عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - كاظم حبيب

صفحات: [1] 2 3
1
كاظم حبيب
دعاية انتخابية عسكرية لـ"بُطل فارغ" في بلاد العراق !
في غفلة من الزمن وغفوة الشعب ، في بلد اسمه العراق ، تسلمت حفنة من "الرجال!" الحكم وحولت بلد الحضارات القديمة والعريقة إلى بلد الرثاثة والخراب والبؤس والفساد والنهب للخيرات ولقمة العيش ، حيث التهم الجراد الأصفر الأخضر واليابس ، ونشر الفاسدون القيم المعيبة ومعايير الرذيلة في كل مكان. وأصبح العراق من بلد الذهب الأسود (النفط والغاز المصاحب) إلى بلدٍ ينزف شعبه دماءً زكية وسيولاً من الدموع ، بلد الفقر والحرمان للغالبية العظمى ، وغنى فاحش للحفنة الضئيلة الحاكمة وحواشيها ، حفنة من النهَّابة واللصوص الخرافيين الحديثي النعمة والسيئي السلوك والأخلاق. في هذا البلد انقلبت المعايير رأساً على عقب ، فبدلاً من الحديث عن البناء والعمران الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي ، عن الازدهار الاقتصادي وتحسين الخدمات وأحوال الشعب المعيشية واختفاء البطالة المكشوفة والمقنعة ، عن مكافحة الأمية والجهل والخرافة والسحر والشعوذة ، عن ارتفاع الوعي والاعتراف المتبادل والتفاهم والتفاعل الإيجابي بين اتباع القوميات والديانات والمذاهب في العراق ، أصبح الحديث مكثفاً عن استمرار "صراع ومعركة أتباع الحسين ضد اتباع يزيد!" ، وعن تأسيس الميليشيات الطائفية المسلحة ، عن "الحشد الشعبي" الغارق بالميليشيات الولائية الإيرانية ، عن تأسيس أجهزة أمنية وعسكرية لم يكن همها حين تأسست سوى قهر الشعب لأنها بنيت على أسس غير قويمة وطائفية مقيتة وضد مبدأ المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية والحرة ، على أسس لم تعتمد العقيدة العراقية ، بل عقيدة طائفية شيعية صفوية لا غير. في هذا البلد انتصرت حتى الآن العملة الرديئة وطردت العملة النظيفة والوطنية من الرجال والنساء.
في غفلة من الزمن وغفوة الناس في بلاد العراق نُصّب شخص على رأس حكومة عراقية لم يألوا جهداً في دفع العراق أكثر فأكثر صوب مستنقع الطائفية النتن والصراع الديني والطائفي والصراع القومي من جهة ، وصوب تكريس تبعية العراق لإيران من جهة أخرى . هذا الرجل الذي طُرد من الحكم بعد دورتين انتخابيتين مريرتين ومليئتين بالقتل على الهوية وغيرها من صيغ الموت والخراب ، يقوم الآن بنشر دعاية انتخابية ، نشر بوستر دعائي تتوسطه صورةً بطوله ، وحولها سجلت مجموعة من التأسيسات العسكرية ، وليس العمرانية والحضارية والقيمية العقلانية ، بل عسكرية بحتة كانت مهمتها حين التأسيس ، وبعضها الغالب ما يزال حتى الآن ، قمع صوت الشعب واحتجاجاته ومظاهراته وانتفاضته الباسلة : تأسيس جهاز مكافحة الإرهاب ، تأسيس جهاز الأمن الوطني ، تأسيس قوات الردع السريع ، تأسيس قوات سوات ، تأسيس قوات الحشد الشعبي ، تأسيس الشرطة الاتحادية ، تأسيس الجيش الوطني ، وتأسيس طيران الجيش العراقي .. (أنظر: الانجازات العسكرية لحكومة السيد... - حزب الدعوة ، m.facebook.com ).
ولكن السؤال العادل والمشروع هو : على أي أسسٍ وقيم حضارية أقيمت هذه المؤسسات العسكرية ؟ كل الدلائل المتوفرة تؤكد بما لا يقبل الشك ، وابتداءً من حكومة الطائفي بامتياز وفيلسوف التيه والتهافت والرجعية إبراهيم الجعفري ، بأن المهمة كانت قد تبلورت وتركزت في جعل وزارة الداخلية وأجهزة الأمن قائمة على أساس طائفي شيعي صفوي بحت ، أي على إيمان العاملين في هذه الدوائر والأجهزة المطلق بولاية الفقيه الإيراني والالتزام بفتاويه ، أياً كان هذا الفقيه وأياً كانت الفتوى . ثم واصل خلفه في الحكم ، نوري المالكي ، ولمدة ثمانية أعوام الوجهة الطائفية والفاسدة ذاتها وبإصرار وتصميم مستمرين عند تأسيس تلك الأجهزة التي تحدث عنها في دعايته الانتخابية ، إذ تجلى عمله الطائفي والفاسد مباشرة بفضيحة مجزرة معسكر سپايكر في العراق ، تلك المجزرة التي نفذتها عصابات داعش الإجرامية ، وراح ضحيتها 1700 مجنداً في سلاح الجو العراقي بالقرب من مدنية تكريت ، وكلهم دون استثناء من أتباع المذهب الشيعي ، التي تجسد الوجهة الطائفية لرئيس الحكومة وأغلب القوى التي كانت تعمل في القوات المسلحة العراقية حينذاك في تعيين وتجنيد الشيعة فقط . لقد تم استثناء المسيحيين والسنة والكرد وغيرهم ، وجندوا الشيعة فقط لمهمات خاصة. ولكن الفضيحة الأكبر برزت في هروب وهزيمة ما يتراوح بين 40 و 60 ألف عسكري عراقي كانوا يعملون في مدينة الموصل ومحافظة نينوى أمام 800 إرهابي تكفيري من أعضاء عصابات داعش الإجرامية الحاملة للأسلحة الخفيفة التي اجتاحت الموصل ومن ثم نينوى وهزمت تلك القوات دون أي قتال أو مقاومة . لقد هرب قادة القوات المسلحة وهُزم الجيش العراقي دون قتال ، بسبب افتقاده حينذاك للعقيدة الوطنية العراقية والمواطنة ، واعتمد العقيدة الفرعية القاتلة وساد فيه الفساد بشكل تام أولاً ، وبسبب قرار الانسحاب الذي أصدره القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء حينذاك .
السؤال العادل: هل بعد هذه الهزيمة المريرة والنكراء يحق للقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة السابق ولثماني سنوات عجاف ومريرة أن يتبجح بنجاحاته العسكرية في بناء المؤسسات العسكرية العراقية وفي إصراره على خوضه وحزبه وقائمته الانتخابات المبكرة ؟ كل الدلائل تؤكد بأن هذه المؤسسات العسكرية العاملة في الموصل وعموم محافظة نينوى تميزت بطائفية بشعة وبفساد شامل وجهد مناهض لسكان المحافظة السنة والمسيحيين والكرد ، كما لم تكن مهمتها حماية الشعب والحدود العراقية بل اضطهاد الناس وتمريغ كرامتهم بالتراب والدوس والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان.
لقد كان وما يزال مطلب الشعب الموجه للقضاء العراقي والادعاء العام هو: استكمال التحقيق بأسباب انهيار القوات المسلحة في الموصل ونينوى أمام اجتياح داعش واحتلالهما لثلاث سنوات ، وما حصل خلال الفترة المذكورة من إبادة جماعية ومآسٍ وخراب وتدمير شنيع مثيل لا لهما ، وتقديم المسؤولين الكبار كافة عن ذلك إلى المحاكمة وإصدار الأحكام العادلة بحقهم ، ومنع من يُحكم عليه عن مزاولة السياسة طوال حياته ، لاسيما الذين أعلنوا عن فشلهم وفشل طبقتهم السياسية .
ولكن المثل العراقي النابت يقول : الحياء قطرة واحدة وليس سطلة ! فهل بعد كل ما حل بالعراق ، بسبب سياسات هذه الحفنة من الحكام الطائفيين الفاسدين ، أن يسمح لهم من جديد ليس الترشيح للانتخابات المبكرة فحسب ، بل وان ينشروا دعايات انتخابية مزورة للحقائق ومشوهة للوقائع والمضامين وما جرى حتى الآن في العراق. هل يمكن أن يسكت القضاء العراقي عن كل ذلك دون أن يتدخل الادعاء العام باتخاذ خطوات تحمي الشعب العراقي من عواقب من أساء إلى الشعب وإرادته ومصالحه ومن وضع العراقي تحت التبعية الإيرانية ويريد العود ثانية لحكم البلاد وتكريس التبعية اكثر فأكثر ؟ أيها الحكام ! صبر الشعب له حدود ، ومن يتجاوزها لا يتوانى الشعب عن تلقينه درساً قاسياً ، فالشعب يمهل الدولة بسلطاتها الثلاث ولا يهمل من أجرم بحقه بأي
حال!
     


2
د. كاظم حبيب
رسالة مفتوحة
إلى المرجع الديني الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني

السيد علي السيستاني المحترم، الحوزة الدينية بالنجف/العراق 
تحية طيبة
بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية الفاشية في العراق على أيدي قوات عسكرية أجنبية، عربية ودولية، بقيادة الولايات المتحدة واحتلال العراق سَلَّمت قوى الاحتلال الحكم في البلاد، وبمعرفة وموافقة تامتين من جنابكم، إلى قوى وأحزاب سياسية طائفية وأثنية بقيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية. كما حظي الحكم الجديد بالتأييد والدعم الكبيرين من حوزتكم الدينية سياسياً وطائفياً. ثم أُقيم البيت الشيعي الطائفي بمعرفتكم ومباركتكم الشخصية أيضاً بمبادرة من الدكتور أحمد الجلبي. مرَّ الآن 18 عاماً على وجود هذه القوى والأحزاب على رأس الدولة والحكم في البلاد. فماذا جرى للعراق وبمعرفتكم الشخصية؟
لقد كانت عواقب الحروب التوسعية والعدوانية التي أشعلها أو تورط بها حزب البعث ودولته الفاشية من جهة، وسياسات البعث الدكتاتورية الداخلية من جهة ثانية، والحصار الدولي الذي فرضته الولايات المتحدة طيلة 13 عاماً من جهة ثالثة، كبيرة وكارثية جداً، إذ ألحقت بالعراق وشعبه دماراً وتخلفاً اقتصادياً واجتماعياً، وفكرياً وسياسياً وتدهوراً معيشياً وأخلاقياً هائلاً، كما أتت على حياة مئات الألاف من الناس الأبرياء بالموت، إضافة إلى أعدادٍ مماثلة من الجرحى والمصابين بأمراض وعلل كثيرة ومعاقين. وزاد الطين بلَّة النهج الطائفي والتمييز بين سكان العراق والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الخائبة والمدمرة والفساد المالي والإداري التي مارسها الحكم الطائفي الفاسد الجديد. فأصبح عراق اليوم كله، الغني بثرواته النفطية وموارده الأولية الأخرى وقواه البشرية وكوادره الفنية المهنية، بلداً متخلفاً اقتصادياً واجتماعياً، اقتصاداً ريعياً مشوهاً ومكشوفاً على الخارج وتابعاً له، ونسبة عالية جداً من فئات الشعب تعاني من الفقر والعوز والحرمان والرثاثة ونقص الخدمات وغياب كامل للعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وزاد الأمر سوءاً: 1) خضوع سياسات العراق الداخلية والإقليمية والدولية للنهج والسياسات الإيرانية، لإيران، هذا الوطن الجار بشعوبه الطيبة، الذي ولدتم وترعرعتم فيه ثم انتقلتم إلى العراق حيث درستم في الحوزة الدينية في النجف وأصبحتم منذ سنوات المرجع الشيع الأعلى الذي له كلمته بين المؤمنين والمؤمنات من المسلمين والمسلمات الشيعة في العراق والعالم، و2) وساهمتم في تشكيل ما أطلق عليه بالحشد الشعبي من خلال اتفاقكم مع رئيس الحكومة الأسبق والمستبد بأمره نور المالكي آنذاك بإصدار فتوى الجهاد الكفائي، حيث اختلط المؤمنون الصادقون بالميليشياويين الطائفيين المسلحين التابعين لإيران والذين مارسوا عمليات إجرامية كثيرة وغادرة بحق الشعب والوطن، وهم ما زالوا يمارسون ذلك بحق الشعب العراقي وكادحيه واقتصاده وحياته السياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية، و3) كما لم تتخذوا الموقف الحازم والمطلوب من جنابكم إزاء قوى الدولة العميقة التي تهيمن مباشرة على قرارات الدولة العراقية الهشة والمهمشة بسلطاتها الثلاث والتي يقودها قادة في الأحزاب الإسلامية السياسية والحشد الشعبي والبيت الشيعي وبتوجيه مباشر ومعلن عنه من قبل قيادة فيلق القدس وقائده الفعلي المرشد الإيراني علي خامنئي. كم كان بودي منذ البدء أن لا قرنوا دوركم الديني المذهبي الشيعي بدور سياسي حوزي لكي لا يجبر المعارضون لهذا النظام المقيت أن يتحدثوا مع جنابكم بهذا الصدد ليشيروا إلى مدى الخراب الذي لحق بالعراق بسبب تلك القوى التي أيدتموها ومنحتموها الثقة، فأساءت لموقعكم الديني وشخصكم وللشعب العراقي، مما يجعل مسؤوليتكم كبيرة لكل ما حصل بالعراق منذ عام 2003 حتى الآن.
وكلاؤكم في النجف وكربلاء وغيرها يتحركون بين الفينة والأخرى وفي خطب الجمعة ليعلنوا عدم رضاهم عن هذا السلوك أو ذاك، لاسيما الفساد واستغلال المناصب. ولكنهم لم يدينوا النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد. كما أن شكوكاً كبيرة يتحدث بها الناس علناً، تشير إلى أن أغلب الوكلاء، لاسيما في النجف وكربلاء (الصدر والكربلائي)، متورط بعلاقات مصالح غير مشروعة مع الأحزاب الإسلامية السياسية ومع الميليشيات الطائفية المسلحة وهيئة الحشد الشعبي. فالوكلاء يتحركون ويتحدثون باسمكم، كما ترفع قوى ميليشيات هيئة الحشد الشعبي صور شيوخ الدين الإيرانيين وأحياناً صورتكم الشخصية أيضاً، أي أنهم يفعلون كل ذلك بحماية من حوزتكم الدينية في النجف وبمدينة قم و"ولي الفقيه!" خامنئي بطهران.
تحت قيادة الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها المسلحة مورست وما تزال تمارس سياسات وتتخذ إجراءات تمييز مفرطة ضد أتباع المذهب السني في العراق، وضد المسيحيين في الوسط والجنوب وبغداد والموصل وكركوك، وضد الإيزيديين في الموصل وعموم نينوى، وضد بقية اتباع الديانات والمذاهب، ومنهم أتباع البهائية والكاكائية والزرادشتية على نحو خاص. وخلال هذا الحكم الطائفي المقيت تعرض أتباع الديانة الإيزيدية إلى أكبر جريمة في تاريخ العراق، بعد تعرضهم مع بقية أبناء وبنات شعبهم الكردي لجرائم الإبادة الجماعية في عمليات الأنفال عام 1988 على أيد الدكتاتور صدام حسين، إلى إبادة جماعية في فترة اجتياح واحتلال واستباحة الموصل وعموم محافظة نينوى. ولم يخف عنكم عمليات نهب النفط الخام العراقي ونهب موارده المالية وأثاره التاريخية بشكل ممنهج وبسبق إصرار. إذ أصبح الجميع يعرف ويعلم علم اليقين الأموال العراقية بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية العراقية التي انسابت عبر طرق غير شرعية إلى إيران وحزب الله الإيراني في لبنان، والحكومة السورية دون ظهور أي احتجاج أو اعتراض من حوزتكم الدينية أو من جنابكم شخصياً.
ومصيبة الشعب العراقي الشاخصة والتي لا تخفى عن جنابكم هي أَن الشعب العراقي يواجه مقهوراً جرائم ترتكب بحقه من قوى الدولة العميقة المسيطرة على الدولة العراقية وميليشياتها المسلحة وبعض القوى العسكرية الرسمية بتوجه من إيران من جهة، وجرائم ما تزال ترتكب من تنظيم داعش الإرهابي، الذي يدعو للمذهب الوهابي السلفي العنفي التكفيري من جهة أخرى، كما يتعرض العراق لتدخل تركي عسكري فظ يومياً حيث تقصف مناطق ريفية وجبلية ومخيمات نازحين كرد من تركيا في العراق تسقط من جراء ذلك ضحايا كثيرة وخسائر مادية كبيرة من جهة ثالثة.
السيد علي السيستاني المحترم
أقدر تماماً بأنكم تعرفون تمام المعرفة ما يمارسه قادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية وبقية قادة الدولة بسلطاتها الثلاث في كل أنحاء العراق. فعراق اليوم أصبح:
1)    مرتعاً لقوى أجنبية غاصبة ومهيمنة، وبالتالي، فقد العراق استقلاله وسيادته الوطنية، سواء أكان المهيمن إيران أم الولايات المتحدة الأمريكية/ أم يتعرض يومياً لتدخل عسكري إجرامي ومدمر للدولة التركية الأردوغانية المتطلعة أن تكون إمبراطورية عثمانية جديدة، كطموح إيران لأن تكون إمبراطورية فارسية جديدة. 
2)   مرتعاً لتقاسم السلطات الثلاث على أساس ديني طائفي محاصصيي (سني–شيعي) وأثني (عربي-كردي) بصورة أفقية وعمودية بما لا يسمح لأي مواطن ومواطنة من غير الأحزاب المشاركة أو موافقتها أن يحتل موقعاً في الحكم خلال الفترة المنصرمة أو الوصول إلى مواقع مهمة في الدولة.
3)   مرتعاً لقوى وتنظيمات الجريمة المنظمة المحلية والإقليمية والدولية المتشابكة بشكل عضوي وفاعل مع الميليشيات الطائفية المسلحة الولائية وغيرها وحشدها الشعبي. وهي تمارس النهب المالي بصيغ مريعة وغير شرعية، كما تتاجر بالمخدرات والكحوليات، وبالجنس الذكوري والأنثوي وأعضاء جسم الإنسان، وبالعقود والمقاولات وبيع العملة الصعبة وغسيل الأموال...إلخ.   
4)   مرتعاً لاستخدام المال الفاسد والسلاح الحشدي وميليشياته لعمليات التهديد والابتزاز والتشهير والاختطاف والتعذيب والاعتقال الكيفي خارج القانون والاغتيال للناشطين والناشطات في الحراك المدني الاحتجاجي.
5)    مرتعاً للعمل على كسب العدد المتزايد من العاطلين عن العمل والذين يعانون من البؤس والفاقة والحرمان إلى تنظيماتهم المتطرفة والإجرامية ومعاداة مصالح الشعب والوطن.
6)   مرتعاً لانسياب أموال عراقية فاسدة من خلال قادة وكوارد الأحزاب وكبار مؤسسات إدارة الدولة وغيرهم إلى جيوب شيوخ دين وحسينيات وغيرها باعتبارها خمساً تدفع ليحللوا به المال الحرام.   
 أعرف تماماً بأنكم تعرفون كل ذلك ويعرفه من هم حولكم أيضاً، كما يعرفه الشعب، ولكنكم لم تتخذوا حتى اليوم الموقف الديني المسؤول الذي يمليه عليكم موقعكم الحساس. ولهذا أجد نفسي في موقع المطالب باسم الشعب المستباح بهؤلاء جميعاً أن تتخذوا المواقف المطلوبة منكم، كمرجعي ديني أعلى للمؤمنين والمؤمنات من تباع المذهب الشيعي وحيث تحضون بتقدير أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، من الوجود والنشاط الإجرامي لهيئة الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة كلها دون استثناء، سواء أكانت ولائية لإيران أم أخرى تدَّعي الولاء لجنابكم، وإدانة الأحزاب الإسلامية السياسية التي تمارس كل تلك الموبقات، سنية وشيعية، وكل القوى الأخرى التي تشارك في هذا الحكم الطائفي الفاسد، أطالبكم كإنسان عراقي بما يلي:
1)   التوقف عن تأييد ودعم القوى والأحزاب الإسلامية السياسية وإدانتها والمطالبة بعدم تشكيل أحزاب سياسية طائفية تقود إلى تفتيت النسيج الوطني للشعب، كما هو وارد في الدستور العراقي لعام 2005.
2)   الإفتاء بانتهاء مرحلة الجهاد الكفائي ودعوة الحكم والبرلمان إلى إنهاء وجود هيئة الحشد الشعبي والميليشيات القائمة كلها ونزع سلاحها وكل سلاح منفلت وأنهاء حالة وجود جيش (هيئة الحد الشعبي وأذرعه) داخل القوات المسلحة العراقية ووجود دولة عميقة داخل الدولة العراقية!
3)   تحريم التدخل الإيراني أو أي دولة أخرى بالانتخابات العراقية القادمة وفي عموم شؤون العراق الداخلية والدولية.
4)    تحريم ديني باستخدام الأموال في شراء الذمم والأصوات في الانتخابات القادمة.
5)    المطالبة مع الشعب في ملاحقة واعتقال كل المتهمين بقتل المتظاهرين وتقديمهم للمحاكمة.
6)    تأييد الشعب بمطالبه العادلة ومنها تعديل قانون الانتخابات بشكل منصف وديمقراطي وعادل، إضافة إلى اختيار قضاة نزيهين لعضوية المفوضية المستقلة للانتخابات.   
7)    تأييد مطلب الشعب بمنع ترشيح من ساهم بالفساد والافساد والفتنة الطائفية والاغتيالات في الانتخابات القادمة.
8)    منع حمل صوركم وصور شيوخ الدين الإيرانيين في الساحات والشوارع العراقية وفي كل مكان من العراق، فالعراق ليس ساحة لإيران في حملات الداعية الدينية والمذهبية لقادتها.
إن الشعب العراقي ينتظر من جنابكم أن تتخذوا الموقف الديني الذي يفرضه عليكم الدين والموقع الذي أنتم فيه، فهي سيحصل ذلك؟ نأمل ذلك!
المواطن العراقي الدكتور كاظم حبيب             


3
كاظم حبيب
هل من أطماع إيرانية وتركية ودولية بالعراق؟

تشير معطيات الواقع والسياسات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط حالياً إلى وجود مواقد حروب كثيرة، إضافة للمشتعلة منها حالياً، يمكنها أن تتفجر في كل لحظة، سواء أكانت حروباً أهلية، أم فيما بين دول المنطقة. وفي أغلبها تلعب الدول الكبرى دوراً ملموساً وبصيغ متباينة على وفق مصالحها الخاصة. فهناك الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية والتغيير الديمغرافي فيها والحصار ضد قطاع غزة، الذي يتفجر بين فترة وأخرى بحرب وموت ودمار هائل لغزة بشكل خاص. وهناك الحرب المديدة في سوريا والحرب اليمينية والواقع الليبي المعقد ومخاطر اندلاع حرب في القرن الأفريقي وأوضاع دار فور في السودان ومخاطر النزاعات المسلحة. كما يمكن الإشارة إلى صراع إسرائيلي-إيراني سياسي-إعلامي على نحو خاص لا يحتمل أن تنشأ عنه حرب بين الدولتين.
أما العراق، وهو موضوع هذا المقال، فيواجه أنواعاً عديدة من الصراعات الداخلية والخارجية المتشابكة، إلا أن أخطرها على المدى الجاري هو 1) الصراع بين الشعب العراقي وقواه المدنية والديمقراطية، وبين الطغمة الحاكمة المستندة إلى إيران والمعتمدة على هيئة الحشد الشعبي وميليشياتها الطائفية المسلحة والذي يمكن أن يتفجر في كل لحظة إلى نزاع دموي بسبب تشابك الأهداف والمصالح المهنية لفئات الشعب المختلفة مع قضية الاستقلال والسيادة الوطنية للخلاص من التبعية الراهنة لإيران. و2) الصراع بين الدولة التركية والشعب العراقي بكل قومياته، والذي يتجلى بمطامع تركيا في مناطق واسعة من الموصل وكركوك وعموم إقليم كردستان. و3) احتمال تبلور وبروز أكثر لصراعٍ جارٍ حالياً دون ضجيج كبير بين الدولتين الجارتين للعراق من الجانب الشرقي (إيران) والشمال (تركيا). وهما دولتان طامعتان بالعراق وتسعيان بكل السبل المتوفرة المشروعة وغير المشروعة إلى استعادة امبراطوريتهما الفارسة والعثمانية واستعادة نفوذيهما في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا. وأطماعهما بالعراق كبيرة ومتفاقمة لقناعتهما بأنه أصبح اليوم غنيمة سهلة لأسباب كثيرة منها:
** هشاشة الدولة العراقية وتلفها مؤسسياً وفسادها كنظام سائد ومعمول به محلياً وإقليمياً ودولياً.
** صراعاتها القومية والدينية والطائفية بسبب سياسات الدولة الطائفية بسلطاتها الثلاث ووجود نظام سياسي طائفي محاصصي فاسد.
** وجود قوى وأحزاب سياسية ومنظمات وميليشيات طائفية مسلحة تعتبر أذرعاً تابعة لهما في العراق، إضافة إلى وجود الدولة العميقة بأيدي عراقية متشابكة مع سلطات الدولة الثلاث.
** وجود قوى أجنبية إيرانية وتركية في العراق، سواء أكان من الحرس الثوري وفيلق القدس في بغداد والوسط والجنوب ومع قوى الحشد الشعبي ومنشآته وميليشياته، أم قوات عسكرية وقواعد عسكرية لتركيا في نواحي عديدة من محافظة نينوى وإقليم كردستان العراق وفعالياتها العسكرية العدوانية المستمرة.
** ضعف الحركة المدنية والوطنية الديمقراطية رغم مرور 18 عاماً على إسقاط الدكتاتورية البعثية الفاشية، التي ألحقت أكبر الخسائر البشرية والسياسية والاجتماعية بالحركة المدنية والقوى الوطنية والديمقراطية، لاسيما اليسارية، في البلاد، إضافة إلى غياب التحالفات السياسية الضرورية لمواجهة هذه الأوضاع المعقدة، رغم النضال الباسل لهذه القوى خلال السنوات المنصرمة ومنها قوى الانتفاضة التشرينية والأحزاب الوطنية.   
** عجز الدول العربية والجامعة العربية عن مساعدة العراق بسبب طبيعة هذه الجامعة وسياسات دولها الرجعية والمستبدة عموماً والبعيدة كل البعد عن أجواء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب، وهي كما عبرّ عنها المونولوجست عزيز علي "والعتب على جامعتنا... جامعتنا الما لمتنه"، جامعتنا اللي ضيعتنه!
** كما لم يعد للعراق أهمية كبيرة لمجلس الأمن الدولي، إذ ترك الأمر للولايات المتحدة التي تتعامل مع الواقع العراقي على أساس مصالحها المباشرة ومدى تردي أو تحسن علاقاتها مع إيران، مع رغبتها في الحفاظ على مستوى معين من وجودها الضامن لمصالحها الاستراتيجية في العراق.
ومن الجدير بالإشارة إلى أن الدولة العراقية بواقعها الحالي ونهجها الطائفي وسياساتها التمييزية المتخلفة والفاسدة لا يمكنها بأي حال الدفاع عن أرض الوطن ولا مواجهة العدوان التركي من جهة، والتدخل المتنوع والكبير لإيران في العراق، إذ أصبح العراق دولة شبه مستعمرة لإيران تلعب ميليشياتها بالبلاد كما تشاء إيران وترغب من جهة أخرى فإيران عبر الدولة العميقة تنهب من الأموال العراقية ما تشاء، وتجمد عقوداً مع دول أخرى كما تشاء، وتوقف العمل بمشاريع اقتصادية على وفق مصالحها كما تشاء، وتختطف وتقتل النشطاء المدنيين متى تشاء، وتوجه الوزارات العراقية وتتدخل في شؤونها اليومية، بواسطة السفير الإيراني أيضاً كما تشاء، وتقصف بالصواريخ الإيرانية القواعد العسكرية والمناطق السكنية والمنطقة الخضراء حيث السفارات والمباني الحكومية متى تشاء.
هذا الواقع المرير، إضافة إلى أوضاع الشعب المعيشية والخدمات المتدهورة، هو الذي وفر الأرضية الصالحة لانتفاضة الشبيبة العراق في تشرين الأول 2019. وهذا الواقع لم يتغير بل زاد سوءاً وبؤساً ورثاثة وبعداً تدميرياً لوحدة الشعب والوطن، هو الذي يوفر الأرضية الصالحة لانتفاضة شعبية جديدة تعمل على الخلاص من براثن الطغمة الطائفية الفاسدة الحاكمة ومن القوى الأجنبية المتحكمة بالعراق وشعبه. لا بديل للشعب، بسبب إصرار الطغمة الحاكمة على مواصلة نهجها التدمير، عن الانتفاضة الشعبية. يدعو رئيس الحكومة لانتخابات حرة ونزيه وعادلة، وهو لم يجرأ على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتوفير الشروط الضرورية لانتخابات حرة ونزيهة وعادلة. رئيس الحكومة يتحدث بخبث استعادة الثقة بالطغمة الحاكمة وعن عقد مؤتمر وطني يجتمع فيه الحاكم الظالم مع المحكوم المقهور، والقاتل مع المعرض للقتل دون حماية. السلاح بيد الحشد الشعبي وميليشياته والسلاح المنفلت بيد العشائر والأشخاص وقوى الجريمة المنظمة وصوت رصاصهم الملعلع يصل إلى عنان السماء ونقودهم الفاسدة مفروشة على مساحة العراق كله لتلتقط بها أصوات الناخبين، والأجهزة التي زيفت الانتخابات السابقة مستعدة لممارسة ذات القذارة من جديد.، فأي ثقة يريد هذا الحاكم بأمر غيره استعادتها ولمصلحة من؟
لن يكون للعراق صوت حر ومستقل مع وجود الدولة العميقة ومنشآتها العسكرية والسياسية والأمنية وأموالها المنهوبة من خزينة العراق، لن يسترد الشعب حقوقه المغتصبة والمصادرة مع قبل الطغمة الحاكمة الحالية دون تحقيق التغيير الجذري. ومن هنا تنشأ الحاجة الملحة إلى التغيير الجذري، ومن هنا تنشأ الحاجة لوحدة القوى المدنية والديمقراطية العراقية للتصدي لمن يريد للدولة أن تبقى هامشية ومهمشة، وألاّ يكون للشعب صوت يعلو فوق صوت بندقية الميليشيات وكاتم الصوت الموجهة إلى صدور أبناء وبنات الشعب العراقي المستباح.             
         

