ankawa

الحوار والراي الحر => المنبر الحر => الموضوع حرر بواسطة: عبد الحسين شعبان في 15:45 16/06/2012

العنوان: يوسف سلمان يوسف "فهد"... جدل في إشكالية تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية ؟ (1 – 3 )
أرسل بواسطة: عبد الحسين شعبان في 15:45 16/06/2012

يوسف سلمان يوسف "فهد"...
جدل في  إشكالية تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية  ؟
(1 – 3 )

بغداد- خاص/صحيفة الزمان 11/6/2012
•   حوار مع المفكر والأكاديمي الدكتور عبد الحسين شعبان
        أجراه الصحافي يوسف محسن

جدل
تاريخ يوسف سلمان يوسف (فهد) الفكري والسياسي لم تتم دراسته ضمن التاريخ الوطني العراقي، بالرغم من أنّه يشكّل الحيّز الحيوي من تاريخ الفكر السياسي العراقي، وأقصد هنا دراسة (يوسف سلمان يوسف) من وجهة نظر نقدية متحررّة من القراءة الحزبية التقريضية، وإخضاع مشروعه إلى التفحص النقدي وتجاوز التصنيفات التي وضعته  كما يشير إلى  ذلك د. كاظم حبيب وزهدي الداوودي. حب وتقديس يوسف سلمان يوسف بسبب دوره التأسيسي للحزب الشيوعي العراقي والطريقة التي استشهد بها، إضافة  إلى الصيغة التي عملت بها الشيوعية العالمية والعربية في تحويل الزعماء السياسيين المؤسسين إلى المخيال الأسطوري، والتصنيف الثاني هي الحقد والكراهية والتشويه الذي تعرضت له شخصية يوسف سلمان يوسف من أشخاص انتقلوا من المؤسسة الشيوعية العراقية إلى صف المناوئين، إضافة إلى كتابات أولئك الذين يختلفون معه فكريا وسياسيا ويعدونه عدوًّا طبقيا لهم .
إن موضوع المراجعات والتي نعمل عليها تقوم على أساس الالتزام العقلي والأخلاقي لجهود الأشخاص والمؤسسين والرعيل الأول في نقل الأفكار العالمية ودمج العراق في الحداثة، وفي هذا الجزء نناقش الماركسية العراقية وأعمال  يوسف سلمان يوسف التي لم  تقدّم أي شكل من أشكال المعرفة السياسية، وإنما قدّم في أغلب أعماله الفكرية معرفة بالسياسة الفاعلة (البراكسيس) وبقيت الماركسية العراقية التي يظهر فيها العراق كمنطقة رمادية غامضة، تابعاً إلى إنتاج المعرفة من المركز السوفيتي، والتي تعدّ الماركسية اللينينية– الستالينية والتي وصلت إلى العراق، وهي تأويل قومي روسي للماركسية الكونية، نسخة غير قابلة للجدل والقراءة والحوار، نسخة مقدسة تحوّلت وظيفتها من أداة للمعرفة إلى وظيفة آيديولوجية تتمثل في إضفاء الشرعية على المصالح الإستراتيجية للإمبراطورية السوفيتية ومدرسة كادحي الشرق وجهاز الكومنترون إلى توابع لهذه  الإمبراطورية.
نواة العمل
هل استطاع يوسف سلمان يوسف (فهد) تعريب، تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية؟ هل استطاع يوسف سلمان يوسف تقديم قراءه متحرّرة للماركسية ؟  هل كان لديه صورة واضحة أو فهم مشوّش وغامض عن الأفكار الاشتراكية؟
إن أية قراءة تأملية دقيقة لأعمال يوسف سلمان يوسف السياسية تكشف عن أنها أعمال بسيطة في أطروحاتها الفكرية والاقتصادية والسياسية؟ مع العلم أن الحقل الفكري العالمي والعراقي كان يعجّ بالحركات السياسية  والتيارات الفكرية، فضلا عن ذلك  أن تلك الأعمال تفتقد إلى التأهيل الفكري والفلسفي، وكذلك  أنها غير مفارقة للثقافة العراقية التقليدية في تلك الفترة التاريخية، التي كان يطغى عليها  بل يعتبر من سماتها، الأسلوب التعليمي المدرسي وفي بعضها (عنف تطهير) وأتصور أنه يعود إلى النزعة الستالينية؟  في هذا الجزء من المشروع نحاور المفكر العراقي عبد الحسين شعبان .
مسارات فكرية
عبد الحسين شعبان أكاديمي ومفكر من الجيل الثاني للمجددين العراقيين، يساري النشأة والتوّجه، لم يتقيّد بتعاليم المدرسة الماركسية التقليدية، ومنذ الثمانينات كانت له مساهمات متميزة في إطار التجديد والتغيير والنقد للتيار الاشتراكي واليساري العربي ، تعكس مؤلفاته وكتبه ومساهماته المتنوعة انشغالات خاصة بقضايا الحداثة والديمقراطية والإصلاح والمجتمع المدني، واهتمامات فكرية لتطوير الفهم المتجدد لقضايا حقوق الإنسان ونشر ثقافته وخصوصاً من خلال وسائل الإعلام. 
ولد في مدينة النجف الأشرف (العراق) في 21 آذار(مارس) 1945. ودرس وتعلّم في مسقط رأسه ثم استكمل دراسته الجامعية في بغداد وتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد، وواصل دراسته العليا في براغ، حين نال درجتي الماجستير والدكتوراه (مرشح علوم) في القانون (دكتوراه فلسفة في العلوم القانونية) من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية.
باحث في القضايا الإستراتيجية العربية والدولية ومختص في القانون الدولي وخبير في ميدان حقوق الإنسان واستشاري في عدد من المنظمات والدوريات الثقافية والإعلامية والحقوقية، وعضو في عدد من المنظمات العربية والدولية ، مؤسس الشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان والتنمية (كردستان-لندن – بغداد) وأول رئيس لها في مؤتمرها التأسيسي (بغداد- نقابة المحامين 5/11/2004). الأمين العام المساعد للرابطة العربية الديمقراطية (صنعاء).
صدر له النزاع العراقي - الإيراني ، 1981.  والمحاكمة - المشهد المحذوف من دراما الخليج 1992 .  وعاصفة على بلاد الشمس، 1994 .  وبانوراما حرب الخليج 1995. والإختفاء القسري في القانون الدولي 1998. والسيادة ومبدأ التدخل الإنساني) 2000. ومن هو العراقي؟ إشكالية الجنسية واللاجنسية في القانونين العراقي والدولي، 2002. والإنسان هو الأصل - مدخل إلى القانون الدولي الإنساني، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة 2002  وجامعة الدول العربية والمجتمع المدني – الإصلاح والنبرة الخافتة 2004 وإشكاليات الدستور العراقي المؤقت – الحقوق الفردية والهياكل السياسية، 2004. والعراق: الدستور والدولة، من الإحتلال إلى الإحتلال، القاهرة، 2004، وجذور التيار الديمقراطي في العراق2007. والمعاهدة العراقية – الأمريكية: من الاحتلال العسكري إلى الاحتلال التعاقدي، وفقه التسامح في الفكر العربي- الاسلامي، ط1، بيروت 2005 وط2 إربيل 2012، وأبو كاطع - على ضفاف السخرية الحزينة، دار الكتاب العربي، لندن، 1998.  والجواهري: جدل الشعر والحياة، بيروت، ط1 ، 1997 وط2 2008، وط3 (بغداد) 2010 وسعد صالح- الضوء والظل، الوسطية والفرصة الضائعة، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009، وجدل الهويات في العراق: المواطنة والدولة، الدار العربية للعلوم، بيروت2009.  وتحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف، 2009، وكوبا : الحلم الغامض، 2011، والشعب يريد... تأملات فكرية في الربيع العربي، 2012 والمجتمع المدني: سيرة وسيرورة، 2012.

الماركسية أداة تحليل
 س: الماركسية نتاج لحظة تنويرية أوربية و بني اجتماعيه و صناعية وانساق ثقافية وفكرية وحواضن طبقية ؟ أتساءل كيف جرت عملية نقلها إلى المجتمعات اللاغربية وبالذات العراق ؟                                     
•     الماركسية أولاً وقبل كل شيء منهج وأداة للتحليل، وتعاليمها ليست سرمدية أو ثابتة أو غير قابلة للتغيير، لاسيما للتجديد والتطوير، بل هي تتطور مع تطور الواقع والعلم واكتشافاته وكان انجلز  نفسه قد أشار إلى أن علينا أن نغيّر إستراتيجيتنا بعد كل اكتشاف مهم في العلوم العسكرية، فما بالك بالمجتمع وما يزخر به من تراكم وتغيّر مستمرين. وبهذا المعنى فالماركسية جدلية ولا توجز في شخص أو كتاب أو نظام  أو مجتمع أو حضارة أو فكر مُصاغ مضى عليه نحو قرن ونصف، والاّ ستكون قد تحنّطت أو تجمّدت، لاسيما بإهمال التطور التاريخي. إنها خلاف ذلك حيوية ومتخالقة بحكم منهجها وتفاعلها مع محيطها فلا توجد وصفة جاهزة تصلح لكل زمان ولكل مكان.  ويُعتبر ماركس بداية الماركسية وليست نهايتها، والماركسية مفتوحة وقابلة للتطور، لاسيما بالنقد وبالمنهج الجدلي الذي جاءت به. وقد كانت ماركسية ماركس نفسه، أي جدليته، قد عممت معارف القرن التاسع عشر وسعت لاستنباط حلول ومعالجات للتنمية والتطور تنسجم معها، ولهذا يمكن اعتبار ماركسية ماركس هي علم الرأسمالية بامتياز، لأنه اكتشف قانون التطور التاريخي، ولاسيما عبر فائض القيمة، في حين أن الكثير من تعاليم ماركس عفا عليها الزمن.
نسخة مدرسية
س: ألم ترى أن النسخة العربية من الماركسية التي وصلت إلى هذا العالم قد تحوّلت إلى نسخة مقدّسة مدرسية ؟ ماركسية بدون فلسفة الأنوار ؟
 
