عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - Ahmed Alnassery

صفحات: [1]
1
الكتابة والنشر في الانترنيت

أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com


الزمن الحالي من عمر ومسيرة العقل البشري وتاريخ الإنسان العلمي، منذ طفولته الأولى، هو زمن المعلوماتية والاتصالات والانترنيت بلا منازع، حيث ساد وطغى على كل ما قبله من نظم واختراعات هائلة ومدهشة، في طوفان لا يريد أن يهدأ ولا يتوقف. مثلما كان زمن الحجر والكهوف والصيد والرزاعة والنحاس والحديد والعجلة والكتابة الأولية، والتحولات النوعية الكبرى مع الثورة الصناعية وعصر البخار والكهرباء والنفط والفضاء، هو ذروة التقدم في لحظته التاريخية تلك. والانترنيت حلقة نوعية خارقة ( حسب مداركنا الحالية) في سيرة التطور الحياتي والعقلي والوجودي العام والمفتوح، والذي لن يتوقف عند حد أو نقطة نهائية، ما دام الإنسان يتنفس ويعمل ويفكر ويلعب ويتناسل، ولا ندري ما يخبئ العقل العلمي المستقبلي، بصدد ما يبدو خيالي ومستحيل الآن، وما يمكن تحقيقه في وقت لاحق بسهولة، حتى يبدو مثل لعبة أطفال بسيطة لا أكثر.
لقد فتح عالم الانترنيت فتوحات خارقة وشاملة في جميع المجالات العملية والطبية والصناعية والاجتماعية والتاريخية، كما أجتاح مجال الكتابة والنشر بجميع أشكالها وألوانها، وهو يتقدم بلا توقف كالطوفان ليشمل جميع مجالات الحياة بلا استثناء، ولم يبق باب موصد أمامه، إلى أن يأتي اكتشاف جديد يتجاوزه ويحل محله، كما هي عادة التطور التاريخي والتبدل الدائم في الحياة.
بالنسبة لموضوع الكتابة والنشر على الانترنيت، فهو عالم جديد، واسع ورائع وسريع وسهل، حيث يوفر الانترنيت جميع المصادر التي يحتاجها الكاتب أو الباحث والقارئ بسهولة ويسر ومجاناً تقريباً، وبلمسة خفيفة واحدة، ثم يقوم بالكتابة السهلة على لوحة الحروف، ويتم الإسارل الخاطف وبلمح البصر إلى جهات الأرض الأربع، والى أبعد نقطة في العالم، وبعد إرسال الملفات والرسائل والأصوات والأشكال، يكون النشر الفوري بعد لحظات قليلة أو حسب المواعيد المعلنة والمتفق عليها.
لحد هذه اللحظة تبدو الصورة زاهية وجميلة، وهي في العموم والغالب كذلك، لكن كل اكتشاف وأي عمل مهما كان رائعاً ( حتى الأدوية والعلاجات) يحمل في طياته بعض الأخطاء والمشاكل والسلبيات، والعكس موجود أيضاً ف ( رب ضارة نافعة )، وبعض المشاكل لا تأتي من الاكتشاف ذاته، بل تأتي ممن يسئ استعماله أو التعامل معه. فنوبل لم يكن يقصد الجانب التدميري في اكتشافه لل( ت أن ت )، لذلك ظل يدفع كفارة عن خطأ لم يرتكبه. وتلك المشكلة برزت بقوة مع الكتابة والنشر في الانترنيت، تشبه أحياناً القوة التدميرية لل ( ت أن ت ) الرهيب.
بعد الاحتلال الأمريكي لبلادنا في عام 2003، والذي يصبح بعيداُ وطويلاً وعميقاً رويداً رويداً، أندفع( الجميع) تقريباُ للكتابة والنشر، وصدرت مئات الصحف والمجلات والنشرات السريعة، وظهرت ولا تزال عشرات غرف النقاش إلى جانب سيل من الفضائيات، وصرفت آلاف الساعات على المكالمات الهاتفية لمتابعة وسماع الأخبار والتطورات العاصفة في بلادنا، إلى جانب خدمة المسنجر المجانية. وكان ذلك تأكيد على الحاجة للتعبير والرفض والتطلع للحرية، ورد على حقبة الاستبداد والعزل والعتمة الطويلة، واستعداداً لخوض المعركة الوطنية ضد الاحتلال. وكنت أراقب تلك الظاهرة الجديدة والمندفعة، وكنت فرحاً بآفاقها ومستقبلها، رغم ما صاحبها من نواقص خطيرة، ورغم كل سيول الفوضى والتجريب والتخريب، لكنني كنت متأكد من إن شيء ما سوف يتبلور في النهاية، وإن حصاد التجربة سوف يكون غنياً ومفيداً في آخر المطاف، وغربال التجربة سيقوم بواجبه، و( أما الزبد فيذهب جفاء، أما ما ينفع الناس سيمكث في الأرض ) وتلك قصة وعلاقة المعدن الأصلي بالخبث والشوائب، وهكذا كان المشهد تقريباً، فقد انحسرت وتقلصت مساحة الشتائم والانفعال والضجيج والكلام البذيء والإسفاف والمواقف الشائنة والآراء الساذجة والسطحية والمغرضة أو الغرضية. وأنفك الاشتباك والتداخل، وتحددت المواقف والمواقع من قضية الوقوف مع الوطن أو الوقوف مع الاحتلال، وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وأنفرز الغث من السمين، وتعرفنا على من قبض بالقطعة، ومن باع وأشترى بالجملة وبالمفرق، ولا يزال، وارتفعت أصوات خشنة ومنكرة، تتحرش وتهاجم الجميع، حتى بدا المشهد محزناً ومخيفاً وقاتماً، ثم تلاشت واختفت تلك الأصوات النشاز تدريجياً، كصوت في سوق الصفافير، والبعض تخفى تحت أسماء وهمية ومستعارة ليشتم ويهمش ( من هامش ) كما يشاء، والبعض الآخر كتب لمرة واحدة فقط لا غير، ثم غاب منسياً كما ظهر، يشبه الحاجة التي يكتب عليها استعمال لمرة واحدة، ثم تذهب إلى مصيرها النهائي، وظهرت أسماء وأقلام  كثيرة، رائعة ورصينة.
الملاحظة الأخرى عن الكتابة والنشر في الانترنيت، هي عدم وجود مواقع فكرية وسياسية يمكن الاتفاق معها بصورة تامة وكاملة، لذلك يمكن النشر في المواقع مع حالة الاتفاق العام بالحد الضروري أو الأدنى على الأقل، أو ضمان حق النشر مع احترام حق الاختلاف، حيث لا يمكن لي أن انشر في موقع يؤيد الاحتلال مثلاً،  وهو بالتأكيد لا يتبنى ولا ينشر مثل هذه الآراء، فالاختلاف جذري وعميق وشامل، وله أسبابه الحقيقية وليست الشكلية، وكل له طريقه وطريقته في التفكير.
 إن عملية الكتابة والنشر في الانترنيت، لا تزال في طور التبلور والصيرورة، ولم تصل إلى نهايتها، ولم تأخذ شكلها المهني المحدد بعد، وربما لا توجد نهاية محدد ومعلنة لهذه الظاهرة بالمعنى القطعي، لكن ستتكون شروط وظروف ومعايير أخرى للكتابة والنشر على الانترنيت تدريجياً، وليست كما هي الآن، حيث تبدو الكتابة والنشر من دون شروط أو ضوابط تماماً.
لقد نبهني عدد من الأصدقاء القريبين إلى مسالة حساسة ودقيقة، عن طريقة عرض المعلومات والآراء والاستنتاجات التي توصلت لها من حلال عملي وتجربتي الخاصة، فقال لي أحدهم أنك خضت تجربة طويلة وعميقة، وعايشت أشخاص وأحداث كثيرة وكبيرة، وأنت تكتب من داخلها للخارج أو لقارئ آخر، بنفس الحماس والانفعال الداخلي، فعندما تكتب لقارئ لم يعش أو يخوض نفس التجربة ولم يناقش أو يجادل أو يلتقي نفس الأشخاص وجها لوجه، من الذين تتحدث عنهم وتذكرهم، فربما تكون الجرعة كبيرة وزائدة وغير تدريجية، وربما يتصور فيك البعض، عدم الموضوعية أو التحامل الشخصي أو لديك أغراض أخرى، أو ( تبحث ) عن شيء معين، وبعض الناس لا يعرفونك شخصياً، والعلاقة معهم تتم من خلال الكتابة فقط، والبعض الآخر لاتهمهم هذه الأحداث والقضايا والأسماء، وبعضهم منحاز لها سلفاً، وهناك أجيال جديدة متلاحقة لها هموم وتطلعات أخرى، وبعضنا يكتب وهو بعيد أو منفصل عن الواقع المحدد والملموس.. وهكذا. وبذلك لا تصل الفكرة إلى أوسع جمهور مطلوب الوصول إليه. طبعاً هناك حقائق وأحداث يجب كشفها وتناولها في وقتها، وعدم تركها أو تناسيها، لكن الطريقة السليمة تبقى ضرورية وضرورية جداً.
 وهناك مشكلة حقيقية أخرى لا يمكن تجاوزها بسهولة، وأرى ضرورة بحثها، وهي ثقل وجسامة الأحداث التي يمر بها شعبنا ووطننا منذ عقود طويلة، وقد تحولت وتكرست بشكل نوعي آخر مع الاحتلال الغاشم لبلادنا، وأعداد القتلى وانهار الدم والمشاكل الكثيرة، وما يصاحبها من متابعة يومية للأحداث والتطورات الجسيمة الأخرى الجارية على الأرض، وانعكاس ذلك نفسياً وذهنياً وصحياً علينا، والتفرغ لمتابعة الأخبار والكتابة عنها بشكل شبه يومي، بينما يظل نهر الحياة يتدفق، وتظل الحياة واسعة ومتنوعة، والناس بحاجة إلى كافة المجالات والتنويعات وكافة الأبواب، فهناك أدب وفن وسينما وشعر ورياضة، ومجالات أخرى في هذه الحياة الواسعة، رغم كآبة المشهد العراقي، أو إن ذلك ضريبة باهظة، تدفعها الشعوب الواقعة تحت العدوان والاحتلال والتي تتعرض للتدمير والتمييز العنصري، كما في فلسطين والعراق.
 الكتابة في الصحافة الورقية ( وهو ليس موضوعنا، ونورده للمقارنة السريعة ) مختلفة تماماً، فهي تعتمد على شروط كتابية ولغوية وفنية ومهنية صارمة، وهي شروط ضرورية جداً، والكتابة فيها نوع من الاختصاص أو شيء قريب منه، وتخضع للمراجعة والتصحيح اللغوي والإملائي، والصحف العريقة والمحترمة لها تقاليد وأسماء كبيرة ومعروفة، لها دور كبير وحاسم في نشر الوعي السياسي والثقافي والمعرفي، وأحيانا تعتمد على أسماء محددة تحتكر الصحيفة، وتمنع الأسماء والأقلام الجديدة من التقدم والظهور، إلا تحت سلطة أبوية متخلفة. وأحياناً تخضع لهيكل بيروقراطي متجهم، يجثم على قمته رئيس التحرير، وهو سيد الصحيفة ومسيرها، وله صلاحيات مطلقة تشبه صلاحيات غروميكو وزير الخارجية السوفيتي المتجهم، الذي يقال أنه لم يضحك في حياته إلا عندما قدم استقالته أو طرد من منصبه، كما أنه لم يغير ستائر مكتبه كل الفترة الطويلة التي قضاها في الوزارة، أو يشبه وزير داخلية عربي يستخدم المثقب ( الدريل ) في التعذيب، وليس في أعادة الأعمار المزعوم، كما هي العادة، والكارثة تتضاعف وتصبح خانقة، إذا كان رئيس التحرير بيروقراطياً عتيقاً لا يحب الضحك ولا يمارس عادة الابتسام الرقيقة، ويتلقى الأوامر والتوجيهات من جهات عليا. وطبعاً ذلك سيضر بالصحيفة والعمل الصحفي، ويطيح بالسيد رئيس التحرير عاجلاً أم آجلاً، ويمنع عملية التجديد الطبيعية، ودخول الضوء والأوكسجين إلى مكاتب وصفحات ودهاليز الجريدة.
وصحافتنا في الوطن العربي لها تجربة طويلة وكبيرة، ساهمت فيها أسماء هامة ومعروفة. لكنها تعاني من قضايا خاصة تتعلق بمشكلة ومسألة الحريات وطبيعة الوضع السياسي والاجتماعي في البلد المعين والموانع والخطوط الحمراء والإعلام الموجه، ودور الوزارات والمؤسسات الثقافية أو التي تدير وتشرف وتراقب الصحافة، وهي تجربة بائسة وحزينة، حيث لا توجد صحافة حرة ومستقلة، عدا بعض النماذج في لبنان وبعض النماذج في مصر.
الكتابة تشبه الفنون والرياضة وكل الاختصاصات الأخرى، فهي بحاجة إلى موهبة الكتابة أولاً وقبل كل شيء، والقدرة على الكتابة والإنجاز والاستمرار، إلى جانب الأداة العارضة والعاكسة للأفكار وهي اللغة، وموضوع اللغة شائك ومعقد وعميق، وصفات أخرى مثل المعلومات الواسعة والذاكرة القوية واللياقة واللباقة والقدرة على التجديد والتجاوز والموضوعية والهدوء، والحاجة الدائمة إلى القراءة كشرط أساسي للكتابة،    وإلى التدريب واكتساب المهارات والخبرات الجديدة، والإطلاع على تجارب متنوعة أخرى، وهذه شروط وأدوات مترابطة ومتجاورة بأحكام، ليصبح الكاتب مثل خباز ناحج يقدم رغيفاً حاراً ولذيذاً ومقمراً، ويا ليت يكون رخيصاً أو مجانياً، مع صم ( خلال ) حسب تعبير جميل للراحل ( أبو كاطع ).
هذه ملاحظات عامة، عن عموم موضوع الكتابة، وعن الكتابة والنشر بالانترنيت، جمعتها مع الأصدقاء من خلال ملاحظات وحوارات مستمرة، وهي موضوعية ودقيقة وتشمل الجميع تقريباً، وهي بحاجة إلى مراجعة ووقفه، ربما تكون نافعة في مسالة الكتابة والنشر في الانترنيت وفي الصحافة الورقية على حد سواء، والموضوع بحاجة إلى حوار معمق في ضوء تجربة النشر الجديد،الواسع والمستمر.
إن الاتفاق على عقد ثقافي وكتابي ومهني وأخلاقي، حتى لو لم يكن مدوناً، والتزام الجميع به، واستغلال سقف الحرية المفتوح أو العالي، لنشر المواقف والآراء والمعلومات الضرورية، مع ضمان حق الاختلاف والحوار والرد، هو من الشروط الهامة لتطوير عملية الكتابة والنشر في الانترنيت.
في النهاية أتمنى ان ينتشر الانترنيت في بلادنا، ويدخل جميع البيوت مثل جهاز التلفزيون، إلى جانب الخبز الوفير والكهرباء الدائمة، وهو سيصل في النهاية حتماً مثلما وصل ودخل الستلايت إلى كل البيوت، بعد حجر كامل ورهيب وغير مبرر، وبذلك تصبح القراءة للجميع مثل الخبز اليومي.

 *ما أن كتبت أسم ( أبو كاطع بالكاف الفارسية) حتى رفضها برنامج التصحيح الآلي، وظهر تحتها خط احمر يشير إلى خطاها، وظهرت الكلمة الصحيحة المطلوبة (  قاطع وليس كاطع )، فخفت أن أسئ للراحل الجميل ( أبو كاطع)، وأضفت كلمة ( كاطع ) إلى قاموس الانترنيت الذي قبلها آلياً أيضاً، من دون تدقيق أو اعتراض، والراحل يستحق أن ينقش أسمه ويعلق في كل مكان ومركز ثقافي وإعلامي، ولم يصحح البرنامج لي، ولم يتدخل في المرة الثانية.
* من الآراء التي أود نقلها للقارئ العزيز، لكي يطلع عليها، وهي آراء لها علاقة بالكتابة والنشر وطريقة التفكير، فقد سألت الكاتب والخبير الإعلامي المعروف الأستاذ جهاد الخازن ضمن باب ( حارات الكترونية ) في جريد العرب اليوم الأردنية الأسئلة التالية:- ( أحمد الناصري / كاتب عراقي مقيم في ألمانيا
أتابع بشغف وإعجاب تجربة وإمكانيات بعض الكتاب الصحافيين العرب من بينهم الأستاذ جهاد الخازن والأستاذ هيكل طبعاً, وغيرهما من الأسماء والأقلام المعروفة التي أضاءت صفحات أيامنا بنور الكلمات والحروف, باعتبارهم يساهمون في إنتاج الفكر السياسي العربي,. حتى لو كنت اختلف مع بعض المواقف هنا وهناك, والاختلاف من طبيعة الأمور. أسأل ألأستاذ جهاد الخازن لماذا لا يكشفون عن التجارب والأسرار التي يعرفونها بصدد الخراب الرسمي العربي, علها تساهم بالنهوض ومعالجة حالة التردي التي نمر بها, لإنقاذ حال الناس وحال الأمة, كعملية نقدية ضرورية?? وسؤالي الآخر كيف يتسنى لكاتب أن يصمت عن الأخطاء والكوارث, أو يتلطى تحت عباءة حاكم متخلف ويتلوث برائحة النقود والتبعية لما هم دونه عقلا وحضارة?? وكيف يجامل ويمدح من هم دونه مكانة?? هل هي مشكلة سقف الحرية, أم الدونية والضعف, أم حب المال والجاه والامتيازات, أم كلها مجتمعة?? وهل الصحافة العربية في العموم تستطيع أن تقرع الجرس وتوقظ الناس على مصيرهم, أم أنها في العموم أيضاً جزء من الحالة الرسمية العربية البائسة ومن أدواتها الوظيفية?? وهل ما يكتب ويعلن من مواقف كاف في حالة فلسطين والعراق وكذلك بصدد الخطر الصهيوني الداهم.
 جهاد الخازن
 السيد أحمد الناصري: الكاتب المستقل معروف والكاتب الحاجب عند الحاكم معروف أيضا. المهم ان تصل المعلومات إلى القارئ, وهنا لا فائدة من محاربة طواحين الهواء. فالكاتب الذي يكتب كل شيء ينتهي لاجئا في الغرب ولا يفيد نفسه أو القارئ لأن ما يكتب لن يصل إلى الناس(.
وقد أصبح المقطع الأخير من الرد عنوان للحلقة.. لا تعليق لي، لكن هذه الأسئلة الأساسية وغيرها تبقى معلقة في سماء تجربة الكتابة والنشر، والردود عليها متباينة ومتفاوتة حتما.

