شيء من تاريخ القوش
كتبه ونظمه شعراً المعلم الشماس : إيسف رئيس
أعاد كتابته وأنشده الشماس : صادق برنو
نقله حرفياً من السورث إلى العربية: جلال برنو القوش تلك البلدة العتيقة ، المذكورة في سفر النبي ناحوم ، الرابضة على سفح جبل عالٍ ، عامرة قبل أيام النبي ناحوم .
قدم أليها النبي ناحوم في القرن السابع قبل مجيء المسيح الملك ، حيث شيد له هيكلاً ليؤدي فيه صلواته بكرةً وأصيلا .
سرّت القوش به وبمار ميخا النوهدري وبالشهيد مار قرداغ الآربائيلي وكذلك بالربان هرمزد الفارسي .
ألقوش : هوذا ناحوم النبي أبنك وهوذا النوهدري حاميك ومار قرداغ الشهيد حارسك والربان هرمز ساكن في جبلكِ .
في القوش كتب ناحوم نبوئته حيث تنبأ بخراب نينوى ، وحفر قبره في ثراكِ ، وأدرج أسمكِ في طقوس البيعة المقدسة .
ربان هرمز المتزهد ، جاءكِ برمز ملائكي ، بنى عشه في الجبل الاشم ، ذلك الناسك الفارسي .
وكذلك مار ميخا النوهدري ، الذي كان زاهداً في البراري ، بُعِثَ من قبل الرب ليذهب إلى القوش ويصبح لها راعياً .
وفيما يلي استذكر الآباء :
أستذكر أولئك الآباء الذين عملوا وأجتهدوا لصالح البلدة ، أولئك الرِجال الغيارى ، بهمتهم وتفانيهم رفعوا من شأنها في الجبل كما في السهل .
أستذكر أولاً رجال الدين الروحانين الذين عملوا بكل سرور ، حيث خدموا ألقوش بالجسد والروح كما خدموا كنيستهم بحب غامر .
بطاركة آل أبونا ، أولئك العظماء الممجدين المقدسين بحكمتهم ، أحسنوا التدبير طيلة أربعة قرون بالتمام والكمال .
آخرهم البطريرك حنا هرمز ، ذلك الراعي الصالح الذي تبع كرسي روما ، الناذر ذاته لخدمة الرب .
خَلَفَهُ يوسب أودو الذي إتخذ من الموصل مقراً لكرسيّه ، أحبه الشعب ، أطاعهُ وخدمهُ .
بيت آل أودو ذلك البستان المثمر ، أكرمنا بأسقفين ذوي علم ودراية في زمن واحد ، ووالدهم ذلك الكاهن الموقر .
توما و إسرائيل شقيقان ، إرتقيا إلى درجة الأسقفية ، حيث كان إسرائيل أسقفاً على ماردين العصية وكان مار توما أسقفاً على أورميا المترامية الاطراف .
البطريرك مار عمانوئيل …عظمته كتلك التي لشموئيل وتدبيره كتدبير موسى لبني إسرائيل ومثل دانيال بعفتهِ .
مار طيماثيوس الراهب الذي من ألقوش ..بلدة النبي ناحوم ، تم إختياره أسقفاً على أبرشية زاخو في أقليم نوهدرا .
-2-
القس سطيفان أصبح اسقفاً لأبرشية الموصل لتَعتمِرْ … ومار بولس بالرغم من صغر سنه نُصِّبَ أسقفاً على منطقة زيبار وعقرة .
ثم إرتقى إلى مراكز هامة حتى إعتلى كرسي البطريركية ، شيد كنائس وأديرة ومدارس كثيرة .
برز هؤلاء المخلصين والمعلمين ذوي الخبرة والدراية ، نظموا التراتيل والترانيم حتى ذاع صيتهم في جميع الأزمنة .
الأب إسرائيل المعلم والأب كوركيس من بيت يوحانا والقس دوميانوس المحبوب ، كواكب الشرق الساطعة بعلومهم وآدابهم .
