية واختفائكم في بيوت الحزب السرية لنوثق هذا ويكون شاهد للتأريخ؟
في ليله الرحيل للدار قمنا بتنظيفه بشكل جيد مع امرأة طيبه اسمها أم رزاق وتكون بنت أخت المرأة الطيبة والأم الثانية لامي واسمها أم حربيه , سكنا فتره في مدينه الناصرية للأبتعاد عن  الاعتقال وعيون رجال الأمن وكان معنا في الوكر  الرفيق علي جبار ,عملت أنا وسحر في معمل لصناعة الموطا , كي ندفع إيجار الدار, لكن  الرفيق علي جبار  ترك الدار للاختفاء في  مكان آخر , أما نحنُ فقد تركنا البيت في مساء أحد الأيام , وودعت أمي بشكل سري صديقتنا أم رزاق ,لكن كان الفراق مراً والبكاء عمّ البيت, وكان جواب والدتي لها ,لا تقلقي سنعود  يوماً إنشاء الله , وب بعد شهور سيسقط النظام , هذا كانَ حلم والدتي ,لأنها كانت جداً متفاءلة, ودعت الجارة التي أحبتها كثيراً وكذلك جارتنا أم حربيه التي  توفيت بعد ثلاث سنين من رحيلنا , عند سماع والدتي بالخبر ,كانت تبكي بكاءً مراً  لثلاثة أيام بلياليها وسجلت كاسيت بصوت أمي وهي تبكي وتعزي نفسها برحيل جارتها الطيب’ ولا زلت احتفظ  به لحد الآن , كانت تخاطب أولادها البعيدين عنها اللذين غادروا العراق , وتفرقوا بين البلدان ( اليمن ولبنان ثم كردستان العراق) لمقارعة النظام مع البيشمركة .
*هل كانت العائلة تعيش على مساعدات مادية  من قبل الحزب أم هنالك مصدر مادي آخر ؟
كانت والدتي تعمل ببيع الملابس المستعملة في بداية  الأمر لأنها لم تستطيع الذهاب إلى الناصرية لاستلام تقاعد والدي , كما إنها  لا تستطيع نقله إلى بغداد بسبب ظروفنا الصعبة ,لكن بعزيمتها القويه وهي بعمر(47 ) عام ,كان همها إيجار الدار ومعيشتنا  , مع العلم كانت تسكن معنا في هذا الوكر الرفيقة نادية محمود (نسرين) ,كانَ هَمّ نادية الحصول على بطاقة الأحوال المدنية , وهي مطاردة من رجال أمن البصرة , فما كان من والدتي إلا المجازفة والذهاب معها لدائرة الأحوال المدنية والحصول على بطاقة الأحوال المدنية .        
*ما هي الفترة التي  أقمت   في هذا الوكر  مع الرفيقة نادية محمود؟
بقينا في هذا البيت خمسة أشهر ثمَ بحثنا عن غرفتين في بيت آخر في منطقة الشعلة الثالثة, لكن بدأ الهمّ يزداد بسبب الجرد الدوري  لعوائل المنطقة من قبل أعضاء الفرقة الحزبية ورجال الأمن ,بسبب اختلاف الأشكال والبشرة  بين الرفيقة نادية محمود(نسرين) وأخواتي بدأ يساور الشك أهالي المحلة , وما هي مشكلة هذه العائلة الغريبة  , من هذا تمكنا من الحصول على دار آخر و بسبب الظروف الصعبة وصعوبة أهل البيت.
*هل استمرت الوالد  في العمل في بيع الملابس أم  اعتمدت العائلة في معيشتها على تقاعد الوالد فقط؟
كانَ عمل  السفر إلى مدينة كربلاء أو سوق مريدي لشراء الملابس بالجملة , ولأمانتها والتعامل المستمر مع التجار فكان تأخذ البضاعة على التصريف ,هذه الأم الرائعة عملت المستحيل للحفاظ علينا من كل مكروه ولسد كل احتياجاتنا وكل ما يصيبنا من نعّم نشارك بها الرفيقة نادية (نسرين) التي صارت واحده من العائلة, وكانت تنادي والدتي  بماما , لأنها عرفت إن والدتي طيبه القلب اتجاهها مثلما هي طيبه القلب اتجاهنا ,و لم تفرق أبداً بيننا وتعاملنا بطيبة قلب.
*من خلال  اختفائكم في  الأوكار السرية بعيداً عن أنظار أزلام النظام هل كانت لكم علاقة وتواصل مع تنظيمات الحزب في الناصرية؟
كان عملنا  نقل البريد  الحزبي من الناصرية إلى بغداد وبالعكس , كانت لنا  اتصالات عديده بعوائل  الناصريه, في إحدى المرات خاطرت إحدى العوائل  بحياتها في نقل البريد الحزبي من سوريا ومن لبنان عام 1981 إلى بغداد , ومنها عائله (حسين لفته) عن طريقها نستلم البريد ويتم نقله إلى بغداد,لكن عند اعتقال سحر اضطررنا  أن نترك هذه العائلة حسب طلبهم لأن حياتهم في خطر .
*هل كانت  الشهيدة سحر قبل اعتقالها متزوجة , فأنا علمت من أختك  كوثر بأنها  كانت متزوجة ؟
خلال الفتره ما بين (1981-1982)تعرفت سحر على زوجها (صباح طارش)وهو من مدينتنا الناصرية , وطلب يدها من والدتي ومن أخي جمال وتم عقد القران في محكمه الكاظمية, ومع الأسف كانت الأمور لا تسمح بعرس كبير بسبب الظروف الصعبة التي نَمرّ بها , بعدها قرروا السكن في الناصرية رغم الخطورة, وبين فتره  وأخرى يترددوا على بيتنا في بغداد ,كانت حاملا بالشهر السابع وقالت "اعتقد اكو خطورة علينا سنذهب آخر مره للناصرية ثم نأتي لبغداد نستأجر بيت للسكن " , رحبنا بالفكرة لكن كان قدرهما الحتمي , إذ عندما ذهبوا إلى مدينة الناصرية , بعد عدة أيام طوق البيت وكان فيها سحر وزوجها وشخص يدعى (علي النجار), فقامت سحر بإحراق البريد الحزبي وقص جزء من لسانها , لكن أثناء مداهمة قوى الأمن تمكن زوجها  من قتل  اثنان من رجال الأمن ثم قتل نفسه , وبعد المواجهة اعتقد رجال الأمن إن في داخل البيت أشخاص آخرين, فتمكنوا من اعتقال  (علي النجار) إذ كان  جريحا , وأختي سحر كان ينزف الدم من لسانها بعد قصه , تمَ اعتقالهم  وتعرضوا لشتى أصناف التعذيب في مديرية أمن الناصرية وبشكل مستمر  , ثم نقلت سحر من أمن الناصرية إلى سجن الرشاد في بغداد.
*هل استشهدت سحر أثناء التعذيب أم حكم عليها بالاعدام؟
أول الأمر حوكمت بالسجن المؤبد من قبل محكمة الثورة , لكن المجرم عواد البندر حوله إلى حكمها بالإعدام ,وطول فترة مكوثها في السجن أنجبت ابنها (محمد), ولم تراه سوى دقائق معدودة ,حيث  اخذوا ابنها  منها وظلت تكتب رسائل بخط يدها وعندنا إحدى هذه الرسائل, كتبت لخالي أبو منقذ  تطلب منهُ أن يأخذ طفلها من السجن , وعندما يئست كتبت لعمها أبو زوجها أن يأخذ ابن ابنها موضحه في الرسالة " عمي خذ حفيدك ولا تتركه لهؤلاء وتضيع ثمرتنا أنا والمرحوم زوجي" وبالفعل  حضر  عمها واخذ الطفل خوفا عليه من أن يوضع في ملجأ الأيتام, وقد مات عمها خلال فتره قصيرة , ربما شربوه الُسُم وهو يزورها في السجن , فتقل ابنها إلى عمته آمنة وقد ربته , لكن الأمن لم يترك عائلة زوجها الذي تمكن من قتل أثنين من رجالاتهم ,وقد قاموا بقتل أربعه من أخوان زوج سحر انتقاما , لكن أمي لم تعلم بواقع حال سحر حتى عام 1983 , ولم تسمع بإعدامها حتى عام 1984 , كان موقفها يشرف ودورها بطولي أذهل الجلادين, طلبت منهم أن تلبس بدله زفاف وطيلة فتره الاستجواب رافعه رأسها بشموخ وتقول للسجناء اللذين يعذبون مثلها " أرفعوا رءوسكم  لا تطأطئوها  نحن لسنا مجرمين نحن مناضلين" كانت تحمل قلادة ذهبيه على جيدها قطعتها  بسرعة وزغردت ورمتها على السجناء الذين ينتظرون دورهم في الإعدام  ,لكن أمي لم تعلم باستشهادها معتقده إنها لا زالت في السجن , ذهبت لمدينة الناصرية تسال عنها لكن لم تجد جواب يريحها .                                                 وانتقلنا إلى بيت آخر في منطقه جكوك القريبة من مدينة الكاظمية, كانت الرفيقة نادية محمود(نسرين) كل هذه الفترة  تسكن معنا ولمدة تجاوزت الثلاث سنين, لكن بعد اعتقال سحر بفترة تركتنا نادية محمود ( نسرين ) وانقطعت أخبارها عنا .
*لكن ماذا حلّ بنادية محمود ( بنسرين ) ؟
بعد ترك نادية لبيتنا بشكل مفاجئ, لا نعلم ما هو السبب؟ وبعد فتره كلفني الحزب بالاتصال بها , وأبلغوني إنها طالبه في كليه القانون والسياسة, تم الاتصال بها في الكلية و طلبت منها أن تعود للعمل بفي تنظيمات الحزب بعد أن تركته برغبتها لكن كان ردها لي "ليس الآن لا استطيع ".
وقد أبلغت الحزب برفضها للعمل في تنظيماته  وانقطعت أخبارها فترة طويلة حتى عام 2004 ,فقد تلقيت تلفون من بريطانيا وكانت المفاجأة إنها قالت " قالت ألا تعرفيني قلت لها يمكن اعرف صوتك لكن من تكوني قالت أنا (نسرين ) ناديه محمود وقد عرفت  إنها قد انظمت للحزب الشيوعي العمالي منذ سنين قد أرسلت بعد وفاة والدتي عام 2010 نعّي وهي تذكرها بأمي ولم تنساها في كلمة التعزية .
*لكن لنعود للوكر الحزبي في الكاظمية ماذا حل به؟
المهم سأعود لعام 1983 كنا نسكن في بيت في جكوك و بسبب ظروفنا الصعبه , منها استشهاد سحر وخروج نادية محمود(نسرين) المفاجئ , والتحاق أخي جمال في الجبهة , بدأ العذاب والآلام يزداد على والدتي بسبب التحاق أخي جمال للخدمة العسكرية , وكانت الحرب قائمة بين العراق , وفوق هذا العذاب  لا تعرف عن المصير المجهول لأخوتي الآخرين , فكانت تتابع أخبار معارك الحرب مع إيران  التي تنقل عبر التلفاز عن الشهداء في الحرب ,فتنزوي في أحدى زوايا البيت وتأخذ بالبكاء , , وعندما يعود جمال من جبهة الحرب تبدأ  تدبك الدبكات وتهلهل وتنثر الحلوى  لأجله  , عام 1985 انتقلنا في بيت جديد في الأعظمية ثم بعدَ فترة أخرى انتقلنا إلى منطقة قريبه من النواب ثم إلى انتقلنا إلى مدينة  الحرية في نهاية عام 1985 وفي  عام 1986 سكن  معنا  شخص عرفنا انه من الرمادي وجاء عن طريق الحزب واعتقد اسمه (سلام ) وكنا نناديه باسم آخر, وبقي عندنا بحدود عام ثم رحل , ولكن الأخبار التي نقلت إلينا أنه تم إلقاء القبض عليه من قبل  رجال الأمن  و تم إعدامه , أما جمال فقبض عليه وأودع السجن بسبب هروبه لمدة أربعه أشهر بوشاية من  الجيران وحكم عليه بالسجن سنه ونصف ,ثم أطلق سراحة وسيق إلى الجيش وشارك في حرب أحرى هي حرب الخليج الثانية .    
*خلال الفترة منذ عام 1987  ولغاية عام 1993  هل ما زلتم في بغداد وفي التخفيّ عن أعين أزلام النظام أم التحقتكم ببقية أفراد العائلة ؟
عام 1992 تسرح اخي(جمال) من الجيش وانتقلنا للسكن في مدينة الحرية للاستقرار , كانت تصلنا أخبار من أخوتي ويساهموا ببعض المبلغ لرفع متاعب العمل عن كاهل الوالدة  , لكن طول فترة بقائنا في العراق كانت والدتي  تتواصل مع الحزب وتقوم بنقل البريد للأماكن التي يطلبها  التنظيم , لكنها فترة تواجدها في البيت لم تترك جهاز المذياع , فهي تتابع الأخبار عبر قناة (صوت الشعب العراقي) , وفي مره من المرات كانت تستمع الى إذاعة صوت الشعب العراقي وهم يذيعون أسماء الشهداء وتأتي الصدفة أن تركت الراديو خمس دقائق لترى قدر الطبخ على النار وفي هذه الأثناء أذيع اسم (المونا ليزا وسحر) من ضمن الشهداء وحمدت الله إنها لم تسمع , وظلت لا تعلم باستشهادهنّ حتى عام 2003 وبالرغم من حزنها الشديد لكن كانت كل مناسبة يوم الشهيد تزغرد لأجلهنّ , وكانت كل مره تسأل عن سحر مع أسماء المعدومين , لكن لم تحصل على شئ يريحها حتى  عرفت  طريقة استشهادها عند ذهابها  للعراق عام 2006 , كانت تقول "هنّ بناتي وحبيباتي لكن هنّ اخترنّ طريقهنّ وأنا فخوره بهُنّ ويبقينّ في قلبي حتى الموت" وعلقت صورهن في باحة البيت وكل مناسبه  تمر على تأريخ الحزب تذهب لمقر الحزب وتزغرد لهُنّ ولجميع الشهداء حتى وفاتها  عام 2010.
*هنالك أبيات شعر بحق كُتبَت من قبلك بحق الوالدة , فهل تتذكريها لأضيفها للمال؟
شعر لأمي:                                                                                                                                                                                                                                                      أمي يا معدن الغالي أثمانه ابد ما يصدا ومستحيل تتغير ألوانه                                                                                                                                                                                أمي لأجل الشعب والوطن منحت اثنين من فلده كبدهه                                                                                                                                                                                             وهي راضيه وبكل مناسبة يزغرد السانهة                                                                                                                                                                                                      وقبله كلبهه أمي اللي وكفت ألنه                                                                                                                                                                                                                      بأصعب الضيم والمحنه وشبعت قهر وابد ما اشتكت إلنه                                                                                                                                                                                      أمي يا سور عالي جدرانه وأقوى ريح ما إتهدم بنيانه                                                                                                                                                                                           أمي حبهه للكبير والصغير وكل الناس بيه غركانه                                                                                                                                                                                               أمي هواء العليل الكل صدور المريضة بيه مليانه                                                                                                                                                                                         أمي يا نهر الفرات وماية اللي سقى جيرانه                                                                                                                                                                                                            أمي يا أم الحنان ومهجه القلب وسلوانه                                      
 أمي يا أم الوفه والطيب من الجنة                                                                                                                                                                                                                   أمي عسل صافي لليوم ما ذقت مثله                                                                                                                                                                                                            أمي من كعدت على ماكينة الخياطة                                                                                                                                                                                                              ومن قطع التزود لبست كل محروم من هدمه                                                                                                                                                                                                         أمي من ثوبهه اكص علوك واتبرك منه                                                                                                                                                                                                            أمي يا طير العندليب من الصبح أهدى اشجانه                                                                                                                                                                                                    واطرب كل حزين وزال همه                                                                                                                                                                                                                   يشهدلج ييمه الحزب وبريده بيدج اتضمينه                                                                                                                                                                                                       وبكل شجاعه وحدر لكل رفيق توصلينه لمسه                                                                                                                                                                                                ايدج تواسيني وتبدد وحشه الونه                                                                                                                                                                                                               انتي اعز الناس واغلى غرام ربى بجسمي وشراييني                                                                                                                                                                                  وشما قدمت الج ما اوفي ديني
*ماذا تتذكرين عن حياة الشهيدة ( الموناليزا) ؟ما هي المهمات التي أوكلت للشهيدة من قبل محلية الحزب في الناصرية ,إذ كان العمل على أساس التحالف الجبهوي ؟  
 