2
بي بي سي تكشف عن بعض مليارات العراق المنهوبة.. الفساد المالي الشامل خبر وتعليق

أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com

يقول الخبر: (( جاء في برنامج بانوراما قدر تحقيق لهيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، أن نحو 23 مليار دولار أما سرقت أو أهدرت أو ضاع أثرها في العراق.
 وكشف برنامج بانوراما للمرة الأولى عن مدى تربح المقاولين من الصراع وإعادة الأعمار، استنادا إلى مصادر حكومية أمريكية وعراقية.
ويحول أمر أمريكي بعدم النشر دون مناقشة الاتهامات، وينطبق الأمر على 70 قضية أمام المحاكم ضد بعض من اكبر الشركات الأمريكية.
وطالما بقي الرئيس جورج دبليو بوش في البيت الأبيض، لا يتوقع أن يلغى أمر عدم النشر.
أغنياء الحرب
وحتى الآن لا يواجه إي من المقاولين الأمريكيين الكبار المحاكمة بتهمة الفساد أو سوء الإدارة في العراق.
إلا أن المعارضين الديموقراطيين للرئيس يواصلون الضغط للكشف عن التربح من الحرب في العراق وأغنياء الحرب.
وقال هنري واكسمان، الذي يترأس لجنة مجلس النواب حول النزاهة والإصلاح الحكومي: "إن الأموال التي أهدرت أو ذهبت في فساد ضمن تلك العقود مثيرة للغضب والذهول"
وأضاف: "ربما نكتشف إنها كانت اكبر عملية تربح من حرب في التاريخ".
وأثناء الإعداد للغزو اعترض اكبر مسؤول عن التوريدات في وزارة الدفاع (البنتاجون) على عقد قيمته سبعة مليارات دولار منح لشركة هاليبرتون، ومقرها تكساس وكان يديرها ديك تشيني حتى أصبح نائبا للرئيس.
وعلى غير العادة كانت مناقصة لم تتقدم لها سوى هاليبرتون ـ وفازت بها بالطبع.
مليارات مفقودة
وتوصل فريق البحث عن المليارات المفقودة في برنامج بي بي سي إلى منزل في اكتون بغرب لندن كان يعيش فيه حازم شعلان حتى تم تعيينه وزيرا للدفاع في الحكومة العراقية عام 2004.
ويقدر انه، ومن معه، استنزفوا ما قيمته 1.2 مليار دولار من الوزارة. فقد اشتروا معدات عسكرية قديمة من بولندا قدمت على أنها من أحدث طراز، وحولوا الفارق إلى حساباتهم الشخصية.
وأجرى القاضي راضي الراضي من لجنة النزاهة العامة تحقيقا، وقال: "اعتقد ان هؤلاء الناس مجرمون".
وأضاف: "لقد فشلوا في إعادة بناء وزارة الدفاع ونتيجة ذلك استمر العنف وحمامات الدم ـ استمر قتل العراقيين والأجانب وهم يتحملون المسؤولية".
وحكم على الشعلان بالسجن، لكنه هرب من البلاد.
وقال انه بريء وان الأمر كله مؤامرة ضده من النواب الموالين لإيران في الائتلاف الحاكم.
وهناك أمر من الشرطة الدولية بالقبض عليه، لكنه هارب يستخدم طائرة خاصة في التنقل في أرجاء المعمورة.
ولا يزال يمتلك عقارات تجارية في منطقة ماربل ارش الشهيرة بلندن)( .
التعليق : صحيح أن الفساد قديم ومنتشر في جميع بلدان العالم، وهو يترافق ويزداد كلما زاد الاستبداد والتخلف في نظام الحكم، وله أشكال وأبواب عديدة، وصحيح أن ما أهدر وأنفق سابقاً نتيجة الحروب والسياسات الهوجاء يفوق التصور، وهو ما يجب أن يكون موضع تحقيق ودراسة وإحصاء. لكن المقارنات لا تسير لصالح الوضع الحالي، فلا يمكن المقارنة بشيء سيء لتبرير عمل مشابه بل أسوء. كما أننا نتحدث عن نوع جديد من الفساد، يتسم بسعة وسرعة وعلنية النهب، ووصوله إلى أبعد نقطة في المؤسسات الرسمية، حيث إن الكل ينهب وبأقصى طاقته وسرعته، وهناك من يضع يده على أراضي حكومية ومؤسسات ومصانع ومزارع كبيرة وواسعة باستهتار وبدون مقابل، بواسطة الميلشيات، أو ببدلات شكلية بسيطة لا تعادل ثمن الورق. والخسائر العامة تجاوزت مئات المليارات، نعم مئات المليارات، وما يمكن أن يعيد بناء العراق أكثر من مرة، وليس مرة واحدة فقط. نحن إزاء حالة من التدمير السريع والمنظم لبلادنا.
هذه مصادرهم وبعض المصادر المستقلة الخارجية، تكشف للجميع وأمام الجميع عن بعض حالات وحجم الفساد والخراب المالي، ها كم نموذج آخر، لكنه ليس النموذج الوحيد أو الأخير، إنما هو واحد من آلاف النماذج المعروفة القديمة والجديدة والمستمرة إلى اليوم لا أكثر ولا اقل، وللعلم فأن هذا النموذج ليس الأكبر والأخطر. المشكلة في بلادنا كانت وستظل هي استحالة الوصول إلى المعلومة ومن ثم إلى الحقيقة بسهولة، حول كل القضايا الصغيرة والكبيرة والمصيرية، والتي تأتي من الخارج فقط، وسوف يقتل ويصفى كل من يجرؤ على الكلام والبحث أو يصمت. وكلما تحدثوا عن الشفافية تزداد العتمة والحجب وفرض الصمت المطبق، حتى يذهب هذا الوزير أو ذاك فتنشر الرائحة، وما دام هو موجود فأنه يستخدم صلاحياته الواسعة وسداداته وحاشيته لمنع انتشار الروائح العفنة للفساد.
هل هذا بلد تجري فيه عملية ( إعادة أعمار ) ومعالجة آثار الخراب والحروب والحصار السابق والاحتلال؟؟ هل تجري عملية بناء وتراكم تدريجي، أم عملية نهب وهدم سريع ومنظم، لتحطيم كل شيء وتحطيم المستقبل بالذات؟؟ هل يدير يشرف الاحتلال على عمليات الفساد؟؟ ما هو دور الإدارة المحلية، وما يسمى بأحزابها الكبيرة في عملية الفساد؟؟ كم توسع وأزداد الفساد الآن؟؟ ما هو حال الوزارات والمؤسسات الأخرى ( بما فيها وزارة الدفاع ) في الوقت الحاضر، والحديث عن صفقات مريبة؟؟ كم هو حجم الفساد المالي في كردستان؟؟ ما هو حجم تهريب النفط الآن؟؟ ما هو حجم الخسائر والخراب الاقتصادي منذ بداية الاحتلال إلى الآن؟؟ هل هناك مكان يخلو من الفساد؟؟ هل هناك شخصية واحدة خارج نطاق الفساد؟؟ هل هناك سجلات واردة وصادرة وحسابات للأموال الداخلة والأموال المصروفة ومجالات الصرف؟؟ أين هو فارق زيادة أسعار النفط الكبير، والى أي المجالات يذهب؟؟ هل يمكن معالجة الفساد في ظل الاحتلال والتقاسم المحاصصي الطائفي الذي يقوم على النهب؟؟  هل حالة الفساد المالي الشامل والنهب المنظم والسريع منفصلة عن فساد وخراب النموذج السياسي الطائفي والقومي؟؟ هل ما يجري صدفة وحالة عابرة يمكن معالجتها بسهولة، أم إنها شيء مدبر ومقصود؟؟
بينما تسحق الأزمات الطاحنة حياة شعبنا، ويعاني من خراب اقتصادي ومعيشي وخدماتي وتعليمي واجتماعي، وتزداد أعداد الناس من هم دون خط الفقر، وتموت النساء والأطفال من الجوع والمرض ونقص الأدوية والخدمات الطبية، في بلد من أغنى بلدان العالم، تتلاعب عناصر وفئات وأحزاب طفيلية تافهة من خدم الاحتلال بمصادر المال العام، وتنهبه بطريقة علنية وقحة، وتتحول الأموال عن طريق غسيلها وتبيضها بواسطة بعض الجهات والعواصم، إلى شركات وعقارات وقصور ومنتجعات ومشاريع سياحية وسياسية وإعلامية، في العواصم العربية والأوربية والآسيوية. وتتصور هذه العناصر إنها خارج المحاسبة والملاحقة القانونية، ما دامها في خدمة المحتل ومشاركة في عمليته السياسية، وفق الصفقة المشينة والمخزية، أو محتمية بدين سياسي وطائفي وسياج عشائري أو مكان قومي ضيق، أو تلجأ إلى الشبكات والشركات والجهات الدولية الخارجية المتنوعة لتوفير الحماية لها. أن العار سوف يلاحق كل فاسد ولص وسارق إلى الأبد.
 إنها فرصة وميدان اليسار الوطني وكل الوطنيين ممن لم تتلوث أياديهم وتاريخهم بالفساد والرشاوى، أن يتصدوا لعملية النهب والتخريب الشاملة، التي تترافق مع موجات الإرهاب والقتل العام والجماعي وتردي وانعدام الخدمات، وتخريب الحياة في جميع نواحيها. قتل وجوع وفساد وتشوه.. ماذا تبقى للناس؟؟
أكرر ندائي السابق، الذي أعدت نشره يوم أمس، بصدد موضوع التوثيق العلمي الأكاديمي والكامل لعمليات النهب والفساد، إلى جانب توثيق كل المشاكل الرئيسية القديمة والجديدة الأخرى، وفي مقدمتها تفاصيل ووثائق المعاهدة الأبدية، وضحايا الحروب والقتل الجماعي الإرهابي بجميع أشكاله، والتهجير المنظم، والاعتقالات الجماعية وأساليب التعذيب الجارية إلى الآن، وتوثيق شهادات الضحايا الأبرياء.

•   هذه نسخة غير رسمية للمعاهدة الإستراتيجية طويلة الأمد التي تريد أمريكا فرضها على بلادنا: http://www.thawabitna.com/news/news-06-078/news9.htm




3
إشارة عن الشعر والتاريخ
أحمد الناصري
alnassery@hotmail.com


علاقة الشعر بالتاريخ علاقة مريبة ومعقدة إلى أبعد الحدود، فالشعر أمام مادة زمنية وخيالية ولغوية، جاهزة ومصنوعة وموصوفة بكافة عناصرها. فكيف تتحول هذه المادة المنجزة والجاهزة إلى شعر؟؟ الحل أن يبدأ الشعر عندما ينتهي التاريخ، والشعر يبدأ أيضاً عندما ينتهي الواقع، وتتوقف الوقائع العادية عن سردها لنفسها من خلال حدوثها، وخروجها عن مسيرتها وعاداتها اليومية الرتيبة. بمعنى إن الشعر لا يسجل ولا يعيد أحداث التاريخ، ولا يكرره ولا يغرق فيه، وهو ليس نسخة طبق الأصل عنه، باعتباره حدث منجز، عاشه الناس، فلماذا يكرره الشعر أو يعيده، بينما الصحيح هو إقامة العلاقة السليمة بين الشعر والتاريخ، عبر استيعابه برؤية جديدة تنتمي للغة والخيال والاكتشاف وللمستقبل، وتتجاوز الماضي بحدوده الضيقة والمعروفة والمعروضة علينا فوق شريط الزمن، لكنها تستفيد منه وتلامسه وتحاوره، وتعيد تصويره بطريقة آنية أنيقة ومختلفة، وليست كما كانت.
كذلك فالشعر لا يقوم بنقل الواقع الراهن كما هو ميكانيكياً، حيث سيهبط حتماً الى ما دون الواقع، ويفشل في تصويره، ولا يقدم شيء جديد، أو شيء غير مرئي ومختلف وضروري، كحاجة شعرية. لذلك يقوم الشعر باستخدام الخيال والحدس والعواطف الخارقة، لإنجاز عمل إبداعي آخر. هذا مقياس معين، ومقياس واحد، من مقاييس عديدة لا يمكن حصرها أو جمعها في قالب واحد أو خانة واحدة، ثابتة أو شبه ثابتة، إنما الشعر وعموم الإبداع، فضاء مفتوح على المجهول وعلى الجديد، وذاهب الى المجهول والى الخطوة الأخرى، وهذا سر التدفق والتحول والتجاوز الدائم في الشعر والإبداع، والذهاب إلى النقطة القادمة المجهولة.
ربما يقوم الشعر أحياناً وبشكل مؤقت باستعارة من التاريخ ويقوم باستنطاقه، ومد الجسور معه، من خلال أعادة صياغته صياغة مستقبلية جديدة، وليس أعادته وتكراره وتسجيله، بأي شكل من الأشكال، ولا بأي درجة من الدرجات السابقة المحققة، فهذه مهمة المؤرخ وليس الشاعر، كما ينبغي الحذر من الفوضى في التاريخ، أو التعامل بطريقة سطحية مع قسمه الأسطوري الغائم، أو قسمه المغلق وغير المدقق والواضح. رغم الحرية المطلقة التي يمنحها الشعر في الكتابة عن كل شيء.
التاريخ خزان هائل من خزانات الحياة السابقة وصفحاتها الطويلة، المفتوحة أو المطوية، ومصدر من مصادر الفكر والأدب والشعر والتجارب الفردية والجماعية والشواهد على ما مر وانقضى. فهو سجل المنجز من الأحداث والوقائع والكتابات السابقة وأشكالها، وهو ينتظر ما ينجز الآن، أو ما ينجز لاحقاً ليصبح تاريخاً فيما بعد. بينما يسعى المستقبل الى وضع إضافاته الجديدة والضرورية ( الحتمية)، كي يحقق ذاته المؤقتة باعتباره مستقبل مؤقت، مع تطور الوعي والاكتشاف وأدوات الإبداع وتراكم التجارب والمعرفة، قبل أن يتحول عاجلا أم آجلاً إلى ماض بعيد جرى إنجازه، وتجاوزه الزمن وضمه تحت جناحه الواسع والمفتوح، ذلك الجناح الذي نسميه التاريخ.
وبمعنى معين، فالتاريخ لا يقبع في الماضي المغادر فقط، إنما يتكون في المستقبل أيضاً، عندما تستمر الصيرورة والحركة والحياة ودورتها المتلاحقة، وما تأتي به. فلذلك لا يمكن حبس أي شيء، بما فيه التاريخ نفسه في تاريخه السابق فقط، وهذا ما يمكن إنجازه من خلال عملية النقد والمراجعة والتجاوز وفتح جميع الأبواب والممرات المتجاورة والمتداخلة، والأبواب المتناقضة والمتعارضة بين جميع الظواهر. عندها يتم الاستمرار والتجاوز وانسياب الضوء الباهر، على جسد التاريخ وأجزاءه المعتمة، وعلى جسد الشعر.
لم يكن التاريخ دائماً ( بالمعنى الحديث ) مصدراً من مصادر الشعر، على الأقل في بداية الكتابة، أو فيما قبل الكتابة، حيث كان الشعر يساهم في صنع ما نسميه تاريخاً، أو كانا يسيران سوية، ويصنعان الأحداث والذاكرة الزمنية والذوقية معاً.
 العلاقة الصحيحة والمفيدة مع التاريخ، لا تتأتى بعودتنا إليه، والجلوس في ممراته وكتبة ومصادره وأسانيده وكهوفه والتحول إلى جزء منه، أي من شيء كان ومضى، إنما بمجيئه إلينا، من خلال قراءته ونقده وتحريكه واستقدامه وإشراكه كأداة  صالحة تعمل مع الحاضر والمستقبل. هكذا يستفيد الشعر وباقي الفنون من التاريخ والتراث، ويتحولا إلى مادة حاضرة، طرية وخضراء.



4
عن المعاهدة... العراق قاعدة أمريكية دائمة
أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com



 نحن في معترك وصراع محتدم ومستمر ومتصاعد، حول مصير الوطن، ضد الاحتلال الغاشم باعتباره المشكلة الرئيسية التي تواجهها بلادنا، ونحن ضد جميع خطواته ومشاريعه، ونتابع أيضاً جميع المشاكل الرئيسية الأخرى، من إرهاب عشوائي وغامض، إرهاب أسود قذر يستهدف المدنيين الأبرياء، وطائفية سياسية متخلفة، وخراب وفساد مالي واقتصادي واجتماعي وفشل خدماتي مريع، ونشخص بدقة المشاكل والمخاطر الرئيسية والثانوية، لكننا لا نخلط بينهما، وفق منهج وطني، ومفاهيم ورؤية وطنية دقيقة وواضحة، ولا نصاب بالوهم والضياع رغم صعوبة وثقل وتشابك الوضع السياسي في بلادنا، وتهميش الناس ومحاولة تخريب وعيهم. ونحن ضد نموذج الإدارة المحلية الطائفي المتخلف، الذي صممه وفرضه المحتل، وهو نموذج مصطنع يتعارض مع الوطنية والديمقراطية والحداثة وكل المفاهيم الجديدة. وكما قلنا دائماً فسوف نتابع بدقة أجواء وبنود المعاهدة المشبوهة لحظة بلحظة ويوم بيوم حتى إسقاطها وكنسها من أرضنا الوطنية، هي ومن أعدها ووضع توقيعه ( حافره أو إمضاءه لا فرق) عليها، باعتبارها أخطر حلقات فرض وتكريس الاحتلال بطرق أخرى، لكي تبدو طبيعية وشرعية، لذلك لن ننسى مشروع الاحتلال الرئيسي في محاولة البقاء في بلادنا بمختلف الطرق والأساليب الأخرى، وفي مقدمها طبعاً التواجد بواسطة القوة العسكرية المباشرة.
يوماً بعد يوم تتكشف فصول ومواد وبنود كثيرة من المعاهدة، تكشف خطورتها، والكشف يتم من مصادر قريبة من الاحتلال أو عبر مصادر ليست معادية له، رغم الطابع السري الصارم للمفاوضات، حيث لا يعرف شيء عن اللجان المشتركة ولا الدرجة التي وصلتها في عملها المشؤوم هذا. وربما يقوم الاحتلال بنشر تمهيدي مقصود ( يشبه القصف التمهيدي) الغرض منه جس النبض وتهيئة الأجواء واختبار النوايا وقياس ردود الفعل على مواد المعاهدة وعلى المروجين لها والموقعين عليها لاحقاً، تمهيداً لفرضها بالقوة العسكرية كثمرة للغزو والاحتلال العسكري المباشر. وهذه نقطة واضحة بالنسبة للأطراف السياسية الوطنية، وتدرك خطورة اللعبة والخطوة الجديدة، وترفض الاحتلال جملة وتفصيلاً ومن دون تردد أو نقاش عقيم وخاطيء يتعارض مع المصالح الوطنية لبلد محتل.
ما كشف إلى الآن هو خطير إلى أقصى الحدود بالمقاييس الوطنية، وعلينا بذل الجهود العالية والمستمرة لمعرفة حجم البنود السرية في مشروع الانتداب طويل الأمد هذا، وعرضها للناس وللرأي العام الوطني، لتكوين موقف وطني واضح ضدها.
لقد تحدثت مع صديق قريب يتابع بشكل دقيق كارثة الاحتلال والاتفاقية الإستراتيجية القادمة، وقد اتفقنا على أن تاريخ الشعوب والأوطان القديم والحديث كله تقريباً، هو عمل داخلي مستمر من اجل تحقيق الاستقلال الداخلي أو الوطني، وصد الغزوات الخارجية، ومحاولة بناء دولة أو امبراطوية أو كيان متطور ومتين ومستقل، بالاعتماد على وضع داخلي صحيح وسليم، كشرط أولي وأساسي لتحقيق هذه المهمة الداخلية أو الوطنية الكبيرة، وإن تاريخ العراق الحديث هو عمل حثيث وشاق من أجل تحقيق وتثبيت الاستقلال الوطني وصيانته منذ ثورة العشرين وقيام الحكم الأهلي، والنضال الحقيقي ضد المعاهدات الجائرة حتى إسقاطها بالنضال السياسي والجماهيري المتواصل.
البعض يحاول العبث واللعب والحديث بعبارات فارغة عن الديالكتيك بصورته المشوهة والمقلوبة، صورته المجوفة الخرقاء، المفرغة من روح وجوهر الديالكتيك، لإنتاج فكر سياسي لا وطني، يبرر ويسوق قضية الاحتلال والاتفاقية، ويزعم سقوط ( الوطنية التقليدية) بمعناها ( الكلاسيكي) السابق للعولمة الحالية، ويدافع عن الوضع الحالي، عبر خلط المفاهيم والقضايا والأفكار وتقديمها بشكل مشوه وكارثي لكنه فاقع في فشله وترديه، وفق ديالكتيك رجعي معاكس للتاريخ وللتقدم، يكرس التخلف والتشوه والبشاعة والاستغلال، ويمجد الغزو والاحتلال، وهو ضد الديالكتيك الطبيعي التغييري، ولا يريد أن يراقب  ولا يشخص ويستوعب جوهر التطورات والأحداث العميقة الجارية في بلادنا، ثم يطلق استنتاجات ساذجة وسطحية لتبرير سياسات خاطئة ومشبوهة. فكيف يجوز لماركسي ويساري وطني أن لا يدرك جوهر الرأسمالية والاستغلال والاحتلال باعتباره عدوان عسكري ينطوي على تمييز عنصري واضح وفادح؟؟ وهل تم إنجاز كل مهام التحرر الوطني في جميع البلدان النامية أو المتخلفة ولم تعد هناك مهام مطروحة للعمل والتنفيذ؟؟ وهل يعتبر سقوط الاتحاد السوفيتي وأنظمة أوربا الشرقية السابقة، تصحيح تاريخي للمسار الإمبريالي أو نهاية للتاريخ أم تكريس لصفات الإمبريالية القديمة والجديدة في النهب والسيطرة على مقدرات الشعوب وتأمين موارد الطاقة الحيوية؟؟ وكيف يجري تجاوز والسكوت عن قضية الاستعمار الجديد في ظل الهيمنة الأمريكية من وجهة النظر الماركسية والوطنية؟؟ وما هي أسباب ومصادر الهستيريا وفقدان الاتزان لدى البعض وحالات الشطط والخلط بين أمور عجيبة وغريبة، والغمز واللمز، هل هذا بسبب الضياع الفكري والوطني؟؟ وكيف يجري الاعتماد على حلول وأفكار جزئية مبسطة ومضحكة لحل مشاكل تاريخية تتعلق بمأزق تاريخي وطني أو بأزمة حزب وحركة؟؟ طبعاً هناك تبدلات وتطورات عالمية كبيرة وخطيرة، شملت كل مجالات الحياة، وهي تحتاج إلى دراسة جديدة، وإلى إدراك واقعي، وهي في أغلبها (خاصة السياسية) تسير إلى الآن بالمنحى السلبي والمعادي والمعارض لمصالح الشعوب، ومن بينها شعوبنا العربية، ونحن كماركسيين وطنيين لا نقبل ولا نسلم بالتغيرات التي تسير ضد التاريخ الإنساني وضد الإنسان.
من جديد نقول إن اليسار الوطني يستطيع أن يساهم بصورة رئيسية بكل مجريات الوضع السياسي في بلادنا، من خلال العودة للعمل بين الجماهير والناس،  ومعرفة حاجاتها وهمومها وتطلعاتها، وتقديم رؤية فكرية وسياسية وطنية واضحة ومتكاملة في التصدي للاحتلال ووجوده وكشف
 جميع خطواته التدميرية الأخرى، وما أنتجه من مشاكل كبيرة وكثيرة، يقف في مقدمتها الإرهاب الغامض والمشبوه والانفلات الأمني والطائفية السياسية والفساد وفشل وانحلال الدولة ومؤسساتها والنموذج البائس للإدارة المحلية القابعة في المنطقة الخضراء بحماية الاحتلال الكاملة والمباشرة.
نواجه اليوم تحركات على هامش الأزمة أو الأزمات، أخطرها الصفقات السياسية بين أمريكا وإيران، والحوار الأمريكي الإيراني في بغداد، والنفوذ الإيراني الواسع في بلادنا، وزيارة المالكي لطهران تأتي في هذا الإطار ذاته، للوصول إلى تسوية حول تنفيذ الصفقة، وهذه الصفقات هي بالضد من مصالحنا الوطنية بالتأكيد، فهذه الأطراف لا تهمها مصالحنا الداخلية، وهي تبحث عن مصالحها فقط كما تؤكد كل التجارب.

