رحلة حوارية مع المفكر العراقي المبدع د.عبد الخالق حسين أجرى الحوار : مهند الحسيني هكذا عرفت .. د. عبد الخالق حسين هادئ ... متواضع ... صلب ... صريح ... لديه فكر من نوع متميز ، فكر من نوع أخر يميزه عن غيره من المثقفين والكتاب ، صاحب كلمة صادقة .. قوية شفافة وواضحة ، فهو مثال للمثقف الحقيقي الذي تنطبق عليه هذه الصفة وبكل ما تحمله هذه الصفة من معنى .
إطروحاته جريئة وتحمل الواقعية وبعيدا عن منطق شد الهمة و (( ها خوتي ها.. عليهم )) ، يحمل الفكر النير والثقافة الرصينة ولديه أسلوب سلس في توصيل فكرته للمتلقي ، ومن خلال أكثر مقالاته القيمة أعتمد على أسلوب المكاشفة ومبدأ النقد الذاتي البناء والذي طالما عبر عنه مبدعنا بالـ (( رجات الكهربائية)) ، وتميزه يكمن في انتقاءه الصائب للكلمات والهدف والمحاور التي يطرحها . . بذل الكثير من الجهد عبر نتاجاته الثرية والتي أخذت من وقته ومن صحته الشئ الكثير ، فلم يدع شانا عراقيا لم يتطرق إليه ولم نجد محورا مفصليا يخص الشأن العراقي دون أن نرى بصماته ودوره في التحليل الرصين وعرض الحلول الواقعية ، وقد يختلف معه البعض ... ولكن من غير الممكن أن يختلف معه الكثير ، ويكفي مبدعنا فخرا أن له أرضية جماهيرية واسعة ومؤيدة لمجمل إطروحاته في الشارع العراقي المثقف والتي يحسده عليها الكثير من ساستنا.
ضيفي هذه المرة هو احد أعمدة الثقافة العراقية الحديثة والذي من خلاله سوف نغوص في أعماقه لنستقي منه خلاصة سنوات جهده وما يحمل من فكر وهموم ... ضيفي هو الأستاذ الفاضل د.عبد الخالق حسين ، أهلا بك معنا أستاذ عبد الخالق حسين :
- عبد الخالق حسين : في البدء، أتقدم لكم بالشكر الجزيل على دعوتكم الكريمة لي في إجراء هذه المقابلة، وحسن ضيافتكم في توفير الفرصة لإيصال أفكاري إلى القراء الكرام، وأرجو أن أكون عند حسن ظنكم جميعاً .
- مهند الحسيني : دكتور حسين قبل أن ندخل لمحور السياسة هل لك أن تعرفنا بالبطاقة الشخصية لعبد الخالق حسين ؟؟!!عبد الخالق حسين : من مواليد قضاء الفاو، محافظة البصرة، أكمل الدراسة الابتدائية والمتوسطة في الفاو، والإعدادية في ثانوية البصرة- عشار، تخرج من كلية الطب في الموصل عام 1968 ، ثم دبلوم جراحة من جامعة بغداد عام 1977.
غادر العراق إلى بريطانيا عام 1979 للتخصص والتدريب في الجراحة، حصل على شهادة الزمالة FRCS من كلية الجراحين الملكية البريطانية في كلاسكو/سكوتلاندة عام 1980 ، مارس مهنة الجراحة في بريطانيا لمدة عشرين عاماً إضافة إلى عشر سنوات تدريب وخدمة في المستشفيات العراقية، تقاعد مبكراً لأسباب صحية عام 1999 وتفرغ للقضايا الفكرية والسياسية التي كان يهواها منذ التعليم المتوسط . نشر مئات المقالات والبحوث عن القضية العراقية والقضايا الفكرية والترويج للديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، وثقافة التسامح والتعددية، في الصحف العراقية والعربية ومواقع الإنترنت. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية واللقاءات التلفزيونية والإذاعية، دفاعاً عن حقوق الأقليات والديمقراطية وحقوق الإنسان. يؤمن بالعلمانية والديمقراطية والليبرالية، مع احترام الدين وذلك بعدم زجه في وحول السياسة.
المحور العراقي : - مهند الحسيني : ونحن في عراق جديد يدعي القيمون عليه شيوع المناخ الديمقراطي الشفاف ، ما هو موقفك مما فعله أمراء الطوائف مع السيد مثال الآلوسي مؤخرا تحت شعارات قومجية صرفة ؟ عبد الخالق حسين : فيما يخص السؤال حول ما فعله بعض أعضاء مجلس النواب مع النائب مثال الآلوسي بسبب زيارته إلى إسرائيل لحضور مؤتمر دولي ضد الإرهاب، والذي حضره مندوبون من 60 دولة، وكما تعلمون، فإني كتبت مقالاً بهذا الخصوص ونشرته في الصحف وعلى عدد من مواقع الشبكة، استهجنت فيه الموقف المنافق من قبل هؤلاء، وتعاطفت مع الأستاذ مثال الآلوسي، وثمنت عالياً موقفه الشجاع وتحديه في البرلمان لمنتقديه الذين صوتوا على رفع الحصانة البرلمانية عنه، لأنهم أرادوا بذلك تصفيته سياسياً، كما هو معرض للتصفية جسدياً.
وبإجرائهم اللاقانوني هذا فقد أساء هؤلاء إلى سمعتهم وسمعة الديمقراطية العراقية الوليدة والبرلمان العراقي أكثر مما أساؤوا إلى النائب الآلوسي.
والجدير بالذكر أن عنوان مقالي بهذا الخصوص كان (رفع الحصانة عن الآلوسي انتصار لإيران) *، ذكرت فيه أن سبب غضب هؤلاء على السيد الآلوسي هو لأنه تعرض إلى إيران في ذلك اللقاء الدولي، لأنه قام بهذه الزيارة قبل ثلاث سنوات ولم يتعرض له هؤلاء بالنقد، كما وأعتقد أن قرار المجلس أدى إلى نتائج معكوسة لما أريد منه، حيث ساعد هذا القرار سيئ الصيت على رفع مكانة الآلوسي، وطنياً حيث ارتفعت شعبيته، ودولياً، حيث رشحه برلمان الاتحاد الأوربي لأعلى وسام يمنحه، وهو وسام زاخاروف الذي ناله نيلسون مانديلا وغيره من الشخصيات الدولية المرموقة.