ولدت في يوم 23 تموز سنة 1951 في مدينة الناصرية العراقية ، وكانت القابلة حينها امرأة طاعنة في السن اسمها ( أم حسن ) ولها خبرة في التوليد على الرغم من عدم دخولها للمدرسة ، وقد جاء على يديها الى الحياة عشرات الألوف من بنات وأبناء الناصرية لكنها للأسف أخطأت في طريقة سحب موناليزا من رحم والدتها وكانت سمينة بشكل لافت ، فتسبب ذلك في إنحراف عمودها الفقري لازمها طيلة حياتها وكان يسبب لها ألماً مزمناً لكنه لم يقعدها عن مواصلة الدراسة أو العمل كمعلمة أو في البيت لمساعدة عائلتها الكبيرة في كل شيء بل وفي مساعدة الآخرين من الذين كانت على تماس معهم وخاصة في عملها كنصيرة في كردستان العراق فكانت شعلة من الحماس والثورية المتوهجة والتي شعر بها الجميع وإنعكست عليهم خيراً ....."ثم تعاود وتكمل حديثها" في أحد الأيام اصطحبت الوالدة ابنتها الكبرى موناليزا إلى مدرسة الهدى الإبتدائية للبنات ولما التقت بالمديرة الست لبيبة الحمداني طلبت منها أن تسجلها عندهم في الصف الأول الإبتدائي..! كان عمرها خمس سنوات وكانت ذكية وتعرف الحروف العربية والأرقام فنصحت المديرة الوالدة بأن تذهب بها الى روضة الأطفال لكن والدتي أصرت على ضمها إلى طالبات الصف الأول كمستمعة وتجريب إمكانياتها فإن نجحت يمكن أن تعبر الى الصف الثاني وإن أخفقت فستبقى في صفها وتكون قد استفادت من هذه السنة..وأخيراً اقتنعت الراحلة الست لبيبة ووافقت على قبولها كمستمعة عندهم ولما انتهت السنة الدراسية كانت الناجحة الأولى على الصف ,ولما تخرجت من دار المعلمات كانت أصغر معلمة ولم يتجاوز عمرها السابعة عشرة ..! ويصادف تخرجها مع مجيء البعثيين للحكم فتبقى دون تعيين إلى سنة 1972 وتم تعيينها لحين هروبها واختفائها في بغداد ربيع عام 1979 فكانت سعيدة بعملها ونالت حب الطالبات والمعلمات وكل من عمل معها وخاصة في مدرسة البطحاء في ناحية البطحة القريبة من مركز المحافظة وفي سنوات الجبهة الأولى رشحها الحزب الشيوعي لدراسة الطب في موسكو لكنها رفضت ذلك بسبب حبها لعملها المهني والحزبي في المدينة وعدم إستطاعتها مفارقة وطنها وأهلها ورفاقها وصديقاتها" .
*لكن لم تذكري دور المونا في العمل السري , كذلك اختك الصغرى كوثر منشد؟
قد شاركت الموناليزا  بفعالية في مؤتمر الحزب الثالث والرابع وفي ربيع عام 1979 عملت بجد مع عدد من رفاقها في قيادة الحزب في ظرف سري قاهر الى لملمة الصلات الحزبية المنقطعة لعدد من الرفاق والرفيقات الوافدين الى بغداد من عدد من المحافظات وكانت معها إختها الصغرى كوثر لحين مغادرتهن بهويات تحمل أسماء بنات آخريات الى سوريا سراً ثم الى لبنان بعد عدة شهور وبسبب الأمساك بعدد من الرفاق وإستشهاد بعضهم وفي لبنان غادرت إختي كوثر الى موسكو للدراسة بينما أصرت هي رغم ظروفها الصحية الحرجة الى أن تتوجه للعمل في كردستان العراق..فوصلت الى هناك وجرى تقديمها الى عضوية اللجنة المحلية وكانت قيادة الحزب تعتمد عليها كثيراً في عدة أمور ومنها فك الشفرة العسكرية وإعطاء تفاصيلها الى القائد العسكري الراحل أبو عامل فكانت تعرف جميع الأسرار قبل أي شخص آخر وتحافظ على سريتها بكتمان شديد وأحبت عملها ورفاقها جميعاً.
*كيفَ تمت عملية استشهاد  اختك الموناليزا؟
إستشهدت ( الموناليزا )بقناعة تامة في المكان والطريق الذي نذرت نفسها له ويتذكر رفاقها اليوم الذي أسلمت فيه روحها حينما تحركت مفرزة شيوعية للأنصار من قرية زيتة وكان الطريق به صعدة قوية والمفرزة تروم الوصول الى لولان وكان قربها النصير أبو كاوا فقالت له : لا أعتقد أنني سأصل سلامات الى لولان وراح أستشهد ..!.. كانت الشهيدة أنسام قوية الحدس وتعمل عندها الحاسة السادسة بفعالية فكانت تتوقع الشر أو الأشياء المفرحة قبل حدوثها بفترة وجيزة .!.. فطلب منها أن تضع مسافات بين رفيق وآخر حتى لا يستشهد أحد عند حصول أية ضربة..ثم يردف النصير أبو كاوا قائلاً : بعد مدة من الزمن إنعدمت المسافات وكانت المنطقة مستوية ونحن في وضح النهار ولا توجد بها أشجار وكانت الصخور بعيدة أيضاً...وما هي إلاّ عدة دقائق حتى إنهمر عليهم الرصاص من إحد التلال المقابلة لتحركهم حيث كان أحد الكمائن التركية الغادرة لهم بالمرصاد وإستمر إطلاق النار الكثيف الى الساعة الثالثة عصراً وكانت معهم الكثير من البغال التي أصيبت ومات منها سبعة وجرح اثنان ونجا البغل الذي كان يحمل على ظهره البريد الحزبي وجرح بعض الأنصار وإستشهدت النصيرة موناليزا وإسمها أنسام ولم يتمكن أحد من إنقاذها وهي جريحة أو أن تسحب جثتها ولما هدأت أصوات الإطلاقات النارية وبعد عدة ساعات تقدمت القوات التركية الكامنة من أماكنها وسحبت جثة الشهيدة أنسام إلى إحدى القرى التركية القريبة من الحادث فقامت زوجة المختار بتغسيلها وجرى دفنها في تلك القرية القريبة من الحدود العراقية واستطاع الأنصار جميعاً إنقاذ أرواحهم وكان من ضمنهم دليل المفرزة أبو هادي وأبو باسل وأبو سرمد وأبو سطيف وأبو كاوا وأبو جاسم وزياد وعادل عرب وغيرهم وحدثت الواقعة المؤلمة في يوم الجمعة المصادف في السابع من أيلول عام 1986 فكانت الشهيدة أنسام أول شهيدة من شهداء مؤتمر الحزب الوطني الرابع وكان استشهادها صدمة كبيرة لعائلتها وللحزب وترك حزناً ومصاباً كبيراً لجميع من عرفها وعمل معها ولا زال الكثير من الشيوعيين وخاصة الأنصار يتذكرونها وكتب عدد منهم القصائد عنها وعن استشهادها كذلك فقد نعاها المكتب السياسي للحزب بكلمات رائعة ومعبرة وأرسل النعي لي ولعدد من أفراد عائلتنا وجرى عمل مجالس تأبين لها في بعض الدول ومنها كردستان العراق وبلغاريا..عاشت موناليزا 35 عاماً فقط من 23 تموز 1951 والى 7 أيلول 1986 وهي في أوج شبابها وعطائها وكانت حياتها قصيرة جداً لكنها زاخرة بالحماس والنشاط والحيوية التي ليس لها نظير ، وكانت حقاً حياة حقيقية عاشتها بكل لحظاتها لحب الآخرين والتفاني في سبيلهم ومن أجل مساعدتهم ناكرة ذاتها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى..المجد للشهيدة الخالدة أنسام ولمثيلاتها وأمثالها النادرين في وطننا العراق.
*لكن ماذا تقولين لمن أنجب مثل هذه العائلة والدك ؟
قبله على جبينك يا أبي عندما انظر إلى الآباء من حولي وانظر إلى الأبناء في كوني أرى هذا يشتم أباه .. وهذا يسب أباه .. وهذا يلقب أباه بأبشع الألقاب , لا املك إلا أن أطبع على جبينك قبله يا أبي , يكفي انك ربيتنا نعم التربية من اجل حياة جميلة, فيها التسامح والمحبة وخالية من الأنا وقبلها كرست كل حياتك من اجل تعليمنا علمتنا حب الآخرين مثلما نحب أنفسنا , علمتنا أن نُحب وطننا الكبير مثلما نحب الوطن الصغير .                   لعائله لا املك سوى أن أطبع على جبينك قبله , عندما أرى حالات العنف الأسري وكثرة انتحار الفتيات وجبروت بعض الآباء, لا املك سوى أن أطبع على جبينك قبله, كم عانيت من المرض وفقر الحال, شقيت لكن الابتسامة أبدا لم تفارق شفّيتيك, لا املك سوى أن أطبع قبله على جبينك, لم أنسى غيابك الطويل ورحيلك الأبدي للبعيد, ولكن مكانك في قلبي لا يتغير مهما طال الرحيل, لا املك سوى أن أطبع على جبينك قبله, يكفي أن اسمي مرتبط باسمك وبه أتذكرك كل يوم وازداد به فخرا, فلكَ الفضل به بعد الله بوجودي وسأظل أتذكرك حتى لو طال الفراق 35 عام سيظل قلبي يلهج بالدعاء لكَ يا أجمل أب.
 إن المرحومه أمي هي من كانت توصل البريد الحزبي من لبنان ومن سوريا الى بغداد و عائله حسين لفته كنا نعرفها عن طريق الحزب ,كانت أمي تخاطر بحياتها لأجل الحزب وبكل شجاعة وأيضا انك نسيت أن تكتب عن خروجنا أنا وسحر من خلال احمد الناصري ولقائنا بالرفاق الشهداء صاحب ناصر وفيصل ماضي وحسن مرجان ونجيه الركابي وأختها هديه الركابي وعن حياتنا أنا وسحر مع هؤلاء حتى رجوعنا إلى الناصرية.
لقد كتب الكثير من الشعراء  بحق شهيدة الحزب التي قاتلت وقارعت النظام في الداخل وفوق قمم جبال كردستان العراق , منهم الشاعر الراحل كامل الركابي بقصيدة بعنوان (ليالي الغايبين.. إلى الشهيدة أنسام):

والشاعر  حميد الموسوي كان له قصيدة بحق الشهيدة انسام:
انسام ويفيض الدم
بسواجي إربوعنه ويروي
أراضينه
أنسام الشراع الماتهزه الريح
أنسام الشراع الشدته مايطيح
وتحت هذا الشراع إحنه بحرنه
وبيه تباهينه
أنسام ويفيض الدم
وبليلة زفافج بيه
تحنينه
علكًنه الشمع للملكًه
نثرنه الورد للزفه
وبلحن التحبينه
تغنينه



288
قراءة في الوعي ونشوء فلسفة الترميز ... للكاتب جُمان حِلاّوي



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   جاهد المؤلف في طرح وتوضيح آراء وفلسفات الباحثين حول نشوء فلسفة الترميز, الكتاب جريء في طرحه ملتزم في معالجاته , لم يهمل القاصي والداني من تفاعلات وممارسات , وآراء كانت مبهمة , أو معزولة , لكنها في النتيجة نتاج يصب في الوعي الإنساني المميز  كتميز الإنسان نفسه , الوعي وما فعل وما ابتكر , ويبتكر ويكوّن ويخلف , هو نتاج  عقل الإنسان و عمل إنساني خالص  , فهو بحث علمي  يحمل موضوعاً شائكاً لكنهُ شيق و ضروري .
  صدرَ عن دار تموز للطباعة والنشر – دمشق لهذا العام , كتاب للكاتب جُمان حِلاّوي  (الوعي ونشوء فلسفة الترميز , بحث انثروبولوجي) الكتاب يحتوي على (440 صفحة) , وقد قسم الكاتب الكتاب إلى ثلاثة بحوث مضاف اليها  المخططات والخرائط المهمة التي تفيد القارئ,محور البحث ونشوئها ومعنى الوعي وامتداداته الايجابية , ثم ماهية الفلسفة وعلاقة الترميز بالتجريد والوعي , كما يشير الكاتب الحِلاوي إن تعريف الانثروبولوجيا هو الأساس الدلالي لجميع مفاصل الكتاب ومباحثه وهوامشه والعمق الفلسفي لما حاز به من معلومات أكاديمية , ثم يعرّج على مفهوم الوعي وتطوره عند الإنسان الذي امتلك هذه الخاصية داخل التجمعات الاجتماعية ومفهوم الزواج من خارج القبيلة الطوطمية , فهو الواجهة العريضة لتطور الوعي لدى الإنسان  وتنظيم حياته  لا على أساس السيطرة على الطبيعة , بل السيطرة على النظم الاجتماعية , مما نقلته من الزواج الجماعي  القريب من عالم وطبيعة  الحيوان  إلى تنظيم محكم من علاقات عشائرية أسرية في تحريم زواج الأقارب والارتباط بالدم , إلى رابطة فكرية أكثر نضجاً .
     ويوضح الكاتب جُمان الحِلاّوي إن الأسطورة هي عبارة عن ( دين ذلك الجمع البشري الذي خلقها الإنسان البدائي  في مخيلته كمدونه مع طقوسها ) مما أصبحت ثقافة ذلك المجتمع , ويعقب الكاتب على امتنانه لمن علَمه كيف ينظر للحياة والوجود ونظرة علمية تجريبية صحيحة وكيف  يفكر بمنطق العِلم , ويعتبر الكاتب الحياة (ظاهرة تم نشوئها بطريقة صحيحة التسلسل , إجبارية المسار وبخط متصل وانسيابي مع الطبيعة , لا تدرّج فيه لدرجة أنَ  ما من أحد يستطيع أن يحدد النفقة التي بدأت بها ) , أما حكاية الأسطورة ففي اعتقاد الكاتب  هي ضرب من خيال الإنسان , لكنها نتاج مهم وعظيم.
   وقد اتخذ الكاتب من عنوان الكتاب (فلسفة الترميز) للتعريف الطبيعي للوعي , فالرمز تطبيق للوعي وامتداد  طبيعي لهُ , إذ  لا يمكن للإنسان أن يتعامل مع المحيط إلا من خلال المقارنة والاستنتاج واتخاذ القرار والرؤية المستقبلية في انتقال المؤشر على سبيل المثال إلى رموز تتقارب مع امتدادات  المخزون والمنطقية , مما خلقت مفاهيم كانت  مقرراتها صميم الوجود , بل سطرّها  الإنسان الوليد ( ألهه وملاحم وأساطير وموسيقى) من خلال فن رفيع , أو جسدها منحوتات أذهلت العقول , وهذا ما ندعوه  بالخيال وهو نتاج الابتكار . ويذكر الكاتب بأن الحياة " هي  الباعث لكل وجود ليتحرك ويأكل وينمو ثم يموت أو يفنى " وما من أحد يستطيع  أن يحدد النقطة التي بدأت عندها الحياة ,  لكن يؤكد الكاتب بأن الحياة تتناقض بشكل طبيعي  ومادي بحت , تسبب في تحول التراكم الأيوني الكمي إلى تراكم نوعي تخصصيّ.
 أما الطبيعة فيذكر الكاتب إن العلماء يعتقدون بأنها  تسريع للتفاعلات الكيمياوية , وقد طورت  قبل نحو (4) مليار سنة بطريقة تقنية لحل هذه المسألة التي بدونها لبقي نشوء الحياة غير ممكن , فقد نشأت الحياة حسب رأي العلماء من مركبات عنصر الكاربون ووجود المناخ الملائم  للاندماجات الجزئية في تكوين البروتينات أساس الخلايا الحية, وكانت التجمعات في البدء ذات تكتلات  كميّة أخرى تعرضت نتيجة للتغيرات المناخية المتطرفة ليبدأ التخصص الدفاعي لبناء الكتلة ونموها وانقسامها وتكاثرها , فكانت أدنى أنواع التميز الانتقائي ونشوء الحياة في أبسط  أنواعها.
  كما يشير الكاتب إلى أن الوعي هو" نتاج تطور المادة الحيّة وهو الشكل الأسمى والأكثر تعقيداً  لخاصيتها المتميزة " أي الانعكاس , فالمادة الحيّة وجدت وكانت قبل الوعي وسبقته في عملية التطور , وكان ظهور  الوعي بعد الحياة هو خطوة لا بد من حدوثها  , ويشير الكاتب إلى مثال " إن الدماغ  في نمو مستمر بسبب الحاجة المستمرة لفهم المحيط والتعامل معهُ وإدراكه , مما كان الوعي نتاج التطور الذي حصل  في مادة دماغ الإنسان الكامل .ولانسنة  الإنسان كان الفكر هو النتاج الحتمي للوعي الذي يمكن تصوره كبرنامج  مرمّز في جهاز  الدماغ  المستلم للمؤشر الخارجي وتحليلها , مما يؤكد بعض الفلاسفة إن المادة بدون وعي  وهذا منطق خالي من التوازن الوجودي , إذن  الوعي حسب ما يشير إليه الكاتب  هو " تركيز الوجود وتعميم الخاص " لاستخراج أسس لمفاهيم عامة  تطبق على حالات شبيهه أو أخرى نقيظة " كالفرح  والغضب والخوف والحب والصداقة وشعور العداء والجوع والتخمة " مما يحفزها هنا لإبداع الإنسان , كما توضع قواعد جديدة وتتبلور أفكار ومبادئ  ونشاطات جديدة نوعياً , لكن الكاتب يؤكد على أهمية الإبداع وذلك " لو لم يكن الإبداع لزاول الإنسان شأنهُ شأن الحيوان, نفس التشكيلة من أنواع النشاط  المنقول بالوراثة , لكن الإبداع هو تلك الحاجة العقلية للإنسان  والتي تميزهُ عن سائر الكائنات الحيّة, لذلك يؤكد الكاتب على اعتبار الترميز والتجريد الواجهة العلنية للوعي, والتطور الحياتي للإنسان , فكان لا بد  من العمل على الحماية والبقاء , واعتقد كانت هنالك موازنة إذ خسر الإنسان حمايته الجسدية , لكنهً كسبَ  مادة مخيّة تعادل مئات المرات  المادة المخية للقرد مما بدأ بالتفكير , نلاحظ أن القرود تعتمد على أيديها  على السير على الأرض , واتخذت أكثر فأكثر مشية  عمودية للانتقال من  القرد للإنسان , بسبب هذا التطور الإجباري أو أتى إلى  فناء الأجداد وهم  أحفاد القرد الجنوبي الأفريقي , من هذا  يصرح الكاتب بأصل الإنسان هو قرد وفق نظرية دارون ( أصل الأنواع)  ولدعم هذه النظرية , لكن هذا النوع من القرود لا وجود لهم الآن  في الحياة سوى احفوراتهم , وهذا يؤكد على أن الحيوان لا يمتلك وعياً , وأشار الكاتب بأن  الوعي هو النتاج الطاقوي للمادة الدماغية  التي تركب مفردات الواقع المحيطي المادي إلى أخرى إبداعية  , لا وجود مادية لها " كالثور المجنح لدى الآشوريين أو طائر العنقاء الخرافي المقدس لدى قدامى المصريين " من هذا نستنتج إن الخطوة الحاسمة قد تمت واليد قد تحررت وأصبح بوسعها أن تكتسب  مهارات جديدة مما انتقلت المرونة المتنامية وراثياً جيلاً بعد جيل , مما يتوضح أن اليد ليست أداة عمل فقط بل هي نتاج عمل .
  أما ما يخص التطور والتكييف  لحواس الإنسان فيؤكد الكاتب  إن الحاجة تخلق لنفسها عضواً من خلال الحنجرة للتكييف وإخراج الأصوات مما برز  لدى الإنسان لأول مرة ما يسمى بالنطق و يؤكد الكاتب في ص44  إن "تطور الدماغ باستمرار أدواته المباشرة  وهي أعضاء الحواس , إضافة إلى أن اللغة هي النطق الواعي ووسيلته فاللغة  شكل  للتعبير عن الفكر وهي منظومة رموز خاصة وتعتبر اللغة سِمه للإنسان ورافعة لتحسن  في أعضاء حاسة السمع بل في كل الحواس كونها مرتبطة بتطور الدماغ" , كما يؤكد في الصفحة ص45 إلى " أهمية  الغذاء وتأثيره الملائم لكسب الدم  تركيباً كيمياوياً  وبتغير بنيانها  الفيزيائي لان التغذية اللحمية كانت عنصراً هاماً  لإضافة  العناصر السالفة الذكر في الإسراع في التحول نحو موضوع الإنسان كونها تحتوي  على المواد الأساسية التي تحتاجها أعضاء الجسم ... إن التغذية اللحمية لها التأثير الواضح  على الدماغ البشري "إذ أخذ الدماغ يتلقى المواد الضرورية لتغذيته وبالتالي تطوره ", ومن خلال التغذية اللحمية  اوجد الإنسان مفصلين مهمين في حياته هما اكتشاف النار إضافة إلى تدجين الحيوانات مما قاد ذلك إلى خلق المجتمعات البشرية .
ثم يشير الكاتب بعد أن يؤكد إن الوعي والخيال والتنبؤ لدى الإنسان بسبب ملاحظة المتغيرات المحيطة به , وان فكرة الخوف هي من أولويات  تفكير الإنسان كونه جزء صغير جداً من محيط كبير يضغط عليه , والخوف هو الاستبيان الواعي لما قد يحصل من منح الطمأنينة ومبعدة لفكرة الموت والفناء ونحو عوالم من الخيال أرتأها سرمدية أفضل حالاً , من هذا نستنتج إن الوعي الإنساني هو التنوع النوعي لا الكمي , كم أشار الكاتب إلى أن مفهوم الفلسفة "هي الرأي الواعي المؤثر الخارجي , للإحاطة بمعطيات مادية  ايجابية كانت أم سلبية , وتكون نسبة الوصول إليها إلى حقيقة الموازنة الطبيعية مقياساً  لاقتراب هذا الرأي  إلى النظرية التطبيقية من  هذه الفلسفة  , هي  نتاج الوعي ولا يمكن لفلسفة  شعب ما أن تتجاوز مستقره الذهني الذي يترافق مع تقدمه في مجال أساليب الإنتاج , وبذلك كانت الثورة الباليوليثية في تأريخ الوعي تبدأ بالإنسان بلملمة أموره ليأخذ منه  أفكاره وابتكاراته , فكانت الآلهة التي سطرها المفكر السومري والبابلي والفرعوني  والهندوسي والإغريقي وغيرها من الحضارات الثورية المنسلخة من تجمعات مشاعية  حاولت بذكائها الانفصال عن همجية ودونية الكائنات الأخرى , ويذكر الكاتب في ص51 عن تحرر الفكر عن الجمود وإعطاء صفة" الديالكتيك , لكنه كان الديالكتيك الفكر هو مصدر الوجود , فكانت المعادلة مقلوبة  رأساً على عقب كالهرم ... استوجب القول بديالكتيكية الطبيعة وليس  الفكرة , والفكر هو نتاج الطبيعة وليس خالقها  وانه حركة الفكر ليست إلا انعكاساً لحركة المادة المنقولة إلى دماغ الإنسان ,  ومتحولة فيه , وان الفكرة الديالكتيكي الهيغلي هو نتاج الخصائص الديالكتيكية للكائن وليس العكس  , وبالتالي يكون تطور الفكر مرهون بالكائن ونضجه من خلال تطور أساليب الحياة" , وقد اهتم العلم  الانثربولوجي بوصف وتحليل النظم الاجتماعية  والتكنلوجيا  ببحث الإدراك العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته  ووسائل اتصالاته.
أما المبحث الثاني الذي يخص النضوج الطبيعي يشير الكاتب في هذا المبحث على شرطين مهمين , النضوج العملي والنضوج الفكري , هما شرطا الاستمرارية , وشرط التواصل , أي لا يمكن أن يكون نضوج الإنسان منطلقاً لما سبق , ولا يمكن في الوقت نفسه الانقطاع عن المحيط كنضوج الثمرة والفكرة والنضوج مرهون بمفهوم الحياة , وهو مصطلح جاء بعد بذرة الحياة , متمثلاً بالتخصص النوعي , كما يؤكد الكاتب في ص65" إن مراحل النضوج للوعي يمر في الكائنات الأكثر تعقيداً من الوعي الآني  الانفعالي إلى تكوين الأفكار والمفاهيم , فالوعي الانفصالي نضوج يخدم الحركة الآتية للمؤثر عكس الأفكار التي تعطي تصوراً عمومياً للمحيط مختزلة مفردات الوجود برموز محددة... تعطي استباق وتصور لما يجب أن تكون عليه الأمور مستقبلاً" , من هذا يمكن معرفة وتمييز  حضارات العالم عن طريقة المواد المستخدمة في بنائها وتم تصنيف الحضارات حسب المواد المستخدمة , فكان العصر الحجري ثم البرونزي والحديدي , وكان هذا التصنيف قد جاء من قبل العالم الدنماركي (نوفرن) ثم يشير الكاتب إلى المراحل التي مرّ بها الإنسان منذ العصر الحجري القديم حتى  يومنا هذا , وهو يفصل التطور الحاصل في كل عصر من العصور , وما ظهرت فيها من إبداعات  واكتشافات , وكيفية استغلال الوعي لدى الإنسان للسيطرة على محيطة بتحويل مادة المحيط إلى أشكال ولوازم لا وجود لها قبل وجود الوعي , مما جعلها في خدمة ديمومة الحياة , فبتطور  وسائل حرث الأرض والزراعة والتبادل والمقايضة , ظهرت المسكوكات المعدنية ومن ثم الورقية , لذا ظهر مفهوم التغريب , أي  تحول الجهد الإنساني  إلى سلعة  أو بضاعة مقابل الأجر لديمومة  الحياة .
  ثم يشير الكاتب في المبحث الثالث  إلى فلسفة السحر  ونضوج الوعي , فهو مصطلح قد يتبادر إلينا بالعمل الخارق  الذي لا ينسجم مع الواقع الطبيعي , ومن هذا يستدل الكاتب عل إن " تحول الإنسان  من كائن متجاوب سلبياً مع تغيرات المحيط إلى كائن (الفرد) وتجمع( كمجتمع) فكان  السحر أول ابتكار ترميزي  للتفاعل مع الطبيعة إيجاباً , ثم يحمل الكاتب وفق مبادئ الشبيه ينتج الشبيه , كأن يطلب من المطر أن  يسقط وليس هناك من مسبب مادي لسقوطه كالغيوم  في السماء وغيرها , فأفراد العشيرة يجمعها نظام أسمي بالنظام الطوطمي الذي يخلق  التماسك وجوهر الجماعة , مأخوذاً عن قبائل الهنود الحمر , قد يمثل نبات أو حيوان  , ويذكر الكاتب " إن  الغريب في الأمر , الرابط الطوطمي وجد أقوى من رابطة الدم , كما يؤكد افرديوم في كتابه (الطوطم والتابو) , معتبراً رأيه  ليس مقياساً في هذا الموضوع متعدد الأوجه , بل  هو واحد من  مقاييس أخرى سيتم طرحها " , ثم يذكر الكاتب قانون العشائر الطوطمية في ص 72 , و يعرض  الكاتب آراء الباحثين في طريقة الزواج من خارج العشيرة منهم ( دير كايم , فرويد , موغان , ) وموقف الكاتب جُمان حِلاّوي منها, ويعقب عن أصل ألديانة  الطوطمية ويعتقد الكاتب إن الطوطمية  تمثل مرحلة  طبيعية في كل حضارة , برزت حاجتنا إلى ضرورة  فهمها وجاء لغز طبيعتها وأهم لغز فيها هو منشأها , ثم يعرض الكاتب بعض الديانات القديمة   التي تأثرت بالطوطمية  من الديانات السحرية الشامانية والأفريقية  البدائية  في شبه الجزيرة الهندية وأسفار الفيدا والطقوس السحرية لها .
  وقد أضاف الكاتب ثلاث ملاحق تخص  الدماغ البشري والريادة الجغرافية في إثراء علم الانثربولوجيا وآخر لتعريف أهم الرموز الأسطورية والمقاربات بين الثقافات , أما الهوامش فهي ثلاث  تخص الثنيوية في التفكير ونشوء الدولة والتغريب وتعريفة ومفهومة  ويعتبر الكاتب إنها تسمية مرادفة للمفهوم الاقتصادي (فائض القيمة), كما يؤكد   على عدم إهمال القارئ الكريم  لهذه الهوامش عند مطالعة الكتاب  فهي جاءت مكملة  وموضحة جوانب كثيرة من مادة البحث , وان  إهمال قراءتها  على اعتبارها موضوعات أضيفت كمتعلقات زائدة وهذا ما لا ينطبق على هذا الكتاب ,مما يسبب نقصاً في المعلومة المراد إيصالها للمتلقي, من هذا فالكتاب مهم وهو عرض  لما يخص الوعي ونشوء فلسفة الترميز لحقبة قديمة ودراسة الشعوب الانثربولوجيا وفلسفة سيوسيولوجيا الشعوب والتجمعات في أي زمن ضمن التطور الذهني لها  الذي يتابع تناوبياً مع تطور مستلزمات ووسائل الإنتاج .
وقد صدر للكاتب جُمان حِلاّوي ثلاث كتب هي "سقوط المختارة عاصمة الزنج (سيناريو فلم ملحمي) عن دار الينابيع للنشر في سوريا , كذلك مجموعة مسرحيات أخرى ( مجنون)  ومن نفس الدار أعلاه والكتاب الثالث هو ما عرضناه أعلاه.