لا يزال الموقف الوطني بعيد عن العمل المنظم والواسع والمؤثر، رغم الزلزال المدمر الذي تعرض له وطننا ونتائجه الرهيبة، ولا يزال العمل الفردي والمواقف الفردية هي السائدة إلى الآن، وهذه ظاهرة مؤسفة تحتاج إلى تجاوز والى نقله نوعية في العمل الجماعي الوطني في الداخل والخارج لمواجهة الكارثة الحالية.
سأعرض هنا مقاطع ضافية من الصحافة الغربية وهي تكشف جوانب مركزة من بنود الاتفاقية، وهذه المقاطع لا تحتاج إلى تحليل أو تعقيب، رغم اعتراضي ورفضي لبعض التعبيرات والمفردات الطائفية المباشرة، والتي أرفض استخدامها بشكل مطلق، لكنني أتركها كما هي على لسان الصحيفة، حيث تفرد صحيفة الاندبندنت صفحتها الأولى بالكامل لاتفاقية التعاون الأمني الأمريكي في العراق، والتي تقول إن بعض تفاصيلها تسربت للصحيفة.
و( يكتب باتريك كوكبيرن عن الاتفاقية السرية التي يجري التداول بشأنها في العراق فيقول إنها تقنن الاحتلال الأمريكي لذلك البلد إلى الأبد.
ومن بين ما تتضمنه الاتفاقية إقامة 50 قاعدة عسكرية أمريكية في العراق بشكل دائم والسيطرة الأمريكية على الأجواء العراقية والحصانة القانونية للقوات الأمريكية والمقاولين الأمريكيين.
وسيكون للأمريكيين حق السيطرة الدائمة على قواعدهم، وشن عمليات في إطار "الحرب على الإرهاب" واعتقال العراقيين واستهدافهم دون خضوع للقانون العراقي.
ويضغط مكتب نائب الرئيس الأمريكي تشيني من اجل التوقيع على الاتفاقية بنهاية الشهر، ما يضع الحكومة العراقية في موقف حرج.
ويرفض الأمريكيون فكرة إجراء استفتاء بشان الاتفاقية، خشية أن يصوت العراقيون ضدها.
ويقول كوكيبرن إن حرص إدارة بوش على توقيع الاتفاقية لتبدو وكأنها أنجزت في العراق قبل نهاية مدة حكمها له تبعات داخلية أمريكية وليس فقط في العراق.
فمن شأن توقيع الاتفاقية إن يصعب على رئيس ديموقراطي قادم، إذا فاز اوباما، سحب القوات الأمريكية من العراق بسرعة كما تعهد.
كما إن الاتفاق سيعد دعما للمرشح الجمهوري جون ماكين الذي يريد إبقاء القوات الأمريكية في العراق حتى النصر.
أما عراقيا فان الحكومة ذات الأغلبية الشيعية، حتى وان كانت ممتعضة من الاتفاقية، لكنها لا تملك إلا إن توقعها في النهاية ـ على حد قول الصحيفة.
فالشيعة، والحكومة، يستمدون الدعم من الأمريكيين بالأساس وبالتالي لا يستطيعون الحفاظ على وضعهم بدون ذلك الدعم.
أما السنة، فان كانوا يحبذون بقاء الأمريكيين ليخففوا من نفوذ الشيعة فان منهم من يقاتل القوات الأمريكية ومن ثم قد تؤدي الاتفاقية إلى انقسامات بينهم.
وترى الاندبندنت إن الطرف الوحيد الذي قد لا يجد أي غضاضة في الاتفاقية وبقاء القوات الأمريكية المستمر هم الأكراد في شمال العراق.
وفي صحيفة الاندنبندنت أيضاً نقرأ عن الشأن العراقي حيث تقول ( إن الولايات المتحدة تحتجز نحو 50 مليار دولار من أموال العراق في بنكها المركزي في نيويورك وتستخدمها للضغط على الحكومة العراقية وإرغامها على التوقيع على معاهدة تحالف امني استراتيجي يرى الكثير من العراقيين إنها ستجعل من الوجود العسكري الأمريكي في بلادهم دائميا، حسب معلومات تقول الصحيفة إنها سربت إليها.
وتشير المعلومات إلى تقول الصحيفة إنها حصلت عليها إلى أن المفاوضين الأمريكيين يستخدمون ورقة 20 مليار دولار من أموال مجمدة بموجب قرارات قضائية أمريكية ضد العراق للضغط على نظرائهم العراقيين من اجل القبول ببنود معاهدة أمنية وعسكرية ظهرت أول تفاصيلها في ذات الصحيفة في عددها السابق، أي عدد الخميس.
وتقول الصحيفة إن الاحتياطيات المالية العراقية في الخارج محمية بأمر رئاسي أمريكي يعطيها حصانة من الملاحقة القضائية، لكن الجانب الأمريكي يقول انه في حال انقضاء مدة تفويض الأمم المتحدة، وبدون وجود اتفاق يحل محله، ستفقد الأموال العراقية حصانتها تلك، وهو ما يعني خسارة العراق لنحو 20 مليار دولار.
وتضيف الاندنبندنت أن الولايات المتحدة قادرة على تهديد العراق بخسارة 40 في المئة من احتياطياته من العملة الصعبة لان استقلال العراق ما زال مقيدا بميراث الحصار الدولي المفروض عليه منذ غزو صدام حسين الكويت عام 1990، وهو ما يعني أن العراق ما زال يعتبر تهديدا للأمن والاستقرار الدوليين بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وتشير الصحيفة إلى أن المفاوضين الأمريكيين يقولون إن ثمن الإفلات من قيود البند السابع هو التوقيع على معاهدة "تحالف استراتيجي" مع الولايات المتحدة.
وتقول الاندنبندنت إن تهديدات الجانب الأمريكي تؤكد الالتزام الشخصي للرئيس الأمريكي جورج بوش في الدفع باتجاه توقيع معاهدة تحالف كهذه قبل الحادي والثلاثين من يوليو/ تموز، وأنها في الواقع اتفاقية بين العراق والولايات المتحدة، وهو ما دفع بوش الى عنونتها بـ "تحالف" حتى يتجنب تقديمها إلى مجلس الشيوخ للحصول على الموافقة اللازمة.
ويقول العراقيون المنتقدون لهذه المعاهدة أو الاتفاقية إنها ستجعل العراق دولة تابعة أو زبون من زبائن الولايات المتحدة تقيم الأخيرة فيها أكثر 50 قاعدة عسكرية.
وسيكون بمقدور القوات الأمريكية اعتقال أي عراقي، وشن حملات عسكرية بدون الرجوع إلى الحكومة العراقية، ولن يخضع الجنود أو المتعاقدون الأمريكيون إلى المساءلة القانونية، أي أنهم محصنون من أي ملاحقة من قبل القضاء العراقي.
وتضيف الاندنبندنت إن واشنطن كانت قد كررت نفيها أنها تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق، لكن المفاوضين الأمريكيين يقولون انه في حال وجود جندي واحد فقط خارج محيط سياج لتلك القواعد أو المنشأة الأمريكية، سيكون العراق، وليس الولايات المتحدة، هو المسؤول).
 أنتهي الاقتباس الطويل والمقصود، لأن الوثائق الرسمية لم تنشر بعد، ولا نريد انتظارها، وأرجو أن لا يكون مملاً وزائداً. والذي يلخص ويكشف جوانب خطيرة من مشروع وأفكار الاتفاقية الاستراتيجية طويلة الأمد، التي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية بشراسة لفرضها على بلادنا في نهاية تموز القادم، على الإدارة المحلية العاجزة والتابعة، والتي لا تملك أن ترفض. هل سنسمع آراء واستنتاجات تتطابق مع هذه البنود وغيرها وتبررها، أو مواقف ترفض أو تعترض على قسم منها بطريقة إنشائية مفككة ومرتبكة، وليس بشكل عملي وعلني، صريح وكامل، ومن وجهة نظر وطنية؟؟ فماذا بعد كل ذلك؟؟ وهل هناك من يتجرأ على طرح أفكار وآراء تستند إلى ديالكتيك غير ماركسي، ديالكتيك رجعي، ليهذي بأمور عجيبة وغريبة، وبتهور عجيب، حول تقدم وتطور يقوده الاحتلال في بلادنا، من خلال هذه الاتفاقية وقانون نهب النفط والفساد مثلاً، وانتظار تطور ورسوخ التجربة الديمقراطية( الطائفية والعشائرية والدينية)، عبر الصولات والجولات العسكرية والأمنية، ومجاميع المرتزقة والجحوش والصحوات العشائرية البائسة التي شكلها ويشرف عليها ويمولها جيش الاحتلال ومخابراته، وقمع المرأة وسحق الطفولة، وتجويع وإذلال الإنسان، مع ملايين المهجرين في الداخل والخارج، وتخريب الثقافة والفنون والتعليم، وانعدام الخدمات الأساسية والبسيطة، والتي نساها الناس، ونسوا البطالة، كمن أستسلم لقدره، والتدخل في الحريات الشخصية البسيطة، لفرض الحجاب ونوع من اللباس والمأكل والمشرب على الناس، وسيطرة الخرافات والخزعبلات على المجتمع لتحطيمه وتشويهه، ودور المثقف التابع والقابض، والجمعيات والمؤسسات والمواقع القابضة في الترويج لكل ذلك، والكلام الفارغ والممل عن انطلاق عملية ما يسمى أعادة الأعمار( أعادة وتكرار النهب الشامل) وفي ظل تهريب النفط وتصديره من دون عدادات وحساب إلى الآن؟؟ عجيب هذا المنطق المتداعي الأخرق، والذي لا يتعامل مع كل المقدمات الخاطئة، ولا مع النتائج الخطيرة، ولا مع سيل المعلومات والمعطيات والحقائق الواضحة وضوح الشمس. أنهم يتعاملون مع وضع افتراضي أرادوي لا يتحقق على أرض الواقع لأنه ضد الواقع، وأنهم يتعاملون كل حسب حصته في الصفقة المشينة مع المحتل، وتورطه في الوضع السياسي الكاركتيري البائس، وما يسمى بالعملية السياسية الأمريكية.
كم يتطلع شعبنا العراقي إلى لحظة إيقاف الإرهاب الأسود القذر بجميع أشكاله ودرجاته ومصادره، وأن يتوقف قتل وسفك دماء المدنيين الأبرياء. ولكن هناك سؤال رئيسي، يبقى مطروح بقوة، ماذا يعني وجود 160 ألف جندي أمريكي على أرض بلادنا غزو وطننا بالضد من كل القوانين الدولية؟؟ وماذا يوصف وطن مكبل وخاضع لمعاهدة انتداب طويلة الأمد، هل هو مستقل ومتحرر مثلاً؟؟ وماذا تعني العمليات الحربية الإستراتيجية المفتوحة ضد كل المدن والمناطق؟؟ هل هذا نوع من إرهاب دولة خارجية تغتصب وتحتل الوطن وتهيمن على كل مقدراته، حسب توصيف كل القوانين المحلية والدولية أم لا؟؟ تلك هي المشكلة الرئيسية، التي لا يمكن تجاوزها أو تخفيفها أو تغطيتها، بأي شكل من الأشكال، والتي سيدور حولها الصراع والخلاف، ( بعيداً عن الخلط والإسفاف والتبسيط والاتهامات الجاهزة )، بين موقفين، الأول وطني، يرى في الاحتلال احتلالا لا غير، وآخر يقف إلى جانب الاحتلال وعسكره، ويسميه قوات أجنبية أو دولية، للتخفيف من وطأته وبشاعته، ويطالب باستمرار بقاءه، ويحتاجه ويحتمي به، ويعقد معه معاهدة انتداب وحماية، والبعض لا يزال يسميه تحرير.

* أتمنى على المراكز والمواقع والمؤسسات الثقافية والفكرية والسياسية أن تقوم بترجمة ونشر وتوزيع جميع الوثائق المتعلقة بجرائم الاحتلال ومعاهدة الانتداب الحالية، التي ستجعل من العراق قاعدة دائمة وثابتة حتى نضوب ونهاية النفط، إلى جانب وقضايا القتل والاعتقال والنهب والفساد والتخريب، وفرض الصيغة الطائفية البشعة، وإيصال الوثائق للناس بشكل ميسر ودائم، للمساهمة في خلق وعي وطني متين.
وأليكم هذا الرابط عن جانب من جوانب الفساد والإفساد المالي الفادح في بلادنا:- http://www.albadeeliraq.com/new/showdetails.php?id=15050&kind=newstop
وهذا الرابط عن التخريب المنظم والمقصود لتحطيم الذاكرة الثقافية والعلمية العراقية:-
http://www.albadeeliraq.com/new/showdetails.php?kind=move&id=2278



5
أنقذوا حياة بهاء الدين نوري .. رسالة تضامن مع أبي سلام
أحمد الناصريAlnaseery3@hotmail.com


عزيزي أبا سلام تحية طيبة وبعد
أتابع من بعيد ولكن باهتمام بالغ محنتك الصحية الحالية، ولا أجد غير التمنيات القلبية والكلمات الصادقة ( هل نملك غير الكلمة والموقف) التي أبعثها لك وللجميع، للمساهمة السريعة والجادة في إنقاذ حياتك، متمنياً لك كامل الصحة والنشاط. فانا لا يمكن لي أن أنسى ما حييت رفاقي وأصدقائي، الذين عشت معهم وعملت معهم، على أرض واحدة، وفي مكان واحد، مهما كان موقفهم يساري أم يميني، فهذا شيء آخر، وليس معياراً في حالتنا هذه، ورغم كل أشكال ودرجات الخلاف والاختلاف، فهذا ليس وقت الخلاف أو مكانه أبداً، حيث المجال الاجتماعي والإنساني يختلف عن العمل التنظيمي والسياسي وإشكالاته، وله مجال آخر موجود ومفتوح دائماً، وهو مجال النقد والمراجعة والجدل، لذلك فأنا أحاول متابعة الجميع ومعرفة أخبارهم ومصائرهم وأحوالهم الشخصية.
علينا أن ندافع عن جميع العراقيين، وخاصة في هذه الحالات الإنسانية الصعبة، وأن نتوقف عن ممارسة عادة الصمت المخجل والتهرب واللعثمة والتناسي، وأن نترفع عن الانتقام والشماتة والتشفي بالمرضى، وأن نرفع أصواتنا عالياً لإنقاذ ومساعدة كل الناس، وخاصة من عمل وضحى وساهم في الجهد السياسي والثقافي والفكري، بل يجب مساعدة عامة الناس، وهذا واجب ( الدولة ) الأول، و أقصد هنا الدولة بشكل عام، ولا أقصد الدولة العراقية الغير موجودة الآن، ولا أتوجه للإدارة المحلية، لأنها فاشلة وعاجزة ومشغولة بالصولات والنهب والسلب وخدمة الاحتلال، ومشغولة بخدمة أبناء الطائفة والحزب والعصابة.
لقد تعرض عدد كبير من المفكرين والمثقفين والسياسيين العراقيين إلى هذه المحنة الإنسانية التي يمر بها بهاء الدين نوري اليوم، في ظل كل السلطات المتعاقبة والأحزاب الموجودة في بلادنا، وكان الموقف المخزي يتكرر في جميع الحالات تقريباً. فالكل يعرف محنة السياب الصحية مع المرض والفجيعة والموت، التي غيبت في النهاية شاعر كبير وجميل بقامة السياب، وكلنا عرف وتابع الأيام الأخيرة للعلامة الجليل علي الوردي، وكيف مات مهملاً ومنسياً في عمان ولم تنقذه كتبه وبحوثه، التي تحدث فيها عن الحالة  التي مر بها بالضبط، حول تقاليد وعادات سيئة ومتخلفة ومشينة، وكأنه يرثي نفسه، والظروف الصعبة التي يمر بها الآن الموسوعي زهير أحمد القيسي، وعوزه ومكابدته وهو في شيخوخته الجليلة، كما أسمع عن محنة صديقي القديم أمير داود  الدراجي الصحية وعن وحدته القاتلة، وهناك حالات وأمثلة كثيرة وشخصيات كثيرة، واجهت مثل  هذا المصير، وهذه الظروف العصيبة، وطواها الإهمال والنسيان والعزلة، قبل الأوان وخسرنا بسبب هذه السلوك الغريب والمجحف أسماء لامعة.
أما التجربة مع السياسيين في مجتمعاتنا فهي غريبة ومأساوية حقاً إلى أبعد الحدود، فرغم عشيهم الطويل والدائم بين الخطر والمطاردة والاعتقال والتصفية، والتضحية في سبيل الناس والوطن، وتقديم العام على الخاص، بل عدم التفكير بمصيرهم ومصير عوائلهم وأطفالهم، فإنهم في النهاية للأسف، بلا أدني ضمانات حزبية أو قانونية أو اجتماعية، تقيهم وتحميهم من العجز والتشرد والشيخوخة أو المرض في نهاية الرحلة والمشوار الطويل، وإذا كان السياسي في شبابه يواجه أقسى الظروف والمخاطر، ويقتحم السماء ومكامن الخطر بجسده ويديه وعقله، ويعمل ليل نهار من اجل أهداف وشعارات يقتنع ويرضى بها، بغض النظر عن صوابها من دونه، فأنه في شيخوخته وعجزه ، سيلقى مصيراً مأساويا،ً صعباً وبائساً. والقصص والحالات لا تحصى، خاصة لمن تفرغ وكرس كل حياته للعمل الحزبي والسياسي السري والعلني.
من منا لم يسمع بقصة الشيوعي الوطني الكبير زكي خيري، الشيوعي المخضرم، حسب تسمية أطلقها على كتاب مذكراته، وكيف انتهى به الحال لأجيء إنساني في السويد، بينما كان يكفيه راتب بسيط أقل بكثير من مصرف جيب صاحب دار المدى أل.....، وقد قال زكي خيري في مقابلة مع إبراهيم الحريري ما معناه ( أجيت للسويد بهذا العمر وهذا البرد والصقيع.. جا وين اطي وجهي) تباً للأيام والظروف والأحوال والتقاليد، التي لم تحم وجه زكي خيري الكريم والجليل وهو في سنينه الأخيرة. زكي خيري الذي خرج في مظاهرة ضد الداعية الصهيوني الفرد موند سنة 1928، وكسر عظم ترقوته بحصان مدير الشرطة، وساهم في تأسيس وبناء أهم وأكبر حزب سياسي في العراق عام 34، هو الحزب الشيوعي العراقي، وبقي في قيادة الحزب حتى عام 84، عندما طرد نصف القيادة النصف الآخر، حسب تعبير انتقامي شهير لعزيز محمد، وكان موقع خيري من بين المطرودين، فسقطت حقوقه البسيطة غير المسجلة أو المثبتة في عقد قانوني، عدا العقد الرفاقي الشريف والحقيقي، والذي مزقه وداس عليه البعض بصلف واستهتار قل نظيرهما.
وما هو المصير الشخصي والمعيشي في المنفى، لحسين سلطان وعبد الوهاب طاهر وناصر عبود وأبو عليوي وعبد الرحمن القصاب وعادل سفر والمئات غيرهم، في دمشق وبيروت وعدن، وفي عواصم أوربا الشرقية بعد الانهيار. فعادل سفر القائد النقابي الكبير، الذي تحول إلى بائع أدوات ( الخردة ) المستعملة في سوق الحرامية في دمشق الشام. وأنا هنا لا أتحدث عن الأشخاص الذين عادوا وسلموا أنفسهم للنظام السابق، فهذا خيار بائس، أثبتت الحياة بؤسه وخطأه الرهيب، ولا يمكن تبريره حتى بالظروف الرهيبة التي عايشها البعض ممن عادوا، ولكن علينا الإطلاع ومعرفة الظروف الشخصية والاجتماعية والنفسية والمعيشية لهؤلاء الناس.
أنها قضية التربية الإنسانية والاجتماعية والشخصية والتقاليد الرفاقية التي لا يزال يتبجح بها البعض، التي يتم خرقها وتناسيها علناً، كلما تدهورت المواقف الفكرية والسياسية والتنظيمية، وانعكست بقوة على العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وتجربة الثمانينات معروفة، والمشكلة قديمة ومتجذرة، وربما ساهم في ممارستها وإرساءها الضحية الجديدة بهاء الدين نوري.
أعرف عنادك الشهير ومغامراتك ومشاكساتك الدائمة، لكنني وجدك وقد تراخت قبضتك وكلت عينيك عن الرؤية القوية وخانك جسدك الجبلي الذي كنت تسابق به الشباب وتتباهي به بشكل مبالغ فيه، حتى حسبتك بأنك لا تمرض ولا تشيخ، بأن تتوجه إلى الشخص الخطأ والمكان الخطأ، حيث أنك أقدم وأهم من جلال الطالباني، الذي نقل على عجل إلى أمريكا لمجرد إنقاص الوزن، وعاد مصطحباً معه مستشار صحي أسود لتقديم الاستشارات الصحية اللازمة، كما تقول نكتة عراقية فاقعة، وعبد العزيز الحكيم يجول بين أرقى المستشفيات بين واشنطن وطهران للعلاج، بينما قال الناطق الرسمي باسم مسعود البارزاني، بأنه في رحلة لعلاج أو تنظيف الأسنان، لم أعد أذكر بالضبط نص التصريح، لأن الخبر لا يعنيني بشيء. كما يحصل ( شعيط ومعيط ) على أفضل الخدمات الطبية و( التنشيطية ) في أي مكان يريده من العالم، حتى لو في تايلند أو سنغافورة أو دبي، ولا نريد أن نتحدث عن الأرصدة والعقارات والمجمعات والشركات والقرى واليخوت المنتشرة في كردستان ولندن وسويسرا وباريس ومدريد وربما وصلت إلى القمر والمريخ، والتي حصلوا عليها ( بالنضال الوطني الشرعي المعروف والموثق) وبالمثابرة والمجازفة التي كنت تتمتع بها أيام أطلقت برنامج باسم، والذي كدت أن تدفع حياتك ثمناً له، وأيضاً وللدقة بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف معك ومع البرنامج الشهير.
لماذا خطر ببالك تذكير جلال الطالباني بأنك باسم صاحب البرنامج المعروف؟؟ فهل تعتقد أن جلال لا يعرف أو لا يتذكر؟؟ وكيف تذكره بنضالاتك الطويلة والمعروفة والتي وصلت بها إلى القمة قبل أن يبدأ ويدخل جلال إلى عالم السياسة، ويا ليته لم يبدأ ولم يدخل. ولا يهمني تذكيرك له أنك ساهمت في ( العملية السياسية ) وعملت كذا وكذا، وهذا ما لم أكن أتمناه لك وأنت في محنتك الإنسانية، على أنني لاحظت بقايا من عنادك القديم ورفضك في سطور رسالتك، وأكرر لك إن هذا ليس مقام الجدل والخلاف.
إن جلال الطالباني مشغول عنك بطوابير موظفي السفارة الأمريكية والجنرالات وعناصر المخابرات الأمريكية، ومشغول بأمور الأمارة والسفارة وأشياء كثيرة أخرى، ليس من بينها هموم الناس أو الأصدقاء القدماء، ومواعيده مزدحمة بتفاصيل المعاهدة الجديدة، التي تشبه، وربما أسوء من معاهدة بورتسموت التي أسقطتها أنت ورفاقك في عام 48 في وثبة كانون الوطنية، ولم يعد كما كان (متمرد ) بسيط في مقرات قاسم رش أو ياخ سمر أو حتى بكره جو، التي لجأ إليها وأنت في العمل السري.
أعرف جيداً أنك نظيف اليدين والطرف في المجال المالي، وأنك لم تدخر شيئاً لهذه اللحظات الغادرة، وأعرف أن عائلتك الكريمة والكبيرة، لم تتلوث بما تلوث به البعض، واعرف شخصياً الأخ كمال الدين نوري الشخصية الاجتماعية والأدبية المرموقة، وأعرف رفيقي وصديقي الأستاذ علاء الدين نوري، المربي الفاضل والشخصية الاجتماعية الرائعة، وأعرف الأبناء والأقارب، وربما شاهدت عدد من الأحفاد أيضاً في مسقط رأسك قرية ( التكية)، النائمة تحت حائط جبل قره داغ وسورة العظيم، والتي دمرها النظام بعد خروجنا منها بسنوات قليلة، في حملات الأنفال القذرة.
 هذه ضريبة الموقف الوطني والنزاهة الشخصية في عالم متخلف ومقلوب، يمشي على رأسه، عليك التمسك به إلى النهاية. ألم يخجل فلان وعلان من هذا الموقف الشائن، لماذا لم تتحرك قيادة الحزب الشيوعي العراقي لمد يد المساعدة إلى الرفيق بهاء الدين نوري، على أساس الخدمة الحزبية السابقة، وكونه سكرتير سابق للحزب، لا على أساس الخلاف الفكري والتنظيمي اللاحق. وما هو موقف المستشار الملياردير، والذي لبهاء حصة في مالية الحزب، مثله مثل المستشار الذي يصرف على صديقاته حسب قوله، ما يكفي ويزيد لإنقاذ حياة ( أبو سلام) وغيره من المثقفين والسياسيين، ويظل يتباهي بصديقاته ومحظياته ورايته التي لا تنتصب فوق أرض جسده.
أنني أطالب بتوفير الحماية الصحية للجميع وأن تقوم بذلك جهات ومؤسسات قانونية رسمية، وأن يثبت ذلك بقانون الضمان الصحي كحق أساسي من حقوق الإنسان وليست هبات ومكرمات يقدمها فلان وعلان لكسب وشراء وإسكات الأصوات، مثلما يفعل مستشار الاحتلال فخري كريم ومؤسسة المدى بمالها المشبوه والغامض. وأين هي قيادة الحركة الكردية، وأين المجتمع المدني؟؟ وأين الشخصيات الاجتماعية والثقافية والسياسية وأصحاب المال والثروة الوطنية؟؟ وأين وأين؟؟.
على الدولة والمجتمع أن يحميا أبناءهم، ويوفرا الضمانات الأساسية للعيش الإنساني الكريم، فالإنسان محط احترام لا محط شفقة، حسب أبسط الشرائع والمفاهيم القديمة والحديثة، وأنا مع توفير العلاج الكامل والمتطور للجميع، بما فيهم الأسرى والمعتقلين والمدانين، بل حتى للخونة والأعداء، فهذا حق طبيعي للجميع بدون استثناء أو شروط. ويجب أن لا يستخدم هذا الحق للابتزاز والإخضاع والضغط.
 في النهاية فأنني ليست بوارد مناقشة رسالة بهاء الدين نوري وما جاء فيها من آراء ومواقف في التوجه إلى الطالباني، اختلف معه بها جملةً وتفصيلاً، فنحن في لحظة إنسانية أخرى ونتطلع إلى حل سريع لإنقاذ حياته. كما لا أريد إن أسبب له أي إحراج، فهو غير مسؤول عن الأفكار والآراء الواردة في رسالتي هذه، وهي تعبير عن أفكاري وانطباعاتي ومواقفي الشخصية، ونحن لم نلتق أو نتراسل منذ بداية التسعينيات.
تحية خالصة إلى أبي سلام وهو في محنته الصحية الطويلة والمعقدة، وأطالب الجميع للتدخل الفوري والعاجل، لتأمين علاج كامل ومتطور له وفي المكان الذي يرغب فيه، وأتمنى لجسدك الجبلي أن ينهض من كبوته بالاستناد والاعتماد على أرادتك الصلبة.   

