ولادته ونسبه
وُلد خليل (الطوباوي "أبونا يعقوب") في أوّل شباط سنة ١٨٧٥، في بلدة غزير.
والده بطرس صالح الحدّاد، والدته شمس يواكيم الحدّاد، وهما والدان صالحان يتحلّيان بروح التقوى والفضائل المسيحيّة. يقول أبونا:
علّمتني أمّي:
" إعمل كلّ شيء واحتمل كلّ شيء حبًّا لله"؛
" يا ابني في ساعات الشدّة، صلِّ بمسبحة أمّكَ "؛
" إيماني إيمان بطرس ".
وعلّمني أبي:
الواقعيّة، وصواب الرأي مع حبّ النكتة البريئة وشيءٍ من تصلّب الإرادة...
قبلَ خليل سرّ العماد في كنيسة سيّدة الحبشيّة في الحادي والعشرين من شهر شباط سنة ١٨٧٥، ونشأ في بلدته غزير، يتعلّم في مدرسة الرعيّة – مار فرنسيس، ثمّ انتقل إلى مدرسة القدّيس لويس المعروفة بمدرسة المزار، ليلتحق، فيما بعد، بمدرسة الحكمة في بيروت، متخرّجا منها سنة ١٨٩١. وكان طالبًا ذكيًّا متفوّقًا بارزاً في تقواه وتعبّده للعذراء مريم.
سافر إلى الإسكندريّة سنة ١٨٩٢ مزاولاً التعليم، كي يُعين والديه على تربية إخوته، فكان معلّما ناجحا يغذّي طلاّبه بالفضيلة والمعرفة، وشابًّا تقيًّا عاكفا على العبادة والتأمّل في حياة المسيح. وهناك سمع صوت الدعوة ليهجر العالم ويحمل الصليب ويتبع المسيح. قال: "سأصير كاهنًا".
عاد إلى غزير، وراح يجاهد بالسيرة والرّوح والصلاة ليقنع أباه بطرس بدعوته الرّهبانيّة الكبّوشيّة إلى أن تحقّقت له أمنيته، ودخل دير مار أنطونيوس خشباو للآباء الكبّوشيّين في ٢٥ آب سنة ١٨٩٣.
لبث في الطالبيّة الكبّوشيّة ثمانية أشهر عاملاً في جنينة الدير، متمثّلاً بيسوع فتى النّاصرة، مبديا الميل إلى الحياة الرّهبانيّة وما يترتّب عليها من فقر وعفّة وطاعة، مبرهنا عن دعوة صافية للترهّب، ممتلئا بحبّ الخدمة والصلاة.
مرحلة الابتداء
دخل مرحلة الابتداء الرّهبانيّ، وهو بعدُ في دير مار أنطونيوس خشباو، ليتعلّم طريق السلوك الرّهبانيّ وما تستلزمه الحياة الرّهبانيّة من فضائل وكمال. وفي السادس والعشرين من شهر آذار سنة ١٨٩٤، ألبسه رئيس الدير ثوب الابتداء متّخذًا له اسم الأخ يعقوب.
سار الأخ يعقوب الحدّاد الكبّوشيّ طريق الابتداء بكلّ قناعة ومثاليّة، فكان قدوة صالحة في جميع تصرّفاته، مستسلما للعناية الإلهيّة، متجاوبا مع إرادة المسؤولين عنه بطاعةٍ وفرحٍ وأناةٍ ودماثة خُلقٍ، متمثّلاً بالقول الإلهيّ: "ما مِن أحدٍ يضع يده على المحراث، ثمّ يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله" (لو٩ : ٦٢). وكان، كلّما شعر بشدّة أو ضيق، يلجأ إلى الصليب، متمثّلاً بقداسة أبيه مار فرنسيس الأسيزيّ، ومستنيرًا بفضائله، فيزداد ارتياحًا إلى الحياة الرّهبانيّة، حياة الصليب والقداسة.
إقترع الرّهبان بالاجماع على أهليّة الأخ يعقوب قبل النّذور. وفي الرّابع والعشرين من شهر نيسان سنة ١٨٩٥، أبرز النّذر البسيط؛ وبعد ثلاث سنوات، أبرز النّذر المؤبّد في اليوم الرابع والعشرين من نيسان سنة ١٨٩٨.