- مهند الحسيني : ولكن لماذا ركز السيد الآلوسي على إيران وأغفل الدور الإرهابي السعودي في العراق، ألا تتفق معي أن التغاضي عن دور السعودية كان سببا في زيادة النقمة عليه حتى من قبل مؤيديه ومحبيه ؟؟!! ثم أليس من المفترض أن ينتقد التدخل الإقليمي لجميع دول الجوار لا أن يغمض عينا ويفتح الأخرى بحسب وصف البعض ، فكثير من المتتبعين رأوا في تصريحات الآلوسي على أنها نوع من الغزل أو المسايرة للسياسة الاميركية – الإسرائيلية – العربية المعادية لإيران ... ماهو رأييك في هذا الطرح والذي يعتقد به الكثير من العراقيين ؟؟!!- عبد الخالق حسين : هذا الطرح غير دقيق ويحتاج إلى توضيح. بدءً، لا أريد هنا أن أكون محامياً للسيد الآلوسي، ولكن من متابعتي لتصريحاته، أعرف أنه لم يستثني في هجومه السعودية وسوريا، ونحن لم ندري كل ما قاله في ذلك المؤتمر، على الأغلب أنه انتقد جميع الدول التي تعمل على تخريب العراق وإفشال العملية السياسية بما فيه السعودية وسوريا. فمن مشاهدتي لعدد من روابط فيديو لمقابلات تلفزيونية معه، تؤكد صحة هذا القول. فقد صرح مراراً وتكراراً ضد السعودية وسوريا وحذر العراقيين من شرورهما، إضافة إلى إيران، مؤكداً أن هذه الدول تريد أن تلهي العراقيين بالصراع الطائفي فترسل لهم الإرهابيين لقتلهم وتدمير مؤسساتهم الاقتصادية، لكي يبقى العراق ضعياً، وعدم تمكن الشعب من استثمار طاقاته وثرواته في بناء دولة ديمقراطية مستقرة ومزدهرة. ولكن دور إيران بات أكثر وضوحاً خاصة وأن هناك عدد من المتنفذين في السطلة العراقية وفي البرلمان يدافعون عن الدور الإيراني المخرب في العراق. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر بعض التصريحات من وزير التربية السيد خضير الخزاعي الذي يحرض ضد الوجود الأمريكي في العراق، ويمجد بالدور الإيراني، جاء في التقرير: [ واشاد وزیر التعلیم العراقی بدور ایران فی رقی النظام التعلیمی فی العراق، داعیا الى تعزیز وتنمیة التعاون مع الجمهوریة الاسلامیة الایرانیة فی المجالات العلمیة والتعلیمیة. واکد خضیر الخزاعی "ان بعض القوى الکبرى ووسائل اعلامها تحاول بث التفرقة بین البلدین ایران والعراق"، مشددا" ان التعاون العلمی والثقافی بین البلدین سیترك أثره الایجابی على العلاقات الثنائیة، ویعزز من مواقف البلدین والشعبین تجاه محاولات بث التفرقة بینهما".] (الملف برس – وكالات، 27/10/2008). فأي عاقل ووطني مخلص للعراق يصدق هذا الهراء؟
مهند الحسيني : بعد الشد والجذب والحساسية الجماهيرية من التعايش السلمي مع إسرائيل ، شخصيا ماهو رأيك في إنشاء علاقات دبلوماسية مع دولة إسرائيل ..؟ وهل هي نوع من الواقعية السياسية أم ربما مثل ما يراها البعض هي تجديف وهرطقة ؟- عبد الخالق حسين : أعتقد أن إنشاء علاقات مع إسرائيل في الوقت الحاضر مسألة سابقة لأوانها، فلا هي واقعية سياسية، ولا تجديف وهرطقة. فإنشاء علاقات مع إسرائيل ليس من أولويات العراق في الظروف الراهنة، إذ هناك أولويات كثيرة أمام الحكومة العراقية والمسؤولين العراقيين، مثل الأمن والاستقرار السياسي وبناء مؤسسات الدولة وإعادة إعمار العراق... الخ. كذلك لا أوافق ما يراه البعض أن هذه العلاقة هي تجديف وهرطقة، لأنه ليس المطلوب من العراقيين أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، وفلسطينيين أكثر من قادة الشعب الفلسطيني. ولكن أرى من الحكمة أن لا ينجر السياسيون العراقيون إلى هذه اللعبة، فلديهم مشاكل كثيرة تستوجب الاهتمام بها وحلها قبل التفكير بإنشاء علاقة مع إسرائيل المثيرة للجدل. لأني أعتقد جازماً أن هذه العلاقة ستأتي في المستقبل وبدون مزايدات وخسائر، وذلك عندما تتأسس الدولة الفلسطينية وتتبادل مع إسرائيل بالتمثيل الدبلوماسي والمصالح الاقتصادية، عندئذ ليس من الحكمة أن يتزايد العراقيون على الفلسطينيين في العداء لإسرائيل .
- مهند الحسيني : لنغلق ملف إسرائيل و زيارة السيد الآلوسي لها وبانتظار قرار المحكمة الاتحادية وقرارها الذي ستتخذه للفصل في هذه القضية المركبة ، وأود هنا أن أتحول لمفصل أخر : هل تعتقد أن للحكومة العراقية يد في سطوة النفوذ الديني الذي نرى انعكاساته على المستوى السياسي والاجتماعي في العراق ؟؟!! - عبد الخالق حسين : بدءً أود التأكيد أن الحكومة العراقية هي الحكومة الوحيدة في المنطقة ( إلى جانب حكومة لبنان)، المنتخبة من الشعب العراقي في انتخابات حرة ونزيهة. وصعود المد الديني هو نتيجة مباشرة للمظالم التي تعرض لها الشعب العراقي خلال 40 عاماً، فلم ير المواطن العراقي أمامه من حبل النجاة سوى الدين ، لذلك سادت الموجة الدينية. والأحزاب الدينية هي نتاج لهذه الظروف الموضوعية القاهرة. فاستغل الإسلام السياسي المشاعر الدينية لدى الجماهير، فحقق له مكاسب سياسية. وعليه فنحن أمام حلقة مفرغة، المد الديني ساعد على مجيء التيار الإسلامي للسلطة، والتيار الإسلامي في السلطة ساعد بدوره على ترسيخ الموجة الدينية وتصعيدها وانعكاساتها وإدامتها. ولكن في نفس الوقت فإن القانون الطبيعي ضد هذا التيار على المديين، المتوسط والبعيد، لأنه في الظروف الحالية لم يفشل التيار الإسلامي في حل المشاكل التي يعاني منها الشعب فحسب، بل وفاقمها حتى صار التيار الإسلام السياسي هو جزء من المشكلة وليس حلاً لها. فبسبب هيمنة الإسلاميين على السلطة وجهلهم بحل المشاكل المعقدة بصورة علمية، تفاقمت المشاكل المعيشية للشعب كما وتصاعد الإرهاب وتفشى الفساد والرشوة والمحسوبية، وبذلك يفقد هذا التيار مع الزمن سمعته ومكانته وبريقه، وسيستيقظ الشعب أكثر فأكثر، وبالتالي سيلفظهم وربما سيولد مد العلمانية والديمقراطية الليبرالية كرد فعل لأعمال الإسلاميين. وفعلاً بدأ هذا التوجه الآن بالبروز، إذ هناك نفور واسع لدى شريحة واسعة من الناس عن الدين بسبب سلوك الإسلاميين. ويتم ذلك وفق مبدأ البقاء للأصلح، أي لا يصح إلا الصحيح.