4
كاظم حبيب
هل المسلمون العرب عنصريون؟
هذا السؤال يلاحق المسلمين العرب على نحو خاص في أرجاء كثيرة من العالم، وغالباً ما يطرح هذا السؤال بصراحة ووضوح كبيرين، لاسيما لمن هم في الشتات العربي أو الإسلامي. فهل هناك ما يمكن أن يدعم ويؤكد صواب طرح مثل هذا السؤال أو أن هناك ما يفنده ويلغيه؟
لنبدأ الإجابة عن سؤال آخر هو: هل يولد الطفل، ذكراً كان أم أنثى، يحمل معه بذرة العنصرية والتمييز العنصري، أم أنه يولد صفحة بيضاء ناصعة، بغض النظر عما يطرحه بعض البيولوجيين ممن يروجون للنظرية العنصرية التي تقول بأن الإنسان إما أن يولدَ سيداً أو يولد عبداً، كما قال في ذلك أرسطو طاليس مثلاً. على وفق قناعتي وكل الدراسات العلمية تؤكد بما لا يقبل الشك بأن الطفل يولد صفحة بيضاء تلعب مجموعة من العوامل التي يعيش في ظلها أو تحت وطأتها هي التي يمكن أن تكتب على تلك الصفحة البيضاء فتجعل منه إنساناً سوياً أو عنصرياً في رؤيته لنفسه وللآخر، وبالتالي تعامله مع الآخر. العوامل التي يجري الحديث عنها كثيرة منها أساسية أو رئيسية كطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في هذا البلد أو ذاك، ومستوى تطور القوى المنتجة وطبيعة النظام السياسي-الاجتماعي القائم والأحداث التاريخية التي مرّ بها المجتمع، والمستوى الحضاري الذي بلغه هذا المجتمع أو ذاك، ومستوى تعليم وثقافة أو أمية وجهالة ووعي الإنسان الفرد والمجتمع، وكذلك التراكم الثقافي ومستواه والتقاليد والعادات الاجتماعية التي يتسم بها المجتمع والتي تساهم في تكوين صورة الـ "أنا" والصورة الجمعية للمجتمع. كما يمكن أن تجد تجلياتها في التربية البيتية وطبيعة ومستوى التربية والتعليم بمستويات ومراحل الدراسة المختلفة، وفي الشارع والحقل والمعمل، إضافة إلى الثقافة والإعلام...إلخ. كما لا بد من الانتباه إلى انتشار واسع النطاق لوعي ديني واجتماعي زائفين في صفوف الأكثرية المسلمة لشعوب الدول العربية. كل هذه العوامل الكبيرة والصغيرة تترك أثرها القوى المباشر وغير المباشر على الفرد بمستويات أو درجات متفاوتة مع نمو الإنسان فكراً وثقافة ووعياً وعمراً. وهنا يمكن الحديث بشكل مكثف عن دور القاعدة الاقتصادية والاجتماعية والبناء الفوقي، الذي تتشكل منه السلطة والدين والثقافة.. إلخ في بناء الإنسان فكراً وممارسة. كل هذه الأمور وغيرها ينشأ فيها الفرد وتؤثر فيه وتساهم في تكوينه الفكري والاجتماعي والثقافي ومن ثم السياسي وفي التعامل اليومي مع نفسه ومع الآخر من بني شعبه أو من شعوب أخرى.     
والسؤال الذي يطرح على المسلمين العرب يمكن أن يطرح على كل شعوب العالم، إذ أن ظاهرة التمييز بأشكال مختلفة، ومنها التمييز العنصري القائم على خطأ شائع مكرس منذ قرون بوجود أعراق عديدة في المجتمع البشري وليس "عرقاً" أو نوعاً واحداً هو الإنسان، أيا كان لون بشرته أو شكله أو لغته، ذكراً كان أم أنثى. ولو أخذنا منطقة الشرق الأوسط سنجد هذه الظاهرة موجودة في صفوف شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الشعب الفارسي في إيران، والشعب التركي في تركيا، وشعب إسرائيل، والشعب العربي في الدول العربية أو الشعب الكردي أو شعوب شمال أفريقيا المغاربية، على سبيل المثال لا الحصر. ويلح هذا السؤال أكثر حين يوجد في دولة ما أكثر من شعب أو قومية، كما في إيران وتركيا والسودان والعراق وإسرائيل وشمال أفريقيا المغاربية، وحيث يلاحظ وجود اضطهاد ضد من يطلق عليه بالأقلية من جانب الأكثرية.
لهذا فالسؤال الأكثر مشروعية وعدلاً هو: هل بين المسلمين العرب عنصريون، كما هو الحال في بقية شعوب العالم؟ اعتقد بأن الإجابة عن هذا السؤال تكون بـ "نعم" دون أي تحفظ، إذ نجدها بين العرب المسلمين، كما نجدها في صفوف بقية شعوب العالم، فهناك من هم عنصريون يمارسون التمييز بين الناس على أساس ما يطلق عليه بـ"الأعراق!". ولكن السؤال الأهم والأكثر مسؤولية هو: ما مدى انتشار الفكر العنصري وممارسة التمييز من جانب العرب المسلمين إزاء شعوب أخرى؟ إن الربط بين العرب والإسلام، وربما مع بقية الديانات الإبراهيمية أو مع كثير من الديانات الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفشيوسية والطاوية في الصين...الخ عموماً، يتجلى في كتب هذه الديانات، سواء أكان في التوراة أو الانجيل أو القرآن، أو في كتب وتعاليم ديانات أخرى. والسؤال الذي نحن بصدده: هل العرب المسلمون عنصريون؟  علينا متابعة علاقة العرب بالدين الإسلامي على وفق ما ورد في القرآن، سواء في بروز هذه الظاهرة أو استفحالها، مع وجود ما يشير إلى غير ذلك أيضاً.   
إجابتي الواضحة والشفافة عن هذا السؤال الكبير والمركزي دون تحفظ هي: ليس كل العرب ولا كل الشعوب تتسم بالعنصرية والعداء للآخر بأي حال، ولكن بين العرب وبين بقية شعوب العالم من هم عنصريون معادون للآخر أو لمن يُعتبر بينهم من الأجانب، سواء كبر عدد هؤلاء العنصريين أم صغر. فما هي حالة العرب المسلمين في المرحلة الراهنة؟ 
إن بروز مثل هذه الظاهرة السلبية يرتبط بعوامل كثيرة لا بد من متابعتها بروح بحثية علمية وموضوعية تهدف إلى وضع التصورات والبرامج الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجعة لمعالجتها من جذورها، بغض النظر عن ضعف وجودها أو قوة وسعة انتشارها في شعب من الشعوب أو في أي دولة من الدول. فالعنصرية بمفهومها العلمي تعني رؤية تمييزية دونية من جانب ألـ "أنا" نحو الـ "آخر". إنها إيديولوجية سياسية- اجتماعية خاطئة ومضرة وخطيرة تدَّعي وجود أعراق مختلفة في المجتمع البشري، وأن هناك عرقاً يتفوق على بقية الأعراق، وعلى الأعراق الأقل شأناً خدمة العرق الأعلى شأناً كما في نظرية أبناء نوح سام وحام ويافت. ومن الملاحظ بأن الشعوب ذاتها لا تميل إلى التمييز بين البشر، بل إن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر التاريخ الطويل للبشرية كانت وما تزال هي المسؤولة، وهي التي تحمل أيديولوجيا عنصرية شوفينية تمارس النهج العنصري والتمييز بين المكونات القومية والدينية في المجتمع أو بين المجتمعات استناداً إلى رؤية نمطية (Stereotype) من قبل ألـ "أنا" إزاء ألـ "أخر" من منطلقات عديدة وأهداف متنوعة دونية تدفع بها إلى صفوف المجتمع وتغذيها باستمرار على وفق طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع وطبيعة الحكم السياسي القائم وأهدافه ومآربه.   
التمييز بين البشر ظاهرة قديمة أكثر قدماً في ظهورها من النظريات العرقية التي ارتبطت بعهود الاستعمار الأوروبي لقارات الكرة الأرضية الأخرى بشكل خاص واختلطت بتفسيرات دينية ظهرت قبل ذاك لتبرير الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاجتماعي لشعوب كثيرة أو في إطار دولة واحدة بين قوميات أو قبائل عديدة. لقد ظهر التمييز مع نشوب حروب بين العشائر والقبائل ووقوع أسرى بين الطرفين المتحاربين أولاً، كما برز أيضاً مع بروز وتطور تقسيم العمل الاجتماعي وتطور الملكية الفردية وتباين الحالة الاجتماعية، وممارسة العبودية والقنانة في النظم الاجتماعية العبودية (الرق) والإقطاعية (القنانة) على سبيل المثال لا الحصر. كما برز التمييز ضد المرأة مع تحول إدارة العائلة أو القبيلة من المرأة إلى الرجل في مجرى التاريخ البشري والتحول صوب الزراعة واستقرار المجاميع البشرية في مكان ما.
لم تكن ظاهرة وأد البنات قد برزت لدى أتباع الدين اليهودي ولا لدى أتباع الدين المسيحي في الجزيرة العربية أو في العهود القديمة في بلاد ما بين النهرين أو مصر الفرعونية رغم ظهور هاتين الديانتين في هذه المنطقة من العالم، ولكنها ظهرت فيما يطلق عليه بالجاهلية لدى العرب قبل الإسلام والتي أشار إليها القرآن كتاب المسلمات والمسلمين.
لقد مارس العرب قبل الإسلام التمييز بأربع صيغ هي: أسرى حروبهم، وذوي البشرة السوداء، والحالة الاجتماعية، أي التراتبية الاجتماعية، وإزاء النساء، حتى وصل بهم الأمر إلى وأد بناتهم بعد الولادة. كما مورست العبودية من قبل حكام اليهود والمسيحيين في التاريخ أيضاً.
وبالنسبة للعرب فأن ظهور محمد ودعوته للإسلام وما سجل بعد ذلك في القرآن يشير إلى أنواع من التمييز التي أقرها الإسلام والتي يمكن الإشارة إليها في الآتي، على وفق آيات قرآنية:
** ورد في القرآن تحريم وأد الإناث وإدانته "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ" (القرآن، سورة التكوير الآية 8). وما تزال هذه الظاهرة موجودة في الهند مثلاً.
** ولكن القرآن، وليس الأحاديث المنسوبة للنبي محمد، لم يلغِ التمييز ضد المرأة لصالح الرجل بل كرسه وأكد عليه في أكثر من آية قرآنية، بما في ذلك الآية الواردة في سورة النساء: " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا". (القرآن، سورة النساء، الآية 34). كما اقر القرآن قاعدة الزواج بأربع نساء كما في الآية 3 من سورة النساء «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (سورة النساء: آية 3)، كما أجاز النكاح بالجاريات والأمات إلى جانب الزوجات، إذ جاءت في الآية 24 من سورة النساء: "وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ...".
** لم يحرم العبودية، بيع وشراء العبيد، ولكنه شجع على عتق العبيد من النساء والرجال. وقد مارسه الحكام والمجتمعات في فترة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعباسية والعثمانية والدولة الفاطمية وكذلك في الأندلس في حكم المسلمين لها. كما مورس في السعودية والخليج ومصر والسودان فترة طويلة جداً، ومازال يوجد بصورة مبطنة في أكثر من بلد عربي في الوقت الحاضر، لاسيما إزاء البشر من ذوي البشرة السوداء. وهنا نورد الآيات القرآنية التي لا تُحرّم العبودية:
•   ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿١٨٢ آل عمران﴾
•   ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿٥١ الأنفال﴾
•   ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿١٠ الحج﴾
•   وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿٤٦ فصلت﴾
•   مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿٢٩ ق﴾
 
** تؤكد الكتب السماوية الثلاث على التمييز بين البشرة، ومرة أخرى تؤكد أن لا فرق بينهم، كما جاء في القرآن، سورة الحجرات قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) .
يعتقد ويؤكد جزء كبير من اليهود، لاسيما في إسرائيل، بأنهم شعب الله المختار، استناداً لما جاء في العهد القديم (التوراة) الإصحاح الرابع عشر، سفر التثنية (2:14) ما يلي: "لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ." ولدى المسيحيين يسري الموقف ذاته إذ أن الإنجيل والنبي عيسى لم يلغ ما جاء به التوراة والنبي موسى.
أما في الإسلام فقد وردت آية 110 من سورة أل عمران صريحة وهي على النحو التالي: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ.".
وهذا التمييز موجود في التراتبية الاجتماعية للديانات القديمة أيضاً والتي ما تزال موجودة حتى الآن ولها مؤيدوها، سواء أكان ذلك في الهند والصين وعموم جنوب شرق اسيا أم في الشرق الأوسط. وقد نسب إلى النبي محمد قوله: " ربكم واحد، وإن أباكم واحد، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى".
** والتمييز يتخذ بعداً اجتماعياً تراتبياً بسبب غياب العدالة عن المجتمعات البشرية بسبب طبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة فيها والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفاعلة فيها. والديانات تشير إلى كلمة العدالة ولكن لا يتبلور فيها مبدأ العدالة الاجتماعية، فهي تتحدث عن الغنى والفقر ومطالبة بعضها للأغنياء بالتصدق والإحسان والرحمة بالفقير كما في الآية 90 في سورة النحل: "﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. أو في الآية التالية من سورة التوبة: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60).
** حول دور الدين في التمييز بين الأديان
إن التمييز لا يبرز فيما بين الشعوب فحسب، بل يبرز أيضاً في الشعب الواحد على شكل تباين وتمييز بين القبائل وبين اتباع الديانات والمذاهب أو بين الغني والفقير، أو سكان المدن والأرياف ...الخ. والتمييز العنصري يمكن أن يجمع فيه جملة متداخلة من صيغ التمييز التي تصل إلى حد العزل العنصري أو يقود إلى صراعات ونزاعات وحروب دامية يكون ضحيتها البشر ذاته. 
ففي القرآن تشكيك كبير بأتباع الديانة اليهودية والمسيحية، كما ورد في سورة المائدة الآية التالية:   
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. (51). أو: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴿٦٤ المائدة﴾، أو: "أشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ". ﴿٨٢ المائدة﴾.
أو الآية الآتية في سورية البقرة:   
"قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (136-137), أو قوله: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ". سورة آل عمران:85].
** لو تابعنا التمييز العنصري عند العرب سنجده موجوداً سابقاً وفي الوقت الحاضر في كل الدول العربية إزاء الأفارقة: أمثلة صارخة:
** السودان موقف الحكومات وغالبية العرب الشماليين إزاء جنوب السودان أو غربه مما أدى إلى انفصال الجنوب وتشكيل دولة خاصة بهم، ولكن التمييز في الشمال إزاء الجنوبيين مازال سائداً. (راجع: العنصرية: لماذا يوصف السود بـ"العبيد" في السودان؟" موقع بي بي سي، 26 تموز/يوليو 2020). (راجع أيضاً: عبد الحميد عوض، العنصرية في السودان... قوانين جديدة لمكافحة جميع أشكال التمييز، موقع العربي الجديد، في 09/07/2020).   
** العراق موقف الحكومات والغالبية العربية إزاء الكرد أو الأفارقة السود في جنوب العراق من الناحية القومية أو الأثنية أو إزاء قوميات أخرى كالموقف من الكلدان والآشوريين والسريان أو إزاء التركمان والفرس. (راجع: كاظم حبيب، محن وكوارث أتباع الديانات والمذاهب في العراق، موقع الحوار المتمدن). 
** الدول المغاربية لاسيما المغرب والجزائر في موقف الحكومات والعرب إزاء الأمازيغ، سكان البلاد الأصليين. (راجع: د. كاظم حبيب، المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب، صوت الصعاليك، برلين في 7/05/2021). وكذلك في الحوار المتمدن.
** الحكومات المصرية وغالبية المصريين العرب إزاء السودانيين عموماً لاسيما الجنوبيين منهم. (راجع: "السودانيين" في مصر ضحايا التمييز العنصري وسوء المعاملة والعنف الجسدي..: تحقيق، موقع الراكوبة، 18/07/2015). أو التمييز ضد السود في السعودية. (راجع: السود عبيد في السعودية، منصور الحاج، موقع صوتك ... صوت النهضة).   

لا شك في ان ما ورد في القرآن يؤثر بشكل مباشر على المؤمنين والمؤمنات منهم من أتباع الديانة الإسلامية. ولكن الأكثر بروزاً وفعلاً هو دور النظم السياسية السائدة وشيوخ الدين في تعميق هذه الظاهرة السلبية لدى كثرة من المسلمين العرب. وأشير مرة أخرى إلى أن الكراهية ضد اليهود ليست جديدة بل قديمة منذ فترة النبي محمد وفي فترة الخلفاء الراشدين لاسيما الخليفة عمر بن الخطاب الذي طردهم من موطنهم في الجزيرة شبه الجزيرة حين " أصر عمر بن الخطاب ألا يترك بجزيرة العرب دين وقد أصبح للعرب في شبة الجزيرة العربية كلها دين واحد ارتضوه في عهد رسول الله "، (راجع: سامح عبد الله، لماذا أجلى عمر بن الخطاب اليهود والنصارى من المدينة، موقع الجديد 13/06/2018)، كما حصل في كل الإمبراطوريات التي نشأت بعد ذاك. ويمكن للنموذج التالي أن يوضح صورة التمييز ضد من هم من ديانات أخرى: " فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن إيراد الحادثة التالية التي تكشف عن ممارسة التمييز الديني بين البشر لدى الحكام المسلمين في ذلك الزمان، في حين أنها كانت أفضل من ذلك بكثير في التعامل اليومي فيما بين عامة أفراد الرعية من مختلف الأديان والمذاهب. "فقد أورد الدكتور عبد العزيز الدوري (1919-2010م) في كتابه "تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري" مقتطفاً منقولاً عن القفطي في كتابه "تاريخ الحكماء "ليدلل على شمول عناية علي بن عيسى (245-334هـ) بالقرى والأرياف وشمولها بالرعاية الصحية، إذ كتب الأخير في عام 301 هجرية إلى الطبيب سنان بن ثابت (توفى 975م) ما يلي: "فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء، فتقدم... بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره. "ولما وصل الأطباء إلى سورا ونهر الملك وجدوا أن أكثر السكان يهود. فاستفسر سنان من الوزير عن رأيه في معاملتهم وأوضح "أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملّي والذمّي. "فكتب علي بن عيسى: "ليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب، ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به، معالجة الناس قبل البهائم، والمسلمين قبل أهل الذمة، فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم. فاعمل... على ذلك" (أنظر، د. عبد العزيز الدوري، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995). ورغم ما يملكه الدكتور الدوري من حس مرهف للكلمة، فأنه لم ينتبه، في أحسن الأحوال، وعلى الأقل لم يشر بأي شكل إلى الموقف التمييزي المجحف والصارخ الذي تجلى في خطاب علي بن عيسى والذي كان يمارس من قبل الحكام وولاة وأمراء الدولة العباسية حينذاك، وكأن التمييز بين الناس، بين المسلمين وغير المسلمين مسألة طبيعية واعتيادية حتى في مجال العلاج الطبي.". (أنظر: د. كاظم حبيب، "مسيحيو العراق أصالة...انتماء...مواطنة. مسودة الكتاب حيث حذف الرقيب السوري عدة صفحات من الكتاب بسبب اتهامه للحكام العرب بالتمييز ضد اليهود، وهي عنصرية جديدة وعدم أمانة في طبع الكتاب، كاظم حبيب). 
إن ما زاد في الرؤية التمييزية سوءاً قيام دولة إسرائيل وتقسيم فلسطين ودور الصهيونية، كفكر قومي يميني متطرف، في الموقف من العرب في إسرائيل، ثم الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة منذ عام 1967، ثم الخروج من غزة والبقاء في الضفة الغربية والقدس الشرقية كمناطق فلسطينية محتلة من قبل إسرائيل، وهي المناطق التي تعتبر جزءاً من الدولة الفلسطينية الموعودة بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. كما يلعب الحصار المفروض على قطاع غزة دوره الكبير في تعميق وتوسيع الكراهية ضد إسرائيل وإزاء اليهود أو ما يطلق عليه بـ"ضد السامية"، علماً بأن العرب يعتبرون ضمن التقسيم الشائع من الشعوب السامية ايضاً.
لقد أثر الفكر الديمقراطي والتقدمي، لاسيما اليساري، في التخفيف من غلواء التمييز بمختلف أشكاله، وهنا كثرة من العرب لا يمارسون كثرة من أنواع التمييز، ولكن ما يزال العداء لليهود يلعب دوراً واضحاً في نهج كثرة من الأحزاب العربية وبين صفوف العرب المسلمين أو حتى في صفوف المسيحيين.
ورغم كون اليهود على الصعيد العالمي قد عانوا من التمييز والكراهية والعداء، وما حصل لهم وما ارتكب بحقهم من جرائم وإبادة جماعية في فترة النازية الهتلرية في المانيا وعلى الصعيد الأوروبي بشكل خاص، بما في ذلك المحرقة النازية (الهلوكست) البربرية، فأن في الأوساط الحاكمة في إسرائيل وكثرة ممن يحملون الفكر القومي اليميني اليهودي المتطرف والعنيف (الصهيونية)، وليس كل اليهود طبعاً، تسود النزعة التمييزية ضد العرب والمسلمين أو ضد غيرهم، بل وضد اليهود السود في إسرائيل. وهو أمر مرتبط بالدين من جهة، وبالنهج والسياسة والسلوك القومي اليميني المتطرف، أو الشوفينية والعنصرية المستندة إلى خرافة "شعب الله المختار"!، إضافة إلى امتداد الاحتلال لما يقرب من 54 عاما، والتعامل التمييزي بين اليهود والعرب لصالح اليهود وضد العرب وتنامي المستوطنات اليهودية في المناطق العربية من فلسطين (الضفة الغربية والقدس الشرقية، واستمرار التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي للمناطق العربية لصالح المستوطنين اليهود النازحين من أوروبا وبقية دول العالم إلى إسرائيل. إن هذه السياسة العنصرية والاستيطانية والاستعمارية المستمرة منذ 54 عاماً تزيد من الكراهية والأحقاد وتعمق الشرخ الكبير القائم بين العرب واليهود، وهو في غير صالح التعايش السلمي والديمقراطي المنشود بين الإسرائيليين اليهود والعرب في إسرائيل وبين الشعب الإسرائيلي والشعب الفلسطيني عموماً، وكذلك بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية المرتقبة والسلام في عموم منطقة الشرق الأوسط.
من هنا يمكن الإجابة مرة أخرى عن السؤال الأساسي: هل العرب عنصريون؟، ليس كل العرب عنصريين، ولكن وفي الوقت الحاضر نسبة عالية منهم عنصريون، سواء بسبب الجهل والأمية الفكرية والاجتماعية أو الوعي المزيف والإيديولوجية اليمينية المتطرفة، كما أن نسبة عالية من يهود إسرائيل عنصريون أيضاً ولذات الأسباب، كما تشير إلى ذلك دراسات علمية وموضوعية حول إسرائيل. وهي حالة متشابكة ومتفاعلة ومتبادلة التأثير. ومعالجة هذه القضية لا تتعلق بالقضية الفلسطينية وحدها، بل بعدد كبير من العوامل الفاعلة والمؤثرة، سواء أكانت عوامل تاريخية ودينية وأيديولوجية وتربوية وثقافية وسياسية ومكانية ونفسية. والتي هي بحاجة إلى مقالات كثيرة ومعمقة لمعالجتها على مدى طويل ودؤوب وغير منقطع.   
 27/05/2021     
           




5
كاظم حبيب
هل المرجعية الشيعية مسؤولة عن وجود وحل الحشد الشعبي وميليشياته المسلحة؟

في مقال سابق أشرت إلى أن تشكيل الحشد الشعبي ارتبط بقرار تم التنسيق فيه بين رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وبين المرجعية الشيعية للسيد على السيستاني. الطرف الأول أصدر قراراً بتشكيل هذا الحشد، في حين أن الطرف الثاني أصدر الفتوى التي ساهمت في التحشيد لهذا الحشد تحت باب شرعي إسلامي هو الجهاد الكفائي. ولديَّ تصور بأن هدف الأول اختلف في الجوهر عن هدف الثاني، وأن التقيا على تشكيل هذا الحشد. في عام 2016، أي في فترة حكم حيدر العبادي، كُرس وجود هذا الحشد بقانون باسم "هيئة الحشد الشعبي"، ووضع رسمياً تحت قيادة وإدارة القائد العام للقوات المسلحة العراقية. لقد انتسبت لهيئة الحشد الشعبي الجهات التالية:
أولاُ: كل الميليشيات الشيعية الطائفية المسلحة التي تشكلت منذ عام 2003 حتى 2021، سواء ما أطلق عليها بالولائية أو الولاء لمرجعية السيستاني أو ميليشيات جيش المهدي (ميليشيا سرايا السلام)؛
ثانياً: مجموعة من الميليشيات التي تضم أعضاء من السنة أو من الشبك أو من المسيحيين التي تأسست أثناء الحرب ضد داعش وهي تابعة لهيئة الحشد الشعبي وتأتمر بأوامر قيادته الشيعية؛
ثالثاً: العناصر التي تطوعت على وفق فتوى السيستاني بالجهاد الكفائي ممن لم يكونوا أعضاء في تلك الميليشيات وبدافع الدفاع عن الوطن؛
تشكلت قيادة هيئة الحشد الشعبي من قادة تلك الميليشيات الطائفية المسلحة الأكثر بروزاً وتأثيراً التي ترتبط بعلاقات معروفة بخمس جهات أساسية حسب أهمية ذلك الارتباط:
1)   علاقة عضوية متينة بفيلق القدس الإيراني وقائده قاسم سليماني قبل قتله، وبعده بالقائد الجديد لفيلق القدس ونائبه. وهي علاقة مشتركة مع الحرس الثوري الإيراني؛
2)   علاقة سياسية ومصالح بالأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية (البيت الشيعي) التي ترتبط هي الأخرى بعلاقات متينة مع القيادة الإيرانية وجهاز الأمن الإيراني (اطلاعات) والمرشد الإيراني و"ولي الفقيه!" خامنئي؛
3)   علاقة مكثفة تمر عبر الدولة العميقة وبخيوط (مرئية ومتسترة) مع مجلس النواب والحكومات العراقية المتعاقبة ومؤسساتها وهيئاتها المستقلة ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية وعموم القضاء في المحافظات؛
4)   علاقة مع المرجعيات الشيعية العديدة، منها بشكل خاص عبر وكلاء المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيستاني، ومرجعيات أخرى كاليعقوبي، أو كما في حالة مرجعية مقتدى الصدر وسرايا السلام وسائرون التي تعود لشيخ الدين المتطرف كاظم الحسيني الحائري الملتزم بقاعدة ولاية الفقيه.
5)   علاقة عمل ومصالح متبادلة وتنسيق مع قوى الجريمة المنظمة لاسيما العاملة في المجالات التالية: المال، المخدرات والكحوليات، الجنس، شراء وبيع أعضاء من جسم الإنسان.
جميع الميليشيات الشيعية المتطرفة (الولائية وغير الولائية) التي تشكلت في الفترة بين 2003 حتى الوقت الحاضر شاركت دون استثناء بالأمور التالية:
** التبعية الفعلية الفكرية والدينية لولي الفقيه الإيراني والالتزام بما يقرره عبر وكلاءه في العراق. ويمكن هنا أن نشير إلى أن مجموعات من الميليشيات الصغيرة التي ترتبط بوكلاء السيد السيستاني، والتي لا يمكن استثناءها من الأفعال غير القانونية الأخرى التي تمارسها كل الميليشيات في البلاد، أي من الفساد المالي والإداري والابتزاز والاختطاف والاعتقال والتعذيب والقتل.
** كل المهمات العدوانية والدونية الأخرى الموجهة ضد شعب العراق وفي غير صالح البلاد التي وردت في مقالي المنشور يوم 30/05/2021.
** مارست ميليشيا جيش المهدي (سرايا السلام) على مدى سنوات كثيرة دوراً مماثلاً لبقية الميليشيات الولائية، رغم عدم إعلانها الولاء المباشر لخامنئي، ثم حاولت أن تلعب دوراً أخر في فترة الانتفاضة والتماهي مع الحركة المدنية بهدف احتوائها، ولما عجزت عن ذلك عادت لتضرب بقوة وخسة الحركة المدنية وقوى الانتفاضة التشرينية. وهي في المحصلة النهائية ضد التغيير المنشود، وهي الذراع الميليشياوي لجماعة مقتدى الصدر وسائرون.
** لا شك في أن هذه الميليشيات تختلف فيما بينها بعدد من المسائل المهمة:
أ‌)   مدى تبعية وخضوع قادتها وكوادرها الأساسية للولي الفقه في إيران وإرادة وأهداف ومصالح إيران في العراق.
ب‌)   عدد الأفراد المنتسبين إليها.
ت‌)   حجم ونوع السلاح، بما فيها الصواريخ والطائرات المسيرة القاصفة الذي تمتلكه.
ث‌)   حجم الأموال التي تحت تصرفها والامتيازات التي تتمتع بها، ومدى دعم إيران لها مالياً (معاشات مثلاً).
ج‌)   مدى تغلغلها ونفوذها في أجهزة الدولة، لاسيما الوزارات والقوات المسلحة العراقية وأجهزة الأمن والاستخبارات والمخابرات عبر الدولة العميقة ومنشآتها.
ح‌)   مدى هيمنتها على المناطق التي تتقاسمها في محافظات العراق المختلفة، عدا المحافظات الرسمية التابعة للإقليم.
خ‌)   مدى استعدادها لاستخدام العنف والسلاح في مواجهة الانتفاضة التشرينية أو القوات الحكومية العراقية.
** رغم وجود تنسيق وتعاون بين هذه الميليشيات عبر قيادة الحشد الشعبي، إلا إنها تخوض منافسة، وأحياناً شديدة، فيما بينها بهدف الهيمنة على بقية الميليشيات وقيادتها لها والحصول على موقع مميز في علاقتها مع إيران وولي الفقيه الإيراني خامنئي. حيث بدأت هذه الميليشيات تُفرّخ المزيد من الميليشيات الفرعية بأسماء أخرى تابعة لها. ويمكن ألَّا تخلو هذه المنافسة من احتمال الاشتباك المسلح، لاسيما بين سرايا السلام وحزب الله (النجباء) أو فيلق بدر أو عصائب أهل الحق أو غيرها كثير. ولكنها تتلاحم فيما بينها في حالة حصول تهديد لها ومواجهتها لقوى الانتفاضة أو الحراك المدني الشعبي العام ضدها.     
** في فترة الحرب ضد داعش توزعت قوى الحشد الشعبي بين مجموعتين، الأولى ساهمت في القتال ضد داعش وشاركت في تحرير المناطق المحتلة من تلك العصابات، والمجموعة الثانية التي استمر وجودها في مدن بغداد والوسط والجنوب لتمارس الأفعال المعروفة عنها، بما في ذلك الفساد المالي والتهديد والابتزاز والاعتداء والاختطاف والتعذيب والقتل. وبعد الانتهاء من قتال داعش الواسع النطاق عادت أغلب تلك الميليشيات الحشدية إلى ممارسة ذات المهمات غير النبيلة والمناهضة لمصالح الشعب الموكلة إليها والتي أوردتها في المقال السابق المشار إليه في بداية هذا المقال. علينا أن نتابع حجم الأموال العراقية الهائلة التي نُهبت بطرق شتى ووصلت إلى ثلاث جهات أساسية هي: الدولة الإيرانية وحزب الله بلبنان والدولة السورية. وهذه الحالة لم تتوقف حتى الآن رغم مصاعب العراق المالية.
ما العمل إزاء هذا الوضع؟   
يعتبر النضال المستمر لقوى الشعب وفئات الاجتماعية لتغيير النظام السياسي الطائفي الفاسد هو المسألة المركزية التي تواجه وقوى الانتفاضة التشرينية، قوى الحراك المدني، بقواها وأحزابها وعناصرها، هي التي تواجه الشعب كله، وفي يقيني
يمارس يشكل وجود هيئة الحشد الشعبي بميلشياتها الولائية وغير الولائية، بما فيها ميلشيا سرايا السلام، ومكاتبها الاقتصادية والبنوك المرتبطة بها وفرق الاختطاف والاعتقال والتغييب والقتل التابعة لها والخاضعة كلها لقيادة الدولة العميقة، تسكيناً حاداً نازفاً دماً مستمراً في خاصرة العراق وشعبه. وهذه الهيئة وميليشياتها تلحق يومياً المزيد من الأضرار الفادحة بما تبقى من سمات الدولة وهيبتها وصلاحياتها وبالشعب العراقي وسمعة العراق الإقليمية والدولية. وليس أمام الشعب العراقي من أجل البدء بتغيير الأوضاع أن يعمل على تحقيق مهمتين أساسيتين إلى جانب المهمة المركزية، هما:
1)   النضال من أجل إقدام مرجعية السيد علي السيستاني على إصدار فتوى جديدة تنهي مفعول فتوى الجهاد الكفائي بسبب انتهاء مهمتها المركزية، وبالتالي حل كل الميليشيات وهيئة الحشد الشعبي أياً ولمن كان الولاء.
2)   النضال من أجل قيام الرئاسات الثلاث باتخاذ قرار حل كل الميليشيات وحشدها الشعبي، وحصر السلاح بيد الدولة وقواتها المسلحة.
ولي الثقة بقدرة القوات المسلحة العراقية، رغم ما فيها من جيوب خائسة، على مواجهة أي احتمال للمواجهة من قبل هذه القوات الخبيثة ليس لها أي رابط إنساني نبيل يربطها بالوطن والشعب. 
 أدرك جيداً بأن هاتين المهمتين ليستا من السهولة بمكان، ولكن بدونهما، أي بدون قطع الذراع الإيراني الفاعل في البلاد، لا يمكن تغيير الوضع لصالح الشعب ووحدة واستقلال وسيادة الوطن. إذ سيجد مثل هذا الموقف معارضة ليس من هيئة الحشد الشعبي وميليشياتها والأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية الحاكمة ذات العلاقة العضوية بهذه الحشد وميليشياته (البيت الشيعي السياسي) فحسب، بل ومن إيران و"ولي الفقيه". ولكن مثل هذا القرار سيجد التأييد والدعم من الشعب العراقي بكافة قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته المدنية والديمقراطية، وهو ما تحتاجه أي حكومة تمتلك عقلاً راجحاً، كما هو ما يحتاجه المرجعي الشيعي الأعلى السيد السيستاني. إن اتخاذ مثل هذا القرار يحتاج إلى جرأة استثنائية من مرجعية السيستاني، التي تعرضت وتتعرض باستمرار للإساءة الكبيرة المستمرة من وجود وأفعال هذه الميليشيات وحشدها الشعبي. كما ليس سهلاً على الرئاسات الثلاث، بغض النظر عن رأيي الشخصي بها وبطبيعتها السياسية ودورها ودور أشخاصها على امتداد الفترات المنصرمة، اتخاذ مثل هذا القرار، ولكنه ضروري وملح ويجد الدعم والتأييد من غالبية الشعب الذي يعاني الأمرين على أيدي الحشد وميليشياته وإيران. 
         