6
في نشوء وتكون الفكر السياسي العراقي وعلاقته بحالة الانحطاط الراهن

أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com



الفكر السياسي في شكله العام ، باعتباره انعكاس مباشر للتطور الثقافي والاجتماعي والحياتي في البلد المعين، وتعبير عن مصالح وأهداف محددة لجماعة من الناس، هو مزيج من تفاعلات كثيرة، يتأثر بالتاريخ والتجارب القديمة والحديثة، وقيمة المدارس والتيارات والشخصيات الفكرية والسياسية المحلية والعالمية، والصراعات الدائرة بين أطرافها وطبيعتها وأشكالها وأدواتها، ودرجة تأثير العوامل الداخلية والخارجية حسب الظروف والمكان الذي تدور فيه الأحداث السياسية، التاريخية واليومية، وأهمية البلد المعني الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية، وعلاقاته بالمحيط الخارجي، ونظرة المحيط الخارجي له.
الفكر السياسي والعمل السياسي في العراق كما في جميع الدول العربية تقريباً، مع تفاوت واختلافات بسيطة، لم ينشأ أويترافق مع تطور اجتماعي طبيعي، ولم يرتبط وينتج عن مشروع نهضة منجز او صاعد، ولم يرتبط بتحولات اجتماعية واقتصادية جذرية وكبيرة، بل حاول أن يكون رافعة من رافعات التطور والتعويض القسري أو شبة القسري عن غياب شروط تمهيدية ضرورية للتطور الاجتماعي العام، وأستخدم السلطة كأداة قسرية أولى ووحيدة لتحقيق أهدافه وبرامجه، لذلك أخفق في حالات كثيرة، وأعطى نتائج مأساوية وكارثية، على العكس من التوقعات والخطط المطروحة والأحلام الوردية في أغلب التجارب التي مررنا بها، وأوصلنا الى الحالة الخطيرة والمؤسفة التي نعيشها اليوم، وندفع أثمان باهضة تهدد وجود بلداننا، وكأن ما يحصل لنا ولشعوبنا قدراً محتوماً، وهو ليس بالقدر الوحيد في كل الأحول.
لقد قادنا غياب الفكر السياسي والاجتماعي وهشاشته وسطحيته، الى حصول الكوارث السياسية، والى الفشل السياسي العام والمريع، في مجالات بناء الدولة الحديثة والمجتمع المتطور، والفشل في تحقيق الأسس المطلوبة في كافة المجالات والمستويات، وفي تحقيق الأهداف والمصالح البسيطة لشعوبنا، وحل المشاكل والأزمات المتفاقمة، والسير في ركب الحضارة التاريخي الطبيعي، بل حصل الارتداد والنكوص عن أبسط القواعد والمبادئ والأصول، وها نحن نتخبط ونعود القهقرى الى الخلف، وتطفو على سطح الحياة السياسية والاجتماعية مفاهيم بائدة تجاوزها الزمن، تقف في مقدمة هذه المفاهيم الطائفية السياسية والاجتماعية، بكل عنفها وخرابها السائد اليوم في العراق وإمكانياتها وأساليبها، وقبول الاحتلال والتبعية، والتخلي عن الحقوق المشروعة، وتبني الأفكار الخاطئة الأخرى، بتبريرات سياسية واهية في أحسن الأحوال.
بدأت الحياة الفكرية السياسية في منطقتنا وبلداننا العربية مع انهيار التجربة العثمانية وآثارها وبقاياها الثقيلة في مجتمع تقليدي شبه جامد، ومع بداية سيطرة الاستعمار البريطاني والفرنسي وتنفيذ معاهدة سايكس- بيكو، وإطلاق وعد باللفور والتكالب والهيمنة الخارجية على المنطقة مع بداية اكتشاف النفط وتوسع حركة السوق الداخلية، ومع ثبات وبقاء القوى التقليدية في مواقعها القديمة، وعدم وجود حركية اجتماعية صاعدة، وظهور قوى داخلية مستعدة للتعاون والخضوع للخارج الاستعماري بشروط الخارج، أما القوى الجديدة والقوى الساعية للتغيير والبناء الجديد، فقد خضعت لشروط وعوامل سياسية واجتماعية موضوعية وذاتية كثيرة، قاسية ومتخلفة، حددت شكل العمل والنشاط الفكري والسياسي ومستواهما، وحددت مستقبل العمل السياسي في بلادنا، فقد فرض التطور الاجتماعي ودرجة التعليم ومستوى الوعي والحراك الاجتماعي العام وطبيعة السلطة الجديدة وأجندتها وسقف الحريات العامة ولجوء بعض الحركات السياسية الى العمل السري الكامل او شبة الكامل مما حرمها من النشوء والتكون الطبيعي، ومن غياب للدراسة والتخصص، وعزلها عن حركة المجتمع المتبادلة والمتفاعلة، وخسارتها لتجارب وإمكانيات كبيرة، ثم تعرضها للملاحقة والتضييق والاعتقال والسجن والإعدام والقتل في حالات ليست قليلة، كل ذلك أنتج حالة مشوهة غير متوازنة. كان ذلك خلال الثلاثينات والأربعينات حتى نهاية الخمسينات من القرن العشرين.
ثم حصل التغيير الثوري السياسي والاجتماعي الكبير في تموز عام 58، بقيادة العسكر، بالتنسيق مع القوى والأحزاب السياسية الوطنية متمثلة في جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت عام 57 ومساندة الجماهير السريع والحاسم. إن قيادة ثورة تموز من قبل العسكر مثل النقص البنيوي الرئيسي ومنه تفرعت مشاكل كثيرة أخرى، من بينها طبيعة الفكر السياسي وتطوره ونضجه بالنسبة للحركة السياسية الوطنية التي شاركت وساهمت في التهيئة والتحضير للثورة، وطبيعة برامجها وشعاراتها وأغراضها، والنواقص والأخطاء الكبيرة التي سبقت ورافقت الثورة والصراعات العنيفة التي نشبت منذ الأيام الأولى لها، والتي أدت في النهاية الى توقف الثورة وإسقاطها، الى جانب والإصطفافات والتحالفات الجديدة الداخلية والخارجية، والتدخل الخارجي السافر والعنيف.
 لقد كانت التجربة السياسية بعد نجاح الثورة تفتقر الى أسس ومقومات كثيرة للاستمرار والنجاح في إنجاز مهامها، وكان النقص في الفكر السياسي العراقي يقف في مقدمة النواقص والاختلالات. ومن اختلال تجربة الثورة وسقوطها الرهيب في عام 63 بدأ الموت الوطني وبدأ التأسيس للخراب والانهيار الحاليين، عدا فترة حراك ونهوض فكري وثقافي ( شعري وتشكيلي ) وسياسي ثوري واجتماعي في أواسط الستينات انتهى عام 70 تقريباً، لكنه تحرك ونهوض مضطرب، شابته نواقص وتشوهات كبيرة، وهو بحاجة الى دراسة ومراجعة وتقييم لاستكشاف عناصره النافعة في المواجهة الحاسمة الدائرة حالياً بين شعبنا ومشروعه الوطني وبين الاستعمار العسكري الأمريكي وتوابعه.
بعد انقلاب 17 تموز 68 وسيطرة البعث على السلطة بالطريقة المعروفة، وصعود نموذج استثنائي في الاستبداد والقمع والهيمنة وإدارة الصراع السياسي ضد الجميع بأدوات قمعية جديدة ساحقة، وبناء نموذج استثنائي للدولة القمعية، يعتمد على موارد النفط الهائلة وأدوات وشعارات وأساليب سياسية وقمعية فعالة، تلاشت إمكانية تكون وتطور الفكر السياسي الوطني المستقل عن السلطة، وجرى منع وملاحقة أي رأي أو فكرة مخالفة مهما كانت بسيطة، ثم جرت تطبيقات شاملة وقاسية للسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية بشكل تعسفي استبدادي منفلت، ضمن سياسة ما سمي تأطير المجتمع والسيطرة عليه، وعاد الهبوط والتردي والانقطاع السياسي عن مسار الحياة العامة وعن الأجيال اللاحقة من جديد، وقد تحولت هذه السياسات الرعناء العامة، الى حروب وصدامات خارجية كتحول طبيعي ضمن المنطق الخاص لصيرورة تلك الظاهرة الشوهاء ومسارها المعوج، وكانت من ثمارها الرهيبة المرة الحرب العراقية- الإيرانية التي اندلعت في 22 أيلول عام 80، وراح ضحيتها مليون عراقي مع خسائر مادية خيالية، وتعطل وخراب مجالات كثيرة في حياة الناس. وبعد فاصلة قصيرة، لا تعد استراحة ولا تكفي للمراجعة والتفكير، بل لم تكن كافية حتى لجمع جثث القتلى والضحايا ول(لفلفة) جراح الحرب العبثية الطويلة والرهيبة، جرّت السياسة الفردية الرعناء بلادنا نحو كارثة احتلال الكويت الشاملة وهاويتها الرهيبة، في عام 90، وحرب تدمير العراق في بداية عام 91، وأحداث الانتفاضة الشعبية وآثارها، وفرض الحصار الجائر الطويل على شعبنا وتجويعه وإذلاله، واستمرار هذا الوضع حتى الحرب الأخيرة، وقيام الغزو والاحتلال وسقوط بغداد المروع، في عام 2003، وانطلاق الحرب الأهلية الطائفية المستمرة الى الآن، والدمار والخراب الشامل، في وطن محطم ومستلب، يرزح تحت نير الاحتلال ومهدد بالتدمير والتقسيم النهائيين.
من المؤكد أن التجربة السياسية المضطربة والرجراجة ونواقصها الهائلة ومشاكلها الكبيرة والمتكررة الممتدة منذ ثورة 58 و(قبلها أيضا) حتى يوم الاحتلال المشؤوم، ودخول الجيش الأمريكي الى بغداد، وبداية الاحتلال الاستعماري العسكري المباشر واستمراره، والمستوى الاجتماعي والحضاري العام، والإختلالات الاجتماعية والثقافية الكبيرة، هي التي سببت وأنتجت الحالة المتهرئة الراهنة في العمل السياسي وانهياره وانحطاطه، وهي التي مهدت تدريجياً عبر التخريب والاستنزاف الطويل والمنظم الى الالتقاء بالمشروع الأمريكي والقبول به والخضوع له، والتخلي عن الأهداف والمبادئ الوطنية الأساسية والبسيطة، ثم الانخراط بمخطط الاحتلال التخريبي، عبر القبول والمشاركة في مجلس الحكم التعيس والمحاصصة الطائفية، الى تنفيذ الحرب الأهلية الطائفية المدمرة والمجاهرة بخطط التقسيم، وبروز أحزاب وحركات وأسماء ووجوه هجينة وكاركتيرية وظواهر ممسوخة لا تمت بصلة الى التطور والتقدم الاجتماعي الطبيعي، ومن هنا برز المستوى الهابط والمتهرئ لما يسمى بالحركة السياسية الحالية التي أنتجها وفرضها الاحتلال بصورتها الحالية، وفشلها التام في كل شيء، وصراعاتها الدموية المنفلتة الى جانب عملية المحاصصة الطائفية والفساد والنهب العلني وعدم الاكتراث بمصالح الناس.
يتبين من هذا العرض والمرور السريعين على التجربة السياسية العراقية، وما وصلت إليه الآن، من تهرؤ وانحطاط شاملين، إنها لم تنتج فكراً سياسياً هاما ً باعتباره ضرورة هامة من خلال استخدام العقل والمنهج النقديين، لأسباب عديدة ذكرنا بعضاً منها، والمشكلة تحتاج الى بحث دائم ومستمر لسد الفراغ الكبير، وللمساهمة في معالجة الخطر السياسي القائم حالياً، والمتمثل بالاحتلال والطائفية والتقسيم، وتدمير الروح الوطنية والوطن العراقي وعزله عن محيطه ومجاله العربي الطبيعي. لقد بقي الفكر السياسي العراقي يدور بين الفكر اليومي والفكر التبسيطي السائد وردود الأفعال المباشرة، ولم يكن هناك فكر إستراتيجي وتخطيط بعيد، لما يجب عمله في المستقبل، أو لمعرفة ما سيحصل غداً وبعد غد، لذلك كانت الأحداث والتطورات مفاجئة وصادمة وكارثية.
إننا بحاجة الى فكر سياسي وطني نقدي، يتجاوز أخطاء وإخفاقات الماضي، فكر ينتمي للمستقبل ويساهم في تأسيسه وبناءه.
ما هي حصيلة عموم النتاج الفكر الوطني؟؟ وأين مدارسه وتياراته؟؟ وأين هو الفكر الماركسي بكل تياراته؟؟ وأين هو الفكر اليساري الوطني؟؟ وأين هو الفكر القومي التقليدي، أو الفكر القومي الديمقراطي في العراق وفي بلداننا العربية ؟؟ وماذا عن الفكر الليبرالي الجديد ( التافه ) والممسوخ، باعتباره مؤيد ومبشر بقيم الاحتلال والاستعمار الجديد والعولمة بشكلها الإمبريالي، باستهتار واندفاع أجوف؟؟ وما هو دور المثقف العراقي في المراحل السابقة؟؟ وكيف أنقلب البعض الى مثقف تابع وحامل لمبخرة الاحتلال وشارح لمشروعه؟؟
 علينا المساهمة في إنتاج الفكر السياسي الوطني النقدي، كمنهج للعمل ورافعة للبرامج والحلول الوطنية، وعلينا العمل الجاد للخروج من الأزمة العامة الخطيرة والطويلة، ولكي نساهم في إيقاف المهزلة العارمة والخراب الشامل ونساهم في إنقاذ الوطن من مأزقه التاريخي.
   