289
المفكر هادي العلوي ويوتوبيا السلطة المشاعي



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   في محلة العباسية ( الكرادة حالياً) عاش المفكر الراحل هادي العلوي طفولته , كانت خلافات الأخوة الفكرية تتردد على ألسنة أبناء المحلة , فتجد أحدهم يردد بدون مبالات :" لا شيء.. سيد هادي وحساني عادوا إلى خلاف الأفكار"  ,كانت الخلافات  بينَ الأخوين هادي  وحسن العلوي حتى رحيل المفكر هادي العلوي الحياة في إقامتهُ الدمشقية , فكانت  لقاءاتهم  لا تنتهي بسلام , لها جذور من تربة العباسية , فهادي العلوي متمسك بالفكر الماركسي الناري وحسن العلوي متمسك بالقومية العربية ومعادياً في ذلك الوقت للزعيم عبد الكريم قاسم.
   أكمل الدراسة الابتدائية والثانوية في بغداد  عام1950 ولكن مكتبة جدهُ السيد سلمان الغنية في مجال التراث والفقه واللغة  والتاريخ كانت لها التأثير في بداياتهُ الفكرية , فقد تخرج من كلية التجارة والاقتصاد بتفوق عام1955  ورفضَ مصافحة الملك فيصل الثاني حين وزع الشهادات على المتفوقين.
   واكبَ العلوي على دراسة التراث الإسلامي  في وقت سعى لإطلاعه على ثمار الحضارة  الإسلامية والعربية منذ بداية الخمسينيات , كما ساهم في الحركة الوطنية العراقية , وتحول في وقت مبكر إلى الفكر الماركسي وخرج من العراق في وقت مبكر بعد المضايقات من قبل السلطة , مما مهد لهُ الشيخ جلال الدين الحنفي  السفر إلى الصين لحاجتهم إلى من هو يعمل في الجانب الثقافي والفكري , ثم تنقل عام 1976 بين الصين ولندن وبيروت ودمشق حتى رحيله  عام 1998, فقد لقبَ نفسهُ قبلَ رحيله بأعوام بـ ( سليل الحضارتين) أي الحضارة الإسلامية والصينية , وقد علقَ على باب داره في دمشق لوحة كتبَ عليها ( هنا يقيم سليل الحضارتين هادي العلوي) .
  كانَ الراحل في بداية الستينات  محتفياً بالنظرية الماركسية  العلمية , وقد انعكست وأضاءت لاستغراقه في التراث العربي الإسلامي  بصورة رائعة جداً من خلال كتابه ( الحركة الجوهرية) لكن هذا الاستقرار سرعان ما زال وبات مرحلة الاضطراب السياسي الاجتماعي للراحل وتعيد تحفيزه في أعماقه, فراح يضفى عليه صفة ( المفكر الثوري) بحيث دُفعَ  إلى مدى عصي على التوجيه والسيطرة بكل فصائل اليسار فأصبحَ هادي حزباً متطرفاً في ذاته لا يستقر على موقف سياسي, فهو لم يصبح داخل حلبة المعترك السياسي المشروط بالحذر والاعتدال, فكان يستمرئ ذلك ويغذيه بدفء  اليقين والاندفاع حتى رحيله إلى الصين , فقد تحولَ إلى الزاهد  بالقناعة والتواضع واحتضانه الحرمان بالعنف واجتهاده  في إحالة كل ذلك إلى قوانين حتى بات مفكراً متصوفاً متروّحناً , بمعنى الذات الباحثة عن الحقيقة لصالح الذات المتولدة عن اليقين , يتعامل مع قوة الحياة عبر الشاعر والمتصوف فيه , وينعكس ذلك في فيوضات نثره وشعره حتى أطلقَ على صوفيته  تلكَ اسم ( الصوفية الاجتماعية) , فقد انتخب من( لاوتسه , تشوانغ تسه , أباذر , الحلاج , النفَرٍي , أبا العلاء , عبد القادر الجيلي ) وإنتهى بالمحدثين ( كوته , ماركس , تولستوي ) فقد وظفَ  تلك الجذور إلى معترك العقائد المشهودة , فكانَ يُرمْ نفسه من ملذات الحياة ويدعوا إلى الزهد والحرمان لاعتباره معياراً للمجتمع الصالح , معَ أن النزعة النباتية لديه  كانت وليدة دوافع تدميريه  حتى تطبع هادي العلوي عليها  وعززها بشديد الضعف, يسير الانقياد في يوتوبيا المشاعية , كان يباهي كالطفل بأتباعه من أنصار لا يحسنون  قراءة نصًه.
   إن يوتوبياه التي تتطلب عنفاً قسرياً لتطبيقها على الأرض العراقية والدعوة إلى ( دولة المشاعية العراقية) سيئة الطالع لتبدوا  أخطر من الايديولوجيا  , من خلال وضع  مجموعة من القوانين التي تفرضها و المؤسسات التي تُحَدّد  معالمها , كانت يوتوبيا ( السلطة المشاعية ) التي أحاطها بعلماً غير قاصر أبداً,  فانتابهُ  حُلمّ غريب  تسلطَ على عقله , فتصور إن التغييرات القادمة ستؤدي إلى إصلاح كامل للجميع , وإن اللحظة قد حانت لإقامة جمهورية عالمية , ستكون تحتَ قيادته.
   لكن هادي العلوي كان يحاول أمراً جديداً من خلال كتابه ( مدارات صوفيه .. تراث الثورة المشاعية في الشرق) بإيجاد جذور لهذه المشاعية في التراث الشرقي  وفي الموروث الصوفي , فالكتاب بيان تأسيسي يعتمد لغة غاية في التلقائية والتًدفق والدقة  والرشاقة معاً, فكانت ( يوتوبيا المشاعية) التي أعدها العلامة العلوي وخص بها الشعب العراقي  جاءت في  ظرف لم يعد فيه هذا الشعب يحتفل بمزيد من الحلول اليوتوبية  التي أنهكته  على مدى نصف قرن وذهبَ ضحيتها ملايين من أبناء الشعب بين قتيل ومفقود  ومشرّد , فكان يدعو إلى تشكيل وزارة التنظيم المشاعي في العراق وبث اللجان المشاعية في كل حي وقرية لكي يدافعوا عن أسواقهم  ومطاعمهم الشعبية  ومستشفياتهم المجانية ضد الدولة, فكانت هذه الفقرة قد كشفت عن  الجوهر العقائدي للعلامة العلوي , فهوَ ابن المِحنّ التي لا يليق إلا أن يكون  ضحيّتها , ولكن كتابه ( مدارات صوفية ) رائع رغم ذلك لكونه يعتمد جوهراً محاطاً  بمعارف واسعة  وعواطف فيّاضة , على أن تقود إلى عالم الرؤى الممتحنة بالوجود المطلق .
   لكن هادي العلوي ممتلئ  بهذه الحقيقة التي يمكن الإحساس بها  في كتابه إذا ما استطاع المتلقي أن يغض الطرف عن المقالات فيه , والنزعة  اليوتيوبية التي تتمّ عن فقدان بعض الخبرة .
  كانَ لهذا العلامًة الدعوة في إبراز دور الفقراء الذينً تَميًزوا  بفضيلة الفقر خارج معركة  التاريخ , فكانً يدعوا لنصرة الفقراء  وما الفقراء إلا وسيله وهوً الغاية ولو تَمثلَ الفقر رجلاً لهُ لما قتله , فهم سادة الدنيا , هذا كان حُلم  العلوي في دولته  المشاعية .
 
  سنواته الأخيرة:
   كانَ العلامة العلوي في سنواته الأخيرة يرفض ارتداء الملابس الغربية ذات الصنع الأمريكي واستبدلها  باللباس العربي التقليدي , كانَ أكلهُ النباتي الصارم , يجلس طوال اليوم يضع حقيبتهُ السوداء المستطيلة على فخذيه وهي مكتبهُ الوحيد في ترحاله وسفره , لا يطمأن للشعراء لأنهم  ضعفاء أمام حضرة السلطة , كانً متصوفاً  منذُ نشأته الأولى ثم ماركسياً متفانياً ثمَ صوفياً اجتماعياً متفانياً , لكنهُ كان حماسياً تجاه شعر أدونيس لأنهُ أول من اكتشفَ  في أدونيس  جانب المفكر العقائدي , ووجد في شعره جانباً ينطوي  على رسالة ومواقف.
   في غرفة الاستقبال المتواضعة كان يعلق على الجدار صورة ماركس وجيفارا وملصقات الانتفاضة الفلسطينية وبعض الأبيات الشعرية المثيرة, وقد فرشَ أرض الغرفة سجادة واسعة لا يطأها أحد بحذاء ومكتب خشبي كان حافظ لأسرار بيته , فحين يزورهُ صديق ما ويريد أن يسًر زوجته أم حسن بشيء  لا يصح  أن يسمعهُ أحد أو التحدث معها باللغة الصينية حتى رحيلهُ الأخير في حالة  الغيبوبة التي أصابتهُ وقد استغرقت (20) يوماً بسبب الاختناق الرئوي الذيً حَلً به فقد أوقفَ  قلبهُ عن النبض تماماً صباح يوم 27-9-1998 في إحدى غرف  مستشفى ( الشامي) في دمشق, لم يرزق بأبناء فكن من كلماته اللاذعة ومزاحه بقوله ( إذا جائني  ولد أسميه ذو السلفتين لأننيً حينما تزوجت أخذت سلفة الزواج وسلفة رهون.
 





290
من ذاكرة الديوانية.... الحركة الكشفية في مدينة الديوانية


قيس شاكر أمين وعماد مهدي وعصام محمود و احدا بناء سيد هادي التنكجي ومحم

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    إن أول  تنظيم كشفي في العالم كان على يد القائد العسكري بادن باول في انكلترا, بعد ملاحظته لتحركات كشفية أقيمت بجزيرة براونسي في جنوب إنكلترا في يوليو عام1907 ,كان للطلبة دور مهم في القيام بالأعمال العسكرية , كالحراسة والطهي ونقل الرسائل , وكان عدد المشاركين عشرين فتى , وفي عام 1909 نشر بادن باول  كتابه ( الكشافة للأولاد) الذي ترجم إلى عدة لغات,وفي عام 1910 بدأت منظمة جديدة للمرشدات أنشأتها أخت بادن باول .
     أما أول حركة كشفية أنشأت في العراق , هي فرقة المدرسة السلطانية في بغداد عام1905 , وقد انحلت هذه الفرقة  عام 1918 بسبب الحرب العالمية الأولى, وما كانت الحرب تنتهي حتى بدأت الفرق الكشفية تنشأ في المدارس  وفي ألوية العراق ولكنها ظلت محدودة النشاط إلى عام 1921 حين تولى الملك فيصل الأول رعايتها عام1921, فبدأت في الانتشار واهتمت وزارة المعارف العراقية  بإقامة المخيمات التدريبية كل عام لمدرسيها , لإعداد قادة الحركة الكشفية , وكان لهذا أثر نهضت الكشافة المدرسية نهضة كبيرة, وأقيم في 27-3-1924 استعراض كشفي كبير في بغداد حضرهُ الملك فيصل الأول, وفي 31-5-1934 تم تنصيب الملك غازي حامياُ للكشافة المدرسية في العراق في حفل كبير , واستمرت الحركة الكشفية منذ ذلك الحين في الازدهار , وتشكلت أخيراً جمعية الكشافة العراقية  التي كانت بإشراف وزارة المعارف سابقاً.
    بعد انتشار الحركة الكشفية في العراق , إذ انتقلت إلى سائر مناطق العراق ومنها لواء الديوانية سابقاً بدافع رغبة الشباب الانضواء تحت رايتها, فقد كان الاهتمام في تربية الديوانية في مطلع الأربعينات من القرن الماضي بمسيرات  فرق الكشافة لمدرسة الديوانية الأولى والثانية أيام الأعياد ومطلع العام ا لدراسي الجديد , إذ يرتدي التلاميذ بدلة الكشافة الخاكي وربطة العنق الخضراء والانضمام إلى سراي الحكومة لقراءة نشيد العيد أمام متصرف  اللواء وكبار موظفي المتصرفية وبحضور مدير تربية الديوانية , وكانت مسيرات الفرق ا لكشفية المدرسية في طابور زوجي  إلى داخل السراي للاصطفاف مواجهين غرفة المتصرف آنذاك خليل عزمي الكائنة في الطابق الأول لبناية المتصرفية, وبعد أن يحييهم المتصرف باشاره من يده يتقدم إمام الجامع بإلقاء كلمته المعهودة والتي تتكرر في كل عيد وبنفس الكلمات, وبعد  الفراغ من الخطابة يوعز المعلم المرافق للفرقة الكشفية بنشيد العيد حيث تنطلق من حناجرالفرقة الكشفية :عيدُ الطربُ عيد السرور ....... كيف لا تشدو الطيور .... تملأ الدنيا حبور ..... وتغني وتغني عيدنا أشرف الأعياد.... عيدنا أشرف الأعياد.
    بعد الانتهاء من قراءة النشيد ينزل متصرف لواء الديوانية إلى الطابق ا لأرضي يتبعهٌ مستخدم المدرسة يحمل زنبيل ملؤه ملبس وبعض الحلويات البدائية الصنع لتوزيعها على أعضاء الفرقة ا لكشفية.
     وفي كل يوم أربعاء من الأسبوع والأعياد الرسمية وبداية العام ا لدراسي كانت المسيرة تبدأ من باب مدرسة الديوانية الأولى وتجوب شوارع لواء الديوانية الرئيسة تتقدمهم الخيالة من الشرطة المحلية ,  ومن غرائب الأمور هنالك شخص من أهالي ا لديوانية صاحب حانوت لكوي الملابس وصناعة (السدارة الاسكوجية) يدعى( عبد الأمير المكوجي) شخص غريب الأطوار كان  رافع لافته في دكانه بخط جميل عبارة( ألف عدو ولا صديق واحد) والسدارة الاسكوجية هي لباس الرأس للفتوة في الحركة ا لكشفية آنذاك , فكان يرى من حقه أن يمتطي جواداً أصيلاً بعد أن يرتدي لباس الفتوة ويقطع شوارع المدينة ذهاباً وإياباً على صهوة جواده , وفي ظهر كل يوم أربعاء  من الاسبوع كانت فرقة الكشافة تخرج قاصدة ثكنة الجيش في صوب الشامية للمسيرة ثم التدريب العسكري قرب بيت محمد خضيري الجلبي  الواقع على ضفاف نهر الحلة الصغير( اصبح هذا الدار حالياً للسيد عبد السادة محبوبة) , كان المدعوعبد الأمير المكوجي يتصدر الطابور الكشفي على صهوة جواده وكأنهُ  جنرال يقود جيشه إلى المعركة , ولم يتمكن أي شخص أن يمنعهُ من عمله هذا.
        عام 1941 قامت حركة رشيد عالي الكيلاني وجماعته بحركة اعتبرها البعض ثورة قومية على الاستعمار البريطاني واعتبرها الآخر مجرد حركة رعناء دعمتها ا لنازية الالمانية , ومنهم من اعتبرها حركة تحرر وطنية , قام بها ضباط متحمسون وتبناها  رئيس الوزراء الكيلاني المعروف بميولة القومية.
       كان في هذه الفترة لاعب يشار لهُ بالبنان في الديوانية ومن ضمن الفرق المدرسية الرياضية هو البطل ( اسماعيل) الذي حاز على لقب بطولي في المحافظة في فريق كرة القدم  في ثانوية الديوانية , ولكن فقدانه لبصره في احدى عينية قد منعهُ من ممارسة الرياضة,وقد ترأس اسماعيل جيش الفتوة للطلبة  بحماسة لنصرة حركة رشيد عالي الكيلاني التي باءت بالفشل وعودة الوصي عبد الاله وسيطرة الاحتلال ا لبريطاني بجيوشها المعسكرة في معسكر الحبانية على ألوية العراق.
    صيف عام 1947 قامت الفرق الكشفية بسفرات لشمال العراق بنخبة من الطلاب لمشاهدة جمال جبال العراق وينابيعهُ وبساتينه في مصيف صلاح الدين وسولاف وسرسنك وزاخو وساندرو وغيرها من من المدن الكردية الشمالية الرائعة الجمال بجبالها ا لسامقة وحللها الخضراء وجداولها الرقراقة وطيورها المغردة بين أشجارها التي تنوء بثمارها. بعد نصب أعضاء فرقة الكشافة المخيم الكشفي  الذي يحتوي على الخيم باشراف أساتذة التربية الرياضية  , ثم القيام برفع سارية علم العراق  وسط المخيم من قبل أحد أعضاء المخيم الكشفي ووقوف أعضاء الفرقة الكشفية استعداداً لتحية العلم العراقي وانشاد انشودة تحية العلم:
              دُم  على هام العُلى يا علمُ ....................خافقاً تحميك بيضٌ خدمُ
   إذ يستمر المعسكر الكشفي لأسابيع ثم زيارة المواقع السياحية في شمال العراق والعودة إلى مدينة الديوانية.
      للحركة الكشفية في وزارة ا لمعارف سابقاً عام 1949 دور كبير في اقامة دورات تحضيرية للقادة الكشفيين بإشراف مديرية التربية البدنية بإيفاد عشرة مدرسين إلى مركز التدريب الدولي في بريطانيا وبعد حصولهم على( شارة خشبية) بعد نهاية الدورة يعودون إلى العراق وينظمون دورات تدريبية للقادة ويشرعون بتأليف فرق نموذجية في بغداد ومنها تنتشر لباقي المحافظات , وفي عام 1954 أسهم قادة العراق في تأسيس المنظمة الكشفية العربية , وهو حرص العراق على استضافة العديد من الأنشطة العربية .
    في الخمسينات من القرن ا لماضي أصبح الاهتمام كبير بالفرق الكشفية في الديوانية , إذ بدأت تتجول الفرقة الكشفية في الشوارع الرئيسية في كل يوم خميس من المدرستين الابتدائيتين ( الهاشمية الابتدائية و الإرشاد الابتدائية) بإشراف معلم التربية البدنية الراحل لطيف حسن المشرف على الحركة الكشفية في لواء الديوانية  ومعلم مدرسة الإرشاد الابتدائية الأستاذ زيدان, إذ تبدأ المسيرة من باب مدرسة الهاشمية الابتدائية( الجمهورية حالياً) وتطوف شوارعها الرئيسية ابتدءاً من جهة  بناية تربية ا لديوانية ثم شارع منطقة الفاضلية وتعود إلى المدرسة عن طر يق شارع غرفة تجارة ا لديوانية, أما مدرسة الإرشاد فتجوب شوارع  منطقة الصوب الصغير( صوب الشامية).
   من نشاطات الفرق ا لكشفية القيام بالمخيمات الكشفية في ملعب الإدارة ا لمحلية  وفي ناحية السنية , ففي فترة الستينات كانت نشاطات الفرق ا لكشفية بإشراف كل من المعلم الراحل كاظم كرادي والمشرف التربوي  محمود عبد الحسين العميشي والمعلم علوان شنان بالزيارة السنوية للأقطار العربية , ففي عام 1964 كانت سفرة كشفية إلى دولة الكويت وهي أول سنة لها , ثم عام 1965 سفرة كشفية لدولة إيران , وفي عام 1966 سفرة كشفية لبلاد الشام ( سوريا ولبنان والاردن وفلسطين) وكان من  ضمن طلابها حسب  كلام مدرس التربية الرياضية( عماد مهدي الأسدي)  في الصورة المرفقة هم(معلم التربية البدنية علوان شنان قيس شاكر أمين وعماد مهدي وعصام محمود و احدا بناء سيد هادي التنكجي ومحمد اسماعيل حمودي وناظم شعلان والمعلم بشير الحداد ورعد ظاهر الحاج يوسف وشاكر الشيخلي واخو استاذ طلال هاتف (مدرس الرياضيات) واحد ابناء آل نايل) , إذ تم زيارة قبة الصخرة في فلسطين والقيام بالأعمال الكشفية في مخيمات ومناطق خاصة بها.
    ويذكر الدكتور فلاح إسماعيل حاجم : (كما وكانت الحركة الكشفية في الوحدات الادارية التابعة للواء الديوانية (الأقضية والنواحي) تلعب دورا مهما في المهرجان الرياضي السنوي الذي كان يقام سنويا على ملعب الديوانية في حي الجزائر. اذ تتوافد الفرق الرياضية والكشفية من جميع أنحاء اللواء ألى الملعب، حيث تستعرض اولا الفرق الكشفية أمام منصة الشرف المخصصة لمتصرف اللواء والمسؤولين الآخرين. وكان ذلك اليوم يتحول إلى كرنفال فرح حقيقي توزع في ختامه الكؤوس والجوائز التقديرية على الفرق الفائزة، ومن ضمنها طبعا فرق الكشافة. وقد كنت أحد المشاركين، ولأعوام عدة، في فرقة الكشافة لقضاء الشامية).
    عام 1970 استضاف العراق المخيم الكشفي العربي العاشر في الموصل واستمرت الكشافة العراقية في  معظم المخيمات والمؤتمرات والدورات العربية والعالمية لحين إهمالها من قبل النظام السابق والتي أعقبتها الحروب مع دول الجوار , وإهمالها كلياً من قبل الحكومة الحالية ومسؤولي وزارة ا لتربية العراقية.فعلى الرغم من ظهور الاهتمام بالحركة الكشفية العراقية  , إلا إنها تراجعت بشكل كبير بعد مرور أكثر من تسعون عاماً على تأريخها , وهي كانت المثل العليا في الأهداف التربوية واكتساب أعضائها القيم ا لحميدة  والاعتماد على النفس والتعاون مع الآخرين وتعلم طرق الإسعافات الأولية,وتقدر عدد أعضاء الحركة الكشفية في العالم بأكثر من 38 مليون عضو ينتمون إلى 26 بلداُ , ولكن   ما عدد أعضاء الحركة الكشفية في العراق في الوقت الحالي؟ , لا أعرف ولكن  في الديوانية في السنة الأخيرة بدأ اهتمام معلم التربية البدنية الأستاذ( محمد جاسم) بالفرق الكشفية في المحافظة , بقيامة بمسيرة كشفية  يتجول في شوارع المدينة الرئيسية بمناسبة بدأ العام الدراسي ا لجديد , وبرحيل هذا الأستاذ تذهب أدراج الرياح الفرق الكشفية وكل ما تم بناءه من قبل رواد التربية البدنية.
   










