تجليات روح شهداء الأمة في واقع اليوم
========================مقابلتي مع الشهيد فريدون أتورايا
أبرم شـبيرا
توضيح:قبل بضعة سنوات ونحن مجتمعين مع بعض الأصدقاء في "الكونفينشن" في الولايات المتحدة الأمريكية سألني أحدهم: لماذا تطلق على قداسة البطريرك مار دنخا الرابع لقب البطريرك الآشوري فقط ... أليس بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وبطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية بطاركة آشوريون؟؟؟ قلت له لا أستطيع أن أضع ألقاب أو أن أسمي أشخاص بغير أسماؤهم المتعارفين بهم ولا حق لي أن ألقبهم بما لا يرضون. فالأول هو بطريرك كلداني والثاني بطريرك سرياني ولا أستطيع تسميتهم غير ذلك، هذا بغنى عن إنتماؤهم القومي والأثني الذي أؤمن أنا وأنت وغيري به فهذا شأننا الخاص وليس شأنهم. من هذا المفهوم كتبت هذا الموضوع مستخدما التسمية الآشورية التي كانت تنطبق بكل حذافيرها على شهيدنا موضوع البحث وعلى الحركة القومية حينذاك ولا أستطيع أنا وغير أن أسمي فريدون أتورايا أو الحركة القومية التي كان من روادها بغير هذه التسمية.
=================================
قد يعمر الأفراد ويعيشون مائة سنة أو أكثر ولكن مع هذا يموتون ويرحلون عن هذا العالم، لكن الأمة التي ينتمون إليها تعيش مئات القرون وربما تبقى خالدة أبد الدهر. لم يعيش فريدون أتوريا أكثر من خمسة وثلاثون سنة حيث ولد عام 1891 في قرية قره باش في منطقة أورمي فأرسله والده إلى تبليسي ـ جورجيا عند أقاربه للدراسة وهناك تخرج من كلية الطب ثم عمل طبياً في الجيش الروسي. أستشهد في نهاية عام 1926 ولكن الأمة الآشورية، والتي زهق فريدون روحه من أجلها، عاشت وخلدت لقرون طويلة ليس من خلال تواصل أجيالها كأفراد فحسب وإنما من خلال تجليات روح شهداءها المتواصلة في أفكار الأمة ومبادئها وقيمها وتراثها وحضارتها والتي تنعكس في أفكار وسلوكيات أبناؤها الأصلاء ويمارسها البعض ليل نهار ويطبقها في حياته اليومية. وفريدون أتورايا كشهيد من شهداء الأمة، وأن رحل عن هذا العالم إلا أن وجوده من خلال هذه الروح متواجد بيننا يعيش معنا نلمس وجوده في كل نشاط من نشاطاتنا القومية ونقابله ونصغي إليه ونتعلم منه ومن خلال اتصالنا به عبر الفضاء السرمدي الذي يوفره لنا خلود الأمة ويفتح أمامنا فسحات تتلاشى فيها تباين الأزمنة وتختلط وتتداخل بعضها ببعض من دون قيود الزمان والمكان فيصبح بالتالي الماضي جزء من الحاضر والحاضر جزء من الماضي. وهذه المقابلة مع فريدون أتورايا ما هي إلا جزء من هذا الاتصال الروحي عبر النسمة الروحية الرابطة بين الماضي والحاضر والتي يشهق عبيرها كل آشوري ينعم بمثل هذه النسمات الروحية التي تربطه بهذا الطبيب الإنساني والشاعر والمسرحي والمناضل والأديب والمفكر الخالد الذي ساهم بنفحاته الثورية في انبعاث روح الأمة وتواصلها نحو عصر هذا اليوم .
**************
منذ البدء، وأنا في طريقي لمقابلته، لم أكن أتوقع إطلاقاً أن أجد صعوبة في التعرف عليه رغم أنها المرة الأولى التي ألتقي به، فسيماءه الشكلي ومضامين فكره واضحة المعالم لا يستوجبها العناء للتعرف عليه، خاصة بالنسبة لكل من أطلع على أبجديات تاريخ بداية الحركة القومية الآشورية، ذلك لأن فريدون أتوريا كان يشكل بحد ذاته ظاهرة قومية يسهل التعرف عليها من خلال التعرف على المصدرين الرئيسين اللذين ساهما مساهمة كبيرة في خلق هذه الظاهرة. فبالنسبة للمصدر الأول، ابتداءً يمكن الاقتراب منه والنفوذ إليه ببساطة ومن خلال النظرة الأولى لصورته الفوتوغرافية الشائعة بين الآشوريين، سواء الملصقة على جدران بيوتهم أو المنشورة على صفحات مجلاتهم وكتبهم، حيث نستدل من هيئة ملابسه الرسمية المزركشة بأزرار نحاسية وكأنه فارس من فرسان الحرب الأهلية الأمريكية، ونتصور من طلعة تصفيف شعره كأنه يحمل أمواج البحر الهائج على رأسه، ونستشف من تركيبة نظاراته التروتسكية وكأنه أحد ثوار الحركات الراديكالية والقومية التي اجتاحت روسيا وأوربا في القرن التاسع عشر والقرن الذي سبقه. هذه السمات وإن كانت وصفية لكن في الحقيقة لا تبتعد أبداً عن الواقع الذي عاش فيه وتتطبع شكلا ومضموناً بظروفه لأنه فعلاً كان في قلب هذه الحركات الثورية وعايش أجواءها السياسية والأيديولوجية، وبالأخص الثورات والحركات التي اجتاحت روسيا القيصرية قبيل الحرب العالمية الأولى، منها ثورة عام 1905 والنتائج التي آلت من جراء فشلها وأثرت على جميع قاطني روسيا القيصرية وتوابعها، والثورة الاشتراكية البرجوازية في شباط عام 1917 والتي قادها أعضاء الجناح اليميني في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي (الشيوعي فيما بعد ) والمعروفين بـ "المناشفة" والتي تلتها الثورة الاشتراكية الشيوعية في أكتوبر من نفس العام والتي قادها أعضاء الجناح اليساري بقيادة لينين والمعروفين بـ "البلاشفة" وكذلك الانقلاب التركي عام 1908 الذي قاده حزب الاتحاد والترقي والذي أثرت مفاهيمه الليبرالية والإصلاحية على معظم المثقفين الآشوريين حينذاك. مضافاً إلى هذه الأحداث الثورية تأتي الحرب العالمية الأولى والانقلابات الجذرية والنتائج المأساوية التي سببتها للبشرية عموماً وللآشوريين خصوصاً. فكان من الطبيعي جداً أن تفعل هذه الأحداث التي عايشها فريدون آتورايا فعلها فيه، وهو ذلك المثقف الثوري الواعي ذو الحس المرهف، وأن تؤثر فيه تأثيراً كبيرا وتشكل له المنبع الذي أستمد منه أسلوبه الثوري وفكره السياسي ومنهجه الراديكالي في فهم الإشتراكية وبناء الدول القومية ضمن إطارها العام، أي بعبارة أخرى شكل الفكر الاشتراكي والمنهج الثوري في العمل السياسي المصدر الأول في بناء ظاهرة فريدون آتورياً.