لو جاء ماركس الآن لغيّر الكثير منها، بل وعارضها، وقد تستغرب إذا ما حاربه الكثير من غلاة الماركسيين أو المتمركسين الذين تمسكوا بتعاليمه وبعض مقولاته الشائعة وتركوا منهجه وجدليته، فتحوّلت عندهم الماركسية إلى كيانية مسطّحة بلغة شحيحة ونبض متقطّع ودون حرارة أحياناً، لدرجة بدت متحشرجة أو حتى مستنكفة من الجدلية الماركسية ذاتها، التي أخذتها عن طريق التكاتب والانبهار، دون قراءة ينابيعها والتعرّف على جوهرها الحقيقي والسعي لتكييفها لدراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والقانونية الخاصة بكل مجتمع ووفقاً للمنهج.
وبواسطة المنهج يمكن اكتشاف قوانين جديدة للتطور ووضع برامج وستراتيجيات ورسم تاكتيكات واستبدالها وتغييرها باستمرار وصولاً، لتحقيق الخطط والأهداف التي تم وضعها دون الوقوف عندها، لأن هذه متطورة ومتواصلة أيضاً.
ولم يكن ماركس كلّي الجبروت والقدرة، فهو إنسان مثل غيره من البشر، وله عمر بيولوجي محدد، ولكنه يختلف عنهم بمحاولته المعرفية وثقافته الموسوعية ورؤيته العبقرية وعقله التنويري الإستشرافي، وإبداعه في اكتشاف قوانين التطور الاجتماعي التاريخية من خلال منهجه الجدلي، حيث وضع علوم عصره في خدمة قضية التقدم، لاسيما في موضوع النضال ضد استغلال الإنسان للإنسان.
منهح تحليلي
س : الماركسية إذن في الأصل  منهج تحليلي فلسفي ؟
   الماركسية شاملة بمعنى أنها ليست فلسفة خالصة أو رؤية للتاريخ أو مشروعاً سياسياً واقتصادياً أو حركة اجتماعية ثورية للتحرير والتغيير حسب، بل هي كل ذلك التنوّع في حقوله المختلفة في إطار هارموني شامل، وبذلك اختلفت وتمايزت عن سواها من المدارس الفكرية التي سبقتها وعايشتها من الكانتية مروراً بالديكارتية وصولاً إلى الهيغلية.
   أعود وأقول الماركسية فكرة كونية غير محصورة بطبقة اجتماعية أو شعب أو مجتمع أو أمة أو لغة أو قارة أو دولة، إنها مثل كل الأفكار الإنسانية عامة وشاملة، ولاسيما من خلال مشتركات إنسانية: فمحاربة الاستغلال ليست لحظة غربية أو أوروبية، والمساواة والعدالة وأنسنة الإنسان ليست اختراعا ماركسياً، وإنما هي قيم للحرية والجمال والحق، ضخّت فيها الماركسية رؤيتها، عبر قراءة لتطور المجتمعات البشرية.
   وإذا كان العمر البيولوجي لماركس لم يسمح له بدراسة علم النفس والتحليل النفسي والدين والميثولوجيا والانتربولوجيا والسرديات وعلم الجمال والنقد الأدبي، وأن تعاليمه بشأن الدولة وذبولها أي " اضمحلالها" كانت طوباوية، وبخصوص رجعية الشعب التشيكي ورؤيته لشعوب الشرق، لاسيما مصر والهند والجزائر، لم تكن صحيحة، فقد كان على الماركسيين عدم الاكتفاء بتعاليمه التي تصلح لعصره وليس للعصور التي تلته، وضع تعاليمهم في ضوء المنهج، لكنهم للأسف الشديد، تركوا المنهج واكتفوا بمقولات واطروحات، أصبحت مثل البسملة لدى المؤمنين.
   هكذا تم تحويل الماركسية إلى لاهوت وكان الكثير من الماركسيين ولا زال بعضهم، بمن فيهم الذي " تلبرلو" ( من الليبرالية لاسيما الجديدة) على الطريقة اليانكية الجديدة، قد حوّلوا الماركسية إلى تعاويذ وأدعية يرددونها حتى دون فهم في الكثير من المرّات وفي غير سياقاتها، بعد أن أغلقوا عقولهم واستعاضوا عن نعمة التفكير بنقمة التخدير، بالاستنساخ والتقليد وليس بالإبداع والتجديد، مثلما يفعل بعض أصحابنا المؤمنين الذين يرددون الكثير من الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة أو تعاليم السيد المسيح، دون سياق تاريخي، مكتفين بالنقل وتاركين نعمة العقل الربانية، التي وهبها الله لعباده، كما يُقال.
أيقونة آيديولوجية
س: ألا ترى أن عدم إخضاع الماركسية إلى النقد والتفحص الدائم جعلها أيقونة آيديولوجية؟ 
إن الذين يتهيّبون من نقد الماركسية ويقصدون بذلك تعاليم ماركس، لم يهضموا حتى تلك التعاليم، ناهيكم عن منهجه، فالماركسية ليست أيقونة أو تحفة أو كتاباً مقدساً، لا يأتيها الباطل من خلفها أو من أمامها، كما أن ماركس لم يكن فيها نهاية مطاف، بل بداية له، وقد مثّل حلقة أساسية من الحلقات الذهبية في الماركسية، التي ينبغي أن تكون حلقاتها مستمرة ومتواصلة ومتغيّرة وبلا نهايات.
وسيكون من الإجحاف، بل والغباء اختصار الماركسية بماركس وحصرها عليه، فذلك سيكون معارضاً لمنهج ماركس ذاته ولماركس نفسه.
وليس من الصحيح وضع مسطرة ماركس وتجاربه الشخصية، وكأنها حقائق يتم التعامل معها باعتبارها قائمة وصالحة، وأية إضافة أو حذف أو نقد أو معارضة لها، وكأنه كفر أو انحراف أو تشويه أو خيانة، فقد كانت تجربة ماركس واجتهاداته الحياتية صالحة له ولعصره، ولا يقاس بها صحة أو خطأ تجارب غيره، وحتى ماركس يمكن نقده ماركسياً بمعنى استخدام منهجه واخضاعه للفحص في ضوء جدليته، ولذلك قلنا أن قراءته لشعوب الشرق كانت استشراقية وإن دمغه للشعب التشيكي بالرجعية على إطلاق هذه الكلمة كان خطأ، وأن رؤيته لفكرة الدولة فيها طوباوية ومثالية وغير ذلك.
لقد أعلت الماركسية من شأن الجماعية، باعتبارها تمثل الموضوعية الخالصة للتطور وفقاً لما سمي "بالحتمية التاريخية"، مبرّرة تقليص الذات البشرية بكبواتها وتوهماتها وصبواتها على حساب المجموع.
مثقف جماعي    
س: يعتبر البعض يوسف سلمان يوسف ( فهد ) مثقف جماعي أي يمثل جماعة سياسية، هل من علاقة بين الثقافة الفردية وثقافة الجماعة السياسية ؟
ولعل هذا ما تقصده أنت في سؤالك بخصوص فهد (يوسف سلمان يوسف) أمين عام الحزب الشيوعي الذي أعدم في 14 شباط (فبراير) 1949 مع رفاقه حسين محمد الشبيبي ومحمد زكي بسيم، بوصفه "مثقفاً جماعياً" يمثل جماعة سياسية. وقد يكون قصدك من "المثقف الجماعي" أن الماركسية السائدة استصغرت من دور الفرد والفردانية لدرجة الذوبان والانصهار، وبتقديري أن ذلك أحد الأخطاء الفادحة في التعاطي مع الفرد، الإنسان، وهو الأمر الذي كان على الماركسية أن توليه اهتماماً كبيراً، فقد كان دور الفرد في التاريخ مؤثراً وكبيراً، مثلما كان دور فهد في تاريخ الحركة الشيوعية في العراق، ولا يمكن الحديث عنها وعن تطورها دون التوقف طويلاً عند فهد ومكانته وكارزميته كقائد كبير، كما لا يمكن الحديث عن الماركسية دون دور ماركس التأسيسي، لكن هذا شيء، وعبادة الأفراد أو تقديسهم شيء آخر، مثلما حصل إزاء ستالين وقادة الأحزاب الشيوعية الحاكمة وغير الحاكمة، وانتقل مثل هذا الأمر إلى أحزاب وسلطات ما أطلقنا عليه حركات التحرر الوطني، دولاً أو منظمات، تلك التي طبقت الموديل الستاليني، بل أن بعضها زاد عليه تخلفاً ورثاثة.
ولكن مهما كانت مساهمة الأفراد جليلة في قيادة الناس لصنع تاريخها، فإن علينا أخذ الأفراد بمزاياهم الشخصية وقدراتهم الفكرية المحدودة، مثلما علينا أخذهم بأخطائهم ونواقصهم وبعض مواقفهم السلبية، ونقدهم من خلالها، والأمر قابل للمراجعة وإعادة النظر في الكثير من القضايا والمواقف، ابتداءً من الكاتب وانتهاء بالقادة والزعماء بمن فيهم ما أسميناهم "الزعماء التاريخيون". وأظن إن أحسن من وصف هذه الحالة بجمع المجد مع الأخطاء هو الشاعر الجواهري الكبير حين كتب عن الزعيم جمال عبد الناصر قائلاً :
أكبَرتُ يومك أن يكون رثاء
      الخالدون عهدتهم أحياء

لا يعصم المجد الرجال، وإنما
      كان العظيم المجد والأخطاء

تحصى عليه العاثرات، وحسبه
      ما كان من وثباته الإحصاء

   
الإستنبات في مجتمع بلا طبقات    
س:  من المفارقات أن الماركسية في العراق حاولت الاستنبات في مجتمع بلا طبقات اجتماعية أو صراع طبقات و أنما مجتمع اللا مجتمع ( ملل ، طوائف ، أثنيات ، قوميات ) هل هنا يكمن الضعف البنيوي للماركسية بنسختها العراقية ؟                           