 

7
المعاهدة الأمريكية - العراقية والموقف الوطني

أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com


قضايا الوطن الرئيسية والمصيرية، وفي مقدمتها الاحتلال وتفاصيله وخطواته، ومن بينها ( ألاتفاقية الإستراتيجية طويلة الأمد)، وهذه هي التسمية الدقيقة والقريبة من الواقع، التي تريد أمريكا فرضها على بلادنا لتحقيق خطط وأهداف الاحتلال. هذه القضايا والمحاور محط اختلاف بين اتجاهين، أحدهم وطني معارض ومعادي للاحتلال، والآخر تابع وخادم له، بصورة مباشرة وغير مباشرة، بهذه الدرجة أو تلك،  في التورط والانزلاق في الخطيئة التاريخية، وفق حسابات معينة، وهذه مسألة مهمة في الموقف الوطني والدعاية والتحريض والعمل السياسي والإعلامي والجماهيري، لذلك نعيدها ونكررها في كل مرة وكل مناسبة، ونركز عليها بشكل دائم، وهي تزعج وتحرج الأطراف الأخرى إلى أبعد الحدود، لذلك نجدهم يتحدثون عن القمر والكلاب والسياسة والإعلام، ونجد جلال الطالباني يتحدث بحرقة وهستيريا، تليق به، عن القمر والكلاب وما بينهما، ويشتم الناس والكلاب على حد سواء، ولا ندري ماهي علاقته بالقمر، وهل هو قمر بني (طالبان)؟؟.
 كتب الصديق الروائي جمعة اللامي نداء ثقافي بعنوان ( الوطن أولا )، ضد الاحتلال ومعاهدته اللصوصية جاء فيه ( لا خلاف مع الوطن أبداً، ولا اختلاف معه على الإطلاق. لنختلف في شأن أمور كثيرة، إلا في شأن الوطن، فينبغي أن يكون الموقف واحداً، والرأي واحداً، والكلمة واحدة ). وهذا تلخيص معمق ومكثف وواضح، جامع مانع، لقضية كبيرة واضحة، تمثل الموقف الطبيعي من الوطن، سواء في أيامه العادية، أو في أيامه السوداء المدلهمة، مع إن الفرق بينهما كبير وخطير، فلا أحد يبقى مطمئناً ومسترخياً والوطن = البيت يسرق ويحرق أو يحتل نهاراً جهاراً.
الموقف الوطني واضح وثابت من الحرب والغزو والاجتياح والاحتلال، ومن النتائج المرعبة التي حلت بشعبنا ووطننا، ومن الحريق والمحنة المستمرة، وهو يعتبر أن الموقف من المعاهدة، يفتح طريق عريض آخر لمنع وإسقاط الجهود المحمومة لفرضها على بلادنا، وصولاً إلى طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية، في عملية متلازمة، وهو موقف موضوعي واقعي، بني على قراءة معمقة للأحداث والنتائج، بعيداً عن الصفقات والحسابات الضيقة والخنوع لأمر واقع، أو أمر وقع.
الطرف اللاوطني ( يعني صاحب الموقف اللاوطني) الآخر ( من باب تأييد الاحتلال وتأييد المعاهدة) مرتبك ومشوش، ولا يقول الحقيقة حول المعاهدة، ويقدم ويؤخر ويتناقض بوضوح، وبعض العناصر توحي وتلمح ولا تصرح بالرفض الكامل والقاطع للمعاهدة، وهي لا تضيف شيء متميز ولا تخرج عن موقفها السابق المعروف والمألوف، وربما تُجاري وتلعب على مزاج الناس الوطني لأغراض سياسية آنية وضيقة، حيث تتحدث هذه الأطراف والشخصيات عن ( بعض ) البنود الخاطئة والمرفوضة، وليس عن رفض الاحتلال وعمليته السياسية والمعاهدة وجميع خطواته، وهذا فرق جوهري وأساسي بين موقفين. وهو يداري فضيحة مدوية تكاد تحصل.
 الحركة القومية الكردية هي الجهة الوحيدة، حتى الآن تقريباً، التي تؤيد المعاهدة علناً وبشكل صريح وسافر ومن دون تحفظات، وهي تمارس الانزلاق والسقوط الحر، بسبب انتهازية تافهة، وضعف ذاتي يحتمي بعامل خارجي بشكل دائم، ويعيش وفق علاقة زبائنية معه، وضيق أفق سياسي وقومي ( قوماني ) لا يتعلم ولا يستفيد من التجارب القاسية والمريرة، على أيدي نفس الأسياد، في تجربة كيسنجر السابقة لكن الحاضرة بقوة، والحركة لا تقدر ولا تدرك المسار التاريخي الحقيقي لسير الأحداث في النهاية، بل تتلهى بمكاسب حزبية وشخصية مؤقتة، وهي تدير ظهرها لمصالح ومتطلبات حياة الناس الأساسية، وتنسى ضجيج الشعارات الكبيرة الذي طالما أختلط بضجيج السلاح، ولا تدرك السبل الوطنية السليمة لتحقيق المصالح القومية للشعب الكردي.
تستطيع الجبهات القانونية والثقافية والإعلامية المشاركة في التصدي الفعال والناجح، في عملية فضح المعاهدة وعدم شرعيتها ومخاطرها على مصالحنا الوطنية الأساسية، ويستطيع المثقفون الوطنيين أن يلعبوا دوراً كبيراً وهاماً في فضح أبعاد ومخاطر المعاهدة، وكشف وتفكيك بنودها العلنية والسرية.
لليسار الوطني دور هام وأساسي في المواجهة الحالية، وهي معيار حساس على موقفه المتقدم وفعاليته في هذه القضايا، المتأتي من فهمه المعمق للموقف الوطني وطبيعة الاستعمار والاحتلال والتبعية والتحرر. واتخاذ موقف وطني حازم وواضح، وليس الجلوس بين مقعدين متناقضين، أو البقاء الدائم بين منزلتين، لا يمكن ولا يجوز الجمع بينهما.
الموقف الوطني للحركة الوطنية واليسارية المتشكلة، ما دامها حركة أو في حركة، هو التوجه الثقافي والسياسي والتنظيمي، نحو برنامج وطني عام، يستند إلى رفض الاحتلال ونتائجه وعملياته السياسية ( المحاصصة الطائفية والقومية) والأمنية والاقتصادية ( النفطية) والثقافية، وجميع تشريعاته وخطواته الأخرى، ورفض إدارة المحاصصة السياسية، ورفض المعاهدة الإستراتيجية طويلة الأمد، ورفض قانون نهب النفط المزمع فرضه على بلادنا، باعتباره أحد الأهداف والمقاصد الرئيسية للاحتلال. عندها سيكون الحوار الوطني العام والخاص واضحاً ومجدياً ووطنياً، أما الكلام المتلعثم والمتردد، الذي يخلط الأمور خلطاً عجيباً ومقصوداً، بين المقدمات والنتائج، وبين الأساسي والثانوي مع الحواشي والتفاصيل المملة، ويدافع عن سياسة خاطئة وفاقعة، ويقدمها في وجبة ضبابية فاسدة، بلا لون أو طعم، حول الموقف من الاحتلال ورفضه الحقيقي والقضايا الرئيسية الأخرى، فهو كلام لا أهتم به ولا أرد عليه، لأنه غير نافع وغير مفيد، ولا يصب بالجهد الوطني العام أو الجهد الوطني اليساري.
أعتقد بأهمية الملفات والمحاور الخاصة بالمعاهدة، لمتابعتها لحظة بلحظة، والرد على جميع الطروحات المؤيدة لها، بأساليب الخداع واللفلفة والمقارنات الجائرة والخاطئة ومحاولة التخفيف من بشاعتها. فحتى لو فرضت وعقدت المعاهدات الأمريكية على ومع الجميع، وحتى لو انتشرت القواعد الأمريكية في أرجاء المعمورة، فأننا هنا في هذه الأرض الوطنية، نرفضها ونرفض مباديء الوصاية والتبعية والسلب والنهب، القادم من وراء البحار. أننا ندافع عن مصالحنا الوطنية، والاحتلال يغتصب ويلغي ويتعارض مع هذه المصالح.
أقترح تشكيل لجنة متابعة وطنية، من المثقفين والقانونيين والسياسيين والإعلاميين، في الداخل والخارج، لطرح رؤية وطنية متكاملة، والقيام بنشاطات وندوات وخطوات وفعاليات جماهيرية، والتصدي للمعاهدة وفضح وشرح جميع جوانبها، لمنع عقدها وإعلانها، ورفضها وإسقاطها في حال إعلانها.
سنعود إلى موضوع المعاهدة، لمتابعة كل التطورات لحظة بلحظة، ونكشفها للناس، وسوف نصعد المتابعة والرفض والتحريض بعد إعلانها المشؤوم، إذا ما حصل، حتى إسقاطها وكنسها الكامل والأكيد مثل أخواتها السابقات، هي ومن صنعها ووقعها.

8
ماكليلان والعجز في الاقتصاد الأمريكي والأمراض النفسية لجنود الاحتلال

ثلاثة عناوين رئيسية من بين عناوين كثيرة، تثار بوجه بوش، ويواجهها بمهانة وهو يطوي أيامه المتبقية على رأس الإدارة الأمريكية، باعتبارها من أسوء الإدارات في تاريخ أمريكا. ويبدو بوش هشاً وتافهاً وضائعاً. حيث يواجه في أيامه الأخيرة صفعات شديدة ومحرجة، على أيدي مساعدين مقربين سابقين له، من الدائرة الضيقة، أي من الدائرة الأولى الخاصة. ومشاكل كثيرة اقتصادية وسياسية، ناتجة في قسم منها عن سياسته في العراق، فقد تلقى بوش بصقة كبيرة، وجهها له الناطق الرسمي السابق باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان، بصقة لا يمكن مسحها أو لحسها أو تغطيتها، رغم إنها تحمل دلالات معنوية وأدبية، وجاءت متأخرة بعض الشيء، وهي لا تؤثر على وجود بوش في البيت الأبيض، فهو مغادر وفق الدستور بعد انتهاء ولايته الثانية، بعد إن خرب ودمر بلادنا، وربما تؤثر هذه الصفعة على صديقه المرشح الجمهوري الخطير ماكين، والذي يريد السير على خطى بوش المدمرة، ويكمل مشواره فيما بدأه حتى لو تطلب ذلك مئة عام أخرى كما قال مازحاً ومستهزئا بمصير وحال شعبنا ، ويتوقع حصول الاستقرار الأولى بواسطة الجيش الأمريكي عام 2013. وكل ذلك على ( أو من) حساب شعبنا ووطننا، وضد حقه الطبيعي في السيادة والاستقلال.

وقال الناطق السابق باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان )(  إن الحرب على العراق «بيعت» للشعب الأمريكي من خلال «حملة دعاية سياسية» معقدّة قادها الرئيس جورج بوش وكانت تهدف إلى «التلاعب بمصادر الرأي العام» و«التقليل من السبب الرئيسي لعدم الذهاب إلى الحرب».
( ويوجه ماكليلان الذي كان ناطقا باسم البيت الأبيض بين 2003 و2006 انتقادات لاذعة إلى الإدارة في كتاب بعنوان ( البيت الأبيض في عهد بوش وثقافة الخداع). ويصف وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، بأنها بارعة في تحويل المسؤولية والخطأ ويطلق على نائب الرئيس ديك تشيني لقب «الساحر» الذي يدير السياسة من الكواليس من دون ان يترك أي بصمات على ما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست».
وما كليلان (40 عاما) الذي دافع عن سياسة البيت الأبيض خلال لفاءاته مع الصحافيين، يكتب أيضا إن حرب العراق «لم تكن ضرورية» و«قرار اجتياح العراق كان خطأ استراتيجيا كبيرا». ويقول: «ما من احد يمكنه أن يجزم كيف سينظر إلى الحرب بعد عقود من الآن عندما يمكننا أن نفهم كليا تأثيرها. لكن ما أدركه هو إن الحرب يجب أن تشن عندما تكون ضرورية والحرب العراقية لم تكن كذلك».
ويكتب في كتابه الذي يصدر الأسبوع المقبل، «لا أزال معجبا بالرئيس بوش». ويضيف: «لكن هو ومستشاروه خلطوا بين الدعاية وبين مستوى الصراحة والنزاهة الضرورتين لبناء دعم الرأي العام والمحافظة عليه في زمن الحرب». ويتابع: «في هذا الإطار، حصل على نصائح سيئة جدا من كبار مستشاريه لا سيما الضالعين مباشرة بشؤون الأمن القومي».
ويتهم كذلك كبير خبراء الاستراتيجية ومستشار الرئيس السابق كارل روف ونائب كبير موظفي البيت الابيض لويس «سكوتر» ليبي بانهما خدعاه في شأن دوريهما في فضيحة الكشف عن هوية العميلة السابقة في وكالة الاستخبارات المركزية (سي اي اي) فاليري بليم.
ويكتب أن «روف وليبي ومن المحتمل نائب الرئيس تشيني سمحوا لي، لا بل شجعوني على تكرار كذبة». ودين ليبي بتهمة عرقلة عمل القضاء في 2007 وحكم عليه بالسجن سنتين ونصف السنة لكن بوش أصدر عفوا عنه)).
هذه شهادة هامة وصريحة لواحد من الذين صنعوا ولمعوا نجم بوش الفاشل، وصفعة كبيرة تليق بمجرم حرب كذاب ومخادع وفاشل. تدحض أوهام ( التحرير والديمقراطية والبناء )، وتكشف وجه وجوهر الاحتلال الحقيقي، وتوفر أدوات فعالة جديدة بيد الحركة الوطنية العراقية، في معركتها الشرسة مع الاحتلال. وهي غيض من فيض. فكم هو حجم الأسرار والمعلومات الهامة الأخرى التي ستكشف حقيقة الحرب القذرة ضد شعبنا ووطننا. إنها حرب النفط والسيطرة والتمييز والتدمير ودعم المشروع الصهيوني.

2- العجز في الاقتصاد الأمريكي

يعاني الاقتصاد الأمريكي من مشاكل كبيرة وحقيقية، بدأت مع أزمة الرهن العقاري، وانتقلت إلى جميع القطاعات الاقتصادية، ربما تصل إلى درجة الهبوط والتراجع والعجز الدائم، وليس أزمة مؤقتة أو عابرة. والمشاكل ناتجة عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي وأزماته الدورية، وهبوط وتراخي بعض آلياته، ومنافسة وصراع الاحتكارات العالمية فيما بينها، وصعود اقتصاديات عالمية طموحة أخرى، في الصين والهند واليابان، وبعض البلدان الأوربية مثل ألمانيا، لتحتل وتنتزع أسواق هامة كانت حكراً خالصاً لأمريكا. إلى جانب التغييرات الثورية الكبيرة في أمريكا اللاتينية. لكن يبقى السبب الأهم من بين هذه الأسباب، هو الخسائر المادية المتصاعدة في العراق، وتزايد مقادير كلفة الحرب في بلدانا، التي فاقت جميع التقديرات السابقة، مما لم يكن متوقعاً، أو لم يحسب حسابه بشكل دقيق، وأدت إلى تدني الاحتياطي الأمريكي العام، وتراجع سعر صرف الدولار، مع التصاعد المستمر لسعر برميل النفط الذي وصل إلى 130، في فترة قياسية وتصاعد سريع.
هناك ناحية أخرى هامة جدا تتعلق بصعود وهبوط الإمبراطوريات عبر التاريخ، ووجود سقف لإمكانياتها وقدرتها الحقيقية وليست المتخيلة أو الوهمية، وهذا ما بدا واضحاً في القوة الأمريكية المنتشرة حول العالم، التي تخوض حربان كبيرتان في وقت واحد، مما أنهكها بسرعة قياسية نسبياً.

3- الأمراض النفسية لجنود الاحتلال

تقول الإحصائيات والأرقام الأمريكية الرسمية، إن كل الجنود الأمريكيين، الذين خدموا في العراق وأفغانستان، يعانون من أمراض واضطرابات نفسية وعقلية، يتحول قسم منها إلى إعاقات نفسية تحتاج إلى علاج دائمي، وقسم منهم لا يعود إلى الخدمة نهائياً، إلى جانب آلاف الجرحى ومعوقي الحرب. كما أن الحكومة لا تستطيع متابعهم وتقديم الخدمات الصحية الكاملة والمطلوبة لهم، مما دفع الأطباء النفسيين إلى الإعلان عن استعدادهم لمعالجة المرضى مجاناً... إن هذه الحالة تشمل كل تعداد الجيش الأمريكي تقريباً، ولا يوجد احتياطي عددي، لتنفيذ المهمة القذرة التي تتحدث عنها الإدارة الأمريكية.
 مبروك لبوش جيش محطم من المجانيين والمخبولين، ينفذ بهم جنون إمبراطوري مدمر.

9
لعنة الهامش - عن خراب مدينة الناصرية

أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com


الولادة والوجود والعيش في مدينة هامشية ومهشمة، مثل مدينة الناصرية، أو أي مدينة هامشية في العالم، هو مشكلة وجودية كاملة وقائمة بحد ذاتها، وإشكالية متكاملة الأبعاد والوجوه، باعتبارها مكان لعيش وتواجد الناس كل حياتهم، يحققون أو( لا يحققون) فيها وجودهم ورغباتهم وأفكارهم وطموحاتهم وسعادتهم، لكن من دون شروط المدينة القديمة أو الحديثة، ومن دون خدمات بسيطة، وليست خدمات أساسية أو راقية، لأكثر من مليون إنسان، بسبب نظرة الدولة والسلطة والعاصمة للناصرية ولعدد من ( المدن) التي تشبه الناصرية في خصائصها ( العمرانية أو التعميرية)، والعلاقة المشوهة والغامضة مع المركز، وبقاءها على الهامش إلى الآن، وبسبب السياسات الرعناء والحروب والحصار والفساد والتخلف، وهنا تتجسد مفارقة الوجود والحياة الصعبة. ويبدو أن الوضع يتفاقم بسرعة جنونية. بل إن مناسبة الكتابة هذه هو تحطم واندثار كل شيء في الناصرية، حسب الأخبار المتواترة والمؤكدة، ممن يعيش فيها أو ممن يزورها ويتركها هارباً نحو مكانه الجديد.
سألني صديق من الناصرية، ونحن نركب أحدث ترام في مدينة لاهاي الهولندية الجميلة، وهو مثلي يعشق الناصرية ومولع بها، ومن جماعة ( بن الولاية) وبن المدينة. لماذا نحب الناصرية؟؟ وهل فيها شيء مادي ملموس ( عمران) قابل للحب؟؟ أم انه وهم خاص خلقناه نحن ثم صدقناه؟؟ فقلت له، لقد فكرت بالموضوع كثيراً ودائماً، ورأيي أننا لم نخطأ ولم نتوهم، فلقد أحببنا المكان الأول على بساطته وفقره وبدائيته، نتيجة لنزعة طبيعية حول العلاقة به، وأحببنا الناس والأصدقاء والأقارب، أحببنا النهر والبساتين، وكنا نراقب ونرى كل شيء بعين واعية مع طموحات ورغبات نقية وأمل جامح لتغيير هذا الواقع المزري في يوم ما، كنا نعيش على ذلك الأمل، كما إننا نعرف أسباب الخراب والدمار والتخلف الذي تعيشه المدينة، ثم إن الجانب الاجتماعي والثقافي والسياسي، هو الذي أنقذنا من ضيق المكان وفقره، ووجود علاقات اجتماعية حميمة، ومجموعات صداقية جميلة، كانت تستطيع التحليق الوهمي أو الحقيقي في أجواء وردية باذخة، وهي تتطلع إلى مستقبل آت. وقد ساعدنا العمل الطلابي والحزبي والواجبات الحزبية رغم شكليتها، إلى جانب المهمات الحزبية البسيطة بالنسبة لي على الأقل، والاجتماعات واللقاءات الحزبية، والاهتمام بالكتب والمجلات واللقاءات الثقافية اليومية بين الأصدقاء، ووجود بعض النشاطات الثقافية المتباعدة، ووجود مقاهي شبه ثقافية، إلى جانب السهر في بيوت الأصدقاء والتجوال الطويل في ليالي الصيف على ضفاف نهر الفرات، وعلى جسر المدينة البهي، كما أننا نحب تمرد المدينة، ونعشق تفاصيل كثيرة فيها. وثمة أسرار وعلاقة وجودية وكونية غامضة مع المكان الأول، تظل كامنة في أعماقنا.
المدن في العالم الثالث، لا علاقة لها بالحاضر أو الحضارة، ولا علاقة لها بالمستقبل إلا من ناحية التدهور والتراجع مع الوقت. ولا تقوم أدارتها على التخطيط والتخصص والمعرفة، بل يمكن أن يديرها  في الغالب مسؤول ما، لأسباب حزبية أو طائفية أو سياسية أو عشائرية، أو يفرض عليها أسماء ودلالات ورموز تزيد من تعاستها. وهي ليست كالمدن الحديثة في أوربا، التي تأسست على قواعد تخطيطية علمية واقتصادية واجتماعية وفنية صارمة وواضحة، كما إنها تعبير عن تطور ونمو طبيعيين، ولها دور صناعي ووظيفي ما. المدن في بلداننا هي قرى منتفخة، أو قرى في حالة تحول ناقص نحو مدينة قروية، أو امتدادات عشوائية لمدن جرى إهمالها وتركها تتكون غريزياً، حيث لا توجد علاقة بين وضع مدينة الناصرية الحالي، والمخطط الأصلي الرائع، الذي وضعه المهندس البلجيكي جولس تيلي في عام 1869، بطلب من ناصر الأشقر والذي سميت الناصرية على أسمه.
من هامش مدينة الناصرية الضيق والمهمل، إلى شريط أو حيز على هامش التخوم الجغرافية والطبيعية تماماً، هامش على الشريط الحدودي العراقي - الإيراني، يدخل قليلاً في الأراضي الإيرانية، بعد أن نغادر مدينة حلبجة المنكوبة وقرية عنب، ونعبر سلسلة جبال هورمان، ونتقابل مع قمة جبل ( بفر ميري ) وما يفصلها عنا من موانع طبيعية ووادي سحيق، يشق قعره الأخير نهر ( سيروان ) الذي ينبع من الأراضي الإيرانية ويدخل الأراضي العراقية  من ذلك الهامش أو الحيز الجغرافي الضيق. والوادي مليء بكل أنواع أشجار الفواكه والعنب والجوز وعيون الماء ومراعي الماعز الجبلي المشاكس والحيوانات البرية. هناك كنا نعيش على الهامش، في مكان خالي من البشر، أسمه هيرتا، أقمنا حياتنا الجديدة المفروضة علينا، وقد انحشرنا في ذلك الهامش الضيق والإجباري. كنا في عزلة تامة وعجيبة عن أبسط شروط الحياة الطبيعية، حيث لا خدمات ولا شيء، سوى الماء والحجر والشجر الذي يتحول إلى مصدر الطاقة الوحيد. آنذاك كنت أفكر بطرق التكيف مع الأوضاع الجديدة، وأتساءل حول قدرة الإنسان على التكيف؟؟ وفائدة التكيف والعيش على الهامش البعيد؟؟ وهل هناك صلة بالمستقبل؟؟ وهل يوصل الى مكان طبيعي؟؟
الحياة في الناصرية قادتني إلى صداقة خاصة مع صديق نادر أسمه سمير هامش، هل سمعتهم بهكذا اسم ؟؟ وهل تكرر في مكان آخر؟؟ وهو أسم عجيب وغريب وصادم في الوهلة الأولى. في المعاجم الهامش (  هَامِشٌ - ج: هَوَامِشُ. [هـ م ش]. (فا. من هَمَشَ). 1."عَلَى هَامِشِ الدَّفْتَرِ" : عَلَى حَاشِيَتِهِ. 2."يَعِيشُ عَلَى هَامِشِ الْمُجْتَمَعِ" : خَارِجَ سِيَاقِ الْمُجْتَمَعِ. 3. "تَرَكَهُ عَلَى الْهَامِشِ" : عَلَى الْجَانِبِ. 4. "عَلَى هَامِشِ الْحَدَثِ" : بِمُنَاسَبَة. 5."عَلَى هَامِشِ الْأَخْبَارِ" : تَعْلِيقاً عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا )، و(هَامَشَ يُهَامِشُ مُهَامَشَةً :- ـه في الشيء: عاجله فيه؛ هامش الملاكم خصمه بضربة أخيرة ). وسمير هامش من النوع الأول، وليس  من النوع الثاني، الذي يعني : هامش يهامش مهامشة. فهو لم يهامش أحد، فقد قتل سمير في واحدة من الحروب الضروس العبثية التي دارت على أرضنا الوطنية وفي التخوم، وهي ليست حربه في جميع الأحوال، وهو لم يعبر هامشه الوجودي ومصيره قط.
وها أنا أعيش في هامش أوربي ضيق، لا يقبل أن يتوسع، ولا أريده أن يتوسع، تطادرني وتلاحقني الناصرية فيه، أنى يممت وأدرت وجهي. بينما الوطن يتهمش ويتهشم، لكن في طريقه يهشم ويهمش الناصرية، ويجعلها حطام ورماد وسخام مر.
 هل لا زلنا نعيش لعنة الهامش؟؟
.