أما المصدر الثاني في تكوينات ظاهرة فريدون أتوريا، هي الأخرى غير بعيدة عن ظروف المصدر الأول لا بل وترتبط بها والتي تتمثل في النتائج المؤلمة التي أفرزتها الحرب الكونية الأولى على الآشوريين والمظالم التي سبقتها والتي أعقبتها، ثم تفاعل هذه المأساة "الخارجية" مع المأساة "الداخلية" المتمثلة في التمزق الطائفي للأمة. ففريدون نفسه كان من نتائج هذين المنعطفين، أي الحرب والتمزق الطائفي. فمثلما أثرت الحرب وما أعقبها من نتائج، خاصة ما يتعلق بتسويات الحدود وتكوين الكيانات السياسية الجديدة والتي زادت من تمزق الآشوريين سياسياً وقانونيا، أثر عليه أيضا التمزق الطائفي للمجتمع وبشكل واضح وعميق وأنعكس ذلك في برنامجه القومي. فهذان النوعان من المأساة، هما اللذان جعلتا من فريدون أتوريا أن يكون هو ووالديه وأقربائه من أتباع الطائفة الروسية الأرثوذكسية بفعل الحملات التبشيرية بين أبناء كنيسة المشرق وما لهذا الانتماء من معاني كثيرة عند الطوائف الأخرى وزعماءها ولها تأثيرات قومية وسياسية عندهم. كما جعلت هذه الظروف منه أن يصبح مواطناً جورجياً ثم روسياً سوفيتياً بفعل التشرد والهروب من الاستبداد، وبالتالي انعكاس هذه المأساة في أفكاره القومية ومشاريعه السياسية الهادفة إلى معالجة واقع الأمة الممزق، وهي الأفكار والمشاريع التي ستشكل محور اللقاء معه.
*****************
هكذا، وأنا في طريقي للقاء به، تكاملت الصورة في مخليتي عنه خاصة عندما توضح لدي المصدرين الأساسين في البناء الفكري لفريدون آتورايا الذي كان من حيث المنهج والرؤية والأسلوب اشتراكياً ديمقراطياً ومن حيث العمل والتطبيق والهدف قومياً آشورياً ثائرا ندر مثل وجوده في التاريخ الآشوري الحديث أنساناً قومياً وثورياُ وسياسياً ومثقفاً وشاعراً وصحفياً وخطيباً وطبيباً وعسكريا كفريدون آتورايا. ففكره السياسي وسعة ثقافته الثورية وإبداعه الأدبي الشعري والمسرحي والصحفي ونضاله السياسي والعسكري والإنساني ممزوجاً مع المصير المأساوي في استشهاده وإفناءه في سجنه وبشكل غامض من قبل السلطات الستالينية الاستبدادية نتيجة نضاله القومي، كل هذا شكل صورة حية وناطقة لأسطورة تراجيدية تعكس بحق وحقيقة الأسطورة التراجيدية للشعب الآشوري. هذه الحقائق التي كونتها عن هذا المناضل الثوري الآشوري والمتعدد المواهب والتطلعات والطموحات جعلتني أن أشعر كتلميذ صغير يسعى لمقابلة أستاذ كبير ومهيب وأن أنسرح هائماً في عوالم هذه الشخصية الفذة التي استولت على تفكيري وعقلي وسيطرت على روحي مثلما يسيطر الساحر على المسحور. وهكذا بينما أنا في عالم هذه التصورات الروحية لم أجد نفسي إلا أمام باب مكتبه.
دخلت مكتبه وهو جالس خلف منضدته، ولا أعتقد أحداً يخطأ فريدون أتورايا اطلاقاً، فهو هو نفسه كما عرفانه من صورته ولكن ما يختلف عنها هو روحه الهائجة والثائرة بين محتويات مكتبه والذي من الصعب التعرف على نوعية هذا المكتب والوظيفة المهنية المحددة التي يمارس صاحبها فيه، فهو يعكس بكل زواياه وأثاثه طبيعة صاحبه. إذ من جانب هو عيادة طبية متنقلة أو مركز إسعافات أولية في ساحة القتال، ومن جانب آخر هو مقر لضابط أو قائد عسكري في الجبهة الأمامية للحرب، كما وأن الأوراق وقصاصات صحف ومجلات بما هو مسطر عليها من أبيات شعرية ومقاطع نثرية وأجزاء من مقالات غير مكتملة ومتناثرة هنا وهناك تدل على أن المكتب ما هو إلا غرفة لشاعر أو أديب هائم في هذا العالم لا يعرف من هموم وأحوال الدنيا غير ما هو مسطر في هذه الأوراق والقصاصات. إضافة إلى المجلات السياسية والكتب لكبار رجال الفكر والفلسفة التي تعتلي رفوفه والتي تعرف من تآكل دفتيها بأنها نهمت من قبل رجل شديد التعطش للفكر والسياسة بحيث جعلت من مكتبه يبدو وكأنه غرفة رئيس تحرير جريدة سياسية ثورية لحزب لازال في مرحلة النضال السلبي يواجه نظاماً مستبداً. ناهيك عن نسخ من بيانات وخطط وأنظمة داخلية لأحزاب سياسية ومنظمات ثورية متراكمة في زاوية من منضدته تجعل من غرفته وكأنها مقر لحزب سياسي من أحزاب بلدان العالم الثالث. هذا العالم المتعدد السمات والمتناقض الذي عاش فيه فريدون آتورايا، كان صورة طبق الأصل لكل ما في داخله ولكن امتزجت هذه السمات امتزاجاً عجيباً ومتناسقاً وبشكل هارموني أفرزت وبكل وضوح ما يعرف به اليوم بـ " فريدون أتورايا ".