عائلة بيت هومو ، مصنع الكهنة الضليعون بالقوانين والعلوم كتبوا التراتيل والمراثي(المداريش) لمناسبات الصوم والسباعيات وصلاة المساء (الرمش) .
آل هومو ، أولئك الكتبة المهرة ، أسماؤهم تملاْ الكتب بسبب عملهم الدؤوب وسهرهم اللامحدود ، ناذرين ذواتهم ، منكبين على الكتابة والتأليف .
ألقوش أنجبت مؤلفين ، بفضل أقلامهم ذاع صيتها ، وهذا هو سبب عزتها وفخرها اللذان لا يقوى أحد أن ينتزعهما منها .
رابي رابا في المقدمة ، مغارته في صدر الكَلي ، خَلَفَهُ بن عطايا والقس هومو .
تبعهم في الأزمنة اللاحقة مؤلفون قديرون ، منهم القس إيليا المحبوب والقس أوراها شكوانا الضليع بالطقس والقانون .
الشماس إيسف أبونا ، الكاتب الهاديء الوقور ، والخطاط بولس قاشا الساكن في الكهف ، كان يخط وهو صامتاً ومتأملاً .
والآن أستذكر الرؤساء الذين باتوا لألقوش مدبرون حيث جنّبوها المتاعب حتى إنكسر أمامهم الأعداء .
هرمز كورو من بيت الرئيس العريق على رأس اللجنة ، تسلّم مفاتيح الدير العالي من بيت أبونا بحكمة وشكيمة .
جذب نحوه الرهبان...أحاطوا به وصاحبوه إلى الدير العالي فألبسهم (ألأسكيم) وثبتهم حتى سَعد به أهالي ألقوش .
يؤازره في ذلك الأب جبرائيل دنبو الذي كان يقصده في الكَلي ويساعده في السر والعلن ، يشجعه ويشد من أزرهِ .
خَلَفَهُ إيسف رئيس الذي إختاره الرب وأحبه كما أحب داؤود وأحب قلبه الطيب وكان قد إعتلى مركز الرئاسة في القوش .
وهو الذي إنتزع أملاك الدير حيث أعادها إلى الرهبان وبهذا أطاعه أهالي ألقوش وأحبه جميع أبناء الرعية .
إنتخبه أهالي ألقوش رئيساً لهم ...بحكمتهِ كان ينصف كل إنسان ...وكانت له مكانة متميزة وتأثيراً بالغا حتى في تنصيب الأغوات .
كانت له خصال مستحبة وشخصية كارزمية وهو الذي جعل الوئام والسلم حتى بين صفوف الأشرار ، وهكذا شاع خبر أعمالهِ وخصالِهِ الحميدة وراحت تستذكرها الأجيال حتى يومنا هذا .
-3-
أهالي ألقوش تمعنوا في تفحصهِ ، فأيقنوا أن الطمع عدوه ُ...ولقبوه بالأب الموقر العزيز وأبدوا له الطاعة كما يطيع الأبناء آبائهم .
وعندما حاز على الأراضي واضعاً يدهُ عليها , قام بتوزيعها ، فمنح تلك القريبة من البلدة إلى الأهالي وترك تلك البعيدة لأقربائهِ ... وبهذا إزداد حب أهل القوش له وتعلقهم بهِ .
بينما غضب أخاه ججو بسبب طريقة توزيعهِ للاراضي وصارح أخاه إيسف قائلاُ : " إنما صنعت ذلك لأنه لا أولاد لديكَ !!! "
أجابهُ إيسف بكل طيبة وهدوء ...إنما الله في هذه الدنيا يهِب الانسان هبةً معينة .
أخي ججو : أنت تسعد بأبناءك اللذين لا يطيعونك ولا يستمعون إليك ، لكنما الذي عندي ، ليس لك مثلهُ... لذا فإن الهبة التي وهِبَت لي ، لهي أعظم من تلك التي عندكَ .
لأن الرب خلقني وفي قلبي حباً عظيماً يُمّكنني من خدمة شعبي حيث أن كل فرد منهم هو بمثابة إبناً لي ....