لقد ظلّ الماركسيون ولاسيما في منطقتنا العربية يعانون من فقر فكري وشحّ نظري، وخصوصاً بعد تطبيقات الدولة البيروقراطية الأوامرية الاستبدادية وساد الكسل والترهّل في أوساطهم، فضلاً عن ضعف المبادرة لدرجة الجمود أحياناً وانتظار تعليمات المركز الأممي، وفي خضم تلك الصورة السائدة ضاع ماركسيون مجتهدون وناقدون ومجددون حقيقيون، في حين استقوت الماركسية الطقوسية والمدرسية والمسلكية والأوامرية والذرائعية، بالجهاز الحزبي البيروقراطي والجهازالأمني في ظل الأحزاب الحاكمة، وفي ظروف العمل السري في الأحزاب غير الحاكمة، التي شهد بعضها إن لم يكن غالبيتها الساحقة تصفيات داخلية وعزل وتهميش واتهامات ما أنزل الله لها من سلطان.
وقد توقّفتُ عند هذه الظاهرة  عربياً فذكرت أمثلة نافذة، مثلما قارنتها بالحركة الشيوعية كونياً، وذلك في كتابي " تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف".
الماركسية من حيث الجوهر فكرة حداثية تعنى بدراسة الظواهر وتحليل الأوضاع ونقدها، وتلك وظيفة المثقف الماركسي بالأساس، الذي عليه استخدام المنهج الجدلي ودراسة المجتمعات البشرية بتنوّعها، مع أخذ ظروف كل مجتمع وتشكيلاته الاجتماعية وطبقاته وقومياته وأديانه وفئاته وسلالاته ولغاته وعشائره وغير ذلك، من فسيفساء متنوّعة وتعددية ثقافية.
لم يتم استنبات الماركسية في غير بيئتها، فالتربة العراقية كانت ولا زالت صالحة لوجود تيار ماركسي نقدي وضعي، كان نواته حسين الرحّال ومحمود أحمد السيد وعبد الفتاح ابراهيم ونوري روفائيل وفهد وزكي خيري وعبد القادر اسماعيل وقاسم حسن وغيرهم.
وإذا لم يكن في المجتمع العراقي وجود للطبقات، لكن الاستغلال كان قائماً وتتحد والحالة هذه المهمات الوطنية، بالمهمات الاجتماعية، فطرد المستعمر البريطاني والمطالبة بإلغاء الاتفاقيات الاسترقاقية، المذلّة والمجحفة، والدعوة لمساواة المرأة بالرجل والمطالبة برفع المستوى المعيشي، لاسيما للفقراء، من فلاحين وشغيلة وتحسين ظروف العمل والتخلص من ظلم الاقطاع وإطلاق الحريات ونشر التعليم والمطالبة بالصرف الصحي وبناء مستوصفات ومستشفيات والقضاء على البطالة والأمية، كلها عبارة عن تداخل الوطني بالاجتماعي.
ولعل وجود هذه المطالب على رأس قائمة الحركة الشيوعية المطلبية هو جزء من النضال المتشعّب في مرحلة التحرر الوطني، لكن ذلك لا يعني إهمال وجود مِلَل ونِحل وأديان وطوائف وإثنيات وقوميات وعشائر وقبائل، الأمر الذي لم يخلق ضعفاً أو فقراً بقدر ما كان عنصر قوة وإثراء، ولذلك سترى هذه الفئات المختلفة، لاسيما المحرومة منها مكانها الطبيعي في الحركة الشيوعية المدافعة عنها وعن عموم الشعب إذا ما انتهجت سياسة صحيحة، سواءً بالمطالب الوطنية أو المطالب الاجتماعية، وسيكون الدفاع عن الحقوق والمساواة والحريات والعدالة الاجتماعية هو دفاع عن الفئات المحرومة أو المضطهدة أو التي يجري التمييز بحقها جميعها، سواءً كانت على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي أو قومي أو جنسي أو لغوي أو اجتماعي أو ثقافي أو لأي سبب آخر.
استقالة الفكر التنويري
س: ما هي العوامل البنيوية التي جعلت اليسار العراقي بصورة خاصة  والعربي بصورة عامة يستقيل عن دوره التنويري ؟
كان الحضور اليساري والماركسي واضحاً ومبرّزاً في الأربعينيات والخمسينيات وإلى حدود معيّنة في الستينيات، لكن اليسار العراقي والعربي "استقال" عن دوره التنويري والتعبوي، لاسيما في تمثيل الفئات المحرومة والتعبير عن تطلعاتها، فاحتلّه الآخرون، سواءً كان من القوميين أو الإسلاميين في وقت لاحق. تصوّر أن مدينة الثورة التي بناها الزعيم عبد الكريم قاسم كانت معقلاً للشيوعيين وقاومت انقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963 الذي حمل حزب البعث إلى السلطة، إلاّ أنها تحوّلت تدريجياً وفي غفلة من الزمن إلى نقيض ذلك، لاسيما بعد أن اشتغل عليها الانقلابيون الجدد الذين جاءوا إلى السلطة مرّة ثانية في 17 تموز (يوليو) 1968، وكانت تنظّم فيها ندوات تحت عنوان " أنت تسأل والحزب يجيب" وتم تقديم مغريات لاستقطاب الكثير من قطاعاتها، لاسيما مع تحسن الوضع الاقتصادي وفرص العمل، وخصوصاً في السبعينيات مع محاولات للتأثير الفكري والآيديولوجي المصحوب بالقمع البوليسي والارهاب المنظّم، فأصبحت مدينة الثورة تسمّى مدينة صدام، حيث احتفلت بيوم زيارته لها ورفعت سيارته فوق الرؤوس وكانت تحتفل بذلك سنوياً.
لكن الخريطة السياسية تبدّلت في فترة الحرب العراقية- الإيرانية تدريجياً حيث بدأت التوابيت تتقاطر على المدينة بدلاً من بعض  الامتيازات والإغراءات، وتدريجياً ظهر تيار رافض، حتى اكتسبت المدينة شكلاً وملمحاً جديداً أساسه صعود الحركة الدينية الإسلامية الشيعية، وكان من الطبيعي أن يتم استبدال اسمها إلى مدينة الصدر بعد الاحتلال والإطاحة بنظام صدام حسين، لاسيما وأن النظام الدكتاتوري الشمولي كان قد استبدلها من "مدينة الثورة" إلى "مدينة صدام".
والموقف ذاته ينسحب على العمل في الأوساط الدينية، التي كانت في سنوات الأربعينيات والخمسينيات قاعدة ينتقي منها الحزب الشيوعي عدداً من النشطاء ويزّجهم في النضال الوطني والاجتماعي، لكن الأمر تغيّر بسبب ظروف موضوعية مثل الإرهاب والقمع الذي تعرّض له الشيوعيون وظروف ذاتية مثل النكوص عن دورنا وأمور تتعلق برؤيتنا، وإذا بها تتحول إلى نواة وبؤرة للتيارات الاسلامية، وخصوصاً لحزب الدعوة، وللأحزاب الإسلامية لاحقاً،.
تنصيصات
   هل استطاع يوسف سلمان يوسف ( فهد ) تعريب ، تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية ؟ و تقديم قراءه متحررة للماركسية ؟
   لقد ظلّ الماركسيون ولاسيما في منطقتنا العربية يعانون من فقر فكري وشحّ نظري، وخصوصاً بعد تطبيقات الدولة البيروقراطية الأوامرية الاستبدادية وساد الكسل والترهّل في أوساطهم، فضلاً عن ضعف المبادرة لدرجة الجمود أحياناً وانتظار تعليمات المركز الأممي،
     الماركسية أولاً وقبل كل شيء منهج وأداة للتحليل، وتعاليمها ليست سرمدية أو ثابتة أو غير قابلة للتغيير، لاسيما للتجديد والتطوير، بل هي تتطور مع تطور الواقع والعلم واكتشافاته
   
العنوان: يوسف سلمان يوسف ..(فهد) جدل في إشكالية تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية ؟ ( 2 – 3 )
أرسل بواسطة: عبد الحسين شعبان في 15:46 16/06/2012
يوسف سلمان يوسف ..(فهد)
جدل في إشكالية تعريق النسخة  السوفيتية من الماركسية ؟
( 2 – 3 )

حوار أجراه يوسف محسن - بغداد
بغداد- خاص/صحيفة الزمان 12/6/2012

•   جدل

قال د. عبد الحسين شعبان:  ان فهد استطاع  ضمن المتوفر له من كتب ومطالعات ودراسة حزبية في مدرسة كادحي الشرق في موسكو 1939-1941 وجولات قبل ذلك ومشاركات في الكومنترن (1935) قراءة الوضع السياسي والاجتماعي في العراق في ضوء المنهج، واستخدم معرفته لتحليل طبيعة المجتمع العراقي، من خلال رؤية عراقية وإن خضعت للسائد من الأفكار. وبالطبع فإنه لم يكن مفكّراً ولم يكن أكاديمياً، لكنه كان مناضلاً كبيراً وقائداً سياسياً شجاعاً ومجتهداً، وليس بالضرورة أن يكون القائد مفكّراً . وأضاف في حوار مع مشروع مراجعات في الفكر العراقي الحديث : إن فهد كان  يمتلك حلماً كبيراً أسمه تحرير العراق وسيره نحو الإشتراكية، لاسيما بوجود الاتحاد السوفيتي " محرر" الشعوب وأبو البروليتاريا العالمية " ستالين"، كما كان يُطلق عليه، ولم يكن لديه تصوّرات واضحة عن الاشتراكية وهو ما عكسته مؤلفاته، كما لم توجد لديه ضمن العقلية الستالينية السائدة أية إشارة سلبية على التطبيقات الاشتراكية، سواءً خلال فترة الحرب العالمية الثانية أو ما بعدها، واتّسمت صحافة الحزب والكراريس التي كان يصدرها على محدوديتها، بالتمجيد والإشادة بدور الجيش الأحمر وتضحياته.
***
كان فهد يمتلك حلماً كبيراً إسمه تحرير العراق وسيره نحو الإشتراكية، لاسيما بوجود الاتحاد السوفيتي " محرر" الشعوب وأبو البروليتاريا العالمية " ستالين"، كما كان يُطلق عليه ولم يكن لديه تصورات واضحة عن الاشتراكية وهو ما عكسته مؤلفاته، كما لم توجد لديه ضمن العقلية الستالينية السائدة أية إشارة سلبية على التطبيقات الاشتراكية، سواءً خلال فترة الحرب العالمية الثانية أو ما بعدها، واتسمت صحافة الحزب والكراريس التي كان يصدرها على محدوديتها،  بالتمجيد والاشادة بدور الجيش الأحمر وتضحياته.