على أية حال، وأنا في بناء تصوراتي من هذا الخليط المنسق، استفقت من انسراحي الروحاني بصوته المرحب بقدومي فتم التعارف بيننا. وبطبيعة الحال كان من السهل أن أتعرف عليه بسبب صورته المتكاملة والمؤثرة التي كونتها عنه سلفا، مثلما يتعرف التلميذ على الأستاذ مهما طال الزمن بينهما، غير إنني عندما عرفت نفسي له وقلت له بأني آشوري من العراق مقيم في بريطانيا أطلق ابتسامة ترحيب تخفي خلفها نوع من الاستياء والامتعاض فأدركته على الفور مستغرباً ومستفسراً عن السر المخفي وراء هذه الابتسامة "الترحيبية" .
- أجاب وقال : هذا موضوع طويل ومعقد سنأتي عليه في ما بعد ولكن قل لي ماذا تعرف أنت أو ماذا يعرف بقية الآشوريين في البلدان الاخرى عني وعن الحركة القومية الآشورية في روسيا.
- قلت له : بسبب الستار الحديدي المشترك الذي كان يطوق الاتحاد السوفياتي والعراق كنا بالكاد نسمع شيئاً ولكن بعد انهيار النظام الشيوعي وتيسر الاتصال بالآشوريين هناك وصدور مطبوعات لهم وتأسيس إذاعات بدأنا نعرف أشياء كثيرة عن الحركة القومية الآشورية في روسيا ولكن الغرض الأساسي من مقابلتي لك هذه هو بهدف معرفة الغموض العجيب الذي يكتنف مسألتين وهما : الأولى : مشروعك القومي عن تأسيس كيان آشوري مستقل والثانية تدور حول الأسباب التي أدت إلى سجنك من قبل النظام الستاليني ومن ثم إعدامك والأشخاص الذين تآمروا ضدك بهدف الخلاص منك.
غاص مفكرنا الكبير في تفكير وتأمل عميقين ثم ختمهما بنفس عميق وحسرة مؤلمة وأعقبها تهيأ لخوض معركة أثارت فيه حوافز الاندفاع والقتال من أجل كشف معالم الغموض المسيطر على هاتين المسألتين فقال:
- المشروع القومي واضح المعالم في البيان الذي أصدرناه عام 1917 مع مجموعة من القوميين الآشوريين منهم بنيامين أرسانس وبابا بيت برهد الرهان وغيرهما وتحت عنوان (بيان أورمي للإتحاد الآشوري الحر) المعروف أيضاً بـ " مانفيستو أورمي" والذي يقوم أساسا على فصل الدين عن السياسة ويدعو إلى تأسيس كيان مستقل للآشوريين بمختلف طوائفهم الدينية في مناطقهم التاريخية ويرتبط بروسيا (ثم الإتحاد السوفياتي) ضمن اتحاد فدرالي كبقية الدول التي دخلت هذا الاتحاد، ويمكن معرفة تفاصيله من كتبكم ومجلاتكم التي نشرت بنود هذا البيان.
- ألا تعتقد بأن مثل هذا المشروع، أن لم يكن خياليا، فأن تطبيقه كان يقارب المستحيل ؟.
أثار سؤالي هذا دهشته الممزوجة بنوع من الغضب وقال : من أية ناحية كان خيالياً أو يستحيل تطبيقه؟
حاولت تهدئة غضبه برد مبسط وواضح وقلت له :
- من عدة نواحي: فكريا أو منهجياً كان مانفيستو أورمي تقريباً يشبه مانفيستو ماركس وأنجلز المعنون (يا عمال العالم أتحدوا) وتلقيداً له. جغرافياً: المنطقة التي طالبتم بها لتكون دولة أو كيان سياسي أشوري غير متناسقة وتشمل أجزاء واسعة وخاضعة بشكل أو بآخر لدول أخرى. عسكرياً، يصعب السيطرة على مثل هذه المناطق التي كانت ضمن نفوذ بعض الدول الكبرى المتنافسة أو المتحاربة. اجتماعياً وقومياً، القوالب الطائفية والعشائرية الصلدة التي كانت سائدة في تلك الفترة والمحددة بعضها حصراً بمناطق جغرافية معينة، خاصة وأن حدود مشروع "دولتك" كان يمتد من منطقة أورمي شرقاً حتى إنطاكيا غرباً، كان من الصعب جداً جمعهم في كيان سياسي واحد جامع وشامل خاصة وأن الزعماء التقليدين من رجال الكنيسة والعشائر، والذين كانوا متنفذين وسائدين في المجتمع الآشوري، يصعب تصور إمكانية أي تنازل منهم عن سلطاتهم ومصالحهم لهذا الكيان العلماني الذي يتبناه رجل اشتراكي إن لم نقل شيوعي، كما كان هؤلاء يتهمونك، فالصراع معهم كان لا محال بل وحتمي. أما من الناحية السياسية فأنه بمجرد ربط مثل هذا الكيان بالاتحاد السوفياتي الذي يتبنى العقيدة الماركسية يكفي لكي يرفض، لا بل ويقاوم من قبل الآشوريين الذين تسود فيهم معتقدات دينية وسلفية لا تتفق مع هذه العقيدة.