- مهند الحسيني : وبالحديث عن التناغم الديني مابين الاسلامويين ومابين الحكومة هل لك أن تخبرنا عن موقفك من قرار دولة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي الأخير بمنع النوادي الليلية بزعم إنها منافية للأخلاق والأعراف؟- عبد الخالق حسين : هذا القرار هو الآخر نشرت عنه مقالاً، حللت فيه الموقف تحليلاً علمياً قدر الإمكان وانتقدته بشدة، معتمداً على ما عندي من إلمام ومعرفة في علم النفس وعلم الاجتماع ، أوضحت فيه أن المجتمع العراقي مصاب بداء الكآبة (Melancholia)، بسبب الكوارث المتواصلة التي مر بها عبر قرون، وما أصابه من نكبات متتالية خلال أربعة عقود من حكم البعث الجائر، حيث القهر والظلم والجور والاستلاب، وتعرضه إلى الحروب الداخلية والخارجية والحصار الاقتصادي الدولي ، كل ذلك أدى إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، وإصابة المجتمع العراقي بداء الكآبة، مما يتطلب الأمر استخدام الوسائل العلمية لإيجاد الحلول العملية لها، وليس بإصدار قرارات فوقية اعتباطية تزيد الطين بلة. ومن أهم الإجراءات المطلوبة الآن هو تحقيق الأمن والاستقرار، وتوفير الخدمات الضرورية، وكذلك توفير وسائل الترفيه كوسائل علاجية للحالة النفسية المتأزمة.
والنوادي الليلية على قلتها، من حق المواطن العراقي أن يرتادها كما يرغب. أما غلقها بحجة الوصاية على الأخلاق والآداب العامة، فهي طريقة خاطئة ومجحفة، وبالتالي تكون نتائجها معكوسة. لذلك أعتقد إن الذين أشاروا على السيد المالكي، رئيس الوزراء، بإصدار هذا القرار باسم الأخلاق، خدعوه وأساءوا إلى شعبهم. إن الذهاب إلى أماكن الأنس والطرب والترفيه عن النفس من الأمور الشخصية التي يجب تركها للإنسان يقررها بنفسه. فمن حق الإنسان أن يتمتع بوقته بالشكل الذي يريد وليس بفرض قواعد أخلاقية طوباوية صارمة عليه. إن قرار الحكومة هذا هو تقليد لما هو جار في جمهورية إيران الإسلامية بتطبيق حكم (ولاية الفقيه). وكما هو معروف أن الحكم الإسلامي في إيران، فشل فشلاً ذريعاً في حماية الفضيلة وتحقيق المجتمع الفاضل، إذ هناك دراسات واعترافات من قبل المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، تؤكد أن إيران فيها أعلى نسبة ضد الدين في الدول الإسلامية، وأعلى نسبة في العالم من المدمنين على المخدرات وممارسة البغاء. وهذا دليل قاطع على فشل الحكم الإسلامي في نشر الفضيلة وردع الرذيلة، بل أدى إلى تفشي الرذيلة. فكل ممنوع متبوع.
- مهند الحسيني : جوابك هذا يحيلني لسؤال أراه جداً مهم وهو ورود الكثير من المتناقضات في الدستور العراقي مثال على ذلك التناقض الوارد في المادة (2) حيث يشير البند (أ) من (أولا ) بان لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام وبعدها مباشرة يأتي البند (ب) بنص يقول : لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديموقراطية !! ، فأنت من وجهة نظرك كيف تفسر هذا التناقض السافر ، إذ لا يخفى عليكم بان ثوابت الأحكام الإسلامية فيها الشئ الكثير مما يتعارض مع مبادئ الديموقراطية بما يخص حرية المعتقد والحرية الشخصية بشكل عام ؟؟!! - عبد الخالق حسين : هذا التناقض يؤدي إلى شل الدستور، وتعدد الاجتهادات في تفسيره وتطبيقه. وفعلاً بدأت هذه الظاهرة في إصدار القوانين. ومن هنا نعرف أهمية عدم زج الدين في وحول السياسة. فالسياسة تهتم بالقضايا الدنيوية وحياة الناس اليومية المتغيرة، بينما الدين يختص بالمسائل الروحية في العلاقة بين الإنسان وربه، ويحاسب على أخطائه يوم الحساب، أي يوم القيامة من قبل الله وحده وليس من قبل غيره. وأكد القرآن الكريم على ذلك في عدة آيات منها على سبيل المثال لا الحصر: "لا إكراه في الدين.." " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..."، "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.." إلى آخره من الآيات التي تؤكد على التعددية وعدم إرغام الناس على الدين. كما وهناك حديث نبوي يؤكد على العلمانية بقوله: "أنتم أعرف بشؤون دنياكم". ومن هنا نعرف أن زج الدين الثابت بالسياسة المتغيرة، أمر مضر بكليهما معاً. وكل من يدعي أن الإسلام السياسي يؤمن بالديمقراطية فهو ادعاء مضلل، ويمكنك أن تقارن بين الهند والباكستان اللتين كانتا خاضعتين لنفس الاستعمار البريطاني لأربعة قرون، وينتميان إلى نفس الخلفية والجذور في القارة الهندية، وعاشتا ذات الظروف، نجحت الديمقراطية في الهند وفشلت في الباكستان، والسبب هو الفرق في الدين. كذلك لم نر انتعاش الديمقراطية في أية دولة إسلامية عدا تركيا التي هي الأخرى مرت الديمقراطية فيها بالكثير من الهزات. كذلك أشير إلى مقالكم القيم الموسوم (أكذوبة النظام الديموقراطي الإسلامي) والذي نشرتموه مؤخراً
**. - مهند الحسيني : كأعلامي وكمثقف عراقي هل تعتقد أن الفضائية العراقية كانت على قدر المسؤولية الإعلامية المناطة بها ، أم أنها عجزت عن هذا الأمر وأصبحت فقط فضائية نائحة لاطمة طيلة أيام السنة ؟؟!!- عبد الخالق حسين : يجب أن نعرف أن كل شيء بدأ في العراق من الصفر بعد سقوط الفاشية، لأن المعارضة العراقية في عهد حكم البعث كانت مطاردة، وتقيم في المهجر، ولم يسمح حكم البعث لغير أتباعه في تعلم فن الحكم وإدارة الإعلام وغيره. لذلك يجب أن لا نتوقع أن يكون كل شيء كاملاً وفاضلاً في المراحل الأولى بعد سقوط الفاشية ، ولكن مع ذلك هناك جهود مضنية وجادة يبذلها العراقيون على جميع الأصعدة في سد النواقص وتقبل النقد البناء لتحسين الوضع الإعلامي. كما ويجب أن لا ننسى أن العراق يواجه حملة إعلامية ضارية، منسقة ومنظمة من جميع الدول العربية، غرضها تشويه صورة العراق الجديد، وهؤلاء يمتلكون خبرة إعلامية واسعة وطويلة في التضليل، وفيهم الكثير ممن كانوا مجندين في الإمبراطورية الإعلامية البعثية، من الذين أسبغ عليهم صدام خسين بالمليارات من الدولارات من أموال الشعب العراقي.