6
كاظم حبيب
نقاش هادئ مع الدكتور فؤاد حسين حول الحكومة المستقلة
أجرى السيد حسام الحاج في برنامجه الموسوم "في متناول اليد" (قناة الشرقية) بتاريخ 10/03/2020 حواراً سياسياً مع الدكتور فؤاد حسين نائب رئيس الوزراء ووزير المالية، حول الوضع السياسي وحكومة عادل عبد المهدي، وعن الانتفاضة الشبابية والشعبية المستمرة طوال 160 يوماً، والموقف من مطالب الانتفاضة، وحول انخفاض سعر البرميل من النفط الخام في السوق الدولية ومدى تأثيرها على الاقتصاد العراقي وعلى رواتب موظفي الدولة، إضافة إلى الموقف من مطلب الجماهير المنتفضة بتشكيل حكومة مستقلة، رئيساً ووزراءً، من غير الأحزاب الحاكمة. كل الإجابات التي قدمها الدكتور فؤاد حسين عن أسئلة المحاور تستوجب المناقشة، ولكني، ورغم أهمية القضايا الأخرى، سأقتصر في مناقشتي على مسألة واحدة وردت في إجابات الدكتور فؤاد حسين، لا بصفته الشخصية فحسب، بل وبصفته نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للمالية، عن سؤال المُحاوِر حول تشكيل حكومة مستقلة في العراق ورفضه لهذه الفكرة أصلاً واستغرابه من المطالبة بها، لأن الحكومة تنظيم وتدير شؤون البلاد، وهي حكومة سياسية ولا يمكن أن تكون مستقلة! فهل كان الوزير في إجابته عن هذا السؤال محقاً، أم إن مطلب تشكيل حكومة مستقلة من جانب المنتفضين والمنتفضات هما الحق والعدل، وهما المطلوبان بإلحاح وسرعة في المرحلة الراهنة في ضوء الحالة العراقية الاستثنائية الراهنة. فالحديث هنا لا يدور عن حكومة في بلد آخر لا يعيش انتفاضة شعبية عمرها أكثر من 160 يوماً حتى الآن، وبعد أن أقسم المنتفضون والمنتفضات، رغم كل التضحيات الغالية والكثيرة جداً واليومية، بأنهم لن يتركوا ساحات وشوارع النضال ما لم تتحقق المهمات والأهداف التي انتفضوا من أجلها.
لنتابع الواقع الجاري على أرض العراق، فبعد مرور أكثر من 17 عاماً على وجود الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية المتحالفة مع الأحزاب الإسلامية السياسية السنية ومع الأحزاب الكردية في الحكم، بغض النظر عن الصراعات التي نشبت وما تزال مستمرة بين أطراف هذا التحالف القلق والمتعثر، ولكن المتماسك بغير حق في مواجهة مطالب الشعب الأساسية والرافض لها فعلياً، ومن حيث دفاع أطراف الحكم الثلاثة على ضرورة استمرار وجود حكم طائفي سياسي فاسد وملوث بهيمنة أجنبية إيرانية شديدة وتبعية صارخة لها، بغض النظر عن المواقف المتباينة نسبياً لأطراف هذا التحالف بصدد هذه المسألة الهامشية أو المصالح الذاتية أو تلك. وبعد معاناة الشعب المريرة والقاسية من نظام المحاصصة الطائفي والأثني الفاسد الذي:
 ** يتنكر لمبدأ المواطنة المتساوية والواحدة ويأخذ بقاعدة الهويات الفرعية المتقاتلة والقاتلة التي عاشها العراق طوال السنوات المنصرمة؛
** التوزيع المحاصصي في السلطات الثلاث وأجهزة ومؤسسات وهيئات الدولة على أساس الهوية الطائفية والأثنية والتنكر لحقيقة وجود ملايين البشر غير المنتمين للأحزاب السياسية الطائفية أو الأثنية واستبعادهم من المشاركة في سلطات ومؤسسات الدولة؛
** التمييز الفظ والمتعارض مع حقوق الإنسان بين أتباع الديانات والمذاهب في البلاد، حيث عانى المسيحيون والمندائيون والإيزيديون وكذلك أتباع المذهب السني من العرب من تميز ظالم وبغيض على مدى الفترة المنصرمة، ولم يكن هذا من قبل الجماهير التي تتبنى المذهب الشيعي بل من القوى الحاكمة التي تدعي تمثيلها للشيعة زوراً وبهتاناً. إضافة إلى ما حصل خلال الفترة 1814-1917/1918، من اجتياح وإبادة جماعة للإيزيديين وقتل وسبي واغتصاب ونزوح وتهجير هائلين في الموصل وعموم محافظة نينوى عبر عصابات داعش المجرمة للإيزيديين والمسيحيين والتركمان والشبك وأهل السنة الذين رفضوا داعش، في ظل هذا النظام الطائفي القائم وبقيادة حزب الدعوة الإسلامية والبيت الشيعي الطائف بامتياز.   
** تركيز النفوذ السياسي والاقتصادي والمالي بيد القوى الحاكمة ومن خلالهما الهيمنة على النفوذ الاجتماعي والتحكم بالدولة والمجتمع وحياة البشر.
** تفاقم الفساد المالي والإداري بما يزكم أنوف حتى الحكام المشاركين أساساً في نهب خيرات البلاد وخزينة الدولة، بحيث أصبح الفساد نظاماً قائماً وسائداً ومعمولاً به في الدولة والمجتمع ومع الخارج، وأصبح العراق في ظل هذا النظام في مصاف الدول القليلة الأولى في قمة الفساد المالي والإداري في تقارير منظمة الشفافية الدولية ولدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. 
** التدهور المستمر والطاغي للخدمات الأساسية للمجتمع، لاسيما الكهرباء والماء والسكن والصحة والتعليم والمواصلات والاتصالات ...إلخ، بحيث أصبح العراق يحتل مواقع متقدمة جداً وفي مواقع متقدمة من الدول الأكر تخلفا ورداءة في الخدمات.
** الغياب التام لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتفريط الفعلي الواسع النطاق للمال العام، إلى جانب النهب والسلب له، بحيث أصبح العراق يوجه نسبة عالية جداً من موارد النفط المالية لاستيراد مختلف السلع الاستهلاكية والكمالية، لاسيما السيئة من إيران وتركيا؛
** تفاقم البطالة في صفوف القوى القادرة على العمل، لاسيما في صفوف الشبيبة والخريجين على نحو أخص، وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 35% من القوى القادرة على العمل، رغم محاولات تخفيض هذه النسبة، مع حقيقة وجود جيش جرار من رجال الأمن والشرطة والجواسيس والعيون التي تراقب الشعب، إضافة إلى الميليشيات وفرق الاغتيالات؛
** تفاقم حجم وعمق الفقر المدقع لنسبة عالية جداً من العائلات العراقية والتي تعيش تحت خط الفقر، وتلك التي تعيش على خط الفقر، إضافة إلى نسبة عالية تعيش فوق خط الفقر بقليل، والتي كلها تشكل النسبة العظمى من سكان البلاد، في مقابل بروز مجموعة من حيتان الفساد المليارديرية والمليونيرية على حساب قوت الشعب ورزقه اليومي. إن الفجوة بين فقر الأكثرية وغنى الأقلية الضئيلة في اتساع دائم لا مثيل له في تاريخ العراق الحديث؛ ويمكن العودة لتقارير المنظمات الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتعرف على مدى فقر المجتمع وعلى مدى فساد وغنى الطغمة الحاكمة وحواشيها؛
** تفاقم القتل اليومي للمتظاهرين المطالبين بحقوقهم المشروعة والعادلة والاختطاف للمناضلين من إعلاميين وكتاب وعموم المثقفين والكادحين الذي يسعون لبناء حياة إنسانية طبيعية في العراق، وآخر مختطفين هما توفيق التميمي ومازن لطيف.
** قبول الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الـ 17 المنصرمة بالتدخل الفظ للدول الأجنبية في الشؤون العراقية كافة، لاسيما إيران، مما يشكل نهجاً ثابتاً في الخضوع لقرارات حكام إيران في مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية من جانب الحكم القائم.
بعد كل هذا، وغيره كثير، انتفض الشعب العراقي بشبابه أولاً، وببقية فئات الشعب لثانياً، ضد هذا الوضع وضد العملية السياسية الفاسدة والمشوهة الجارية طلها. ويجُمع المراقبون في العراق والعالم على إنها أروع وأوسع وأعمق انتفاضة شهدها العراق في تاريخه الحديث، إذ تعبر بعمق ووعي ومسؤولية وبروح المواطنة التي لا تعرف التمييز بين القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية السليمة، عن إرادة ومصالح الشعب بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، ودفاعاً عن الوطن المستباح بقوى الإرهاب والميليشيات والهيمنة الأجنبية الإيرانية والتدخل الفظ لدول الجوار بشكل خاص، لاسيما تركيا، في الشؤون العراقية. إن انتفاضة الشعب المجيدة طرحت مسائل ثلاث أساسية:
1)   إجراء تعديل جاد وديمقراطي عادل لقانون الانتخابات، وكذلك قانون وبنية مفوضية الانتخابات وجعلها مستقلة حقاً عن الأحزاب كلها، سواء الحاكمة منها أم غير الحاكمة، وإجراء انتخابات مبكرة لمجلس النواب العراقي بإشراف الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية والمحلية بحيث لا تتجاوز عاماً واحدة مع تشكيل الحكومة المستقلة.
2)   تشكيل حكومة عراقية مستقلة عن الأحزاب التي شاركت حتى الآن في الحكم بل وحتى التي لم تشارك فيه، أي حكومة مستقلة ومصغرة وذات صلاحيات كاملة لتمارس تنفيذ المهمات الواردة في الفقرة 1 حصراً وتنتهي مهمتها خلال أقل من عام واحد.
3)   قيام القضاء العراقي والادعاء العام بالتحقيق الجاد والمسؤول والعادل بكل الجرائم التي ارتكبت في فترة الانتفاضة ضد المتظاهرات والمتظاهرين في أنحاء العراق، ومنها عمليات القتل والاختطاف والتغييب المستمرة والاعتقال والتعذيب والتي كانت وما تزال تجري حتى في الوقت الذي كان نائب رئيس الوزراء ووزير المالية يتحاور مع قناة الشرقية بشأن الوضع في العراق، والذي يتحمل مع رئيس الوزراء وبقية الوزراء ما جرى ويجري في هذه الفترة من حكومة عادل عبد المهدي. إطلاق سراح جميع الذين اعتقلوا واختطفوا خلال فترة الانتفاضة الشعبية.   
ومن هنا نقول للدكتور فؤاد حسين، إن مطلب الشعب المنتفض محدد سلفاً بمرحلة انتقالية وذات أهداف محددة، وهو لا يريد حكومة ذات برنامج متوسط أو طويل الأجل، ولا يريد تنفيذ سياسات الأحزاب المتحالفة في إدارة الدولة منذ تشكيل مجلس الدولة الانتقالي المؤقت حتى الآن، وبالتالي لا يشترط في مثل هذه الحكومة أن تُمثل بالأحزاب القائمة التي لكل منها برنامجه الذي يسعى إلى تنفيذه، بل يريد حكومة انتقالية مؤقتة ومسؤولة عن المهمات الثلاث السابقة التي يفترض أن تبتعد عن دور وتأثير الأحزاب الحاكمة حالياً، سواء أكانت عربية أم كردية أم من أحزاب إسلامية أو قومية، بل من قوى مستقلة عنها.
إن هذا المطلب العادل والمشروع هو ما ترفضه الأحزاب الحاكمة لأنها تريد أن تفرض ذات السياسات التي جرّبها الشعب طيلة 17 عاماً واكتوى بنيرانها وأعطى عشرات ألوف الضحايا بسبب تلك السياسات. لقد قتل حتى الآن أكثر من 700 إنسان عراقي وأصيب بجروح وإعاقة أكثر من 25000 إنسان متظاهر ومتظاهرة أثناء الانتفاضة الجارية، واعتقل الآلاف وعذبوا في السجون والمعتقلات الرسمية وغير الرسمية التي تقودها الميليشيات العراقية-الإيرانية الطائفية المسلحة.
أرى إن الدكتور فؤاد حسين، وهو خبير قانوني، لا يريد أن يعترف ، وهو العارف ببواطن الأمور، كما يعرف تماماً مفهوم والمهمات المحدودة لحكومة مستقلة في ظل انتفاضة شعبية من هذا النمط السلمي الجاري، ويعرف بأن مثل هذه المهمة لا تخضع لمعايير الأحزاب الحاكمة التي يرفضها المنتفضون لأنها أذاقته مرًّ العذاب سنوات طويلة، كما لا تخضع للدستور الذي تجاوزت عليه بفظاظة واستمرارية كل القوى الحاكمة، وأن الشعب، كما يعرف الخبير القانوني هو مصدر السلطات، وعندما ينتفض الشعب ويصر على التغيير، فلا بد أن يعي السياسيون المسؤولون، مهما كانت هوياتهم وايديولوجياتهم ومواقعهم، ضرورة الخضوع لإرادة الشعب وتنفيذ مطالبه، لا مواجهته بالحديد والنار والادعاء بوجود طرف ثالث يقتل المتظاهرين، والطرف الثالث هو بيد رئيس الحكومة التي يعمل الدكتور فؤاد حسين نائباً له. ورئيس الحكومة هو الذي يشرف مع كتلة أهل البيت الشيعية على عمل ونشاط الدولة العميقة ومؤسساتها وميليشياتها ومكاتبها الاقتصادية غير الشرعية.
يعرف الدكتور فؤاد حسين بأن الشعب العراقي قد فقد الثقة كلية بالنخب والأحزاب والقوى الحاكمة وبمجلس النواب والقضاء العراقي، وبالتالي من فقد ثقة الشعب به لا يمكن إعادتها من خلال تشكيل حكومة بذات النخب والمواصفات التي هي عليها الآن لتقوم بتنفيذ المهمات التي يطرحها المنتفضون والمنتفضات، بل لا بد من وجود حكومة مستقلة تنفذ تلك المهمات حصراً. وبالتالي فهو يجانب الواقع والحقيقة في ادعاءه بأن ليس هناك في القاموس السياسي حكومة مستقلة، فمطلب حكومة مستقلة من قبل الثوار والثائرات لم يأت من فراغ، بل من واقع الحال القائم منذ 17 سنة، بسبب السياسات المعادية لمصالح الشعب والمناهضة لكل ما هو عقلاني وسليم، سياسات دمرت الثقة التي يجب أن تكون ملازمة للحكم بين الشعب والأحزاب الحاكمة. إنها مفقودة منذ سنوات كثيرة ولا يمكن استعادتها برفض تشكيل حكومة يمكنها أن تعيد الثقة للشعب من خلال قيام حكومة جديدة بعد إجراء انتخابات نزيهة وشفافة ومراقبة وتستجيب لمطالب الشعب العادلة والمشروعة وتنفذ ما عجزت ورفضت النخب والأحزاب والقوى الحاكمة تحقيقها خلال السنوات المريرة والبائسة والدموية المنصرمة.

7
كاظم حبيب
اطماع دول الجوار الكبيرة بالعراق ومعضلة الدولة العراقية الهشة
حين يتصفح الإنسان تاريخ العلاقات بين العراق والجارة الشرقية من جهة، ومن ثم الجارة الشمالية من جهة أخرى في أعقاب الحرب العالمية الأولى وقيام الدولة العراقية الملكية الحديثة عام1921 حتى الآن، يتعرف على المصاعب التي رافقت مسيرة هذه الدولة والمتاعب والتوترات السياسية التي كانت ولا تزال تقع على حدود العراق مع الدولتين والاطماع الشرهة التي ميزت ولا تزال تميز سياستيهما بهدف ابتلاع أجزاء من العراق وضمها إلى دولتيهما بنفس استعماري توسعي بغيض. عرف العراق في عهد الحكومات الملكية بعد توترات مستمرة هدوءاً بسبب الدعم القوى الذي توفر للعراق من جانب الدولة البريطانية التي كانت حتى عام 1932 مارست عليه الانتداب على وفق قرار عصبة الأمم، ومن ثم الهيمنة الفعلية علي وفق اتفاقية 1930 العراقية-البريطانية.
أولاً: الوضع مع إيران
وفي ضوء المصالح البريطانية في العراق استطاعت بريطانيا أن تمارس الضغط الكبير على إيران لعقد اتفاقية حدودية بين العراق وإيران وقعت في قصر سعد آباد بطهران بتاريخ 7 تموز/يوليو1937 وسميت بـ"معاهدة سعد آباد". وفي هذه الاتفاقية رسمت الحدود العراقية- البريطانية حيث أصبح شط العرب كله ضمن حدود الدولة العراقية وكفت بريطانيا عن المطالبة به. واستمر العمل بهذه المعاهدة حتى عام 1969 حيث أعلنت حكومة طهرن ومن طرف واحد إلغاء معاهدة سعد آباد. لم يعترف العراق بهذا الإلغاء. ولم تستطع إيران إجراء أي تغيير على أرض الواقع، وحافظ العراق على كامل شط العرب ضمن حدوده الطبيعية. في عام 1975 وقع النظام العراقي اتفاقية الجزائر الخيانية التي تناصف مع إيران شط العرب واعتبر خط القعر هو الخط الفاصل بين الدولتين في شط العراق. وقعت هذه الاتفاقية مقابل موافقة الشاه الإيراني على محاصرة الحركة الكردية المسلحة عملياً من سلاحها ومن دعمه لها، مما أدى إلى توجيه ضربة قاسية للحركة الكردية المسلحة التي كانت تمارس النضال ضد الدكتاتورية والذي ضرب عرض الحائط في حينها اتفاقية أذار 1970.
في عام 1980، مع بدء الحرب مع إيران، ألغى النظام العراقي اتفاقية الجزائر التي تضمنت ترسيم الحدود النهرية بين البلدين، دون أن يتمكن من فرض هذا الإلغاء رغم الحرب التي استمرت طوال ثماني سنوات عجاف ومميتة في الواقع العملي. ومع ذلك تعتبر اتفاقية عام 1975 ملغية من طرف واحد هو العراق، ولم تعترف إيران بذلك.  حتى الآن تعتبر الاتفاقية ملغاة من جانب العراق، ولم يجرأ أي حاكم عراقي حتى الآن على أبطال مفعول قانون إلغاء الاتفاقية. وفي عام 2019 أشارت الصحف العراقية إلى زيارة قام بها حسن روحاني، رئيس جمهورية إيران، إلى العراق والتقى بحكام العراق، حيث أعرب بعدها عن ارتياحه لموقف الحكومة العراقية ومجلس النواب من اتفاقية عام 1975، ولكن لم يعلن عن أي اتفاق حاصل بشأنها من جانب البلدين.
لم تكف إيران عن التدخل الفظ والمستمر في الشأن السياسي العراقي والتي كانت تتسبب في توتير الأجواء السياسية بين البلدين. وإذ أدنا باستمرار الدكتاتور صدام حسين ونظامه الدموي بسبب بدئه الحرب ضد إيران في عام 1980، إلا إن الواقع يؤكد أيضاً بأن النظام الإسلامي السياسي المتطرف الذي أقيم في إيران في أعقاب إسقاط الثورة الشعبية لنظام الشاه الإيراني قد مارس الكثير من التحرش بالنظام العراقي الدكتاتوري وحصول مناوشات عسكرية على حدود العراق الشرقية مع إيران، دع عنك محاولات التفجيرات أو فيما بعد محاولات اغتيال الدكتاتور صدام حسين من جانب حزب الدعوة الإسلامية الذي كان له مقر في إيران وآخر في دمشق.
لم يكن النظام الإيراني قادراً على التدخل السياسي اليومي في الشأن العراق طيلة العقود المنصرمة، في حين تسنى له بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية وفرض الاحتلال الأمريكي على العراق وإقامة النظام السياسي الطائفي الفاسد فيه التدخل الفظ في الشأن العراقي، ثم تفاقم هذا التدخل بعد إنهاء الاحتلال الأمريكي وتوقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة وأصبحت الدولة الإيرانية مهيمنة فعلاً على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والمذهبية العراقية، على موارد البلاد المالية وعلى القسم الأعظم من تجارته الخارجية والداخلية، وعلى أجهزة الأمن والدولة العميقة الفاعلة بالعراق كالميلشيات الطائفية المسلحة، وكذلك عل تلك القوى الطائفية في القوات المسلحة، والمكاتب الاقتصادية التابعة للميلشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي، إضافة إلى تبعية غالبية أئمة الجوامع الشيعة للمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، دع عنك تبعية وخضوع الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية كلها دون استثناء لإيران. هذا الواقع اليومي جعل إيران تطرح بين فترة وأخرى تصريحات تؤكد أن العراق كان جزءً من إيران في عهد الأباطرة الفرس في العهد الساساني، ومن ثم في العهد الصفوي، وأنه بعد الآن يشكل جزءً من الإمبراطورية الفارسية الشيعية الجديدة، وأن بغداد ستكون العاصمة الثانية لهذه الإمبراطورية. أنقل إلى القارئات والقراء ما قاله "علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني: إن "إيران اليوم أصبحت امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي."  واستمر قائلاً: "جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما أن نقاتل معا أو نتحد"، في إشارة إلى التواجد العسكري الإيراني المكثف في العراق خلال الآونة الأخيرة". (المصدر: مواقع سي أن أن، وموقع العربية ومواقع كثيرة أخرى، أخذت المقاطع بتاريخ 11 أذار/ مارس 2015).
لإيران وجود كبير جداً في العراق فإيران تهيمن على الاقتصاد والصيرفة وعلى الكثير من البنوك الخاصة، ولها بيوت خاصة لأجهزتها الأمنبة في كل محافظات العراق دون استثناء، إضافة إلى وجودها الفعلي في أجهزة الأمن العراقية والمستشارين، وهي موجودة في عدد غير قليل من منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، وفي الحسينيات والجوامع.. ولها مؤيدون في الحوزات الدينية الشيعية في النجف، والغالبية العظمى من قادة الميليشيات الشيعية المسلحة، ربما بعضها الذي يلتزم بمرجعية علي السيستاني وبحدود معينة، يخضع بهذا القدر أو ذاك للخامنئي. إن إيران تهيمن على مجلس النواب العراقي وعلى الحكومة العراقية وتخضع لراقبتها أو لرقابة ممثليها كالشخص الأكثر تبعية وخضوعاً لإيران ومحبوب علي خامنئي رئيس الوزراء الأسبق والسفاح الجديد عادل عبد المهدي. ما كان في مقدور لإيران أن تتدخل في الشأن العراقي لولا وجود دولة هشة تماماً وأن قادة هذه الدولة من رئاسة الجمهورية ومروراً بمجلس النواب والسلطة التنفيذية والقضاء العراقي كلها تخضع للسياسة الإيرانية ولمصالح إيران من خلال ممثليها ومستشاريها وأتباعها في البلاد. فالعيب الأساسي يكمن في القوى والأحزاب والشخصيات العراقية التي تعتبر الذراع الممتد لإيران في البلاد، فإيران تسعى كأي مستعمر إلى تحقيق مصالحها الاستعمارية القديمة والحديثة في العراق. لهذا فأن نضال الشبيبة المقدامة وانتفاضتهم السلمية الباسلة والشعبية موجهة ضد حكام العراق والأحزاب والقوى السياسية التي تساند الوجود الإيراني في العراق أولاً ومعاً ضد الوجود والتدخل الإيراني في البلاد ومنها جاء شعار "نازل أخذ حقي وأريد "وطن" غير مستباح من الأجانب والعملاء والإرهابيين.
ثانياً: الوضع مع تركيا     
لقد خسرت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى وتوزعت مستعمراتها على الدول المنتصرة. وكانت الولايات الثلاث، ولاية بغداد والبصرة والموصل، من حصة بريطانيا. وقد أقيمت الدولة العراقية في البداية على ولايتين، هما بغداد والبصرة، في عام 1921. ومن ثم الحقت ولاية الموصل بالدولة العراقية، التي كانت ضمنها الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك، في عام 1926 على وفق قرار عصبة الأمم. وتضمن القرار مجموعة من المستلزمات التي يفترض في الحكومة العراقية تحقيقها لصالح الشعب الكردي، الذي وافق على الحاق كردستان الجنوبية بالعراق، بعد رفض الحلفاء منح الشعب الكردي حقه في تقرر مصيره بالحكم الذاتي أو دولة كردية اللذين وعد بهما من قبل الحلفاء.
لم يكن هذا الحل مريحاً للدولة التركية الحديثة التي نهضت على أنقاض الدولة العثمانية. وكانت غالباً ما تطالب بولاية الموصل لاسيما كركوك بسبب وجود أقلية قومية تركمانية بجوار الكرد والعرب والآشوريين والكلدان فيها. وبقيت القضية معلقة حتى تم التوقيع على اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في 29 أذار/مارس 1946، والتي تضمنت ترسيم الحدود كما تضمنت توزيع مياه دجلة والفرات بين الدولتين لما فيه صالح الشعبين. استمر العمل بهذه الاتفاقية ولم تلغ من قبل الدولتين حتى الآن. ولكن بدأت تركيا منذ أوائل الثمانينيات من القرن العشرين في التجاوز على الأراضي العراقية من خلال الادعاء بمطاردة القوات المسلحة التركية للبيشمركة المسلحة التابعة لحزب العمال الكردستاني (PKK). وقد تكررت هذه التجاوزات التركية من جهة. وبسبب وجود قوات لحركة الپيشمرگة الكردية والأنصار الشيوعيين العراقيين في المناطق الريفية والجبلية من إقليم كردستان العراق وخوضها الكفاح المسلح ضد نظام البعث الدكتاتوري من جهة ثانية، وافق النظام البعثي على توقيع "اتفاقية التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا" في عام 1983، التي يسمح بموجبها اختراق القوات المسلحة التركية للحدود العراقية بمسافة 20 كم بذريعة مطاردة قوات الپيشمرگة التابعة لحزب العمال الكردستاني. ويبدو إن هذه الاتفاقية لم تلغ من جانب الحكومة العراقية أو مجلس النواب العراقي حتى الآن. وتشير بعض المصادر إلى وجود اتفاقية موقعة بين الحكومة التركية وحكومة إقليم كردستان العراق في عام 1995 منح بموجبها حق الحكومة التركية إقامة بعض المعسكرات على أراضيها. وفي ضوء هاتين الاتفاقيتين تتذرع الحكومة التركية في تغلغلها المستمر أو في وجودها الراهن في شمال العراق عموماً وفي كردستان العراق خصوصاً، واعتداءاتها المتكررة ضد القرى والمناطق الجبلية من كردستان العراق وسقوط الكثير من الضحايا البشرية وتدمير الكثير من القرى والبيوت والمزروعات والحيوانات . وتشير مصادر عدة إلى وجود 20 معسكراً للقوات التركية في كل من مناطق أربيل ودهوك الريفية والجبلية، منها: منها قواعد باطوفة وكاني ماسي وسنكي وقاعدة مجمع بيكوفا وقاعدة وادي زاخو، وقاعدة سيري العسكرية في شيلادزي وقواعد كويكي وقمريي برواري وكوخي سبي ودريي دواتيا وجيل سرزيري، وقاعدة في ناحية زلكان قرب جبل مقلوب في بعشيقة." (المصدر: 20 قاعدة عسكرية تركية في كردستان العراق في إطار اتفاق بين أنقرة وأربيل يعود إلى عام 1995، الشرق الأوسط، بتاريخ 28 يناير 2019م، رقم العدد )[14671]). ولا شك في أن هذا الوجود يعتبر انتهاكاً صارخاً للدستور العراقي ودستور إقليم كردستان أيضاً، وغالباً ما احتجت الحكومتان ضد الاعتداءات والوجود العسكري التركي في العراق. إن الوجود العسكري والمخابراتي التركي في أراضي الدولة العراقي مرفوض شعبياً وحكومياً، ولكن بسبب هشاشة الدولة العراقية وضعفها ورفض الشعب لها، نراها عاجزة عن القيام بأي شيء غير الاحتجاج الشكلي والذي لا يأتي بثمار مناسبة حتى الآن. وعلى سبيل المثال لا الحصر نشير إلى موقف تركيا من قرار الاستفتاء الذي قررته رئاسة وحكومة إقليم كردستان إجراؤه في أيلول/سبتمبر عام 2017 حول علاقة الإقليم بالدولة العراقية. وقد هددت تركيا الكرد علناً وبرسائل كثيرة موجهة إلى القيادة الكردية بإنها ستتخذ إجراءات استثنائية إذا ما اتخذ قرار الاستقلال. وفي حينها جاء في قرار لمجلس الأمن القومي التركي ما يلي: "احتفاظ أنقرة بحقوقها في الدفاع عن مصالحها التأريخية الواردة في اتفاقيات ثنائية، ودولية حال ما نظم الاستفتاء، على الرغم من كل تحذيراتنا". لكن البيان لم يوضح طبيعة هذه الحقوق، والمثير أن المتحدث باسم الحكومة التركية (يكر بوزداج) أشار في هذا السياق إلى احتفاظ أنقرة بحقوقها التأريخية المنبثقة من الاتفاقيات الثنائية، والدولية، ولفت إلى أن هذه الاتفاقيات تنصرف إلى اتفاقية (لوزان 1923)، واتفاقية (أنقرة 1926)، واتفاقية (الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في عام 1946)، واتفاقية (التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في عام 1983)، وهو الأمر ذاته الذي كان قد أكده أكثر من مسؤول تركي، وذلك في رسائل تركية متواصلة لكُردستان العراق،.." (راجع: تركيا واستفتاء كُردستان العراق.. معارضة علنية ونوايا خفية، مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية، 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2017). كل تلك الاتفاقيات لا تسمح للدولة التركية التدخل في الشؤون العراقية بأي حال. ولا بد من التنويه إلى إن مجلس الأمن القومي التركي لم يشر إلى وجود اتفاقية مع حكومة إقليم كردستان العراق موقعة في عام 1995. كما إن اتفاقية عام 1983، تسمح للقوات التركية مطاردة قوات حزب العمال الكردستاني والعودة إلى أراضيها، ولم تمنح هذه الاتفاقية الحق للدولة التركية بإقامة قواعد عسكرية على الأراضي العراقية. وهنا لا بد من تأكيد حقيقة أن استفتاء الكرد بشأن الإقليم هو شأن عراقي داخلي بحت لا شأن لتركيا أو غيرها فيه أولاً، كما إن الاستفتاء هو حق ثابت من حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، بغض النظر عن التوقيت أو المواقف التي اتخذت والأوضاع التي نشأت بعد الاستفتاء.
إن تركيا اليوم تحاول اليوم وبكل السبل المشروعة وغير المشروعة، التدخل الفظ في شؤون دول الجوار، إنها تعيد الحديث الفارغ عن الإمبراطورية العثمانية الجديدة وعن السلطان الجديد أردوغان وعن كون تركيا اليوم هي أصغر من تركيا الحقيقية، حسب تصريح اردوغان، والذي يعني رغبته الجامحة في التوسع على حساب أراضي الدول الأخرى وفي كل الاتجاهات الممكنة ومستعد لبناء ودعم الميليشيات المسلحة لتنفيذ مجازر دموية، كما أسس مع السعودية تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، والتدخل العسكري، كما جرى ويجري في العراق وسوريا وليبيا بشكل مباشر أو محاول التمدد في البحر كما يجري في قبرص واليونان للتنقيب عن البترول.. الخ. كما إن تركيا تتحول عملياً إلى دولة عسكرية، رغم وجود برلمان منتخب، إذ أن الدكتاتور الجديد يعمل بكل السبل لوضع السلطات الثلاث بيديه ويتحول إلى شخصية تسعى للحرب والتوسع، رغم الإخفاقات التي يتعرض لها في كل من سوريا وليبيا.
إن شبيبة العراق التي ترفض التدخل الإيراني الفظ وتناضل ضده حالياً وبقوة كبيرة، لن تنسى التدخل والوجود العسكري التركي الذي يستوجب الخلاص منه أيضاً بعد الخلاص من الطغمة الحاكمة العراقية، التي وضعت العراق تحت تصرف إيران وشوهت وهمشت الدولة العراقية، بعد اختيار حكومة جديدة مستقلة في سياساتها وقراراتها وانتخاب برلمان جديد وسلطات قضائية نظيفة ونزيهة ومستقلة، لكي يمكن التوجه أيضاَ ضد الوجود التركي في العراق وعبر نضال شعبي سلمي وبدعم إقليمي ودولي مطلوب.       