حوادث الزمن-1 :
كان في القوش أسواقاً و(خانات) ودكاكين ، يقصدها من كل حدب وصوب تجّار ، باعة ، مشترين ومستهلكين .
في أحد الأيام قَتَلَ التخوميون (نسبةً إلى أقليم تخوما الواقع في جنوب شرق تركيا) شخصاً من الأرتوشيون (أرتوشنايى) وبسبب فعلتهم هذه ، دبً الخوف في قلوبهم ولم يجرؤا أن يخرجوا من ألقوش تحسباً من أعدائهم الأرتوشيين الذين أخذوا يتربصون بهم للنيل منهم .
ومن أجلهم إنتفض إيسف رئيس كالأسد ، يدهُ مشدودة إلى يد الرب لينجي هؤلاء المستغيثين بهِ من قبضة أعدائهم .
قَدِمَ إلى دارهِ أربعون رجلاُ تخومياً...تناولوا طعام العشاء معه وتركهم ليباتوا ليلتهم في الكنيسة ، وفي هذهِ الاثناء باتت ألقوش محاصرة من قبل عشائر الكوجر .
أقبل احدهم يصيح (هاور...هاور...) يستغيث ويستنجد بِ (الأب) إيسف الموقر ويخاطبه : أنظر ناحية الجبل ...إنهم قد إتخذوا مواقعهم وإن القتال أصبح وشيكا لا محال .
فرّد عليه إيسف الأب الوقور بهدوء ورباطة جأش قائلاً : لا تخافوا يا أبنائي ، بل إتخذوا مواقعكم في ال(قرزى)* وأنا سأكون معكم ولسوف ينردع الجميع من أمامكم .
ويبنما كان يتناول العشاء ، سمع صوتاً يصرخ ويخبره بأن الأغوات في الباب الخارجي وقد جاءوا في طلب أعدائهم المختبؤون في البلدة .
فجاء صوت إيسف من الداخل يقول : تريثوا أيها اللأغوات ...ها أنا قادم للقاء بكم وبإمكانكم ان تعرضوا عليّ مطلبكم ! لا تبرحوا المكان , أني قادم ...إسألوني وتحدثوا إليّ عن كل ما يجول في خاطركم .
فأجابوه : لا نريدك أن تغضب علينا ، فكلنا ملتزمون بقرارك ، فقط سلًم لنا أعداءنا وصنيعك هذا سيكون عظيماً وموضع تقدير .
أما هو فقد تناول الخيزران بيده وصاح : إبقوا في مكانكم ...ها إني قادم وعندما شاهدوه قادماً غاضباً مرعباً...فروا من أمامه وولوا هاربين .
-4-
إنسحب الأغوات ورجالهم وإجتمعوا في (خَبره)** محلة بيت أودو ، ومن هناك بعثوا إلى إيسف رئيس يطالبوه بضرورة تسليم اعدائهم التخوميون ، فخرج لملاقاتهم وهو في حالة غضب .
في خلال هذه الأحداث تسلح شباب القوش الغيارى ، وطالبوا رئيسهم أن يعود إلى دارهِ قائلين : عُد أيها الرئيس ولا تفقأ عين البلدة لأن لألقوش عين واحدة ...
أما هو فأجابهم : دعوني أذهب إليهم يا أبنائي ، فقط أطلب منكم ان تتابعونني وتنظروا إليَّ ، فإذا ما رفعت العصا ضارباً فإضربوا بشدة ولتزهق روحي معهم ...
وعندما إقترب منهم ، نهض الجميع إحتراماً لهيبتهِ ، ووضعوا أيديهم فوق رؤوسهم وشرعوا يرجوه أن يغفر لهم .
اما هو فبحكمتهِ أقنعهم ونصحهم أن يرفعوا دعوى ضد أعدائهم ، لتقوم الحكومة بتقديمهم إلى المحكمة ، وهكذا تمسكوا برأيهِ وعملوا بحسب مشورتهِ .
بعد ذلك ، عاد إلى التخوميين وطلب من كل واحد منهم أن يدعي ويعترف بملئ فمهِ بأنه هو القاتل وحذرهم من الإنكار ، وهكذا سوف لن يكشف عن القاتل الحقيقي .