ولكن على العموم، فإن الفضائيات العراقية الحريصة على تقدم العراق الجديد مثل، العراقية والفيحاء، خطت خطوات جادة وثابتة في تحسين الأداء ، وهذا لا يعني أن قناة العراقية لا تخلو من نواقص. كما ونطالب الأخوة المسؤولين في القناة العراقية أن تنأى بنفسها عن كل ما يدعو إلى تفرقة الصف الوطني، إذ يحاول البعض تحويلها إلى حسينية للطم وغيره من الطقوس المذهبية، لذا فنصيحتي لهم أنه طالما القناة يصرف عليها من المال العام، فهي للشعب العراقي كله وليس شريحة واحدة من الشعب العراقي، وعليه من الخطأ التحيز لطقوس طائفة على حساب طائفة أخرى. والأفضل تجنب الطقوس المذهبية المفرقة، والتركيز على ما يوحد الصف.
- مهند الحسيني : بهذه المناسبة دكتور حسين ماهو رأييك في الآذان الذي نراه ونسمعه من على قناة العراقية، فهل هو كذلك يندرج تحت باب المحاصصة التي سُـنت في العراق الجديد ومن أعلى هرم السلطة نزولا لأصغر مؤسسة حكومية ؟؟!! .- عبد الخالق حسين : بالنسبة للآذان أقترح إلغاءه تماما من محطات الإذاعة والتلفزيون بصورة عامة، لأنها رموز مفرقة وممزقة لوحدة الشعب الواحد، وإلغاء كل ما من شأنه تكريس الطائفية في العراق، فهناك الأذان الشيعي، وهناك الأذان السني. وشخصيا لا أعتقد أن المواطن العراقي من كلا المذهبين بحاجة إلى الأذان من المحطات التلفزيوينة والإذاعية. وحتى استخدام مكبرات الصوت في الأذان خطأ لأنها مبعث الضجيج العالي لخمس مرات في اليوم مما يؤثر على سلامة الأعصاب. فالإسلاميون يمنعون الثلج والآيسكريم بدعوى أنهما لم يكونا موجودين في عهد الرسول، ولكنهم في نفس الوقت يستخدمون التكنولوجيا لأغراضهم رغم أنها لم تكن موجود في عهد الرسول. وهناك بحوث أثبتت أن الضجيج يؤثر سلباً على سلامة الأعصاب وقدرة الناس على التفكير السليم.
- مهند الحسيني : في ظل هذه الأجواء والمناخات التي يعاني منها الفرد العراقي بصورة عامة، هل ترى في العراق الجديد دور حقيقي وفاعل للمرأة العراقية (( وعلى كافة الأصعدة )) ؟؟!! أم أن تواجد المرأة وحضورها هو مجرد ديكور مثله مثل الكثير من المسميات التي نسمع عنها ولا نراها على ارض الواقع ؟؟- عبد الخالق حسين : أعتقد أن دور المرأة في العراق الجديد هو حقيقي وفاعل وعلى كافة الأصعدة. نعم أن هذا الدور هو أقل من المطلوب، ومازال أقل مما يلعبه الرجل بكثير، وهو امتداد للماضي، ولكن يجب أن لا ننسى أننا مازلنا في بداية الطريق. فالعراق هو البلد الوحيد في العالم الذي سن دستوراً وضع فيه للمرأة سقف (كوتا) بنسبة 25% في مجلس النواب، وكذلك ثبتتا هذه النسبة في قانون مجالس المحافظات والأقضية والنواحي، وهذا هو الحد الأدنى ودون أن يكون هناك حد أعلى، وحتى لو كان ديكوراً، فالمهم أن حصة المرأة صارت بنداً من بنود الدستور وقانون المجالس، وبالتالي يعتمد على نضال المرأة وأنصارها من الرجال في دعمها في نضالها العادل لنيل جميع حقوقها في المساواة بالرجل وتحويل هذه المواد القانونية إلى عمل جدي.
مهند الحسيني : دكتور عبد الخالق هذه الـ (كوتا) التي تطرقت لها هي النقطة المهمة في الموضوع ، فالبعض وخاصة من النساء يرونها على أنها إضعاف لشأن المراة ودورها الحقيقي في المعترك السياسي ؟؟ فالكوتة النسائية هي دلالة على أن وجود المراة في البرلمان قد فـُـرض فرضا على مجتمع ذكوري يكاد يكون إجباريا ً أن لم يكن هو كذلك بالفعل ، لذا فان وجود هذه الكوتة بالنتيجة سيكون فقط ((كمالة عدد .. كماً لا نوعاً )) ولا ينبع من ثقافة تؤمن بقدرات المراة ودورها الفاعل ، ومثال على ذلك وجود المراة في البرلمان وحتى في الوزارة والذي هو ليس أكثر من وجود سلبي ، حيث لا دور للمرأة ولا رأي لها في الكتلة التي تنتمي اليها (( وبالمناسبة هذا رأي إحدى الزميلات الصحفيات)) فماهو رأييك في هذا الكلام ؟- عبد الخالق حسين : هذا صحيح، ولكن البديل أسوأ. فالبديل معناه إلغاء حتى هذا الدور الذي سميته (ديكوري). يجب أن نعرف أن الحقوق الديمقراطية تبدأ بسيطة، ثم تنمو تدريجياً. هكذا بدأت في أوربا وغيرها من الدول الديمقراطية العريقة، سواء حقوق المجتمع ككل، أو حقوق النساء، أو حقوق الأقليات والعمال وغيرهم . يجب أن لا نجهض أية خطوة صحيحة وفي الإتجاه الصحيح، بل تشجيعها والعمل على دعمها، إنها مثل النبتة، تبدأ صغيرة قابلة للموت إذا لم تتم رعايتها. إذ لا يمكن أن يولد الشيء عظيماً منذ يوم الأول من ولادته، وحتى لوكانت مشاركة المرأة في البرلمان والوزارة شكلياً ودون الطموح والمستوى المطلوب، ولكن مع الزمن ستتدرب المرأة وتطور إمكانياتها، وتبرز تلك النساء اللواتي يتمتعن بقدرات كبيرة لا تقل عن قدرات الرجال النشيطين في إدارة المؤسسات والدولة. ثم وصف دور النساء بالهامشي مبالغ به، لأن هناك نساء نائبات في البرلمان أثبتن جدارتهن بامتياز. يجب أن لا نجهض العملية وهي في بدايتها، بل أن نرعاها ونطورها إلى الأفضل.