وقبل أن أكمل حديثي قاطعني المفكر الكبير بضحكة سخرية مصطنعة، وهو المعروف ببؤسه وعبوسيته، عبرت بكل وضوح عن رفضه القاطع لما ذكرته، فرديت عليه مقاطعاً:ً
- ما العيب في هذا التحليل عن صعوبة مشروعك القومي ؟ . فرد بأكثر جدية وحماسة ثورية وقال:
- العيب هو أن تحليلك يتصف بسذاجة فكرية وضحالة سياسية بعيد عن الموضوعية والواقعية وتتحدث عن ظروف وكأنها قائمة في بداية الألفية الثالثة. أود أن أوضح لك يا "شبيرا" أن مشروعي القومي كان نتاج جملة عوامل وحقائق موضوعية كانت سائدة وطاغية في بداية قرن العشرين وأن وقائع الحرب الأولى كانت قد وضعت كل العوائق التي ذكرتها في داخل قدر يغلي على نيران هذه الحرب مما جعل تأثير هذه العوائق أن يتلاشى أو يضمحل. فيما يخص كون مانيفستو أورمي يشبه مانيفستو ماركس وأنجلز فهذا ليس عيباً إطلاقاً لأن الماركسية منهج عمل سياسي كان من الضروري جداً أن نستمد منه روحيته الثورية. أما العائق الاجتماعي المتمثل في تأثير الزعماء التقليديين وممانعتهم للمشروع، يجب أن نعرف بأنه في تلك الفترة كان المجتمع الآشوري بكل طوائفه وتركيباته الاجتماعية منهاراً من جراء مأساة الحرب ولم يكن يتطلبه إلا إعادة تنظيمه وبما يتوافق مع الظروف التي كنّا نتوقعها بعد الحرب كما كان شعبنا متعطشاً نحو مفاهيم جديدة تزيح القديمة، وهي المفاهيم التي تمثلت في نشاط وفعاليات نخبة من المثقفين القوميين. أما بالنسبة لرجال الدين فأود هنا أن أوضح نقطة مهمة تعتبر جزء من الأيديولوجية القومية التي آمنت بها وهي أنه من الضروري أن نميز بين الكنيسة نفسها كمؤسسة دينية تاريخية تراثية من جهة وبين رجال الكنيسة أنفسهم، فإذا كانت الأولى حقيقة موضوعية لا تقبل التأويل والاجتهاد فأن الفئة الثانية، أي رجال الدين، يشكلون جزء من عوامل ذاتية فكرية ليس بالضرورة أن يمثلون حقيقة مطلقة ولا يمكن أن يكونوا كذلك إطلاقاً فهم كسائر البشر يخضعون لعنصر الخطأ والصواب وعملية تحديد أو تقييم هذه العناصر ترتبط بالأساس بمدى ارتباط مصالح هؤلاء بالمصالح الحقيقية للأمة نفسها دون فصل جوانبها الدينية التراثية عن جوانبها المادية القومية.
- قاطعته على الفور متسائلا : أرى هناك نوع من الغموض أو صعوبة في فهم ما تقصده.
- فأجاب وقال : لتبسيط الأمر، أود بهذا الخصوص أن أذكر البطريرك الشهيد مار بنيامين في مقارنته مع غير من حاشيته المحسوبة كجزء من رجال المؤسسة الكنسية، فهؤلاء كانت مصالحهم مرتبطة بالدرجة الأولى ارتباطاً مصيرياً ببريطانيا أو فرسنا وبالدرجة الثانية بمصالح الأمة، في حين على العكس من هذا تماماً كانت كل مصالح البطريرك الشهيد مار بنيامين الروحية والقومية والمصيرية مرتبطة ارتباطاً عضوياً ومصيرياً وبالدرجة الأولى بمصالح الأمة ومن خلال هذه المصالح حاول أن ينسق مع مصالح الدول التي تتوافق مع مصالح أمته وكان البطريرك الشهيد على قدر كبير من الفطنة والذكاء بحيث أدرك منذ الوهلة الأولى، وبسبب العامل الجغرافي والفكري والسياسي، بأن التحالف الاستراتيجي مع روسيا ثم الاتحاد السوفياتي كان أكثر فائدة وضماناً لسلامة أمته من أي تحالف آخر مع الدول الكبرى كبريطانيا أو فرنسا، لهذا السبب تأمروا حلفاء وأعوان الإنكليز عل قتله. وكما تعرف ويعرف غيرك بأننا أمة صغيرة وفقيرة لا نملك مقومات بناء كيان قومي قادر على الصمود والاستمرار في منطقة يسودها التعصب الديني والتخلف دون دعم أو تحالف مع دول كبرى وكانت روسيا الدولة المثالية في تلك الفترة. لا أريد الإطالة في هذا الموضوع، أنظر إلى الأرمن فظروفهم تشبه ظروفنا إلى حد كبير ولكن بفضل الاتحاد السوفياتي تمكنوا من بناء كيان شبه مستقل ثم بعد أنهيار الاتحاد السوفياتي أستقلوا كدولة كاملة السيادة. أين نحن من تجربة الأرمن؟؟ فلو كنا قد وفقنا مثلهم في تلك المرحلة لكان لنا دولة مثلهم قبل حلول الألفية الثالثة، ولكن مع الأسف الشديد أحبط "الملتفون" حول كرسي البطريرك والواقعون في غرام وهمي مع الإنكيز والفرنسيين مثل هذا التحالف وسببوا أيضا، بشكل وبآخر، في إفشال أي مشروع قومي من هذا القبيل.
- إذن من تحليلك هذا أفهم بأنك كنت في توافق مع مار بنيامين في المسائل القومية والسياسية، وخاصة في المسائل الاستراتيجية حيال الدول الكبرى، ولم يكن هناك تنافر أو عداء معه كما كان يشاع عنك بأنك كنت شيوعياً ضد الكنيسة وضد بطريركها.
أثار سؤالي هذا اهتمامه الكبير المقرون بنوع من الإثارة ثم هب وقال :
- هذا هراء مائة في المائة، صحيح أنني متأثر بالماركسية وكنت اشتراكي المنهج والتطلع إلا إنني لم أكن شيوعياً منتمياً إلى الحزب الشيوعي أبداً ووفق إيماني هذا كنت أكبًر جل تكبير البطل الشهيد مار بنيامين وما قيل عني أو ما نسب إليّ تجاهه هو جزء من مؤامرة كانت تدبر في الخفاء من قبل الإنكليز وعملاءهم للقضاء علينا نحن الاثنين.