   

تعريق النسخة السوفيتية

س / هل استطاع يوسف سلمان يوسف ( فهد ) تعريب ، تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية ؟    و تقديم قراءه متحررة للماركسية ؟

   استطاع  فهد ضمن المتوفر له من كتب ومطالعات ودراسة حزبية في مدرسة كادحي الشرق في موسكو 1939-1941 وجولات قبل ذلك ومشاركات في الكومنترن (1935) قراءة الوضع السياسي والاجتماعي في العراق في ضوء المنهج، واستخدم معرفته لتحليل طبيعة المجتمع العراقي، من خلال رؤية عراقية وإن خضعت للسائد من الأفكار. وبالطبع فإنه لم يكن مفكّراً ولم يكن أكاديمياً، لكنه كان مناضلاً كبيراً وقائداً سياسياً شجاعاً ومجتهداً، وليس بالضرورة أن يكون القائد مفكّراً، فجيفارا كان بطلاً وقائداً مقداماً وجورج حبش وياسر عرفات كانا قائدين كبيرين، وكان الملاّ مصطفى البارزاني زعيماً كردياً كبيراً، وشعلان أبو الجون والشيخ الخالصي والشيخ الضاري وكامل الجادرجي ومحمد مهدي كبّه وسلام عادل الذين كانوا قادة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، في حين جمع غاندي بين الفكر والقيادة مثلما هو نيلسون مانديلا ومثلهما لينين وماوتسي تونغ وهوشيه منه ومحمد باقر الصدر والإمام الخميني وغرامشي.
    لعلّ المفكر الخالص بمعنى انصرافه للفكر بالدرجة الأساسية هو من أمثال طه حسين وعلي الوردي وعبد العزيز الدوري، وجون بول سارتر وميشيل فوكو وهابرماز وجواد علي والياس مرقص وياسين الحافظ ومحمد عابد الجابري وأراكون ونصر حامد أبو زيد  ومحمود أمين العالم وحسين مروّة وغيرهم، وإن كان لكل منهم مشروعه الخاص.
وقد لا تجتمع صفة القائد والمناضل مع صفة المفكر والباحث، لكن القائد هو الذي بإمكانه الاستفادة ممن حوله من المفكرين والباحثين وتسخير طاقاتهم وكفاءاتهم لخدمة مشروعه السياسي، لاسيما بمشاركتهم وإقناعهم،   فمثلاً في الوقت الذي كانت النظرة إلى الدين  في الوسط الشيوعي سلبية، فقد دعا فهد لاحترام الأديان والطقوس والشعائر الدينية، وطلب من الرفاق في السجن دراسة القرآن والاحتكاك برجال الدين ومحاورتهم بروح إيجابية. وإذا كان فهد لم يقرأ الماركسية من مصادرها كما أعتقد، لكنه قرأ ما كُتب عنها في تلك الفترة التي هيمن عليها الفكر الستاليني، وإذا توخيّنا الدقة أكثر فيمكن القول أن فهد قد لا يكون تبحّر في الماركسية بحكم مهماته النضالية والمسلكية اليومية، لكنه بحسّه الثوري وسليقته الإنسانية وشجاعته، حاول ونجح إلى حدود غير قليلة في تكييف بعض قواعدها لكي تكون منسجمة مع الواقع العراقي، وتلك لعمري براعة وخلقاً وإبداعاً لا يمكن نكرانه.

فهم مشوش وغمض
س/ من خلال قراءتكم أعمال يوسف سلمان يوسف ما هو تصوره عن الاشتراكية ، الماركسية ، هل لدية صور واضحة؟ أو فهم مشوش وغامض عن الأفكار ؟
   
   / كان فهد يمتلك حلماً كبيراً إسمه تحرير العراق وسيره نحو الإشتراكية، لاسيما بوجود الاتحاد السوفيتي " محرر" الشعوب وأبو البروليتاريا العالمية " ستالين"، كما كان يُطلق عليه ولم يكن لديه تصوّرات واضحة عن الاشتراكية وهو ما عكسته مؤلفاته، كما لم توجد لديه ضمن العقلية الستالينية السائدة أية إشارة سلبية على التطبيقات الاشتراكية، سواءً خلال فترة الحرب العالمية الثانية أو ما بعدها، واتّسمت صحافة الحزب والكراريس التي كان يصدرها على محدوديتها،  بالتمجيد والاشادة بدور الجيش الأحمر وتضحياته.
لعل انقسام العالم إلى معسكرين: معسكر الفاشية والنازية، وجبهة التحالف المعادية لهما وخصوصاً بعد انضمام الاتحاد السوفييتي إليها في حزيران (يونيو) 1941 قد لعب دوراً في الانحياز والاصطفاف المسبق. لقد كان فهد واعياً لدور قوى التحالف المعادي للفاشية، لاسيما بانضمام الاتحاد السوفيتي، ولذلك ركّز جهود الحزب خلال تلك الفترة في فضح النازية والفاشية فكرياً وسياسياً مبيّناً خطرها على الشعوب، بما فيها العربية.
وبحكم إلتقاطه للحلقة المركزية في النضال فقد خفّض من نبرة العداء لبريطانيا، على الرغم من تأييده لحركة رشيد عالي الكيلاني (المعروفة بثورة مايس ايار/مايوالعام 1941) لكن ذلك كان قبل انضمام الاتحاد السوفييتي إلى التحالف المعادي للفاشية.
وبهذا المعنى فقد كان فهد كقائد ومثقف قادراً على تحديد الحلقة المركزية واخضاع بقية الحلقات إليها وبالانتقال بتكتيكات مرنة لتغيير المواقع تبعاً لتغيّر المواقف، فقد كانت أطروحاته متقدّمة وجريئة وواقعية وبرغماتية في الآن ذاته على الرغم من بساطتها، ولكن ينبغي أخذها ضمن سياقها التاريخي والثقافة السائدة آنذاك، لاسيما بخصوص الشأن العراقي، دون محاولة إضفاء أبعاد فلسفية أو تنظيرية عليها، لأن مثل تلك الأبعاد تحتاج إلى خلفية فكرية لم يكن فهد يمتلكها بحكم ثقافته ومصادرها المحدودة، إضافة إلى أنه طغى عليها الإسلوب التربوي أو المدرسي، لكن ذلك يعكس في الوقت نفسه قدرته وحيويته على فهم المجتمع العراقي وخصوصياته، فضلاً عن مستوى الرفاق الذين ينتمون إلى الحركة آنذاك والذين هم بحاجة إلى أسلوب مبسّط لكي يلامس عقولهم ويدخل إلى شغاف قلوبهم، وهو ما حصل للعشرات، بل للمئات الذين انضموا إلى الحزب الشيوعي، عبر شعارات بسيطة، لكنها واقعية فضلاً عن شعبيتها وحتى شعبويتها أحياناً، ناهيكم عن صدقية المُثل والقيم التي تمت الدعوة إليها، وخصوصاً التي تم تجسيدها عبر شخصيات كارزمية مثل فهد ورفاقه الأوائل.

مقت للمثقفين
س / هناك مقت شديد يمارسه يوسف سلمان يوسف ضد المثقف الافندي هل يستمد هذا المقت والكراهية من التقاليد اللينينية – الستالينية لكون هولاء يفتقدون إلى الضبط الحديدي الذي تحتاجة الاحزاب السياسية وخاصة في العمل السري ؟ تذكر بعض المصادر أن بعض الأفندية في الحزب طالبوا يوسف سلمان يوسف بعقد مؤتمر ديمقراطي وصفهم ( بالفراشات العاهرة) حيث قال ( إنّ تعشقهم للديمقراطية وحرية العمل والتفكير والتصرف يشبة تعشق تلك الفراشات العاهرة التي تنتقل من مستنقعٍ الى آخر ) القيادة الحديدية هذه ليوسف سلمان يوسف ، لماذا أوجدت أرضاً خصبة في العراق؟ هل تعود إلى طبيعة الثقافة السياسية في المجتمع العراقي؟


   لعل الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني عدم وجود سلبيات أو نواقص لدى قيادة فهد، فقد كانت احدى نقاط ضعفه الأساسية هي نظرته السلبية إلى المثقف وهي امتداد لنظرة لينين ذاته، وفيما بعد نظرة ستالين الاستصغارية أيضاً، إضافة إلى تجربته العملية غير المشجعة، لدرجة أخذ يزدري المثقفين ويشعر بالضيق إزاءهم، ولعل هذا حصل مع العديد منهم داخل الحزب وخارجه، من عبد الفتاح إبراهيم إلى ذو النون أيوب إلى داود الصايغ إلى زكي خيري وإلى غيرهم، وهي النظرة التي إستلهمها هادي العلوي في موقفه من المثقفين، في حديثه عن الأغيار الأربعة، وهم الحكّام والمثقفون والرأسمالية والاستعمار. وقد عبّر عن ذلك في بياناته المشاعية في التسعينيات حين يقول: المثقفون مأخوذون بالخساسات الثلاث ويجعلونها من صميم العمل الثقافي، وبعد أن يتهمهم بالرخاوة حسب لينين يحدد الخساسات الثلاث بالمال والسلطة والجنس.
وكان ضيق صدر فهد من المثقفين يستند إلى 1- مطالبتهم له بعقد مؤتمر للحزب  2- اعتراضهم على قيادته، لاسيما تفرّده بالقرارات 3- حدّته في التعاطي مع النقد 4- اعتقاده أن المثقف سريع العطب وليبرالي، في حين كان هو يبحث عن ضبط حديدي يحتاج له العمل السري، انطلاقاً من كتاب لينين "ما العمل؟" الذي صدر في العام 1903، ولذلك ورد في تثقيفه، لاسيما في كتاب "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" ردّاً على سؤال الرفيق رياض ما يحقّر المثقفين ويزدريهم ويطلق عليهم لقب الأفندية، بل ويطلق عليه وصف "الفراشات العاهرة" التي تنتقل من مستنقع إلى آخر، وذلك في نقده للفكرة الديمقراطية والمطالبة بحرية العمل والفكر.
ولعل هذه الفكرة الازدرائية ليست خاطئة فحسب، بل تمثّل قصور نظر، فحتى الاشتراكية لا يمكن تحقيقها بطريق آخر غير الديمقراطية، لأنها حسب لينين (نظرياً على الأقل) ستصل إلى استنتاجات رجعية وخرقاء.
وقد كان هادي العلوي يكرر ما يذهب إليه فهد عن شيوعية الأفندية- والأفندي تعني باللغة التركية- السيد الكبير. وعلى الرغم من أن زكي خيري كان من ضحايا هذه النزعة السلبية إزاء المثقفين، من جانب فهد الذي كان ينتقص من موقعه القيادي، الاّ أنه هو الآخر حمل فيروس العداء للمثقفين أيضاً، الذي لولاهم لما استطاع الحزب أن يتوسع ويمتد إلى الأوساط العمالية والفلاحية وعموم الشعب.

