الباحث في التاريخ الدكتور عوديشو ملكو:
استطعت تقصي الحقائق حول أول مقبرة جماعية في تاريخ العراق المعاصر
سامر الياس سعيدوسط العشرات من الآراء التي انطلقت لتؤطر ما حدث في سميل في العام 1933 بكونه تمردا للآشوريين كما صورته العديد من الآراء والأفكار خصوصا لمؤرخين معروفين وأكاديميين ومن تلك الآراء ما اعتمدته موسوعة الموصل الحضارية التي شارك في إعدادها مجموعة من الأساتذة الأكاديميين في جامعة الموصل أما الرأي الأخر في شان أحداث ما جرى في العام المذكور فيفصح عنه بأسلوب موسع وأكاديمي الدكتور عوديشو ملكو آشيثا الذي اصدر مؤخرا كتابا بهذا الخصوص حمل عنوان (نكبة سميل 1933 أسبابها وتأثيراتها المحلية والدولية) بـ 473 صفحة من القطع الكبير وهو من منشورات (رابطة
الكتاب والأدباء الآشوريين) والكتاب في الأصل أطروحة للدكتوراه للمؤلف اشرف عليها الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف وقدمت لرئاسة جامعة سانت كلمنتس مكتب العراق في بغداد ونوقشت الرسالة بتاريخ 18 كانون الثاني 2013. ونالت تقديرا بدرجة الامتياز.. ويحتوي الكتاب على ثلاثة فصول حيث يقسم الفصل الاول الذي يبحث في جذور المسالة الاشورية في العراق الحديث, ويقسم الى ثلاث مباحث. المبحث الاول يتحدث عن أهم العوامل الذاتية للاشوريين قبل النكبة: العامل الاجتماعي والديني والسياسي كما يشير الى مؤتمر لوزان الاول ومطاليب الوثيقة القومية
الاشورية. بينما المبحث الثاني يشير الى أهم العوامل الخارجية ومنها علاقة المحتلين البريطانيين للعراق والفرنسيين لسوريا بالآشوريين فضلا عن علاقة الآشوريين بالوزارة الكيلانية الأولى والثانية وبدايات الليفي العراقي والتدخل الفرنسي في شؤون الآشوريين. اما المبحث الثالث فيهتم بالعوامل الداخلية ومنها انعكاس الوضع القومي والسياسي والاجتماعي العراقي على العلاقة بين الحكومة والآشوريين كما يطلعنا هذا المبحث على نماذج مما نشرته الصحافة العراقية عن الآشوريين خلال تلك الفترة. والسلطة الزمنية للبطريرك وعقدة إساءة فهمها واصول
الفكر السياسي العراقي تجاه الآشوريين. كما يبحث هذا الفصل عن التسميات المتعددة للآشوريين ومنها التسمية المذكورة أم تياريون أم النساطرة غرباء. فضلا عن متابعة حالات التصعيد من قبل الحكومة العراقية والبريطانية تجاه الآشوريين وفي الفصل الثاني من الكتاب هنالك مباحث أخرى تهتم بالصدامات المسلحة التي جرت في ديرابون وفيشخابور, بالإضافة الى أحداث أخرى مهمة تنجلي عن ما حدث في سميل صبيحة يوم 11 اب من العام 1933 والموقف الرسمي للحكومة العراقية من النكبة وقتل الأسرى وبعض الشهادات التي يوردها شهود عيان عن ماجرى في سميل, وأصداء الأحداث في
الصحافة اللبنانية. اما الفصل الثالث فيبحث في تأثير النكبة على الآشوريين في العراق والعالم, ومساعي مار شمعون لدى عصبة الأمم. بينما المبحث الثاني من هذا الفصل يشير الى تأثير النكبة على الموقف السياسي الدولي تجاه العراق والآشوريين. اما المبحث الثالث فيختص بتأثيرات النكبة على الوضع السياسي والاجتماعي العراقي. ويختتم الكتاب بالإشارة الى المراجع والمصادر التي ارتكز عليها, ومنها وثائق ومقالات باللغات العربية والأجنبية, والمخطوطات المأخوذة عن المصادر العربية والمعربة. بالإضافة الى الصحف والجرائد والمجلات العربية والآشورية
والأجنبية.