اربعون رجلاً تخومياً شُدّ وثاقهم ، سيقوا إلى دهوك برفقة العزيز إيسف وهناك تركهم ... وبعد أن برأتهم المحكمة ، عادوا إلى ألقوش تغمرهم الفرحة والغبطة .
وكان إيسف قد أخرج من كيس نقودهِ أثنتا عشرة ليرة ، كرّم بها أفراد الحكومة وغطى جميع نفقاتهم وأعادهم إلى ألقوش سالمين آمنين .
في تلك الليلة باتوا في ألقوش وفي صباح اليوم التالي تناولوا فطورهم مع الرئيس وكشفوا عن خوفهم وطلبوا منه أن يُّعيِّنَ من الالقوشيون من يصاحبهم لحمايتهم .
وبناءً على طلبهم دعا حنا وميخا وطلب منهما أن يرافقوهم إلى تخومهم لئلا يعترضهم أحد في الطريق .
إستجاب الرجلان على الفور ...أكملا المهمةعلى خير ما يرام ، ثم تركوهم بأمن وسلام بين أهلهم وذويهم والفرحة الكبيرة ظاهرة على وجوههم .
أنظري يا ألقوش بعين يغمرها الحب ، تأملي هذا الرجل العظيم الذي طالما خدمكِ كأب حنون ، فلا تمحي البتة ذكراه الطيبة المحفورة في أخاديد القلوب .
هذا الرجل كان من رجالات الله ، لم يكن يشعر بالفرح ولكنه كان يعشق خدمة بلدتهِ وبهذا كان قلبه ينشرح وتملآ روحه سلاماً وغبطةً .
لم يكن ليستريح لا ليلاً ولا نهاراً ... متأملاً متفكراً ببلدتهِ ألقوش يرمي دائماً إلى إعلاء شأنها ونشر إسمها بين الملل .
له أُهْديَتْ هذه الهِبة الجليلة لتدبير شؤون البلدة العريقة حيث كانت يد الله الجبارة معه دائماً .
وإن إيسف يلدكو دعاه مستقيم وطاهر مثل داؤود المستقيم ...حقاً كان هذا الرجل البار مدعاة فخر عظيم لألقوش الأبية .
كلمة داؤود التي كالبرق ، قالها وبإيسف تليق عبارة ( ܕܟܪܢܐ ܠܥܠܡ ܢܗܘܐ ܠܙܕܝܩܐ): " ذكر الصّديق يبقى إلى الأبد " لا يُنسى ولا يمحى من ذاكرة اللأجيال .
-5-
قبل ان يودع إيسف عالمنا هذا قال : أيها الإخوة ... أكشف اليوم عن سر لطالما حفظتهُ في قلبي : عندما كنت أرى شباب ألقوش بلدتي ، كانت الفرحة تغمرني ويزهى جبيني وترتفع هامتي ...
ولكي لا ينتابني الغرور، كنت أحني رأسي وأرنو إلى الرب وأتذرع إليه وأقول : إحفظ (أبنائي) ... ليس لي إنما لكَ أيها الرب إلهي .
أيها الرب إحفظ هؤلاء الشباب ليسّبحونك ، اما أنا فلا أطمع أن يعلو شأني ...أقدم روحي قرباناً يا رب ، فقط إحفظنا لنسبحكَ ونعمل بمشيئتكَ .
أدار وجهه إلى شقيقه القس متى ونظر إلى حنّا إبن أخيه وبأفراد عشيرتهِ وشرع يتلو عليهم وصيتهُ قائلاً :
إنصتوا وإسمعوا يا أهلي وناسي ، إنني سأموت ولا أملك شيئاً لا بنين ولا بنات لتعيلوهم بعد مماتي .
إنما الشيء الأعز عندي لتخدموه بعد موتي هي بلدتي ...أي أن تحبوا ألقوش كما أحببتها ، أحبوها وأكرموها وبفعلكم هذا تريحوا عظامي .