10
المعاهدة الأمريكية - العراقية وقضايا الوطن المصيرية

أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com



تشرف السفارة الأمريكية ولجان البنتاغون والمخابرات الأمريكية المتخصصة في بغداد على أعداد المسودات النهائية لمعاهدة استرقاقية طويلة الأمد. ويشارف المحتل على كشف أخطر أوراقه السياسية،  في لعبة الاستلاب والخداع والموت العراقية، لفرض السيطرة الدائمة على بلادنا، حيث يبدو إن المفاوضات السرية جارية بشكل محموم ومتواصل بين الاحتلال والإدارة المحلية، ووصلت إلى مراحلها النهائية، وإن اللجان تعمل ليل نهار بأشراف المحتل، لإكمال بنود المعاهدة الأمريكية المخزية التي ستفرض على بلادنا، كتحصيل حاصل للاحتلال العسكري المباشر، ونتيجة وامتداد للحرب والعدوان، وتكريس لنتائجهما، والانتقال إلى الخطوة الأخرى، التي يحاول الاحتلال من خلالها فرض وجوده طويل الأمد بطرق ( قانونية وشرعية)، وتغطيته بوهم الشرعية، وتشمل هذه المعاهدة المفتوحة على جوانب عسكرية وأمنية وقواعد عسكرية وتواجد دائم وغير محدد بصلاحيات مفتوحة، يحق لهم من خلالها ملاحقة وقتل واعتقال أي شخص، لمدة مفتوحة دون مسائلة، مع حصانة وحماية لقواتهم وشركاتهم الأمنية من المسائلة العراقية الداخلية، وعلاقات اقتصادية وسياسية متميزة، تصل إلى حد ربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الأمريكي كتابع نفطي له. وستكون الأرض والأجواء والمياه الوطنية  وعمليات التجسس ومراقبة المنطقة تحت تصرف المحتل دون حسيب أو رقيب، مع بنود سرية لا تعرف محتوياتها. معاهدة تصوغها مدافع وطائرات وبوارج قوة عسكرية ضاربة، تتألف من ما يزيد على مائتي ألف جندي محتل، أما الكلام عن مفاوضات بين دولتين مستقلتين، فهو كلام فارغ وبائس، ما دام طرف يقبع تحت الاحتلال حتى هذه اللحظة، بإقرار جميع الأطراف.
المحتل الأمريكي يعرف ماذا يفعل وماذا يريد لفرض وضمان تواجد عسكري وسياسي واقتصادي في بلادنا، ضمن خططه الاستراتيجية المعروفة في منطقتنا وفي العالم، في ظل الصراع الاقتصادي المحتدم على الطاقة بين أطراف متنافسة بقوة، وهو لا يتردد في استخدام أقذر الأساليب لضمان ما يسميه ( مصالحة الحيوية والإستراتيجية ) كما أثبتت التجارب. وأنه لا يهتم بمصالحنا الوطنية، التي تتعارض بشكل طبيعي مع مصالحه، ولا يكترث بما حصل وحل بشعبنا، من خراب ودمار، بسبب الحرب والاحتلال، ولم يعالج نتائج العدوان الرهيبة.
المحتل يتصرف ويعمل بشكل علني باعتباره المنتصر في الحرب، وهو يقود ويغذي ويراقب الفوضى العارمة، بينما الطرف الآخر، هو طرف مهزوم وتابع له، قبل بصفقة مشينة وخطيرة، لمصالح  واعتبارات طائفية وقومية وحزبية ضيقة، شارك فيها خليط عجيب وغريب، من محبي المال والسلطة والجاه، ضد مصالح الناس الوطنية الأساسية، والتمسك بنموذج مشوه ومدمر فرضه المحتل بالأساس منذ البداية، تحت مسمى العملية السياسية التي أطلقها المحتل وقبلها عملاءه، وهي عملية مشوه وبائسة، لا تقوم على أسس وطنية، ومن هنا يتأكد ويتكرس عدم التكافؤ بين الطرفين، وعدم شرعية المعاهدة، من الوجهة الوطنية.
رغم إن الوقت ينفذ بسرعة كبيرة، وإن كل شيء  يبدو أنه جاهز وكامل، ولم يبق غير التوقيع والإعلان المرتقب في يوم مشؤوم قريب، فأن بعض حواشي وأطراف الإدارة المحلية تشتكي من عدم معرفتها بشكل المعاهدة- الصفقة وبنودها وحدودها، لكن هذه الأطراف المتورطة بالعملية السياسية، والتي تسير باتجاه واحد، سوف تجد التبريرات لهذا العمل الخياني الشنيع، وتنشر مجموعة من الملاحظات الثانوية التافهة والتبريرات الجاهزة، عن ما يسمى ب( الواقع المعقد والتغييرات العالمية )، لغرض الابتزاز وفرض الشروط وتعديل الحصص، والتي لا تمس جوهر المعاهدة الاسترقاقية، لا من قريب ولا من بعيد، وتبلع لسانها وتلوذ بالصمت المطبق، الذي يشبه صمت القبور، كما حصل في حالات ومواقف كثيرة سابقة، لأن ما يجري التحضير له الآن غير منفصل عن كل الخطوات التدريجية السابقة بدءً من القبول بالاحتلال والمحاصصة ومجلس الحكم إلى الآن، أنه التسلسل ( المنطقي ) بعينه.
إن المعاهدة تمثل التعبير الدقيق لغرض ومسار الاحتلال و( العملية السياسية ) ومواقف جميع الأطراف المشاركة فيها، خاصة الأطراف الطائفية والحركة القومية الكردية، والتي أوصلت البلاد إلى هذه النقطة وفق تصور مسبق، مخطط ومحسوب من البداية، وهو ما تتبعناه ونبهنا عنه، وتابعنا خطواته. وما هي إلا خطوة واحدة حتى تتضح وتتبين الصورة البشعة والكاملة، لهذا العمل الخطير، وتلك النوايا السوداء. ولا يهم تسميتها معاهدة أو اتفاقية طويلة الأمد أو  إعلان مباديء، فكلها ذات دلالة واحدة ومعنى واحد. وكل ذلك محاولات لغوية ولفظية فاشلة للتقليل من الصدمة.
يؤكد خبراء القانون والسياسة عدم شرعية المعاهدة، التي سترفضها الحركة الوطنية، كما رفضت المعاهدات السابقة، كما سترفضه الحركة الجماهيرية الشعبية بالاستناد إلى حسها ووعيها وتاريخها الوطني، وسوف تقبلها وتتمسك بها الإدارة المحلية وهي صاغرة، لأنها مفروضة من قوة الاحتلال، ولوجود فقرة خاصة تتعهد  فيها بتوفير الحماية العسكرية لها، مما يعني عملياً استمرار الاحتلال، وليس تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية، وهذا لا يتعارض مع جوهر العملية ( السياسية الأمريكية ) ولا مع محتوى الصفقة المشينة مع المحتل، بل يثبتها.
إن من يقرر بقاء أو سقوط المعاهدة وتنفيذها ليس طرف واحد، ونقصد به الاحتلال هنا كما يعتقد ويتصرف، والذي سيفرضها عن طريق القوة، إنما الناس التي سترفضها وتسقطها بناءً على رؤيتها لمصالحها الوطنية فقط، ولا طريق آخر غير مواجهتها ضمن خطة مواجهة الاحتلال كله.
سيلعب الإعلام الوطني والأقلام الوطنية، دوراً حاسما وكبيراً في كشف وفضح كل حيثيات وتفاصيل المعاهدة ومخاطرها على شعبنا ووطننا، وسوف تنضم أقلام جديدة لهذه المعركة الوطنية الحساسة والحاسمة، وسوف يتعرض المحتل إلى المزيد من الرفض والمواجهة، بينما تتعرى وتسقط آخر أوراق الإدارة المحلية وبسرعة أكبر مما تعرضت له حتى الآن، ولا أعتقد بجدوى وفعالية الأقلام ألمأجورة التي جرى شراءها وتدريبها في أمريكا وأوربا وبراغ وهنغاريا وبيروت والخليج، هي وصحفها وفضائياتها ومواقعها الالكترونية، أن تفعل شيء هام وكبير لتمرير هذه الاتفاقية القذرة، رغم إنها ستحاول سوق وعرض بقايا بضاعتها الفاسدة والمزورة، بناءً على الصفقة الأولى والتكليف والتعهد الأول، وسوف تتورط بالمقارنة من جديد بألمانيا واليابان وقاعدة العديد في الخليج، رغم عدم وجود أي ربط أو تشابه في المكان والزمان مع الحالة الوطنية العراقية التي نحن بصددها، وتكرار دوران الأسطوانة المشروخة، لكنها لا تنفع ولا تفيد.
الصراع شديد ومفتوح ومتصاعد، ويدور على جميع الجهات، وعلى جميع الموضوعات، في الوطن وداخل أمريكا نفسها، وستقرره مجموعة عوامل وشروط تتكون باستمرار وبحركة دائمة.علي الحركة الوطنية، استيعاب كل الظروف والتحولات اليومية، وتصعيد كفاحها وعملها، وكشف كل ما يتعلق بالمعاهدة، كمدخل لمواجهة التحول النوعي في حالة الاحتلال، وكشف بنودها وأبوابها ومحتوياتها، وفضح مخاطرها أمام الناس من الآن، وإفشالها وإسقاطها حتى قبل الانتهاء منها ومن إعلانها. وعدم الانتظار لما يسمى فيما بعد، أمر واقع. من خلال تنظيم فعاليات جماهيرية وسياسية وقانونية وإعلامية واحتجاجية.
إنها مرحلة جديدة في الصراع والمواجهة مع المحتل، وورقة قوية وفعالة بيد الحركة الوطنية الناهضة، لتعرية كل المتسترين تحت شعارات زائفة وكلام فارغ وزائف، تتطلب وقفة وطنية واضحة، وصوت عال وفعال. 

11
رسالة مفتوحة الى نوال السعدواي

أحمد الناصري
الكاتبة الكبيرة نوال السعداوي: تحية تقدير وتضامن، لك ومعك، لجهدك العلمي والأدبي والإنساني، ولجرأتك ومثابرتك وإصرارك على قول ما تريدين قوله. وأنت من أوائل من دخل مساحات الممنوع والمحرم، حيث التابو غير المبرر وغير المقبول، في الجنس والدين والسياسة، وأشكال الاستغلال الخاص والعام الأخرى، حيث الدوائر والخطوط الحمراء المفتعلة، التي أوجدها البعض بشكل أرادوي مفتعل بعيدا عن الاختيارات المعرفية الطبيعية الحرة وبعيداً عن التطور الاجتماعي والتاريخي وسياقاته المتصلة بالعقل.
أتمنى أن تعرفي، وأنت تعرفين حتما، بأنك لست وحدك في هذه المعارك الفكرية والاجتماعية، والتي أداتها المعرفة العالية ضد الجهل الفاقع المزمن، وضد الجمود والتخلف، وضد الأساليب البربرية والهمجية.
السعداوي طاقة هائلة ومتنوعة تستند الى جرأة نادرة في ما تشتغل وتعمل عليه، بسبب قناعاتها العميقة، ومنهجها العلمي الرصين. وهي تشبه شيخ التصوف الثوري الرجل الطاهر والجرئ هادي العلوي، وهي تقتحم ميادين صعبة وشائكة أبرزها موضوع المرأة والدين، والمتطلبات الصارمة للخوض في هذا المجال المعقد والملتبس والممنوع، حيث سيطرة الخرافة والتقاليد العتيقة الحاكمة والتي تتعارض مع الدين أو تتساوق مع الفهم الضيق والمحدود له أحياناً، لذلك لابد من أن تتوفر دراية عالية بالتاريخ الإنساني القديم والحديث، وتاريخ المنطقة بشكل خاص وأديانها وعاداتها، كما يحتاج ميدان البحث الى معرفة معمقة بالسايكلوجيا الاجتماعية والشخصية، ودراية تامة بعلم التشريح، وكل القضايا والموضوعات المترابطة الأخرى.

إن الصراع في منطقنا الآن، كما هو في كل زمان ومكان، يدور بين الجديد والقديم، بين المشروع النهضوي، والمشروع السابق الذي تقادم وتخلف، وانتهت صلاحيته وفائدته بما تجمع عليه من غبار الزمن، وتجاوزته الأسئلة الجديدة والمتجددة يوميا، لكن القديم يقاوم ويستخدم كل الأساليب للمحافظة على السلطة والنفوذ والمصالح، ومن هنا كانت المعارك الشرسة ودعاوى التجريم والتحريم والتفكير مبكرة وجاهزة دائما، لرفعها بوجه من يحاول تجاوز التابو، والخوض في حقول التاريخ والدين. وقد أستمر بعض المفكرين في مشاريعهم بينما تراجع البعض الآخر، وكأنه خيار شخصي، رغم ثقل وخطورة المهمة، مما شجع مراكز وأطراف التحريم على الاستمرار في هجومها الشرس والمنفلت والمزاجي أحيانا. وكانت السعداوي كالعادة من الصامدين الثابتين في مواقفهم ورؤاهم.
ويبدو إن جماعات ومؤسسات الحجب والتكفير والقسر لا تعمل وفق مخطط محدد دائما، فهي أحيانا تتذكر كتب وأعمال أدبية صدرت قبل أكثر من عشرين عاما كما حصل مع رواية الأديب الكبير نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) ومع قصائد نزار قباني، ورواية حيدر حيدر (وليمة لإعشاب البحر) وغيرها من الأعمال الأدبية والإبداعية، كما لوحقت الكتابات الجديدة لنصر حامد أبو زيد، وسيد قمني، والشيخ خليل عبد الكريم.
ولا أدري كيف يسمح رجال الأزهر لأنفسهم التدخل في اختصاص صعب بعيد كل البعد عن عملهم وانشغالاتهم؟؟ وكيف لا يتدخل المتنور منهم لإيقاف مثل هذه التخبطات ؟؟ أو أن يقيموا أقسام مستقلة للنقد الحديث والمعاصر بمدارسة الجديدة ؟؟ أو لا يتدخلوا فيما لا يفقهون به؟؟ فأما أن يمنعوا أنفسهم أو يمنعهم الرأي العام أو حتى المؤسسات الرسمية المختصة وأعني وزارة الثقافة والمراكز الثقافية، وليس المباحث طبعا؟؟
حرية التفكير والتعبير عن الرأي وكتابته وإعلانه هو من الحقوق الطبيعية، حيث لا سلطة على الكتابة والكاتب غير عقله وقناعاته وما توصل أليه بالجهد الفردي أو الجماعي، كما لا توجد مناطق وأشياء محرمة أو مقدسة بالمعنى الضيق والشائع، وبما يسمح لدخولها من قبل أشخاص أو مؤسسات حصرية، قد تخطأ في عملها واستنتاجاتها. ومن حق الباحث والكاتب والروائي تناول أي موضوع وأية قضية قديمة أو راهنة بالطريقة التي يراها، وهناك معيار واحد هو موقف القارئ أو المشاهد كما يحصل في المسرح والسينما مثلا.
ستبقى قضية الإبداع الأدبي قضية فردية، تحتاج الى حرية تامة، لا يحق لأحد التدخل والتفسير، ثم فرض الوصاية أو المنع والمصادرة كما في حالة التعامل مع رواية السعداوي ( سقوط الإمام ) التي تتحدث عن مقتل السادات، فربما يكون النقد والتفسير خاطيء من الأساس. ولا ندري هل هذا الموقف دفاع متأخر عن السادات ونهجه الاستسلامي المدمر؟؟ أم هو توافق وتراضي مع السلطة الحالية؟؟
يزدحم العلم العربي في إشكاليات التجهيل والتخلف وتزداد التهديدات الجدية لوجودنا الإنساني، بفعل ضغط داخلي وخارجي، وتتزايد الأسئلة المعلقة في حياتنا، وتتسع رقعة الموت في فلسطين والعراق، وتتزايد مساحة الجوع والحرمان، وتشتد أزمة الديمقراطية والحريات، ونسير حثيثا خارج التاريخ، ويظهر علينا جندرمة الأزهر ليلاحقوا رواية كتبت قبل أكثر من عشرين عام فقط؟؟ويلاحق ديوان الشاعر أحمد الشهاوي (وصايا في عشق النساء) لأنه أخذ من لغة الصوفية العظيمة بعض من رموزها وإشاراتها؟؟
إننا إزاء محنة العقل الجمعي وجمود وتخلف العقل الآخر، وعدم إنجاز إي شيء هام منذ قرون عديدة. لكن في هذه اللحظة يأتي من يمنع ويهدم عملية التراكم البسيطة والبطيئة الجارية هنا، لتستمر الغيبوبة ويستمر الموات.
لا أدري لماذا يمنع نصر أبو زيد من حق التفكير والكتابة والبحث والاستنطاق؟؟ من يملك سلطة إيقاف التفكير فسلجيا أو اجتماعيا ؟؟ من قال إن أفكار أبو زيد خاطئة أو غير صالحة للتعاطي العام أو الخاص ؟؟ لماذا يريدون كتابة التاريخ بطريقة معلبة وتابوتية، ولذلك تكون أفكار الشيخ خليل عبد الكريم خطيرة ومرفوضة؟؟ من يقرر ذلك ؟؟ لماذا يجري تجاوز عقل القارئ والقفز عليه؟؟ ومن أفتى بصلاحية البحث في هذا المجال ومنعه وتحريمه في مجال آخر؟؟ أنها أزمة الحريات، وأقصد تحديداً أزمة حرية التفكير، وهي الشرط الآدمي الأول للوجود الإنساني الطبيعي والراقي، ولا يوجد شرط أهم منه.
أننا أمام معركة جديدة ومحاولة أخرى لفرض فكر الأسطرة والتغيب، تدور في أكثر من ساحة وأكثر من بلاد، ومن بينها العراق وكارثته. لكن السعداوي وأبو زيد، وقبلهما الرائع هادي العلوي، وكل من يشتغل في ميدان العقل والتنوير، قادرين على الاستمرار في مشروعهم الإنساني والاجتماعي، لأنه خيار حياتي كما هو خيار طبيعي كأحد شروط الحياة، بينما تبقى بعض الأفكار الدينية وبعض الأيدلوجيات الجامدة، تتناطح مع مسارات الحياة وتحولاتها، وتخشى التجاوز والعزل وتستند وتخيف الناس بالغيبي والمقدس والمحرم؟؟