291
الشاعر معروف الرصافي  والانقلاب على الواقع السياسي والاجتماعي



نبيل عبد الأمير الربيعي

     تمثل قصيدة الشاعر معروف الرصافي (أنا بالحكومةِ والسياسةِ أعرفُ) المشاهد الكثيرة والكبيرة في أوصاف  الحكم الملكي بعد تنصيب الملك فيصل الأول ملكاً للعراق, كان الشعب العراقي يرزح تحت ظل الانتداب البريطاني , و يوصف الحكم وقتذاك  بالكثير من الأقاصيص الحزينة التي تظهر بؤس الحكومة  وفقر الأمة  ومقاومتها للإستبداد  والظلم بسبب الاحتلال البريطاني للعراق , فقد عاش الشاعر الرصافي لحياة طويلة متمثلة بالانفلات الواضح في السلوك والتصرفات  للحكومة والمستعمر البريطاني, فقد صور  بقصيدته  هذه سجل الحياة  الاجتماعية والسياسية  والفكرية  بكل جرأه وصراحة.
   ولادته:
   ولد الشاعر معروف عبد الغني محمود  الجباري  لأب من القومية الكردية وأم من القومية التركمانية عام 1875 م في بغداد  ونشأ في الرصافة حيث أكمل دراسته في الكتاتيب ثم دخل المدرسة الرشيدية العسكرية فتركها ولم يحصل على شهادتها , ثم إنتقل إلى الدراسة  في المدارس الدينية  وتتلمذ على يد كل من ( الشيخ عبد الوهاب النائب, الشيخ قاسم القيسي, الشيخ قاسم البياتي, الشيخ عباس حلمي , الشيخ والعلامة محمود شكري الآلوسي) , حيث لازم الأخير أثني عشرة سنة , فقد كان الشاعر الرصافي يرتدي العمامة أثناء الدراسة, بعد اكمال الدراسة في المدرسة الدينية عمل في مجال التعليم فعين معلماً للغة العربية في المدرسة الملكية في  الاستانة , وقد انتخب نائباً عن قضاء ( المنتفك) في مجلس المبعوثات العثماني, ثم رحل إلى دمشق عام 1918 بعد الحرب العالمية الأولى , وقد عين مدرساً للغة العربية  في دار المعلمين في القدس عام1927 , ثم عاد للعراق و عمل معلماً في الفلوجة , وقد ساهم بإصدار جريدة الأمل اليومية عام1933 , وعند إستقراره في بغداد أنتخب في مجلس النواب .


   لقد نظم الشاعر الرصافي أروع القصائد و كان من خطباء  حركة رشيد عالي الكيلاني عام1941 , لكن قصيدته  الشهيرة( أنا  بالحكومة والسياسة أعرفُ) قد نظمها  عندما أصدر الإحتلال البريطاني  الدستور العراقي  وأنشئوا  برلماناً  مزيف  وأصبحت أمور البلاد بأيديهم , حيث ثأر الشعب العراقي وثار الشاعر الرصافي  معهم  حيث أنشد  قصيدته التي جاء فيها:

أنا  بالحكومة  والسياسة     أعرف        أأُلام    في    تفنيدها      وأعنَّف
سأقول فيها ما  أقول  ولم    أخف        من  أن  يقولوا  شاعر    متطرِّف
هذي  حكومتنا   وكل     شُموخها        كَذِب   وكل   صنيعها    متكلَّف
غُشَّت  مظاهرها   ومُوِّه     وجهها        فجميع  ما  فيها   بهارج     زُيَّف
وجهان   فيها   باطن      متستِّر        للأجنبيّ     وظاهر       متكشِّف
والباطن   المستور   فيه     تحكّم        والظاهر  المكشوف  فيه    تصلُّف
عَلَم   ودستور    ومجلس    أمة        كل عن المعنى الصحيح    محرف
أسماء  ليس  لنا  سوى    ألفاظها        أما   معانيها   فليست      تعرف
مَن   يقرأ   الدستور   يعلمْ     أنه        وَفقاً  لصكّ   الانتداب     مصنَّف
من  ينظرِ  العَلم  المرفوف    يلقَه        في عزّ غير بني  البلاد    يرفرف
من  يأتِ  مجلسنا  يصدّق     أنه        لمُراد   غير   الناخبين      مؤلَّف
من  يأتِ  مُطّرَد   الوزارة     يُلفِها        بقيود  أهل   الاستشارة     ترسف
أفهكذا   تبقى   الحكومة     عندنا        كلماً   تموَّه    للورى      وتُزخرَف
كثرت   دوائرها    وقلّ      فَعالها        كالطبل يكبُر  وهو  خال    أجوف
كم  ساءنا  منها  ومن     وزرائها        عمل  بمنفعة  المواطن     مُجحِف
 
    كان  الدستور العراقي  في نظر الشاعر الرصافي وأبناء العراق دستوراً مزيفاً  , فهو ليس إلا وثيقة  جديدة للإنتداب  الذي فرضهُ الاستعمار البريطاني على الحكومة العراقية , وحتى المجلس الذي يسمى ( مجلس الأمة) كان أيضاً مزيفاً , فقد تفشى الفقر والبؤس بين أبناء الشعب العراقي واستبداد وتسلط الحكومة الملكية  مما قاد أبناء الشعب من الوطنيين والثوريين  إلى إنتقاد السلطة وقيادة المظاهرات والمسيرات لرفض جميع معاهداتها  مع الأجنبي , والدعوة إلى الثورة السياسية  والاجتماعية , فكان للشاعر الرصافي الثائر آرائه الحدية  في إنتقاد الحكومة الملكية .
  كانت قصائد الشاعر الرصافي تتميز  بسهولة الألفاظ  وجزالتها وعلو الاسلوب , فأغلب قصائده  تمثل الجانب السياسي والدعوة للإنقلاب الاجتماعي  على العادات والتقاليد والدعوة للتحرر وتأسيس المدارس والمعاهد , مما حث الباحثين في الجانب الأدبي  إلى دراسة الإسلوب في قصائد الرصافي , فقدمت الكثير  من الاطروحات ودراسة الدكتوراه والماجستير في أدب الراحل الرصافي , كان من الملازمين للشاعر في حياته السيد( خالد محمد الجافظ) لفترة طويلة  خلال السنوات ( 1938-1945) حتى رحيل الشاعر الرصافي يوم الجمعة  16-3-1945 بداره في محلة السفينة في الأعظمية  ودفن في مقبرة الخيزران , إذ كتب خالد الحافظ كل ما يتعلق بحياة الشاعر الرصافي  وقد ساهم الدكتور ( يوسف عز الدين) أستاذ تأريخ الأدب والشعر  في تبويب هذه المذكرات بكتاب ( حلو الذكريات ومرها) والتي تدور حول حياة الشاعر الرصافي .
  وقد صدر للشاعر الكتب منها (ديوان الرصافي , دفع الهحنة, محاضرات في الأدب العربي, كتاب الشخصية المحمدية).ِ











292
معاون عميد كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بابل د. عدي غني الأسدي لــــ طريق الشعب :
النظـــــــــام الشمــــــــولي هو السبــــــــب الرئيــــــــس في تراجـــــــع التعليم الجامــــــــعي



حوار : نبيل عبد الأمير الربيعي
 
الدكتور عدي غني الأسدي من مواليد مدينة الحلة عام 1950 , دكتوراه في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات , من الكفاءات العائدة للوطن عام 2008 قدمَ خلال هذه السنوات بحوثاً عديدة وقيمة حول تكنولوجيا المعلومات وتأثيرها في مجمل الحياة الاقتصادية, عمل باحثاً في جامعة موسكو التقنية في مجال المعلومات (1986-1990) , عمل محاضراً في السويد –جامعة لوند , الجمعية الثقافية /مالمو السويد, حاصل على براءة الاختراع المرقمة(1490717) في موسكو والموسومة( طريقة لاختبار فحص المعدن الخارجي الذي يغطي اثنين من خطوط الاتصالات.
 
 
 
لهُ العديد من البحوث والدراسات والمقالات في اللغات الروسية والسويدية, لهُ بحث عن ميناء مبارك وتأثيراته الاقتصادية والسياسية والبيئية على العراق (نشر في طريق الشعب),من خلال موقعه المهم في كلية الإدارة والاقتصاد كان لنا معهُ هذا اللقاء:
 
* كيف تقيّم تجربة التعليم في الجامعات العراقية في مجال المناهج والمقررات؟
 
• في الحقيقة المناهج والمقررات للكلية جيدة جداً , لكنها تفتقر إلى التطبيق المبدع من قبل التدريسيين أولاً , كذلك عدم توفر المستلزمات الداعمة لتطوير التعليم العالي مثل( الانترنيت فائق السرعة , مختبرات الحاسوب , الكتب المنهجية) لأن الكثير من المناهج التي تدرَس حالياً من قبل التدريسيين تفتقر إلى الكتب المنهجية المقرًة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي , ولذلك يقع على عاتق التدريسي طبع واستنساخ المناهج المقررّة على شكل ملازم دراسية , أو إعداد محاضرة وتقديمها إلى الطلبة , لكن الأجدرّ وجود كتب منهجية تعممّ على جميع الكليات المتخصصة , وعلى سبيل المثال (كلية الإدارة والاقتصاد) , يجب أن تكون المواد المقررّة فيها من قبل لجنة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لأهمية التواصل بين الكليات والجامعات , فمن المشاكل التي يلاقيها الطالب أن هنالك طلبة تسلموا مناهج خاصة باختصاصاتهم ثم عند نقل الطالب من جامعة إلى جامعة أخرى يلاحظ الفارق في المناهج , مع العلم إن الكلية نفسها تمنح شهادة البكلوريوس سواء في الاقتصاد أو المحاسبة أو إدارة الأعمال أو باقي الاختصاصات الأخرى , لكن المواد مختلفة , و هذا يتطلب وجود مناهج مقرّة من قبل الوزارة لأهميتها , إضافة إلى توفير الكتب والمصادر المنهجية في مكتبات الجامعات العراقية , ومن الضروري التوسع في الأبنية ومنها المكتبات بحيث يتمكن الطالب من الحضور والمتابعة للمصادر الحديثة وتوفير المستلزمات من الانترنيت والطباعة والاستنساخ والاستعارة إضافة لتوفير البيئة العلمية للطالب.
 
* هل تقصد أن هنالك مواد دراسية غير موحدة بين الجامعات ذات الاختصاص الواحد, كأن يكون في فروع الاقتصاد وإدارة الأعمال والمحاسبة؟
 
• نعم , ضروري التواصل بين الجامعات , مثلاً طالب يدرس المرحلة الأولى في جامعة الموصل –كلية الإدارة والاقتصاد , وعند انتقاله إلى جامعة بابل نفس الكلية , يجد هنالك فارقاً في المناهج والمواد التدريسية , إضافة إلى اجتهاد الأساتذة في تدريس المواد , مع العلم إنها نفس الكلية والاختصاص وتمنح نفس شهادة البكلوريوس , كأن تكون إدارة الأعمال , من خلال جريدتكم الموقرة أدعو إلى ضرورة وجود مناهج مقررة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي , أما المكتبات الجامعية فموجودة لكن المساحة التي تشغلها هذه المكتبات غير كافية قياساً لعدد الطلبة , إذ يتراوح عددهم في كليتنا إلى (600) طالب وطالبة , لكن لا توجد مناضد لجلوس الطلبة لغرض البحث عن موضوعات الانترنيت والتصفح في الكتب الموجودة في المكتبة , مع العلم إن المكتبات الموجودة لا تستطيع عرض الكتب الموجودة في مخازن الكلية , هذه هي مشكلتنا في مجال المكتبات .
* هذا يعني عدم وجود بنية تحتية بالشكل المطلوب
حضارياً ؟
 
• مع النقص الموجود في الأبنية في كليتنا , إلا أن الجهود المبذولة من قبل الإدارة والعمادة والتدريسيين قد لعبت دوراً كبيراً في تطوير الكلية الوليدة حديثاً , حيث تأسست عام (2005) وهنالك بناية قد استلمت من قبل العمادة، المكان القريب من مستشفى مرجان إلا إنهُ تمّ وضع الأسس لهذه الكلية ولم يتم تنفيذها لحد الآن , وهنالك مبالغ قد رصدت لهذه البناية قدرها ( 31) مليار دينار عراقي , مع العلم إن هذه الكلية تمّ تخطيطها على أسس عمرانية حضارية كما هو موجود في الدول الأوروبية والدول المتقدمة في مجال التعليم الجامعي , كما تحتوي على عدد كبير من المميزات لكن المقاول المحال عليه المشروع أخذ الدفعة الأولى وباشر بعمل الأسس للبناء, لكن بعد فترة توقف العمل , وهنالك النيّة بإحالتها إلى مقاول ثان وهذه الفكرة كانت منذ شهر نيسان العام الماضي , لكن لحد الآن لم ترس على أي من المقاولين المحليين كي تتم المباشرة بالعمل والانجاز , ومازالت كليتنا تستغل مكان (موقع معسكر الحلة العسكري ), ونشعر كأساتذة وطلبة إننا في معسكر لا مكان جامعي, مع العلم هنالك جهود تبذل من قبل عمادة الكلية لإنشاء الحدائق ومختبرات الحاسوب وقد تم أخيراً إنشاء ساحة لكرة السلة والطائرة , مما خلقّ جوّاً وبيئة دراسية جيدة للطلبة في هذا المجال .
 
* من خلال لقائنا عرفنا لكَ تجربة طويلة في مجال التدريس حيث قمت بالتدريس في دول عديدة منها ( سوريا وليبيا والسويد وروسيا ) والآن تدرّس في بلدك الحبيب العراق في كلية الإدارة والاقتصاد جامعة بابل , كيف تقيّم الجانب التعليمي في الجامعات العراقية من خلال مقارنتها بتجارب الجامعات المتنوعة ؟
 
• سلبيات التعليم الثانوي والجامعي في العراق كبيرة خصوصاً بعدَ عام (1975) عندما تمّ تبعيث التعليم , ثمَ بدأ التدهور الكبير بعدَ الحرب العراقية الإيرانية , حيث انتهجت حكومة البعث المخطط الحزبي على أساس (الحزب الواحد) وهذا يمثل كل الأنظمة الشمولية في الوطن العربي , فقد تم تغييّر المناهج لتواكب مبدأ الحزب الحاكم, من هذا المنطلق تحول التعليم إلى قناة واحدة , حيث لا توجد رسالة ماجستير أو بحث أو رسالة دكتوراه في جميع المجالات العلمية والإنسانية لم يكن فيها البديل لحزب البعث والقائد الضرورة , وهنا تحول العلم لخدمة الحزب وليس لخدمة المجتمع , هذا الأرث الكبير الذي وقع على كاهل وزارة التعليم العالي بعدَ التغيّير عام(2003) لا يمكن بسهولة أن يرتقي إلى المكانة المتطورة,هنالك فرق كبير بين التعليم الجامعي في العراق والتعليم الجامعي في دول الجوار, الجامعات في سوريا الشقيقة تمتلك المكتبات الكبيرة , فقد قامت هذه الجامعات بإقامة المؤتمرات العلمية المتكررة خلال العام الدراسي , والمؤتمرات العلمية للطلبة , وإذا تم مقارنتها مع جامعة بابل , فإن جامعة بابل لم تقمّ أي مؤتمر علمي للطلبة المتفوقين وللاختصاصات المختلفة , أقترح على رئاسة جامعة بابل أن تعقد مؤتمراً علمياً للطلبة المتفوقين والبحوث المتميزة , لأن هنالك طلبة متميزين وخصوصاً في مجال الهندسة والطب والإدارة والاقتصاد , لذلك من الأفضل والأجدّر أن يطلع عليها أفراد المجتمع , لأن بحوث الطلبة تعطي دافعاً كبيراً لتطور العلم , مع الأسف هذا غير موجود في جامعة بابل , إضافة إلى عدم توفر الانترنيت الفائق السرعة للطلبة , مع العلم إن مجتمعنا مجتمع شرقي ومن الصعوبة للطالبات الذهاب إلى مقاهي النًتّ , فأنا أدعو إلى توفير انترنيت خاص بالطالبات مع العلم إن الطالبات محرومات من الانترنيت بصورة عامة أكثر من الطلاب , لأن الطلاب بإمكانهم الذهاب والحضور باستمرار في مقاهي الانترنيت للإطلاع والبحث. يعتبر الانترنيت أحد عوامل التطور العلمي والتقني في الجامعات , والبحث العلمي عبرً الانترنيت والمجلات العلمية والاقتصادية والاجتماعية الحديثة و متابعة الإصدارات الجديدة , كل هذه الأمور تسير ببطء في كليات وجامعات العراق .
تعتبر الأنظمة الشمولية السبب الأول والأخير في تراجع التعليم الجامعي , فالجامعات العراقية والليبية والسورية لم تحدث فيها قفزة نوعية بسبب نوعية النظام وأساليبه , إضافة إلى الحروب والحصار الذي مرً على العراق وقد أثر على الجانب التعليمي والعملية التربوية إضافة إلى تأثيره في مجال التعليم الثانوي , لو نرجع بذاكرتنا إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي , كانت جامعة بغداد والموصل والبصرة لها إرث علمي وتعليمي وتدريسي يضاهي الكثير من جامعات دول الجوار , وهذه المقارنة كبيرة لأن هنالك تطوراً و متابعة لما يحصل في دول العالم وهو الأفضل لما موجود من تعليم في الجامعات السورية والليبية.
من هذا يجمع الخبراء على ضرورة المواءمة بين حاجات دوائر الدولة والمجالات التخصصية ومخرجات التعليم الجامعي للحد من البطالة وتفعيل مشاركة وسائل الإعلام بالبحث والاستقصاء عن مواقع ومستقبل سوق العمل وزيادة برامج التوعية , بالإضافة الى ان التعليم الجامعي هو ضرورة ملحة في المرحلة لمواكبة الحاجات الحياتية في المجتمع بعيداً عن النظرة إلى واقع الشباب الخريجين والبطالة التي سوف تأخذهم بعيداً عن طموحاتهم .
 