المثاقفة مع الفكر الغربي
س / ألم ترى معي أن الماركسية التي وصلت إلى العالم العربي بشكل عام والعراق بشكل خاص ( نسخة حسين الرحال ويوسف سلمان يوسف ) والتي تمثّل القاعدة الآيديولوجية لفكر الطبقة العاملة، لم تكن تعبّر عن محتوى طبقي ، وإنما كانت نتاجاً للمثاقفة مع الثقافة الغربية ؟

   / من قال أن الماركسية تنظر إلى النضال الاجتماعي بوصفه نضالاًَ طبقياً حسب، وإنما هو نضال وطني أيضاً، لاسيما في مرحلة ما يطلق عليه الثورة الوطنية الديمقراطية التي تنتصب أمامها مهمات ديمقراطية، يتداخل  فيها الاجتماعي والوطني، وهي مهمات انتقالية أساسية للتحوّل الاشتراكي. قد يكون حسين الرحّال بثقافته الماركسية وإطلاعه على ثورة سبارتاكوس 1919 في ألمانيا وإتقانه التركية والألمانية إضافة إلى الانكليزية ساعدته في تعزيز قراءاته، وهو بتوجهاته أقرب إلى المثاقفة، لاسيما إطلالاته على ماركس وانجلز ودعوته المبكّرة إلى تحرير المرأة ومشاركته في الحوار الدائر حول السفور والحجاب، لكن قيادة فهد كانت نسخة عراقية من الثقافة الماركسية السائدة بحدودها الدنيا في الثلاثينينات، لاسيما بعد أن ترجم خالد بكداش "البيان الشيوعي" ولم تُظهر دراساته في مدرسة كادحي الشرق سوى الاطلاع على أسس الاقتصاد بالطبعة الستالينية ومبادئ اللينينية التي وضعها ستالين، واهتمام كبير بكتاب لينين "ما العمل؟" وفيه ردود على المارتوفية، والتشدد باتجاه الضبط الحديدي البروليتاري.
ابتكارات فهد وإبداعاته
س / إن ماركسية يوسف سلمان يوسف تقع في سوء استعمال الكليات العلمية للماركسية حيث تعمم النتائج المعرفية والسياسية على المجتمع العراقي حيث تم اختراع الطبقات الاجتماعية ( ارستقراطية ) (برجوازية ) (برجوازية صغيرة ) (بروليتارية ) ماهو قولك ؟
    أظن أن أطروحات فهد تلك كانت جديدة على المجتمع العراقي، وأبدع فهد في تكييفها للظروف العراقية، حتى الأمثلة التي كان يضربها لتفسير الديالكتيك كانت بسيطة ومن واقع المجتمع، وتردد على لسانه أكثر من مرّة منارة سوق الغزل وسوق هرج  "والباسورك" (وهو نوع المكسّرات المشهورة آنذاك)، وكانت  جريدة القاعدة تنقل حياة الناس وما يدور بأسلوب مبسّط وقابل على الفهم بالنسبة لبسطاء الناس، الذين استطاع جذبهم، على الرغم من الانشقاقات والانقسامات التي سادت فترة قيادته.
وفي محاولة اضفاء تقسيمات طبقية على المجتمع العراقي، تحدّث فهد عن أرستقراطية وكومبرادور وبرجوازية وسطى وبرجوازية صغيرة وبروليتاريا، وهي تصنيفات غير دقيقة آنذاك في حين أن أهم المنشآت الكبرى عهد ذاك كانت في النفط والميناء والسكك الحديدية، في مجتمع شبه إقطاعي يحتاج إلى نشوء وتنمية البرجوازية الوطنية ودعم الصناعات والمنتجات المحلية لكي تستقيم، وعلى الرغم من أنه رفع شعاراً صحيحاً " قوّوا تنظيم حزبكم.. قوّوا تنظيم الحركة الوطنية"، الاّ أن اتجاهاً انعزالياً ساد آنذاك في الموقف من الكتل والتنظيمات الماركسية، سواءً التي انشقت عن الحزب أو كوّنت لها تنظيمات خاصة مثل حزب الشعب بقيادة عزيز شريف أو حزب الاتحاد الوطني بقيادة عبد الفتاح ابراهيم، وهذا الموقف الاستعلائي انسحب على تنظيم الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي، وكذلك الموقف السلبي من حزب الاستقلال القومي العربي بقيادة محمد مهدي كبّه.
لعل النهج الستاليني الإقصائي واحتدام الصراع خلال الحرب العالمية الثانية وسرّية العمل، دفعت إلى مثل هذه التوجهات التي تركت تأثيراتها على مجمل عمل الحزب في إطار ثقافة الأفضليات وتحريم وتجريم، بل وحتى تخوين الآخر في لحظة الاختلاف، ونتذكّر لاحقاً حديث جماعة القاعدة عن راية الشغيلة " راية البلاط" ومعظمهم سجناء يقضون أحكاماً ثقيلة خلف القضبان.
وكانت قيادة فهد والقيادات التي من بعده أخشى ما تخشاه هو استقلالية الرأي والتفكير الحر، وهذا ينطبق إلى حدود كبيرة على تعامل فهد مع المثقفين الشيوعيين عهد ذاك، وهي النزعة التي تمسكت بها الأحزاب الشمولية جميعها سواءً كانت قومية بما فيها حزب البعث أو إسلامية، وكلّها يمكن اعتبارها " أحزاب لينينية " بطبعة ستالين خصوصاً إزاء الرأي الآخر وقواعد الضبط والصرامة.

التأويل وإعادة التأويل
س / في الماركسية العراقية تم تحويل النصوص الماركسية الأم إلى نصوص مقدسة ( كانت تجري عملية تأويلها واعادة التاويل ) باستمرار بوصفها تحمل الحقيقة المطلقة ولا تقبل ( صراع النزوعات ) أو نسبية المعرفة التاريخية) ولا تسعى إلى التمازج بين الماركسية العالمة والحس الشعبي العام ؟

   / كان ستالين يقول كلّما استعصي أمرٌ علينا استدعينا لينين من قبره، وكلما كانت تستعصي مسألة على لينين يستدعي ماركس من لحده، وهكذا فإن التعبّد في النصوص كان سمةً سائدة للاعتقاد الخاطئ، أن ماركس هو نهاية الماركسية لا بدايتها ، وحين تم " روسنة" الماركسية عبر "لنينتها"، وهي محاولة قام بها ستالين لإسكات معارضته الحزبية، لاسيما إزاء تروتسكي وبوخارين وزينوفيف وغيرهم فقد تم توسيع دائرة القدسية، وهكذا أضيفت اللينينية إلى الماركسية، لتصبح الماركسية اللينينية، وخلال حكم ستالين الذي استمر من العام 1924 ولغاية العام 1953 انتشرت تدريجياً صور الأربعة الكبار: ماركس، انجلز ، لينين، ستالين، وعندما انتصرت الثورة الصينية وجرت محاولة لاحقة لصنينة الماركسية، فقد تم وضع صورة ماوتسي تونغ جنب صور ماركس ولينين وهكذا.
وكجزء من التراث الشيوعي، فقد كان فهد يُسكتْ خصومه كلما اقتبس من أبو البروليتاريا العالمية أو نسب قولاً إليه، وعندها لا بدّ للمناقشسة أن تنتهي، حتى وإن كان القول المقتبس في غير سياقه وفي غير محلّه، ولعل تلك التوجهات لم تكن بعيدة عن تعليمات الكومنترن والسياسات السائدة آنذاك.
لقد تعبّدنا كثيراً في محراب النصوص ونظرنا إليها بقدسية، باعتبارها غير قابلة للخطأ، فضلاً عن النقد، مثلما يفعل بعض المتدينين عندما يرددون ببغائياً أقوال بعض رجال الدين أو يستخدمونها بطريقة لا سياق فيها وفي غير موضعها، وغالباً ما استخدم هؤلاء القادة السياسيون، مثلما استخدم بعض رجال الدين، المنتسبين أو المقلدين، لأغراض سياسية وأحياناً خارج نطاق الدين، مثلما يستخدمهم بعض السياسيين خارج نطاق المبادئ التي يدعون إليها.

هامشية النسخة  السوفيتية
س / أن الماركسية القادمة من سياسات(  الكومنترن ) و( مدرسة كادحي الشرق )  ظلت برّانية وهامشية في الثقافة العراقية ، بقيت عروض بيداغوجية مبسّطة لمقولات في التاريخ والسياسة والاقتصاد فماذا تقول؟