12
شيء عن الثقافة العراقية

أحمد الناصري
 
الثقافة العراقية، بشكلها العام، هي الحامل الرئيسي لمشروع التنوير والنهضة المتوقف أو( غير المنجز) في بلادنا، حيث لا توجد مقدمات أساسية أو إنجاز فكري تأسيسي يعتد به ويعتمد عليه. وهذه المشكلة، هي من الأسباب والمشاكل الرئيسية الكثيرة لتعثر مشروع النهضة في بلادنا، وفي عموم المنطقة العربية. وقد تكونت الثقافة العراقية كحاجة معرفية اجتماعية وإنسانية، من خلال تطور طبيعي، وظروف طبيعية إلى حد كبير، مع شروط نشوء تدريجية عادية، أخذت من المجتمع والواقع والتاريخ والذاكرة والتراث، ومن خلال الاتصال بالخارج وبمدارسه المتنوعة. وهي ثقافة إنسانية عامة، أمتزج فيها الفردي والجماعي بشكل كبير ورائع. وضمت كل أشكال الإبداع الأدبي والفني. وظلت تسير بشكل تدريجي متصاعد، وتداخلت مع السياسة بشكل طبيعي أيضاً، وأحياناً بشكل تعسفي مفتعل، بسبب تدخلات السلطة أو الأحزاب المؤثرة على الثقافة، وجرتها إلى مجالات واستخدامات غير ثقافية، بل تتعارض أحياناً مع روح وجوهر وطبيعة الثقافة، باعتبارها حالة خلاقة ونادرة، تنطوي على خصوصية عميقة.
تعرضت شجرة الثقافة العراقية إلى حريق وتقطيع لأوصالها وأغصانها وفروعها الوارفة، أيام الهزات السياسية والتراجعات، وهذا أمر طبيعي، ناتج من الترابط العضوي والداخلي بين الإبداع والحرية وتقاليدها ومؤسساتها. لكن حقبة الدكتاتورية والاستبداد والقمع الشامل، ومن ثم الاحتلال البغيض والمدمر لبلادنا، ألحقت أضراراً بالغة واستثنائية بالثقافة، في هذه المرحلة المظلمة، والطويلة والمكثفة، من العزل والتخريب والتشويه المخطط والمقصود، وما حصل فيها من أحداث كارثية كبيرة، كالقمع الداخلي المنظم والشامل، وما نتج عنه من قتل وتهجير جماعي للمثقفين، واشتعال الحروب وضياع الإمكانيات وانشغال الناس بالحرب، وسوق الجميع إلى سواترها، وفرض نمط معين من الكتابة والنشاطات الثقافية والفنية، وظهور قصيدة ورواية وتشكيل وأغنية الحرب، وبروز جوقة المداحين، وانزلاق الوقت نحو هاوية بدت بلا قرار. والنماذج كثيرة، لا يمكن حصرها بسهولة خاصة في ظروف الخراب وعدم الاستقرار الحالية.
إن الدكتاتورية والاستبداد والنمط الفاشي المتخلف وأساليبه، هي ضد الثقافة ووجودها وشروط نموها الطبيعي، حيث سيلجأ الدكتاتور إلى حزب متخلف، ركيك الفكر والثقافة، وعناصر نفعية هزيلة، ثم يتراجع عنه إلى العشيرة والعائلة ومفرداتهما البائسة والمتخلفة، ثم ينسحب القمع والإرهاب ونمط الاقتصاد العسكري وعسكرة المجتمع والحياة على الثقافة مباشرة ويضيع كل شيء تقريباً. بعدها جاء الحصار ليقوض أسس ولغة ومفردات المجتمع، وينخر الثقافة وجسد المثقف بالمعنى الحرفي للكلمة، وجعله يسعى ليل نهار لتوفير لقمة العيش وقميص رث ورخيص لأطفاله وله. في أقذر مهمة قادها الخارج، تلاقت وامتزجت بغباء وعنجهية الداخل الفارغة، ضد شعبنا العراقي وفقراءه وكادحيه.
لكن هناك خاصية رائعة في الثقافة العراقية، يجب التركيز عليها وإبرازها ودراستها، وهي قدرتها على الحياة والتواجد والاستمرار في مختلف الظروف، وهي مقاومة في ذاتها ولذاتها، لذلك ظلت هناك قصيدة ورواية ولوحة أبداعية جميلة و( مستقلة )، وظل الإبداع العراقي يشمل كل الفروع، في الموسيقى والغناء والمسرح، عدا السينما التي تحطمت، بسبب عدم اهتمام النظام بها أصلاً، خاصة في فترة الحصار اللعين. ودلالة بقاء الثقافة العراقية رغم المحنة الطويلة، يعود إلى عمقها وسعتها وتنوعها، والى جذورها الإنسانية العميقة، ووجود طاقة لا تنتهي لدى جميع الأجيال، ومنها الجيل الجديد. وهذا سر من أسرار ثقافتنا وإشعاعها وبقاءها.
جاءنا زلزال الاحتلال بعد الخراب والضيم والحريق والظلمة والغربة، ليعمل على تخريب وتقويض ممنهج آخر، عبر تدمير المؤسسات الثقافية، ومسح وسرقة آثارها وإبداعاتها، في أبشع جريمة ثقافية عرفها التاريخ الحديث، ومحاولة خلق وصناعة بدائل أخرى مشوهة، عبر ضخ ملايين الدولارات، مع رشة ثقيلة لكنها فاسدة من دعاوى الحرية والديمقراطية والليبرالية الهجينة والحداثة الاستهلاكية، حتى لو قامت على أسس طائفية، ترجع بنا إلى عصر الكهوف الغابرة، والتي تركها وخرج منها الإنسان منتصراً، إلى عصر آخر، بعد صراع مرير وطويل، حسب كل التجارب المعروفة.
لقد سمح الاحتلال بتدمير المتحف الوطني العراقي، وهو ذاكرة للبشرية وسجل حقيقي للتاريخ الإنساني الطويل، كما دمر مركز الفنون وسمح بنهب وحرق اللوحات والتماثيل، وحرقت المكتبة الوطنية ودار الوثائق الوطنية وأطيح بالمسارح وأغلقت دور السينما ودمرت التماثيل في ساحات وشوارع بغداد والمدن وخرب التعليم بجميع مراحله، وتمت تصفية العلماء والمفكرين والأساتذة والمثقفين والفنانين والصحفيين. وقد كتبت في وقت سابق، عن قيام هولندة كل هولندة لحماية لوحة عظيمة واحدة، هي لوحة ( جولة الحرس الليلي ) لرامبرانت، بينما ضاع ودمر ونهب وحرق، كل تراثنا تقريباً وفق خطة وضعها الاحتلال وعملاءه الذين أطلقوا عصابات منظمة وجاهلة للقيام بجريمة كبيرة بحق الناس والتاريخ والذاكرة الإنسانية والمستقبل.
هناك مشكلة خطيرة أخرى تواجهها الثقافة، وهي دور التعليم بجميع مراحله، خاصة العليا والمتخصصة، هو القاعدة الأساسية للثقافة والفكر والعلوم. والاحتلال والإدارة الطائفية قوضا التعليم بجميع مراحله، مما سيؤثر على جميع العمليات الإبداعية في المستقبل، وسيحصل فراغ وبنية اجتماعية مشوهة.
من المشاكل الأخرى التي نواجهها هي ضعف أو غياب العقل النقدي في الثقافة كما في الفكر والسياسة، بسبب غياب الحرية الحقيقية وتقاليدها، وبسبب تلاحق المصائب والكوارث. فنحن لم ندرس بعد الحرب العراقية الإيرانية ونتائجها وخسائرها الرهيبة، لأن كارثة الكويت جاءت مسرعة وبدون فاصلة زمنية تسمح بالمراجعة والدراسة ومن غير أدنى استراحة. كذلك الحال مع كارثة ومأساة الاحتلال الرهيبة التي حصلت نتيجة الحرب والغزو لبلادنا. ولا توجد مراجعات جدية ممن تورط وسوق لثقافة النظام السابق المتخلفة، بل إن قسم منهم يريد العودة والتسلسل من جديد، أما متستراً بعباءة المقاومة والثقافة الوطنية المعادية للاحتلال، أو من خلال الاحتلال نفسه والمؤسسات الطائفية أو ( الحداثية) القابضة والمشبوهة، والمكلفة بواجبات ( ثقافية) محددة.
يستطيع المجال الثقافي الحيوي أن يلعب دوراً هاماً وكبيراً في تاريخ ومصير الشعوب، في الظروف الطبيعية، وفي جميع الظروف الأخرى. رغم إن مفهوم الثقافة الوطنية مثلاً، وغيره من المفاهيم القريبة والمتشابكة معه، جاء إلى الثقافة من خارجها، وبالضبط من السياسة والأيدولوجيا بمعناها المحور والموجة، نحو نقطة معينة، وهو بذلك يكون معنى مؤقت، يرتبط بأحداث وحالات معينة، مثل الاضطهاد وقضية الحريات ومشاكل الاحتلال والاستقلال. بعد ذلك يتحول إلى معني داخلي أو محلي. فقد ظهرت في كل البلدان التي تعرضت للاحتلال، ثقافة وطنية وثقافة مقاومة، كما في فرنسا وكل بلدان أوربا تقريباً، لكن هذا الشكل توقف، وبقيت ذكرياته وأصداءه. وربما يستخدم الآن مفهوم الثقافة الوطنية في فرنسا للتأكيد على الثقافة الفرنسية ومواجهتها للغزو الثقافي الأمريكي، على الأقل في مجال السينما واللغة مثلاً.
تبقى تجربة الثقافة العراقية وكثافتها وتنوعها، وقدرتها الفائقة على الاستمرار، مثار إعجاب وتقدير، رغم التعثر الذي لحق بها والظروف الصعبة التي أحاطت بها من كل جانب ولفترات ليست قصيرة. لكنها تنهض بمحركات ذاتية، ولها قدرة على التجاوز، بسبب طبيعتها الداخلية. ويمكن لها أن تتعمق أكثر، فيما لو استخدمت العقل النقدي ومدارسه المفتوحة ومنهجه الراقي.


13
الصديق اليساري الوطني الدكتور عبد العالي الحراك

تحية وطنية طيبة...
Alnassery3@hotmail.com


أولاً لم اتعرف على الصديق والرفيق الطبيب عبد العالي الحراك شخصياً، ولم اتصل به، ولم احكي معه مع الأسف الشديد الى الآن، وسوف أعمل على الأتصال به، وأستمرار الحوار معه، من خلال النشر العلني هذا، والرسالة المفتوحة له.
لكنني وبطريقتي الخاصة المباشرة، والتي أتمسك واعتز بها، أصارح صديقي الجديد الحراك بكل افكاري واحاسيسي ونواياي نحو  الناس، ونحو الوطن وحركتنا الوطنية اليسارية، ونحوه شخصياً ونحو عقلي وقناعاتي، ونحو التجربة التي نخوض بها، من خلال مكاشفة علنية، علنا نصل الى ما نريد، والى ما يليق بنا، ومناقشة ما طرحه الرفيق الحراك في كتاباته ومناشداته الموضوعية والدقيقة والصائبة فيما يتعلق باليسار الشيوعي والماركسي والوطني، وكيف اقترب من الحقيقة، وكم ناشد جميع الاطراف والشخصيات، وكم حشدهم وحاول تحريكهم، وأين أصاب وأين أخفق، وكم كان مؤثراً، وكم كان صوتاً مستقلاً، لكنه قوياً وموضوعياً في ضجيج الأصوات الكثيرة؟؟.
لقد تابعت جهود وآراء وأفكار الحراك منذ البداية، كما نبهني عدد من الأصدقاء ممن خاضوا تجربة العمل اليساري الخاص معنا منذ الثمانينيات، الى هذا الرأي الجديد والمركز، بصدد اليسار الشيوعي أواليسار االماركسي والوطني، وقالوا لي أنه يكتب آراء هامة وجديدة في الطرح والوعي الشيوعي الوطني الرصين، وقد اتفقت معهم، من خلال قراءتي ومتابعتي لمواقفه.
لقد وجه الصديق الحراك رسائل كثيرة الى الجميع، ولم يستثن أحد، لكنه وجه رسائله الى أماكن خاطئة، فيما يتعلق بمناشداته المتكررة لقيادة الحزب الشيوعي العراقي، التي لم تستجب للنداءات المخلصة، ولم ترد عليها، وهذه مشكلتهم وقصورهم، وليس خطأ أو قصور الحراك، فهو صاحب قضية ومن حقه أن يطرق جميع الأبواب، حتى لو لم يأته جواب. وقصورهم وخطأهم متأتي من العجز والعزوف عن النقاش والجدل في أمور حساسة، وهو قصور تاريخي مقيم في صفوفهم، ولا يأتي من التعالي، بل من التورط في الخطيئة التاريخية الكبرى، والأنزلاق في سياسة مائعة تجاة الاحتلال وعمليته السياسية الأمريكية، والدخول في صفقات مع القوى القومية الكردية، والقوى الطائفية الأخرى، والخوف منها، والقبول بهذا الوضع المزري، والابتعاد عن الجماهير ومصالحها ومشاعرها، تحت حجج متهافتة، وأقوال وتبريرات متهرئة. لذلك فالقيادة لا يسرها سماع وأرسال مثل هذه الآراء والرسائل المخلصة، وهي سادرة في خطئها، لا تسمع ولا تراجع سياستها تلك، رغم أنها تقود الحزب الى الهاوية النهائية. دعونا نترك من لا يريد أن يستجيب لهذه الدعوات الوطنية المخلصة والواضحة، لأسباب فكرية وسياسية أصبحت معروفة، حتى لا يضيع الجهد والوقت، وان نتعامل معهم بالمثل، وفق القواعد السياسية والأدبية.
يستطيع الحراك وكل الأصدقاء في اليسار الوطني، التحرك على قطاعات واسعة في بغداد والمدن الرئيسية الأخرى، وعلى عموم الشباب وعلى الأجيال الجديدة الصاعدة، في الجامعات وأماكن العمل والتجمع الأخرى، بعد عودة الروح الوطنية، وتجاوز وأستيعاب زلزال الاحتلال، وفشل مشروع التفتيت والتقسيم الطائفي والمناطقي والعشائري، وربما يتراجع ويفشل الأرهاب الأعمى المشبوة ، الذي ضرب وجه البلاد بقسوة مقصودة، وأراد تمزيق جسدها، وساهم في خلط الأواراق، حتى بدى للبعض إن الاحتلال هو المنقذ وصمام الأمام من الفوضى العارمة ومن الانفلات الأمني. كما يمكن مناشدة كوادر وقواعد الحزب الشيوعي العراقي الوطنية، على أن يردوا التحية ويخرجوا من التوقع والتشرنق، والتبعية لقيادة عاجزة، تفكر بالنيابة عنهم، وتقودهم الى المجهول. ويمكن مخاطبة جموع كبيرة( ملايين الناس) في الخارج، لهم صوتهم القوي وطاقاتهم الكبيرة والرائعة وادواتهم المؤثرة. وان نستمر بالموقف الهادئ المتفائل، للوصول الى أهدافنا الوطنية التحررية، لبلد يرزح تحت الاحتلال العسكري الاستعماري المباشر، بلد ينطوي على أمكانيات خارقة وكبيرة، لكنه يعيش في المأزق التاريخي، ويطل على حافة الهاوية الرهيبة. تتناهش جسده الدامي ذئاب وثعالب وضباع الداخل والخارج، وهو صابر محتسب باق، لا يتزحزح ولا ينكسر.
لقد كانت الردود على مقال ( اليسار الآن ) مشجعة وداعمة لهذا التفكير والتوجه، مما يجعلنا نستمر في طرح وتطوير المشروع، والأنتقال الى الخطوات العملية الضرورية في المستقبل القريب. فالى جانب رأي الصديق الحراك زعدد من الأصدقاء، كان راي الصديق الشاعر سعدي يوسف جميلاً ودقيقاً حيث كتب لي (سيكون اليسار الطرف العراقي الوحيد المناهض للاحتلال، وسيكون لديه ما يفعله لعقودٍ ) وهو رأي أتفق معه تماماً وأعتز به، وهو ما ستثبته الأيام والتجارب المقبلة.
لا يزال البعض منكفيء ومتردد في الخوض والمشاركة في قضية اليسار وأزمته وكيفية أستنهاضه، بينما المطلوب مشاركة كبيرة وواسعة، على أسس فكرية وثقافية وسياسية جديدة ومتطورة، لعرض الآراء والتجارب والمحاولات الراهنة لعودة اليسار الى وضعه الطبيعي، من خلال معالجة النواقص والمشاكل وتجاوز حالة الأخفاق الحالي.
وبهذه المناسبة، وعن أهمية وضرورة الحوار والتلاقي بين الأصدقاء، فقد كان لقائي بالصديق شاكر الناصري، في مدينة لاهاي، قادماً من الدانمارك لزيارة أصدقاءه، جميلاً وحميماً، حيث ناقشنا وتحدثنا عن كل شيء تقريباً، في ليلة طويلة، أمتد فيها الحوار الى أطراف نهار اليوم التالي، وأتفقنا على مشروع صغير ربما يرى النور، لفائدة الناس والوطن واليسار، والمدينة البعيدة التي شبعت من الموت والقهر، مشروع لتلاقي وتقارب الأصدقاء، وفك العزلة عن بعضهم والتخلص من التباعد المرير. وقد أعادني الصديق شاكر، للنشر والكتابة في موقع الحوار المتمدن، حسب رغبته ونواياه الصداقية الطيبة، وبطريقته الخاصة، بعد قطيعة طويلة نسبياً، بسبب عدم التسامع وعدم التفاهم على أمور ليست قاطعة أو هامة جداً.
تحية لأفكار واصرار وصبر وتفاؤل وعواطف الصديق الحراك، والى المزيد من الحوار اليساري الهادئ والمعمق والمثمر، الحوار الوطني الواضح، الذي يحلل ويشخص الحالة التي نمر بها، ليساهم في طرح برنامج عام للتحرر الوطني، في بلد يرزح تحت الاحتلال العسكري المباشر، ويعاني من التدخلات الأخرى والصراعات الدموية والفوضى والفشل، وشعب مهدد بصنوف الخراب، والمعاناة الرهيبة.
أننا بحاجة الى المزيد من المبادرات والجهود والأفكار الواضحة والأعمال الرصينة، التي ستقود  في النهاية الحركة اليسارية الوطنية الى مواقعها الأثيرة بين الناس، وفي قلب الأحداث العاصفة التي يمر بها شعبنا ووطننا.
إن الصوت اليساري الوطني، الرصين والسليم، سوف يشق طريقه الى أسماع الناس، ويصل الى هدفه النهائي كالعادة.