 
 

293
الشيوعي المريض ... للروائي والكاتب العراقي جاسم المطير


نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    رواية ( الشيوعي المريض) للروائي والكاتب العراقي جاسم المطير الصادرة عن  دار أمل الجديدة  في سوريا والتي تحتوي على (220) صفحة من الحجم المتوسط , تعد إحدى  الروايات  التي تمثل الحقبة الزمنية الماضية التي مر بها مناضلي الحزب الشيوعي العراقي  في زمان القهر  والقتل  والأغلال  والعذاب في بلاد النهرين الذي لا تبصره الشمس والحرية منذ زمن بعيد , حيث لبث سكانه سنين طويلة صامتين واجمين  من حاكم دكتاتور جثم على صدورهم ما يقارب  (35) عاماً.
   الرواية هي عبارة عن مذكرات المناضل جاسم المطير الذي اتخذ من اسم (يوسف العراقي) بطل الرواية بديل لاسمه , يوسف العراقي الشيوعي المريض  والمقعد على كرسي متحرك والذي  كرس حياته للنضال من اجل أن  يستنشق شعبه  نسيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية , غير إن المرض الذي أصاب عظامه وعضلات  جسمه  بسبب التعذيب أيام الأنظمة السابقة  قد أقعده , وبسبب الملاحقات والمضايقات فما كان منه إلا الهجرة وطلب اللجوء السياسي في هولندا , حيث بدأت الرعاية الطبية والاهتمام به كإنسان  من قبل ممرضة تدعى ( ماريّا)  التي رعته وعاملته معاملة الطفل المريض بالتنزيه والحب والتجلي .
   الرواية هي عبارة عن مقارنة بين واقع نظامين إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب ,وبطل الرواية يوسف يتساءل من خلال الرواية  عن واقع الإنسان في بلده وفي دول المهجر , قد يتبادر للقارئ  من خلال الرواية إنها تمثل حياة الكاتب منذ دخوله المعترك السياسي ولحين هروبه كلاجئ , ولو كان عنوان الرواية ( يوسف الشيوعي ) كان الأفضل , فعند قراءة العنوان يتبادر لذهن القارئ  إن بطل الرواية مريض بالفكر الشيوعي وليس مريضاً جسدياً بسبب معانات النضال والسجون والتعذيب , يذكر الكاتب المطير في ص12 حال الفقراء  والمعوزين في بلاد النهرين والبترول : ( أزمة خانقة  جعلت الفقراء العراقيين يعيشون  في الطرقات أو قريباً من المزابل . كل حاكم جديد في العراق يقول إن من أولى أحلامه  أن لا يرى سكان بغداد إلا بأحسن حالٍ محميين من حر الصيف ومن مطر الشتاء في بيوت  أو في شقق فاخرة تخلصهم من ضنك العيش ) وواقع العراقيين يعيشون ما بعد التغيير 2003  في بيوت من الصفيح أو الخيام أو الطين وقد تهالكت سقوفها , كما أصبحت في بعض مناطق العراق حتى المدارس من الطين أو الخيام أو الكرفانات , فمتى يرتاح هذا الشعب الذي حلم بالسعادة والحرية , ولو قارنا  ما قام به الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم الذي حكم العراق لفترة لا تتجاوز الأربع سنوات ونصف والمشاريع الذي قدمها للشعب العراقي حيث تم بناء أكثر من (250) ألف وحدة سكنية للفقراء والمحتاجين فيذكر الكاتب  حال العراق أيام حكم الزعيم في ص 13 : ( من خلال شوارع  مبلطة وبتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء والمستشفى والمدارس سميت باسمه , سكنها فوراً فقراء العاصمة لكنهم ما دافعوا عنه حين انقلب عليه أعداؤه وأعداؤهم قبل أن يكمل وعوده للفقراء), قتل الزعيم قاسم قبل أوانه  بسبب عداء القوى الرجعية والامبريالية وشركات النفط  والرواية تذكر تلك الحقبة ودور الزعيم الوطني في بناء المشاريع في البلاد .
   رغم بعد يوسف العراقي عن أرض بلده فهو رجل يعيش بلا وطن وبلا أهل  حيث ( تركهما في العراق البعيد بأمل واحد  هو أن يحيا بحرية) ويعيش خارج وطنه  لكي لا يُذل كإنسان بسبب أفكاره اليسارية المغايرة لأفكار رجال السلطة في العراق , لكن بعد عام  التغيير (2003) يذكر الكاتب في ص90  من خلال اتصال عبر الهاتف مع شقيقه إبراهيم  ليصف للمغترب يوسف بلده : ( إن حرارة الأرض والحرب  في بغداد يا يوسف ... احترقت الميكروبات والحيوانات الوحشية وأذناب القطط صارت مقطعة .. اختبأت نفسها  في حفر غير معلومة ,وديّس التمثال الصنم  في الشارع .. غدت بغداد تحت أشعة الشمس من جديد.. ونعال أبو تحسين يقرقع  بوجه الطاغية) كان هذا الخبر قد أسعد يوسف العراقي , حيث كان يعتقد أن صناعة الحرية  في وطنه صعبه للغاية , لكن مكالمة شقيقه إبراهيم علمته أسمى حكمة  في بلاد النهرين ( إن الزمن طويل وصناعة الحرية صارت أمراً ممكناً ) لكن بعد التغيير استمرت شرائع الاضطراب  وأصبح إعراب كلمة الحرية ومعناها ولفظ نغمها وممارستها صعباً ومجنوناً في شوارع العاصمة بغداد , حيث دخلت قوى الإرهاب  عبر الحدود ليمارسوا الجريمة بحق أبناء الوطن حيث يذكر الكاتب في ص 102 : ( يمارسون قانون إرهاب الناس في بيوتهم .. تعلموا ذلك من تجربة سيدهم نفسه حين ملأ البلاد  بالرعب والخوف والاضطراب ) العراق بلد يثير شهية الوحوش وغير الوحوش فقد ساد القبح لزمن طويل وانتشرت سيوف التقطيع لرؤوس توضع فوق جثث الضحايا , كان العراقي يبحث عن ( رأس أخيه المذبوح أو أبنه المقطوع اليدين أو ابنته التي مزقوا فرجها بالاغتصاب  الجماعي قبل فوران الرصاص داخل بدنها , عيونهم كعيون الصقور تبحث عن جثث  يمزقونها ) هذا وصف  الكاتب لوضع العراق  بعد دخول القوات الأمريكية.
   من خلال هذه الرواية يبين الكاتب المطير  واقع أبناء بلده كيف كان يحث خطاه بحزن هادئ ينبئ بقراءة  عن نفس كريمة ظلت تبحث عن زهور الحرية والحياة الكريمة  لشعب مغدور وبين بلاد المهجر وكيف يحافظ المعنيين  على حياته وتهيئة ممرضة خاصة له تدعى ماريّا ,من  خلال قصة حب من نوع يرفض الاستسلام للحمية ويرفض العقاقير المرّة التي تقدمها له الممرضة لكن النفس الحرة التي تحملها تنقذه من انقباض نفسه  حتى العودة لزيارة الأهل والأصدقاء في مدينة البصرة , الرواية هي تجربة لمناضل عراقي يحمل الفكر الماركسي وعانا من سجون واعتقالات وتعذيب أزلام النظام , بسبب  نضاله الوطني  ودفاعه عن حرية التعبير عن الرأي , كآخر اعتقال له في تسعينيات القرن الماضي , إذ لا شيء ينمو في العراق غير حجم السجون كي يتوارى الإنسان عن إنسانيته.
 يتذكر يوسف العراقي  وهو مسند على كرسيه المتحرك خطاب صدام حسين في حروبه العبثية في ص46: ( أنا قادم إليكم أيها الناس لأبقى إلى الأبد) هاتفاً بحروبه في إيران والكويت وكردستان , حيث أصبحت تمتد يده على رقاب الشعب وأصبحت مدننا رماد لحروب وسيوف  معارك الطاغية مثلما شهدت رماد حرب الكترونية  بطائرات الشبح وصواريخ الكروز  في حرب الخليج الثانية , كان يوسف العراق يائساً من الحياة بسبب إعلان الأطباء بموته القريب فيحاور الممرضة  ماريّا عن ساعة رحيله في ص47 ( غطيني يا ماريا ..اسقطي عليّ تراب الأرض المنخفضة و إذ حُرمت من غطاء تراب رقد فيه الحسن البصري وشاكر محمود وسميرة البصري وبدر شاكر السياب) , لكن يوسف العراقي قد كتب عليه العيش في وطن  جديد ليس متعفناً بقوانين الدكتاتورية والعبودية , وطن يحترم حقوق الإنسان , بلد تطالع فيها صباحاً الزهور بلا جثث القتلى التي تملأ الأهوار وحلبجة وأرياف الفاو  .
    يتذكر بطل الرواية رفاقه في الحزب و مدينته الجنوبية البصرة  ففي ص51 : ( تصريحاتهم المتكررة يطلقها  الرفيق عزيز محمد أو الرفيق أبو داود أو الدكتور علي إبراهيم أو الرفيق أبو أروى فأعصابه ملفوفة كلها بهذا الكرسي), ثم يتذكر دور رفاقه من الأنصار الشيوعيين في كردستان العراق الذين صعدوا الجبال من المناطق الوسطى والجنوبية خوفاً من مخاطر بطش رجال النظام الذين يجلدون عظام الإنسان  بالسياط فتحدث حالات الاختلال  في الألياف العصبية المحيطة بالمعصم والمرفق  والكتف والعمود الفقري كله  والجهاز العظمي والعضلي , إنها حياة الكاتب المطيري الحقيقية التي تعرض لها من خلال رجال أمن النظام , يقارنها باهتمام ممرضة غريبة عن بلده  بحياته وصحته لكي يشفى من مرض مزمن ترسخ وصار عطباً دائماً في جسده .
   لهذه القسوة من قبل النظام الشمولي يتذكر يوسف العراقي هجرة أصدقاءه لمدينة البصرة بسبب الملاحقات الأمنية  منهم ( رفيقه  القديم عبد داود الخشتي وعبد الملك الذي سكن الكويت  وجبار الشيخ  غادرها إلى السعودية  وصالح الشايجي ...وعزيز وطبان اللاجئ المستريح في ألمانيا,حيث اقترنت أحلامه بأحلامهم فكان يشتد غيرة ودافع التحرر من القفص العراقي  المكبل بحديده ) لكن يوسف يبقى محافظاً على معتقداته وأفكاره التي ناضل من أجلها .
   يتذكر الكاتب في الرواية مدينته التي ولد فيها الزبير عام 1934 ومعاناته عند الهروب من تلك المدينة  الصحراوية التي فرّ هارباً من إرهاب السلطة وأجهزتها القمعية التي لا تقدم لشعوبها غير الاستبداد والموت  والجوع متجولاّ في الدول العربية مثل الجزائر واليمن وسوريا , فهي مذكرات لحياة الكاتب جاسم المطير وما عاناه في ظل الحكم البعثي  من ملاحقات ومعتقلات , فتمثل الرواية الحوار بين شخصيات معدودة هم ( يوسف العراقي وماريّا وسلام عبد الله وابنة ماريا), ثم يذكر التدهور الذي حدث في بلده بعد التغيير عام 2003 بدخول القوات الأمريكية والتفكير لبطل الرواية بالعودة إلى بلده للعيش بين أهله وأصدقاءه ورفاقه.
    الرواية تمثل السيرة المبتسرة لحياة المناضل والكاتب والروائي جاسم محمد المطير التي تميزت بالموضوعية , فهي تمثل فترة عاصفة من تأريخ العراق السياسي , و عرض لأحداث  كانت خافية عن دور المناضلين  الشيوعيين في العمل السري وفي دول المهجر , ومزايا الرواية خلوها من الأخطاء المطبعية وهذا أمر نادر الحدوث في المطبوع العربي والعراقي , مع العلم إن تصميم الغلاف وإخراجه من عمل أمل عثمان, وقد أولى الكاتب بآراء سديدة  حول الوضع السابق والراهن للعراق في ظل الأحداث الجارية  رغم إن الرواية هي تسجيل لماضي وحاضر المواطن والسياسي العراقي, وقد اظهر للعيان في هذه الرواية إن مدرسة الشيوعيين العراقيين تمكنت من إبراز  طاقة رائعة لكتاب وروائيين ومحللين بنهج سليم ومنهجية واضحة , ولعلي مدين بالجانب الأكبر من ثقافتي  السياسية والأدبية والعامة  لهذه المدرسة الوطنية التي أصبحت  علامة بارزة في تأريخ العراق الحديث.
نبذة عن حياة الكاتب والروائي جاسم المطير:
*من مواليد البصرة عام1934  ويقيم حالياً في هولندا
*عمل في الصحافة الوطنية منذ نصف قرن
*له مؤلفات عديدة في السياسة والاقتصاد والآداب
*نشر العديد من الدراسات والأبحاث في عدد من المجلات العربية المتخصصة
* أصدر الكثير من القصص و الروايات قد تجاوزت الخمسة عشر بين رواية وقصة  و قصة قصيرة.
 
  



294
حسن سريع وملحمة الانتفاضة ونهار القمع الوحشي




نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   بدعم من القوى  المعادية للعراق ولثورة 14 تموز 1958 والتي تمثلت في نجاح تحالف حزب البعث الفاشي العراقي ، والقوميين العرب , والقوى الرجعية, وحكومة عبد الناصر، مع المخابرات الأمريكية ، وشركات النفط , ورجالات الإقطاع في العراق ، في 8 شباط الأسود من عام 1963 ، لإسقاط النظام الوطني الجمهوري ، على الرغم من المقاومة الباسلة التي أبداها الشارع الوطني ، وتخلي الحكم عن الجماهير  بعدم مدها بالسلاح للدفاع عن وجودها ، وعن المكتسبات التي حققتها الثورة لهذه الجماهير, فقد قام الانقلابيين  بإراقة دماء الوطنيين وتصفية قادة الثورة من الضباط وقادة الحزب الشيوعي العراقي , فما كان إلا أن تحرك بعض أعضاء الحزب الشيوعي العراقي ممن لم يتم اعتقالهم  في ملحمة بطولية يوم الثالث من تموز عام1963 ضد  قادة الانقلاب , فكان للعريف حسن سريع الدور في هذه الملحمة وبعض من أعضاء تنظيمه.
   حسن سريع ذلك الفتى الذي لا يتجاوز من العمر الخامسة والعشرين , نحيف البنية وذو بشرة سمراء  وعينان صغيران ,لكنهُ كان يمتلك قوة الشخصية وقابلية الحوار والصدق في التعامل مع الآخرين , ولد في بداية الأربعينات من القرن الماضي في قضاء عين تمر التابعة لمدينة كربلاء ومن أصول عشائرية تعود لبني حجيم  من مدينة السماوة المشهود لها بالمواقف الوطنية  , ولكن بسبب فقر العائلة , الذي كانت صفة العوائل في تلك الفترة , فقد أكمل الدراسة الابتدائية في قضاء ( شثاثة )وتطوع في الجيش العراقي , فانظم  إلى مدرسة (قطع المعادن المهنية) في معسكر الرشيد , وبسبب قابلياته الذهنية  العالية تم اختياره  كمعلم في نفس المدرسة برتبة نائب عريف ,كما  كان حبهُ لإكمال دراسته  وطموحاته مما أدى إلى التحاقه بالثانوية المسائية .
 
  ملحمة حسن سريع وانتفاضة  3 تموز عام1963:
  بعد أن رزح العراق تحت نير الطغات الانقلابيين , وما قاموا به من تعذيب الشيوعيين وأصدقائهم وقادة ثورة تموز , فقد سجن وعذب الآلاف منهم في معتقلات أنشأت حديثاً مما أحالوا الوطن إلى سجن كبير للقتل والتعذيب فما كان  " أن انتفض  نائب العريف حسن سريع  ورفاقه التي تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والسادسة والعشرين .. كان يقدر عددهم بحوالي الألفين"(1)
   وقد أشار عزيز سباهي في كتابة عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي
" ان كادراً حزبياً عمالياً يدعى إبراهيم محمد علي والذي كان يعمل في إطار اللجنة المحلية للمشاريع العمالية  الصغرى  التابعة إلى منطقة بغداد  ,هو الذي بدأ هذا النشاط وقادهُ..وكان من بين الذين انخرطوا فيه وبهمة , محمد حبيب(أبو سلام) وهو عامل في مقهى , وكان يقود لجنة قاعدية ..فقد عرف التنظيم بـ((اللجنة الثورية))"(2), ولكن وقوع قائد المجموعة إبراهيم محمد علي في قبضة الحرس القومي , وقد واجه التعذيب حتى لفظ أنفاسه دون أن يفشي سراً مما خلف من بعده في قيادة التنظيم محمد حبيب (أبو سلام), فقد  بدأ  حسن سريع مع محمد حبيب التهيئة لانطلاق الانتفاضة  بعد تحرك ثوري لتنظيمهُ و الذي  كان ينوي إطلاق سراح المعتقلين في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد والمقدر عددهم بأكثر من 1300 ضابط  من مختلف الرتب والأصناف  ومجموعة كبيرة من الطيارين والأطباء وبعض المصادر تؤكد إن عدد السجناء يقدر بـ(1150) سجين, فكان حسن سريع( عنصراً فاعلاً في التحضير وتنفيذ الانتفاضة , فهو الذي هيأ المكان لاختباء المنفذين في وحدته ) (3) , فقد تم الاتفاق على ساعة الصفر  في الخامس من تموز 1963 , و لكن أن هذا الموعد قدم إلى يوم الثالث من تموز لأسباب عدة منها التخوف من اكتشاف أمر التنظيم بسبب إلقاء القبض على عريفين من قادة التنظيم وخشية أن يبوحا تحت التعذيب بخطط الحركة , سارع قادة الحركة إلى تنفيذ خطتهم,وقد تمكنت هذه المجموعة في الاجتماع الأخير في الساعة الثانية عشرة والنصف من ليلة الانتفاضة في أحد أكواخ كمب سارة حيث توزيع المهام من تحديد ساعة الصفر,فقد أقسم حسن سريع وأعضاء حركته :( نقسم بتربة هذا الوطن أن نحررهُ من رجس المجرمين), ,وتحت جنح الظلام  تحرك الثائر حسن سريع  ومجموعته من جنود وضباط صف المدرسة المهنية العسكرية ومن المدنيين الذين وزعت عليهم  أدوارهم والملابس العسكرية , كما حمل البعض رتب الضباط منطلقين نحو كتيبة الهندسة , وقد سيطروا على باب نظام المعسكر والحرس المتواجد فيها , ثم السيطرة على كتيبة الهندسة , وعلى أغلب أقسام معسكر الرشيد  والتي كانت تظم أعداد كبيرة من الدبابات والمدرعات والطائرات ,وقد تمكن حسن سريع من( اعتقال ضابط الخفر وكسر مشجب السلاح ووزع السلاح على المنتفضين , وهو الذي أطلق الرصاصة الأولى  لبدء الانتفاضة, وكان الموجه الرئيسي لها)(4) , فكان أول الأمر القيام  باعتقال قادة الانقلاب بعد استدراجهم إلى المعسكر,وقد تم ذلك ومنهم :
 ( طالب شبيب (وزير الخارجية) ,  حازم جواد (وزير شؤون رئاسة الجمهورية)  , منذر الونداوي ( القائد العام للحرس القومي)  , كما تم اعتقال عدد من الضباط الموالين لسلطة الانقلاب البعثي داخل المعسكر, وقد رفض الثائر حسن سريع تصفيتهم وإنما طلب بعد نجاح الحركة تقديمهم إلى محكمة عادلة تحاكمهم وفق الجرائم التي اقترفوها بحق الوطنيين من أبناء الشعب وقادة ثورة تموز وكانت من أقواله المأثورة( لا تقتلوا الأسرى سنقدمهم للمحكمة), بهذه العملية تحقق الهدف الأول من حركة حسن سريع أما الهدف الثاني فكان السيطرة على معسكر الرشيد وإطلاق سراح السجناء من الضباط  من سجن رقم واحد وقد تم تهيئة الطائرات  بالعتاد لهذا الغرض من قبل من أُنُيطت بهم هذه المهمة للسيطرة على بغداد وإسقاط حكم الانقلابيين ,عند الهجوم من قبل مجموعة حسن سريع على السجن رقم واحد , فقد كان لدفاع حراس السجن وآمرهم النقيب حازم الصباغ(الأحمر) المستميت مما أخر إطلاق سراح الضباط  و أعطت الفرصة للسلطة لإحباط  المحاولة,  الأمر الذي جرى في النهاية إلى انكشاف المحاولة وإحباط الهجوم بعد حين، إذ سرعان ما تدفقت دبابات النظام ،واقتحمت المكان، وطوق معسكر الرشيد بكامله، ثم هرع بعد مضي أكثر من ساعة قادة الانقلاب برمتهم نحو المعسكر، بما فيهم احمد حسن البكر والمشير عبد السلام عارف ، ودوى إطلاق الرصاص، سقط على أثره عدد كبير من الجنود والضباط ، وتم إلقاء القبض على الثوار ومطاردة الفارين منهم، ثم تلا هذه الإجراءات تشكيل  محكمة عسكرية صورية خاصة، أصدرت أحكاماً بالموت في غضون يومين على أكثر من ثلاثمائة  شخص.                                                              بسبب تخاذل أحد أعضاء الحركة والمدعوا (خلف شلتاغ) والذي أنيطت به  مهمة قيادة الدبابة الوحيدة المتقدمة نحو السجن والذي يحمل بداخلها المشير عبد السلام عارف,و تواجد قوة عسكرية  خارج المعسكر مجهزة بالأسلحة الثقيلة  مما ساعدت على مهاجمة  السلطة لقوة حسن سريع , حيث دارت معركة بين الطرفين وقدموا الشهداء, إضافة إلى عدم التكافئ  بين الطرفين  , مما ساعد إنقلابيوا  السلطة على إجهاض الانتفاضة  واعتقال ما تبقى من المجموعة  , فقد تم نقل أعضاء مجموعة حسن سريع إلى مقر هيئة التحقيق والتي كان يرئسها ناظم كزار وعمار علوش وخالد طبرة, فقد أحيل قائد الحركة  حسن سريع ومجموعته إلى المجلس العرفي العسكري , وتم الحكم عليهم بالإعدام.
 