لا تٌحزِنوا أهلها ولا تضطهدوا الفقراء ولا تقاضوا أجراً مقابل حسن صنيعكم وبهذا تكرموا قبري
هذه هي وصيتي ، أحبوا ألقوش لأجلِ قبري ، وكل من يزدري بوصيتي وكلماتي هذه ، ليس من جنسي ولا من دمي ولا يمت إليّ بصلة .
ولمّا سمع حنّا كل هذا الكلام ، وضع يده على خدهِ وأجهش بالبكاء حيث أدرك أن ساعة موت عمه قد دنت ، عندئذٍ قبل يده وعاهده قائلاً :
إطمئن يا عمي فسوف نعمل بكل ما أوصيتنا إياه وسوف نحب ألقوش كما أحببتها ، نكرم إسمها بحسب وصيتكَ ولسوف نخدم أهلها كما هي مشيئتكَ .
وهذهِ كلماته اللأخيرة : أيها الرب إلهي ...إرعَ ألقوش بعد مماتي ، لأنه ليس لي أعز منها لأسلمه لك قبل رحيلي .
تلك كانت الكلمات العظيمة الصادقة ، نطق بها بحضور الوجهاء ... اما الكلمة التي تجمدت وإستقرت على شفتيهِ كانت " ألقوش" .نطق بها بينما كانت دموعهُ تنهمر مدراراً من عينيهِ اللتان لم تعد تقوى على لحمل أية صورة أخرى سواها .
كل محب يرغب في معرفة تاريخ بلدتهِ ، ليتذكر هذا الرجل ويشركهُ ويشرك آباءه وأجداده في صلاتهِ .
كل ألقوشي مزيّن بالمروءة ...لو سمع أي كلام يسيء إلى هذا الرجل ، ليوبِّخ قائله بقسوة ...
يا سامعي هذهِ القصة ، تأملوا بعين نقية بعيداً عن الحسد وسوء النية ، تأملوا إيسف رئيس الرجل البار والراعي الصالح .
حوادث الزمن-2 : عندما فرغت المخازن من الغلّة ، دعا الشيخ نوري المزوري عشرون رجلاً من الزيدكية ليجلبوا الغلّة من القوش .
وهكذا خاطبهم : أيها الرجال إذهبوا إلى ألقوش وإجلبوا لنا من غلتهم الجيدة عشرة أطغار ومن يعترضكم إقتلوه في الحال .
-6-
حل الرجال المأمورين في بيت إيشوع بانو وسلّموه رسالة الشيخ نوري ...ولما عرِف مأربهم ، طلب منهم أن يصطحبوهُ إلى بيت آل الرئيس لمقابلة القس متى وعرضْ الامر عليهِ .
ولما دخلوا بيت القس متي ، شرع إيشوع يخاطب القس قائلاً : رابي ...هؤلاء العشرون رجلاً قدموا إلينا يطلبون غلّةً بدون مقابل وإن شيخهم يطلب منا عشرة أطغار من الحنطة وإذا ما رفضنا طلبه سيكون القتال .
لذا قررت أن أتبرع وأساهم بخمسة أطغارٍ والخمسة اللأخرى نجمعها من أهالي البلدة ...نعطيها لهم لندرء الشر عنا ، ولا أعتقد أن هناك أسلم وأفضل من هكذا رأي وتدبير.
إنتشر الخبر بين أهالي البلدة ، فوفدوا إلى بيت القس متى صامتين ، منصتين في إنتظار رأيهُ بهذهِ المصيبة .
وبعد أن فرغ القس متي من صنع قرارهِ ، نفض غليونه وهو في حالة غضب وفتح الشباك المطل على ناحية الشرق وأدار وجهه نحوة المقبرة وشرع يخاطب أهل القبور مسمعاً كلامه لإيشوع وهو يقول:
إنهضوا وإستيقضوا يا أيها الراقدون ، هلموا وإشهدوا إنه ينوي أن يتجاوز الحدود ، ويرمي إلى تغيير قانون ألقوش وذلك بتحويل القوة إلى ضعف معتقداً انه سينال النجاح والظفر !