ليتمخض عن تصور باعتبار ما جرى في سميل عام 1933 يناقض كل التصورات التي تتحدث عن حالة عصيان وتمرد. وتشير تلك النظرة المتعمقة من وحي ما قام به المؤلف نحو اعتبار الجريمة التي حدثت في سميل بوصفها تطهير عرقي فضلا عن كونها شكلت أول مقبرة جماعية وإبادة جماعية في التاريخ المعاصر للعراق, نتيجة حصول النكبة وإلقاء جثث قسم كبير من الضحايا بصورة عشوائية في خندق او خندقين قرب التلة الاثرية في البلدة المذكورة. وما انعكس أيضا من تأثيرات, يوردها المؤلف في سياق الخاتمة مشيرا بوجود حملة التعريب, المتعمدة ومحاربة الاثنية الآشورية وثقافتها الى
درجة الإبادة الجماعية..
ومن وحي ما تجلى لنا من مطالعة عميقة في متون الكتاب المذكور تسنت لموقعنا فرصة اللقاء بالدكتور عوديشو ملكو اشيثا الذي استقبلنا في مدينة دهوك وبالتحديد في مقر رابطة الكتاب والأدباء الآشوريين التي هو رئيسها. ونتج عن لقائنا العديد من الأسئلة التي دارت في فلك الموضوع ولعل بداية الحوار اختصت بالحديث عن المرتكزات الأساسية للأطروحة التي تحولت الى كتاب فأشار آشيثا قائلا:
ـ اختياري لموضوع البحث كان نابع من شعوري بوجود فراغ في الحلقات التاريخية للشعب الآشوري خلال القرن العشرين وإحساسنا بعدم مصداقية من كتبوا عن تاريخ العراق وتحديدا فيما يخص الوضع الآشوري منذ تأسيس العراق المعاصر بعد الحرب العالمية الأولى. ومع تقادم الأيام ونتيجة مطالعاتنا الكثيرة في هذا المجال والوصول الى مصادر أجنبية كثيرة عنيتْ بالمسالة الآشورية او تحديدا بما يعرف بـ (المشكلة الآشورية في العراق المعاصر) اتضحت الصورة وترسخت حقيقة قيام جهات المفروض ان تتوخى الرصانة في مجال التاريخ لكنها مع الاسف قامت بتطبيق سياسة التعتيم
المطبق على حلقات محددة في التاريخ الآشوري والعراقي على وجه العموم.

*وهل هنالك امتداد لتلك الجهات في ان تحدد مناقشة ما يختص بأحداث سميل في جامعة حرة ولا تناقش مثل تلك الرسائل والاطاريح الجامعية التي تهتم بتسليط الضوء على المخفي من تاريخ العراق واهم مكوناته في جامعات رسمية؟
ـ ربما باعتقادي ان هاجس الحصول على شهادة أكاديمية عليا وخصوصا في تخصص التاريخ الآشوري المعاصر كان لدي منذ زمن بعيد ولكن هنالك ظروف أخرت تجسيد هذا الأمر منها الظروف الاستثنائية التي مررنا بها. ومن أبرزها إقحام البلد بالحروب ولعقدين من الزمن او أكثر وهذه الظروف جعلت من احتمالية دراسة هكذا مواضيع في الجامعات العراقية الرسمية ضربا من الخيال ولسببين: احدهما حساسية الموضوع ذاته والآخر يتعلق بشرط العمر المحدد للدخول للدراسة العليا في الجامعات العراقية في تلك الأيام الى ان سنحت لي الفرصة بالتسجيل في جامعة سانت كليمنتس
العالمية, وهي من الجامعات المعترف بها عالميا فضلا عن الاعتراف بها في جميع دول الكومنولث البريطانية. وحسب علمتا فقد تم الاعتراف بها من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية قبل ما يزيد على سنة او أكثر. وتشترط الجامعة المذكورة على طالب الدراسات العليا اجتياز مرحلة الاعداد للدكتوراة باختصاصه الدقيق بدرجة لا تقل عن 75% وحسب المنهج المقرّ في الجامعات العراقية. كما ان رئيس الجامعة والكادر التدريسي في فرع العراق للجامعة المذكورة هم عراقيون يمتلكون شهادات معترف بها فمعظمهم عمل في جامعات عراقية عريقة ذات رصانة علمية
مميزة. وأود الإشارة أيضا الى ان من شرط القبول والمباشرة بكتابة الأطروحة (الدكتوراه) هو الحصول على موافقة رئيس الجامعة البريطاني, حيث اذكر إنني انتظرت اكثر من ستة أشهر من اجل لحصول على موافقة رئيس الجامعة المذكور بشان موضوعة رسالتي حيث طلب مني كتابة تقرير شامل عن مصادر الرسالة والغرض او الهدف من كتابة الأطروحة والاستنتاجات المتوقعة والغاية من التعمق ودراسة المسالة من كل جوانبها. وبعد ان قمت بتلبية هذه الشروط تم إبلاغي بموافقة رئيس الجامعة ووجوب الشروع في كتابة الموضوع. وفي الحقيقة وبسبب طول المدة التي أشرت إليها من اجل
الحصول على الموافقة ومن خلال كثرة استفسارات رئاسة الجامعة بخصوص اختياري لموضوع الأطروحة.. كنت قد فقدت الأمل.