   محاكمة حسن سريع ومجموعته الثائرة:
 
  في المحكمة الصورية التي شكلها قادة الانقلاب  سُئل رئيس المجلس العرفي العسكري لحسن سريع أثناء المحكمة:
- رئيس المجلس العرفي - كيف سمحت لنفسك بوضع رتبة ملازم أول  ولبعض المنتفضين كذلك؟
- حسن سريع- وضعت أقل رتبة ضابط في الجيش العراقي, وكنت سأنتزعها بعد نجاح الانتفاضة.
- رئيس المجلس العرفي- كيف تتقلد رتبة ملازم أول وأنت نائب عريف؟
- حسن سريع- كيف يتقلد العقيد عبد السلام عارف برتبة مشير برمشة عين وهو عقيد؟
- رئيس المجلس العرفي- هل تريد أن تصير رئيس جمهورية ؟(5)
- حسن سريع – ما أردت أن أصير رئيس جمهورية أو ضابط كبير في الجيش , إنما أردت  أن أسقطّ حكومتكم..
  كما أجاب حسن سريع بتحمل مسؤولية الانتفاضة كاملة بقوله ( أنا المسؤول عن الثورة , وقد أرغمت الآخرين على حمل السلاح , إنهم أبرياء), كما يؤكد أحد أعضاء الحركة (نعيم الزهيري )في مقال على موقع الناس  "كان الشهيد حسن سريع لا ينام ويردد .. وراءنا نوم طويل !! كانت ثقة حسن بالحزب بلا حدود ويقول.. ستكبر ابنتي وترفع علم الثورة ". كما ندم حسن سريع لعدم تصفيتهم قادة الانقلاب و يذكر نعيم الزهيري " إن حسن سريع كان يردد ونحن في السجن والله لو قتلناهم أو قتلنا رؤوسهم لكان على الأقل خلصنا الناس من بعض الرؤوس القذرة!! ثم عقب حسن سريع على تخاذل حرس باب النظام الشمالي ( الأفندية بدلاً من أن يعتقلوا المجرم عبد السلام وقد جاء برجله ووقع بين أيديهم , يأخذ جليل الخرنوب سلام الأمراء لهُ , وبذلك ارتبك الجنود فالثورة ضد منّ إذا كنا نأخذ سلام الأمراء لرئيس الجمهورية؟ لقد رأيت  راضي شلتاغ وخلف حسين هنالك في التحقيق وبصقت بوجهيهما".
  وبعد أكثر من أسبوع نقل حسن سريع إلى السجن العسكري رقم واحد مع مجموعة كبيرة من ثوار المعسكر  إلى أن اعدم مع رفاقه في فجر يوم 31/تموز/ 1963 وهو يتغنى :
   السـجـن لـي مـرتـبــة والـقـيـد لـي خـلـخـال ....والـمشـنقـة يـا فهــد مـرجـوحــة الأبطــال
  اعدم حسن سريع مع (30) من رفاقه  وهي الوجبة الأولى رمياً بالرصاص .
 
أسباب فشل الحركة :
1-    نقص الخبرة للشهيد حسن سريع كقائد للحركة ورفاقه مع كل شجاعتهم وحبهم للوطن.
2-    النقص في التنظيم والالتزام  للجنود ورجال الثورة.
3-    عدم الاختيار للأفضل والأكفأ  للمدنيين المشاركين في الحركة من قبل المسؤولين في التنظيم .
4-    ضعف التدريب العسكري للمساهمين الثانويين بواجباتهم وأهمية الالتزام  بتنفيذها دون غيرها.
5-    شخصية المنسق مع الحزب محمد حبيب(أبو سلام) لم تكن متماسكة , وانعدام الانسجام مع شخصية حسن سريع.
6-    تغيير ساعة الصفر بسبب الشعور بالخطر,أربك أعضاء الحركة في معسكرات الجيش الأخرى(أبو غريب والوشاش والمحاويل ), وانعدم ترتيب التفاصيل الضرورية والمهمة لنجاح الحركة.
7-    ضعف المبادرة من قبل الضباط السجناء في سجن رقم واحد بالتخلص من المعتقل بعد معرفة حقيقة الحركة والتي من أهدافها إطلاق سراحهم.
8-    كان على قادة الحركة طرح خططهم على قادة وضباط كبار لدراسة المعطيات والتوقعات لنجاح الحركة .
9-    استبسال حراس سجن رقم واحد في الدفاع عنهُ بسبب حماس آمرهم النقيب حازم الصباغ (الأحمر), مما عطل إطلاق سراح الضباط السجناء والمعول عليهم.
10-  عدم الالتزام بنصائح الشهيدين جمال الحيدري  ومحمد صالح العبلي  في استغلال الوقت المناسب للقيام بالحركة, وإن التوقيت الآن غير مجدي .
   مع كل هذه السباب والظروف التي مرّ بها الحزب بعد ضربة 8 شباط 1963 , فقد جسدت الحركة  إرادة الشيوعيين العراقيين  على عدم الاستسلام واليأس , ولكن النضال من أجل رفع المعانات عن الشعب والوطنيين , وقد استنبطت من هذه الحركة النضالية والبطولية الثائرة للقيم والمبادئ ما يلي :
    1- إن المشاركين في الحركة يمثلون جميع القوميات والأديان والمذاهب.
    2- كان انتشار الوعي الفكري والثقافي للشعب العراقي هو السبب في دعم الحركة .
    3- مطالبة أفراد الشعب العراقي بالحياة الحرة الكريمة من خلال حركة الشهيد سريع وتثبيت ذلك باستمالة الأفكار الشيوعية.
    4- إن نبض الشارع العراقي أكد للقوى اليمينية والرجعية ومن دعم انقلاب شباط 1963 إن نبض الشعب مستمر ومن الممكن إقامة حركات وانتفاضات أخرى من أجل دولة ذات مؤسسات  دستورية ديمقراطية فدرالية , ورفض لدور العسكر في تغيير النظام .
   5-  نجحوا القائمين بالحركة في إعادة الأمل والثقة إلى شعبنا العراقي والتنظيمات المتفرقة للحزب الشيوعي العراقي.
  6- وبفشلها تنبه قادة "شباط الأسود " أن كيانهم مهدد بالسقوط ، في كل لحظة ، طالما تحتضن العاصمة في قلبها أكبر تجمع للكوادر العسكرية في" معسكر الرشيد " وبداخل هذا المعسكر في " سجن رقم واحد " تربض قيادات ورتب عسكرية تحضا باحترام وتأييد قطاعات واسعة من الجيش ، لم يحسم ولاؤها للانقلابيين ، وهذا ما قرروا أن يحتاطوا ويستبعدوا خطره فأقدموا على مخطط تصفيتهم بما يسمى (قطار الموت) السيء الصيت .                                                                                                وبهذه الملحمة البطولية العظيمة أتسائل ,لماذا لم تتذكر الجهات المختصة حسن سريع وشهداء حركته ولو بشارع أو ساحة في السماوة أو عين تمر ,و تعتبرهم شهداء ليتسنى لأبنائهم الحصول على حقوقهم ؟ هل المحاصصة سبب نسيان هؤلاء الأبطال و هؤلاء الذين حلموا بعراق واحد , فقد مثلوا الفسيفساء العراقي,فمن بابل كان العريف جليل خرنوب ومن السليمانية زين الدين سيد أمين ومن الموصل العريف حسيب ومن باب الشيخ في بغداد عامل الخياطة حافظ لفتة ومن أربيل إبراهيم محمد علي الذي لم يعترف على رفاقه قبل الحركة حتى نال الشهادة تحت التعذيب  ومن الفرات الأوسط جبار شنافية ومن عبن كاوه العريف جمعة شيشة وصباح إيليا ومن ديالى العريف طه الجبوري والمئات من الأبطال العراقيين ومن الوجوه المشرقة والحالمة لوطن حر وشعب سعيد.
 
 
المصادر
ــــــــــــــــــ
                                                                                                             
1- عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي-عزيز سباهي ج2 ص573)
   2 -   قطار العمر –حكمت محمد فرحان ص229
3- سيرة ثائر – حامد مصطفى مقصود ص472
4- سيرة ثائر – حامد مصطفى مقصود ص472
5- ذكرياتي عن انتفاضة معسكر الرشيد الخالدة – نعيم الزهيري – موقع الناس







295
الفنان التشكيلي كريم العامري الباحث في أعماق الخراب




       حاورهُ - نبيل عبد الأمير الربيعي
                 
 
   أقام الفنان التشكيلي كريم العامري معرضهُ الشخصي التاسع على قاعة دار الود للثقافة والفنون في بابل  تحت عنوان( البحث في أعماق الخراب) , وقد احتوى المعرض على أكثر من (25) لوحة تشكيلية  تقرأ فيها صرخات الحرية وقهقهات الزمان وهواجس الروح ومتاهات الدروب ,وأشلاء لا بد أن تنبض بالحياة وتلعن الليل والظلام الكئيب, فقد استطاع العامري أن يبين لنا من خلال لوحاته جراحاته  المتخثرة في عالم الرؤيا ,و من خلال مقابلة مع الفنان العامري يقول" حين تكونوا عن مرأى في هذا المعرض.. ستصرخ أفواه الأبناء في بطون الأمهات  قبل أن تستيقظ على أنشودة الجرح الدائم , وفي إشارات في مضمون الوحدة الكاملة للوحة , وهي في تقديري مجموعة كبيرة من الوحدات المتناثرة ,إذ من هذا المنطلق فكرت بضرورة الدخول إلى عالم آخر أو أسلوب آخر وهو مفهوم لأهمية التفكيك " ,
 
    * هل معرضكم هذا مغامرة من قبلكم كفنان يسعى للتجديد؟
    *غامرت بتفكيك الوحدة الكاملة إلى أجزاء , ودخلت إلى أسرار الجزء, وما يضم من مخفي فأظهرتهٌ للوجود , وهذا مبنيّ على أساس  معرفي لأن من يتحدث بالوجود دون الرجوع إلى المعرفة فلا يعرف بالوجود ولا بالمعرفة  كما يقول عبد الجبار الوائلي في كتابه " وحدة الوجود العقلية".
 
   *هل جعلتك المغامرة تكتشف الأشياء والدلالات وهي أحد مفاتيح المعرفة؟
   * هذه المغامرة جعلتني أكتشف أشياء ذات دلالات وإيقاعات ذات معنى وتكوينات تكاد تكون مفتاح آخر من مفاتيح  المعرفة , وفتحت أمامي آفاق أخرى للدخول إلى ألامعلوم وأسرار المختفي وإشارات الوجود التي مضى عليها آلاف السنين و كما إنني أدركت إنهُ  من الضروري  جداً أن أدخل إلى جزء الجزء المقطوع من الوحدة المتكاملة للوحة  فوجدت منافذ أخرى مفتوحة وغير مغلقة , وأدت بمعرفتي بسيمولوجيا المكان  في هذا المعرض, قد غامرت بتجربة  قد تكون استثنائية عن تجاربي السابقة.
 
  * نلاحظ لوحاتك في هذا المعرض قد استخدمت فيها التقنيات الحديثة  إضافة إلى الخامة كان هناك استخدام (الفوتو شوب)؟
 *  لقد استخدمت التقنيات الحديثة (الفوتو شوب) وهي تقنيات بصرية  في تنفيذ لوحاتي إضافة إلى استخدام الخامات من جانب آخر , لكنها لا تخلو من إخفاقات , إذ بالإمكان تجنب هذه الإخفاقات بمناطق متفرقة من  هذا المنجز , لعلي توفقت بعض الشيء في كثير من الحوارات البصرية المعلقة على هذه الجدران , وكان هذا توثيقاً للمتلقي في سجل الزيارات للمعرض
 
  * نلاحظ لوحاتك تبحث عن مأوى وقلق في هذا الخراب وعنوان المعرض يدل على ذلك؟
  *باعتقادي  إن عملية البحث عن مأوى في مفاصل العمل الفني هي عملية  معقدة بعض الشيء , من حيث اكتمال تأثيث هذا المأوى  أو مساحة الاستقرار , والقلق حالة مشروعة, والثقافة في مواجهة القلق من رأيي تحتاج إلى معرفة والاتجاه بالخطوة نحو الأمام , ذلك لأني إذا فقدت الجانب المعرفي  بما أنجز فاني  أقع في فخ الإحباط , وبذلك أكون قد فقدت السيطرة على الحوار المقنع , وعلى هذا الأساس عليّ الإفصاح عن بعض ما هو مخفي من إيقاعات ودلالات.
 
   * هل استشرت أحد الفنانين في عملك هذا؟
   *كانت لي ثمان تجارب هي معارضي الحقيقية  السابقة , كنت أشعر بالمتلقي من خلال معارضي , وكنت أستشير صديقي الناقد التشكيلي صلاح عباس في كثير من الأعمال , كان جوابه صريحاً في مناطق الخلل والإخفاق وكذلك أستاذي الفاضل سمير يوسف وهو السبب لصنع فنان اسمهُ كريم العامري.
 
  *هنالك أجد خدعة في بعض لوحاتك, وهذا ما يتناقلهُ ذو الاختصاص في الفن التشكيلي فما هو ردك ؟
  *أنا لا أشتغل أعمالي للمتخصصين كمنهج لحياتي الفنية, ولم أفكر بالخدعة ولم أجد فن الخدعة ولا زلت تلميذاً صغيراً أمام الفنان الكبير شاكر حسن آل سعيد  وفي معرضي العاشر لم تتكرر هذه التجربة فأنا في تجدد وأنقب وأدخل إلى أسرار الأجزاء وأتمتع بلوحاتي لأظهرها للوجود ليستسيغها المتلقي  .
 
رأي النقاد والفنانين في لوحات العامري:
 
   لقد استخدم الفنان العامري في  أغلب لوحاته( الفوتو شوب) كمونتاج  إضافة للتوليد الصوري والطباعة والرسم المباشر  والتخطيط بحيث  يوحي إليك العمل الفني لمخلفات الحرب  أو الذاكرة المحلقة بسنوات المحنة التي مر بها العراق وقد التقت الشرارة بالفنان والناقد التشكيلي صلاح عباس مدير مجلة تشكيل يقول" إن الفنان  كريم العامري فتح لنا نوافذ  وجدانه وذاكرتهُ , وأطل علينا بمستوى فني وتقني لافت للانتباه  وقد كرس فنهُ لتجسيد الحياة العراقية في أصعب مراحلها , وهي حياة  المحنة العراقية بعد الحرب  , وقد اشتغل الفنان بذاكرة الماضي التجريدي وحظ خطاه كي يتجاوز  السياقات التقليدية المعمول عليها في لواحاته الفنية , والعامري فنان متجدد ينحت دائماً في مغزى الأسلوب وجدواه , وبصراحة حقق العامري حضوراً كبيراً على الصعيد الفني في بغداد وبعض المدن العربية , وها هو الآن في الحلة يحقق حضوراً مبدعاً آخر أكد فيه شخصيته وبصمته,ولكن  المتلقي يستطيع أن يستنطق أي عمل فني من خلال المُلغَزات بسهولة , ويبدو لي إن أي عمل فني بمثابة واشِ يقدم الوشاة عن الفنان وما يختلج في ذاته وسره , والعامري فنان مسوغ في الحرية والفهم الجيد في معنى الحداثة  وما بعد الحداثة,وأنا كفنان ناقد لا أرغب بالطباعة , لكن العامري فنان مغامر وفنان جريء , ولوحات معرضهُ تعكس فن الحرب ولكن بشكل خجول ولم يجسد هذه التجربة" ,وقد شارك  الفنان العامري في الكثير من المهرجانات والمعارض العربية والشخصية و حصل على الكثير من الجوائز منها القلادة التقديرية  من دائرة الفنون التشكيلية  ودرع المهرجان الأول  للفنون التشكيلية  لمحافظات الفرات الأوسط  عام2008 وشهادات تقديرية من منظمات عالمية  وإنسانية , ويؤكد الدكتور باسم العسماوي مدير دار الود في بابل "إن العامري تمكن من اختراق  التقنية الحديثة وقد استخدمها في أعماله الفنية  وصناعة اللوحة التشكيلية , وكانت أعمالهُ صدمة للمتلقي بمراجعة ذاكرتهُ البصرية في استحضار واستذكار المواضيع المحتدمة  لهذا الفن, وقد تمكن الفنان العامري أن يضع بصمتهُ التي انفرد بها عن الآخرين  , وهكذا عمل على لوحات تظهر الجرح العراقي الموجود في داخل هذا المواطن الجريح , وهذه هي مهمة الفنان الحقيقية " ,ويؤكد الدكتور محمد عودة سبتي" إن العامري كريم في لوحاته يعزف سمفونية اللون على أوتار مخيلته وهواجسه  الموجعة , التي  تسبح أشرعة  خطوطه في شواطئ جمال اللوحة , وفي عالم مطلق يتلاشى فيه الماضي والحاضر والمستقبل , ليهز المضاجع ويأخذُكَ نصهُ البصري في رحلة أبدية , رحلة سفينة تبحر بلا رجوع , الفنان العامري مباحة دلالاته ومرفرفة إشاراته , فتفتح لنا باب الحوار معها ونتأملها عن قرب , نتفحصه, عن بعد نتقمصها بوجداننا  لتستفز ذاكرة القيود التي لا بد أن تنكسر والحروب التي لا بد أن تندحر , وللطيور وهجرتها التي لا بد أن تعود إلى أوطانها " , لقد وضع الفنان العامري بصمته في أعماق قلوبنا ويؤكد للمتلقي بأن الإنسان لا يموت ما دام قبلهُ ينبض.
   لقد أصاب العامري المرمى في لوحاته , فإن أعماله في هذا المعرض تثير الحوار لأنها متباينة تماماً ,وقد أكد د. باقر جاسم محمد" إن بلاغتهُ الصورية قد عزفَ عن تسمية اللوحات لأن العنوان يوضح للمتلقي مضمون اللوحة  ووجود لوحات متخمة باللون والشكل والفوضى تعبر عن لا عقلانية الحرب , وهنالك مهارة في التنفيذ للوحات وخطوات راسخة وناجحة ومؤثرة وموحيّة , وألوان تميل للعتمة والظلام وهي سمه تعبيرية ضمنية , وقد أضاء العامري جوانب مهمة مما تحملهُ هذه اللوحات وهو قادر على صنع لوحات ناجحة في الوقت الحاضر , وقد أقصى العناوين من اللوحات لكي يفهمها المتلقي",أما تعليق الفنان التشكيلي كامل حسين فيؤكد"إن المعرض مذهل وأجد علاقة بين كريم العامري والفنان ثامر عبد الله , وقد بحث العامري في أرض صلدة وخراب لأسباب منها إن العامري لا يحب الألوان ولكن هنالك أشياء مهمة منها استخدم في لوحاته المسبحة وسبع عيون  وقد فوضها لفنه وهي تمثل جزء من التراث, والعامر لو يكبّر هذه اللوحات بأحجام أكبر لكانت إبداعات موفقة, مع العلم إن لوحات العامري غير متكررة , وقد نجح بهذا التنوع والمتعة في لوحاته",وقد أكد الفنان التشكيلي سمير يوسف إن العامري " باحث عن المجتمع والبيئة ليجد الشيء الجديد وهي اللوحة الجديدة , ولكني أطلب من العامري أن ينتصر على (الفوتو شوب) لا الآلة تنتصر عليه وهو الفنان الباحث", ويعقب د. سلام حربة إن معرض العامري" أجد فيه مدارس ومنها التجريد المتأثر بالفنان شاكر حسن آل سعيد وقد استخدم العامري الفوتو شوب ليزاوج بين العمل الحسي والعقلي لاكتمال اللوحة , ولكن لوحات العامري أجد فيها معنى الخراب لما أصابنا من الحروب ولكنهُ ليس أبدي بسبب وجود النافذة التي تعني الأمل للمستقبل",وللدكتور محمد أبو خضير تعليق عن معرض الفنان العامري "كل معرض لا بد أن يضيف رؤية على مستوى الخامات ,العامري قد امتلك إغواء للمتلقي بمنظومته التقنية (الفوتو شوب ) , وعنوان المعرض يمتلك نوع من الشعرية العالية لكشف هذا الخراب".
  وقد أكد العامري بأنهُ ليس مسوق للوحاته ولكنهُ وجد منهجاً خاصاً به كعراقي يرفض الاستقرار وحياتهُ مليئة بالمغامرات والتجديد .