- كثر مؤخرا ً اللغط والكلام حول الاتفاقية الأمنية المزمع عقدها مع الولايات المتحدة الاميركية ، نود أن نعرف موقف عبد الخالق حسين كمواطن عراقي من المعاهدة العراقية – الاميركية، ورأيك في بعض الأقلام التي تعارض هذه المعاهدة جملة وتفصيلا بدون أي حجة واقعية ؟؟- عبد الخالق حسين: أعتقد أن الاتفاقية (العراقية-الأمريكية) هي في صالح الطرفين وبالأخص للعراق، نعم أمريكا لم تسقط النظام البعثي الصدامي الجائر لسواد عيون العراقيين كما يردد معظم مناهضي تحرير العراق، ولكن يجب أن يعرف هؤلاء أن السياسة فن الممكن، وهي وراء المصالح ولا شيء غير المصالح، وإذا كانت أمريكا تسعى لخدمة مصالحها، فلماذا لا نسعى نحن العراقيين من أجل مصالحنا أيضاً. وإذا التقت مصلحة أمريكا مع مصلحة شعبنا لأول مرة في التاريخ، فلماذا لا نستغل هذه الفرصة ونجيرها لمصلحة شعبنا. لذلك أرى من الحكمة الاستفادة من التقاء مصلحة الدولة العظمى مع مصلحة شعبنا ودعمها للعراق. فالعراق رغم تحرره من حكم صدام حسين إلا إنه مازال يعاني من مشاكل كبيرة تهدد بتدميره، ولا يستطيع مواجهتها لوحده.
نعم، هناك الإرهاب ألبعثي القاعدي، وهناك الجهل والمليشيات الحزبية التي تدعمها دول أجنبية لا تريد للعراق أن ينهض، كما وهناك عصابات الجريمة المنظمة تنغص على الشعب عيشه ، وتفشي الفساد الإداري الذي لا يقل خطره عن خطر الإرهاب، وهناك تقييد العراق في البند السابع للأمم المتحدة والذي يعني أن كل واردات العراق النفطية مازالت بيد الأمم المتحدة، وهناك أكثر من مائة مليار دولار من الديون التي ورط بها صدام شعبنا، ومئات المليارات من تعويضات حروبه العبثية، كذلك موضوعة إعادة إعمار العراق ... وغيرها من المشاكل الكبيرة والكثيرة التي لا يمكن للعراق التخلص منها لوحده في وضعه الحالي إلا بمساعدة أمريكا.
والذين يناهضون الاتفاقية يتعكزون على السيادة الوطنية ويزايدون علينا بها، وجوابي لهم أن أمريكا عقدت اتفاقيات مشابهة مع أكثر من 120 دولة في العالم، ولها قواعد عسكرية في أكثر من 80 دولة بما فيها دول كبرى مثل بريطانيا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، وكل هذه الدول هي المستفيدة أكثر من هذه الاتفاقيات مع أمريكا، ولم يدعِ أحد أن هذه الاتفاقيات خدشت السيادة الوطنية لهذه الدول قيد شعرة. وعليه فمعظم الذين يقفون ضد الاتفاقية هم إما أناس بسطاء لا يفهمون ما يهدد العراق من مخاطر، أو هم من فلول النظام البائد ومن أتباع الدول التي لا تريد للعراق خيراً، وهم بالتأكيد بدون أية حجة واقعية معقولة، ولذلك فهم يتسربلون بلباس الحرص على السيادة الوطنية ويذرفون دموع التماسيح عليها.
نقول لهؤلاء، كفى كذباً ورياءً وضحكاً على الذقون، وعلى العراقيين أن ينتبهوا إلى هذه اللعبة القذرة ومخاطرها الجسيمة على بلادهم.
- مهند الحسيني : ولكن دكتور حسين البعض من هؤلاء المناهضين قد رد عليك بشكل مباشر مع حشر اسمك في عنوان مقاله وبشكل معلن ، ومن خلاله صوب رأيه وخطأ اعتقادك الذي طرحته وعززه بحجج شتى... فمن وجهة نظرك هل هو نوع من المزايدات أو ربما أصبح بعض مثقفينا يحاولون جاهدين أن يعودوا بنا لشعارات اليسار التي سادت في منتصف القرن الماضي لاسيما أن الشارع العراقي يعاني الآن من الخمول الثقافي وتؤثر فيه مثل هكذا شعارات تدغدغ عواطفهم ؟؟!!- عبد الخالق حسين : في الحقيقة أنا لم أتابع كتابات هؤلاء، بل ينبهني عنها بعض الأصدقاء ويطلبون مني الرد عليهم، ولكني أرفض ذلك. لأن البعض من المناهضين للإتفاقية ولأفكاري وطروحاتي بصورة عامة، اتصلوا بي شخصياً عن طريق البريد الإلكتروني، متوسلين إليَّ أن أرد عليهم لأرفع من شأنهم، ومنهم من أساء لي بوقاحة وسوء أدب، يقصد الاستفزاز وعسى ولعل أن أرد عليهم، ولكني ترفعت عن ذلك، فلدي أشغال أهم وليس لدي الوقت والجهد الكافيين لأبددهما في مهاترات لا تفيد القارئ ولا تخدم قضيتنا الوطنية. ويكفي هنا أن أقول أن معظم الذين يناهضون الإتفاقية لم يقدموا أي بديل، فهم ينطلقون من موقف العداء لأمريكا، ومن مفاهيم مرحلة الحرب الباردة التي فاتها الزمن. أنا على استعداد أن أدخل في نقاش موضوعي مع أناس يعارضون الاتفاقية بنوايا وطنية حسنة وبموضوعية، خاصة وأني استمتع بالسجال الموضوعي مع أشخاص يتمتعون بثقافة واسعة وعن حسن نية. ولكن لحد الآن لم أجد هذا النوع من الأشخاص من بين المناهضين للإتفاقية.
- مهند الحسيني : بنظرة سريعة لكل ما جرى ويجري : ماهي رؤيتك لمستقبل العراق السياسي ... وهل هناك أمل في نشوء ديموقراطية عراقية وليدة أم أن العراقيين على موعد مع بيان رقم واحد ؟؟- عبد الخالق حسين : نحن لسنا في انتظار ولادة الديمقراطية العراقية، بل الديمقراطية ولدت فعلاً، ولكنها مازالت ناشئة وتحتاج إلى رعاية وعناية لاجتياز مراحل طفولتها إلى أن تنضج بالتدريج وتبلغ سن الرشد ليعتاد عليها الشعب ويقبل بنتائجها وتصبح جزءً من ثقافته و أعرافه وتقاليده الوطنية، إذ هكذا بدأت في الدول الغربية. ولذلك أقولها بمنتهى الثقة، أن عصر البيان الأول قد ولى إلى غير رجعة.