*أشرت انك كنت ملتزما بهذا الموضوع دون غيره من المواضيع فهل شكل اختيارك او التزامك بموضوعة الدراسة ردة فعل نابعة من فعل عشت تفاصيله وتتطلب منك ان تكون شاهدا او مؤرخا في اتجاهه؟
ـ أود ان أشير الى ان طفولتنا كانت بحدّ ذاتها كانت مدرسة (للمعاناة) بسبب ما عاناه الآشوريين في سميل وما قبلها. وربما هذه الحالة او الانطلاقة شكلت حافزا رئيسيا لدي للاندفاع من اجل الحصول على معلومات علمية صحيحة صادقة عما جرى بحق هولاء الناس الأبرياء, في عهد كانت فيه الحكومة تقاد من خلف الكواليس حسب رغبات وتوجهات بريطانية مطلقة.
*وما هي المعطيات التي تمخضت لديك عن ما جرى في تلك الحقبة رغم ان ما يفصلنا عنها ثمانون عاما او ما يزيد ؟
ـ تمخضت لدي العديد من المعطيات والاستنتاجات التي تشير الى وجود ثلاثة عناصر كان لها ادوار رئيسية فيما جرى, وهي إطراف توزعت بينها المسؤولية. وتلك الأطراف احددها بالطرف الآشوري, وطرف أخر هو الحكومة العراقية, والطرف الأخير يمكنني ان أوجه اليه المسؤولية أيضا وهو طرف السلطة البريطانية. بريطانيا وبالنسبة للأخير فان بريطانيا أرادت الحفاظ على سلامة وديمومة الحكومة التي كانت آنذاك حكومة منقادة إليها وطيعة. وكانت بريطانيا تفكر كثيرا بالمستقبل الذي من الممكن استثماره فوق جغرافية العراق وأرضه, لذلك كان دافع بريطانيا من وراء ذلك سبباً
تهميش مطاليب الآشوريين بمنح حقوقهم وتثبيت نوع من الحكم الذاتي لهم. اما بما يتعلق بالحكومة العراقية فكما هو معروف كانت تلك الحكومة فتية في الإدارة, قليلة الخبرة في التعامل مع شعب متعدد الاثنيات العرقية والدينية والثقافية والاجتماعية وما الى ذلك. وكانت تلك الحكومة متشبعة بالأفكار العربية القومية ولا تقيم وزنا او معيارا لغير العروبة أي كان. فضلا عن تأشير نقطة مهمة في هذا الموضوع, وهي ان رجالات الحكومة آنذاك كانوا في الأصل ضباطا او خريجي أكاديميات في إدارة الدولة العثمانية, فكل ما مورس بحقهم من سياسة التتريك تقمصوه بشدة
فعكسوا تلك التجربة على الآشوريين والأكراد والتركمان, تحت فقرة إتباع سياسة التعريب. لدرجة ان التاريخ يشير الى رئيس الديوان الملكي في تلك الفترة ويدعى (رستم حيدر), وهو رجل غير عراقي تم استيراده من بعلبك ضمن حاشية الملك البالغة (250) شخص او اكثر, تم استقطابها للعراق لغرض تسلم الحكم في العراق. له (رستم) تصريح يشير فيه الى رغبته بجعل جميع الآشوريين والأكراد قرباناً على مذبح القومية العربية, وإيجاد أي وسيلة لتنفيذ ذلك اذا تطلب الأمر ..
اما فيما يتعلق بمسؤولية الآشوريين تجاه ما جرى, فانا اعتبره غير قليل, فانعدام الخبرة السياسية بين صفوف الآشوريين الروحانيين والمدنيين منهم على حدّ سواء, وما كان قائم من الخلافات بين رجال الكنيسة. فضلا عن الدور الكبير للصراعات العشائرية والمناطقية والمذهبية والتي أدت بمجملها الى نخر هذا الجسد(جسد الامة) وبشكل كبير كما ان هنالك مؤشرات تكشف عن عدم المحاولة او الرغبة في تأقلم الآشوريين مع واقع الحال الذي كان يعيشه العراق في فترة نشوء الحكومة والدولة معاً..