296
تجليات مفترضة .. المعرض الشخصي للفنان التشكيلي ناصر سماري

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   كان حلم بعض مثقفي وأدباء وفنانيّ  مدينة الحلة أن يكون لهم دار لعرض منتجاتهم الفنية والأدبية  , وقد تحقق ذلك في إقامة دار الود للثقافة والفنون , وبمديرها الرائع  الفنان التشكيلي والأستاذ الجامعي (د.باسم العسماوي) , كما أضاف لهذه الدار عرض سينمائي أسبوعي  لبعض الأفلام العالمية , وقد أصبحت الدار  مكان لتجمع مثقفي المدينة وفنانيها  في إقامة معارضهم التشكيلية , ومعارض لأصدقائهم  من محافظات شمال وجنوب العراق.
   ففي يوم الاثنين المصادف 21-5-2012  أقام الفنان البصري ناصر سماري في مدينته الثانية الحلة معرضهُ الشخصي بعنوان(تجليات مفترضة) , حيث عرض ما يقارب (29) لوحة تشكيلية في الفن التجريدي الطبيعي, وبأحجام كبيرة تتراوح بين مترين إلى مترين ونصف ... الفنان سماري من  مواليد البصرة الفيحاء  وتدريسي في كلية الفنون الجميلة جامعة البصرة وعضو نقابة الفنانين و حالياً طالب دكتوراه , وقد صرح  في معرضه  الشخصي" لقد عملت عبر الأنساق والقيم على سطح النص  والسطح البصري للوحة  التي أتاحت لي مساحة واسعة على سطح اللوحة الأبيض, و كل ما أحملهُ في داخلي  هو هموم مدينتي البصرة التي تعرضت للحروب والنكبات والكوارث وخراب المدينة والإنسان  , لقد تحملّت هذه المدينة الكثير من المعانات , فهذه إرهاصات تؤدي إلى تكوين ذات الفنان  من حزن وفرح , فيسجلها بشكل فني تشكيلي وبأشكال معينة لا يستطيع  حتى الفنان أن يقرأها  بالشكل الصحيح لأنها تخضع على عبثية معينة , مما تتيح قراءة اللوحة  في كل زمان " كما أشار الفنان ناصر سماري " إن أعمالي التجريدية لا تشبه أعمال الفنانين لنفس المدرسة , ولكن الفنان قد حقق خصوصية وقد حافظ على أصالة العمل التجريدي, وأنا أطمح أن يرى أعمالي هذه بعد سنوات طويلة ويدرسها و قد يختلف المتلقي بقراءتها عن الفترة الحالية " .
   وفي لقائنا مع مدير دار الود د. باسم العسماوي والتدريسي في كلية الفنون الجميلة جامعة بابل , كان ممتن لتواصل طريق الشعب مع هذه الدار ونقل  كل ما يدور فيها من ندوات ومعارض تشكيلية إذ عقب " جريدة طريق الشعب جريدة متميزة  بعناوينها وموادها  المهمة وباستقطابها للثقافة والمثقفين ولا سيما  دار الود للثقافة والفنون في بابل  " كما أشار إلى معرض الفنان ناصر سماري  " فقد حلّ الفنان سماري ضيفاً  بيننا من البصرة الفيحاء , فهو فنان متسلقاً فوق الجبار , وبحاراً تارةً  في أعماق البحار وأخيراً منقب آثاري للتضاريس  البيئية , عبر فرشاته و بإيعاز  من عقله  وإحساسه , فقد استقطب معرضهُ هذا زهاء أكثر من (200) شخص , كما أبهر الجميع حقاً  في منتجه ونصهُ التشكيلي  البصري , فقد تمكن أن يثير تسائل  المتلقي  الكونية وفق هذه التضاريس التي هي أشبه بالتجريد المجهري , لوحات الفنان ناصر تأخذك من اللامنتهي  والخوف المفرط والألم الجميل , وهذه التكوينات في لوحاته هي عبارة عن تكوينات طبيعية عفوية , فقد نقل لنا روح الاحتراف في الطبيعة وعلى حفريات لم ننتبه لها إلا مرورنا مرور الكرام".
   كما أشار د. محمد أبو خضير أكاديمي أستاذ جامعي " تعتبر لوحات الفنان ناصر ذات رؤيا  واضحة ومعبرة  , فيها نوع من معالجة الواقع الذي نعيشه  من الجانب الانفعالي الأيديولوجي  , بسبب الخراب والعصف الذي أصاب العراق  والعراقيين , علينا أن نتلقى  ما يصبح لمرحلة ما بعد الخراب , ففي لوحات ناصر سماري نوع من السرد اللوني  والكتلة , وطبيعة الخط , لكن هنالك عتمة محيطة بلوحات الفنان , وهنالك هندسة فوضوية متجزئة وتمرحلات  صورية على ضوء الواقع بعد الخراب  والهدم , قد حاول الفنان تجسيدها بمعرضه هذا" , ويشير د. عاصم عبد الأمير عن لوحات الفنان ناصر في فولدر المعرض " ثمة رسامون يلدون من رحم الفجيعة , وينمون معها بخط متواز, لكن دون أن تحرفهم خطاهم نحو اللاشيء , ناصر سماري أحدهم دون ريب, فقد حمل معهُ مشروعاً جمالياُ  واقتراحات لقيم مضادة لما ألفناه من تجريدات بدت بحكم التداول , كما لو إنها  تكرار لهذيانات لونية , ربما يكون سماري من جيل حمل معهُ  حزمة ضوء في فضاء اليأس بعد إن علا إيقاع الخراب , توازياً  مع طبول  التنازع الطائفي " , أما الكاتب والروائي محمد خضير  فيؤكد في فولدر المعرض إن الفنان ناصر سماري " يتخذ من لوحاته من التقنية العشوائية للمدرسة  الوحوشية ..  الملطخة بفعل الصراع العميق  مع أحلام  الكهف , ألواح منقوشة , وجوه بدائية  رمادية , لطخات زرق ,  شروخ وانهيارات , كلها دلائل على الأصل التصويري  العميق لجدران الكهف التي غطاها الفنان سماري  بطبقات إضافية  من رؤياه الصاعدة إلى أفق التجربة اللونية الحرة  بحنين طفولي قديم ".
  يعتبر الفنان ناصر سماري من الفنانين الذين يمتلكون المدد التخيلي الذي يوصل فيوضه دون انقطاع , وغالباً ما يذهب به إلى فنتازيا  تنغلق تارة وتنفتح  أخرى تبعاً للحظة التخاطب مع جغرافية السطح التصويري .


297
معرض الفنان التشكيلي ثامر الأغا.....زخات رصاص – رصاص- حبر وألوان





نبيل عبد الأمير الربيعي
 
   أقام الفنان التشكيل (ثامر الأغا) معرضهُ الشخصي الثاني على قاعة دار الود للثقافة والفنون في بابل  يوم الأحد 27-5-2012 والذي احتوى على (52) لوحة, ويعتبر هذا المعرض التخطيطي الثاني بعد معرضه الأول الذي أقامهُ في إيطاليا 2009 , وقد صرح لطريق الشعب :"إنني  أبحث عن موضوع الديناميكية الدرامية , وصراخات ونداءات ألسن متشابكة وخطوط بشحنة وجدانية عالية , تتماها مع خيال اقتنصتهُ من الواقع , فقد استخدمت  القلم الرصاص المدرسي والحبر الصيني والألوان , وذلك لسهولة التعبير , وقد طرحت مواضيع معانات المجتمع العراقي اليومية , فهي مواضيع قد سجلت في فلاش الذاكرة ثم حولتها إلى عمل  فني  وموضوع اللوحة قد وضعتهُ في زاوية اللوحة إضافة إلى التجميل كموضوع عن الفقراء والكادحين " كما أشار إلى إن أعماله" ينوي من خلال  إصلاح السلك المعطوب  المزمن القائم بين المتلقي واللوحة الحديثة المعاصرة , ولا تستغربوا إذا قلت إن المتذوق العراقي وبالأخص البابلي  لديه شرهاً كبيراً في مجال  التذوق الفني , لكن هنالك حلقة مفقودة في الفن التشكيلي  بسبب منع الفن لفترة لأسباب قد تكون سياسية أو دينية  , مما أبعد المتلقي عن التواصل , لكن في الغرب استمر التواصل عبر المدارس الفنية فنلاحظ امتلاكهم للحس والذائقة الفنية , ولذلك تطور الفن وخاصة في إيطاليا, في الوطن العربي استمر فن الخط العربي فقط ولذلك لم نلاحظ هنالك قطع فيه " ,والفنان الأغا  يرصد ويتقصى إشكال العنف الفكري والسياسي والاجتماعي والديني, باحثاً عن جذوره التاريخية عبر مسيرة البشرية, إن ما يمكن أن توصف أغلب لوحات المعرض , إذ يتميز الفنان ثامر الأغا على قدرته في اقتناص اللحظة الفنية وتشيئها من خلال توظيفه لموتيفات عديدة تمثل قباحة العنف وما يرافقه من تداعيات مدمرة، وهذا ما حفلت به السطوح التصويرية، وهي تعج بأحاسيس الفنان الشخصية.
   وقد أشار الأستاذ حسام الشلاه " إن لوحات الفنان الأغا قد أبهرتني  , فقد كانت أعماله عبارة عن تحطيم داخلي للفنان وحاول أن يعكس هذا التحطيم  على حياة المرأة في الواقع الاجتماعي" كما علق د. عاصم عبد الأمير (أستاذ أكاديمي) على لوحات الأغا " أعمال الأغا فيها خيالات واطروحات البثيولوجية  الشخصية , وتعتبر أعماله تطوير واضح لما أنتجهُ في معرضه السابق, وقد استخدم التقنيات  في أعماله  , فقد حاول الأغا أن يخلق علاقات فيها لعب على المخيال الشخصي , والتهيؤ في القفز على المنطقة  التي تتخالط فيها المونتيفات الشعبية ".
   أما  د. باسم العسماوي فقد أشار إلى أن أعمال الأغا "أو  تخطيطات ثامر الأغا تماماً متشعبة , فقد تناول عدة مواضيع اجتماعية ولا سيما معانات الشعب العراقي في تلك الظروف القاسية  وما سبقها  من ظروف وقد نجح في إبراز  المسكوت عنهُ في السابق وفي الوقت الحالي من معانات المواطن العراقي , و أعمال الأغا ذات مخيال عالي جداً ",و الفنان ثامر الأغا في معرضهُ التخطيطي هذا ,  إذ  يسوق للمتلقي قيم النقاء والفرح، والوضوح وهو رسالة واعية، وواثقة من أن المستقبل سيكون لخالقي السلام والمعرفة والجمال.
 
 



298
الفنان التشكيلي كامل حسين بين جمالية اللوحة  والذائقة الفنية العراقية



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    الفنان التشكيلي كامل حسين من الفنانين العراقيين الجادين في أعمالهم فهو فنان متجدد في لوحاته ومن المتمسكين  بالموضوعية الأساسية في صياغة لوحاته بتجربته المفعمة بالحس الرومانسي , ولكن  يتمتع هذا الفنان بالخصوصية الفنية في لوحاته ولهُ بصمته الخاصة ,منها الأشكالّ والثيم الأسطورية الحيوانية والآدمية في لوحاته التجريدية وخيوطها التعبيرية والرمزية معاً.
   ولد الفنان كامل حسين في مدينة البصرة جنوب العراق عام1952 وقد تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة جامعة بغداد –فرع الرسم عام 1977 , حيث أقام أول معرض لهُ على قاعة أكد في البصرة عام 1975 وآخر معرض كان في نيسان عام2012 في دار الود للثقافة والفنون في بابل, ويعد هذا المعرض المعنون(معرض غير الشخصي)الرقم الحادي عشر من معارض الفنان , الفنان كامل حسين عضو في جمعية الفنانين التشكيليين وعضو نقابة الفنانين وعضو الهيئة الاستشارية في وزارة الثقافة العراقية وعضو في اتحاد الأدباء العرب وعضو اتحاد الأدباء العراقيين , ويعمل مدرساً في معهد الفنون الجميلة –قسم البنات فرع الرسم , وقد شارك بعدة معارض داخل وخارج العراق.
   دائما يستخدم الفنان كامل حسين  الألوان الحادة والمضيئة  في لوحاته كأساس مؤثر , نلاحظ اللون الأصفر مؤثر في أغلب لوحاته , إذ تضيء معرضه بشكل مؤثر , فهو شديد الحساسية من خلال ما يمتلكهُ من أسرار وزحمة اللون , فنلاحظهُ دائماً يوظف  أدواته الفنية لأشيائه  الموجودة مسبقاً للوحاته  الجديدة ومعارضه المستقبلية , فهو فنان يجمع  التحولات الديناميكية واللاشخصية  التعبيرية  بين المحلية والعالمية  فقد صرح أكثر من مرة " على هذا العالم أن يستعيد وجدّه وجماله قبل أن يتشظى  ويتحول إلى مسخ , أريد إعادته إلى براءته الأولى , لأنهُ كان أجمل آنذاك فالإنسان حين أصبح كائناً كونياً صار بشعاً وافتقد خصوصيته وتميّزه" , فهذا إحساس صوفي مقصود لإلغاء  حدود المألوف في الرسم .
  كما أكد الناقد التشكيلي صلاح عباس إن الفنان كامل حسين" قد اختط طريقاً خاصاً منذ أكثر من أربعين عاماً في سبيل أن يحقق نجواه  ويقدم خلاصته الرائعة  في خضم هذه الحياة العسيرة , فهو يفطر ثلاث وجبات يومياً  فناً  لكي يزاول عمله الفني وهو ساكن بين الألوان والأشكال , وعلى مسيرته الفنية الحافلة بالإبداع  والجد والاجتهاد والمثابرة وجدير بفنه  من خلال قراءاته المتعددة للنصوص الأدبية , كان موضوعه  الأساسي  مغزى الوجود الآدمي أو مغزى الزمن والحياة  بفعل وجودها الحيوي , كما يمتلك عين فاحصة لدقائق الأمور , فهو يؤكد حقيقة الرسم اليومي للوحة ليس بطريقة التوثيق ولكن بطريقة نمو اللوحة , يعتبرها كائن يولد ويحبوا وينموا ويسير ثم يلقى نصيبه نصيب أي كائن حي" .
   كون الفنان كامل حسين  دؤوب ومثابر وعينيه متفحصتين  على المناهج الجديدة  في الاشتغالات , لذا فأنهُ  ابتكر ذاته بين الفنانين داخل العراق ولهُ مساهمات  تذكر على المستوى العربي والعالمي , فهو يصبّر المحبين  بعيداً عن الأضواء, فقد واظب وعمل ونجح وحقق جدواه وخلاصته الرائعة , ولذلك كان هذا الحوار مع الفنان القدير كامل حسين:
 
   -  متى بدأت تجربتك الفنية وبمن تأثرت من رواد الفن التشكيلي؟
   - كانت تجربتي الفنية مبكرة وقد تتلمذت بكل من الفنانين (محمد راضي عبد الله و شوكت الربيعي وشاكر حمد ) ولكني قد تأثرت بكل من الفنانين الرواد (فائق حسن وحافظ الدروبي وكاظم حيدر وإسماعيل الشيخلي)  وقد تربيت  ببداياتي الفنية بمرسم  تركهُ لنا كل من الفنانين (صلاح جياد وفيصل لعيبي) و فيه الكثير من اللوحات  التشكيلية  , حيث كانوا أسماء مهمة من خلال فترة السبعينات من القرن الماضي (1970-1971) فقد كان  مرسم هؤلاء يحتوي على كل شيء حيث أصبحت ابناً لهذا المرسم , ولكن قد تمردت عليهم بعد ذلك , فقد استفدت منهم ولم أتأثر بهم, كانت للوحات المائية للفنان صلاح جياد الدور في تعليمي , أما الفنان فيصل لعيبي فقد تعلمت منهُ الخط الخارجي , ولكني اتخذت طريقي الخاص  في الفن التشكيلي , وأنا الآن أعمل وأتمنى من الآخرين  أن يقيّموا  أعمالي الفنية  , علماً بأن بلدنا يفتقر للنقد التشكيلي , هنالك إشكالية في الفن في الوقت الحاضر , وقد أصبح الفن  يتيماً  , ولم يكنّ هنالك نقاد لهذا النوع من الفن  وإنما هنالك بعض المجاملات  للفنانين التشكيليين , فهنالك نقد فني ولكن لم  يكنّ هنالك نقاد بمعنى الكلمة .
                                                                                                                        - إلى أي بعد فني تتجه أعمالك الفنية التي أنجزتها خلال تجربتك ؟
- أعمالي الفنية تتجه إلى أماكن مفتوحة و حُرّه , لا أستطيع أن أقيدها ,وليس لي علاقة  بالتجريد ولكن هنالك تقنيات جديدة يفرضها علينا الواقع في العصر الحاضر والتكنلوجيا , ومن خلال متابعتي للحياة والكون والأحداث , أنتمي كثيراً لكل شيء في الحياة منها الإنسان والحيوان والكواكب والكون والمستقبل و دائماً أصغي  في عملي للمستقبل , علماً إن الحاضر جزء من  المستقبل , لديّ أحلام كثيرة وكبيرة لتطوير لوحاتي من خلال وصولي إلى اللون لكي أصل  إلى الضوء  ليتحول اللون إلى ضوء , وكان ذلك في معرضي الأخير في دار الود في بابل ( معرض غير شخصي) و وحسب قول الأصدقاء والنقاد والفنانين التشكيليين هو" إشاعة الضوء في لوحاتي وألوانها مشعة وقوية , هذا شيء يفرحني  كثيراً".
 
- هل تستلهم  لوحاتك من خلال مشاهداتك الشخصية  أم من خلال ذاكرتك؟
- أعمل على أساس تجربتي الشخصية  إضافة إلى الذاكرة والتأمل , وفي داخلي شيء  من البوذية , لأني كثير التأمل للعالم واعبرعنها من خلال لوحاتي , وهذا يعتبر من خلال  تراكماتي الشخصية السابقة وفيها نوع من القدسية  والوسائل الغريبة , أعمل على تغيير التقنيات والأسرار في لوحاتي وهذه تأتي نتيجة الخبرة والممارسة وحب التغيير في المادة بطرق عديدة.
 
- هل اختلفت الرؤيا   والأبعاد الفنية للفنان التشكيلي في الوقت الحاضر عن رؤيا جيل الرواد في السابق؟
-  قد اختلفت الرؤيا في الوقت الحاضر والزمن بحالة تطور وكذلك الفن ,  كانت تجربتي الخاصة في معرضي الأخير (معرض غير شخصي) هي نتيجة تجربة منذ الطفولة ومنها استخدام أحلامي وعلاقاتي وتأثير  البيئة والعائلة في لوحاتي, منذ الطفولة لي موقف بما يحيط  وما مرّ في حياتي  اليومية , أنا أمتلك حفريات في ذاكرتي  وهي نتيجة تراكمات من خلال حياتي اليومية وما مرّ بها من حوادث وأنا أبن البصرة وهي ثغر العراق , تلك المدينة الجنوبية التي تعرضت لأنواع الحروب والمآسي الذي مر بها أبناءها  , فأنا أقرن الأشياء بالأشياء  الأخرى, فهي من الماضي عبر الحاضر ثم المستقبل , وقد تكون من المستقبل للماضي , أي قد تكون مقلوبة , وهي ذكريات قد طبعت  في ذاكرتي من خلال صور مدينتي وأزقتها وصور أصدقاء الطفولة  , وهذه ذاكرة تشكيلية  قد تبدوا من الأشياء الراسخة في ذهني وذاكرتي وتكويني النفسي ومزاجي , أتمنى التغيير نحو الأحسن لهذا البلد الذي عانى الكثير , ليس  كرغبة , لأن  الحياة مستمرة ومتغيرة , أتمنى أن تعود عقارب ساعة  الزمن إلى الوراء , مثلما لعب فيها الفنان سلفادور دالي , أي عودة الزمن إلى الوراء , لأني لم أقتنع بالزمن في الوقت الحالي ,كما لدي مشاكل فلسفية مع الكون كبيرة وأمتلك أسئلة كثيرة وقد أطرحها من خلال لوحاتي.
 
- من خلال تجربة الفنانين الرواد قد خلقوا تجمع خاص بهم , هل تعتقد إن هنالك  النيّة في تأسيس تجمع للفنانين التشكيليين على غرار الفنانين رواد لفترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي؟
- لم أتوقع ظهور تجمع  جديد للفنانين  التشكيليين مثلما مرً بالفنانين  الرواد , وقد ذهب ذلك الزمن , زمن  الاقتراب من البعض , الحياة كانت سابقاً بسيطة مما أدت إلى ظهور  التجمعات الفنية  , في الوقت الحاضر الإنسان يختلف مع نفسه في كل دقيقة وفي كل يوم , العالم الآن متشضي   والتاريخ في الوقت الحالي غير التاريخ القديم و الحياة الآن صعبة  , ومن الصعوبة  مواصلة التطورات التي تحدث في العالم من حولنا , وخاصة ما يحدث في دول العالم الثالث, فقد أصبح في هذا العالم التخلف موهبة  أبناءه و ونحن في بلد من الصعوبة الحصول على معلومة صحيحة نتمكن من خلالها خدمة بلدنا ومجتمعنا ومن ثم خدمة الفن التشكيلي الذي أصبح هوّسنا , مع الأسف إن أبناء الوطن العربي تتركز الأنانية في طباعهم , ولكن الفنان الجيد في هذا العالم يحالوا إحباط معنوياته ,ولم يُدعم بمقالة جيدة  ,ولكن هذا الإنسان يمتلك الغيرة والحسد فيحاول بشتى  الوسائل التقليل من قيمته وفنّه , وهذه الصفة الغالبة لأبناء هذا الوطن الكبير.
 