وتابع يقول : إيشوع يرتأي أن نعطي الخوّة او (الخاوة) مبرراً ذلك بقولهِ ...إننا لا نقوى على عصيان مطلب الشيخ ...هلموا أيها الموتى وأخبرونا ماذا نفعل ؟ لقد تضايقنا وننوي ترك ألقوش
... وأردف يقول مخاطباً وجهاء البلدة والجموع وكان خطابهُ اقرب إلى صيغة التوبيخ ... هكذا يقولوا سكنة القبور : " تعالوا حلوا محلنا ، لنقوم نحن بمهمة الدفاع عن القوش !!! "
بعد ذلك إنتفض من سريرهِ وصرخ بوجه إيشوع ، هزّ رأسهُ وعضّ شفتيه وقال : هكذا قانون لا نجاريه ولا نأخذ به حتى وإن سال دمنا برمته .
وإستطرد يقول يا إيشوع أين هي حكمتكَ لماذا فقدتها بسبب طمعكَ ، إنك بتفكيرك هذا سوف تفتح سبيلاً للإضرار ببلدتكَ ورغم ذلك تعتقد بأنكَ ستحمي يتكَ .
يا أيشوع إن الخاوة بحد ذاتها مهينة وتؤدي إلى خراب البلدة لذا عليك أن ترفضها ... وتذكر أن ألقوش مبنية على القوة وليس على الضعف والهوان !
فإذا ما إستجبنا ...سوف نُخرِّب بلدتنا وسوف نفتح باباً واسعاً لمزيداً من أطماع الشيخ ولسوف نصبح له مرجاً ومرعى ، ومن نير الخاوة لن ننجو .
والآن علينا أن نقوّي عزيمتنا لكي لا نبدو بمظهر الضعفاء أمام الشيخ وهكذا سوف ننتصر ونتخلص من هيمنتهِ ونتحرر من النير الملقى على كاهلنا .
لا تظنن يا إيشوع أنك إذا ما أعطيت من أموالكَ ، سيكون بإمكانك أن تحمي بيتك أو أن الشيخ سيتركك وشأنكَ !
بعد ذلك إندفع نحو ضناه ياقو بغضب ورفع عصاهُ في وجههِ وقال : إنهض وإمنع ما يسمى بالخاوة لأننا لن نسمح أن يحتقر ويهان أسم ألقوش أبداً .
إنتفض ياقو على الفور وهب مسرعاً متوجهاً إلى السوق ليلتقي بأهالي البلدة ، فصادف ججيكا يلدكو في فناء دارهِ وهو يعد سلاحه
-7-
فصاح منادياً ياقو : قل لنا ماذا نفعل ... فنحن لا نملك الحنطة لنعطيها والخاوة لا نقبلها على أنفسنا ، لذلك من الأفضل أن نخوض القتال ولتسيل الدماء !
عندئذٍ شرع ياقو بمناشدة الشباب وهو في حالة غضب عارم : أخرجوا الزيدكية من البلدة وإقتلوهم والقوا مسؤولية الأحداث على عاتقي ، فأنا معكم في المقدمة حتى الموت !
وفي هذهِ الأثناء سُمِعَ صوت إطلاقة ... فهب الشباب مسرعين وإعتلوا السطوح ودوى صوت الإطلاقات في أرجاء البلدة كما البرق والرعد في ذروتهما .
إثر ذلك حنى الزيدكية أجسادهم من هول ما حدث ، شاردين في الطرقات عاثرين ...لعلهم يستدلوا على دروب الهزيمة إلى خارج البلدة ، بينما إعتلى ياقو سطح الكنيسة خطيباً بالمقاتلين الصناديد مثيرين حماسهم .
ترك الزيدكية البلدة وولوا هاربين وهم حفاة يطاردهم الألقوشيون نحو السفوح بخفة الماعز الجبلي ويزأرون كالأسود .
بعضهم إختبئ في الخرائب والقناطر وحوصر نفر منهم في الطرقات والبعض الاخر وجد سبيلهُ خلسةً إلى السراديب حتى أمسوا هائمين على وجوههم بسبب ذعرهم وهلعهم .