8
حملة من أجل عقد المؤتمر الوطني لقوى التنوير والديموقراطية في العراق

يزداد المشهد العراقي تعقيداً بسبب إصرار أركان النظام الطائفي الفاسد على التشبث بالسلطة عبر الإيغال في ارتكاب مزيد جرائم القمع الدموية ورفض الاستجابة لمطالب الشعب وثورته. ولعل مجمل ذلك التخندق وأجنداته يفضح ما اعتُمِد من التضليل والعبث المكرور الأمر الذي قلب العملية السياسية رأساً على عقب، بتكريسه التمترس الطائفي والمحاصصة والتعامل مع الوطن والناس على كونهما غنيمة للاقتسام بين عناصره المافيوية.
من هنا جاء الفعل الشعبي بانتفاضة تشرين لينتقل بها إلى ثورة شعبية عارمة لإسقاط النظام واستعادة السلطة من أجل تعبيرها عن الإرادة الشعبية لا ذوي المصالح النفعية المافيوية.
غير أنّ الثورة الشعبية المستمرة منذ ما يزيد عن خمسة أشهر، لا يمكنها النجاح واستكمال خطى التغيير الكلي الأشمل، ما لم تستطع قوى التنوير العلمانية الديموقراطية، عقد المؤتمر الوطني المنشود؛ من أجل تشكيل أداة الشعب لحسم المعركة مع النظام والتأسيس للبديل النوعي بتشكيل (المنصة الوطنية الديموقراطية) تحالفاً يضم الشبيبة الثائرة والحركات والأحزاب العلمانية الديموقراطية..
لقد أقرَّ الجميع بأنه لا عودة إلى ما قبل أكتوبر 2019 وأن البلاد يجب أن تُسلّم لسلطة مستقلة حرة تدير مرحلة انتقالية قصيرة وتهيئ لانتخابات نزيهة حرة على ألا يشارك فيها أيٍّ من القوى الحاكمة ما قبل تشرين أكتوبر وأن تنعتق من تدخلاتها بضمانة قانون انتخابي يُقَر شعبياً ومفوضية انتخابية مستقلة حقاً إلى جانب نهوض تلك السلطة الانتقالية بضبط الأمن وفرض سلطة القانون وهيبة الدولة وضمان الحقوق والحريات العامة والبدء فوراً بمحاسبة المسؤولين عن كل الجرائم المرتكبة ومنع الإفلات من العقاب وحصر السلاح بيد الدولة بمعنى حل الميليشيات وحظر التشكيلات التي تمثل امتداداً متخفيا للإسلام السياسي وأطلاق سراح المعتقلين وتحرير المختطفين بسبب المشاركة في الانتفاضة ..
إنّ ضرورة الاستعداد لخوض المعركة ضد بقايا نظام الطائفية والمحاصصة وخطابه القائم على منطق الخرافة والدجل وعلى الأضاليل التي بات خبيرا بلعبتها ومعها مهام التنوير ومحاربة منطق الخرافة وبناء ثقافة وطنية جديدة إلى جانب تشكيل قيادة وطنية ديموقراطية مستقلة تحمل هموم الثوار ومطالبهم في التفاوض مع المجتمعين الدولي والمحلي، نؤكد هنا أن جملة تلك المهام تقتضي اليوم بالضرورة والحتم أن نتوجه بندائنا هذا إلى قوى التنوير العراقية، العلمانية الديموقراطية بتشكيلاتها التالية: الديموقراطية والليبرالية والقومية التقدمية والشخصيات الوطنية وتلك المؤمنة التي تتفق مع مبدأ فصل الدين عن الدولة والسياسة لعقد مؤتمرها الوطني فوراً.
وتجنباً لظهور ما قد يمنع ولادة التحالف أو تأخره ينبغي للقوى المعنية بدءاً أن تسجل مراجعتها الجدية المسؤولة عن إيقاف تجربة تحالف تلك القوى (تجربة تقدم) كي تستعيد المكاشفة والمصارحة ومن ثمّ تستعيد الثقة المهتزة ليس بين تلك القوى حسب بل بينها وبين الجماهير الشعبية التي اكتوت بمرارات الـ17 سنة عجافا وتفاصيلها..
وليكن شكل التحالف مجسَّداً بـ(المنصة الوطنية الديموقراطية) فهي شكل تنظيمي لا يذهب في طابع التشكيل وهويته التنظيمية أكثر من القواسم المشتركة التي وضعتها الثورة الشعبية وتلخصت بما أوجزناه بشأن إدارة المرحلة الانتقالية ومهامها المحددة حصريا سلفا.
نحن موقعي هذا النداء نتوجه به إلى كل المواطنات والمواطنين من التنويريات والتنويريين ومنظماتهم وأحزابهم وجمعياتهم ممن آمن بالديموقراطية منهجا بديلا نوعيا للحل ومشاركتنا رؤية عدم الاكتفاء بإصدار البيانات وقراءة الأوضاع وتفسيرها بولوج ميدان الفعل وإقرار الحركة باتجاه عقد هذا المؤتمر، إن وجودكم في هذه المنصة هو التبني التام للفعل الميداني وتجنب انتظار الآخر فلنكن معا الفعل والحركة والأداء..
وللتنويه يؤكد المبادرون عزوفهم عن السعي لأي منصب أو مسؤولية في توجيه المؤتمر بخلاف مبادرتهم لتفعيل النداء والانعقاد والعمل من أجل تهيئة المكان، إن طلب منا ذلك، وتسهيل عملية الانعقاد وتشكيل منصة اللقاء الوطني الديموقراطي.
 
كاظم حبيب                                      تيسير الآلوسي                                            نهاد القاضي
 
 
 


9
كاظم حبيب
المرأة في عيدها الأممي في الثامن من أذار
[قرة العين: النموذج الرائع لنضال المرأة لانتزاع حقوقها المشروعة]
خلال الأشهر الخمسة المنصرمة برهنت المرأة العراقية، صبايا وشابات وكبار السن، عن قفزة نوعية لا مثيل لها في ظل الظروف المعقدة والصعبة والقاسية التي يمر بها الشعب العراقي، قفزة نوعية في الوعي الفردي والجمعي، وفي الممارسة النضالية لانتزاع حقوقها المغتصبة وحريتها المصادرة ووطنها المسلوب، إذ تقف بإصرار وحزم في صف واحد مع أخيها الرجل المناضل مثلها من أجل حقوقه المغتصبة وحريته المصادرة ووطنه المستلب، فهما معاً يشكلان نضال هذا الشعب المغدور من نظام سياسي طائفي وفاسد ومقيت. لقد سقطن شهيدات في مجرى النضال اليومي، اختطفن وعذبن بشراسة رهيبة تذكرنا بأساليب البعث الدموية وأساليب القوى الطائفية المتطرفة في إيران في سجن أيفين، التي تحدث عنها المناضل الشيوعي حيدر الشيخ علي والتي كتب عنها الروائي عبد الرحمن منيف في الرواية الموسومة "الآن.. هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى". ومن أجل تمجيد نضال المرأة عموماً والمرأة العراقية وكذلك المرأة الإيرانية، وكلتاهما تعانيان الأمرين من نظامين مستبدين وفاسدين ومناهضين للنساء ولحقوقهن المشروعة والعادلة أعيد نشر هذا المقال عن واحدة من المناضلات الباسلات في منتصف القرن التاسع عشر، عن قرة العين.   
     
حين نقلب صفحات النضال المرير الذي كانت ولا تزال تخوضه المرأة في سبيل حقوقها العادلة والمشروعة والمغيبة في المجتمعات الذكورية منذ أن فقدت المرأة دورها الأول في العائلة والعشيرة والمجتمع ، أي منذ أن أصبح الرجل سيد الموقف وغيَّر حتى بنية ومنطق واستخدام اللغة لتكون ذكورية صارخة نلمسها في كل اللغات تقريباً ، سنلتقي بنسوة كثيرات جداً ناضلن بعناد وصلابة في سبيل حقوقهن المشروعة والمغتصبة ، وبتعبير أدق ، حقوق المرأة وحريتها وكرامتها واستقلالها الاقتصادي ودورها في العائلة والمجتمع والدولة لا في بلدانهن حسب ، بل كان لهذا النضال أينما حصل صداه الإيجابي وتأثيره المتباين في كل مكان. إذ رغم أن نضال المرأة في كل بلد أو إقليم أو منطقة قد اتخذ طابعاً محلياً ، إلا أنه شكل حلقات في سلسلة طويلة ومتشابكة من العمليات النضالية الصغيرة والكبيرة لصالح المرأة على مختلف الصعد والمجالات. فما من نجاح تحقق في إقليم ما إلا ووجدنا تأثيره بهذا القدر أو ذاك على نضال وحقوق المرأة في المناطق أو الدول والشعوب الأخرى. ومن هنا انطلقت الفكرة النيرة التي تبلورت لدى السيدة الراحلة والمناضلة الألمانية المقدامة كلارا تستيكن حين اقترحت أن يكون الثامن من آذار/مارس من كل عام يوما للنضال العالمي في سبيل حقوق المرأة كاملة غير منقوصة ، يوما تحتفل فيه المرأة بمنجزاتها وتتعهد بمواصلة النضال لتتساوى مع الرجل في كل شيء على صعيد كل بلد وكل إقليم والعالم كله. ولم تكن نضالات المرأة باستمرار منجزات طيبة ، بل شهدت أحياناً تراجعات وانكسارات غير قليلة وردات سياسة واجتماعية قاسية ، كما يعيش اليوم في ظله بعض شعوب منطقة الشرق الأوسط ، ومنها إيران والعراق من الناحية العملية والواقع القائم.
لا شك في أن نضال المرأة لم يبدأ مع يوم عيدها العالمي ، بل سبق ذلك بقرون طويلة. ويمكن أن نجد ذلك في صفحات التاريخ العالمي ، ولكن في صفحات تاريخ الشرق الأوسط أيضاً ، كما ينعكس بوضوح في الروايات التي وصلتنا من العهود المنصرمة ، ومنها نضال شهرزاد للخلاص من اضطهاد وظلم وجرائم شهريار ضد المرأة من خلال الزواج منها ليلة واحدة يقضي فيها وطره منها ثم يقتلها في الصباح المباح.
وبقدر ما يقدم التاريخ صوراً رائعة وخالدة عن نضال المرأة ، يقدم لنا أيضاً صوراً مخزية وشرسة لسلوك عام للرجل إزاء المرأة حتى في المرحلة الراهنة. ولا يقتصر ذلك على شعب واحد أو دولة واحدة أو دين واحد ، بل نجده في فترات مختلفة لدى غالبية الشعوب والدول وبدرجات متفاوتة. ولكن كان ولا زال هناك رجال ناضلوا جنباً إلى جنب مع المرأة في سبيل حقوقها. وحيثما أمكن توحيد هذا النضال ، تحقق للمرأة وللمجتمع وللرجل أيضاً أفضل المنجزات.
تمتلك منطقة الشرق الأوسط سجلاً نضالياً رائعاً لنسوة كن في طليعة النضال في سبيل حرية المرأة وحقوقها. وقرة العين هي واحدة منهن التي قدمت حياتها فداءً لحريتها وحقوقها المشروعة. إنها السيدة الراحلة فاطمة بنت صالح القزويني ، التي أطلق عليها لقب الطاهرة وقرة العين وأم سلمى والتاج الذهبي ، وهي أم لثلاثة أبناء.
ولدت السيدة فاطمة من أبوين فارسيين في مدينة قزوين بإيران في العام 1231 هجرية المصادف 1815 ميلادية في أحضان عائلة متدينة ورعة ومتضلعة بالمسائل الدينية وتلتزم بالمذهب الشيعي الإثنا عشري في الإسلام. أطلقت العائلة الدينية اسم فاطمة على الوليدة تيمناً باسم فاطمة الزهراء بنت النبي محمد بن عبد الله وزوجة الإمام علي بن أبي طالب وأم الحسن والحسين والسيدة زينب ، وفي ما بعد كنَّاها والدها بـ"زرين تاج" أو "التاج الذهبي" الذي زين بها العائلة ، كما أطلق عليها فيما بعد كنية أم سلمى. تزوجت السيدة فاطمة من ابن عمها ، وكان عمرها 14 سنة ، ثم اختلفت معه فكرياً واجتماعياً وانفصلت عنه بعد أن أنجبت له ثلاثة أبناء ، هم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
برز نبوغها في فترة مبكرة ، إذ درست العلوم الدينية على أيدي والدها الملا صالح القزويني وعمها الملا محمد تقي القزويني ، وهما من عائلة البرغاني المعروفة بالتدين ، واختلفت فيما بعد مع عمها وزوجها. تعرفت على أفكار الحركة الشيخية التي كانت قد برزت في إيران بحدود فترة ولادة قرة العين في قزوين ، أي بعد سنيتن من ولادتها وفي العام 1817 م ، حين كانت تدرس الدين وتعيش الصراعات الفكرية بين مجتهدي المدارس الدينية المختلفة في إيران. وكان المذهب الشيعي على امتداد قرون طويلة وحيثما وجد مصدر بروز حركات فكرية كثيرة ، ولكنها لم تصل كلها إلى العمق الذي بلغته الحركة البابية التي انطلقت من حضن الشيخية وسعة تأثيرها وتحررها من العقد التي لازمت الكثير من المذاهب الدينية والتي قادت هذه الحركة الإصلاحية في المحصلة النهائية إلى بروز دين جديد متحرر من كثرة من القيود التي تفرضها الأديان الأخرى كالدين اليهودي أو المسيحي ، ولكن بشكل خاص الديانة الإسلامية ، والذي أطلق عليه بالديانة البابية فالبهائية على يدي مؤسس الدين السيد ميرزا حسين علي (1817-1892م). بدأت الحركة ، التي أطلق عليها بالحركة الشيخية ، في صفوف شيعة الأحساء حين تحدث الشيخ أحمد الأحسائي بقرب ظهور الإمام المهدي المنتظر ، وهو الإمام الثاني عشر لدى أتباع المذهب الشيعي ، محمد بن الحسن العسكري ، وكنيته أبو عبد الله وأبو القاسم ، كما لقب بعدد من الألقاب الأخرى ، ومنها : القائم ، المنتظر، الخلف والمهدي صاحب الزمان ، حيث يعتقد الشيعة بأنه الغائب وسيعود يوماً لينقذ العالم من المفاسد. .
في مدينة كربلاء القديمة المحافِظة والنائمة والحالمة دوماً والهائمة بالحزن والبكاء وجلد الذات ، المدينة التي كانت منذ عهد الإله بعل ولا تزال حتى الآن وستبقى تستقبل جنائز الموتى القادمة من مختلف بقاع العراق القديم حينذاك ، ومن ثم الكثير من جنائز موتى الشيعة المحمولة من مختلف أركان الدنيا حيثما وجد فيها بشر من أتباع المذهب الشيعي ، في هذه المدينة المحاطة بالبساتين الغناء حيث ينتشر فيها النخيل والكثير من أحلى وأطيب الفواكه وتسقى من نهر الحسين الفراتي المصدر ، في هذه المدينة المرهقة ، كانت المرأة ( ولا تزال ) تعاني من كل الممنوعات التي يمكن أن يكون الإنسان قد عرفها يوماً في تاريخه الطويل وفي مختلف بقاع العالم ، ثم زادت عليها المؤسسة الدينية وشيوخ الدين الكثير الجديد من تلك الممنوعات والمحرمات الغريبة عن طبيعة الإنسان ، في هذه المدينة فرض الرجال سابقاً ، حتى الآن ، على المرأة الحجاب المركب والمعقد وفرضوا عليها الإقامة الجبرية بين جدران الدار والمطبخ والعباءة ولحق بها الظلم من الذكور والمجتمع والدولة في آن واحد. ففي هذه المدينة كان الذكور يربطون اسم المرأة حين تذكر في مجالسهم العامة والخاصة بكلمة "حاشاك" وكأن اسم المرأة شيئٌ مسيئٌ يخدش سمع وحس الذكور ، وكأنها عورة لا تستحق الذكر ، في هذه المدينة المتعبة هيمن الحزن والبكاء والألم على استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب وصحبه الكرام في شهر محرم من العام 61 هجرية المصادف في شهر تشرين الأول 680 ميلادية على جميع الناس أبدا ، في هذه المدينة العجوز برزت فجأة ظاهرة لا تعود إلى ذلك العصر ، بل جاءت في غير عصرها ولكنها كانت تعبر عن الصراع الداخلي الذي كانت تعيشه المنطقة بين القديم والجديد ، بين الحرية والقيود الثقيلة ، إذ وصلت في العام 1828 أو 1829 صبية إيرانية بالغة الحسن والجمال لم تبلغ بعد الخامسة عشر من عمرها بمعية زوجها الملا محمد بن الملا محمد تقي القزويني إلى كربلاء ليدرس الفقه على أيدي شيوخ الدين. عاشا معاً في هذه المدينة 13 عاماً. ثم غادرا العراق في العام 1841 إلى قزوين ، ولكنها عادت بمفردها إلى كربلاء في العام 1843 لتلعب هذه المرة دوراً فكرياً وسياسياً كبيراً حرك مياه المجتمع الراكدة والمتعفنة بعد أن كانت قد بلغ عمرها 29 عاماً. وكانت عودتها بمفردها ناشئة عن رغبتها في الدراسة على يد الملا كاظم الرشتي ، كبير الشيخيين في كربلاء وأحد ابرز شيوخهم ، إذ كانت قبل ذاك قد انفصلت عن زوجها ، حيث عاشا مختلفين فكرياً وسياسياً وبمزاجين متضادين ، إذ كان الزوج ووالده ملا محمد تقي القزويني من الرافضين للشيخية ومن ثم البابية ومعادين لها حيث أصدر والد زوجها فتوى بتكفير الشيخيين في حين ازدادت هي تعلقاً بهم.
حين غادرت المرأة في المرة الأولى كربلاء كانت قد تبلورت لديها بعض الأفكار الأكثر تحرراً والأكثر قوة وجرأة وتقدماً من أفكار الشيخيين. حطت الرحال ثانية في مدينة قزوين وبدأت نشاطها الديني والسياسي باتجاه آخر أبعد عمقاً من الشيخيين. لم تبق في قزوين طويلا ، إذ عادت إلى كربلاء بأمل أن تدرس على يدي الشيخ كاظم الرشتي ، ولكنه كان لتوه قد ودع الحياة ليخلفه الملا أحمد الخراساني. لم يكن هذا الرجل متفتحاً ، بل محافظاً وتقليدياً وبعيداً عن فهم ووعي طبيعة الجديد الذي تبلور في أعقاب اتجاه الشيخيين في إيران وعلى أيدي أناس أخرين. فبدأ الخلاف بينه وبين قرة العين التي جاءت بحماس أكبر ووعي أعمق واصرار أكبر على الدور الذي يفترض ويمكن أن تمارسه المرأة.
أحدثت هذه المرأة ضجة كبيرة بين الرجال في كربلاء أكثر مما أثارته بين النساء ، بسبب القيود التي كانت مفروضة على حركة النساء حينذاك ، رغم وجود نساء كن يحضرن إلى مجالسها والاستماع إلى أراءها الحصيفة إزاء حرية المرأة ، إذ خرجت عن صمتها في سفرتها الثانية إلى كربلاء وتخلت عما يطلق عليه بالتقية ، أي الابتعاد عما يمكن أن يخلق للإنسان المتاعب مع الآخرين من اتجاهات فكرية أو سياسية أخرى ، فجاهرت برأيها بعد وفاة الرجل الذي اعتمدت عليه وجاءت من أجل التزود من معارفه وعلومه الدينية ، وهو السيد كاظم الرشتي (من مواليد مدينة رشت في إيران) الذي تولى الدعوة الشيخية عن الشيخ أحمد الإحسائي بعد وفاته. اختلفت قرة العين مع الملا أحمد الخراساني الذي ترأس الشيخية في كربلاء من بعده ، والذي ، كما يبدو من كتاباته ونشاطه حينذاك ، كان محافظاً تقليدياً يخشى المؤسسة الدينية الشيعية في كربلاء ومن أجهزة الدولة العثمانية ، إضافة إلى خشيته من منافسة قرة العين لموقعه الديني في مجموعة الشيخية ، بسبب قدراتها الذهنية والسياسية وبلاغتها وإجادتها للغتين العربية والفارسية ودورها كإمرأة في وسط يصعب تصور التحرك فيه ويستوجب تجاوز الكثير من العقبات. وقد أدى خلافها ذلك إلى أن ينشر الملا أحمد الخراساني كتابات ضدها ويسيء إليها ويدفع بالمسئولين إلى حجزها في دار آل كمونة في مدينة كربلاء لفترة معينة إلى حين أمكن تسفيرها إلى بغداد ، حيث واجهت هناك مصاعب إضافية رغم سعي مفتي بغداد السيد محمود الآلوسي أفندي حمايتها ، ولكنها كانت شديدة الحماس لما آمنت به ، وخاصة في موضوع حرية المرأة وحقها في نزع الحجاب عن وجهها ومساواتها بالرجل ودفاعها الحماسي عن معتقداتها دون وجل أو تردد. وكان ظهورها فيما بعد بدون قناع الوجه قد تسبب في صراعات في إيران ذاتها بعد أن عادت إليها تاركة العراق خلفها ، إذ لم يترك المسئولون وكذلك المؤسسة الدينية الشيعية لها المجال للعمل والعيش والدعاية لعقيدتها الجديدة ، خاصة وأنها كانت ضد الكثير من الطقوس التي كان أتباع المذهب الشيعي يمارسونها في أيام عاشوراء ، وهي النقطة التي حاول الملا أحمد الخراساني استخدامها ضد قرة العين باعتبارها تعارض الطقوس الدينية الشيعية ، وبالتالي ساهم مع آخرين بتكفيرها. وبعد فترة وجيزة ، ونتيجة إصرارها على مواقفها الفكرية الدينية ، أن دفعت ثمن ذلك حياتها حيث قتلت بفتوى صدرت ضدها في إيران قضت بحرقها ، ولكن أغلب المصادر المتوفرة تؤكد إن من كلف بتنفيذ فتوى حرقها ، قام بخنقها ثم رمى جثتها في بئر وطمر البئر بالحجارة والتراب. كان ذلك في العام 1852م، وكانت قد بلغت حينذاك السابعة والثلاثين من عمرها. وكان قبل ذلك ، أي في العام 1850 قد تم إعدام الباب نفسه بعد أن صدرت فتوى دينية بإعدامه.
كتب الزميل الدكتور رشيد خيون بشأن الديانة البهائية يقول:
"البابية والبهائية حركة دينية اجتماعية ، ومجددة بحدود ما تبنته من تعاليم جديدة ، عرفت بين أعدائها بنسخ الشريعة ، وإباحة المحارم. ولعلها كانت الحركة الدينية الأبرز في الشرق خلال القرن التاسع عشر ، في تبني أفكار جذابة ، استوعبت المتغيرات الجديدة ، بعد ركود السائد الديني والمذهبي عشرات القرون. عزفت هذه الحركة على وتر المعاصرة والتجديد ، مع أن رداءها الديني والمذهبي أدخلها في متاهات الإعجاز وغيرها من الغيبيات."
لم يكن للمرأة تأثير كبير على المجتمع الكربلائي الذي كان يعيش في سبات اجتماعي عميق ، وكان الموقف من النسوة عميق الغور في رفض ممارستها لحريتها وحقوقها ، بل كانت منزوعة الحقوق ونسبة عالية منهن لا يقرأن أو يكتبن في المدينة ، والجهل مطبق في ريف هذه المدينة وفي عيرها. ولم يكن في مقدور المصلحين في هذه الفترة إلا أن يكون طرحهم لأفكارهم الإصلاحية من خلال الدين واستناداً إليه ومحاولة لتفسير بعض الآيات والأحاديث بما يساعد على دفع الإصلاح بصعوبة كبيرة نحو الأمام. ورغم ذلك وجدت هذه المرأة بعض النسوة اللواتي كن يستمعن لها ويوافقن على طروحاتها من خلال الإصرار على حضورهن لمجالسها من جهة ، ومن خلال التعرف على الخشية التي تفاقمت لدى المؤسسة الدينية وشيوخ الدين في كربلاء من تمادي هذه المرأة في عقد جلساتها ومواصلة الدعاية لأفكارها وموقفها ضد الحجاب من جهة أخرى ، إذ كان الحجاب يشكل بالنسبة لهؤلاء أحد أهم قيم الإسلام الأساسية التي لا يريدون التخلي عنه ، في حين أن نزع حجاب الوجه ليس كذلك بأي حال من الأحوال ، بل كان أحد الأسباب الأساسية في تخلف المرأة والمجتمع في آن. إلا أن ضعف تأثير قرة العين على المرأة الكربلائية أو العراقية لا يعني أنها لم تحرك المياه الراكدة ، بل لم تستطع أن تفتح مجرى جديداً لمياه صافية تدخل إلى البركة ذات المياه الراكدة لتغير من روائحها النتنة ، كما كانت تتوقع وتنتظر ، إلا أنها تركت في الذاكرة العراقية ما بدأ بعد أكثر من سبعة عقود من حوار واسع في العراق بين المثقفين المتحررين والمحافظين وبعض شيوخ الدين حول الحجاب والسفور والذي تبنته جماعات حداثية دافعت عن ذلك بكل حماس وحيوية في مواجهة التيارات المحافظة والتقليدية والعاجزة عن رؤية الجديد. لقد كانت قرة العين نسمة عليلة في صيف شديد الحرارة ، أنعشت بعض النفوس ولكنها لم تستطع أن تفعل أكثر من ذلك حينذاك.
كتب الأستاذ الراحل الدكتور علي الوردي مقيماً قرة العين ما يلي: "حين نستقرئ سيرة قرة العين منذ بداية أمرها حتى ساعة مقتلها نشعر بأنها امرأة ليست كسائر النساء ، فهي علاوة على ما تميزت به من جمال رائع كانت تملك ذكاءً مفرطاً وشخصية قوية ولساناً فصيحاً ، وتلك صفات أربع قلما اجتمعت في إنسان واحد ، وأن هي اجتمعت فيه منحته مقدرة على التاثير في الناس وجعلته ممن يغيرون مجرى التاريخ.... إني أعتقد على أي حال أن قرة العين امرأة لا تخلو من عبقرية وهي قد ظهرت في غير زمانها ، أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على اقل تقدير . فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا ، وفي مجتمع متقدم حضارياً ، لكان لها شأن آخر ، وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين" .
ويمكن الادعاء بأنها لو ظهرت اليوم في العراق وإيران ، أي في أوائل القرن الحادي والعشرين ، ستكون قد سبقت زمانها بأكثر من قرن واحد بعد أن عاش البلدان ردة فكرية وسياسية واجتماعية عميقة وشديدة الوطأة على الناس ، ولكن بشكل خاص على المرأة في كل من إيران والعراق بشكل خاص ، إضافة إلى أوضاع المرأة في السعودية مثلاً. إذ أن شعوب هذه البلدان لم تعرف التنوير الديني والاجتماعي حتى الآن ، إذ عاد الحجاب يفرض نفسه على المرأة العراقية ويعيدها إلى حالتها المأساوية في القرن التاسع عشر حيث ظهرت هذه المرأة الشجاعة.