    / قام فهد بمحاولات عديدة لتكييف ما كان يقرأه على الواقع العراقي، ولعل أهم إنجازاته هو بناء حركة شيوعية مقدامة وإصراره على المواصلة والاستمرارية، وقدّم قوة مثل للقائد الشجاع الذي كان مستعداً لتقديم حياته دفاعاً عن مبادئه، وفعل ذلك مختتماً ومودعاً العالم أجمع بتلك العبارة الأثيرة:"الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق" . وكانت تلك الصرخة المدوية أشبه بكلمة السر التي احتفظ بها الكثير من الشيوعيين واستحضروها لحظة الامتحان، على الرغم من حبهم للحياة، لكن تفانيهم من أجلها ومن أجل مثل الخير والحرية والعدالة والجمال جعلهم لا يهابون الموت إنْ اضطروا عليه.
لكن ذلك لا يمنع من أنه هناك الكثير من الأخطاء التي صاحبت فترة قيادة فهد، والتي يمكن إخضاعها إلى سياقها التاريخي، مثل تشبثه بعبادة الفرد وازدراء دور المثقفين والتقليل من شأن القوى الوطنية الأخرى، وتحويل الحياة الحزبية الداخلية إلى حياة شبه عسكرية، حيث لا يمكن مناقشة القائد بقدر تنفيذ وإطاعة أوامره وقراراته.
كانت الماركسية ثورة على الآيديولوجيا، الاّ أنها تحوّلت إلى معتقد آيديولوجي محدد ومنغلق لدى الكثيرين من أتباعها، الذين اكتفوا بقراءتها، كما توصل إليه ماركس، دون أن يستمروا في تطبيق قراءة الماركسية كمنهج  للجدل وإمكانية تطبيقه على ماركس نفسه، أي أن الأجدر هو قراءة المنهج الذي قرأ به ماركس ماركسيته وواقع المجتمعات الأوروبية.
وبموجب هذا المنهج بإمكاننا قراءة واقع مجتمعاتنا العربية، ولكن بعضنا وهو الأعم الأغلب قرأ ماركس بعد تحنيطه وترك ماركسيته وجدليته جانباً، لدرجة أقرب إلى موتها، لاسيما باندثار الأحلام وغياب النزوع إلى التحرر وضعف الإرادة وتعطل الاستقلالية، وهي بلا أدنى شك التحوّل عن حيوية الماركسية ومنهجها الجدلي إلى مقولات أقرب إلى " المعلبات" حتى وإن كانت "صائبة"، لكنها في غير محلّها وفي قسم كبير منها دون روح، أو تكون قد فقدت عافيتها بعد أن تجاوزها الزمن.
ولعل ماركس هو من تحدّث عن "الوعي الزائف" في كتابه "الآيديولوجيا الألمانية" بمعارضة مفهوم هيغل "الوعي الشقي" عندما تكون الآيديولوجيا شكلاً نسقياً محدداً، فإنها تصبح وعياً زائفاً لا يعكس الصراع الداخلي منها ولا يعرض لنا أضدادها.
   قلت في كتابي تحطيم المرايا: ماذا يحدث لو كان ماركس" مَفْهَم (أي قدّمه كمفهوم) كل شيء أو قال فيه، فلن يحدث شيء، بعد ذلك مثلما اختلف الناس بعد موت النبي محمد، حينها خرج أبو بكر الصديق على الناس ليقول قولته الشهيرة " من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت" وسواءً كان الأمر لهذه الحالة أو للحالة الأولى، فإن الحياة تتطور وتحتاج دائماً إلى التجديد والتغيير والانفتاح، ولن تصمد القوالب والنسقيات، بل ستتحول الى يباس في حين أن الحياة ستمضي، مثل نهر جارف وبحر لا يستكين.
من خلال قراءتي الوضعية النقدية للماركسية فإن ماركس ساهم بمحاولة إجرائية مرهونة بظروف ماركس الشخصية من جهة، بالقراءة والتنقيب والبحث، ومن خلال منهج لازال صائباً ويمكن استخدامه، لكن ماركس لم يكن  مُلقناً أو مروّجاً أو دعائياً كما يتصوره أصحابنا المتشبثين بأذيال الماركسية من "المتمركسين"، بل باحثاً ومفكّراً وإنساناً عظيماً، لكنه وفي الوقت نفسه كان يخطئ ويصيب أيضاً مثل كل البشر دون مقدسات، وإنْ كان قد تمتع بقدرات فكرية هائلة وموهبة نادرة وعقل جبار.
أما فهد فقد حاول تمثيل وهضم أفكار ماركس، وإن كان بطبعتها الستالينية التي وصلتنا، لاسيما التشبث بتقليدها أو استنساخها، لكنه في الوقت نفسه امتلك قدرات تنظيمية كبيرة وبسالة نادرة ومعرفة عميقة بالمجتمع العراقي، وللأسف فإن العمر لم يسعفه لمواصلة مشواره النضالي، لاسيما بعد أن اختزن تجربة غنية وخبرة طويلة وتمرّساً حزبياً وسياسياً كبيراً .
تنصيصات

   دعا فهد لاحترام الأديان والطقوس والشعائر الدينية، وطلب من الرفاق في السجن دراسة القرآن والاحتكاك برجال الدين ومحاورتهم بروح إيجابية.
   فهد حاول تمثيل وهضم أفكار ماركس، وإن كان بطبعتها الستالينية التي وصلتنا، لاسيما التشبث بتقليدها أو استنساخها لكنه في الوقت نفسه امتلك قدرات تنظيمية كبيرة وبسالة نادرة ومعرفة عميقة بالمجتمع العراقي.
   هناك الكثير من الأخطاء التي صاحبت فترة قيادة فهد، والتي يمكن إخضاعها إلى سياقها التاريخي، مثل تشبثه بعبادة الفرد وازدراء دور المثقفين والتقليل من شأن القوى الوطنية الأخرى، وتحويل الحياة الحزبية الداخلية إلى حياة شبه عسكرية، حيث لا يمكن مناقشة القائد بقدر تنفيذ وإطاعة أوامره وقراراته.

العنوان: يوسف سلمان يوسف ... فهد جدل في إشكالية تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية ؟ ( 3 – 3 )
أرسل بواسطة: عبد الحسين شعبان في 15:46 16/06/2012

يوسف سلمان يوسف ... فهد
جدل في إشكالية تعريق النسخة السوفيتية من الماركسية  ؟
( 3 – 3 )
حوار أجراه يوسف محسن مع الدكتور عبد الحسين شعبان - بغداد
بغداد- خاص/صحيفة الزمان 13/6/2012

جدل

بيّن د. عبد الحسين شعبان  : كانت صورة الإشتراكية وردية لدى فهد بما فيها التطبيقات البيروقراطية، التي حرص على تقديمها باعتبارها مثالية ونموذجية وموديلاً، دون أن يتم الحديث عن مصاعبها وتحدياتها وأخطائها، باستثناء الحديث عن الدور الخاص لتخريبها من طرف الإمبريالية العالمية. وكانت الاشتراكية أقرب إلى حزمة من المبادئ السياسية والجذابة التي تمنح الانسان الوعد بالسعادة والرفاه وإلغاء الإستغلال وتحرره من الظلم، وقد أشرتُ إلى طغيان الأسلوب المدرسي في عرضها، لاسيما عبر عمليات تأويل شعبوية أحياناً، خصوصاً لواقع عراقي معقد ويعجّ بالكثير من المتناقضات، الدينية والطائفية والقومية واللغوية والتشكيلات الاجتماعية الاقطاعية والعشائرية والتدخلات الخارجية والمعاهدات والاتفاقيات المجحفة والمذلة، وبالأخص مع بريطانيا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وغير ذلك.
واضاف شعبان في مراجعتنا بشأن الفكر العراقي الحديث : أن ماركسية الكومنترن ومدرسة كادحي الشرق ظلّت برانية وهامشية، إذا أخذناها منظوراً إليها من زاويتها الفكرية بجوانبها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها في الوقت نفسه كانت تعبيراً عمّا هو سائد، بل حتى متقدم على الأفكار السائدة آنذاك وخصوصاً في البلدان العربية، وسرعان ما تقبلها المثقفون حتى بطبعتها الستالينية، وخصوصاً نظراتها التجديدية باسم الواقعية الاشتراكية إزاء قضايا الأدب والفن، على الرغم من تشدد مدرسة جدانوف إزاء المثقفين والمبدعين وما مثلته آنذاك من رؤية متزمتة، لدرجة أنها تدخلت في تفاصيل الخير والجمال والحق ومكافحة الاستغلال والاستثمار.

   الاشتراكية صورة وردية
س / من خلال قراءتكم أعمال يوسف سلمان يوسف ما هو تصوره عن الاشتراكية ، الماركسية ، هل لدية صورة واضحة أو فهم مشوش وغامض تلك  الأفكار ؟

    / كانت صورة الإشتراكية وردية لدى فهد بما فيها التطبيقات البيروقراطية، التي حرص على تقديمها باعتبارها مثالية ونموذجية وموديلاً، دون أن يتم الحديث عن مصاعبها وتحدياتها وأخطائها، باستثناء الحديث عن الدور الخاص لتخريبها من طرف الإمبريالية العالمية. وكانت الاشتراكية أقرب إلى حزمة من المبادئ السياسية والجذّابة التي تمنح الانسان الوعد بالسعادة والرفاه وإلغاء الاستغلال وتحرره من الظلم، وقد أشرتُ إلى طغيان الأسلوب المدرسي في عرضها، لاسيما عبر عمليات تأويل شعبوية أحياناً، خصوصاً لواقع عراقي معقد ويعجّ بالكثير من المتناقضات، الدينية والطائفية والقومية واللغوية والتشكيلات الاجتماعية الاقطاعية والعشائرية والتدخلات الخارجية والمعاهدات والاتفاقيات المجحفة والمذلة، وبالأخص مع بريطانيا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وغير ذلك.