كهنوته
إنتقل الأخ يعقوب إلى دير القريّة إتماما لدروسه الكهنوتيّة، التي كان قد بدأها في دير مار أنطونيوس خشباو، منتظرًا يوم سيامته كاهنا، تائقا إلى النّهار الذي يقدّم فيه الذبيحة الإلهيّة للمرّة الأولى: "أعطني، يا إلهي، أن أقدّم ولو ذبيحة واحدة، وبعد إذا شئتَ أن تأخذني إليكَ فأكون معزًّى ومسرورًا".
إقتبل درجات الكهنوت شمّاسا رسائليا (١٨٩٩)، وشمّاسا إنجيليا (١٩۰۰)، وفي أوّل تشرين الثاني سنة ١٩۰١، رقّاه المونسنيور دوفال الدومينيكانيّ الفرنسيّ، القاصد الرّسوليّ في لبنان وسوريا، إلى درجة الكهنوت. وأقام قدّاسه الأوّل في كنيسة مار لويس في بيروت (باب ادريس).
شخَصَ إلى بلدته غزير ليحتفل بقدّاسه الثاني على مذبح دير مار فرنسيس، تعزيةً لوالدَيه وإخوته وأبناء بلدته.
رسول الشّعب
أقام "أبونا يعقوب" في دير بيروت، وراح يعمل بجدّ ونشاط وغيرة رسوليّة وثّابة، فنال إعجاب رئيسه لما رأى فيه من جهاد حيّ في خدمة الربّ، فوجّهه إلى أعمال الرّسالة، فشرع يُنشئ المدارس الابتدائيّة للصبيان والبنات في قرى لبنان منتقيا لها المعلّمين الصالحين الجديرين بهذه الرّسالة الشّريفة.
كان "أبونا يعقوب" يتعهّد بنفسه مدارسه، فيزورها مشيا على قدميه، متفقّدًا شؤونها، غير آبهٍ بالتعب والعناء والمشقّة. وكانت غيرته الأبويّة الرّسوليّة تدفعه إلى العناية بإعداد الأحداث للمناولة الأولى، فيشرف بنفسه على تعليمهم لقبول القربان الأقدس. وقد شهد معاصروه على أنّه كان يقيم المهرجانات الرّوحيّة والتطوافات المقدّسة بالقربان الأقدس أو بأيقونة العذراء، ويأخذ طلاّبه والثالثيّين في زيارات حجّ إلى معابد العذراء وبخاصّة معبد سيدة لبنان.
ومع المشاريع المدرسيّة أنشأ "أبونا يعقوب" "الرّهبانيّة الثّالثة" للرجال والنّساء، تيمّنًا بأبيه القدّيس فرنسيس الأسّيزي، ونشر مبادئها ونظامها في المدن والقرى سنة ١٩۰٦. وكان يؤهّب أعضاءها بالرياضات الرّوحيّة، والوعظ، والإرشاد، ويزورهم مشيا من قرية إلى قرية، ليلتقي بالأعضاء ويحرّضهم على أن يكونوا المثال الصالح بالسيرة والسلوك والصلاة، وهذا ما أمّن للرّهبانيّة الثالثة الانتشار والديمومة والاستمرار. كان يريدهم رسلاً جددًا في كنيسة المسيح، وخميرةً في عجين المجتمعات اللّبنانيّة...
أمّا اليوم فما زالت هذه الرّهبانيّة الثّالثة تنتشر في ضياعنا ومدننا، يسهر عليها مؤسّسها بقداسته وصلواته، ويدير شؤونها نخبة من العلمانيّين، الذين عُرفوا بالتّقوى والصّلاة والوفاء، ويسهر عليها الإخوة الكبّوشيّون.
لم يقتصر الهمّ الرّسولي عند "أبونا يعقوب" الكبّوشيّ على بلاده وحسب، بل تعدّاه إلى فلسطين والشام وبغداد، وكانت جوارحه تحنّ إلى التبرّك بزيارة الأماكن المقدّسة في فرنسا وإيطاليا، فسهّل له رؤساؤه أمنيته وسافر إلى فرنسا، ثمّ الى روما حيث حظي بمقابلة قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس العاشر سنة ١٩١۰.