وقبل أن يكمل حديثه قاطعته، كعادتي القبيحة في مقاطعة المتحدث، وقلت على الفور:
- إذن هل صحيح بأن بعض حاشية البطريرك أو المقربين إلى الكنيسة "النسطورية" أو المحسوبين عليها والمتورطين مع الإنكليز دبروا مؤامرة الوشاية للسلطات الستالينية في كونك جاسوساً لبريطانيا ومن ثم اعتقالك وإعدامك، وكما هو معروف لدينا في هذا اليوم ؟.
- هذا صحيح ولكنه هو جزء من الحقيقية فقط، فهؤلاء ببساطة كانوا يكرهون ويحاربون كل ما هو غير "نسطوري" فكيف يستطيعون أن يروا إشتراكياً قومياً غير منتسب إلى عائلة "ماليك" ومنتمي إلى الطائفة الأرثوذكسية أن يتزعم الأمة فهؤلاء كانوا يروجون إشاعات مفادها بأنني أسعى إلى إزاحة البطريرك من الزعامة وتدمير الكنيسة، هكذا لقنهم الإنكليز، وهي نفس السياسة التي مورست ضد الجنرال أغا بطرس الذي كان ينتمي إلى الكنيسة الكاثوليكية. لقد نجح الإنكليز في استخدام الورقة الطائفية في إفشال المشاريع الهادفة إلى توحيد الأمة في كيان متوحد. زد على ذلك فإن الإنكليز كانوا خائفين أشد الخوف من أن يكون هناك تحالف بين الآشوريين والروس في الوقت الذي كانوا هم في أمس الحاجة إلى خدمات وإمكانيات الآشوريين العسكرية لغرض تحقيق طموحاتهم الإمبريالية في المنطقة ولم يكن مثل هذا الأمر ممكنا إلا بالقضاء على الزعماء الآشوريين غير "المفيدين أو النافعين" لمآربهم والاعتماد على غيرهم الذين يمكن الاستفادة منهم وإبراز مواقعهم القيادية ثم دفعهم نحو حافات الهاوية وعصرهم في ظروف من العوز والتشرد ثم ليظهر الإنكليز كمنقذ لهم، وهي سياسة قذرة مورست تجاه الآشوريين ونجحت بالتمام والكمال.
- طيب إذا كان هذا جزء من الحقيقة، ولكن ما هو الجزء الاخر منها والذي أدى إلى القضاء عليك ؟ .
- أنه من المؤسف أن نقضي نحن الآشوريين معظم حياتنا في الحديث عن السياسة والقومية ولكن لا نعرف عنها إلا قليل القليل، وخاصة عن كيفية ارتباط السياسة بالمصلحة، ولاسيما بالنسبة للدول الكبرى التي لا تشكل مسألة القوميات الأخرى وحقوقها أية أهمية لها في مقارنة مع مصلحتها الوطنية. من هنا يجب أن نفهم المسألة الآشورية في تلك المرحلة ضمن مدى توافقها مع مصالح هذه الدول. بيان أورمي في بناء كيان سياسي مستقل للآشوريين كان يتوافق مع مصالح الدولة السوفياتية في بداية قيامها، ولكن بعد قضاء السلطة الستالينية على جميع الحركات القومية وزمها بالطوق السوفياتي واستقرار الأمور بها بدأت تلعب لعبتها في العلاقات الدولية ضمن تحالفات ومعاهدات مع الدول التي اعتبرتها إمبريالية واستعمارية في السابق، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، وكان من ضمن هذه التحالفات إبقاء دولة فارس، إيران فيما بعد، مستقلة ومحايدة وعدم التدخل في شؤونها. ولما كان "بيان أورمي" يطالب بجزء من المناطق التاريخية للآشوريين في شمال فارس كان هذا يتعارض مع التزامات الاتحاد السوفياتي تجاه الدول الأخرى بخصوص استقلال فارس وعدم التدخل في شؤونها والتي اعتبرت المطالبة الآشورية نوع من التدخل في شؤون فارس لذلك كان يتطلب من السلطة الستالينية القضاء على مثل هذا المشروع وعلى صاحبه. إضافة إلى ذلك فإن القضاء على هذا المشروع ومن وقف وراءه كان يتوافق تماماً مع استبدادية ستالين في القضاء على أي شخص يشتبه بأنه قومي أو له نزعات قومية، وهي السياسة التي قضت على الملايين وكنت أنا واحداً منهم مع مجموعة أخرى من القوميين الآشوريين الذين أعدموا أيضا فيما بعد ولكن لم تسمعوا أنتم عنهم كثيرا.
- هناك أسئلة كثيرة محيرة عن كيفية إعدامك، فالبعض يقول بأنك قتلت مسموماً والآخر يقول بأنك متُ تحت التعذيب وهناك فريق آخر يقول بأنه تم محاكمتك ومن ثم إعدامك، حتى إنني شخصياً طلبت قبل أكثر من سنة من أحد أبناء امتنا الآشورية في جورجيا للبحث عن قبرك وإقامة صرحاً تذكارياً عليه للشهيد الآشوري إلا أنه لم يفلح في إيجاد قبرك ولربما السبب يعود إلى الغموض الذي كان يكتنف مسألة إفناءك... فأي من هذا هو الصحيح؟
- حقاً أنه لأمر مثير للضحك والسخرية وفي عين الوقت مثير للحزن والأسى، في إثارة مثل هذه الأسئلة ذلك لأنه هل يهم أي نظام دكتاتوري طريقة القضاء على معارضيه ؟؟ ، فمالفرق سواء أكان الإعدام شنقاً أو الرمي بالرصاص أو التسميم أو بالتعذيب فالمهم هو التخلص منه وكفى، فأنت من المفروض أن تعرف هذه الأمور خاصة وأنك وغيرك من الآشوريين عاشوا تحت ظل أنظمة دكتاتورية قضت على أرواح الآشوريين بطرق لا تعرفونها ولا نعرفها نحن أيضا ولكن هدفهم كان واحد، وهو التخلص من الآشوري القومي المطالب بحقوق قوميته.