*في سياق الكتاب الذي أصدرته ثمة فقرات منه تشير الى الصحافة ونظرتها إزاء ما يجري من احداث ، ما هو سبب عدم حيادية الصحف خصوصا تلك الصادرة في مدينة الموصل إزاء نكبة سميل برأيك؟
ـ كما هو معروف فان الحكومة العراقية (الوزارة الكيلانية) قامت بتحشيد الرأي العام خلال النصف الاول من 1933, خصوصا في مجال الإعلام من اجل خلق عدو وهمي لتحارب من خلاله الانتداب البريطاني حسب ادعائها. لأنها أي الوزارة الكيلانية كانت متهمة بالعمالة لبريطانيا بعد قبول حزب الاخاء تشكيل الحكومة. فسعت الى لفت انتباه الشعب الى عدو (مفترض) وقامت من خلال الصحافة غير النزيهة الى تضخيم الأمور. ومن تلك الأساليب الإشارة الى ان الآشوريين يشكلون عدواً يضر بسلامة الوطن. وهنالك سبب آخر يضاف الى إتباع تلك السياسة يهدف تحويل الأنظار عما كان يجري من
اجل إشعال ثورة في الوسط المعروف بأغلبيته الشيعية والتي كانت على وشك الاندلاع. لذلك فان بريطانيا تداركت الأمر وبمساعدة الحكومة العراقية من اجل صنع عدو ضعيف وسهل المعالجة, لتركيز الأنظار اليه وتحويلها عما كان يجري في محافظات الوسط.
ولكن لم تمض فترة عامين على ما حدث في سميل حتى اندلعت الثورات في محافظات الوسط وانطلقت من مدن مختلفة منها عفك والرميثة وعلي الشرقي والكفل... الخ, وقام ذات الأشخاص الذين نالوا من الآشوريين في احداث سميل بالانفضاض على هولاء الثائرين في المدن التي ذكرتها وأريافها. واعتقد ان الأمر برمته هو نابع من المخيلة السياسية التي اتبعتها بريطانيا. عندما فكرت في خلق عدو, فلا بد من بثّ التفرقة. وكان الأمر سانحا لها من خلال ما كان يعانيه المجتمع الآشوري من الصراعات العشائرية والمناطقية وهذا هو الجو الذي يمكن من خلاله ان يسعى المحتل لتفرقة
الصفوف وترسيخ أفكاره وسياساته بين جهات متباينة, منها من يوصف بالعمالة ومنها من يتهم الآخر بالوقوف في صف بريطانيا وكانت بريطانيا نفسها تفكر بالتخلص من هذين المعسكرين معاً.
*في سياق حديثك أشرت الى انعكاس سياسة التتريك على الواقع العراقي في تلك الحقبة ، هل لك ان توضح مدى إسهام الدولة العثمانية فيما جرى وارتباطه أيضا بما حصل للأرمن من مذابح قد تتشابه تفاصيله في احداث سميل؟
ـ هنالك مقولة شائعة بين الأوساط العثمانية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى, وهي تشير بكل صراحة الى (خيانة الكرد والعرب) و(خيانة وتكفير الآشوريين والأرمن) لأنهم جميعاً لم يكونوا أتراكا. فضلا عن تكفير الآشوريين والأرمن كونهم رعاياً مسيحيين. بالإضافة الى حقيقة معروفة توضح بأنه لا يمكن لأي زعيم عراقي في تلك الأيام ان يصل كرسي السلطة ويستقر فيه ما لم يشتم بريطانيا. وحتى ما يتحقق لك ذلك لا بد لك أولا ان تجد لك موطئ قدم وبما إنني استهللت إجابتي بالإشارة الى نظرة الأتراك تجاه اغلب المكونات العراقية باتهامها بالخيانة والكفر فهذا نابع
من تعمق (الانا) الدينية والعرقية وحتى المذهبية في شخصية العراقي الذي يمكن له ان ينسى المنطق او الجيرة والحالة الإنسانية, إذا ما تم استفزازه باللعب على وتر المشاعر. الدينية او بما يعرف بدغدغة تلك المشاعر وأنا أرى ذلك في موقف زعيم لأحدى الجماعات الآشورية التي كانت تعارض سياسة المار شمعون بعد ما حصل من احداث في عام 1933. حيث صرح ذلك الزعيم برغبته بمغادرة العراق واستقراره في أي مكان شريطة الابتعاد عن مكان استقرار المار شمعون بحسب قوله وهذا الموقف يدل على ماعاناه الآشوريين من هول النكبة والمعاناة النفسية التي جنوها من الانشقاق
والانسياق خلف هذا الطرف او ذلك. حيث فقدوا أي أمل في الحياة وتقهقر وجودهم وأملهم القومي بعد نكبة سميل ..
*وهل في