بعدما أكمل الشباب مهمتهم بنجاح حيث طردوا المعتدين بعيداً ، عادوا إلى البلدة فرحين جذلين مصفقين وهم في طريقهم إلى بيت ياقو حيث إجتمعوا وإحتفلوا تغمرهم نشوة الإنتصار ، تناولوا الكؤوس ، تسامروا وسهروا حتى فجر اليوم التالي .
حوادث الزمن-3 :
سأروي لكم معركة الأورامارى ، هذا الحدث الذي لم يبارح مخيلتي أبداً ... في تلك الأيام كنت فتىً ذو الأثني عشر ربيعاً وكل ما حدث شاهدتهُ بام عيني .
في الثالث من تموز عام 1908 ( ܐܨܚ ) ميلادية ، حلّت في ألقوش مجموعة كبيرة من الأورامارى ليبتاعوا الغلة بثمن بخس .
وبينما هم في فناء بيت خوشو قام إثنان منهم بتوجيه السباب والشتائم إلى إمرأة ألقوشية فردّت سارة خوشو المعروفة بغيرتها ووبختهم بجرأة وغضب .
في تلك الأيام كان سطيفو شقيق البطريرك رئيساً على ألقوش ، إلا أنه لم يتصرف بحكمة وروّية ليجَّنب شعب ألقوش هذهِ المعضلة .
إلتأمَ حشد من محلة أودو وبلغوا الرئيس سطيفو بالحدث ، فرّد عليهم قائلاً : ماذا تريدوني أن أفعل ؟ إذهبوا وأعطوهم كل ما يطلبون !
رد عليهِ مكسابو الملّقب ب ( جبى ) : كيف تتفوّه هكذا يا عمي ؟ ... ولما لم يكن بمقدورهِ أن يتحمّل مشورة سطيفو ... دعا أصدقاءه قائلاً لهم : إتبعوني إلى حيث بيت آل الرئيس !
وأخذ يردد : في بيت آل الرئيس يشبُّ الرجال وإن بيتهم قلعة الجبابرة ... إولادهم كالأسود والنمور ، إنهم ينتصرون على أعدائهم بالمنازلة والقتال .
ولديهم التدابير والرأي الصائب والمشورة النافعة ومن لدنهم تاتي الحَسَنات وهم الملجأ الأفضل في أيام الشدة .
بحث أولئك الشباب عن ياقو فوجدوه أمام الكنيسة واقفاً متأملاً حائراً وسألوهُ : ياقو ... لا تترك البلدة ... هيا أنطق وآتِنا بتدبير ورأي ...
-8-
فرد مخاطباً جبى : كيف لي أن أصنع تدبيرأً بينما سطيفو هو رئيس البلدة ؟ فأجاب الجميع على الفور وبصوت عالٍ وبغيرة فائقة : أنت هو الرئيس الفعلي !!!
عندئذٍ إهتز جسد ياقو وأخذ يعتريهِ غضباً عارماً ، مستذكراً مآثر آباءهِ وقال : إقتلوهم ودمهم عليّ إلى يوم القيامة ولا تدعوا ألقوش تنكسر أبداً .
ولمّا سمع الشباب هذا الكلام ، هبّوا مسرعين وهجموا على اللأورامارى كالنمور ، عذبوهم وقتلوهم بقسوة وأخرجوهم من ألقوش منكسرين مخضبين بدمائهم .
وكانت الحصيلة مصرع خمسة من الأورامارى وسبعة جرحى حملوهم معهم ، وقام شباب ألقوش بمصادرة أسلحتهم وإستولوا على دوابهم .
وأخيراً تجمعوا في ( خبره ) محلة سينا ، وكان هناك صنائعي من أهالي الموصل إسمهُ حسن يمتهن مهنة نعل الدواب حيث أصبح وسيطاً لهم .
دفنوا قتلاهم في (خبره) محلة سينا وحزموا جرحاهم على ظهور الدواب فودعهم حسن ، وهكذا رحلوا من ألقوش منكسرن خائبين .