والمتشائمون بمستقبل العراق، وأنا أقصد هنا ذوي النوايا الحسنة فقط ، إذ لا حديث لي مع الأشرار، ينقسمون إلى فريقين، الأول، عدم إطلاعهم على قوانين حركة التاريخ ومساره ، فهؤلاء يعتقدون أن بإمكان النخب الثقافية والسياسية تنفيذ ما يريدون بعصا سحرية، دون أي اعتبار للاستحقاقات التاريخية والظروف القاسية التي تعرض لها الشعب العراقي خلال عشرات السنين من الظلم والدمار والقهر والاستلاب، ومازال يمر بها بسبب الإرهاب.
والفريق الثاني من المتشائمين، هم المستعجلون في تحقيق ديمقراطية ناضجة وبسرعة البرق ويريدون القفز من فوق المراحل التاريخية على غرار كن فيكون.
التاريخ لا يسير وفق الرغبات والأهواء والتمنيات الشخصية، بل يسير وفق شروطه الخاصة والظروف الموضوعية. المهم الآن أن العراق تخلص من أكبر عقبة أمام الديمقراطية وهي حكومة البعث الجائرة، وقد خرج العفريت من القمقم ولا يمكن إعادته إليه ثانية مطلقاً.
ولكن هذا لا يعني أن الديمقراطية ستتحقق بلا ثمن، إذ لم تتحقق في الدول الديمقراطية الناضجة بين يوم وضحاها، بل بعد ثورات وانتفاضات، ومرت في ظروف قاسية إلى أن صارت الديمقراطية تقليداً شعبياً اعتادت عليها تلك الشعوب وصارت جزءاً من ثقافتها القومية والوطنية. وهذا لا يعني أن على الشعب العراقي أن ينتظر لمئات السنين إلى أن تتحقق فيه الديمقراطية الناضجة، بل يمكن قطع الطريق بفترة زمنية قصيرة وذلك بسبب التطور المذهل في عصر العولمة، عصر وسائل الاتصال ونقل المعلومات والاختلاط بين الشعوب والاستفادة والتعلم من الغير، فالمرحلة هي مرحلة انتصار الديمقراطية، ويحصل التطور والتحولات الاجتماعية بوتيرة متسارعة أكثر مما كنا نتصوره.
- مهند الحسيني : دكتور عبد الخالق ما لذي يجعلك متفائلا لهذه الدرجة وكما هو معلوم لديكم أن تنامي الديمقراطيات في أي ((زمكان)) عادة تكون نتيجة انعكاس لواقع المجتمع المتكامل ، فهل ترى أن المجتمع العراقي سيحافظ على نمو هذه الديموقراطية الوليدة وأنت تعلم أن هذا المجتمع لديه ثوابت دينية وأخلاقية راسخة لا يحيد عنها والتي بدورها تمنع من تنامي هذه الديموقراطية بزعم أنها بدعة مستوردة من الغرب الكافر وبأنها كفر والحاد .. ألا يدعوك هذا الأمر لان تتشاءم ولو قليلا ؟؟!! - عبد الخالق حسين : أنا متفائل بمستقبل العراق لأني أؤمن إيماناً عميقاً بمسار التاريخ وقوانين حركة التاريخ كما بينت آنفاً. يجب أن نعرف أن العوامل التي تقرر حركة التاريخ واتجاهه في أي بلد، هي ليست العوامل المحلية فقط،، بل والعوامل الدولية أيضاً. ففي عهد العولمة وتكنولوجية الاتصالات والمواصلات، حيث صارت مصالح الشعوب متشابكة غير قابلة للفصل بينها، ومصائرها مترابطة إلى حد أنه يمكن القول أن الشروط الدولية في تطور أي شعب تتغلب اليوم على الشروط المحلية. والعوامل الدينية والثقافية المحلية المعرقلة للديمقراطية والحداثة في الشرق عامة، والعراق بصورة خاصة، كانت على أشد ما يكون في أوربا في القرون الوسطى حيث كانت سلطة الكنيسة تحرق العلماء والفلاسفة وكتبهم بتهمة الهرطقة والخروج على تعاليم الدين، وكانت هناك محاكم التفتيش وحرق النساء بتهمة السحر وجلب الأمراض والكوارث عن طريق الأرواح الشريرة... الخ بينما في مجتمعاتنا لا توجد هذه الهرطقات. إن هذا العنف والإرهاب ضد الديمقراطية والحداثة والحضارة الغربية ناتج عن سرعة التحولات الاجتماعية بسبب التطور المذهل في التكنولوجيا والختلاط بين الشعوب.
يفسر العلامة الراحل علي الوردي التغيير الاجتماعي أنه كان يحدث ببطء في الماضي، وسريع في الوقت الحاضر، وعن الفرق بين العهدين يقول: " وهناك فرق كبير جداً بين ذينك العهدين من حيث نتائجهما الاجتماعية. فمن خصائص التغير البطيء أن المجتمع يتكيف له ويتلاءم معه بمرور الأيام، فلا يظهر فيه صراع عنيف أو تناقض بين القديم والجديد على منوال ما يظهر إثناء التغير السريع. فمن طبيعة التغير السريع أنه لا يؤثر في جميع أجزاء الكيان الاجتماعي على درجة واحدة، فكثيراً ما يكون هناك جزءان مترابطان ثم يحدث التغير في أحدهما دون أن يحدث في الآخر، أو هو قد يحدث في أحدهما أسرع مما يحدث في الآخر، فيؤدي ذلك إلى صراع أو توتر أو تناقض بينهما، وهذا هو ما أسميته بـ (التناشز الاجتماعي). (د. علي الوردي، لمحات اجتماعية ج1، ص 288-289).
إن ما قاله الوردي كان قبل أكثر من خمسين عاماً، فماذا يقول عن وضعنا الحالي في عصر العولمة عندما تحول عالمنا إلى قرية كونية صغيرة. لذلك يجب أن لا نستغرب من هذه المعارضة الشرسة من قبل البعض من المتطرفين الإسلاميين ضد قيم الحضارة الغربية، ولكن هؤلاء أقلية، ومفلسين فكرياً وإخلاقياً يرفضون الانسجام مع متطلبات العصر وقبول قيمه الحضارية، لذلك يلجؤون إلى القوة معتقدين أنهم يمتلكون ناصية الحقيقة المطلقة، وهذا هراء في هراء. لذلك فالزمن ضدهم وفي صالح التقدم الحضاري.
- مهند الحسيني : ماهي قراءتك لدور هذه الدول في الشأن العراقي بالنسبة لك كمتابع عراقي :* إيران : استفادت إيران أكثر من أية دولة أخرى من قيام أمريكا في إسقاط ألد أعدائها في المنطقة، ألا وهو حكم البعث ألصدامي في العراق وحكم طالبان في أفغانستان، ولكن في نفس الوقت تنكرت إيران لهذه الحقيقة وصارت من أشد أعداء أمريكا والعراق الديمقراطي، فهي لا تريد نجاح العملية السياسية في العراق، ولذلك هي تستغل انتمائها المذهبي للعرب الشيعة العراقيين من أجل تسخيرهم لخدمة أغراضها السياسية، وذلك بدعم مليشيات دينية تستخدمها لشن حرب على أمريكا على الأرض العراقية وبدماء العراقيين، مستغلة تعقيدات الوضع العراقي وجهل وفقر قطاع واسع من الشعب لضمهم إلى تلك المليشيات تخدم بها أغراضها في زعزعة الأمن والاستقرار في عراق ما بعد صدام. والحكومة الإيرانية على خطأ كبير في هذه السياسة، لأن أمن العراق ضروري لأمنها وأمن جميع دول المنطقة.