   انتاج المعرفة
   س /  لماذا تم الاعتماد على المركز السوفياتي في انتاج المعرفة الفلسفية والسياسية وتحديد المواقف من الانعطافات التاريخية؟
على الرغم من أن فهد كان في السجن عشية اندلاع النقاش والجدل حول القضية الفلسطينية، وكان له في البداية رأي واضح بخصوص "عروبة" فلسطين وأحقّية سكانها الأصليين وموقفه النقدي من المهاجرين اليهود إليها، مشيراً إلى أن اليهود ليسوا أمّة، لكن هذا الموقف لم يظهر لاحقاً، لاسيما بعد تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار التقسيم.
ويمكن القول أن اعتقال فهد ورفاقه في المكتب السياسي حسين الشبيبي وزكي بسيم يعدّ تاريخاً فاصلاً في موقف الحزب الشيوعي من القضية الفلسطينية، فإضافة إلى أن اعتقاله كان قد تزامن مع صعود النشاط الصهيوني والدولي بخصوص فلسطين، فإن غياب قيادته أدّى الى ابتعاد الحزب عن انخراطه في الدفاع عن القضية الفلسطينية لدرجة أن الشيوعيين ظلّوا لفترة ينفرون أو يتحسسون من مواجهة مثل هذه المواقف، وإن لم يفلحوا من الزوغان عنها، فقد كانوا يقتبسون موقف الاتحاد السوفييتي، وكأنهم دبلوماسيون يتحدثون ببرودة عن دول لا تهمهم أو تعنينهم، وحتى الآن لم تتم مراجعة تلك المواقف ونقدها وتصويبها، حيث لا يزال بعضهم مأخوذاً بما يقال " العزّة بالإثم" فالنقد رياضة فكرية وروحية، وهو مطهرٌ للأخطاء والنواقص، ولا يمكن لأي كان من العاملين في الحقل السياسي الاّ أن يخطأ، وكما يُقال "الاعتراف بالخطأ فضيلة" وليس عيباً، خصوصاً في ظروف اشتباك الصراع وتداخلاته، ناهيكم عن اشتداد القمع والارهاب وأحياناً في ظل تشوش الرؤية أو ضبابية الأجواء .
وأظن أن هيمنة بعض العناصر اليهودية، وبعيداً عن نظرية المؤامرة، وإنْ لا يمكن إغفالها، قد أثّر على تعاطي الحزب مع القضية الفلسطينية، وأدّى الى إعراض أوساط غير قليلة من الجماهير عن الحزب، وكذلك ابتعاد القوى الوطنية عنه، الأمر الذي استفادت منه بعض القوى القومية التي "تاجر" قسم منها بالقضية الفلسطينية واستمر لعقود من الزمان دون أن يقدّم لها شيئاً يُذكر.
وتستحق هذه القضية وقفة أخرى، فالحزب الذي نظّم تظاهرة ضد قرار التقسيم وطالب بسقوط الاستعمار الانكلو – أمريكي وربيبته الصهيونية وبتحرير فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة حرّة فيها، وهو ما ورد في جريدة القاعدة  في حينها عاد وتبنّى قرار التقسيم، على الرغم من معارضة فهد له، لاسيما بعد صدور كراس " ضوء على القضية الفلسطينية" الذي صدر بتوافق بين الحزب الشيوعي الفرنسي وبعض الشيوعيين الدارسين في باريس، وحمله يوسف اسماعيل البستاني إلى بغداد، باعتباره يمثل الموقف الأممي.
وكان الحزب الشيوعي الفرنسي حينها معروفاً باتجاهاته "الشوفينية" سواءً من قضية الجزائر، إضافة إلى موقفه من قرار التقسيم وقيام دولة إسرائيل في 15/أيار(مايو) 1948، وقد مارس هذا الحزب بالاتفاق مع السوفييت ضغوطاً لحمل الأحزاب الشيوعية العربية الرافضة لقرار التقسيم على تغيير مواقفها.
وكان قد وصل مبعوثاً عن الحزب الشيوعي الهندي إلى بغداد من جانب الكونفورم لحمل الحزب الشيوعي على تغيير موقفه من قرار التقسيم. وهو ما نقله شريف الشيخ أحد الكوادر والقيادات لاحقاً عن لقائه الدكتور راناجت كوها الذي سأله عن موقفه وموقف الحزب من قرار التقسيم مستعرضاً عليه مواقف الماركسية والأحزاب الشيوعية العربية وغير العربية.
وكان فهد قد تحفّظ على كراس " ضوء على القضية الفلسطينية" من داخل السجن وكتب " ليس كل ما فيه ينسجم مع نظرتنا إلى القضية الفلسطينية..."وأضاف في الكراس "... معلومات خاطئة واستنتاجات غير صحيحة" وفي رسالة أخرى كتب إلى مالك سيف المسؤول الأول للحزب معترضاً على استخدام مصطلح " القومية اليهودية"، واعتبره استخداماً غير صحيح، ولكنه برّر موقف الاتحاد السوفييتي قبول بضعة مئات من الألوف للهجرة إلى فلسطين واعتبارهم من سكانها، الاّ أنه لم يتمكن من اعتبارهم قومية، بل أخضع موقف السوفييت إلى ذريعة المؤامرات والمشاريع الاستعمارية، مركّزاً على إلغاء الانتداب البريطاني وجلاء الجيوش الأجنبية وتشكيل دولة ديمقراطية وطلب استطلاع مواقف الأحزاب الشيوعية في سوريا وفلسطين لتعيين الموقف، لكن جريدة الحزب آنذاك بدأت بنشر المقالات المؤيدة لقرار التقسيم وهو ما عكسته الوثائق التي كبستها شرطة التحقيقات الجنائية عند اعتقال مالك سيف و"يهودا صديق" الذي أعدم مع فهد وكذلك ساسون دلال الذي استلم القيادة بعدهما وأعدم هو الآخر لاحقاً.
وكان زكي خيري قد كتب لاحقاً كراساً من السجن انتقد فيه عزيز شريف الذي كان موقفه معارضاً للتقسيم. وكانت تلك فترة عصيبة ففهد في السجن وغير قادر على اتخاذ الموقف أو بلورة الرأي، لاسيما بعد موقف الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية بشكل عام، التي أيّدت هذا التوجه الذي لقي "مناصرة" من داخل الحزب الشيوعي، لاسيما بعض قياداته، سواءً لأسباب عاطفية أو لجهل باتخاذ الموقف الماركسي السليم، ولعل بعضهم ظل يجادل حتى وقت قريب ولربما إلى الآن بزعم أن الموقف من قرار التقسيم كان صحيحاً، بدليل أن مواقف الأخرين لم تأتِ بالنتائج المرجوة لتحرير فلسطين.
وكنت في أواسط الثمانينيات قد ألقيت محاضرة في دمشق وبيروت حول القراءة الارتجاعية للموقف السوفيتي بشكل خاص والموقف الماركسي بشكل عام من قرار التقسيم، وكانت قد أثارت ردود فعل متباينة، لاسيما وأن الجمود العقائدي والولاء المطلق للمركز الأممي كانا مهيمنين على المشهد، ولعل بعض من رفاقنا لا زال أسيراً للماضي ولم يتحرر من عادة انتظار التعليمات حتى بعد غياب الاتحاد السوفييتي.

عروض مدرسية
س / ان الماركسية القادمة من سياسات (الكومنترن) و( مدرسة كادحي الشرق)  ظلت برانية وهامشية في الثقافة العراقية، بقيت عروض بيداغوجية مبسطة لمقولات في التاريخ والسياسة والاقتصاد فما هو رأيكم؟

    / بقدر ما يصحّ القول أن ماركسية الكومنترن ومدرسة كادحي الشرق ظلّت برّانية وهامشية، إذا أخذناها منظوراً إليها من زاويتها الفكرية بجوانبها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها في الوقت نفسه كانت تعبيراً عمّا هو سائد، بل حتى متقدم على الأفكار السائدة آنذاك ولاسيما في البلدان العربية، وسرعان ما تقبلها المثقفون حتى بطبعتها الستالينية، وخصوصاً نظراتها التجديدية باسم الواقعية الاشتراكية إزاء قضايا الأدب والفن، على الرغم من تشدّد مدرسة جدانوف إزاء المثقفين والمبدعين وما مثلته آنذاك من رؤية متزمتة، لدرجة أنها تدخّلت في تفاصيل الخير والجمال والحق ومكافحة الاستغلال والاستثمار.
وبالمناسبة فقد كان الإسم الأول للحزب الشيوعي " لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" حيث تأسس في 31 آذار (مارس) 1934باتحاد حلقات بغداد مع التنظيمات الجنوبية (البصرة والناصرية بشكل خاص) وبعض الامتدادات الموصلية وأصبح إسمه الحزب الشيوعي بعد نحو عام وانتخب الخياط عاصم فليح أمينا عاماً للحزب وأصدر جريدة باسم كفاح الشعب في العام 1935، وهو ما ناقشته عند تقريضي لكتاب شوكت خزندار " الحزب الشيوعي العراقي- رؤية من الداخل"، المنشور في مجلة المستقبل العربي.
وقد تعرّض الحزب خلال تاريخه إلى عدد من الانشقاقات والتكتلات، وكانت التهم جاهزة لمن يخالف المركز ولعل أبسطها " الانتهازية والتحريفية والسطو على الفكر الماركسي والخيانة وخدمة البرجوازية"، ومثل هذا الصراع الداخلي أفرز لغته الخاصة، وكان فهد قد تميّز بها، لاسيما عند كتابة كرّاسه " حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" حيث انكبّ على تأليفه العام 1943 مستخدماً أسلوب لينين في الرد على الأسئلة، وإن كان الكرّاس في سياقه التاريخي يعكس الفكرة الستالينية إزاء مفهوم الحزب تلك التي دفع بها لينين في كراسه " ما العمل؟" ردّاً على الفكرة المارتوفية، الاّ أنه طرح فهماً من واقع التجربة الكونية إزاء موقف الأقلية الصائبة من الأغلبية الخاطئة، وهي أطروحة لينينية قاربها من موقف البولشفيك من المونشفيك، ثم وحدانية العمل الحزبي، أي شرعية وجود حزب شيوعي وانتهازية الآخر في حال وجود أكثر من تنظيم، مركّزاً على جذور الانتهازية.
وكانت إجابات فهد على الرفيق " مقدام" قد اعتمدت على لينين لاسيما أطروحاته حول الحركة العمالية العالمية وإحدى المسائل الأساسية في الثورة، وبأي شيء نبدأ؟ وكتابات ستالين "مسائل اللينينية" وفي سبيل تكوين حزب بولشفي، وبعض الكراسات الخاصة بالمدرسة الحزبية (كادحي الشرق) كما يذكر د. كاظم حبيب ود. زهدي الداووي في مؤلفيهما المشترك " فهد والحركة الوطنية في العراق" ويمكن إضافة خبرته وتجربته العملية في ذلك.

الديمقراطية هاجس برجوازي
س / عدى فهد ( الديمقراطية ) و ( القومية ) هاجس برجوازي ؟