وما أن مر اسبوع واحد على الحادثة حتى تم إختيار ياقو رئيساُ للبلدة ، فقرر الوجهاء تدبيراً مفاده مقاطعة أهل الجبل لمدة سنة كاملة .
وكنتيجة لقطيعتهم مع أهل الجبل لمدة إمتدت إلى نحو سنتين ، حلّ الجوع في أوساط الأورامارى ، لذا إضطروا للبحث عن سبل المصالحة مع الألقوشيين .
نفذت غلّتهم وتضايقوا من شدة الجوع ، وليس بإمكانهم الدخول إلى ألقوش ، كما انهم لم يستطيعوا الوصول إلى الموصل لمدة سنتين ، حتى تمزقت أفرشتهم وبليت ملابسهم .
وفي إحدى الليالي ، حلّوا في الدير العالي وأودعوا سلاحهم في الدير وطلبوا من رئيس الدير وتوسلوا إليه أن يتوسط لهم ويمهد الطريق لمقابلة الرئيس الأعظم .
تفكروا بهؤلاء الأجداد كيف انهم خدموا هذه البلدة ، تأملوا ...كم هي عزيزة على القلوب فبفضل رجالاتها وغيرتهم شاع إسمها في كل الأصقاع .
تفكروا ذلك اللأب الموقر إيسف كوزل الرجل البار الذي عمل جاهداً ساهراً على خدمة القوش ملقياً على عاتقهِ تلك المسؤولية الكبيرة .
ذلك الرجل ذو المروءة والغيرة ، أحب ألقوش حباً عظيماً ، كان لها كالسور، غمر بمحبتهِ الصغير والكبير .
إيسف كوزل الأصيل ، إنسان متواضع ومسالم ... نطلب من ربنا يسوع المسيح أن يسعده ُفي ملكوته السماوي .
ألخاتمة : ( كتبها : الشماس صادق برنو )
لقد أعدت كتابة وإنشاد هذا العمل الذي يتضمن ما صنعه الآباء الذين إحتضنتهم بلدة ألقوش وهم بدورهم حملوها على الأكف .
أخص بالذكر إيسف رئيس المعلم والشماس ومرتل المزامير من على مذبح الرب .
أضفت بعض الأخبار مثل تلك التي سمعتها بآذاني وأخرى مستقاة من أفواه المسنين من أبناء بلدتي ألقوش .
هذه الأعمال أدوِّنها لأصنع منها ذكرى لا تنساني ولا أنساها ولأبقى أعشقها إلى الأبد .
-9-
هؤلاء الآباء والأجداد اللذين فارقوا عالمنا هذا ، عملوا وإجتهدوا حتى رفعوا أسم ألقوش عالياً مخلّداً.
لذا يستوجب علينا أن لا ننساهم ، بل نستذكرهم على الدوام ، نطلب من الرب ونتذرع إليه لكي يريحهم ويسعدهم في ملكوتهِ السماوي .
نطلب من رب الكون أن يعين بلدة ألقوش وينظر إليها بعين ملؤها الحنان وأن يجنِّبها المصاعب والويلات .
ملاحظة-1 : تم نقل تاريخ ألقوش موضع البحث حرفياً من السريانية بلهجة ألقوش الدارجة إلى العربية ، فقط إستثنينا تلك العبارات القليلة جدا التي تنعت تلك العشائر المعتدية بالكفرة تجنباً لأِثارة الأحقاد للذين أساءوا إلى أباءنا وتعزيزاً للعلاقات الطيبة التي تربطنا بجيراننا والتي نتمناها لتكون على أحسن ما يرام مع الجميع على مر الأزمان .
ملاحظة -2 : كتيِّب بعنوان تاريخ ألقوش محفوظ لدى الشماس صادق برنو أنجز إعادة كتابته بالسريانية في تشرين الثاني عام 2002 ميلادية وذلك في ذكرى مار ميخا شفيع ألقوش .
* قرزى : الارض المحاذية لسفح الجبل .
** خبره : أرض منخفضة تتجمّع فيها مياه السواقط .