10
كاظم حبيب
نحو قراءة متمعنة لبيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
بتاريخ 05/03/2020 صدر بيان مهم عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي تحت عنوان " نحو التحرك العاجل لإنقاذ شعبنا ووطننا" يطرح فيه رؤية الحزب لواقع العراق الراهن وحالة الشعب المتزايدة تأزماً وتردياً واختناقاً حيث جاء في صدر البيان التشخيص التالي:
"تشهد الاوضاع في بلادنا بمرور الايام والاسابيع مزيدا من التعقيد والتشابك والتدهور، وتستفحل الازمة العامة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما تطحن البلاد ازمة بنيوية مفتوحة على الاحتمالات كافة، بما فيها الاسوأ. وبجانب هذا تتكاثر المشاكل مستعصية الحل في إطار منظومة الحكم الفاشلة، القائمة على منهج المحاصصة الطائفية – الاثنية والبناء المكوناتي." ويؤكد البيان فشل القوى والكتل المتنفذة عن إيجاد حل لأزمة الحكم في البلاد لعدد من الأسباب، وهي: 
1)   منظومة الحكم الفاشلة القائمة على المحاصصة الطائفية -الأثنية والبناء المكوناتي.
2)   ازمة المنظومة السياسية بكاملها، وخطل الآليات النافذة في ادارة الدولة منذ ٢٠٠٣، وعلى الصعد كافة.
3)   تشبث هذه القوى والكتل بالحكم وعجزها عن تقديم حلول ومخارج للأزمة والمشكلات القائمة.
4)   عدم الثقة السائدة فيما بين القوى والكتل الحاكمة أولاً وبينها جميعاً وأبناء الشعب وشبيبته ثانياً. 
ويرى البيان إن الذين انتفضوا على حكم هذه القوى والكتل المتنفذة ونهجها ونمط تفكيرها، يسعون إلى تخليص البلد من التدهور والفساد والبؤس والجوع والمرض وثلم القرار الوطني المستقل، ومن فوضى السلاح وتغول المليشيات وضياع هيبة الدولة، ومتطلعين الى اقامة دولة المواطنة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية.
ويرى البيان أيضاً بأن "المهمة الملحة اليوم هي تشكيل حكومة وطنية جديدة مؤقتة ومصغرة، من دون ابطاء ومماطلة وبعيدا عن نهج المحاصصة واخطبوط الفساد، بما يقي العراق من المزالق الخطرة الناجمة عن الاستعصاء السياسي والتدخلات الخارجية، وبما يضمن تداول دستوري وسلمي للسلطة، يضع في الاعتبار الحقائق الجديدة التي أفرزتها الانتفاضة".
ثم يطالب البيان رئيس الجمهورية القيام "بالخطوات الضرورية لاختيار وتكليف رئيس للوزراء، وفقا للدستور وبموجب معايير الوطنية والكفاءة والنزاهة والاستقلالية، والقدرة على اتخاذ القرار وعلى تنفيذ البرنامج الحكومي الموقت، بعيدا عن المناطقية والطائفية السياسية والتحزب الضيق والاملاءات الخارجية."
ويشخص البيان مهمات الحكومة المؤقت بما يلي:
"* اجراء الانتخابات المبكرة في موعد لا يتجاوز السنة كحد اقصى.
* مراجعة قانون انتخابات مجلس النواب، واعتماد صيغة منصفة وعادلة.
* مراجعة تشكيل مفوضية الانتخابات بما يضمن ان تكون مستقلة حقا، وقادرة على ادارة عملية انتخابية نزيهة وشفافة وذات صدقية، بعيدا عن المال السياسي والسلاح، وبإشراف دولي فاعل. 
* اعلان ضحايا الانتفاضة والاحتجاجات شهداء للشعب، ووقف القمع ضد المنتفضين واطلاق سراح المعتقلين منهم وإبطال اجراءات ملاحقتهم والكشف عن مصير المغيبين. كذلك اعلان نتائج التحقيق في قضية قتل المنتفضين والمحتجين، ومحاسبة كل من تورط في الجرائم المرتكبة بحقهم.
* مباشرة إجراءات جدية وملموسة لمكافحة الفساد، وتقديم المتهمين بمختلف مستوياتهم، خاصة الكبار، الى القضاء.
* انجاز الخطوات الآنية العاجلة لتأمين القوت للشعب، وتطمين حاجاته المعيشية والخدمية الملحة."
ثم يؤكد البيان "ان تحقيق هذه الاهداف وغيرها مما يتطلع اليه الشعب والانتفاضة ويطالبان به، يستلزم خلق ارادة شعبية وطنية ضاغطة على القوى المتنفذة، عبر توسيع الانتفاضة وتنظيم صفوفها وزيادة مساحة تأثيرها وتوحيد رؤاها وتصوراتها، وفتح حوارات جدية بين المنتفضين وسائر القوى والشخصيات الوطنية الداعمة لهم والتي تحملت معهم الظروف الصعبة التي مرت بها الانتفاضة، وشاركتهم شرف تقديم الشهداء والتضحيات، لتأمين قيام اصطفاف شعبي وسياسي وطني واسع، داعم ومساند للانتفاضة، بما يديم زخمها وحيويتها ومواصلة الضغط لتحقيق اهدافها، وفتح الطريق امام التغيير المنشود الذي بات ضرورة ملحة."
إن هذا البيان على أهميته وحيويته لا يأت بجديد في كل الموضوعات التي طرحها. وأن الجديد المهم الذي يدعو له يبرز في إعادة لحمة القوى الوطنية والديمقراطية لزيادة الضغط على القوى والكتل المتنفذة، وهو أمر مطلوب. كما يدعو إلى الحوار مع القوى التي تشارك الحزب الرؤى والأهداف والتوجهات، الى التحرك العاجل لإنقاذ البلد من الازمة المستعصية، والى تفعيل دورها والارتقاء بتنسيق مواقفها واجراءاتها، والسير معا نحو تحقيق اهداف الشعب وتطلعه الى عيش آمن وكريم وحياة مدنية، في ظل دولة مؤسسات وقانون تحترم حقوق الانسان، وتسود فيها قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية".
ولكن الحزب الشيوعي العراقي لم يقدم لأبناء الشعب العراقي والقوى المدنية الوطنية الديمقراطية الجادة ما هي الخطوات الضرورية والملحة التي يتخذها الحزب لتحقيق هذا الهدف. وأخر اجتماع تم عقده بين كل القوى السياسية المدنية الوطنية الديمقراطية وبحضور تسعة أشخاص من الشبيبة من قوى الانتفاضة ومن ذوي الشعر الأسود (شبيبة)، لم يصل إلى أية نتائج مرجوة ومطلوبة. السؤال المهم والحيوي أمام الحزب الشيوعي العراق والقوى الأخرى هو الإجابة عن أسئلة ملحة وحيوية، منها:
ما هو السبيل لتحقيق التغيير السلمي للنظام السياسي الطائفي المحاصصي القائم؟ أليس هو تغيير ميزان القوى لصالح قوى الانتفاضة وعموم الشعب؟ وإذا كان كذلك، وهو كذاك، وهو لا يتم بالنداءات والبيانات فقط بل بالعمل المباشر، كيف يتحقق التغيير في ميزان القوى؟ الا يتطلب ذلك إقامة ائتلاف مدني وطني ديمقراطي واسع؟ وإذا كان كذلك، وهو كذلك، كيف يجري تحقيق مثل هذا الائتلاف؟ وما هو دور الحزب الشيوعي في تحقيق ذلك؟ وكيف يمكن تعزيز الثقة المتبادلة بين القوى الديمقراطية التي تعرضت لأزمة حادة وجديدة خلال الأعوام الأخيرة؟ كما أرى بأن القول: ".. وختماً ندعو من يشاركنا إلى التحرك..." هو قول وحيد الجانب وغير كاف، بل يفترض أن يتحرك الحزب نحو هذه القوى المدنية والديمقراطية لا أن ينتظر مجيئها له، وأن يتحرك لها بمنظور واضح قابل للتعديل والإضافة والتغيير على وفق النقاش الجاد والمسؤول وعبر مؤتمر واسع لهذه القوى. بهذا نستطيع أن نعبر عن تواضع الحزب ونهجه في التعامل مع الآخرين وعلى أساس السوية والعمل المشترك بعيداً عن كل ما يعيق التعاون والتنسيق والتكامل النضالي في هذه الفترة العصيبة والمفصلية التي يمر بها العراق.   









11
كاظم حبيب
السقوط المدوي للإسلام السياسي والتشبث بالحكم في العراق
قفزت القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية على كراسي الحكم في البلاد بدعم استثنائي وتصميم حازم من جانب الإدارة الأمريكية بقيادة المهووس بدوره لنشر الحرية الأمريكية بمعنى الهيمنة في العالم من جهة، ودعم مطلق من جانب البيت الصفوي بقيادة خامنئي الساعي إلى نشر الهيمنة الإيرانية على الدول ذات الأكثرية المسلمة في الشرق الأوسط وغرب آسيا، من جهة أخرى، وبمساعدة مباشرة من الحوزة الشيعية في النجف المتمثلة بالسيد علي السيستاني من جهة ثالثة. وكانت الجهة الرابعة تتمثل بالجهل والأمية السياسية اللذين عما البلاد بفعل هيمنة البعث المديدة ونظامه السياسي العنصري والطائفي المناهض للكرد وأتباع المذهب الشيعي من العرب والكرد الفيلية، وكل معارضيه من السنة وأتباع الديانات الأخرى كالمسيحيين والإيزيديين في غرب العراق ونينوى، وكذلك الصابئة المندائيين. 
قفزت الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية إلى حكم العراق في أعقاب حرب مدمرة قادتها الولايات المتحدة بدعم دولي خارج إطار الأمم المتحدة وضد قرار مجلس الأمن الدولي الذي رفض تلك الحرب التي أُعلنت وشُنت في عام 2003 وجرى فيها تدمير كامل للبنية التحتية وما بقي من مشروعات اقتصادية وخدمية في البلاد. وكان هدف الولايات المتحدة الأمريكية ضمان تأمين الأرضية المناسبة لنشوب صراع قومي ومذهبي وتمييز ديني في العراق على المدى الطويل وإنقاذ إسرائيل من جيوش "ياجوج وماجوج!!!" العراقية، وبالتالي عجز الشعب عن توفير الأجواء المناسبة لوحدة الموقف ضد العنصرية والتمييز الديني والطائفية السياسية. وهو ما تحقق للولايات المتحدة خلال السنوات الـ 17 المنصرمة، ولكن تحققت في الوقت ذاته لإيران هيمنتها الفعلية على جميع مفاصل الدولة العراقي وسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، إضافة إلى هيمنتها الفعلية على الإعلام ومصادر المال والميليشيات الطافية المسلحة.
وخلال السنوات الـ 17 المنصرمة برهن كل حكام العراق بما لا يقبل الشك عن عدد من السمات المميزة والأساسية:
1.   تميزها بالذهنية القومية اليمينية والشوفينية، إضافة إلى التمييز الديني والمذهبي وسعيها المستمر لشق وحدة الصف الوطني معتمدة على الشعار المركزي للدول الاستعمارية العتيق والعتيد والمعتمد "فرق تسد"!
2.   فرض هيمنتها الكاملة وأيديولوجيتها الإسلامية السياسية المتخلفة والطائفية على الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث وإعلامها الرسمي.
3.   قيام الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة بتشكيل مؤسسات موازية للدولة العميقة التي تشرف عمليا على الدولة العراقية المهمشة والضعيفة، لاسيما تشكيل الميليشيات الطائفية المسلحة الموازية والمتشابكة مع القوات المسلحة والمسيطرة على قرارات القوات المسلحة، وكذلك المكاتب الاقتصادية التي تهيمن على اقتصاد البلاد ومعيشة الشعب.
4.   فساد حكام العراق وجشعهم الشديد لا في تأمين حصول النخب الحاكمة على رواتب ومخصصات وامتيازات هائلة فحسب، بل ونهبها للمال العام والثروة النفطية بشتى السبل المتوفرة لها وعلى حساب معيشة الكادحين والفقراء والمعوزين من أبناء البلاد، إضافة إلى الفساد الإداري وتكريس المحسوبية والمنسوبية على حساب الإنسان العراقي المستقل والكفوء.
5.   إهمالها الكامل للتنمية الاقتصادية، الإنتاجية منها والخدمية الأساسية كالكهرباء والماء والاتصالات والمواصلات والسكن ...الخ، ومعيشة الناس وتفاقم البطالة والفقر وزيادة تلوث البيئة، واهتمامها المطلق بمصالحها الأنانية.
6.   تبعيتها الفعلية التامة لإيران وللمرشد الإيراني الديني الأعلى علي خامنئي وتنفيذ قراراته وتوصياته على حساب إرادة ومصالح الشعب العراقي وسيادة واستقلال البلاد. وإذا كانت في البداية قد اهتمت بتوصيات السيد علي السيستاني، فإنها في المحصلة النهائية لم تأخذ بتوصياته بل اعتمدت علي خامنئي الأجنبي لا غير.
وإذا كان بعض هذه السمات لم تظهر بوضوح كاف في السنوات السبع الأولى من حكم قوى الإسلام السياسي وبفضل تأييد المرجعية الشيعية لهم، فأن الوعي المدني الديمقراطي قد بدأ بالتحرك في عام 2010/2011 وبدأ التحرك الشبابي في ساحة التحرير ببغداد ومناطق أخرى من العراق، ولكن وجهت له ضربة سريعة عبر المستبد بأمره حاكم العراق الطائفي والتابع لإيران بامتياز نوري المالكي. إلا إن المالكي عجز عن حكم البلاد في عام 2014 حين سلم الموصل ونينوى، وهو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء، بخيانة كبيرة بانسحاب القوات المسلحة العراقية أمام عصابات داعش التي اجتاحت البلاد بـ 800 مسلح مجرم لا غير في مقابل جيش جرار ومسلح أحسن تسليح موجود في الموصل ونينوى. فأزيح هذا الرجل الذي قال "أخذناها بعد ما ننطيها!"، حين رفضه ولفظه الشعب، ولكن بقي الحكم بيد حزب الدعوة والبيت الشيعي المتخلف والطائفي والفاسد بفضل المساومة بين الولايات المتحدة وإيران وتأييد المرجعية الشيعية!
ولكن وبعد مرور 17 عاماً على حكم البلاد بواسطة هذه الطغمة الطائفية الفاسدة لم يعد الشعب قادراً على تحملها، فانفجر غضب الشبيبة العادل والمشروع أولاً، فكانت انتفاضة الأول من تشرين الأول، ثم التحقت بها فئات الشعب الأخرى ومن مختلف الأعمار ثانياً، وهي ما تزال متواصلة حتى الوقت الحاضر، إذ عبر الجميع عن وعي عميق بما حصل ويحصل في العراق على أيدي هذه الطغم الحاكمة المسيئة للشعب والوطن.                         
ان الانتفاضة التي اندلعت في الفاتح من تشرين الأول والنهج الذي اتبعته قوى الإسلام السياسي ومجمل الطغمة الحاكمة والحكومة برئاسة السفاح عادل عبد المهدي أكدت بقوة وسطوع السقوط المدوي لكل الأحزاب والقوى الحاكمة في مستنقع النتانة والعفونة، لأنها خانت الأمانة التي وضعت في عنقها: فقد برهنت على عدم احترامها الدستور ولإرادة الشعب، واستعدادها الكامل للتضحية بحياة بنات وأبناء الشعب لتأمين مصالحها الخاصة ومصالح أسيادها في إيران باستمرارها في السلطة. فبدلا من الاستجابة لإرادة الشعب، وجهت الرصاص الحي وخراطيم المياه والقنابل الصوتية والاغتيالات والاختطاف والتعذيب إلى المنتفضين والمنتفضات معبئة ضده كل اجهزة الدولة العسكرية الرسمية واجهزة الدولة العميقة بميليشياتها الطائفية المسلحة واستخدام مختلف أنواع الأسلحة التقليدية والكذب والخداع والمراوغة واللعب على الوقت بدم بارد، مما ادى إلى استشهاد أكثر من 700 ضحية والى إصابة عدد يقترب من 25 ألف جريح ومعوق واعتقال الآلاف من المناضلين والمناضلات الشجعان. إن التشبث بالحكم والتحايل والسعي لشق وحدة الصف المنتفض بأساليب نذلة والادعاء بالإصلاح زوراً وبهتانا، كلها سوف لن تنفع هذه الطغمة، فما عاد بالإمكان استمرارها بالسلطة لأن ذلك يعني مزيداً من الخراب والرثاثة والبؤس والفاقة لأبناء وبنات الشعب، فالظلم إد دام دمر، من جهة، ومزيداً من الغنى الفاحش للحكام الحاليين واسيادهم في إيران عن طريق النهب والسلب لثروة العراق من جهة ثانية.
إن الإجهاز السلمي على الطغمة الحاكمة ونظامها السياسي الطائفي الفاسد يتطلب وحدة القوى الشبابية في ساحات وشوارع النضال اليومي التي برهنت عن صبر وجلد وصمود وحيوية وقدرة على المواصلة أولاً، ويتطلب وحدة القوى السياسية الديمقراطية المشاركة والداعمة لقوى الانتفاضة الشعبية بكل السبل المتوفرة لديها، بما في ذلك تأمين وحدتها ومساعدتها على تحقيق وحدة الصف الوطني ثانياً، وإزالة ما ترسب من عدم الثقة والشكوكية المتبادلتين لصالح ما هو أنبل وأفضل من التفكير بالمصالح الحزبية الخاصة والضيقة.
إن الواقع الراهن يتطلب منا نحن كبار السن في الحركة السياسية الوطنية العراقية، في صفوف القوى الديمقراطية أن نتعلم من الشبيبة المنتفضة، فهم أقرب إلى نبض الشارع والشعب منّا، وهم أسرع في اتخاذ القرارات المطلوبة منّا، وهم أكثر استعداداً للمجازفة والتضحية المحسوبة منّا، وهم أكثر حركة وقرباً من الجديد والحديث في العالم وفي فهم الأحداث والتفاعل السريع معها منّا أيضا. إن ما يمكننا نحن كبار السن من تقديمه للشبيبة المنتفضة تتجلى في خبرتنا المتواضعة واستعدادنا للسير معهم وتحت قيادتهم لتحقيق المنشود لشعبنا الذي نزل يطالب بحقوقه المغتصبة، واستعادة وطنه المستلب. لنحترم نحن كبار السن ذوي الشعر الأبيض شبيبتنا المقدامة بشعرهم الأسود الفاحم، لنتواضع أمامهم وأمام بسالتهم وتضحياتهم.
إن الشبيبة التي تملأ ساحات وشوارع العراق قد مرّت في هذه الفترة النضالية التي عمرها خمسة شهور بأوضاع عصيبة وصعبة، وقد أعطتها خبرة كبيرة، وهي تدرك اليوم بأن تنظيم قواها وتعبئتها وتأمين تعاون وتنسيق ووحدة جهودها تحت قيادة واعية، جسورة، وحكيمة هو السبيل الوحيد في التعجيل بالنصر السلمي المؤزر على الطغمة الحاكمة الفاسدة التي اصطفت كلها دون استثناء ومن جديد لتفرض المحاصصة الطائفية والأثنية في توزيع السلطات الثلاث والمناصب ولامتيازات والاستمرار في نهب البلاد وخزينة الدولة وإفقار الاقتصاد والمجتمع. وإن الأمل بانتصار الانتفاضة الشعبية يأتي عبر النضال الجاري وعبر التنظيم والتنسيق والتوحيد والقيادة الواعية والمدركة لمؤامرات وخطط العدو الداخلي والخارجي المتربص لنا على حدود البلاد الشرقية والمتوغل في أعماق العراق ومفاصل الدولة والمجتمع في آن.         



12
كاظم حبيب
ضعف الثقة والتنافس الفظ حالة مميزة في التيار الديمقراطي العراقي
ليس من واجبي، كمشارك ومتابع لنشاط ودور قوى التيار الديمقراطي العراقي، المجاملة وإسداء المديح، بل من واجبي ومسؤوليتي كمواطن عراقي أن أكتب بصراحة ووضوح وجهة نظري الشخصية، التي تحتمل الصواب والخطأ، عما يجري في الوطن ومع الجاليات العراقية في الشتات مع إبراز الجوانب الإيجابية والسلبية في مجمل عمل قوى التيار الديمقراطي الذي يفترض أن يعوّل عليه في إقامة دولة ديمقراطية حديثة تأخذ بالعلمانية في الموقف من الدين والدولة والسياسة، وبتعبير واضح فصل الدين عن الدولة والسياسة، وبناء مجتمع مدني ديمقراطي حر ومتحضر حديث. أشير إلى هذه الملاحظة لأن البعض غير القليل لا يتحمل النقد الذي لا يهدف الإساءة والتشهير أو إضعاف هذا الحزب أو ذاك في علاقته مع المجتمع وفئاته المختلفة، بل يعقد بكونه يضع الأصبع على الجرح لوقف النزيف في القوى وتعبئة كل الذين يجدون في مجمل قوى الحركة الديمقراطية العراقية موقعاً لهم ومجالاً للنضال في سبيل انتزاع الحقوق المغتصبة وتأمين استقلال وسيادة الوطن المستباح منذ عقود وإلى الآن، مع الإشارة إلى الدروس المستخلصة من تجارب الماضي في التحالفات السياسية.
كلنا يتحدث بصوت واطئ أو مسموع عن تلك المشكلات الفعلية التي تواجه قوى التيار الديمقراطي في الوطن المسلوب دون ان نتقدم خطوات إلى الأمام. وإذا كانت القوى الديمقراطية أكثر من سنتين قد حققت خطوة إلى الأمام بالقوى المتوفرة في تشكيل تقدم، تراجعنا فجأة خطوتان إلى الوراء، بحيث أصبحت لملمة القوى المتشظية أكثر صعوبة وتعقيدا. فالحركة الديمقراطية العراقية بمجملها تعاني اليوم بصورة ملموسة من: ** ضعف في الثقة المتبادلة، بل وانعدامها أحياناً كثيرة والتشكيك ببعضها، ** التنافس الفظ وغير العقلاني بين أطرافها والنزعة الفوقية في التعامل مع الآخر من جهة، والنرجسية المرضية لدى البعض الآخر رغم ضعفه من جهة ثانية، ** الرغبة الجامحة في القوى أو الأشخاص في التزعم والقيادة وتصدر المواقف، دون أن يكون هذا الطموح له ما يبرره أو له مشروعيته، ** الوقوع في فخ الانشغال بالمشكلات الذاتية والصراعات البينية ونسيان القضايا الجوهرية التي تمس واقع الجماهير الواسعة، وعدم الإحساس الكافي بنبض الشارع المتحرك والمتغير باستمرار، ** الغوص في الاختلافات المولدة للخلافات، بدلاً من التحري عن نقاط الالتقاء والتفاعل وطرح المهمات المشتركة التي تستوجبها مسيرة الحركة السياسية والاجتماعية في البلاد. هذا التشخيص للمشكلات التي تحيط بقوى التيار الديمقراطي كلها مع التباين في مستوى تأثير هذه المشكلة أو تلك على مجمل العمل أولاً، مع واقع ابتلاء جميع قوى التيار الديمقراطي كلها بهذه العلل مع وجود تباين نسبي في مدى تأثيرها على عمل ونشاط وسلوك هذا الطرف أو ذاك. وتزداد هذه الحالة السلوكية في تنظيمات القوى السياسية والمنظمات المدنية الموجودة في الخارج، التي ترتبط بهذا القدر أو ذاك بتلك القوى والأحزاب في الداخل، عمقاً وتأثيراً سلبياً على العمل المشترك لمنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في الخارج. وهي من حيث المبدأ نتاج لما جرى ويجري في الداخل، إلا إن لها تأثيرها السلبي على الداخل أيضاً، وتخلق لقوى الداخل مشكلات إضافية. إن هذا التشخيص لا يلغي بأي حال الجوانب الإيجابية والمشرقة لوجود وتطور نسبي ملموس ومواصلة نضال قوى وأحزاب الحركة الديمقراطية العراقية، ومنها القوى اليسارية، وتضحياتها الكبيرة في ظل الأوضاع المعقدة السائدة في العراق
ومن المناسب إثارة نقطة أخرى مهمة تتعلق بوجود رؤية سياسية خاطئة لدى بعض القوى والعناصر الوطنية والديمقراطية في الداخل، وليس كلها، مفادها نظرة غير عقلانية لأهمية القوى الديمقراطية وعموم الجاليات العراقية في الخارج والادعاء بعدم فائدتها أو تقديم دعم للانتفاضة الشعبية أو التقليل العام من دورها المفيد والضروري وتأثيرها على نضال الشعب في الداخل. وهنا لا بد لي، وكما أرى، من توضيح وتأكيد مسألة مهمة وأساسية لإزالة أي غموض عنها، هي: إن العامل الحاسم والأساسي والرئيسي في تحقيق أي تغيير منشود في البلاد هو نضال القوى الوطنية والديمقراطية، قوى الانتفاضة الشعبية بكل تياراتها واتجاهاتها الفكرية والسياسية الديمقراطية في الداخل أولاً، أما الخارج فيلعب الدور المساند والداعم لنضال قوى الانتفاضة الشعبية في الداخل والمحرك، بهذا القدر أو ذاك، للدعم السياسي والإعلامي والمالي، على محدوديته، على مستوي الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني ثانياً. إن دور الخارج يتعلق بتأمين مسألتين لا مندوحة منهما: 1) فضح النظام السياسي الطائفي والفاسد والمتعفن والمستبد القائم والكشف بوثائق وأدلة على سياساته في ممارسة العنف والإرهاب والقتل العمد للمتظاهرات والمتظاهرين، و2) الحصول على الدعم المتعدد الجوانب للانتفاضة الذي لا يجور التقليل من أهميته ولا تضخيم هذا الدور، بل وضعه في الإطار والموقع السليم لتعزيز وحدة عمل ونضال الداخل والخارج لصالح انتصار أهداف الانتفاضة الشعبية.       
إن الحراك الشبابي الذي انطلق في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 لم يكن عفوياً تماماً كما يتحدث عنه البعض دون وعي منه لفعل التراكمات النضالية السابقة، أي لما جرى قبل ذاك في الساحة السياسية العراقية ونضال الحركة المدنية الديمقراطية في السنوات التي سبقت الفاتح من تشرين الأول وتضحياتها الغالة. وقد كتبت عن ذلك في مقالات سابقة، ولكن ما يفترض تأشيره في هذه الانتفاضة هو أن قوى التيار الديمقراطي دون استثناء لم تكن موحدة ولا متعاونة ودون أي تنسيق مطلوب فيما بينها رغم ضعفها العام وحاجتها الماسة لمثل هذا التعاون والتنسيق والوحدة النضالية، بل كانت بعد انفراط عقد "تقدم" متصارعة أو متقاطعة على أقل تقدير، وبالتالي لم يكن في مقدورها التفاعل بالقدر الكافي مع نبض الشارع والجماهير الواسعة التي كانت تغلي حقاً، وبالتالي لم تستطع تقدير الأجواء والقضايا المحركة للمواطنات والمواطنين، لاسيما الشبيبة، مما جعلها بعيدة قليلاً أو عاجزة نسبياً عن المبادرة والقيام بدور قيادي في هذا الحراك الشبابي الذي تحول إلى انتفاضة شعبية واسعة وحققت حتى الآن بعض أهدافها المعنوية بحيث أجبر البعض الكثير على القول بأن لا يمكن لوضع العراق أن يعود لما كان عليه قبل الفاتح من تشرين الأول 2019، رغم إن الأحزاب الإسلامية السياسية التي تتحدث بهذا الاتجاه أيضاً، تضمر في حقيقة الأمر وتمارس فعلاً التآمر على الانتفاضة وأهدافها من أجل البقاء في السلطة ونهب المال العام وفرض النفوذ على المجتمع من خلال ممارسة ذات السياسات المناهضة لإرادة المجتمع ومصالحه. إلا إن الحركة الديمقراطية، ومنها قوى اليسار، لم تتأخر بل بادرت إلى إعادة النظر والمشاركة الفاعلة في النضال الجاري في ساحات وشوارع العراقي بسلمية وروح عالية دون تحقيق التنسيق والتكامل المنشود.
إن الرؤية الواقعية والعقلانية تستوجب بعد التجارب السابقة من أطراف الحركة الديمقراطية العراقية وكل قوى الانتفاضة إلى التفكير الجاد بعقد لقاءات وإجراء حوارات فكرية ونقاشات سياسية معمقة حول أهمية وضرورة التفاعل والتضامن والتنسيق باتجاه إيجاد الصيغة المناسبة لوحدة النضال الديمقراطي الراغب في التغيير الفعلي للنظام الطائفي المحاصصي الفاسد والذي تلطخت أيدي قوى النظام بدماء الشعب ودموع الثكالى واليتامى، إنه الرد المطلوب والحاسم على المماطلة والتسويف والمراوغة والخداع الذي تمارسه الطغمة الحاكمة وألاعيبها في تمزيق وحدة الصف الديمقراطي وقوى الانتفاضة الباسلة. إن هذا التوجه سيجد تأثيره الإيجابي لا على تصاعد حركة الجماهير الشعبية في الداخل، وهو العامل الحاسم، فحسب، بل وسيؤثر إيجابياً على قوى وحركة القوى الديمقراطية والجاليات العراقية في الخارج.
فلا نكشف سراً حين نشير إلى إن استمرار الانتفاضة الشعبية طيلة الأشهر الخمسة المنصرمة وسقوط ضحايا كثيرة جداً من قتيل وجريح ومعوق قد رفع حتى الآن من سقف المطالب الشعبية ووسع من قاعدة المشاركين في التظاهرات في بغداد ومدن الوسط والجنوب وأجج غضبهم، كما حرك بقدر ما المجتمع الدولي لشجب النهج الدموي لحكام العراق، ولكنه في المقابل نشأ بعض الفتور والتراخي لدى جمهرة غير قليلة من أبناء وبنات الجالية العراقية بمن فيهم جمهرة غير قليلة من التنظيمات والعناصر الديمقراطية، إضافة إلى بعض الإحباط والقنوط والشك في انتصار الانتفاضة الشعبية، مما برز في قلة المشاركين والمشاركات في الفعاليات التضامنية مع الانتفاضة، وكأن تعباً أصاب هذا الحرك المطلوب والضروري في الخارج. ولا أشك في أن قلوب النسبة العظمى من العراقيات والعراقيين مع الانتفاضة ومطالبها، إلا إن هذا غير كاف بأي حال. ومما زاد في الأمر تعقيداً هو ابتعاد الكثير من الناس عن النشاطات التضامنية المشتركة وانفراد كل طرف بفعالية لا تجلب له ولا للآخرين سوى القلة القليلة. مما أضعف تأثير ذلك حتى على عملية تضامن شعوب البلدان التي يقطن العراقيات والعراقيون في بلدانهم مع نضال الشعب.
إن هذه الصراحة في الطرح لا تريد الفت في عضد المتضامنات والمتضامنين بأي حال، بل تستهدف تحقيق خمسة مسائل أساسية في الفترة القادمة:
1.   الدعوة إلى مناقشة عامة في اجتماعات واسعة لهذه الحالة بين بنات وأبناء الجاليات العراقية وتشخيص المشكلات التي تواجهها والعوامل المعرقلة لوحدة العمل لصالح الانتفاضة.
2.   طرح المعالجات السليمة التي تسهم في التجميع والكف عن التقوقع أو التمترس وراء الحزبيات الضيقة لصالح عمل عام ومشترك وتحت شعار سليم "نازل أخذ حقي" و "اريد وطن" غير مستباح.
3.   وضع برنامج عملي مشترك يتناسب مع قدرات الخارج في التحرك المنشود للتضامن مع الانتفاضة، بما فيها الصلات بمنظمات المجتمع المدني والأحزاب والهيئات الدبلوماسية والإعلام وعقد الندوات بالتعاون مع منظمات مجتمع مدني عربية وغير عربية مشتركة مع أبناء وبنات الدولة المعنية. وكذلك العمل من أجل إصدار نشرة صغيرة في الخارج شبيهة بنشرة الاحتجاج-ملحق المدى- للتعريف بمجرى الانتفاضة بلغات الدول المعنية.
4.   تشكيل لجان تنسيق من ممثلي الجماعات والقوى والأحزاب الموجودة التي تطرح برنامجاً مشتركاً للعمل المشترك في كل دولة وربما لجنة مشتركة على صعيد الخارج كله لدعم الانتفاضة وتكون قراراتها خاضعة لها وليس لأي حزب أو كتلة سياسية.                       
5.   يمكن أن ينبثق عن لجان التنسيق تشخيص مسؤولين لجوانب عديدة من العمل المشترك منها مثل لجنة للإعلام، وأخرى للمالية، وثالثة للنشاط الجماهيري والحراك التضامني.
 إن هذا التوجه سيزيد من اقتراب التنظيمات المدنية من الجاليات العراقية، لاسيما الشبيبة، ويعزز اللحمة ويوسع قاعدة العمل ويعيد الثقة المتبادلة وبقدرة الانتفاضة على تحقيق المنشود من مطالب الشعب ويضعف الحساسيات والتنافس غير العقلاني. إن الحوارات والنقاشات المتبادلة هي التي تساعدنا على التقارب والتفاعل والتضامن المنشود.   