عندما شعرت بالإحراج لسؤالي الساذج هذا حاولت أن أغير الموضوع وأنتقل إلى موضوع آخر فعلى عجل قلت :
- يا دكتور... أود أن أقول لك بأننا في عصرنا هذا ... الألفية الثالثة، نعاني من مشكلة التسمية القومية فأضطرت أحزابنا السياسية إلى تبني تسمية مركبة (الكلدان السريان الآشوريين) لتكون شامل لجميع مكونات أمتنا وكوسلة لضمان نيل حقوقنا ونحن أقلية صغيره في العراق ولكن أرى بأنك لا تعاني مثل هذه المشكلة حيث تكثر من إستخدام التسمية الآشورية فقط من دون الإشارة إلى التسميات الآخرى كالكلدانية والسريانية... فما تعليلك على هذا؟؟
- ضحك ضحكة فيها نوع من الإستهزاء بسؤالي الذي بدا وكأنني لا ألم إطلاقاً بالمسائل التاريخية والتسميات القومية ولا أفرق بينها وبين التسميات الطائفية، ثم أردف قائلاً:
- أولاً وقبل كل شيء التسمية الآشورية لقوميتي ليست من إختراعي فهي تسمية تاريخية وحضارية وسياسية لأمتنا وليست حكراً على أحد ولا حصراً بأية طائفة، فمنذ البداية كانت حركتنا القومية حركة آشورية وقد كان أبناء أمتنا من السريان الأرثوذكس أمثال آشور بيت هربوت و نعوم فائق وغيرهما أول من أستخدموا هذه التسمية في أدبياتهم الثقافية والسياسية وأشاعوها بين أبناء أمتنا وحتى الكثير من رجال هذه الكنيسة كانوا يفتخرون بتذيل أسماؤهم باللقب الآشوري أو الآثوري ومنهم البطريرك مار أفرام برصوم الآثوري وغيرهم. أن المجلس القومي الآشوري في أورمي الذي أسسناه عام 1917 مع مجموعة من كبار مثقفي أمتنا والنشاطين القوميين كان في غالبيته من أبناء الكنيسة الكلدانية وعلى رأسهم المطران الشهيد مار توما أودو ومن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وكذلك من الكنيسة الإنجيلية والنسطورية أيضا، فكنا جميعاً ومن مختلف الكنائس نعتز بالتسمية الآشورية حتى إننا قررنا في أحدى مؤتمرات هذا المجلس تبديل تسمية "سورايا" أو "سوريايا" بكلمة آتورايا (آشورايا) في جميع الإدبيات والمشاريع السياسية والقومية لأن الأولى كانت لها دلالات وإستعمالات دينية مسيحية حيث كان الروسي والفرنسي والإنكليزي عند معظم أبناء أمتنا "سورايي" رغم كون هذه التسمية تعني أتورايا أو أشورايا أو (Assyrian) باللغة الإنكليزية فلم تكن هناك أية حساسية كما هي الآن عندكم عند الإنفراد بهذه التسمية أو تلك.
- مهلاً يا مفكرنا الكبير.... قاطعته بهذا الإطراء الجميل، فقلت له: واقعكم السياسي والقومي في تلك الفترة لم يكن كما هو عليه في واقعنا الحالي. ففي تلك الفترة أرتبطت الحركة القومية بالتسمية الآشورية في حين كان للتسميات الأخرى كالكلدانية والسريانية مدلولات طائفية يتجنب زعماء هاتين الكنيستين توريطهما في المسائل السياسية والقومية، أما اليوم فإن الوضع أختلف تماماً فهناك وعي قومي كلداني وسرياني ولهما أحزاب سياسية تطالب بالحقوق القومية لهما ومثل هذا الواقع لا يمكن إنكاره وإلا أصبحت حقوقنا القومية في خبر كان، لهذا جاءت التسمية المركبة كمخرج سياسي للوضع الراهن... ثم سكت وتركت المجال لأسمع تعليقه على هذا الموضوع الذي يظهر بأنه غير محبب له ويصعب عليه فهم هذه التسمية المركبة وهو غارقاً في التسمية الآشورية.. فقال:
- أمر غريب بالنسبة لي وواقعكم السياسي والقومي بعيد عني ما يقارب قرن من الزمن ولكن للحقيقة أقول السياسة هو الواقع فبدون هذا الآخير وفهمه والإنطلاق منه لا يمكن لهذه السياسة أن تحقق أي هدف مهما كان صغيراً وبسيطاً. فإذا كان واقعكم يقول بأن هناك من يرجع إنتماؤه إلى الكلدانية أو السريانية فهذا الواقع يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار والإ ستكونون بعيدين عن السياسة وعن تحقيق أي هدف قومي... وهنا قاطعته وقلت:
- ولكن هناك من يتفرد بتسمية معينة كأن يصر على الآشورية أو الكلدانية أو السريانية ويرفض لا بل يستنكر التسمية المركبة وشكلوا أحزاب وتنظيمات بهذه التسمية المنفردة.. فما رأيك بمثل هذه المواقف؟؟؟
- هؤلاء لا يمكن أن نطلق عليه بـ "السياسيين" ولا يمكن لأحزابهم أن تكون سياسية لأنها لا تفهم الواقع ولا تنطلق منه مهما كانت طبيعة هذا الواقع سواء أكان طائفي أو قومي أو حتى عشائري المهم أن يكون مثل هذا الواقع بكل علاته وسلبياته ضمن نطاق العمل القومي للحزب السياسي، لهذا السبب لا يمكن لهذه الإحزاب أن تحقق أي هدف من الأهداف القومية وحتى الصغيرة منها. فالحياة سائرة على سنة التطور والتقدم فلو أتفقوا جميعاً على الواقع القائم وتحلوا بالصبر على التسمية المركبة فإن بمرور الزمن سوف يفرز هذا الواقع تسمية قومية واحدة متفق عليها ببراهين تاريخية ... كان يريد مفكرنا الكبير الإستمرار في هذا الموضوع الذي يكفينا مرارته في عصرنا هذا فحاولت الرجوع إلى زمانه الأكثر مرارة وشجوناً، فقلت:
- طيب لنعود مرة أخرى إلى بيان أورمـي، إلا تعتقد بأن مضامين هذا البيان كان يتطلبه منظمات أو مؤسسات لتنفيذه لإخراجه إلى حيز الوجود ؟؟.
