ankawa

الحوار والراي الحر => المنبر الحر => الموضوع حرر بواسطة: جاسم الحلوائي في 03:57 21/11/2005

العنوان: ذكريات - الدراسة الحزبية في الخارج (3ــ 5)
أرسل بواسطة: جاسم الحلوائي في 03:57 21/11/2005
ذكريات
الدراسة الحزبية في الخارج
(3ــ 5)
جاسم الحلوائي                                     
jasem8@maktoob.com

في اليوم التالي لوصولي أرسل جيرنيكوف مدير معهد العلوم الإجتماعية ( معهد لينين) في طلبي وكان اللقاء دافئا جدا. طلب مني الإسراع بوصول فريقنا لأنهم بصدد تحديد موعد حفل الإفتتاح الرسمي قريبا. اخبرته بأن حوالي 45 رفيقا ينتظرون في دمشق لعدم وجود أماكن شاغرة على متن الطائرات القادمة الى موسكو، ورجوت مساعدته، فوعدني خيرا. وبالفعل بعد بضعة أيام وصل الجميع الى موسكو!

كان جيرنيكوف  شخصية قوية ومحترمة من الجميع ومتنفذة بحكم علاقته المباشرة بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي وتحديدا بالعضو المرشح للمكتب السياسي بنماريوف مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية. كان قد تجاوز الستين من عمره, شعره رمادي اللون، وجهه أحمر ومدور الشكل وبشوش، ويبدو ضخما نسبيا، كان يحترم حزبنا كثيرا لكفاحيته العالية وتضحياته الجسيمة. وقد حضر في إحدى مناسبات عيد ميلاد حزبنا رغم إنه كان نادر الحضور لمثل هذه الحفلات، رفع نخبا ... مضاعفا عمر الحزب  أمام ممثلي أكثر من إربعين حزبا شيوعيا، نافيا أن يكون كلامه مجاملة، وفسر قوله بان تجربة الحزب الشيوعي العراقي غنية , وتساوي ضعف عمره. كان يعقد لنا، نحن ممثلي الفرق في المعهد، إجتماعات دورية. لم يكن يتساهل في خرق المواعيد إطلاقا، وكان يعتبر من يتأخر عن موعد ما، بأنه لايحترم نفسه لأنه لايحترم الآخرين، فإحترام الآخرين ووقتهم هو إحترام للنفس ايضا. نقلت هذه المقولة لقيادة منظمتنا الطلابية في موسكو، وكنت مشرفا عليها،  إذ كانت تعتبرالتأخر نصف ساعة عن موعد ما أمرا طبيعيا في موسكو لتباعد المسافات ويسمون ذلك " هاي مواعيد موسكو".عالجت قيادة المنظمة هذه الظاهرة السلبية في نشرة داخلية ووضعت مقولة المديرعنوانا لها!

يعتبر معهد العلوم الإجتماعية إمتداد لجامعة كادحي الشرق التي درس فيها الرفيق فهد وقادة آخرون من حيث محتواه وأهدافه. وهو مخصص لتسليح كوادر الأحزاب الشيوعية بالنظرية الماركسية ـ اللينينية. ويفترض بالدارس فيه أن يكون قد أكمل الإعدادية. ومن حق قيادات الأحزاب عدم الإلتزام بالشرط  المذكور إذا ما قدرت بأن الرفيق آهل للدراسة. كان الفريق الذي أقوده يضم رفاقأ ذوي مستوى تعليم متفاوت جدا، فبينهم من أكمل أو لم يكمل السادس الإبتدائي، وبينهم خريجو الجامعة. وبنفس هذا التركيب كانت فرقنا دوما منذ 1964. وكان المعهد يمنح دبلوماً بعد التخرج لمن يشاء من خريجي الدورة الطويلة الأمد. وقد إستلمت في حينه دبلومات الرفاق وأطلعتهم عليها ومن ثم أتلفتها، لأنها من الممكن أن تتحول الى دليل جرمي ضدهم في بلدنا.!!