   / لا يخرج فهد عن النمط السائد الداعي إلى المركزية الملتصقة صمغياً بها اسم الديمقراطية وخضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا والأقلية للأكثرية والتنفيذ اللاشرطي للقرارات " نفّذ ثم ناقش" وهي قواعد عمومية تصلح لحالات الطوارئ وليس لحالات حزب في ظروف اعتيادية، حتى وإن كانت ظروف العمل السري.
وكان فهد يطلب من رفاقه إطاعته من خلال ما ينقله عن ستالين الزعيم "المحبوب" و"المُطاع" و"المحنّك" و"المُحترم" وذلك حين يقول : وأصبح ما يقوله قائدهم الأكبر ستالين، وما يأمر به، واجباً مقدساً وأمراً مطاعاً ليس فقط من قبل أعضاء الحزب والطبقة البروليتارية السوفييتية والشعوب السوفييتية، بل من البروليتاريا العالمية والشعوب، كما جاء في كراسه "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية".
لقد أراد فهد أن ينشأ حزباً شيوعياً بمواصفات الكومنترن بغض النظر عن الظروف والواقع، ولعل ذلك طلباً أممياً، على الرغم من محاولاته " تعريق" الطبعة الدولية والعربية، لكن إيمانه بقيادة ستالين وبالتطبيق الاشتراكي السوفييتي، جعلته يغضّ النظر عن سلبياتهما، بل ينفّذ تعليماتهما باعتبارها "واجباً مقدساً" مع سعيه لإيجاد بعض الأجوبة عن طبيعة المجتمع العراقي وتشكيلاته، لاسيما عدم وجود طبقة عاملة بالمعنى العلمي للكلمة وكذلك اختلاط المهمات الاجتماعية بالمهمات الوطنية في مقاومة الاستعمار، لكنه تراه يتحدث عن دكتاتورية البروليتاريا وجوهر البلشفية والانحرافات اليسارية واليمينية في الحركة العمالية والاتجاهات الاقتصادية للحركة العمالية والأمميات الثلاث والأممية الشيوعية في جوانب لا تشغل كثيراً المجتمع العراقي، وقد حاول تبيان صواب الماركسية وتطبيقاتها في البلدان المتقدمة والرأسمالية المتطورة وكذلك في البلدان المتخلّفة أيضاً.
كان فهد يتبرّم من الدعوة لتوسيع الديمقراطية ويتطيّر كثيراً من النقد ويتعامل تحت زعم ظروف العمل السري بأوامرية وفردية شديدة، فيقيل ويقدّم أعضاء إلى اللجنة المركزية دون استشارة أحياناً أو بزعم وحدة الإرادة والعمل، فمثلاً تعامل مع يعقوب كوهين أحد الكوادر الطلابية في الحزب الشيوعي حين طالب عام 1942 منح المثقفين دوراً متميّزاً وقيادياً واشباعهم من جهة ثانية بالثقافة الماركسية، ولم يكن فهد مقتنعاً بذلك، لاسيما دعوة كوهين إلى اعتبار الاشتراكية هدفاً مباشراً وراهناً لتوجهات الحزب الشيوعي، وبدلاً من مناقشته وإقناعه تم طرده، وحصل الأمر مع الروائي ذو النون أيوب الذي كان عضواً في قيادة الحزب مع فهد والشبيبي وزكي بسيم وأمينة الرحال ووديع طِلبه ونعيم طويّق وداود الصائغ وصفاء الدين مصطفى وعبدالله مسعود القرني وذلك في تشرين الثاني (نوفمبر)العام 1941، وهو ما يذكره حنا بطاطو.
وعندما تململ ذو النون أيوب مطالباً بزيادة الديمقراطية الداخلية، قام فهد بطرده أيضاً، لاسيما بعد انحيازه لصوب يعقوب كوهين، الأمر الذي دفعه إلى قيادة تكتل انشقاقي عُرف باسم " إلى الأمام" وصدرت جريدة بالإسم نفسه، وشدّد هذا الاتجاه على ضرورة احترام الديمقراطية الداخلية وسنّ نظام داخلي (كان الحزب يفتقر إليه) وعقد مؤتمر عام (لم يكن قد انعقد حتى العام 1945) ووضع برنامج وإجراء انتخابات لقيادة الحزب والتوجه لتعزيز دور المثقفين وإعلان الدعوة لقيام نظام اشتراكي كمهمة مرحلية.
ولم تمضي فترة طويلة حتى طرد عبدالله مسعود القرني الذي كان منفياً في البصرة وكان بمثابة الرجل الثاني، ومنافساً قوياً لفهد لمنصب الأمين العام، حيث تم انتخاب فهد في وقت كان هو غائباً (كمسؤول أول- سكرتير عام) واعتبر مساعداً لفهد.
ولكن القرني استغلّ غياب فهد الذي سافر لحضور اجتماعات الكومنترن، وعقد مؤتمراً حضره 26 مندوباً وكان بعنوان "وعي البروليتاريا العراقية" وسمّيت جماعته "بالشرارة الجديدة" وأبعد عدداً من قيادة الحزب وانتخب القرني أميناً عاماً، ولعل مثل هذه الإجراءات غير الديمقراطية والتهميشية وسواها من إقصاء وعزل كانت سائدة داخل الحركة الشيوعية، وانتقلت عدواها إلى الأحزاب القومية والإسلامية  لاحقاً، لاسيما في ظروف العمل السري وفرض شرعيات خارج نطاق الاختيار الحر حتى وإن سمّيت بالشرعية الثورية والمركزية الديمقراطية، التي لم تكن سوى مبررات ومزاعم بغياب الديمقراطية الداخلية.
ولم تسلم قيادة فهد مرّة أخرى من انشقاقات جديدة حين قاد داوود الصائغ الذي كان عضواً في المكتب السياسي الذي شكل " رابطة الشيوعيين العراقيين" وأصدر جريدة باسم "العمل" في العام 1944 ثم شكل يوسف زلخا جماعة شيوعية من أوساط المثقفين والشباب عُرفت باسم " وحدة النضال" وذلك للأسباب ذاتها، وخصوصاً النزعة الفردية وغياب الديمقراطية الداخلية.

التنويرية الأوربية
س /  لم نجد في إعمال  يوسف سلمان يوسف السياسية أي أثر للحركة التنويرية الأوربية التي تعد الحاضن الأساسي للماركسية أو الحركة التنويرية العراقية أو العربية ؟ ما هو التفسير لذلك ؟

    / كان فهد سياسياً بامتياز وامتلك ثقافة حزبية واسعة، لاسيما في ظروف العمل السري، وكتب وأنتج خلال اختفائه في بغداد أهم المعالجات الحزبية، لاسيما بين العام 1941 و1946، ولكن انشغالاته وهمومه والتحدّيات التي واجهته لم تكن خارجية حسب، بل بعضها كان داخلياً، ولم تكن تلك التحدّيات بمعزل عن الظروف السائدة ونمط التفكير آنذاك، وقد صبّ جلّ اهتمامه على الأوضاع الداخلية من جهة، وعلى كيفية التقريب بين الفكرة الاشتراكية والواقع العراقي، وبتقديري كانت اطلاعاته محدودة على حركة التنوير الأوروبية، فضلاً عن ظروف العمل السري، خصوصاً وكان تحصيله العلمي بسيطاً بسبب ظروفه المعاشية، حيث كان قد انقطع عن الدراسة لغاية المرحلة المتوسطة.

إنتاج  مفكر
   س / هناك ظاهر غربية في النسخة الماركسية العراقية أنها لم تستطع إنتاج ( مفكر )  إسوه بالنسخة السورية أو اللبنانية ( الياس مرقص ، مهدي عامل ) ؟ هل ذلك بسبب العوامل التاريخية والمعرفية  لعدم اسهامها في انتاج مفكر ؟

    / بخصوص النسخة الماركسية العراقية التي وردت في سؤالك، فأظن أن القمع والارهاب ساهما في منع تكوين مفكرين ماركسيين في العراق، على خلاف مصر ولبنان وسوريا: مثل محمود أمين العالم، فؤاد مرسي، الياس مرقص، ياسين الحافظ ومهدي عامل وكريم مروّة وفوّاز طرابلسي وآخرين، لكن ذلك لا يعني أن الماركسية العراقية لم تنجب مفكرين أو أنها لم تكن "ولوداً". وكان واحداً من النماذج التي يمكن إطلاق صفة مفكر عليها هو عامر عبدالله وهو شخصية اشكالية في الحركة الشيوعية، امتاز بقلم رشيق ولغة جميلة، أقرب إلى الأدب وفكر عميق وإطلاع واسع، لكن انصرافه للعمل الحزبي وانخراطه في التكتلات والصراعات استهلكت الكثير من طاقاته وفيما بعد تفرّغه إلى العمل الوظيفي والوزاري، وبتقديري أن الشيء الأهم هو ما تعرّض له في حياته الحزبية من ضغوط ومحاولات إبعاد لم تكن بعيدة عنها بعض طموحاته الشخصية، وهكذا خسرنا مفكراً كبيراً وواعداً بسبب  الصراعات والخصومات والأحقاد التي نالت منه كثيراً، حيث قضى آخر أيام حياته لاجئاً وحيداً ومنكسراً في لندن التي توفيّ فيها العام 2000.
وإذا أردنا استعراض بعض المفكرين الماركسيين، فيمكن ذكر عبد الفتاح ابراهيم أحد أبرز مؤسسي جماعة الأهالي العام 1932 وكاتب منهجها " الشعبية" وصاحب كتاب "على طريق الهند" الصادر العام 1935 والعديد من المؤلفات وكذلك د. ابراهيم كبه ود. محمد سلمان الحسن المفكران الماركسيان الرياديان والأكاديميان من الطراز الأول، ولهما عشرات الكتب والمؤلفات والترجمات وقد حافظا على استقلاليتهما، وقدّما أطروحات في غاية الأهمية وفي ظروف لم تسمح بالنشر أو الكتابة أو حرية التعبير، لكنهما تركا تأثيراتهما الكبيرة على الفكر الماركسي العراقي وإلى حدود معينة العربي، وعلى الوسط الجامعي والأكاديمي، وإن كان هناك جحوداً عاماً إزاء التعامل مع المفكرين والمثقفين، لاسيما إذا كانوا من مواقع مستقلة أو انتقدوا التيار الحزبي السائد وقياداته. وهو الأمر الذي ظل مشتركاً لجميع القيادات في الأحزاب الشمولية، مهما كانت تسميتها.

تنصيصات
   كان فهد واعياً لدور قوى التحالف المعادي للفاشية، لاسيما بانضمام الاتحاد السوفيتي، ولذلك ركّز جهود الحزب خلال تلك الفترة في فضح النازية والفاشية فكرياً وسياسياً مبيّناً خطرها على الشعوب، بما فيها العربية. وبحكم إلتقاطه للحلقة المركزية في النضال فقد خفّض من نبرة العداء لبريطانيا،
   كان فهد يتبرّم من الدعوة لتوسيع الديمقراطية ويتطيّر كثيراً من النقد ويتعامل تحت زعم ظروف العمل السري بأوامرية وفردية شديدة، فيقيل ويقدّم أعضاء إلى اللجنة المركزية دون استشارة أحياناً أو بزعم وحدة الإرادة والعمل،
   وكانت الاشتراكية أقرب إلى حزمة من المبادئ السياسية والجذابة التي تمنح الانسان الوعد با لسعادة والرفاه وإلغاء الاستغلال وتحرره من الظلم، وقد أشرتُ إلى طغيان الأسلوب المدرسي في عرضها، لاسيما عبر عمليات تأويل شعبوية أحياناً، خصوصاً لواقع عراقي معقد ويعجّ بالكثير من المتناقضات، الدينية والطائفية والقومية واللغوية والتشكيلات الاجتماعية الاقطاعية والعشائرية والتدخلات الخارجية والمعاهدات والاتفاقيات المجحفة والمذلة،