13
كاظم حبيب
هل من دعم للجاليات العراقية في الخارج للانتفاضة؟
تعيش انتفاضة شبيبة العراق وعموم الشعب شهرها الخامس ويواظب المنتفضون والمنتفضات على التظاهر والتجمع اليومي في ساحات وشوارع الوسط والجنوب وبغداد، كما يشارك فيها ببغداد جمهرة واسعة من سكان المحافظات الغربية والكرد الفيلية، وهي تحظى بتأييد غالبية الشعب الكردي في كردستان العراق لعدالة وشرعية وصدقية المهمات والشعارات التي تطرحها وتنادي بها الانتفاضة، إذ إن التغيير الديمقراطي المنشود يلعب الدور الأساس في تلبية مصالح وطموحات الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه. قدمت الشبيبة الباسلة حتى الآن الكثير من الضحايا، سواء من استشهد في سوح النضال أم من جرح وعوق وأصر مرة أخرى على المشاركة أو من اختطف وغيب تماماً أو عذب ورمي على قارعة الطريق مصاباً بجروح خطيرة وربما مميتة. ودعا المنتفضون والمنتفضات إلى تظاهرة مليونية في بغداد بتاريخ 25 شباط/فبراير 2020 يشارك فيها متظاهرو ومتظاهرات المدن العراقية المنتفضة بهدف تأكيد وحدتهم الوطنية والأهداف الأساسية التي يتظاهرون من أجلها ورفضهم للمناورات الوقحة والمساومات المخزية واللعب على الوقت التي تمارسها الطغمة الحاكمة الفاسدة لإبقاء هيمنتها على الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ومواصلة نهجها الفاسد وسياساتها المناهضة لإرادة ومصالح الشعب. هذا النضال العنيد لشبيبتنا المقدامة وشعبنا الرافض بإباء لمرض الطائفية السياسية ومحاصصاتها المشوهة وفساد الحاكمين والهيمنة الإيرانية على مصائر الوطن المستباح والدوس على كرامة الإنسان العراقي وإرادة الشعب ومصالحه، يطرح سؤالاً مهماً يدور في بال الكثير من الناس في داخل العراق هو: ما هو دور الجاليات العراقية في الخارج في دعم الانتفاضة الشعبية الجارية؟
دور الخارج لدعم الانتفاضة
الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة لأسباب ترتبط بواقع أوضاع العراقيات والعراقيين في الشتات العراقي والتباين في مستوياتهم الثقافية وأوضاعهم المعيشية وانتماءاتهم الاجتماعية واتجاهاتهم الفكرية ومواقفهم السياسية والمصالح التي يلتزمون بها ويدافعون عنها وعوامل كثيرة أخرى. ومع ذلك أحاول هنا طرح رؤيتي المختصرة لواقع الجاليات العراقية في الخارج لإثارة النقاش بمقال مكثف، وليس ببحث أكاديمي. وقد استعنت بعدد من الأصدقاء لمعرفة مدى صواب الوجهة العامة للمقال. وقد وصلتني ملاحظات مهمة من عدد طيب منهم فشكراً لهم جميعاً. 
يقدر عدد العراقيات والعراقيين في الوطن في عام 2020 بحدود 40 مليون نسمة (الجهاز المركزي للإحصاء، وزارة التخطيط، بغداد). أما عدد المقيمين في الخارج فيزيد عن 4 ملايين نسمة. وهم يشكلون 9% من مجموع سكان العراق في الداخل والخارج تقريبا. وهي نسبة كبيرة وفي مقدورها المساهمة الفاعلة في التأثير الإيجابي على الأحداث الجارية في العراق لصالح الانتفاضة، لو أمكن جمل شملها في كل دولة من دول الشتات ولو وفرت لنفسها الظروف المناسبة. والشعب العراقي سابقاً وفي المرحلة الراهنة أحوج ما يكون لمثل هذا الدور والتأثير الإيجابي من خلال تنشيط الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي لصالح تعضيد الانتفاضة وشجب نهج وسياسات الدولة العراقية المشوهة والأحزاب المهيمنة عليها والتدخل الخارجي المتواصل في شؤون العراق. فهل يا ترى تمارس الجاليات العراقية هذا الدور المطلوب منها والضروري والملح لدعم الانتفاضة الشعبية؟
أسباب الهجرة وأوضاع الجاليات
عند دراسة البنية الاجتماعية والنفسية والفكرية والسياسية للجاليات العراقية المقيمة في الشتات يمكن تحديد العديد من العوامل التي تسببت في هذه الهجرة الواسعة، منها:
1)   الاستبداد الاضطهاد والقمع السياسي الأيديولوجي والقومي والديني والمذهبي في فترات مختلفة.
2)   الحروب الداخلية والخارجية وعواقبها المدمرة، وما تسببت به من موت وخراب ودمار ونزوح وقمع وهجرة مستمرة.
3)   الوضع الاقتصادي والبطالة والفقر والرغبة في الحصول على عمل وحياة حرة وكريمة.
4)   الأوضاع الاجتماعية المزرية والفراغ القاتل للشبيبة والتحري عن أوضاع حياتية ومعيشية أفضل، وعن حريات أكاديمية وحياة ديمقراطية لأساتذة الجامعات والكليات وعموم مثقفي البلاد.
ومع إن نسبة عالية جداً من المقيمين حالياً في الخارج قد هاجرت من العراق قسراً لأسباب سياسية واجتماعية وفي فترات مختلفة، لاسيما بعد أحداث 1959 وفي فترات حكم البعث والقوى القومية وحكم البعث المديد وقمعه وحروبه وفي الوقت الحاضر، إلا إن نسبة عالية جداً من هؤلاء قد ابتعدت عن العمل السياسي والمشاركة في الفعاليات السياسية التي تمارسها قوى المعارضة العراقية التي لا تشكل نسبة صغيرة جداً من حجم الجاليات العراقية الكبير في الخارج، مع حقيقة تعاطف نسبة مهمة منها مع هذه الجماعة السياسة المعارضة أو تلك. وأسباب ذلك كثيرة بما فيها الإحباط من النشاط السياسي والأحزاب السياسية أو الانشغال بالعيش اليومي لهم ولأطفالهم ومصاعب الحياة التي تواجه الكثير منهم، ومنها البطالة، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، واندماج القسم الأعظم من أبنائهم في المجتمعات الجديدة وفقدانهم اللغة العربية. يضاف إلى ذلك أن نسبة غير قليلة منهم أصبحوا من كبار السن وعاجزين عن الحركة المطلوبة، ونسبة غير قليلة تعان من الحالة النفسية المرضية پسیشوسوماتیک Psychosomatik وأمراض أخرى تمنعهم من الماركة الفعلية في الفعاليات السياسة والاجتماعية والنسبة المتبقية التي تبدى اهتماماً أكبر بالسياسة فيتراوح عددها بين 100-130 ألف نسمة أو بحدود 2 إلى 2,5% من مجموع الجاليات العراقية في الخارج. أما الذين يمارسون العمل السياسي فعلاً والنشطاء سياسياً أو في مجال منظمات المجتمع المدني في الشتات العراقي فلا يزيد عن بضعة آلاف نسمة، وهم موزعون على عدد من الدول الأوروبية، لاسيما بريطانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا والسويد والدنمارك، إضافة إلى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا والأردن. كما إن الظاهرتين الأكثر بروزاً هي أن غالبية المشاركين في النشاط السياسي هم من كبار السن وندرة الشبيبة المشاركة أولاً، كما إن الغالبية هم من الذكور وقلة جداً من الإناث ثانيا. أي أن النشطاء السياسيين عجزوا عن الوصول إلى اللاجئين والمهاجرين الجدد على كثرتهم من الشبيبة العراقية ذكوراً وإناثا. من الخطأ الاعتقاد بأن جميع من هم في الشتات يعيشون حياة مرفهة وسعيدة وخالية من الشدائد والقسوة. ويمكن لرويتين رائعتين للروائية العراقية الكبيرة والسيدة الفاضلة أنعام كجه جي، إضافة إلى بقية رواياتها، هما "سواقي القلوب" (2005) و"طشاري" (2013) أن تمنحنا الكثير من الولوج إلى أعماق الوضع النفسي والاجتماعي للمهاجرين والمقيمين في الخارج وقساوة أوضاع نسبة عالية منهم. قال لي أحد العراقيين في الخارج حين سألته عن أوضاعه مختصراً وضعه النفسي ومعاناته بما يلي: "الوطن أم والغربة زوجة أب"!   
بنية الجاليات في الشتات العراقي
تتشكل بنية الجاليات العراقية من الناحية القومية من: الكرد، الكلدان – الآشوريين – السريان، العرب، ومن الناحية الدينية: أكثرية مسلمة، من الشيعة والسنة، المسيحيون، الإيزيديون، الصابئة المندائيون ومجامع صغيرة من ديانات أخرى.       
يتوزع الناشطون السياسيون على الاتجاهات الفكرية والسياسية التالية:
1.   اليسار العراقي ولاسيما أعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي وتنظيمات يسارية أخرى وقوى التيار الاجتماعي.
2.   قوى ليبرالية وديمقراطية ومدنية مستقلة وجماعة المحافظين.
3.   البعث العراقي وبعض القوى القومية الناصرية.
4.   قوى الإسلام السياسي الشيعية على نحو خاص، وكذلك السنية.
المشكلات التي تواجه العمل السياسي
والملاحظات البارزة التي يمكن إيرادها بصدد أوضاع القوى السياسية العراقية هي:
** بروز كبير للصراعات القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية في صفوف هذه القوى دون استثناء وفيما بينها تؤثر بقوة على التفاهم والعمل المشترك.
** كما يلعب التنافس في ما بين قوى وأحزاب التيار الديمقراطي ومنظمات المجتمع المدني مثلاً، أو في ما بين  الأحزاب والمنظمات الكردستانية دوره الملموس في التأثير السلبي على التعاون والتنسيق في النشاطات العامة والمهمة.
** وتلعب العلاقات الشخصية والعائلية المتوترة دورها السلبي في التأثير على الانسجام العام والعمل السياسي المشترك.
** أوضاع وعلاقات القوى والأحزاب السياسية في الوطن تؤثر سلباً أو إيجاباً بشكل مباشر على علاقات القوى والتنظيمات الحزبية والجماعات في الخارج.
** الصعبات المالية التي تواجهها القوى اليسارية والديمقراطية في تنظيم نفسها ونشاطاتها، في حين تصل لقوى الإسلام السياسي مساعدات مالية كبيرة من العراق أو دول عربية وإسلامية لبناء المدارس الدينية والمساجد والجوامع ولتنفيذ نشاطاتها الدينية والمذهبية السياسية.
** ندرة دعم حكومات الدول الغربية لمنظمات المجتمع المدني الديمقراطية والعلمانية، في حين تقدم الدعم للمنظمات والمدارس الدينية الإسلامية بسخاء كبير.
** وفي أحيان كثيرة يسيطر القنوط والإحباط السياسي والنفسي على حركة ونشاط القوى السياسية والتي يصعب التحكم بها.
** حصول ملل ملموس من الندوات السياسية وتكرارها وتكرار الوجوه المشاركة فيها، في حين يبرز استعداد أفضل للمشاركة في النشاطات الاجتماعية وهي نادرة إلا في بعض الدول الغربية.
** ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام هو الدور الضعيف لأغلب المنظمات المدنية في الخارج بأوضاع اللاجئين الجدد والمهاجرين أو تقديم المساعدة الممكنة لهم، إضافة إلى قلة النشاطات الاجتماعية والفنية التي تساعد على مساهمة بنات وأبناء الجالية بها. ويمكن الإشارة إلى وجود مثل هذه النشاطات في كل من بريطانيا وأستراليا والسويد على وجه الخصوص. كما إن من المهم بمكان الاهتمام بمطالب الجاليات العراقية في الخارج والتزام الدفاع عنها وكسب ثقتها، إضافة إلى طبيعة المهمات والشعارات التي يمكن طرحها لتعبئة اللاجئين والمهاجرين والمقيمين حولها.
** ضعف كبير في العلاقات بين التنظيمات المدنية للجاليات العراقية وبين التنظيمات المدنية لسكان البلاد الأصليين والإعلام والقوى والأحزاب السياسية وعموم المجتمع، مما يضعف القدرة في التأثير على الرأي العام وحكومات هذه الدول باتجاه التزام قضايا الحرية والديمقراطية في العراق. ويزيد من ضعف التأثير المصالح الاقتصادية التي تشد الدول الغربية بالعراق والتي غالباً ما تمنع حكوماتهم من تقديم الدعم للمنظمات المدنية الديمقراطية العراقية التي تناضل من أجل حقوق الإنسان والمجتمع.     
قلة النشطاء السياسيين والمدنيين
تشير المعطيات التي تحت تصرفي إلى أن المستعدين على القيام بفعاليات والمبادرات السياسية والاجتماعية، حتى بين هذه القلة من بنات وأبناء الجالية، يتراوح عددهم في جميع أنحاء العالم بين 2000-3000 نسمة. والمعلومات المتوفرة لديّ وعلى وفق متابعتي للنشاط السياسي العراقي يمكن تأشير عدة دول فيها حيوية ملموسة وفاعلة وهي: بريطانيا وأستراليا والسويد وهولندا وكندا والأردن. ويبرز النشاط الديمقراطي واليساري في هذا الدول، كما يبرز في بريطانيا وألمانيا والأردن نشاط البعثيين والقوميين تحت مسميات عدة بما فيها "المغتربون". وهناك نشاط لقوى الإسلام السياسي التي تمولها الأحزاب الشيعية بسخاء كبير، لاسيما حزب الحكمة لصاحبه عمار الحكيم وحزب الدعوة لصاحبه نوري المالكي. 
مجالات دعم الانتفاضة 
إن أبرز النشاطات التي تمارس في الخارج حالياً تتوزع على:
** إصدار بيانات تأييد أو شجب وفضح لممارسات السلطة؛ ** ندوات فكرية وسياسية؛ ** تجمعات ووقفات وتظاهرات؛ نشر كتب ونشر مقالات أو قصص أو قصائد شعرية أو معارض فنية تشكيلية أو أغاني صوب الوطن؛ الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعبر عن تأييدها أو رفضها لهذا الموقف أو ذاك؛ ندرة الندوات التي تعقد من جانب التنظيمات العراقية في الخارج لصالح إشراك أبناء وبنات الدول التي تعيش فيها الجاليات العراقية؛ وجود تنظيمات مدنية عراقية مثل منظمات حقوق الإنسان أو هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب أو نوادي وملتقيات عراقية والتي غالباً ما تكون مقتصرة على عدد غير كبير من العراقيات والعراقيين، فيما عدا، على وفق معلوماتي، بريطانيا وأستراليا والسويد والولايات المتحدة وكندا وهولندا وألمانيا؛ ويمكن اعتبار التبرعات المالية والعينية  واحدة من المجالات المهمة التي يمكن فيها دعم الانتفاضة الشعبية، وهي ما تزال قليلة بالقياس لما يمكن تحقيقه فعلاً.
من هنا يتبين بأن الطاقات المشاركة في دعم الانتفاضة محدودة جداً، رغم القدرات الفعلية المتوفرة وغير المستخدمة أصلاً. إنه واقع مرير. كما لا بد من الإشارة إلى بروز خلافات في العديد من الدول بين الأوساط الديمقراطية واليسارية التي تعيق وتعرقل العمل المشترك والفعاليات الكبيرة المشتركة، وهو مما يؤسف له ويخلق إحباطاً لدى الناشطين الراغبين بتجاوز حدود الخلافات الفكرية والسياسية والتركيز على دعم الانتفاضة من جانب القوى الديمقراطية المستقلة واليسارية واللبرالية والمدنية. وعليه يمكن القول بأن مستوى الدعم لا يزال ضعيفاً وبحاجة إلى الكثير من الجهد والتنوع والتكثيف لصالح الانتفاضة.
إن صراحة هذا العرض للواقع القائم في الخارج وبدون تزويق يتطلب منا جميعاً التفكير بما يمكن تجاوزه من إشكاليات وكيف يمكن الوصول إلى الجاليات العراقية وإلى شبيبتها من الذكور والإناث وإلى توسيع قاعدة العمل السياسي الديمقراطي في أوساط الجالية وجمع الشمل لصالح القضايا العادلة والمشروعة للشعب العراقي. إن الإجابة عن السؤال الوارد في عنوان المقال هو نعم هناك دعم فعلي للانتفاضة سياسي واجتماعي ومادي، ولكنه غير كافٍ ويمكن زيادته وتنويعه وتطويره. وأتمنى أن يحرك هذا المقال أبناء وبنات الجاليات العراقية ليدعموا الانتفاضة الشعبية بمزيد من الجهد، لأن المنتفضون يناضلون ليل نهار لاستعادة حقوق الإنسان العراقي المغتصبة ويسعون لاستعادة استقلال وسيادة الوطن المستباح وثرواته المنهوبة.                       

14
كاظم حبيب
ماذا تشهد ليالي بغداد المنتفضة من جرائم بشعة؟
ليس الحديث هنا عن ليالي بغداد أثناء خلافة هارون الرشيد وحكايات ألف ليلة وليلة، وليس عن ميثولوجيا شهرزاد وليالها المتعاقبة وهي تحاول انقاذ النسوة من بطش شهريار برواية حكاياتها المنبثقة من حياة الناس في بغداد والمليئة بالصور والخيال الخصب لتلك الفترة لتشغله عن رغبة القتل اليومي لمن قضى وطره منها صباح اليوم الثاني. ليس الحديث عن الأسطورة العراقية التي تحمل الكثير من المشاهد والمعاني والتفسيرات، بل الحديث هنا عن بغداد المستباحة بالطائفية والفساد والخضوع للأجنبي الإيراني، بغداد التي يحكمها طائفيون فاسدون مشوهون وشذاذ آفاق، بغداد حيث يسود فيها حكم القتلة المجرمين والكذابين والمخادعين والمغتصبين للسلطة والناس، حيث يتفننون في محاربة الانتفاضة المقدامة ابتداءً من تشويه السمعة والإساءة للمنتفضين والمنتفضات بشتى السبل المحرمة والتي تعاقب عليها القوانين المحلية والدولية، مروراً بالمطاردة وحرق الخيام وتدمير ما فيها وممارسة البطش بالمتظاهرين بالسكاكين وبناق الصيد المملؤة بكمية كبيرة من الصچم (خراطيش الكريات المعدنية)، والاغتيال بكواتم الصوت في وضح النهار، ثم أخيراً وليس أخراً ممارسة الخطف والتعذيب الأكثر وحشية ودموية ورمي الضحايا المدّماة، وهم إلى الموت أقرب منهم إلى الحياة، أمام دار الضحية. إنها إهانة كبرى وجريمة لا تغتفر للإنسان عموماً والعراقي هنا على وجه التحديد. وهدف هذا الأسلوب الجديد القديم لا يخفى على قوى الانتفاضة، فهم يدركون إن هؤلاء المجرمين لا يسعون إلى نشر الخشية والرعب في نفوس المتظاهرين والمتظاهرات من أن يتعرضوا إلى نتيجة مماثلة أن استمروا في التظاهرة فحسب، بل وأكثر من ذلك فهم يريدون بتصميم عدواني إلى إشاعة الرعب في صفوف عائلات المتظاهرات والمتظاهرين خشية على أبنائها وبناتها. إنها طريقة فاشية مجرمة مماثلة تماماً لممارسات أزلام وجلاوزة البعث وصدام حسين في فترة حكمهم الفاشي المديدة ضد المعارضين، وهم الأشخاص ذاتهم في الغالب الأعم الذين ترك الكثير منهم حزب البعث وأجهزة الأمن والأجهزة الخاصة وفدائيي صدام حسين والتحق بعدد كبير من الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران، وهي الأكثر شراسة ودموية، ليمارسوا الأسلوب ذاته مع بنات وأبناء الانتفاضة الباسلة في العراق. إنهم لا يملكون ضميراً حياً يعذبهم، فهم عملاء جبناء وأدوات خسيسة ووقحة بيد أسيادهم في إيران وتوابعهم وامتداداتهم في قيادات وكوادر الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة في بلاد الرافدين.
لكننا نحن أمام صورة مغايرة تماماً لما تسعى إلى تحقيقه قوى الانتفاضة المضادة، قوى الطغمة الحاكمة التابعة، حيث يشهد العالم إصرار العائلات العراقية على دعم أبنائها المنتفضين وبناتها المنتفضات، وكذلك المشاركة في المظاهرات والتجمعات في الساحات والشوارع، إضافة إلى مشاركتهم في الإسعاف وطبخ وتقديم وجبات الطعام، رغم حزنهم الشديد على الضحايا التي اسقطت في سوح وشوارع النضال الباسل وعلى الضحايا البريئة التي عذبت وتعذب وتنتهك كل القيم والمعايير الإنسانية النبيلة بما لا يختلف بأي حال عن أساليب تعذيب الفاشيين في الدول الفاشية التي عرفها العالم.
إن البيت الشيعي المشوه بكل القيادات والأدوات المجرمة الفاعلة فيه لا يريد أن يدرك بأن هذه الأساليب الجهنمية لن تُسكت المطالبة بالخلاص منهم، لأنهم لا يمثلون بنات وأبناء المذهب الشيعي، ولا أي من أبناء وبنات العراق الطيبين المخلصين لوطنهم وشعبهم، بل أنهم يمثلون حثالة البشر ويد أجنبية تطعن بالشعب العراقي يمنة ويسرة ولا تكف يومياً عن إسقاط المزيد من الشهداء والجرحى والمعوقين. وهم بذلك يثيرون الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي ضدهم ويقرب من عقاب العدالة الدولية لهم ولأسيادهم أينما كانوا.
إن على القوى الديمقراطية والمدنية النظيفة والمدركة لما يجري في البلاد رفع دعاوى قضائية جنائية ضد حكام العراق والأحزاب الحاكمة وقادة الميليشيات الطائفية المسلحة في محاكم دولية، لاسيما العائلات التي فقدت بناتها أو أبناءها وكذلك أولئك الذين تعرضوا للخطف والتعذيب لأن القضاء العراقي مشارك في ما تقوم به ضد الشعب وحقوقه وإرادته بقية سلطات الدولة العراقية المشوهة والهشة والخاضعة من قمتها إلى قدميها لإيران وقراراتها وهيمنتها الفعلية على البلاد.
لن يفلت أولئك الذين يقودون هذه الأدوات المنفذة للعمليات الإجرامية الجبانة بحق قوى الانتفاضة ولا أدواتهم القذرة من الحساب العسير والعادل، لن يفلت من يمارس حرق الخيام وخطف ومطاردة واغتيال وتعذيب بنات وأبناء الشعب من القضاء العراقي العادل القادم حتماً على أنقاض هذه السلطات الثلاث التي تبرهن يومياً على إنها لم تعد مستقلة ولا عادلة بل أداة خاضعة وخانعة للحكام الطغاة وللدولة الأجنبية التي تقود هؤلاء الحكام.
لا يكفي الحديث عن تقديم دعوى كما يفعل بعض السياسيين العراقيين، بل عليهم، إن كانوا جادين فعلاً، أن يقدموا هذه الدعاوى القضائية الجنائية قولاً وفعلاً، إذ هناك آلاف الشواهد والوثائق التي تدين الحكام وقادة وكوادر الأحزاب الإسلامية السياسية والميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لها وأدواتها الأخرى التي تعمل بوحي من مصالحها الجشعة ومصالح إيران المهيمنة على القرار العراقي. وهي في الوقت نفسه دعوة لكل العراقيات والعراقيين النشطاء في الخارج أن يسعوا لإيجاد السبل المناسبة لإقامة دعاوى قضائية، وبالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والأحزاب الديمقراطية، عبر من عانى من الإرهاب الدموي في العراق واغتصاب حرياته، أمام محاكم الدول الغربية لجرِّ هؤلاء المتهمين بالقتل والتعذيب للقضاء لينالوا الجزاء العادل بسبب ما اقترفوه من جرائم بحق هذا الشعب المستباح.         

15
كاظم حبيب
وحدة القوى الديمقراطية دعم لانتفاضة الشعب الباسلة
حين يسود التشتت والتفكك والصراع بين القوى والأحزاب والجماعات السياسية الديمقراطية من ليبرالية ومستقلة وديمقراطية ويسارية وقوى مؤمنة وتريد دولة ديمقراطية علمانية، وحين تنسى هذه القوى مجتمعة أو بعضها الأهداف الأساسية المشتركة في المرحلة الراهنة في مواجهة الطغمة الطائفية الفاسدة والمشوهة والتابعة الحاكمة، حينها لن تكون قادرة بأي حال على  تقديم الدعم الضروري والملح والأساسي الكافي للانتفاضة الشبابية والشعبية الباسلة التي دخلت شهرها الخامس بامتياز وروعة فائقة، رغم كثرة الضحايا البريئة من شهداء وجرحى ومعوقين ومختطفين ومعتقلين ومعذبين وأرامل وثكالى ودموع لا حصر لها. أما حين يسود الوفاق والاتفاق والائتلاف الوطني بين هذه القوى والأحزاب والجماعات السياسية، وحين تشترك سوية في طرح برنامجها السياسي المشترك وأساليبها النضالية السلمية على وفق الأسس التي طرحتها قوى الانتفاضة الباسلة وتطور تلك الأهداف مع مرور الأيام وكثرة الضحايا من جهة، وكثرة الكذب والخداع والمماطلة من جانب الطغمة الحاكمة من جهة أخرى، عندها تقدم هذه القوى أقصى ما لديها من قدرات على دعم الانتفاضة الشبابية والشعبية التي تعتبر أجمل ما قام ويقوم به شعب العراق منذ قرن من الزمان، مع عدم البخس في النضالات المريرة والباسلة السابقة التي خاضها الشعب العراقي طيلة قرن من الزمان. وعظمة هذه الانتفاضة تكمن بتحول الكثير من أولئك الذين كانوا في الغالب الأعم وراء دعم القوى الطائفية السياسية في الوصول إلى السلطة وعبر تأثير القوى والأحزاب الدينية الطائفية والمرجعية الدينية الشيعية أو المؤسسة الدينية السنية، أصبحوا اليوم ثواراً أمناء على مصالح الشعب والوطن، مستعدون لتقديم النفس والنفيس لصالح انتصار الانتفاضة الشعبية التي تقول "نازل أخذ حقي وأريد وطناً" أمناً ومستقلاً ومستقراً، لأن هذه الشبيبة قد أدركت خساسة ونذالة وفساد القوى التي أيدتها في السابق والتي استغلت واستخدمت هذا التأييد لتحقيق ثلاث مسائل أساسية لها بالتحديد، وهي:
1.   أن تبقى السلطة في أيديها، على حد قول قائدهم النرجسي والسادي والدكتاتور والتابع لإيران جسداً وروحاً وعقلاً "أخذناها بعد ما ننطيها، ليش هو أكو واحد يگدر ياخذها بعد!"، إضافة إلى ضمان خزينة الدولة وعموم الثروة العراقية والنفوذ الاجتماعي والديني بيديها ايضاً لتتصرف به لصالحها ولصالح إيران. 
2.   محاربة كل القوى الوطنية والديمقراطية وذات النهج الفكري الآخر وتأمين سيادة الفكر الديني المشوه والمعوج الذي قاد ويقود إلى سيادة نظام فاسد حتى النخاع وتزييف وتشويه الوعي الديني، ولاسيما الشيعي، في المجتمع وتزوير إرادة الشعب ومصادرة حقوقه ولاسيما حقوق المرأة وحريتها.
3.   ربط العراق تبعياً بإيران وجعله مستعمرة فعلية تابعة للإمبراطورية الفارسية الثيوقراطية الجديدة، ووضع ثروة البلاد تحت تصرف المستعمر الجديد المتطلع للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط وفي تنافس استعماري جديد مع الدولة العثمانية الجديدة، دولة اردوغان الإخوانية والقوى القومية العنصرية في تركيا. 
إن الانتفاضة الشبابية والشعبية تمر في مرحلة عقدية لا بد من مساهمة القوى والأحزاب الديمقراطية في بلورة لاصطفاف القوى، بين قوى الشعب وبين القوى المدافعة عن الطغمة الحاكمة الفاسدة، ومنها من حاول ويحاول اللعب على حبال الانتفاضة كذباً وخداعاً ومراوغة مرة، وعلى حبال الطغمة الحاكمة مرة أخرى، مع منافسة الأخيرة للحصول على موقع الصدارة في حكم البلاد والسير على نفس نهج القوى الحاكمة التي يشارك معها حالياً. نحن أمام لعبة خطرة. وعلينا القيام بفرز واضح وجريء بين هذه القوى. ينبغي الفصل الواضح بين القيادات وبين القواعد هذه القوى، ففي القواعد قوى كادحة وعاطلة عن العمل وفقيرة ومهمشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً والتي يفترض العمل من أجلها وجلبها إلى معسكر الانتفاضة والقوى الديمقراطية أولاً، والعمل على عزل تلك القيادات التي رقصت على حبال عدة ولكن عيونها كانت ولا تزال وستبقى مركزة على الوصول إلى السلطة من خلال المساومة مع القوى الحاكمة الحالية لقيادتها.
ولم يكن بعيدا عن الحقيقة ما أشار إليه مرتضى عبد الحميد في جريدة طريق الشعب بتاريخ 18/02/2020 حين كتب الكاتب السياسي تحت عنوان "لا دخان أبيض يلوح في الأفق" ما يلي:
"ويتوزع فرسان هذا المسار على المكونات الاجتماعية الثلاثة من دون استثناء بل ان بعضهم يتلون تلون الحرباء، متنقلا كما يفعل المهرج من موقف معين الى نقيضه دون احراج او حياء. والبعض الآخر تراه مغرماً بكل ما هو غريب ومشين في عالم السياسة، فيقوم بمحاولات بائسة شملت حتى استخدام القوة لإجبار المنتفضين البواسل على القبول بترشيح "علاوي"، والموافقة عليه وهو المرفوض منهم جهاراً نهاراً، رغم ان الرجل (علاوي) وبصرف النظر عن الدوافع كان قد "هدد بالتنحي عن منصبه اذا استمر قتل المليشيات للمتظاهرين، واستمرت موجة العنف التي خلفت قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وان هذا الوضع ليس مقبولا بالمرة، فالذين في الساحات هم أبناؤنا السلميون، ويستحقون منا كل تقدير واحترام، وواجبنا خدمتهم وسماع صوتهم، لا ان يتعرضوا الى القمع والتضييق" الامر الذي سيؤدي لا محالة الى استمرار حالة الاستعصاء وزيادة تعقيدها واعلاء راية المماطلة والتسويف مجدداً، في مراهنة على الوقت لم تثبت جدواها حتى الآن." وعلى أهمية هذا القول فأنه ما يزال يأمل الكاتب بشيء ما من الحكومة التي يريد "علاوي" تقديمها!
من واجبنا الآن، وكما أرى، هو التحري عن سبل إعادة الوحدة أو الائتلاف بين القوى اللبرالية والمستقلة والديمقراطية واليسارية في العراق لضمان التخلص من تلك القوى القيادية التي تتلون كالحرباء، وهو وصف دقيق وسليم لها، وتحاول شق وتفتيت وحدة القوى المعارضة للنظام بهدف خدمة الطغمة الحاكمة وبأساليب ذكية وغبية في آن واحد، ولكنها تعبر عن دور خارجي يريد الهيمنة الكاملة على القرار العراقي.
لنبادر أيها الأحبة والأعزاء في معسكر قوى الشعب إلى التفكير العميق والجاد بأهمية وحدة القوى لدعم نضالنا المشترك في الانتفاضة الشبابية والشعبية، الذكورية والنسائية ولتحقيق النصر المؤزر بالرغم من الصعوبات والمخاطر الجدية التي تعترض طريق الشعب صوب تحقيق هدفي "نازل أخذ حقي وأريد وطن".           