- حقاً يا "شبيرا" أنك محير وتدعي بأنك تفهم السياسة وتحاول الكتابة عنها، ولكن من المؤسف يظهر بأن من خلال سؤالك هذا لا تفهم الكثير عن هذا العالم الغامض.
وقبل أن يكمل حديثه الملتهب بنيران ثوريته انسرحت في صمت فصفنت مع نفسي التي أشعرتني بأنني فعلا تعرضت إلى نوع من الإهانة وأخذ تفكيري يلومني على إقدامي لإجراء هذه المقابلة، ولم أصحو من صفنتي إلا على صوته الجهوري وهو مستمراً في حديث :
- بطبيعة الحال يجب أن تعرف بأن أي مشروع قومي لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود أداة سياسية لتنفيذه وإخراجه إلى النور وقد أدركنا ذلك منذ البداية لهذا السبب أسسنا الحزب الاشتراكي الآشوري للقيام بهذه المهمة والذي يعتبر أول حزب سياسي آشوري وكان قد حضر مؤتمره التأسيسي ما يقارب 200 شخص معظمهم من المثقفين البارزين ولكن كل شيء أنهار بعد أن نخرت الطائفية والعشائرية كياناتنا القومية خاصة بعد اشتداد قبضة ستالين على السلطة.
- ألا تعتقد بأن تسمية حزبكم بالاشتراكي كانت له نتائج سلبية على عقلية المجتمع الآشوري ومن ثم اتهامكم بالشيوعية ؟؟
- هذا صحيح فقط بالنسبة للمتخلفين والغارقين في ظلام القرون الوسطى الذين يخافون من نور العلم. فالاشتراكية علم ومنهج للحياة فبطبيعة الحالة لا يفهمها هؤلاء، لا بل يخافون منها أيضا ويحاربونها، ولما كانت غالبية أبناء مجتمعنا من أصناف هؤلاء فلا الاشتراكية ولا الديمقراطية ولا أي منهج أخر يفيد هؤلاء لذلك من المؤسف أن الكثير من أبناء شعبنا ولا يزال حتى اليوم لا يستفيد من هذه التجارب الإنسانية معتقدين خاطئين بأن الأفكار الاشتراكية والماركسية أو التقدمية أو الليبرالية لا تتفق مع المجتمع الآشوري، والسبب الرئيسي في ذلك لا يرجع فقط إلى دور الإنكليز في هذا المجال وإنما إلى جهل الآشوريين بهذه الفلسلفات الإنسانية. فالماركسية على سبيل المثال يمكن أن يستفاد منها كمنج عمل وأن يستمد منها أسلوبها الثوري والعلمي في تحليل وفهم تطور المجتمعات وليس كأفكار شيوعية للتطبيق. أنظر إلى الدول الرأسمالية كيف تطورت بشكل عجيب فأن مثل هذا التطور لم يكن ممكناً لولا اكتشاف ماركس لعيوب النظام الرأسمالي ومن ثم تلقف الرأسماليون ذلك وعملوا على معالجتها ودفع المجتمع نحو خطوات أكثر تقدماً وتطوراً .
مرة أخرى قاطعت تواصله الفكري في هذه الفلسفة التي يستوعبها كثيرا وحاولت تغيير الموضوع وإلا لقضيت ساعات وساعات معه في هذا الموضوع الذي لا يتعب منه إطلاقاً، وهو الموضوع الذي لا ألمُ أنا منه حتى أبجديته الأولية لذلك وجدت لي مفراً للهروب منه عن طريق السؤال عن رأيه في الأحزاب الآشورية في هذه الأيام فقلت له:
- مهلاً يا مفكرنا الكبير، تقول بأنك من مؤسسي أول حزب سياسي آشوري، طيب ما هو رأيك بخصوص أحزابنا السياسية الآشورية في هذه الأيام، خاصة ولأحزابنا هذه تحالف تحت تسمية "تجمع التنظيمات السياسية الكلدانية السريانية الآشورية" وهل يمكن مقارنة هذه التجمع بمجلسكم القومي الآشوري الذي أسستموه في أورمي عام 1917؟
وقبل أن يجيب رفع نظارته الطبية بحركة مسرحية تعبر عن شموخ رجل مجرب ورماها على منضدته بين أوراقه المتناثرة ثم أردف وقال :
- سمعت يا "شبيرا" بأنك تكتب بعض الأحيان عن السياسة والأحزاب السياسية الآشورية وفعلاً قرأت لك مقالة منشورة في إحدى المطبوعات الآشورية وأعتقد كان بعنوان " الأحزاب السياسية تعرف بالأفعال والإنجازات لا بالأقوال والشعارات " وهذا العنوان وأن كان يكفي ليعطي جواب لسؤالك ولكن أود أن أزيد شيئاً أخر وأقول بأنه لا يمكن أن يتحقق لأمتنا أي إنجاز ما لم يكن هناك أحزاب سياسية تتبنى فكرة هذا الإنجاز وتسعى إلى تطبيقه والحفاظ عليه. الأحزاب ليست لمجرد هدف سياسي بحد ذاته بل هي وسيلة لتحقيق أهداف فكرية وثقافية واجتماعية وتربوية واقتصادية وفنية، فمن المؤسف أن تكون أحزابنا في معظمها أحزاب سياسية وحسب ولا غير وكأنها غير معنية بواجبها الأساسي في تطوير المجتمع الآشوري من النواحي الاجتماعية والفكرية والثقافية، من هذا المنطلق ووفق هذا المعيار، أي معيار تحقيق الإنجازات، فأن أحزابنا لا وجود فعلي وحقيقي لها. أما بالنسبة لـ "تجمعكم" السياسي فعلى الرغم من تشابه أهدافه بأهداف مجلسنا القومي الآشوري والظروف المأساوية التي أكتنفت تأسيسهما، إلا أنه يختلف عنه في تركيبته التنظيمية. فالمجلس القومي الآشوري كان متكوناً من كبار مثقفي ومفكري أمتنا والشخصيات البارزة في مجتمعنا الآشوري القومي من دون أي تحديدات طائفية أو تعدد في التسميات. في حين "تجمعكم" يتكون من أحزاب ومنظمات كل واحد مستقل بحاله وهذا الوضع سيصعب على التجمع تحقيق أهداف قومية حقيقية ما لم يتحلى أعضاء التجمع بروح عالية من الوعي والتفاني من أجل الصالح العام المشترك وتغليب مصحلة الأمة على مصلحة أحزابهم.