سنة ١٩١٤، اشتعلت الحرب العالميّة الأولى، فاضطرّ رفاقه الكهنة الفرنسيّون إلى مغادرة لبنان، ففوّض إليه رئيسه الأب جيروم كلّ أمور الرّسالة، ومن ضمنها رعاية أديرة الرَاهبات الأوروبيّات، على الصعيدَين الرّوحيّ والمادّيّ. تعرّض "أبونا يعقوب" خلال تلك الحرب، لأهوال مميتة وأخطار شرّيرة، إلاّ أنّ يد الرّب كانت معه تردّ عنه المكايد والمخاطر وتنقذه من أيدي الشرّ.
رسول الرّحمة في مملكة الصليب
في غمرة أعماله المتواصلة وأتعابه الدّائمة، راود "أبونا يعقوب" حلم رفع صليب جبّار على إحدى التلال، لأنّه رأى ما دهى لبنان في الحرب الأولى من كوارث ومآسٍ، وقد مات عشرات الألوف من أبنائه جوعاً وشنقا ونفيا، دون أن يُقام الصليب على قبورهم، ليُصبح هذا المشروع مكانًا لتجمّع الثالثيّين، للصلاة على نيّة كلّ الذين ماتوا أثناء الحرب وللصلاة على نيّة المغتربين.
مؤلّفات
لقد اهتمّ "أبونا يعقوب" بالنّاحية الرّسولية المكتوبة، مؤمنا بأثر الكلمة. فهو، بالرغم من مشاغله الكثيرة، ومتطلّبات مشاريعه المتعدّدة والملحّة، قد أعطى التّأليف والكتابة وقتًا ثمينا.
من آثاره:
- مجلّة صديق العائلة: أنشأها سنة ١٩١٣ واستمرّ يصدرها إلى سنة ١٩٣٩. جمع منها ستة وعشرين مجلّدًا. وقد ضمّنها أبحاثا ومقالات قيّمة عالج فيها شؤون العائلة والمجتمع والكنيسة والوطن، فضلاً عن روايات تاريخيّة مبتكرة حافلة بالعبر والمواعظ.
- سيرة القدّيس فرنسيس الأسّيزي
- كتاب التراتيل الدّينيّة للنّفوس المسيحيّة (١٩٥٤- طبعة رابعة، ١٩٩٢ – طبعة خامسة).
- رواية بعنوان: أسرار الميلاد (١٩۰٩)
- - كتيّب يحوي على رياضتَين لدرب الصليب
في يوم الجمعة العظيمة (٢٥/٣/١٩٥۰)
- - رواية ارتفاع الصليب المقدّس (١٩٥١)
وهناك حوالي ٨۰۰۰ صفحة مكتوبة بخطّ يده، لم تُجمع بعد في كتاب.
روحانيّته
الاتّكال على العناية الإلهيّة طبع شخصيّة "أبونا يعقوب"، حتّى إنّه لُقّب بـِ "رجل العناية". ترسّخت ثقته بهذه العناية أكثر فأكثر لمّا بدأ مشروع دير الصليب، ولم يحصل من رئيسه سوى على بركته فاكتفى بها كعربون لبركة الله. ولولا إلحاح زملائه، لما كتب لإحدى المحسنات في فرنسا؛ ولكم كان انذهاله عظيمًا لمّا تسلّم منها رسالة وفيها فرنك واحد. قال في نفسه: "أستحقّ ذلك. وإنّ الله الصّالح أراد أن يريني أنّه هو المحسن الأوّل والأوحد لهذا المشروع. ومنذ ذلك الحين، وضعتُ فيه وحده رجائي. إيّاك يا ربّ رجوتُ فلا أخزى... وأمّا الفرنك، فإنّي أحتفظ به إلى اليوم كذكر وكأمثولة". وكثيرًا ما كان يردّد: "العناية الإلهيّة ساعدتني... ألله اهتمّ بي... ألله بارك مشروعي... عناية الله لا حدّ لها... غريب كيف أنّ كلّ شيء ينبت على قدم الصليب..."
كان الصليب حلاوة قلبه ونبض أنفاسه.كان يدعو دائمًا إلى التّسلّح بإشارة الصليب ورسمها جيّدًا؛ وكان يمارس رياضة درب الصليب المقدّسة كلّ يوم وقد جعلها للراهبات جزءًا من صلواتهنّ القانونيّة. وفي نهار الجمعة العظيمة، يجتمع المؤمنون في باحة دير الصليب ليشتركوا مع "أبونا يعقوب" وراهباته بالاحتفال بدرب الصليب.
المصادر
http://mansourweb.net/saintcharbel/yacoub-01.htm