*السعودية : هي الأخرى كانت تتمنى زوال حكم البعث، ولكن دون نظام ديمقراطي، إذ كانت ومازالت تريد أن تنفرد بحكم العراق نفس الفئة التي كانت تحكمه من قبل، أي نظام بعثي أو قومي وطائفي بدون صدام حسين ، أي أنها لا تريد عراقاً ديمقراطياً يساهم في حكمه جميع مكونات الشعب، ولذلك راحت السعودية تحرك رجال الدين الوهابيين بإصدار فتاوى "الجهاد" وتحريض شبابهم وتحويلهم إلى إرهابيين يرسلونهم إلى العراق لإفشال العملية السياسية وعرقلة تطوره وإعماره.
*سوريا: مثل إيران وغيرها من دول المنطقة المستفيدة من إسقاط حكم البعث، ولكنها هي الأخرى كانت تأمل أن يبقى حزب البعث يحكم العراق وبدون صدام، وتحويل هذا الحزب إلى جناح تابع لحزب البعث السوري. ولما خاب أملهم في تحقيق هذا الغرض الدنيء عقد حكام دمشق تحالفاً استراتيجياً مع حكام إيران لإفشال الديمقراطية في العراق. فسوريا هي البوابة الرئيسية لإرسال الإرهابيين العرب وغير العرب إلى العراق بعد استلامهم وتدريبهم على أراضيها، كذلك صارت سورياً ملاذاً آمناً لفلول البعث، فمعظم أعداء العراق الجديد ينظمون في دمشق مؤتمراتهم ومؤامراتهم ضد العراق.
* الكويت: لعل الكويت هي الدولة العربية الوحيدة التي رحبت بسقوط النظام الفاشي علناً وقدمت المساعدات للشعب العراقي، لأن الكويت هي الدولة العربية الوحيدة، بعد العراق، التي عانت من حكم البعث ألصدامي وتعرضت لمظالمه ولو لفترة قصيرة، سبعة أشهر فقط ، وعليه، فلو قام صدام حسين باحتلال جميع الدول العربية لعرفت الشعوب العربية ماذا يعني حكم البعث، ولوقفت جميعها إلى جانب الشعب العراقي ودعمه بعد إسقاط حكم البعث بدلاً من الدفاع عن حكم صدام المنهار.
ولكن مع ذلك ومن المؤسف القول، أن حتى الكويت هذه تريد العراق المحرر أن يكون ضعيفاً، فقد اعترضت حكومتها مؤخراً على أمريكا في تسليح الجيش العراقي ، كما ورفضت التخلي عن ديونها وتعويضات الاحتلال والحرب رغم أنها استلمت لحد الآن عشرات المليارات من أموال الشعب العراقي. ومن هنا ارتكبت الحكومة الكويتية ذات الغلطة مرتين، المرة الأولى عندما دعمت الجلاد صدام حسين في حربه على إيران وذلك بتمويله بعشرات المليارات الدولارات، دون أي اهتمام بما كان صدام يلحقه من اضطهاد للشعب العراقي.
والغلطة الثانية، أنها ترفض الآن إقامة حكومة مركزية قوية وديمقراطية في العراق لتكون قوية مستقرة بعد سقوط حكم الجلاد، بل تريد أن تكون الحكومة العراقية بعد صدام حكومة ضعيفة. علماً بأن وجود جيش عراقي قوي، ضروري ليس لأمن العراق وحده فحسب، بل ولأمن واستقرار جميع دول المنطقة وبالأخص الكويت.
*الأردن : المملكة الأردنية استفادت من العراق في جميع العهود، من العهد الملكي والصدامي وإلى الآن. فكما تقول الحكمة، مصائب قوم عند قوم فوائد. والأردن حصد فوائد في جميع العهود.
* تركيا : رغم أنها لم ترحب بالتغيير ومنعت أمريكا من استخدام قواعدها وأراضها لضرب نظام صدام حسين، إلا إنها لم تساهم في تعقيد الوضع العراقي، ولم ترسل إرهابيين إلى العراق، بل وقعت إتفاقية مع العراق في التعاون بين البلدين لضرب الإرهاب.
- مهند الحسيني : ما رأيك في هذه الأسماء وباختصار:* نوري المالكي: وطني نظيف ومخلص، أثبت في فترة قصيرة قدرته على تعلم فن الحكم ولو مازال عنده بعض الهفوات، ولكن يجب أن لا ننسى أن الرجل يترأس حكومة ائتلافية معقدة تضم ممثلين عن جميع مكونات الشعب العراقي، وهي غير متجانسة ولا منسجمة، بل متصارعة فيما بينها، وحتى فيها من هو مع الإرهاب ومع إيران ومع السعودية، وله رجل مع السلطة وأخرى مع المخربين ، ومع ذلك أثبت الرجل جدارة في الحكم وحقق نجاحاً كبيراً في دحر الإرهاب والمليشيات دون تمييز طائفي. ولكن في نفس الوقت فهو محاط ببعض المستشارين الذين يريدون أن يمرروا مخططاتهم تحت أسمه، مثل قرار غلق النوادي الليلية وغيره من القرارات الضارة. على أي حال، أرى أن السيد المالكي يستحق منا الدعم لكي لا نتركه لوحده في المعركة وينفرد به أعداء تقدم العراق. وهو غير مرغوب من قبل النظام الإيراني، لأنه مع الاتفاقية الأمنية مع أمريكا. وربما يحاول هذا النظام اغتياله، وعليه أدعوه إلى أخذ أقصى حدود الحذر لحماية نفسه .
* مسعود البرزاني: زعيم قومي مخلص لشعبه الكردي، ورغم ما يجري من ملابسات في الوضع العراقي المعقد والملتبس، فإن الرجل حريص على مصلحة العراق أيضاً، إدراكاً منه أن مصير الشعب الكردي وسلامته وتقدمه مرتبط بالضرورة بمصير الشعب العراقي.
* محمود المشهداني: رغم أنه طبيب وكانت له عيادة طبية في حي شعبي (مدينة الحرية) في بغداد في عهد صدام البائد، إلا إنه يمثل النموذج الواضح لخراب الإنسان العراقي على يد نظام البعث. فهو درويش من دراوشة التكايا، جاءت به الظروف ودون أي استعداد وخبرة سياسية مسبقة ووضعته في موقع كبير من المسؤولية كرئاسة مجلس البرلمان العراقي بعد الإطاحة بحكم صدام ، وقد حقق سابقة تاريخية في استخدام مصطلحات سوقية في البرلمان، كما وكشف عن وجهه في عدائه للمرأة.