16
كاظم حبيب
المأساة والمهزلة في عراق اليوم
نشرت جريدة العالم العراقية خبراً تحت عنوان "النجباء تبدأ العد التنازلي للرد على القوات الأميركية" يوم الأحد - 16 شباط (فبراير) 2020. وقد مرَّ الخبر، كما يبدو، دون تعليقات أو إشارات أو احتجاج وإدانة، رغم ما يحمله هذا الخبر الموجز من مخاطر جدية على الشعب العراقي والوطن. والأخطر من كل ذلك يبرز فيما تضمنه هذا الخبر من تحدٍ وقحٍ وتجاوز صلفٍ على الدستور العراقي والقوانين المرعية وعلى الدولة والقوات المسلحة العراقية، إضافة إلى الإعلان الرسمي عن استخدام السلاح والصواريخ من ميليشيا مسلحة خارج القانون وخارج القوات المسلحة العراقية. إذ صرح المتحدث باسم الميليشيا الطائفية الإيرانية المسلحة، ميليشيا "النجباء!!"، نصر الشمري في تغريدة له على تويتر يوم السبت بأن هذه الميليشيا التي تعمل خارج القانون قد "أعلنت عن بدء العد التنازلي للرد العسكري على القوات الأميركية. يأتي هذا التصريح بعد يومين من استهداف صاروخ قاعدة عسكرية عراقية يتمركز فيها أميركيون شمال بغداد. وأدعى بـ "أن هذا القرار عراقي بامتياز، ولن يسمح بالتدخل لتأجيله من أي طرف داخلي أو خارجي"، وأن "الرد سيكون باسم عمليات الشهيد القائد جمال"، في إشارة إلى الاسم الحقيقي لأبي مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الذي اغتيل مع قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني بضربة أميركية في بغداد مطلع الشهر الماضي." (قارن: جريدة العالم 17/02/2020).
ان هذا القرار والتصريح، الذي ادلى بهما هذا الإرهابي الممثل لميليشيا إرهابية دموية وميليشيات أخرى مماثلة تحمل السلاح بدون غطاء شرعي متهمة بقتل الكثير جدا من العراقيات والعراقيين والمختطفات والمختطفين وممارسة التعذيب حتى الموت بكل نذالة، إضافة إلى حرق الخيام والهجمات المسلحة الليلية ضد المتظاهرات والمتظاهرين، لا يعبر عن استهانة كاملة بالدولة العراقية الهشة والمشوهة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، ولاسيما السلطات التشريعية والقضائية إلى جانب التنفيذية ومنها القوات المسلحة العراقية، فحسب، بل هو قرار إيراني صرف وبامتياز وتجاوز على الاستقلال والسيادة الوطنية، كما يعبر عن عمالة كاملة لإيران التي تريد عبر هذه الميليشيا وغيرها اثارة الإدارة الأمريكية وقواتها المسلحة في العراق للرد عليها بهدف إشاعة الفوضى والخراب في البلاد وتوفير الفرصة لتوجيه ضربة جديدة للانتفاضة الشعبية كتلك التي مورست ولا تزال تمارس في النجف والناصرية وبغداد وغيرها من مدن الوسط والجنوب. وتجاوزتها قوى الانتفاضة بكل بسالة وقوة وتحملت الكثير من الضحايا والعذابات.
إن مؤسسات الدولة العميقة المجرمة التي فرضت نفسها في العراق بقوة السلاح والدعم الدائم من الجارة الدموية إيران لهذه العصابات المنفلتة من عقالها والتي تمارس كل الجرائم بعلم ومعرفة وتأييد حكام العراقي الطائفيين ومنهم السفاح الخبيث عادل عبد المهدي والاستخبارات العراقية والمخابرات، والتي تريد الآن فرض رؤيتها على رئيس الوزراء الجديد الذي جاء بدعم وتأييد من كتلتي سائرون والفتح وامتلأ مجلس وزراءه دون أدنى ريب بمن ارتضتهما هاتين الكتلتين وقبل ذاك كسبت رضى إيران وخامنئها!
السؤال الذي يواجه كل العراقيات والعراقيين الشرفاء هو: أين هي السلطة القضائية والادعاء العام من إعلان ميليشيا طائفية مسلحة بشكل غير رسمي وخارج الشرعية الدستورية جهارا نهارا بأنها أطلقت صورايخ ضد مواقع عسكرية عراقية وضد السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء وبتحدٍ صارخ للدولة العراقية؟ هل يخشى القضاء والادعاء العام من سطوة هذه الميليشيات، أم إنها مشاركة معها لأنها قائمة على أسس طائفية وملتحمة بها وبمصالحها؟ ألا يستطيع أحد في هذه الدولة الطائفية الغارقة في الفساد أن يقدم احتجاجاً ويطالب باعتقال هذا المدعو نصر الشمري ويقدم إلى المحاكمة لينال جزاءه العادل ومن معه من ميليشيا النجباء التي تطلق الصواريخ على مؤسسات دولة لها حرمتها في العراق وعلى معسكرات القوات المسلحة العراقية؟
إن انتفاضة الشعب الجارية بحاجة إلى المزيد من الجهد والتعبئة الشعبية لكنس الطغمة الحاكمة كلها من بلاد الرافدين ودفعهم إلى حيث موالاتهم، إلى أسيادهم حكام إيران الذين لم يضطهدوا الشعب العراقي والشعب السوري وشعب اليمن فحسب، بل وقبل هذا وذاك شعب إيران العزيز بكل قومياته وأتباع دياناته واتجاهاته الفكرية والسياسية الديمقراطية. إن النظام الإيراني الطائفي الفاسد والاستعماري الجديد هو الذي أرسل للعراق هذه الحثالات والطفيليات التي شكلت ميليشياتها أما في إيران أو في العراق وأوكل لها مهمة ممارسة الإرهاب ضد الشعب العراقي لفرض النظام الثيوقراطي الدكتاتوري المماثل لنظامها في العراق، وكما هو حال ودور ميليشيا حزب الله اللبناني والعراقي وبقية الميليشيات المماثلة.
إن أي حكومة ترتضي وجود مثل هذه الميليشيات ليست بحكومة وطنية ولا تستجيب لمطالب الشعب الذي يريد حصر السلاح بيد الدولة، ويريد دولة ديمقراطية حديثة وعلمانية ولا يريد دولة ثيوقراطية مدمرة لهوية المواطنة وحقوق الشعب والوطن. إلى هذا يناضل الشعب ويتصدر المنتفضون والمنتفضات ساحات النضال النبيل رغم كل أساليب القتل والخطف وحرق الخيام والاستباحات الليلية والغدر بالإعلاميين البواسل الذين يضعون أمام الشعب حقائق ووقائع ما يجري في العراق يومياً على أيدي الحكم الطائفي الفاسد والمشوه والمقيت والدولة العميقة المجرمة بكل مؤسساتها وميليشياتها ومكاتبها الاقتصادية واللجان المختصة بالاغتيال والاختطاف والتعذيب.     
 


17
كاظم حبيب
شُلّت أيدي قتلة المناضلين في ساحات وشوارع العراق
مساء كل يوم تقوم عصابات الجريمة المنظمة، جميع عصابات الميليشيات الطائفية المسلحة الفاسدة وأحزابها الإسلامية السياسية الطائفية الغارقة حتى قمة رؤوسها في الجريمة دون استثناء، وكذلك الكتل السياسية التي تقف وراء هذه العمليات وتلك الأجزاء من قوات مكافحة الشغب التي تحمي هذه العصابات بدلاً من حماية قوى الانتفاضة الشعبية الباسلة، بقتل وجرح واختطاف وتعذيب عدد متزايد من المناضلين الشجعان في ساحات وشوارع النضال في بغداد وبقية محافظات الوسط والجنوب، وهي تعتقد بأنها قادرة على كسر شوكة الشبيبة المقدامة والشعب المساند لهذه الحركة الجماهيرية المتسعة باستمرار، في حين أنها تزيد نقمة الشعب وإصراره على مطالبه العادلة التي عبر عنها بوضوح كبير ووعي تام بما يريد.
إن أحزاب الإسلام السياسي دون استثناء لم تعد أحزاباً وطنية تدين بالولاء للوطن والشعب العراقي ولا حتى للطوائف الدينية التي تدعي تمثيلها لها، بل تحولت إلى عصابات لسرقة المال العام وشراء المناصب الحكومية بالمال والسحت الحرام وتدين بالولاء لإيران أو لأي جهة أجنبية أخرى. إنها سلبت حقوق الشعب واستباحته وسلطت عليه قوى أجنبية تقوم بعمليات إجرامية عبر ميليشياتها الطائفية المسلحة في أنحاء العراق حيث وصلت سيطرتها وسلطاتها الدموية. لم يعد سراً تلك المساومات الجارية على شراء مناصب الوزارات وعضوية مجلس النواب أو شراء أصوات النواب لتأييد مجلس الوزراء الجديد كما كان الحال في مجلس الوزراء السابق الذي ترأسه السفاح الخبيث عادل عبد المهدي، أو مجلس النواب ورئيسه محمد الحلبوسي.
ولم يعد سراً ما تقوم به المكاتب الاقتصادية للميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي في ابتزاز الناس والهيمنة على المشاريع الاقتصادية في البلاد وتحقيق أقصى الأرباح من المتاجرة بالمخدرات وأعضاء أجسام الناس الفقراء والمعوزين، ولاسيما الطفال. ولم يعد خافياً على أحد أرصدة حكام العراق في الدول الأجنبية ولاسيما في تلك الدول التي لا رقابة دولية على مصارفها وفي جزر نائية أيضاً، أو امتلاكها القصور والعقارات في مختلف بلدان العالم إضافة إلى ما تجاوزت عليه في العراق أو ساهمت في التغيير الديمغرافي لمناطق سكن المسيحيين وغيرهم.
لم يعد يعرف العراق أحزاباً إسلامية سياسية نظيفة اليد وعفيفة النفس وحافظة لكرامتها، بل تجاوزت قياداتها وكواردها الأساسية على كل القيم والمعايير الإنسانية، الدينية منها والدنيوية، وتحولت إلى قيادات تتسم بالدونية والسفالة والجريمة المنظمة. فهي لم تعد تستمع إلى صوت الشعب المرتفع منذ أربعة شهور ونصف تقريباً، بل تعمل بكل السبل المتوفرة لديها إلى خنق هذا الصوت بالقتل والاختطاف والتعذيب والتحييد عبر الإصابات الشرسة بكواتم الصوت أو الأسلحة البيضاء. لم تعد هناك قيادة في هذه الأحزاب والميليشيات تحترم الدين والمذهب اللذين تدعي الإيمان بهما، فهي عديمة الدين والمذهب، وإلا لما فعلت كل ما تفعله اليوم في العراق وتتهافت وتتصارع على المناصب وسبل شراء المناصب بأمل توفير الفرص المناسبة لمزيد من النهب والسلب وسرقة لقمة عيش المواطن والمواطنة.
نحن أمام مجموعة فريدة من البشر لم يتوفر مثيلاً ها حتى في إيران، هذه الدولة الثيوقراطية الدموية الفاسدة، لأن قادة إيران يعملون لمصلحتهم في إيران وليس لدولة أجنبية، في حين إن أحزاب الإسلام السياسي العراقية وميليشياتها الطائفية المسلحة ومكاتبها الاقتصادية تعمل لصالح إيران وتهرب الأموال لها ولكنها تعيش على أموال الشعب أيضاً وعلى فتات إضافة يأتيها من سيدها الإيراني علي خامنئي.
الحكومة الجديدة التي يراد تشكيلها محكوم عليها بالفشل التام لا لرفض الشعب وكل قوى الانتفاضة لها فحسب، بل لطبيعتها وأسس قيامها والمحاصصة السائدة فيها وتأييد إيران لها والبيت الشيعي الخرب الذي يشكل جوهرها، وهي بذلك لا تختلف عن حكومة الأسلاف الطالحة الجعفري ونوري المالكي وعادل عبد المهدي.
إن الشعب العراقي يطالب الرأي العام العالمي بمساندته في نضاله وبشجب السياسات التدميرية التي تمارسها الدولة العراقية الهشة والمشوهة، ويطالب المجتمع الدولي باتخاذ القرارات المناسبة لوضع حد للقتل اليومي للمناضلين والمناضلات في ساحات النضال الوطني والديمقراطي في العراق والمساعدة بالسبل المتوفرة للخلاص من هذا النظام الدكتاتوري ومن الأساليب الفاشية التي يمارسها في مواجهة مطالب الشعب الكادح والمستباح، سواء باستخدامه القوات العسكرية الرسمية أم مؤسسات عصابات الجرمة المنظمة للدولة العميقة والدولة الإيرانية.
إن الشعب يطالب القوات المسلحة العراقية أن لا تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يجري للشعب من استباحة وقتل وتهميش ونهب لثرواته، فهو يفترض أن يكون جزءاً من الشعب لا من الطغمة الحاكمة، أن يكون مع الشعب لا مع الطغمة الفاسدة، مع الكادحين لا مع من نهب وسرقة أموال وثروات العراق النفطية وتجويع الملايين من بنات وأبناء العراق. لقد مرّ الجيش بفترات قاسية فاستُخدم في الحروب الظالمة داخلياً وإقليميا وعانى الشعب من جراء ذلك، وعليه أن يدرك بأنه يزج اليوم وعبر هذا النظام الطائفي الفاسد في معارك ضد الشعب وبدعم من دولة عميقة قذرة، لهذا لا بد للقوات المسلحة أن تتعظ من الماضي البغيض أن تقف بكل حزم إلى جانب الشعب لتعزز انتفاضته السلمية الباسلة. 
 
         


18
كاظم حبيب
استراتيجية تكريس المحاصصة والهيمنة الإيرانية في العراق، فما العمل؟
ما هي استراتيجية العدو الداخلي والإيراني ضد انتفاضة الشعب؟
تشير أغلب المصادر المطلعة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية إلى أن الاستراتيجية السياسية للقيادة الإيرانية في العراق والشرق الأوسط تتجه بقوة أكبر، رغم ضعف الدولة الإيرانية المتفاقم، نحو تكريس نفوذها السياسي والعسكري الرسمي وغير الرسمي وتأمين استمرار تأثيرها الطائفي والاجتماعي وزيادة نشاطها الاقتصادي واستفادتها المالية في المرحلة الحرجة التي تمر بها في صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية. ويتركز نشاطها المتزايد صوب أربعة حقول أساسية على وفق ما انتهت إليه اجتماعات عديدة عقدت بين القيادة الإيرانية وقيادات الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية وقيادات ميليشياتها والحشد الشعبي في العراق، إضافة إلى ممثلين بارزين عن قيادة حزب الله في لبنان، وهي:
1-   تأمين وحدة الميليشيات الشيعية المسلحة المنضوية والفاعلة في تنظيم الحشد الشعبي، التابع اسمياً وشكلياً للقيادة العسكرية العراقية، وجعلها مجتمعة تحت القيادة الإيرانية الفعلية وفيلق القدس واختيار قائد نشط سياسي وعسكري عقائدي صفوي متمرس جديد يحل محل الجنرال قاسم سليماني ومساعده أبو مهدي المهندس. ويبدو أنهم حطوا الرحال مؤقتاً على محمد الكوثراني القيادي الميليشياوي في حزب الله اللبناني-الإيراني والعامل منذ فترة مع حزب الله العراقي-الإيراني. والمشكلة التي جابهتها القيادة السياسية والعسكرية الدينية الإيرانية في العراق تبلورت منذ فترة غير قصيرة بأن هذه الميليشيات وكذا الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، رغم تبعيتها وخضوعها التام والفعلي للاستراتيجية السياسية الإيرانية، تتصارع فيما بينها على مواقع القوة والنفوذ لتأمين أقصى ما يمكن من الربح المالي المتحقق لها بصيغ فساد كثيرة ومتنوعة، ولاسيما مكاتبها الاقتصادية بنشاطاتها المتعددة الجوانب. وإذ تحققت لها السيطرة الجزئية على هذا العامل، إلا إن المخاوف في تفجر هذه الصراعات وارد في كل لحظة، وهو ما تخشاه القيادة الإيرانية حالياً، وتبذل جهداً لتأمين قائد من هذا الوسط يساعدها في تأمين الخضوع له ولها أساساً. وهي تتحاور في ذلك منذ فترة غير قصيرة مع مقتدى الصدر ومع بقية القيادات بأساليب وأدوات مختلفة. وليس عبثياً ولا سراً تلك العوامل الكامنة وراء الاحتفاظ بمقتدى الصدر في قم وتحت رقابة خامنئي خلال الأسابيع المنصرمة، وتسليم القيادة الميدانية الفعلية لعناصر فاسدة تثق بهم ويعملون لصالحها في قيادة التيار الصدري، والتي برزت أخيراً كوجوه كالحة وسيئة جداً خلال مذبحة النجف في ساحة الشهداء (الصدرين سابقاً)، ومستعدة إلى ممارسة المذابح إن طلب منها ذلك.
2-   الإصرار على أن يكون رئيس الوزراء العراقي الجديد من مؤيدي سياسات إيران في العراق بلا تردد، بغض النظر عن الفترة التي تستغرقها عملية التفتيش عمن يقوم بهذا الدور. ويبدو إن موافقة إيران على محمد توفيق علاوي كانت مشروطة بموافقته على رعاية المصالح الإيرانية والتزامه الفعلي بذلك، والتي قدمها لها فعلاً، ولكنه اصطدم برغبات الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها التي كلها تريد الحصول على "حصتها" كجزء من "حصة الطائفة الشيعية" في تشكيلة الوزارة الجديدة، وبما يتناسب واستحقاقاتها النيابية. وهذا يعني رفضها التام للمطالب الأساسية للانتفاضة الشعبية العراقية التي بلغت حتى الآن 126 يوماً وقدمت المئات من الشهداء الأبرياء وعشرات الآلاف من الجرحى والمعوقين والمعتقلين والمختطفين والمعذبين.             
3-   استمرار الدعم المالي المتنوع القادم إليها من العراق لصالح تحسين نسبي في وضعها الاقتصادي المتدهور وزيادة استيراداتها السلعية، ولاسيما المنتجات النفطية والغازية وموقعاً لغسيل الأموال وعملة صعبة من مزاد بيع الدولار الأمريكي في العراق.
4-   العمل على إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق ليتسنى للوجود العسكري والسياسي والاقتصادي الإيراني إلى التكرس وجعل العراق جزءاً متمماً لاستراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط وجعله أحد الطرق الرئيسية لإمداد قواها الأخرى بالسلاح، لاسيما في لبنان وسوريا واليمن وغزة.. الخ.
هذا التقدير تؤكده الوقائع الجارية على الساحة السياسية العراقية يومياً، فما هو المطلوب من القوى المناهضة لهذه الاستراتيجية التي تريد من العراق أن يكون مستعمرة لإيران وبقرة حلوب لها أولاً، وأن يكون العراق جزءاً من استراتيجيتها السياسية في الهيمنة على دول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط باسم الدين والمذهب ولكن لمصالح اقتصادية توسعية إيرانية ثانيا؟ وهذه الأهداف لا تختلف بأي حال عن الأهداف الاستعمارية التوسعية للقيادة السياسية التركية الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط ومناطق الاحتلال العثمانية السابقة
ما هي أسباب ضعف الانتفاضة؟
يواجه الشعب العراقي وضعاً معقداً وصعباً للغاية. فانتفاضته الجارية منذ أكثر من أربعة شهور تواجه مصاعب جمة أشير إلى بعضها:
1.   عدم مساهمة الشعب الكردي بهذه الانتفاضة، إذ أعلنت القيادات السياسية الكردية تأييدها الشكلي لمطالب الشارع العراقي، ولكنها لم تسمح لحركة تأييد شعبية لقوى الانتفاضة بإعلان موقفها، بل وأعلنت تأييدها لعادل عبد المهدي، ومن ثم لمحمد توفيق علاوي شريطة أن يلتزم بالاستحقاقات الدستورية لإقليم كردستان، والتي لا أعتقد بأنها تتحقق في ظل غياب حقوق بقية سكان العراق من القوميات الأخرى.
2.   سكان المحافظات الغربية والموصل تهيمن عليهم الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة وحشدهم الشعبي التي تبدي استعداداً تاماً لقتل المزيد من البشر لوأد أي تحرك منهم تأييداً للانتفاضة الشعبية، مما يجبر الكثير منهم السفر إلى بغداد للمشاركة في الانتفاضة.
3.   رغم وجود بعض التنسيق والتعاون بين قوى الانتفاضة الشعبية في بغداد وبقية المحافظات، إلا إنها لم تشكل الهيكلية الضرورية لنضال قوى الانتفاضة ولا قيادتها اللازمة التي توحد الكلمة والأساليب والأدوات النضالية السلمية لمواجهة قوى الانتفاضة المضادة.
4.   المصاعب التي تواجه وحدة القوى الديمقراطية من ليبراليين وديمقراطيين مستقلين ويساريين في تشكيل جبهة موحدة تساعد على تعزيز صفوف قوى الانتفاضة الشعبية بغض النظر عن مدى قوتها وشعبيتها، فهي تبقى تيارات ديمقراطية مهمة قادرة بحكم سياساتها ومواقفها وخبرتها أن تلعب دوراً مهماً وتعزيزياً للانتفاضة، مع العلم بأنها تشارك اليوم ولكن كل على انفراد، وهو أمر جيد ولكن ضعيف بالقياس لما هو مطلوب. ومثل هذه الوحدة للقوى الديمقراطية يمكن أن تسهل تشكيل ائتلاف حقيقي فاعل وواسع النطاق في ساحات وشوارع النضال الراهنة في البلاد.
5.   ورغم وجود تحرك للرأي العام العالمي والمجتمع الدولي لدعم نضال الشعب العراقي المتمثل بانتفاضته الجارية، إلا إن هذا الدعم ما يزال قلقاً وضعيفاً بسبب ضعف التوازن الراهن في ميزان القوى الداخلي أولاً، والمصالح الاقتصادية التي تهيمن على الدول الكبرى واستعدادها على المساومة في غير صالح الشعب وانتفاضته ثانياً.
وما هي أسباب قوة الانتفاضة التشرينية؟
إلا إن في الانتفاضة الجارية من عوامل القوة ما يجعلها قادرة على تجاوز الصعوبات والتعقيدات المستمرة. فما هي عوامل قوة الانتفاضة الباسلة؟
تؤكد الأحداث الجارية منذ تشرين الأول حتى اليوم ان هناك عوامل ذات أهمية فائقة تكمن في قوة الانتفاضة التي يمكن بلورة أبرزها في النقاط التالية:
أولاً: شبابية القوى التي فجرت الانتفاضة الجارية وعمق وعيها ووضوح رؤيتها للأهداف التي تمس مصالح الشعب والوطن معاً.
ثانياً: والانتفاضة الباسلة نسائية أيضاً، حيث تشارك مع الرجل بوعي متحرر من قيود الزجر والقهر والتمييز، انتفاضة نسائية تؤكد "نازلة أخذ حقي" المسلوب، و"أريد وطن" مستباح حالياً. مشاركة النساء ف الانتفاضة تتعاظم يوماً بعد آخر وتجسد وعياً جديداً وعميقاً بما تعاني من استلاب لشخصيتها وإساءة لكرامتها وبؤس حياتها وتهميش دورها في الدولة والمجتمع والاقتصادي الوطني. إنها ثورة نسوية حقيقية تريد وضع المرأة في مكانها الحقيقي والمناصف باعتبارها تشكل نصف المجتمع والمعين الذي لا ينضب للحياة. إنها واحدة من أعظم مكاسب الانتفاضة الشعبية وأكثرها تميزاً واستكمالاً لدور الرجل في هذه الانتفاضة الباسلة
ثالثاً: سلمية الانتفاضة الشعبية وتحديها وصمودها أمام كل أنواع عنف الدولة الرثة والفاسدة وكل مؤسسات وميليشيات الدولة العميقة المجرمة وخداعها المكشوف والبائس.
رابعاً: استمرار هذه الانتفاضة طيلة الأشهر الأربعة المنصرمة وتفاعلها المستمر مع الأعداد المتزايدة للجماهير الشعبية المشاركة فيها، رغم تزايد عدد القتلى والجرحى والمعوقين والمعتقلين والمختطفين.
خامساً: عدالة القضية التي فجرت الانتفاضة وشرعية النضال التي يخوضها المنتفضون البواسل والمنتفضات الباسلات ودستوريته والتي تلخصت وتكثفت بشعارين "نازل أخذ حقي" و "أريد وطن".
سادسا: كسر نادر بل لا مثيل له وسلمياً لحاجز الخوف الذي نشرته الميليشيات الطائفية المسلحة ومؤسسات الدولة العميقة الأخرى على مدى 15 عاماً والجرائم التي ارتكبتها بحق الشعب خلال الفترة المنصرمة وحتى الآن.
سابعاً: افتضاح النهج الطائفي ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أولاً، وافتضاح دورها الشوفيني ضد أتباع القوميات الأخرى ثانياً، وافتضاح نهجها الاستبدادي الفكري المتخلف ضد أتباع الفكر والنهج السياسي الآخر ثالثاً، وافتضاح نهجها التمييزي المناهض للمرأة العراقية والذي تبلور في مشروع الفئة الضالة، مشروع الأحوال الشخصية الجعفري رابعاً، وافتضاح دورها في جعل العراق دولة مهمشة ومشوهة وتابعة لإيران وإصرار الطغمة الحاكمة الفاسدة والطائفية في جعل العراق شبه مستعمرة أو جزءاً من الإمبراطورية الفارسية الصفوية الجديدة خامساً، ودوسها اخيرا وليس أخرا على هوية المواطنة العراقية وكرامة الإنسان العراقي وتمجيدها المفتعل والقاتل للهوية الفرعية الطائفية الشيعية وإشاعتها صراع الهويات والقتل على الهوية.
سابعا: بداية مشجعة للتضامن العالمي على نضال الشعب العراقي في سبيل حرية وحقوق الشعب والوطن، سواء أكان على صعيد المجتمع الدولي، كما برز في بيان احتجاج 16 سفار أوروبية في بغداد ضد ضرب المنتفضين والمنتفضات في ساحات التظاهر في بغداد والمدن العراقية في جنوب ووسط العراق، من جهة، وتأييد متزايد من الرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وإمكانية تطويره وتصعيده من جهة ثانية.
ما العمل؟ 
من هنا يبدو لي بأن الحالة الراهنة يمكن أن تستمر، حتى لو تشكلت الوزارة الجديدة، التي ترفضها قوى الانتفاضة، فأن الوضع سيبقى قلقاً وصعب الحسم. فنحن بحاجة ماسة إلى إنجاز عدد من المهمات التي أرجو وآمل أن تناقش في صفوف قوى الانتفاضة والأوساط الشعبية بكل مكوناتها السياسية المعارضة للدولة الهشة والطغمة الحاكمة الفاسدة والمحاصصة الطائفية والراغبة في التغيير الجذري الفعلي لما يجري في العراق. المهمات، وكما أرى، كثيرة ولكن ألخص بعضها فيما يلي:
1.   إيلاء اهتمام متزايد بكل العناصر والجماعات والقوى مهما كانت صغيرة من أجل كسبها إلى جانب الانتفاضة وإشراكها في العملية النضالية الجارية، من خلال وضع مصالحها المباشرة كجزء حيوي من مصالح العراق وشعبه. فشعار "نازل أخذ حقي"، خط عام وسليم، يتضمن حقوقاً ومصالح كثيرة مسلوبة ومتوزعة على عدد كبير من الجماعات المهنية كالعمال والفلاحين والكسبة والحرفيين والطلبة والمثقفين والمثقفات والعاطلين والعاطلات عن العمل والأرامل واليتامى والعائلات الفقيرة والمعوزة، وشعار "أريد وطن" خط عام وسليم، ولكني يعني نريد وطناً لكل العراقيات والعراقيين، للعرب والكرد والكلدان والآشوريين والسريان والتركمان، وطناً لأتباع كل الديانات والمذاهب الدينية والفكرية غير العنصرية وغير الطائفية، نريد وطناً لا تنتهك سيادته واستقلاله الوطني من إيران وتركيا، كما عليه الحالة الراهنة، ولا من أي دولة أخرى، نريد وطناً لا تدوس أرضه قوات أجنبية دون موافقة الشعب العراقي، بل نريد وطناً خال من كل عسكري أجنبي بصورة شرعية أو غير شرعية. من هنا تكون المهمة وطنية وديمقراطية من جهة، وتمس مصالح كل الشعب ومكوناته الطبقية الاجتماعية والمهنية من جهة أخرى.
2.   بذل المزيد من الجهود لتوحيد أساليب النضال الراهنة والتصعيدية من خلال إيجاد هيكلية فاعلة وقيادة موحدة وفاعلة ومؤثرة في ساحات وشوارع النضال اليومي لقوى الانتفاضة الشعبية، إذ بدونهما يتعذر تحقيق ما يصبو له المنتفضون والمنتفضات.
3.   إن يجد المنتفضون والمنتفضات لغة مشتركة مع القوى والأحزاب السياسية التي وقفت منذ اللحظة الأولى إلى جانب قوى الانتفاضة وأهدافها، فهي جزء من قوى الانتفاضة ولا يمكن بأي حال تجنبها، وهي مشاركة فعلاً ولكن لا بد من إنشاء ائتلاف وطني يضم كل ساحات وشوارع النضال الجاري لتحقيق النصر في هذه الانتفاضة الباسلة.
4.   إن عملية كسب القوات المسلحة العراقية لا يعني حمل السلاح ضد النظام السياسي القائم، بل يعني مسألتين أساسيتين هما: إعلان رفضهم توجيه نيران بنادقهم وهراواتهم ضد المنتفضات والمنتفضين أولاً، وإعلام الطغمة الحاكمة بأنهم يقفون إلى جانب مطالب الشعب، وأنهم غير مستعدين للدفاع عن نظام فاشل وسيء انتفض الشعب لتغييره ثانياً. ولا شك في أن هذا سيعني إعلام السلطة بأن وجود التشكيلات الطائفية المسلحة وممارساتها العدوانية المجرمة هو تجاوز على احتكار الدولة للسلاح وخلق قوة موازية للقوات المسلحة تجسد مصالح الدولة العميقة الشريرة والمرفوضة من أي دولة تحترم نفسها وتحترم قواتها المسلحة وشعبها.
5.   إيجاد ممثلين ومكاتب لقوى الانتفاضة الشعبية في جميع دول العالم أو حيثما وجد عراقيون وعراقيات فيها للقيام بمهمات توضيح ما يجري في العراق ودعم الانتفاضة وجمع التبرعات المالية والعينية لتغطية بعض احتياجاتها. إن مثل هذه المهمة ستسهم في توحيد الجهود وصبها في نهر واحد يصل إلى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي من جهة، وإلى المنتفضات والمنتفضين من جهة أخرى. وربما يمكن إصدار نشرة في الخارج وبلغات عدة لهذا الغرض ومن مكتب إعلامي موحد يتفق في تشكيله مع ساحات النضال الداخلي. ليس هناك من لا يدرك بأن المهمة المركزية لتغيير الوضع في البلاد هي بيد قوى الانتفاضة الشعبية في الداخل، فهم الذين يواجهون بصدورهم نيران الطغمة الحاكمة ويقدمون أغلى التضحيات في سبيل تحقيق النصر المؤزر في هذه المعركة الوطنية الباسلة. إلا إن لقوى المعارضة في الخارج ومن جميع الاتجاهات السياسية الوطنية والديمقراطية واليسارية يمكن ان يكون لها دورها المهم والكبير حين تتوحد الجهود وتتوجه لتشكيل لجنة عالمية شبيهة بلجنة "برتراند رسل" لدعم نضال الشعب العراقي للحصول على تأييد الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، وأن تبتعد هذه المكاتب عن النظرات الضيقة في العمل السياسي، فالمهمة ليست حزبية ولا شخصية، بل هي مهمة وطنية يتنافس الجميع على تقديم الأفضل لتحقيقها وليس لحلول بعضهم على حساب ودور البعض الآخر.                                     