كان معدل الدارسين في المعهد حوالي 300 دارساً من 40 بلدا أو اكثر، وكانت غالبيتهم من البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهناك مجاميع أوروبية من البرتغال وأسبانيا واليونان وفنلندا، وأفراد من دول أخرى، في حين لم يكن هناك أحد من البلدان الرأسماليةالأكثر تطورا مثل: أمريكا وفرنسا وبريطانيا والمانيا الغربية وايطاليا!؟ كان جو المعهد أمميا وحميميا. وهناك حرية معينة في المناقشات داخل الصفوف. وليس هناك أي مظهر من مظاهر الثكنة العسكرية التي أشرت اليها في مدرسة صوفيا. ففي موسكو ليس هناك رقابة على التحضير الشخصي أو المبيت  خارج المعهد. ولكن أصطحاب أحد الى المعهد ممنوع , ودخول قادة الأحزاب يتم يعد موافقة إدارة المعهد مسبقا. وهذا مفهوم، فكثير من كوادر الأحزاب الشيوعية في المعهد تعمل تحت الأرض. ولكن هناك صرامة في تطبيق النظام، فمثلا لايسمح للدارس الدخول الى الصف لو وصل متأخرا، أي بعد المباشرة بالدراسة، وكان عليه أن يستحصل موافقة رئيس قسم التعليم لكي يدخل. وبإعتقادي أنه لولا تلك الصرامة , , لخربت عادات عالمنا الثالث المتخلفة , أسس الدراسة في المعهد.!!

كان في المعهد مطعم كبير , والأكل فيه ممتاز ومتنوع ورخيص. وكان راتب الدارس يغطي جميع مصروفاته ويزيد. كان القسم الداخلي مريحاً وهو مجاور للمعهد . هناك قاعة كبيرة تتسع لجميع الدارسين والعاملين في المعهد , وهي مجهزة تقنيا للترجمة المباشرة بعدد من اللغات. تعرض في القاعة الأفلام وتقام فيها الحفلات العامة. وتلقى فيها صباح كل يوم اثنين محاضرة من قبل أحد قادة الأحزاب الشيوعية أو دراسات جديدة ذات علاقة بإهتمامات المعهد تلقيها شخصيات  سياسية وعلمية من خارج المعهد.

تبدأ الدراسة في الصف بقراءة نشرة أخبار عالمية, ويخصص بعض الأساتذة وقتا محددا للتعليق عليها . وتكون لكل صف أو صفين متشابهين ,علاقة بمنظمة حزبية في أحد المصانع للتزود بالمعارف التطبيقية. كما يحضرالمستمعون بعض الاجتماعات الحزبية أو الإنتاجية . وتنظم سفرة للمعهد الى لينينكراد , وتتوج الدراسة بعد الإمتحانات برحلة لإحدى الجمهوريات السوفيتية. كما كان هناك استوديو للبث المباشرخلال فرصة الظهيرة وأتذكر بأني ألقيت من خلاله كلمة بمناسبة العيد التاسع والثلاثين لميلاد حزبنا.