 - هل عملك الفني مستقل عن عمل الفنانين ويعتبر عمل فردي, أم  هنالك مؤثرات من خلال تجارب الآخرين ؟
- كل عمل فردي هو عمل جماعي , العمل الفردي يأتي من ذات متأثرة  في جينات الإنسان والتربية  وتأثيرات التاريخ والحضارات القديمة وحتى هنالك تأثيرات من قبل العصور الحجرية القديمة , نحن نعود بفننا التشكيلي  قبل آلاف السنين , فقد رسم أجدادنا على جدران الكهوف والجماجم وجلود الحيوانات, فنحن لم نأتي من فراغ , إذ نمثل تمثيل شرعي للحضارة وكل بقعة محددة في الوطن العربي , أتمنى أن يكون العالم كلهُ ملكي , لقد ساعدتنا التقنيات الحديثة  بمعرفة ما يحصل في هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة , بواسطة النَتّ  والفيس بوك والقنوات الفضائية , هذه التقنية لم تكن موجودة سابقاً .
 
-  هل توجد قطيعة ما بين لوحاتك التشكيلية السابقة ولوحاتك في معارضك اللاحقة , أم هنالك تواصل مابين الاثنين ؟
- لا توجد قطيعة مطلقة , لكن توجد علاقات متقطعة , اللوحات التي يمر عليها الزمن  تبقى خالدة , والتواصل يحتاج إلى النباهة , مع الأسف  الفن التشكيلي في الوطن العربي لم يتابعهُ المواطن العربي  بسبب افتقارهُ للرؤيا الفنية , لكن نلاحظ ما يحدث في أوربا  فالمواطن يتابع الفنان ويصادقهُ ويعيش معهُ لسنوات طويلة في سبيل  كتابة مؤلف عنهُ وعن تجربتهُ  الفنية , فقد كان أحد الأصدقاء المقربين لبيكاسو وهو الكاتب بيرجر يتابع أدق التجارب الناجحة والفاشلة لهذا الفنان, ولم يأتي الكلام عن هؤلاء الأعلام عن فراغ ,عندما كان الفنان بيكاسو يرسم وتصبح اللوحة عصية علية كان يمرض وترتفع درجة حرارة جسمه , حتى يصل إلى إكمال اللوحة ويحس بنجاحها ,  أما أنا شخصياً  فإذا فشلت عندي اللوحة أصاب بالكآبة  وقد أنقطع عن العالم والأصدقاء  بسبب عصيان للوحة  من لوحاتي , عندما أرسم أنقب عن الأشياء لأنقلها  للوحتي و اللوحة ليست من السهولة  إنجازها  وإنما هي عصية على الفنان التشكيلي , لكنها سهلة على المشاهد والمتلقي  الذي يشاهدها فقط ألوان وخطوط وبقع لونية , ما هكذا  اللوحة !!, اللوحة كائن حيّ قد يتقبلك  أم لا , أحد الأصدقاء يقول عندما أبدأ عملي  على لوحة فنية  ما , كأنما عندي موعد مع امرأة , أستحم وأتعطر وأتأنق ثم أبدأ بالرسم  , أي المزاج هو أحد أسباب نجاح اللوحة و إنجازها ليس بالشيء الهين, لكن في الوطن العربي وبسبب غياب الثقافة الفنية فلا يعرف المواطن القيمة الفنية للوحة .
 
 
  - ما هو المسار الفني للوحاتك؟
 - لا أستطيع أن أحدد مسارات لوحاتي الفنية , لكن كل الذي أعرفهُ إن معرضي الأخير الذي انتهى قبل أيام  , فقد بدأت بالإعداد  لمعرض فني آخر بتقنيات مختلفة وبرؤى جديدة , ولكن لم أستطيع أن احدد ملامحها , وإنما اللوحة هي التي تحدد ملامح معرضي  المقبل .
 
 - ما الذي تفكر في انجازه من لوحات في معرضك المقبل؟
  - في بالي استخدام هذه التقنية التي تحدد من خلال الطباعة , اعتقد سوف احدد منجز مهم  إذ قد توفقت  فيها , وأتمنى أن لا أواجه العثرات الفنية , لأن  الفن التشكيلي يدخل فيه المزاج والظروف المعقدة الكثيرة والخاصة , فأنا طالب ماجسيتر  ومن الصعوبة التوفيق بين الدراسة ودراسة اللوحة وهذا ليس من سهل.
 
- بعد رحيل النظام التوليتاري , هل تجد هنالك انفتاح نحو الفن , أم  هنالك  هيمنه تلوح في الأفق؟         
 - بعد عام 2003  قد تغير كل شيء , ولم يتغير شيء !!, وأكتفي بهذا الجواب , الحرية بزمن النظام المقبور كانت تسرق بصعوبة من قبل الفنان لإنجاز فنه , لأنهُ نظام دكتاتوري قاسي , الآن الحرية  تسرق من قبل عامة الناس الذين لا يفهمون في الفن , أحياناً يكون لهم الكلمة الأولى , الفن دائماً يتجاوز عصره وسابق زمنه  ويعاني حتى من أكثر النظم الديمقراطية .
 
- هل يمثل الفن التشكيلي مظهر من مظاهر الاغتراب , أم شكل ثقافي دخيل؟
- أينما وجد الإنسان  وجد الفن و لأن الإنسان هو فنان بمشاعره  ومزاجه ورؤيته و بتفرده من بين الكائنات الأخرى , هذا الكائن الأشبه بقارة غير مكتشفة , فالفن لصيق تماماً بالإنسان ,أينما وجد الإنسان وجد الفنان , ولكن هنالك تجارب خاصة قد خلقت من الفنان ,أعلام كبيرة في هذا المجال منهم ( مايكل أنجلو ودافنشي وروفائيل ) وأسماء كبيرة أخرى , وهذا يتبع الظرف الذي يمر به الفنان .
  الفن يحتاج وقت طويل قد يكتشف فنانين كبار و لكن الفن في  الوطن العربي حالياً في نمو بطيء , والسبب تأثير الأنظمة الحاكمة والمناخ  والوضع السياسي على المواطن والفنان, إضافة إلى المتلقي والثقافة الفنية التي يحملها والسلوك والبنية , الغرب قد سبقنا  بمئات السنين , نحنُ نحتاج الكثير من الجدية ومعرفة الذات والأشياء  والدقة التفصيلية لنتوازن معهم وهذا شيء صعب.
 
- لقد أهمل الفن بجميع مجالاته من قبل وزارة التربية وأصبح درس الفنية يستحوذ علية بقية مدرسي الدروس العلمية , هل السبب الوزارة أم مدرسي درس الفنية لأن الكثير منهم بعيدين عن هذا المجال ؟
- الفنان في العراق والوطن العربي عليه أن يجعل من نفسه مؤسسه , ويعلّم نفسه  بنفسه ليستفيد من تجارب الآخرين ,  الفنان في العراق يحاول أن يجمع  بشتى الوسائل بعض المال من أجل  عمل معرض شخصي ونشاط إنساني , وليس هنالك أي منظمة سواء كانت فنية أم منظمات مجتمع مدني  , تحاول أن تساعد الفنان وتدعمهُ مادياً في هذا المجال , فليعتمد الفنان على نفسه ويترك المتغيرات التي وُعدنا أن نحصل عليها في هذا البلد , وهذا بعيد عن الواقع الذي نعيشهُ , سوف تعود الرتابة والملل في هذا البلد , قد يتغير الشكل لكن المضمون نفسه , درس الفنية مهمل منذ سنوات طويلة , ويبقى مهمل ما دام لم يمتلك العراقي تلك الذائقة الفنية , في النظام السابق جُيّر الفن لصالح النظام والقائد الضرورة  والحزب القائد , ولكن الفنان أستطاع أن يستفيد من هذا النظام  لصالح القيم الفنية .
 
 
 


299
العالم العراقي (جليل كريم أحمد )ضمن أهم خمسة علماء في الكيمياء عالمياً



نبيل عبد الأمير الربيعي
 
  عندما ألقى بحثه (أ.د.م جليل كريم أحمد) في المؤتمر العالمي الثاني للكيميائيين الشباب في الجامعة الماليزية  وبحضور أكثر من (400) باحث من مختلف بلدان العالم , اصطفوا لهُ الحضور وقوفاً  بالتحية والتصفيق في قاعة المؤتمر نتيجة للعلمية وللبحوث العديدة التي قدمها البروفسور جليل كريم أحمد داخل العراق وخارجة , فهو التدريسي في جامعة بابل رئيس قسم العلوم الأساسية في كلية التمريض –اختصاص الكيمياء , كان مشروعهُ الجديد الذي استخدم طريقة الإلقاء وليس البوستر في قاعة المؤتمر, وهذا يعد تمييزاً بحد ذاته وقد زاد  العراق فخراً واعتزازاً بقدرة  الباحث وتألقه في المحافل العلمية والدولية, مثلما أبدع عالم الفلك العراقي عبد العظيم السبتي وأطلق اسمه على أحد الكواكب من قبل المجمع الفلكي العالمي , وقد سبقهم العالم عبد الجبار عبد الله في خمسينيات القرن الماضي في مجال الفيزياء .
مشروع البحث:
  كان مشروع بحثه الموسوم ( استخدام هيدروجين الماء بدلاً من الغاز الطبيعي في صناعة الحديد الصلب), والتي تتلخص الطريقة  باستخدام هيدروجين الماء بدلاً من استخدام الغاز الطبيعي  حيث أظهرت النتائج  من تصنيع معمل ريادي  لهذه العملية , أن  الهيدروجين أكفأ من  أول أوكسيد الكاربون  في عملية الاختزال , موفراً وقتاً بمقدار  10% من الزمن اللازم للوصول إلى نفس  درجة التمعدن في  الطرق السابقة , كما إن الهيدروجين يعيد نفس كمية الماء  المستخدم لإنتاج  الهيدروجين بعد عملية الأكسدة , إن هذه الطريقة تمنع الضائعات أو استهلاك المادة الأولية  لإنتاج الغازات المختزلة , وعدم طرح أية مخلفات  سواء كانت غازية أم صلبة , وفوائدها تتمثل  بإنتاج نواتج عرضية  من غاز الأوكسين بمقدار 430 ألف طن  يستفاد منهُ في عمليات  كثيرة في الطب والصناعات وفي عمليات اللحام , كما تنتج هذه الطريقة بحدود 108 طن من الماء الثقيل الذي يستخدم في الصناعات النووية والذي يباع بأسعار  عالية , ويمكن للدول  التي لا تمتلك صناعات الحديد لشحت الغاز الطبيعي في أراضيها من إنشاء هذه الصناعة  لديها باستخدام هذه الطريقة, كما نرجو من وزارة الصناعة الاستفادة من هذه الطريقة الجديدة والتي جاءت من باحث وعالم عراقي .
  لقد بدأ البروفسور جليل كريم أحمد مسيرته العلمية منذ عام 1965 ولحد الآن , فقد حصل على ثمانية براءة اختراع , خمسة منها من داخل القطر وثلاثة  أخرى من خارج القطر , فقد حصل على براء الاختراع على استخدام هيدروجين الماء بدلاً من الغاز الطبيعي في صناعة الحديد الصلب بتاريخ 19-5-2011 من قبل الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية قسم الملكية الصناعية , أما براءة الاختراع الثانية فكانت في البحث الموسوم(خزن ونقل الحديد الاسفنجي), فقد شارك الباحث في أكثر من تجمع علمي عالمي خارج القطر , علماً غنهُ قدم بحثاً آخر في ( استخدام عصير الشوندر كمادة ماسكة لايونات العناصر الثقيلة والتي تؤدي إلى تسمم الإنسان) ,وبحثاً آخر قد نال به براءة الاختراع وهو ( استخدام صبغة الكلوروفيل للوقاية من الإشعاعات العالية الطاقة) والذي ينوي استخدامها ككبسولة  يتناولها الأطفال والكبار المصابين بأمراض السرطان وخاصة  في مناطق جنوب العراق , إذ يتضمن المشروع  إنتاج كبسولة من نبات الكرفس أو السبانخ بعد غسله بالماء المالح والمقطر  على أن يتم حلجه وتركيزه  تحت الضغط المتخلخل ليكون ملائماً للتعبئة  بوزن 250 ملغم للكبسولة الواحدة وبرطوبة نسبتها 30% , حيث يتناول العقار من قبل الأطفال في المناطق التي تتعرض للإشعاع  , لأنهُ قادر على امتصاص الحرارة والأشعة فوق البنفسجية  والأشعة السينية المميتة ذات الطاقة العالية , علماً إن مادة الكلوروفيل فائدتها تقلل من التلوث الثنائي لأوكسيد الكاربون , ولها القابلية  على امتصاص الغازات , لأن جزيئة الكلوروفيل لها قابلية عمل تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كيمياوية .
   للبحوث القيمة والكثيرة الذي قدمها البروفسور جليل كريم احمد فقد كرم من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية وقد منح درع الوزارة وشكر وتقدير لمشاركته لتكنلوجيا الأكسدة المتقدمة الذي عقد مؤخراً في الولايات المتحدة الأمريكية , مع العلم إنهُ كان الباحث العربي الوحيد  المشارك في المؤتمر  العالمي السابع عشر والذي عقد برعاية مؤسسة ( رودكس) الكندية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية  الذي شارك فيه زهاء (30) دولة و(300) باحثاً , كما إن الباحث نال الاهتمام للتجمع العالمي للحديد وقد منح  شرف العضوية في التجمع العلمي العالمي للحديد والصلب , كما قام الباحث  بتأليف كتاب علمي بعنوان (موسوعة الغازات) والذي يقع بحدود (250) صفحة , حيث تناول في الكتاب لـ(317) نوع من الغاز .
  بهذا نتمنى من وزارة الصناعة الاهتمام بالبحوث المقدمة من قبل هذا العالم  والتي تتلخص بإيجاد طريقة بديلة لصناعة الحديد تمتاز بسهولة وسرعة الإنتاج وكفاءتها العالية ,كما انهُ  يعتبر أحد أهم خمسة علماء في العالم في مجال الكيمياء  .



300
محنة اللون في المعرض الشخصي الثالث للفنان التشكيلي طاهر حبيب




نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    عودتنا دار الود للثقافة والفنون في بابل على إقامة الأمسيات والمعارض الفنية التشكيلية ودعوة الأدباء والشعراء والفنانين المغتربين,فقد أقام الفنان التشكيلي البصري طاهر حبيب  معرضهُ الشخصي الثالث يوم السبت الماضي والذي احتوى على (28)  لوحة تشكيلية  مختلفة بين الاكرافيك والزيت والباستيل وقد صرح الفنان حبيب لطريق الشعب :" للون محنّ وكل فنان لهُ هاجس معين بداخله , والمحنّة هي المشكلة أو المعضلة ,المحنّة في الفن التشكيلي تختلف عن المفهوم العام لها, الفنان التشكيلي لهٌ محنّة القلق والهاجس والتوتر والأحاسيس باللون  حتى انجاز اللوحة , لكن كيف يوظف الفنان التشكيلي هذه الأسباب من خلال اللوحة , فلكل لوحة موضوعها الخاص , فهنالك العتمة والإضاءة  في لوحاتي " كما يشير الفنان حبيب إلى قوله "أنا والمتلقي ندخل معاً إلى عوالم الأرواح والأساطير  المغموسة في عجينة الأفكار الحزينة من خلال لوحاتي , وللكائن الذي بعث منذ زمن الخليقة من خلال فضاء اللوحة " , ونلاحظ من خلال لوحات الفنان طاهر حبيب  الصراع بين اللون والخط باعتبارهما ميدان الصراع وأداته , وقد أشار الأستاذ خالد خضير لمعرض الفنان طاهر حبيب  " الرسام حبيب قد قام بتوظيف  وتقنين  الصراع بين (الحرية والسلطة) فأخضعهُ لإرادته وهيمنته , فكان يوظفهُ  توظيفاً مثالياً , فحينما تجتاح الألوان سطح اللوحة مندفعة بما يعرف عنها  من (عصيان على الشكل) كما يقرر ذلك باشلار , والفنان حبيب لا يأخذ فقط بحكمة ( بول فاليري)  بأن هنالك خطرين  ما زالا يتهددان العالم هما: النظام والفوضى , وإنما يجعل  تلك الحكمة نبراساً ومقياساً يغاير وفقهُ نجاحه وإخفاقه في أن لا يخسر ميزان العقلنة والجنون بين هذين العنصرين " , ويعتبر الفنان طاهر حبيب من مؤسسي جماعة إيسو للتشكيل ومن المشاركين في الكثير من المعارض التشكيلية والحاصل  الكثير من الشهادات التقديرية منها( شهادة تقديرية من الحزب الشيوعي العراقي وشهادات تقديرية في مهرجان الواسطي والفنون البصرية والمربد )التي أقيمت في العاصمة بغداد ,وقد صرح الناقد التشكيلي صلاح عباس لطريق الشعب " الفنان طاهر حبيب توقف بمعرضه هذا باتجاه الأسلوب واللغة البصرية على الرؤى , نرى في لوحاته المتعددة  مواد الخام , يعمل الفنان بطريقة التجريد ,لكنهُ  يشتغل على صناعة شكل تصميمي مؤسس على قواعد الربط , والفنان جريء جداً في وضوح حركة الخطوط  في التراكيب اللونية لكن السمة المميزة في أعماله أنهُ اشتغلَ على فن الحرب على منطقته , لأن أشياءه متشضية  , نرى عالماً  متلوناً ومزدهراً ويخفي أحزاناً بليغة , الفنان حبيب من البصرة وهي ثغر العراق فقد تعرضت لسنوات الحروب الطويلة والمدمرة , ولم يتعالى في أعماله , لكنهُ قال كلمته في هذه اللوحات المعبرة وهذه اللغة البصرية " ,ويشير الدكتور باسم العسماوي أستاذ في كلية الفنون الجميلة - جامعة بابل إن معرض الفنان طاهر حبيب" قد زاوجت بين الفن التشكيلي والمسرح بمصطلح(سيكوكرانيا)و الأعمال تتراوح بين التعبيرية والرمزية وقد نجح الفنان في استمكانه  للوحات , وقد اضهرها بالتراكيب اللونية حيث ينطلق من محنته مع اللون , إذ يعالج موضوعاً لونياً وشكلياً  ومضموناً , وقد ترك للمتلقي تسمية لوحاته , وهذا خير ما فعل , فقد دخل مع المتلقي في غور العمل ليستشفوا ويحللوا الارتباط الموجود في شفرات  ومضمون العمل " , وقد ساهم الفنان حبيب بالكثير  المعارض التي أقامتها جمعية الفنانين التشكيليين  وهو عضو جمعية التشكيليين العراقيين وعضو نقابة الفنانين العراقيين .

301
الرحلة الفوتوغرافية للفنان كرار الطائي

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
     أقام الفنان الفوتوغرافي الشاب كرار الطائي يوم الأحد   8-4-2012 المعرض الشخصي الأول للتصوير الرقمي بعنوان ( رحلة فوتوغرافية) على قاعة  دار الود للثقافة والفنون , وقد احتوى المعرض على 57 لوحة فوتوغرافية تراثية لشناشيل الحلة القديمة  ومناظر طبيعية ذات نكهة شرقية  محلية , إلا وهي الأزقة  القديمة لبيوت  المدينة  والمحلات الحلية  البابلية الأصل , فقد جسد في إحدى لوحاته  الطابوق البابلي عبر مرجعية بنائها  من جديد , وكأن الناس يحتفلون ببناء بابل جديدة على ركام  بابل القديمة لأن الحاضنة واحدة , لكن الناس اختلفوا في الفعل الإنساني والإبداعي على مر الزمان, ويعتبر هذا انجاز رائع لشاب تخرج حديثاً من أكاديمية الفنون الجميلة  فرع الرسم ,ويؤكد د. باسم العسماوي أستاذ الفن التشكيلي في جامعة بابل كلية الفنون الجميلة" المعرض عبارة عن كامرة تأخذنا إلى أزقة الحلة القديمة, والفنان كرار الطائي قاد الكامرة والكامرة قادة  المتلقي لأرشفة ما تبقى من خراب المدينة التي خلت من الاهتمام بها من قبل ذوي العلاقة من المسؤولين , لكن في الواقع أصبح الفنان الطائي  بعيونه البصيرة وعقله النير وفحصهُ الدقيق لكل حيثيات مدينتهُ  بالشفقة على ما تبقى  لدينا من معمار أصيل ذات نكهة  شرقية محلية, لنقلها عبر هذه اللوحات  الفوتوغرافية إلى أجيالنا القادمة" , فقد جسد المعرض وأرشف مكنوزات ومكنونات الزمكان المديني الحضري لبابل قديماً وحديثاً , فقد نقلنا إلى محطات أخرى حيث الطبيعة والنباتات والحيوانات فهي عبارة عن لوحات متنوعة وكخدمة فنية وفق الرحلة الفوتوغرافية الفنية في التنوع والتفرد في اختباره للقطات التي تستوقف المتلقي إلى التوقف والتحدث بلغة الصمت , هاأنذا كنت جميلاً فهل ستحافظون على جمالي ؟ ومن ثم  لمعرفة تاريخ مدينة الحلة والدعوة لأهلها الطيبين في مسعاهم إلى المحافظة على تراثهم العريق شأننا شأن الأمم الأخرى .


صفحات: [1]