أحمد الناصري




14
المنبر الحر / المأزق التاريخي
« في: 16:28 24/05/2008  »
المأزق التاريخي

أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com

( المأزق) في اللغة هو المضيق، والموقف الحرج والخطير، وجمعه مآزق، و( المأزق التاريخي) هو محصلة تجمع وتلاقي المآزق وتبلورها في شكلها التاريخي النهائي. وهو مفهوم سياسي توصيفي، مانع وجامع للحالة النوعية الحرجة وشبه النهائية التي يمر بها بلد ما او قضية ما أو مجموعة بشرية، ودخولهم في مضيق صعب وحرج. وقد مرت به دول وحضارات وشعوب كثيرة عبر التاريخ، بعضها صمد وتجاوز المأزق- المضيق، وبعضها انهار وتلاشى من الوجود، وكل حالة لها أسبابها وعواملها الداخلية والخارجية ومنطقها الخاص، الخفي والعلني.
 وهذا المفهوم ينطبق تماماً على الحالة التي يمر بها بلدنا وشعبنا، ويعطي أداة تحليلة فعالة للفكر السياسي الوطني، ويوفر فرصة معرفية كبيرة لبحث وتحديد طبيعة هذه الحالة وحجم الكارثة، وتحديد الأسباب الأسياسية ( للمأزق) الذي وصلنا أليه ونمر به الآن. ويمكننا من خلاله تحليل وتفكيك جوهر حالة الاحتلال، بأعتبارها العامل الرئيسي الذي خلق المأزق التاريخي، ونتائجة الخطيرة الأخرى، ونتابع كيف تحولت دكتاتورية متخلفة الى أحتلال عسكري أستعماري مع أطلالة القرن الجديد؟؟ في بلد هام مثل بلدنا، وفي منطقة استراتيجية، لا تزال في طور التحول والتشكل، تتلاعب بها عوامل داخلية  مقيدة وخارجية غريبة عنها. وكيف لنا توصيف ( الأزمة الكلية) التي نمر بها، وهذه الأزمة ليست كالأزمات العامة او الدورية والعادية الأخرى، التي تتعرض لها سلطة أو نظام سياسي أو حركة ما. نحن أزاء ( مأزق تاريخي) حقيقي و(أزمة كلية) شاملة، يمر بهما الجميع، ويشملا جميع الأطراف المتصارعة، كما يتوقف عليه ويرتبط به طبيعة وشكل ومصير الصراع في النهاية، وهذا ما نحاول كشفه وتبيانه في السطور القادمة.
الأزمة العامة والشاملة التي سبقت الاحتلال، وكادت أن تؤدي الى تغيير وطني داخلي طبيعي، او الى أي تغيير سياسي داخلي، مهما كان نوعه وتوجهه، لولا تخلف وعدم أكتمال العامل الداخلي، وتخلف فكره وقواه وأساليبه، وعدم قدرته على تثمير ازمة بل أزمات النظام السابق العامة والكبرى والمتتالية، تلك الأزمة أو الأزمات، الناتجة عن طبيعة النظام الدكتاتوري السابق وطابعة الدموي القاسي، وعموم العمل السياسي، هي التي قادتنا حثيثاً الى الدخول في المأزق التاريخي، بما يحمله من خسائر مرعبة وأحتمالات ومخاطر رهيبة، تهدد وجود الوطن برمته. ومن هنا تأتي وتنبع خطورة ( المأزق التاريخي).
إن تجليات الأزمات العامة السابقة،  المتجسدة في الاستبداد والقمع الشامل، والانفصال بين الناس والنظام، ومن عموم السياسات الرعناء السابقة، ونتائج الحرب العراقية الإيرانية الهائلة، وكارثة أجتياح الكويت وحرب الخليج الثانية، والتحرك الشعبي الداخلي في أعقاب الهزيمة والانسحاب من الكويت، والحصار الجائر والطويل الذي تعرض له شعبنا، وهو عامل ينطوي على أتجاهات  وتأثيرات مختلفة ومتناقضة، الى جانب مقومات وأساليب عمل وبقاء وأستمرار النظام السابق حتى عام 2003، كلها شكلت مقدمات وبدايات المأزق التاريخي الذي وصلنا أليه، أرتباطاً بوضع منطقتنا العربية، ودور المشروع الصهيوني التخريبي فيها، وسياسة أمريكا وخططها  العسكرية والنفطية فيها، خاصة بعد انتهاء ما سمي بالحرب الباردة. كل ذلك جرى ضمن الأستراتيجية الأمريكية وحلم قيادة العالم، وفق رؤية النظام العالمي الجديد، وخوض حروبها العسكرية والثقافية لتغيير المنطقة، وأقامة وفرض الشرق الأوسط الجديد.
لقد تجسد المأزق التاريخي الوطني بالنسبة لنا، بدخول جيش الاحتلال الأجنبي الى أرض بلادنا الوطنية، واخضاعها بالقوة العسكرية الغاشمة والسيطرة على جميع مقدراتها وسوقها حسب رغبات وخطط ونوايا المحتل. ومن خلال خطوات واجراءات أبرزها حل وتدمير الدولة ومؤسساتها واستبدالها بمؤسسات تابعة له تماماً أو تعمل تحت أدارته وتعليماته المباشرة، وفرض وتشجيع النموذج السياسي الطائفي، ومحاولة تفتيت المجتمع من خلال تصارعه الداخلي، وصولاً الى الحرب الأهلية، مما جعل  وجسد نموذج بشع للسيطرة الخارجية على أدارة محلية تابعة ومسلوبة الارادة، وهذا ينطق على جميع المجالات العسكرية والسياسية والأقتصادية والنفطية والاعلامية، ولم يبق مجال واحد خارج عملية السيطرة والتوجيه، ومن هنا تأتي خطورة المأزق التأريخي من الناحية الداخلية والوطنية، وكما يتجسد المأزق في التطبيقات والنتائج الرهيبة التي قام بها الاحتلال والتي تمثلت بالقتل الجماعي المستمر  والتهجير الواسع والاعتقالات العشوائية الجماعية وفتح السجون العلنية والسرية، والتخريب الواسع والمتعمد للحياة الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية والخراب المريع والشامل في البئية وحياة الناس وموارد العيش المباشرة، فقد تلوثت كل عناصر الطبيعة والوجود الطبيعي الحيوي، بفساد وتلوث الهواء والمياه ( الأنهار والمياه الجوفية) والتراب ( الأرض) وكل مصادر وانواع الغذاء الزراعية والحيوانية، وتدمير شبكة الخدمات الأساسية، والى جانب الحملات العسكرية المستمرة على المدن والمناطق المختلفة، ووصول حياة الناس المعيشية واليومية الى حافة الهاوية والانهيار والاستسلام لقدر أسود فرضه المحتل عليهم، وهذا يدخل ضمن خطط التركيع والاذلال وفرض السيطرة على كل شيء كمقدمة لاعلان النصر. من هنا علينا أدراك وتسجيل حجم الكارثة التي تعرض لها وطننا بعد الاحتلال، والأرقام والأحصائيات مخيفة ومرعبة في معدلاتها.
في تلك اللحظة القاتمة ( لكنها ستصبح نادرة) التي فرضها المحتل على شعبنا وبلادنا، والتي تصور انها ستدوم الى زمن طويل، او الى زمن كاف له، نهظت عوامل الرفض والتمرد والمقاومة والبقاء، امام عملية الحشر والعزل داخل المأزق التاريخي، وأنقلبت المعادلات التي أراد تطبيقها العدو، وأدخل الى المأزق بسرعة خاطفة، وراح يغرق تدريجياً في أوحاله الحامضة، حتى احس واعترف بوضعه، وبدأت مؤشرات عدادات الخسائر البشرية والمادية الهائلة تصعد الى الأعلى من دون توقف. من هنا بدء العمل والأمل، وبدء تلاقي التاريخ والثقافة والتراث والقرار والعواطف والأرادة الوطنية مع أدوات التطبيق، وبدء الصراع وتجدد على أساس أطراف متعددة، وليس طرف واحد يتصور ويتوهم بقدرته الخارقة لفرض أرادته على الناس في بلادنا وفرض نمط رهيب عليهم أسماه ديمقراطي وجديد أيضاً. علماً بأنه لا يوجد احتلال قانوني في التاريخ، كما لايوجد احتلال اختياري وطبيعي، لذلك لا يمكن أن يكون ديمقراطي وشرعي ونافع مطلقا، وهذا مأزقه التاريخي الرئيسي والأول، ومن هنا يأتي فشله وعدم شرعيته وعدم ديمومته دع عنك قبوله. هذه العوامل الأساسية تخلق الأرضية الأولية الصلبة لرفض ومواجهة الأحتلال.
هذه الحالة المستعصية، التي وصل اليها الجميع بسرعة كبيرة،  وفي وقت واحد تقريباً، هي التي ستقرر وتحدد المواقع والأدوار حسب تعبيرنا وتوصيفنا للمأزق التاريخي الذي تمر به بلادنا والاحتلال على حد سواء، وهو مستمر منذ الحرب ونجاح الاجتياح الذي بدا سهلاً ومغرياً، مما سهل تورط العدو، ومن ثم فقدانه القدرة والأوراق واحدة بعد الأخرى، لفرض سيطرته وتنفيذ مشروعه الذي أتى به، وقيام منطق آخر، وهو منطق تاريخي وطبيعي في أغلب حالات الاحتلال والتدخل الخارجي، من خلال رفضه ومقاومته بأعتباره عنصر خارجي، مما يعني انه غريب بالضرورة، خاصة بالنسبة لشعب عريق، يملك كل مقومات التكوين الوجود المستقل.
الآن أصبح لدينا مشروعين، الأول هو مشروع الاحتلال المأزوم والمتراجع، والثاني هوالمشروع الوطني الداخلي، الصاعد بأمكانياته وطاقاته الوطنية وأوراقه المتعددة، وصولاً الى بقاء المحتل في المأزق التاريخي وأنتصار المشروع والبرنامج الوطني وتخليص شعبنا ووطننا في النهاية من مأزقه. هنا دار ويدور الصراع الدامي وتعددت أدواته وأساليبه، وهنا سيحصل التحول النوعي في المواقع والأدوار.
عندما يدفع شعب ما الى مأزق الموت الضيق، فأنه سوف يدافع عن وجوده ومصيره بكافة الوسائل والأدوات، كرد فعل طبيعي، دفاعاً عن مصالحه وقيمه الوطنية، وعندما يقترب من النصر، ويدفع عدوه الخارجي ويحشره في المازق، عندها لا يوجد خيار او طريق أمام العدو غير الهروب والإنسحاب الى خارجه الذي أتى منه، يلاحقه العار والشنار ولعنة التاريخ. وهذا ما يحصل للعدو في بلادنا حسب مؤشرات ودلائل كثيرة يلعب فيها الوقت دوره، ويقول حكمته الواضحة للعيان.
لا أريد تناسي أو تجاوز الأدارة المحلية التابعة للأحتلال والمعينة من قبله، والموجودة بسبب وجوده، فهي دخلت المأزق بالتبعية وضمن مشروع الاحتلال نفسه، الذي يلغي ويمسخ شرعيتها الوطنية، وهي عبارة عن أضحوكة سمجة، ونموذج طاريْ ومؤقت، وصاحبه دور ثانوي وهامشي بالمعنى الحرفي للكلمة بكل ما يجري، يتسم بالعجز والفشل، قبلته من خلال صفقة مشينة وذليلة، لتبديل الأدوار والمواقع حسب خطة المحتل، وحسب خيالها وانجرارها الخاطيء والمدمر. لكنها تواجه في الوقت نفسه معارضة كبيرة ومتصاعدة، معارضة سبقتها وسبقت تشيكلها، من خلال تصديها للحرب والاحتلال، وهذه المعارضة تمتلك وسائل قوية ومؤثرة لإيصال صوتها الى الناس، مما يجعل الادارة المحلية خائفة ومذعورة، تطلب الحماية المباشرة من المحتل، من خلال معاهدة النهب والحماية الدائمة، ويسبب لها ذلك أحراجاً جديأ، وفضيحة على جميع المستويات، في ضوء تهافت خطابها  الأعلامي الطائفي أو الديني السياسي المتخلف، ولن تنفعها الدعاية الوهمية والأحلام المتهرئة، العريضة والمريضة التي يطلقها ويلوكها البعض، والوعود والكلام الفارغ عن خطط وانجازات قادمة بين طيات المشروع الطائفي، وفي ضوء الصراعات والفضائح والتحديات التي تعصف بالأدارة الهشة. ونحن هنا نتحدث عن دور الادارة في صنع القرار، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال عدم مسؤوليتها  السياسية والقانونية والأخلاقية عن أستمرار جريمة الاحتلال، وعن كل الجرائم الكبيرة والصغيرة الأخرى.
الحراك الوطني الداخلي كبير وواسع ومتعدد وعميق،  وهو غير منفصل عن تاريخنا الوطني، وله محركاته العديدة، ويأخذ أشكالاً سياسية وفكرية وثقافية ونقابية وأجتماعية، يعجر المحتل أو ادواته المحلية من السيطرة عليه وأبتلاعه بسهولة، تسانده جموع كبيرة ( ملايين الناس) في الخارج، وهو يحتاج الى تأطير وطني. من هنا تتجسد وتبرز أهمية البرنامج الوطني، بأعتباره الخطوة الرئيسية المطلوبة لتحديد طبيعة الوضع الحالي وطبيعة المهام الأساسية المطلوبة وأساليب العمل والمواجهة الوطنية.

15
المنبر الحر / اليسار الآن
« في: 19:10 22/05/2008  »
اليسار الآن
أحمد الناصري
Alnassery3@hotmail.com



في البداية أود أقتراح هذا العنوان ( اليسار الآن) للدخول في معالجة مسألة اليسار، والحديث الرحب والمعمق عن اليسار، وعن حالته الراهنة، وكيفية استنهاضه، وهو أخف وأرق وأقصر من عناوين كثيرة متداولة. كما يتيح هذا العنوان المختصر، الحديث عن أزمة اليسار الآن بالتحديد، وعن تبعثره وضعفه، والمهام والخطوات الأساسية المطلوبة للنهوض به، للمساهمة الجادة والكبيرة، في معالجة الكارثة الرهيبة التي يمر بها شعبنا ووطننا، للتخلص من براثن الاحتلال الأمريكي، وتبنيه للطائفية السياسية، وضرب الروح الوطنية الحديثة، بأعتبارها المهمة الرئيسية الأولى التي تواجهها بلادنا، من خلال برنامج عام للتحرر الوطني، ومعالجة وحل المشاكل التي تعصف بحياة الشعب ومصير الوطن.
لا يزال اليسار يثير عاصفة من الجدل الحامي المتزايد، حول أزمته وسبل معالجتها، وربما يشكل ذلك الجدل والبحث في حالة اليسار جزء من الأعتراف به وبدوره والحاجة الموضوعية أليه، والعمل الجاد لعودته بعد غياب قسري تعددت أسبابه. كما إن عملية المراجعة والنبش في الماضي اليساري، من خلال نقده، ليست عملية مضرة أو إنها بلا طائل ولا جدوى، اذا ما ربطت بالحاضر والمستقبل. لكنها تكون مرضية وضارة، عندما تجري عملية ربط الحاضر بالماضي، وشده أليه بشكل تعسفي ومفتعل، او جر الحاضر الى عقل الماضي  وربطه بأساليبه وظروفه، وفرض شروط  وأحوال الماضي عليه، او الجلوس في كهوف الماضي، ورفض مغادرتها. وتلك معضلة تاريخية تتعلق بمنهج التفكير، ولا تزال بعض الحركات والشخصيات تلجأ اليها وتتمسك بها، على عكس الواقع وحركته الدائمة، ورغم كل شيء، ورغم كل المعطيات المتغيرة. إن الماضي، وبعد لحظة واحدة من مغادرته يتحول الى درس وذكرى تجاوزتها الحياة، وهذه ليست دعوة لآلغاء الماضي فهو موجود ولا يمكن الغاءه، لكن السؤال كيف نستمر ونعمل اليوم وغداً.
نبدأ بأسئلة أساسية وموضوعية، حول دور اليسار وواجباته وأمكانياته وعمله ومستقبله. فهل هناك حاجة لليسار في مجتمعاتنا وحياتنا السياسية الآن؟؟ وهل اليسار قادر على ترتيب أوراقه من جديد، والعودة والتواجد الكبير والمؤثر، في ضوء التغيرات الكثيرة المعروفة؟؟ وماهي المشاكل الداخلية، الفكرية والعملية التي تواجه اليسار أو تمنع عودته الكبيرة حتى الآن؟؟ هل تأخر اليسار في العودة المطلوبة، وهل هناك ظروف قاهرة تمنع العودة؟؟ ربما تساهم حزمة الأسئلة الأساسية هذه وغيرها من الأسئلة التي تنبثق في سياق البحث والنقاش، والأجوبة عليها في كشف ومعالجة جوانب معينة في وضع اليسار الآن في بلادنا، وتشخيص سبل النهوض به.
حركات اليسار، بأعتبارها حركات أجتماعية مجددة ومتجددة، بما تحمله من أفكار وأهداف وطنية وحداثية متنوعة، وبما تملكه من رؤية وحلول للمشاكل التي تواجهنا الى جانب الخبرة العملية، وأكتشافها لأساليب عمل جديدة ومتطورة، وقدرة على أجتراح المئآثر الثورية، تبقى في قلب الحركة الفكرية والسياسية وتتفاعل وتنتج التحولات الاجتماعية، في بلادنا وفي كل البلدان، المتطورة والمتخلفة. وهي تتبنى في العموم الفكر السياسي النقدي التغييري، الذي يعطيها القدرة العالية والمستمرة على العمل. وتستفيد من الماركسية والنظرية الاشتراكية وقضية العدالة الاجتماعية والوقوف ضد الظلم بكافة أشكاله، وضد الاستعمار والاستغلال والتبعية، وتفتح آفاق واسعة للتحرر والتقدم، وتدافع عن حقوق الانسان والمرأة، والفئات الفقيرة والكادحة والمفقرة.
إن قدرة اليسار في البقاء والأستمرار، متأتية في حالات وتجارب عديدة، من قدرته على التحليل وأكتشاف أساليب متقدمة ومتطورة في العمل الوطني والجماهيري والثقافي، بسبب طاقته الداخلية وحراكه الدائم، ووجود وصعود وانجذاب طاقات شابة ودماء جديدة، الى صفوفه بصورة دائمة.
هل لازالت هذه الموصفات والقدرات موجودة ومتوفرة في حركات اليسار اليوم في بلادنا، ام انها تلاشت وأندثرت بشكل نهائي، بسبب الأستبداد والدكتاتورية والقمع الدموي الطويل، وتغييرات وتشوهات أجتماعية وسياسية ونفسية كبيرة، وظروف وأخطاء داخلية وخارجية معروفة؟؟ أعتقد إن كل شيء كامن في أعماق التجربة وحواملها، ويمكن لأساليب وأفكار معينة أن تتقادم وتصبح لاغية وغير صالحة، بعد ان تحل محلها أفكار وأساليب وطاقات جديدة، وفق المنطق الطبيعي للحياة.
إن الحاجة الى اليسار الوطني العراقي، شديدة وكبيرة، لأسباب عديدة منها محنة الاحتلال التي يواجهها شعبنا ووطننا، والخراب والفشل السياسي الذي يمر به الوضع الحالي، والفراغ السياسي الموجود حالياً، والعودة الواضحة والكبيرة الى الموقف الوطني العام والموحد والتمسك به، والنتائج المدمرة للحرب والاحتلال، وفشل كل المشاركيين في العمل السياسي الحالي، في حل المشكلات التي تواجه الناس، بل هم جزء رئيسي من المشكلة وليس من الحل، نتيجة تبعيتهم للاحتلال وطائفيتهم المقيتة وتخلفهم ودمويتهم وفسادهم. مما يتيح لليسار الوطني، أن يساهم في طرح البدائل والحلول الوطنية المطلوبة.
لا يزال الشعب العراقي يواجه ويقاوم حملات وموجات التفتيت والتمزيق العاتية التي تعرض لها، وهو متمسك بوطنيته العميقة والراسخة، مما يسهل قضية طرح البرامج والخطط والأفكار اليسارية الوطنية بسهولة كبيرة، وبثها ونشرها من جديد في تربة لا تزال صالحة ومعطاءة. وهذا هو الواقع الذي نعتمد علية ونتحرك فيه بالأساس. وهذه النقطة ليست ثانوية أو عابرة، بل هي الركيزة الأساسية في العمل الوطني الحالي.
التجربة اليسارية في البلدان المتخلفة والضعيفة التطور، تختلف تماماً عنها في البلدان المتطورة، في المهمات التي تواجهها وطرق وأساليب العمل، حيث إن ثقل التخلف والتخليف والتقاليد تجعل من التحرك اليساري يسير في وسط شائك ومعقد ومتداخل، وتظهر أشكال لا تخطر على البال، يجب معالجتها والتعامل معها بدراية. فهنا يمكن أن تظهر يسارية وماركسية ( عشائرية وقبلية) كما في تجارب اليمن والصومال وأثيوبيا وأرتيريا وبعض المنظمات في كردستان/ العراق. ونواجه دائماً القمع والاستبداد المنفلت الذي يدق ويسحق لحم وعظام اليسار، ويجعله في حالة نزف دائم لطاقاته، تمنع عملية التدريب والتدرج الطبيعي والتراكم المطلوب في العمل.
إن عملية عودة اليسار القوية حول العالم، وأصداءها الرائعة، من خلال تجارب جديدة ناجحة، وعبر تجديد أفكاره وأساليبه، وبسبب تفاقم المشاكل القديمة والجديدة ووصولها الى مستويات غير معقولة او مقبولة، بسبب سياسات النهب والاستغلال الراسمالية، حيث تتفاقم مشاكل التخلف والتبعية والفقر والجوع والغلاء والتضخم، ومشاكل المرأة والطفل، ومشاكل البئية والهجرة، يعطي الأمل لليسار في بلادنا لطرح أفكاره وبرامجه.
دعونا نلتقي لقاءاً عاماً، لقاءً صداقياً. دعونا نلتقي على مواقف عامة صغيرة وبسيطة، ربما تتطور وتكبر. دعونا نلتقي في مائدة حوار مفتوحة، للسماع والتعارف والتعاون التدريجي من البيسط الى المعقد، وتبادل الخبرة والآراء والتجارب، دون أن نخشى الأختلاف والتباين، فهو من طبيعة الأشياء. فقد مر وقت طويل على التباعد والتشرذم وعدم اللقاء، وغياب ثقافة السماع البسيطة. كما مر وقت ثمين في زمن الاحتلال، وهو زمن دامي وقاسي وغير طبيعي، زمن استثنائي بكل المقاييس.
 إن قضية الاحتلال وحدها تتطلب منا التحرك السريع في الداخل والخارج لطرح صيغ جديدة مقبولة في حدها الابتدائي للتحرك والانطلاق الأولى ثم نرى النتائج، التي أتمنى أن تكون كبيرة وهامة. بينما سيكون التردد والآنتظار المفتوح، بلا جدوى ولا فائدة، في جميع الاحوال، وهو نوع من الخسارة والنزف والتوقف الغير مبرر في أحيان كثيرة، ونوع من الانتظار السلبي لظرف مثالي لا يأتي من دون عمل أبداً.
اننا بحاجة الى برنامج عام للتحرر وطني، بأفق وطني ديمقراطي واضح، لبلد يقبع تحت الاحتلال العسكري الاستعماري المباشر، وهذه لحظة نادرة لليسار الوطني الديمقراطي، كي يصب خبرته وتجاربه التاريخية المعروفة، ويساهم في سد الفراغ الراهن. علينا انجاز هذه الخطوة الاجرائية بسرعة، والانتقال الى خطوات عملية وتطبيقة كثيرة أخرى، للمساهمة في التصدي للحظة الوطنية الخطيرة التي نمر بها الآن، لحظة الاحتلال والارهاب والدم والموت والتدمير والتخريب والفساد والتفتيت والتشوية العارم لكل شيء، التي يعيشها شعبنا ووطننا.

صفحات: [1]