كان فريقنا يتكون من 50 رفيقة و رفيقاً وشكلت للفريق هيئة قيادية كان في قوامها الرفاق عائدة ياسين وقادر رشيد وملا علي... وتوزع فريقنا على أربعة صفوف. كان معي في الصف أحد عشر رفيقا ومن بينهم الرفيقتين عائدة ياسين ولينا ( إسم مدرسي ) وهما الفتاتان الوحيدتان في الفريق العراقي كله ، ولأول مرة بعد إستئناف الإرسال الى المعهد في النصف الثاني من عام 1964. وسامي عبد الرزاق وآخرون أتذكرأسماءهم المدرسية وهم: سردار وسمير وصادق وعادل ورافد ومحجوب ومجيد ونبيل. كنا ندرس أربع ساعات قبل الغداء أحدى مواد البرنامج الذي مر ذكره آنفا. وبعد الغداء مباشرة، اي في وقت القيلولة، لدينا ساعتان للغة الروسية. وفي بعض الأيام هناك ساعتان اضافيتان ، وعادة ماتكون محاضرة عن حركات التحرر الوطني. كان معظمنا يغفو مرارا في هاتين الساعتين. وفي المساء كنا ننجز تمارين اللغة و نحضر لليوم التالي. كان الإسلوب المتبع في دراسة العديد من المواد هو الأسلوب النشط ، أي إن الدارسين هم الذين يحاضرون والمحاضر يكمل أو يصحح. كانت مارينا، الشابة الجميلة ، المتمكنة من اللغة العربية ، أستاذتنا في الفلسفة ومتخصصة بتاريخ الفلسفة ، وتحضّر أطروحة في هذا الميدان. وقد درستنا سنة كاملة تاريخ الفلسفة وبالإسلوب الكلاسيكي ، وبدون ملازم أو مصادر. وأكثر من مرة طالبنا بالإكتفاء بذلك والتحول الى المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، فكان جواب الأستاذة وكذلك المشرفين هو، تذكيرنا بمقولة إنجلس " إن دراسة تاريخ الفلسفة ينمي لدى المرء ملكة التأمل الفلسفي." وكان بعض الرفاق يعلقون على ذلك بالإشارة الى رفيق أسمر وسيم شعره مجعد ، بالقول بأنه الوحيد الذي إكتسب ملكة التأمل الفلسفي!! لأن الأستاذة مارينا كانت تمدحه على إستيعابه الجيد أمام المشرف، في حين كان الآخرون يعتقدون بان للمدح دوافع أخرى!!

كان أستاذنا في الإقتصاد السياسي دانتسوف شاب في الخامسة والثلاثين متوسط القامة قصير الشعر وجهه مثلث وصارم , وهناك إنتفاخ مبكر تحت جفنيه ويمشي منحنيا قليلا بحقيبته اليدوية. كان متمكنا من اللغة العربية ويعرف الإنكليزية، ومتفتحا فكريا. ومنه سمعت لأول مرة " إننا لم نر الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها الرأسمالية في تجديد نفسها ذاتيا " كان مثل هذا الكلام في بداية السبعينيات كلاما مثيرا، لأن الوثائق الرسمية للحركة الشيوعية كانت تتحدث عن الأزمة المستعصية وغير القابلة للحل التي يعاني منها النظام الرأسمالي العالمي! 

كان دانتسوف  يبالغ في حزمه الى حد التجاوز، فكان يؤنب المقصر تأنيبا لاذعا، وكنا نتحمل ذلك. وفي أحد الأيام اخطأ أحد الرفاق  في الإجابة على سؤال فمسك دانتسوف الرفيق من ظهره وظل يدفع به من بداية الصف الى نهايته حيث يجلس الرفيق. إستغربنا تصرفه وتمنينا أن لايتكرر.

كان وضعي كمسؤول فريق يتطلب أن أكون قدوة للآخرين في الدراسة، وهي مهمتنا الأساسية من وجودنا خارج الوطن. ولم أكن أقصر في ذلك. وفي أحد الأيام لم أتمكن أن أحضر جيدا للإقتصاد السياسي ، لسبب طاريء وخارج عن إرادتي . فجلست مبكرا وتمكنت أن أقرأ ثلاثة أسئلة من أربعة. سألني دانتسوف السؤال الرابع أجبته بناء على معلوماتي القديمة ولم يكن الجواب كاملا ، وإنطوى على خطأ ما ، فصحح الخطأ. بعد فترة أخذ يتحدث عن القيمة الإستعمالية للسلعة ، فقد كنا في بدايةالمنهج الدراسي، فقال: "هذا الكرسي الذي بيدي مثلا ، فيه قيم إستعمالية كثيرة . فإني أتمكن أن أجلس عليه، وأتمكن أن استخدمه كحطب للمدفأة، ومن ثم رفع الكرسي الى الأعلى وقال" اتمكن أن أهوى به على راس واحد لا يعرف إقتصاد سياسي" كان واضحا بأنه يقصدني أيضا.