* علي الوردي: مؤسس علم الاجتماع الحديث في العراق، ومؤسس الفكر الليبرالي الرصين فيه، ويعد أبرز عالم اجتماع في البلاد العربية على الإطلاق، فهو بحق ابن خلدون زماننا. وبالنسبة لي، فله الفضل الكبير في توجهي الثقافي والفكري، إذ كان من حسن حظي أني تعرفت على مؤلفاته في سن مبكرة عندما كنت تلميذاً في السنة الأولى من التعليم المتوسط بعد ثورة 14 تموز مباشرة، ومازلت أحتفظ بجميع مؤلفاته وأراجعها بين حين وآخر.
* هادي العلوي: إنسان رائع، وزاهد في الدنيا، قلما له نظير في الزهد وحبه للفقراء، يكره المال، متبحر في التراث العربي الإسلامي، كتب الكثير من الكتب في التراث بعقلية متفتحة وناقدة، بارزاً فيها أهم الجوانب المشرقة منها، وناقداً الجوانب السيئة دون خوف أو مداهنة. وكان شيوعياً طوباوياً بالفطرة وعلى طريقته الخاصة ودون الانتماء إلى أي حزب سياسي. كان مثقفاً كبيراً بكل معنى الكلمة، يبحث عن مدينته الفاضلة، وقد خطفته يد الموت قبل الأوان وهو في أوج عطائه الفكري. وبالمناسبة، كان من أشد المعجبين بعلي الوردي وعبد الكريم قاسم. زرته في دمشق في التسعينات قبل وفاته بسنوات.
* سعدي يوسف: لو لم يكن سعدي يوسف منتمياً للحزب الشيوعي العراقي لما سمع به أحد، فالحزب الشيوعي هو الذي خلق لهذا الرجل هالة وشهرة لا يستحقهما، وهو من ألد أعداء العراق الديمقراطي، ومن أشد داعمي الإرهاب الذي يسميه مقاومة وطنية، وكان يلقب نفسه بـ"الشيوعي الأخير" مجازاً، ولكنه تخلى أخيراً عن هذا اللقب قبل أسابيع في مقال قصير له.
- مهند الحسيني : على ذكر الزعيم عبد الكريم قاسم ... كتابك عن ثورة 14 تموز والزعيم الراحل ، كان له ردود وأصداء ايجابية ، حتى أن الكثير قد وصفه بأنه أفضل كتاب تناول فيها حياة وشخصية الزعيم وبكل حيادية من وجهة نظر خصومه ومن وجهة نظر مؤيديه ... أنت شخصيا أستاذ عبد الخالق حسين كيف تقييم هذا الكتاب ؟؟!!- عبد الخالق حسين : أشكركم على إثارة موضوع كتابي عن (ثورة 14 تموز وقائدها الزعيم عبدا لكريم قاسم) وتقييمكم الإيجابي له والذي هو مبعث اعتزازي. كما وأشكر جميع الأخوة الذين قيموا الكتاب إيجابياً وهو دليل على حسن نواياهم وحرصهم على الحقيقة. فبعد أكثر من أربعين عاماً من حكم البعث الفاشي الذي حاول طمس الحقيقة وتشويه تاريخ العراق، وبالأخص فيما يتعلق بدور الزعيم عبد الكريم قاسم في الثورة وبعدها، أشرقت شمس الحقيقة لتفضح جميع الافتراءات والأقاويل التي صدرت من مزيفي التاريخ. فالتاريخ يهمل ولا يمهل. فعلى الرغم من محاولات التشويه لصورة الزعيم والتعتيم على نزاهته ووطنيته طيلة أربعة عقود، ما أن سقط تمثال الجلاد صدام حسين يوم 9 نيسان 2003 الأغر، حتى هبت الجماهير من أبناء شعبنا العراقي الوفي لإقامة تمثال الزعيم عبد الكريم قاسم في نفس المكان الذي أقام الفاشيون تمثالاً لأحد مجرميهم الذي شارك في محاولة اغتياله في ساحة رأس القرية في شارع الرشيد. وهذا هو حكم التاريخ العادل.
أما موقفي الشخصي من كتابي، فبالتأكيد أنا أعتز به، حيث بذلت فيه جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً للرد على أعداء الثورة وقائدها، في مرحلة تصاعد حملة التشويه ضد الزعيم، ودون أن أنجر إلى مهاترات وسفاسف، بل لجأت إلى المناظرة المنطقية والحقائق التاريخية الدامغة، مستشهداً بشهادات خصومه الذين وقفوا ضده في حياته، وندموا فيما بعد على أفعالهم الشنيعة، فنشروا اعترافاتهم ومذكراتهم، يشيدون فيها بنزاهة ووطنية الزعيم عبد الكريم قاسم، وزهده بالمال، وإخلاصه للعراق وحبه للشعب وتعلقه بالفقراء وإنصافه لهم. ولهذا وصف معظم النقاد الكتاب بالصدق والنزاهة، ونال تقييماً إيجابيا من قبل أعداء قاسم ومحبيه على حد سواء.
كما ويسعدني بهذه المناسبة أن أقول أن نفذت الطبعة الأولى من الكتاب بعد عام من نشره، ونظراً للطلب الواسع عليه في العراق وخارجه، قامت دار نشر (ميزو بوتاميا) في بغداد، وبجهود الصديق الأستاذ مازن لطيف علي، وإخراج الصديق الدكتور علي ثويني، مشكورين، بإعادة نشره بطبعة موسعة بنحو 40% عن الطبعة الأولى وبعنوان جديد وقصير (ثورة وزعيم) وعنوان ثانوي (ثورة 14 تموز العراقية وعبد الكريم قاسم)، وأعتقد أنه صدر إلى الأسواق حديثاً.
- مهند الحسيني : هل في نيتك كتابة كتب أخرى ؟؟ لاسيما انك تملك الاحترافية بهذا المجال والتي قد أثبتها في كتابك المميز عن الزعيم قاسم .- عبد الخالق حسين : في الحقيقة لدي لحد الآن كتابين جاهزين للنشر، كما في النية إعادة جمع وتنقيح مقالاتي التي بلغت لحد الآن نحو 700 ، و تبويبها على محاور، كل محور يصلح لكتاب مستقل. ولكن الشارع العربي لا يشجع على نشر الكتب في الوقت الحاضر، خاصة في عصر الإنترنت والفضائيات حيث يخصص القارئ العربي معظم وقت فراغه لهما.
وهنا استميح القراء العرب عذراً أن أقول بصراحة، أن العرب أقل الشعوب قراءةً واهتماماً بالكتاب. فحسب تقرير من الأمم المتحدة أن الشعوب العربية التي يبلغ تعداد سكانها أكثر من 400 مليون نسمة من المحيط إلى الخليج، لا يصدر فيها أكثر من 300 عنوان جديد سنوياً، ومعظم الكتب هي دينية وتراث