ومنعاً من استمراره في "تهجمه" على أحزابنا "المناضلة" لعل قد "تزعل" من انتقاد مفكرنا الكبير لها حاولت تحويل الموضوع إلى الجانب الايجابي له فقلت على الفور:
- ولكن ما هو رأيك بالإنجازات التي تحققت لأبناء شعبنا في شمال بيت نهرين إلا تعتقد بأنها لم تكن ممكنة لولا تبنيها ودعهما من قبل أحزابنا السياسية هناك ؟؟ .
أجاب إجابة قاطعة ومؤكدة وقال :
- طبعاً … طبعاً، فالمسألة لا يتطلبها تحليل وجهد فكري، ببساطة أقول لك، كما ذكرت لك سابقا، فأن وراء كل انجاز قومي يجب أن يكون حزب سياسي فبدون هذه الوسيلة لا تتحقق الأهداف القومية، وأود بهذا الخصوص أن أقول، رغم المرارة التي تخنقني ورغم الحسرة التي تقتلني من جراء المأساة التي عاش فيها شعبنا، أود أن أقول بأنني سعيد جداً جداً عندما سمعت وتأكد لي بأن هناك بضعة آلاف من أطفال أبناء أمتنا يدرسون مناهجهم التعليمية باللغة الآشورية وهناك إذاعة وتلفزيون ومركز ثقافي ومجلات ثقافية وسياسية، فمن أجل نفس هذه الأهداف التي سعيت أنا وغيري إلى تحقيقها أزهقنا أرواحنا، فألف مبروك، أحزاباً وأشخاصاً ومؤسسات، لهذه الإنجازات العظيمة التي حققوها لأبناء شعبنا في ذلك الجزء من الوطن. ومع كل هذه الإنجازات في هذه المجالات أود أن أحذر قيادة أحزابكم السياسية ومنظماتكم القومية من خطر الإنزلاق نحو هاوية التفرد والتسلط في الممارسة السياسية فلا مصير لهم من هذا النهج ولأحزابهم إلا الدمار والفناء، فالتاريخ يعطينا أمثلة كثيرة في هذا السياق وهي الأمثلة التي لا يتجاهلها إلا الأعمى والأغرق.
- يظهر يا "رابي فريدون" من كلمات التهنئة والتحذير هذه تريد ختم لقاءنا ؟
- هذا صحيح … لأنني في عجل من أمري بسبب ارتباطي بجملة مواعيد وأمل أن تتاح لنا فرصة أخرى لأشرح لأبناء شعبنا عن همومي، تلك الهموم التي تولدت لدي ليس بسبب الخسائر التي تكبدتها شخصياً بما فيها روحي من أجل شعبي، فهذا هو فخر واعتزاز لي أن أكون بمصاف شهداء الأمة عند عصركم وهو الذي، كما اعتقد، حفزك إلى أن تتسلق جبال الزمان وتقطع مسافات المكان لكي تلتقي بيّ، ولكن همومي هي بسبب كوننا لم نستطيع أن نحقق الحلم الذي سعينا إليه والفشل الذي سببه لنا بعض من أبناء جلدتنا، ولكن مع هذا فأن جزء من هذا الحلم بدأ يتحقق في شمال وطننا الحبيب بفعل سواعد شبابنا الأبطال، وهذا هو الذي يخفف قليلا من همومنا ويزيد من بهجة روحنا في عالمنا السرمدي.
- وهل من كلمة لهؤلاء الذين يعملون لتحقيق هذا الجزء من أحلامك ؟
- نعم وألف نعم … أقول لهؤلاء الأبطال، لا تحزنوا على شهداؤكم فهم معنا في هذه الدنيا أرواحهم مبهجة بسبب استمرار النضال على نفس الدرب الذي سقوه بدمائهم ويترقبون منكم المزيد من الإنجازات لتزداد صفحات تاريخنا القومي أكثر إشراقاً ولا يرغبون هؤلاء الشهداء أن تكون دماءهم ثمناً لكراسي الحكم في دولتكم (العراق) المتهاوية بل ثمناً للسير قدما نحو ضمان وحماية حقوقنا القومية، كما وأود أن أقول لكل الجبناء والسائرون عل درب يهوذا الإسخريوطي والملتفين حول موائد الأنظمة الاستبدادية المتحكمة في رقاب أبناء أمتنا، بأن مكانكم هو في مزبلة التاريخ ولعنة شهداؤنا وأطفالهم ستقع عليكم أن لم تكن اليوم فغداً …
سارعت على الفور لقطع حديثه التراجيدي هذا لأنني أعرف مدى تأثره بهؤلاء الذين غدروا به وبزملاءه الشهداء فلملت أوراقي وغادرت مكتبه قبل أن ينهال بالكلام اللاذع عليّ وعلى " أومتنايي" هذا الزمان بسبب تقصيرنا الفاضح في إجلال مكانة شهداؤنا الأبرار وفي أداء واجبنا تجاه أمتنا وبالشكل المطلوب والذي قد يكون محققا لجزء آخر، ولو كان بسيطا ويسيرا، من حلم شهيدنا فريدون آتورايا ونخفف من معاناته وهمومه التي عاناها في العالمين الزائل والسرمدي، فلم أجد نفس إلا وأنا أودعه هارباً من مكتبه راكباً مركبتي الزمنية وطائراً عبر فضاء الزمن عائداً إلى عالمنا في عصر هذا اليوم لأعيش همومه المثقلة بهموم شهيدنا الخالد فريدون آتوريا، وبأمل أن أبحث في مناسبة لاحقة عن ظروف إعتقاله ومعاناته في سجون ستالين ومن ثم أفناءه والمحاولات التي جرت بعد رحيل ستالين من قبل بعض الآشوريين في روسيا في تبرئة ساحة فريدون أتورايا من التهم الظالمة بحقه.