قررت أن اتحرك لوضع حد لهذا الوضع الشاذ،  فإتصلت بالأستاذة الأقدم، مسؤولة صفنا اوليانوفا الحائزة على مدالية لينين. عندما عرفت بالوضع طلبت مني أن أخذ ساشا رئيس قسم المترجمين( وليس مترجمنا لأنه صديق دانتسوف) وأشتكي عليه عند جيرفينكوف، مساعد المدير لشؤون التعليم ومرجعي الإداري. وأشارت لي بأن دانتسوف مغرور, وذلك برفع أنفها بسبابتها الى الأعلى . لم أجد ساشا، وبالتالي لم أتمكن القيام بأي عمل في ذلك اليوم.

كان الرفيق عزيز محمد يرقد في المستشفى. إتصلت به تلفونيا وأخبرته بتفاصيل سلوك الأستاذ، وأخبرته بان مترجم صفنا صديقه. وجيرفينكوف صديقه أيضا. فطلب مني الرفيق عزيز أن أذهب الى مدير المدرسة وأشتكي عليه. لم أخذ مترجم صفنا آرتينوف، وأخذت المترجمة تمارا ( صديقة العراقيين) والتقيت بمرجعي جيرفينكوف، طلبت منه مواجهة مع المدير. عندما عرف السبب ألح علي أن أتحدث معه في الموضوع فرفضت. فما كان منه الا الإستجابة لطلبي . في طريقنا الى المدير قالت لي تمارا " زين سويت ما إتكلمت وياه لأن دانتسوف وجيرفينكوف... فد لباس".

قيمت إيجابا مستوى دانتسوف وطريقة تدريسه النشطة، في لقائي مع المدير، وإنتقدت أسلوب تعامله معنا وقلت له، فحوى ما أوصاني به الرفيق عزيز محمد.

ـ إنه يتعامل معنا وكأننا تلاميذ مدرسة في حين إننا كوادرحزبية وضعنا دمنا في راحة أيدينا ونناضل من أجل حرية وطننا وشعبنا ولرفع راية الشيوعية في بلدنا. وعرضت علي المدير تفاصيل تصرف الأستاذ وأضفت:

نحن موجودون في هذا المعهد للتعلم، ولوكنا نعرف ماندرسه  لما أتينا الى هنا، فلماذا يتعامل معنا بهذه الطريقة. كانت المترجمة تمارا تترجم بحماس أما جيرنيكوف فقد شحب وجهه. قال لي المدير ووجهه محمرا: 

ـ إسمع سامر ( إسمي في المعهد) إعطني مهلة شهر واحد إذا ما عجبك الأستاذ تعال الى هنا وإخبرني وسوف لن يبقى في المعهد!!

كنت أتوقع موقفا متعاطفا من المدير معنا، ولكن لم أتوقع أن يصبح مصير الأستاذ في المعهد متعلق بقرار منا. تمارا ركزت نظرها علي تريد رصد رد فعلي، ولم تتمكن أن تكتم الفرحة في عيونها. إهتز كياني فرحا لشعوري بإزالة ما لحقني ورفاقي من حيف. وقد حاولت أن أكتم ذلك بكل ما أوتيت من قوة لكي لا ابدو شامتا ولكي لا أجرح مشاعر جيرفينكوف، صديق دانتسوف، لأنني كنت معجبا به وبتعاونه وكانت علاقتنا دافئة. شكرت المدير على موقفه وودعته.

ذهبت الى الصف واخبرت الأستاذ بأن تأخري جري بمعرفة الرفيق جيرفينكوف. بعد فترة وجيزة جاء رسول على دانتسوف وسلمه رسالة فغادر دانتسوف الصف. أخبرت الصف بنتائج لقائي مع المدير وقد إندهشوا
للنتائج. وكنا ننتظر عودة الأستاذ بتلهف.
يتبع[/b][/size][/font]