19
كاظم حبيب
                                     
ليس من مصلحة أحد الإساءة للأستاذ الدكتور فارس نظمي
نحن الآن أمام موجة سخط شديدة غير مبررة ضد باحث علمي وأكاديمي متميز وكاتب شفاف انجز الكثير من الكتب المهمة في تحليل طبيعة وسلوكيات احزاب الإسلام السياسي والمجتمع العراقي وعرّى مواقفها المناهضة للفكر الإنساني الحر وناقش الكثير من أطروحاتهم البليدة والتي عفا عليها الزمن. كتب يعبر عن وجهة نظره الفكرية والسياسية برؤية مستقلة وبعيدة عن رؤية الأحزاب السياسية القائمة بالعراق لأنه غير حزبي وعالم في علم النفس الاجتماعي ومؤسس جمعية علم النفس السياسي. كاتب لامع ومحلل نفسي محترم له وجهة نظر في الوضع السياسي الجاري في العراق احترمها رغم اختلافي معه، وهو يحترم وجهة نظري بشأن الوضع في العراق رغم اختلافه مع رأيي. لم نكتف بالاحترام المتبادل فحسب، بل تجمعنا صداقة متينة واعتزاز بقدرته الممتازة على البحث والتحليل والتدقيق والجرأة المطلوبة في طرح وجهة نظره. مثل هذا الشخص الباحث يفترض ان نحترم رؤيته للتطور الجاري في العراق ونعتز به وأن اختلف بعضنا معه، فأن اختلف بعضنا معه اليوم،  فيمكن ان يتفق  معه غداً، لأننا نقف جميعاً نقف اليوم في موقع واحد، ودربنا الطويل واحد وهدفنا في المحصلة النهائية، وأن تباينًا في رؤية التحالفات المطلوبة، حرية العراق وشعبه والمستقبل الزاهر لأبناء العراق وأجياله القادمة.
إن الرسالة الموجهة من الصديق الكاتب جاسم المطير كان ممكن ان تتوجه للثلاثي المذكور بصورة شخصية لتبادل وجهات النظر والبحث المعمق في الوضع القائم وبأسلوب تناول اخر بعيدا عن الشخصية المباشرة. ولو كنت مكان الصديق جاسم المطير لكتبت الرسالة بصيغة أخرى، ولكني لا أستطيع فرض رؤيتي عليه أو أسلوبي في معالجة مثل هذه القضايا التي تستوجب الكثير من العناية والتدقيق والابتعاد عن جرح المشاعر الشخصية. اختلفت مع الصديق الدكتور فارس نظمي في مقالي الذي نشرته مباشرة يوم 10/02/2020   ووجهت له النقد بطريقة ودية بعيدة عن التشنج والإساءة، فهو منا نحن الديمقراطيون وليس غريبًا عنا دبل علينا التعامل بود في النقد لمن هو من غيرنا أيضا.  إن ما يحصل اليوم هو خارج إطار كل الاعتبارات الي يفترض ان نحترمها. فليس صوابا توجيه الاتهامات بالعمالة لدى الصدر أو أنه يكتب لقاء اجر مدفوع الثمن أو غيرها من الكلمات غير اللائقة والمسيئة والمرفوضة التي توجه للزميل والصديق الدكتور فارس نظمي وتتداول في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي كثيرة. من يختلف معه عليه ان يكتب ويبرر أسباب الاختلاف لإقناع الآخرين، في حين ان الشتيمة والتهم الجاهزة لا تقنع احداً بل تسيء لقائلها أكثر بكثير مما تسيء لمن يراد شتمه دون حق. كم أتمنى وأرجو ان نكف عن هذا الأسلوب الزجري إزاء من نختلف معه حتى لو جاء في رأيه ما أغاظني أو أغاظ غيري، لأن هو الآخر يشعر بأنه قد تعرض للإغاظة والإساءة، في الوقت الذي توقف الزميل نظمي عن الرد والكتابة بهذا الصدد. لنكن أكثر حكمة وأكثر ودًا إزاء الرأي الآخر وأكثر ابتعادا عن توجيه اتهامات زائفة وجارحة وغير مبررة أصلاً.
 


20
كاظم حبيب
نداء عاجل وملح
دعونا نتحاور بود وحرية، دعونا ننتبه لمهماتنا العاجل!
أشرت في آخر مقال لي إلى إن شعبنا العراقي يمر بمرحلة مفصلية معقدة وشديدة الصعوبة. وهذا يعني بكل شفافية ووضوح إننا جميعاً بحاجة إلى المزيد من البحث العلمي والمتابعة اليومية للأحداث الجارية والتدقيق بسياساتنا ومواقفنا إزاء الكثير من الإشكاليات والمشكلات التي تواجهنا محلياً والتي تلعب فيها وعليها الكثير من العوامل والقوى والدول العربية والإقليمية والدولية. إن مثل هذا التوجه ليس ترفاً بل ضرورة موضوعية وحاجة ماسة لا تهم حزباً أو جهة سياسية معينة، أو باحثاً علميا أو كاتباً أو إعلامياً أو سياسياً معيناً، بل هي مهمة الجميع أياً كان النهج أو السياسة التي يمارسها هذا الحزب أو ذاك وهذا الباحث او السياسي أو ذاك. كما نحن بحاجة إلى النقد البناء والموضوعي والهادف إلى التحسين والبناء أولاً وقبل كل شيء. وهذا الأمر على ما أرى، يمس كل القوى والشخصيات الوطنية الدمقراطية واليسارية واللبرالية دون استثناء.
ولكن ما نحن لسنا بحاجة إليه كلية هو العراك السياسي بالكلمات وبالإساءات المتبادلة وبالتشنج وردود الأفعال الأكثر تشنجاً، وبالتالي سنصل إلى عواقب وخيمة بحيث نسلخ جلودنا دون أن ندرك ذلك ونفقد البوصلة التي ينبغي أن نهتدي بها دوماً.
أدرك من الأعماق بأن الديمقراطيين واليساريين حين يختلفون في المواقف السياسية فهي نتيجة لتحليلهم وتقديراتهم لمصالح الشعب أو الفئات الاجتماعية الوطنية التي يسعون إلى تمثيلها والدفاع عن مصالحها، وليس العامل الذاتي هو الدافع أو المحك في ذلك. وفي ضوء هذا التقدير فأن الاختلاف في الرأي ليس رذيلة بل فضيلة، لاسيما وأن فضيلة الاختلاف تفتح باب الحوار والنقاش السلمي الهادئ والموضوعي وليس المهاترات والإساءات المتبادلة والتخوين والاتهام بالعمالة أو مقابل أجر أو ما شاكل ذلك من تهم لا معنى ولا مبرر لها ولا تخدم الجميع، بل تسيء حتى لكاتب مثل هذه الاتهامات. كلمات الإساءة ليست حكراً أو محصورة بشخص أو حزب، بل يمكن أن يستخدمها الجميع. ولكن الكلمة النقدية الصادقة والهادئة والموضوعية والبناءة هي الصعبة وهي المطلوبة منا وبيننا نحن الذين نطلق على أنفسنا بصواب بأننا ديمقراطيون أو يساريون أو شيوعيون.
اعتقد بأن المرحلة الراهنة تتطلب منا جميعاً الكف عن تشديد حملة الإساءات المتبادلة الجارية حالياً بين رفاق الدرب الطويل والنضال المرير والمشاركين في ثورة تشرين 2019 الباسلة حول الموقف من الصدريين وسياساتهم وأدوارهم التي نتفق جميعاً على إنها متقلبة ومؤذية في تقلباتها على أقل تقدير. يمكن أن يستمر هذا النقاش ولكن بطرق وأساليب أخرى غير التي تتمارس الآن من البعض وليس من الكل. إذ ليس من مصلحة الحركة الديمقراطية واليسارية العراقية الغوص في ذلك، بل التهدئة ضرورية وملحة. إذ ليس بالقوة يمكن تغيير هذا الموقف او ذاك لهذا الحزب أو ذاك الباحث أو السياسي ...الخ، بل يمكن تغيير المواقف بالحوار الفكري والنقاش السياسي واعتماد التحليل المادي الجدلي للأوضاع في العراق وللعوامل الفاعلة فيه والمؤثرة عليه محلياً وعربياً وإقليماً ودولياً.
أملي ورجائي أن لا ننجر أكثر فأكثر وراء من يريد تنشيط العراك الفكري والسياسي المتشنج بيننا ونبتعد عن إدارة الصراع الفكري والسياسي بين القوى الديمقراطية بروح ثورية وعقل مفتوح ورغبة صادقة في الوصول إلى ما يساعد شعبنا على اختيار الطريق الأصوب في النضال وفي التحالفات السياسية وفي التكتيكات اليومية لمواجهة الطغمة الحاكمة الطائفية الفاسدة. لم أكتب هذا النداء برغب ذاتية فحسب، بل وعلى وفق رجاءات كثيرة وصلتني من أحبة مخلصين من داخل الوطن المستباح ومن الخارج أيضاً.
أعداؤنا فرحون بما نحن فيه الآن، ولاسيما في كل ما ينشر من أفعال كتابية وردود أفعال كتابية غير متزنة، ويتمنون أن يصل هذا الصراع إلى ساحات وشوارع النضال ويتحول إلى شيء غير الكلمات، وهو أمر سيكون بالغ الضرر ومريع، وعلينا رفضه وتجنبه كلية ما دام هدفنا المركزي هو تغيير هذا النظام السياسي الفاشي الجائر الذي انتهك كل الحرمات وقتل أكثر من 730 مناضل وجرح وأعاق أكثر من 26 ألف مناضل واعتقل الآلاف واختطف المئات من خيرة شبيبة العراق من الإناث والذكور. لنتوحد على طريق النضال ونواجه العدو بوحدة نضالية صلدة ونناقش خلافاتنا بحيوية، ولكن بود وموضوعية ورحابة صدر وهدوء. إنه ندائي إلى الأحبة جميعاً في ان نركز جهدنا للشعارين المركزيين اللذين أطلقهما ثوار تشرين 2019 الشجعان: "نازل أخذ حقي، وأريد وطن"!     
           

21
كاظم حبيب
نحو حوار هادئ وموضوعي بين القوى الديمقراطية واليسارية
يمر العراق بمرحلة سياسية واجتماعية مفصلية صعبة ومعقدة. فالصراع الجاري في البلاد ليس محلياً فحسب، بل إقليمياً ودولياً أيضا، وليس دينياً ومذهبياً فحسب، بل وبالأساس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أو طبقياً، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، أي بين الفات الاجتماعية الكادحة والفقيرة والعاطلة عن العمل والمهمشة من جهة، وبين الفئة الطفيلية الطائفية الفاسدة الحاكمة والسارقة لخزينة الدولة وثروة المجتمع من جهة أخرى. هذا الواقع المعقد، حيث لا يزال ميزان القوى يميل من الناحيتين العسكرية والمالية لصالح الطغمة الفاسدة الحاكمة، فأن من مصلحة القوى الديمقراطية بكل أطيافها واتجاهاتها وتطلعاتها، بما فها القوى اليسارية، والحزب الشيوعي منها في الصدارة، ممارسة الحوار الفكري والنقاش السياسي حول مجرى تطور الأوضاع منذ إسقاط الدكتاتورية حتى الآن والنهج الذي مورس ويمارس اليوم من جانب كل القوى والأحزاب السياسية لا من باب التخوين والإساءة أو الاستفزاز وفقدان الهدوء والموضوعية والتصور بامتلاك الحقيقة كلها، بل من منطلق التعمق في الرؤية الواقعية والتحليل الجدلي لواقع العراق والتحولات الجارية فيه من النواحي الاجتماعية ودور الدين والمذاهب في مجمل العملة السياسية الجارية، إضافة إلى الدور الخارجي، الإقليمي والدولي الكبيرين، للوصول إلى رؤية مشتركة أو متقاربة، أو حتى في حالة عدم الوصول إلى رؤية مشتركة، الاحتفاظ بالاحترام المتبادل وعدم الإساءة المتبادلة واستخدام لغة غير لغة الحوار الحضاري المنشود.
هناك دون أدنى ريب فارق بين تحليل الأفراد للوضع السياسي القائم وما يتوصلون إليه من استنتاجات وسياسات، وبين تحليلات واستنتاجات وسياسات الأحزاب السياسية. والفارق الأول والمهم يبرز في جماعية التحليل والتشخيص والمسؤولية التي تتحملها الأحزاب بكل قيادتها وكوادرها وأعضاءها عن النتائج التي تتوصل إليها وتمارسها عملياً، وبين مسؤولية الأفراد التي يتحملونها بمفردهم وليس فيها بالضرورة عواقب وخيمة على عدد أكبر من الأفراد أو المجتمع. ولكن التحليل العلمي الجدلي المسؤول، سواء مارسه الفرد أم هذا الحزب أو ذاك من القوى الديمقراطية واليسار له أثار معينة على الأفراد والأحزاب والمجتمع. ولا شك في أن من هم في الداخل تتوفر لهم معلومات ومستلزمات التحليل والتشخيص أكثر ممن هم في الخارج، رغم إن هذا الرأي ليس بشكل مطلق بل نسبي واحتمال الخطأ والصواب في الجانبين وارد. ولهذا من غير المناسب لباحث علمي أن يتعكز على وجود باحثين وكتاب في الخارج يرون الوضع غير ما يرونه من هم في الداخل، لشن هجوم لا مبرر له، بل إن الطريق الوحيد والصائب هو الحوار الهادئ والموضوعي بعيداً عن التشنجات والإساءات المتبادلة التي لا تثمر غير تشنجات إضافية لا معنى ولا مبرر لها أصلا. فالوضع السياسي في العراق معقد إلى الحد الذي يمكن أن تبرز فيه وجهات نظر متباينة بحكم الكثير من العوامل الفاعلة والمؤثرة الآنية المتحركة منها والثابتة نسبياً، الداخلية والخارجية، إضافة إلى الخلفيات التاريخية والثقافية والاجتماعية، ثم العوامل الخارجية المؤثرة في كل ذلك.
الحزب الشيوعي العراقي حزب ثوري، وله تاريخ مجيد يمتد طوال 86 عاماً بالتمام والكمال، وأبرز ما في هذا الحزب استمرارية نضاله طوال هذه الأعوام دون انقطاع ولمصلحة الشعب، ولاسيما كادحيه، والوطن، كما إنه يمتلك نظرية علمية تساعده على التحليل المادي للأوضاع. وفي هذا لا يختلف إلا من يقف في صف طبقي آخر أو أعداء الحزب أو غير المطلعين على تراثه ونضاله وشهداء الحزب الأماجد. والحزب الشيوعي العراقي يمارس السياسة اليومية، وبالتالي فهو بحاجة إلى مراقبة سياساته يومياً وإجراء التغييرات الضرورية على تكتيكاته اليومية، بل وتحالفاته وائتلافاته السياسية. وإذا كانت العقود المنصرمة قد أكدت على الكثير من سياسات الحزب الشيوعي الصائبة، فأنه قد ارتكب أخطاءً أيضاً كلفت الحزب الكثير من المشاق والأذى. وهذي الحقيقة تعبر عن واقع فعلي هو أن من يعمل يمكن أن يصيب ويمكن أن يخطئ، ومن لا يعمل هو المخطئ الأكبر. وعليه لا يحتاج الحزب الشيوعي إلى رقابة ذاتية على سياساته من جانب قيادته وكوادره وأعضاءه فحسب، بل ومن القوى الديمقراطية واليسارية المحيطة بالحزب المتأثرة بسياساته والمؤثرة فيها، بل يمكن أن تأتي الرقابة من مختلف الأوساط الشعبية، وهي مهمة وضرورية. ومثل هذه الرقابة ليست ضرورية فحسب، بل ومهمة جداً للحزب الشيوعي العراقي وصواب سياساته وشعبيتها.
هذا يعني إن الحزب الشيوعي يفترض أن يعرف بأنه معرض للنقد من جانب رفاقه ومن جانب المحيط الديمقراطي واليساري، كما إن القوى والعناصر الديمقراطية واليسارية يفترض أن تعرف بأنها هي الأخرى تكون معرضة لنقد الحزب ورفاقه. إذ بدون هذه الرؤية الحوارية والنقدية المتبادلة يصعب التفاهم والعمل المشترك أولاً، كما يفترض أن ندرك بأن ليس كل النقد المتبادل هو بالضرورة صائب وصحيح ثانياً. ولكن كما هو معروف "رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب". بهذه الرؤية الحضارية يمكننا أن نجد طريقاً سليماً لعملنا المشترك.
الحزب الشيوعي العراقي وكل القوى والعناصر الديمقراطية واليسارية تعمل في الشأن العام. ومن يعمل في الشأن العام معرض للرقابة والنقد، والتأييد أو المعارضة. ولهذا يفترض أن نحتفظ بالرؤية الهادئة والموضوعية إزاء النقد المتبادل، فهو ضروري جداً لأنه ينير طريق السائر دوماً في نضاله المعقد والصعب كالحزب الشيوعي وكل قوى اليسار والديمقراطية.
إن الوضع الراهن في العراق قابل للتباين الشديد في وجهات النظر، وعلينا أن يتقبل بعضنا الآخر دون تخوين أو إساءة، ولا اتهامات مسيئة ومرفوضة من باحث علمي له وزنه الكبير، كما جاء في مقال صديقي الفاضل الأستاذ الدكتور فارس نظمي الموسوم "بعد 6 عقود من موسوعة ذبحهم في 8 شباط.. الشيوعيون الميدانيون في قلب الحراك الثوري التشريني ...! في ملحق جريدة المدى "الاحتجاج" بتاريخ 09/02/2020 ما يلي:   
"فقد شهدت الأيام الأخيرة اشتداد حملات السخرية والتخوين والتأثيم التي يمارسها بتلذذ بعض فرسان الكيبورد من مدنيين و"يساريين" أغلبهم يقطن في المنافي الدافئة، إذ يكرسون وقتهم للتشهير والتهكم والتنكيل اللفظي، ومحاولة التذاكي الأيديولوجي الديماغوجي عبر التلاعب السمج بالمفردات والأفكار والمفاهيم، لإظهار "خطايا" الشيوعيين الميدانيين في الداخل. هؤلاء يستميتون للبحث عن دور مفقود أو هوية غائبة بعثرتها الأيام، عبر محاولة إظهار أهميتهم المفقودة بتبخيس قيمة الآخرين الفاعلين حقاً في الميدان، مستخدمين منصات التواصل الاجتماعي لممارسة التشهير التسقيطي لبعض الأسماء أو التكفير الأيديولوجي الضمني، دون أن ينتابهم أي شعور بالذنب يدفعهم لترك حياتهم المستقرة والالتحاق بالميدان حيث قنابل الغاز والرصاص الحي والتغييب وغرف التعذيب."..!
في الوقت الذي أعرف جيداً بأن الحزب الشيوعي العراقي وعموم اليسار والديمقراطيين يخوضون نضالاً في أوضاع صعبة ومعقدة وخطيرة وأعطوا الكثير من الشهداء الأبرار، وفي الوقت الذي أرفض أي إهانة أو تخوين للحزب الشيوعي العراقي أو أي رفيق فيه أو أي عنصر من قوى اليسار العراقي بسبب سياساته ونهجه مهما اختلف هذا أو ذاك معها، أرفض في الوقت ذاته هذا الأسلوب وهذه المفردات القاسية التي مارسها الصديق في الإدانة والإساءة، إذ إنها ليست لغة للحوار الديمقراطي الحضاري والنقد البناء. أتمنى وأرجو أن نعود جميعاً إلى الصيغة الديمقراطية المعروفة في النقد والنقد الذاتي وفي التعامل الودي عند الاختلاف والإصرار على ممارسة النهج الديمقراطي في الحوار وفي النقاشات السياسية الجارية.

22
كاظم حبيب
القتلة يوغلون بدماء الشعب العراقي، وسيكون النصر للشعب
الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي يرى لوحة مريعة وبشعة وإجرام متفاقم، ويسمع أصواتاً وقحة وكتابات هستيرية من قوى الطغمة الحاكمة في العراق ومن قوى ومؤسسات الدولة العميقة التي تقودها قوى الطغمة الحاكمة ذاتها ومعها إيران بكامل قواها الشريرة وقيادتها الجائرة على شعبها وشعبنا في آن واحد. هذه القوى البشعة لا تهدد المنتفضات والمنتفضين بالموت فحسب، بل تمارس القتل يومياً وتغوص في دم العراقيات والعراقيين وتطاردهم وتعتقل الكثير من الشبيبة المقدامة وتحرق خيامهم في ساحات النضال في محاولة يائسة وقذرة لقمع صوت الحق والوطنية، صوت الشعب الذي يطالب بالحقوق وبوطن مستقل وآمن وغير مستباح. هذا الواقع يؤكد عمق وشدة الصراع الاجتماعي الذي طفح بقوة وصراحة على سطح الأحداث، فالقوى الكادحة والفقيرة والمعوزة، والقوى المثقفة الواعية والمدركة لما يجري في العراق وكل الواعين والخيرين من أبناء وبنات الشعب والطلبة الذين يتابعون ويواجهون النهب السلب والبطالة الواسعة والفقر المدقع والحرمان من الحياة الآمنة والعيش الكريم والبيئة النظيفة والخدمات الأساسية، في مواجهة فئة ظالمة سارقة للمال وناهبة للخيرات وموغلة بالجريمة ضد المجتمع وبائعة الوطن للغير. إنها اللوحة الصارخة لصراع اجتماعي متفاقم بين الغالبية العظمى من الشعب وبين تلك الفئة الثيوقراطية التي لم تعد تفكر إلا في سبل البقاء في السلطة والهيمنة التامة على المال ونهبه والسيطرة على المجتمع لصالح سيدها المشارك في قتل العراقيات والعراقيين والمنطلق من حدود البلاد الشرقية، من إيران التي يعيش شعبها في الظلمتين.
لقد كشفت قوى الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة عن دورها المخزي والدموي وهيمنتها الفعلية الكاملة على قيادة ودور ونشاط الكثير جداً من قوى الحشد الشعبي، إضافة إلى دور مكاتبها الاقتصادية المافيوية التي تبتز الشعب وتستنزف موارد البلاد المالية وخيراته. إنها القوى التي خرجت بالأمس تهدد الشعب بالويل والثبور، بإسكات صوت الشعب، ولكن غاب عنها بأن صوت الشعب كان وسيبقى هو الأعلى وهو القادر على إسكات تلك الزعانف وأولئك القتلة الذين يغتالون الناس غيلة وتحت غطاء حكومي مكشوف ولم يعد من يتستر عليه حتى السفاح العار عادل عبد المهدي يعرف ذلك ويعرف الدور الذي رسم له في هذه المهزلة والمأساة العراقية المريعة.
إن إيران تريد، بما قام به الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة من هجوم على السفارة الأمريكية وإحراق وتدمير بعض البنايات ومحاولة الولوج إلى داخل السفارة، إلى إشعال حرب إيرانية أمريكية على الأرض العراقية وبقوى شعب العراق وبعيداً عن الحدود الإيرانية، إنها جريمة مبيتة، وهي الخطة رقم 3 لإيران بعد فشلها في الخطتين رقم ا و2. ولكن الثوار الأشاوس سيتصدون للأوباش من الميليشيات الطائفية المسلحة ومن معهم من الطغمة الحاكمة ويكنسون أرض العراق من رجسهم ودنسهم ووحشيتهم في التعامل مع المجتمع العراقي.
إن المعركة الراهنة الجارية تؤكد تبلور مستمر ومتصاعد في اصطفاف جديد وفعلي في القوى المتصارعة، بين معسكرين: معسكر الشعب، وهو الكتلة الكبرى والثائرة بسلمية تامة، ومعسكر أعداء الشعب، وهي الكتلة الأصغر والمسلحة حتى الأسنان والمسندة من إيران وحزب الله في لبنان، إنه الصراع بين قوى الخير وقوى الشر، بعد أن بدأت ودون رادع أو وازع من ضمير وذمة إلى استخدام قوات الشغب الحكومية وقوى الصد ...الخ وكل القوى الشريرة الأخرى الفاعلة معها بكل مسمياتها الرسمية وغير الرسمية، الرصاص الحي وبكثافة كبيرة في مواجهة المتظاهرات والمتظاهرين وقتل وجرح الكثير منهم في أغلب محافظات العراق. لقد تكاثر عدد المتظاهرين والمتظاهرات يعلنون إصرارهم الحازم، رغم المطارة والاختطاف والاعتقال والتعذيب والقتل الغادر، على مواصلة النضال لتحرير الأرض العراقية من رجس الحكام الظالمين والفاسقين والقتلة المجرمين.
ولا شك في أن هذه المعركة ستفرز الصالح من الطالح وستجبر الكثير من السائرين وراء القوى الظالمة حتى الآن إلى إعادة النظر في مواقعها ومواقفها والانخراط في صفوف الشعب وحمل الأعلام العراقية بسلمية لإسقاط الدكتاتورية الغاشمة الحاكمة في بغداد.
الخزي والعار والانكسار لحكام العراق القتلة،
النصر لثوار العراق والمجد والخلود لشهداء الوطن والشعب، والشفاء العاجل للجرحى والمقعدين.
سيبرهن الشعب صواب قول الشاعر:
وإذا تشابكت الأكف فأي كف يقطعون..
وإذا تعانقت الجموع فأي درب يسلكون..             


23
كاظم حبيب
الموقف الوطني من الوجود الأجنبي في العراق
ما تميز به نضال الشعب العراقي خلال القرن المنصرم ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الوقت الحاضر هو النضال المستمر والموثق ضد كل أشكال الوجود الأجنبي في البلاد وضد المعاهدات والاتفاقيات والأحلاف العسكرية الدولية الثنانية والمتعددة الأطراف. وقد تم التعبير عن ذلك على وفق أساليب متنوعة، بما فيها الثورية التي تجلت في ثورة العشرة وثورة الكرد بقادة الشيخ محمود الحفيد أو في المعارك السياسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ومنها وثبة كانون 1948وانتفاضي تشرين 1952 و1956 ثم ثورة تموز 1958. كما تميز نضال الشعب من اجل الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والمرأة في آن، والتي كانت ضد الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي وضد الحروب والحصر والمجاعات. فالشعب بقواه الحية والواعية لم يكن يوماً مع احتلال الوطن أياً كان المحتل ولا مع الاستبداد والقهر. وهذا الموقف هو الذي يتصدر الموقف حالياً في نضال الشعب العراقي الذي طرح شعارين بارزين وأساسيين هما "أنزل أخذ حقي" و"أريد وطن"، لأن الحقوق مغتصبة من الطغمة الحاكمة والوطن مستباح بوجود قوى أجنبية بصورة رسمية أو غير رسمية. وإذ كانت قوى أجنبية موجودة باتفاقيات رسمية مع الحكومة العراقية، كما هو حال قوى التحالف الدولي لمناهض لدعم واتفاقيات أمنية بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، فأن هناك وجوداً أجنبياً مهيمناً على الساحة العراقية كلها، وهو وجود غير رسمي وتدخل مباشر في الشؤون العراقية كلها.
والموقف الوطني السليم هو أن نتخلص من وجود القوى الأجنبية من خلال وجود حكومة وطنية ديمقراطية تستجيب لإرادة ومصالح الشعب أولاً وقبل كل شيء، ووجود مجلس نيابي وطني ونزيه، وهما اللذان يأخذان على عاتقهما وجود دولة ديمقراطية علمانية قوية لتمارس دورها في الدخول مفاوضات سلمية سياسية ودبلوماسية لإنهاء أو عقد اتفاقيات ثنائية جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وإنهاء الوجود الإيراني وتوابعه في العراق أيضاً. من هنا يبرز أمامنا الخطأ الفادح في وضع الأجندة من قبل التيار الصدري من حيث المهمات والزمن والتي تحاول قوى أخرى الاستفادة من ذلك للهجوم على الانتفاضة الشعبية الجارية منذ أكثر من ثلاثة شهور وصف الشهر. فالحكومة الوطنية ومجلس نواب وطني نزيه منتخب بإرادة عراقية وبعيد عن المحاصصات الطائفية والفساد يأخذان على عاتقهما إنهاء وجود الدولة العميقة في البلاد بكل صور وجودها العسكري والأمني غير الرسمي والاقتصادي والمافيوي والاجتماعي والإعلامي ... الخ، وتعزيز الدولة الديمقراطية بسلطاتها الثلاث. 
إن الموقف من وجود القوات الأجنبية في العراق يخضع لقرارات الشعب وحاجات البلاد في مواجهة قوى معادية رغبتها الهينة على العراق وتدميره كما حصل في اجتياح واحتلال داعش للموصل وعموم نينوى ومحافظات أخرى وما مارسته من إبادة جماعية ضد أبناء وبنات الشعب هنا ومخاطر عودته بعد التحرير، حيث ما تزال جيوبه متحركة في أنحاء عديدة من البلاد، أو النهج الذي تمارسه الميليشيات الطائفية المسلحة المهيمنة على الحشد الشعبي وغير الخاضع فعلياً للقائد العام للقوات المسلحة العراقية بل للقيادة الإيرانية لاسيما قيادة فيلق القدس. ولا أشك في خضوع رئيس حكومة تصريف الأعمال هو الأخر خاضع كلية لقرار المرشد الإيراني وليس للقرار السياسي المستقل المنبثق عن مصالح الشعب والوطن والمنسجم مع: "نازل أخذ حقي، وأريد وطناً غير مستباح"!
إن المهمة التي تواجه قوى التيار الصدري، قادة وقواعد تتبلور في إعادة النظر بموقفها الراهن، بتسلسل الأجندة، إذ لا يجوز ولا يمكن أن تكون ي معسكر الشعب مرة وأخرى، ومرة أخرى وفي الآن ذاته مع المعسكر المعادي للتغيير ويريد الاحتفاظ بنظام المحاصصة الطائفي الفاسد والتبعية لإيران، إذ أن طقسين لا يمكن أن يجتمعا على سطح واحد.       

24
كاظم حبيب
ما هي القضية المركزية التي تواجه الشعب العراقي حالياً؟
من يتابع اجتماعات مجلس وزراء تصريف الأعمال ورئيس هذا المجلس المستقيل يدرك ان الرئيس ومجلسه لا يحكمان في العراق، بل في بلد اخر ليست فيه انتفاضة شعبية تقترب من نهاية شهرها الرابع، وإنها قدمت مئات القتلى وآلاف الجرحى والمعاقين في سبيل حرية الوطن وحقوق الشعب على أيدي أجهزة النظام الأمنية الرسمية وغير الرسمية، وان قوى الانتفاضة تطالب منذ اليوم الأول لانطلاقتها بتغيير الوضع القائم جذريا والخلاص من النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد والمشوه. فالسفاح عادل عبد المهدي، الذي اكتسب لقبه النابت الجديد من جرائم القتل التي ارتكبت في البلد في ظل حكومته ولكونه القائد العام للقوات المسلحة، يتحدث بدم بارد تماما وبهدوء القاتل الذي اعتاد القتل، يذكر العراقيات والعراقيين بما كتبه التاريخ عن الحجاج بن يوسف الثقافي، هذا المستبد والسفاح الذي ارتقى المنبر وقال بدم بارد وهدوء "أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها واني لصاحبها"، وهكذا حصد رؤوس العراقيين الذين رفضوا ظلم وطغيان بني أمية. فسفاحنا الجديد يرسل مرتزقته الأوباش أعضاء الميليشيات الطائفية والمافيوية المسلحة، إضافة الى أجهزة أمنه التي شكلتها له قبل ذاك قيادات حزب الدعوة والبيت الشيعي الخرب والفاسد الذي يقوده فاسدون حتى النخاع ورئيسيها الصعلوكين على نحو خاص إبراهيم الجعفري ونوري المالكي، إضافة إلى بقية الزمرة الفاسدة، إلى شوارع العراق وساحاته ليختطفوا ويغيبوا ويقتلوا يوميا المزيد من النساء والرجال المشاركين في الانتفاضة أو العاملات والعاملين في اسعاف الجرحى والمعوقين بسبب القمع الوحشي، أو حتى خنق المصابين كما حصل في البصرة يوم امس المصادف 23/01/2020 حيث قتلت المسعفة ام جنات وخنق الشاب على يد احد أفراد قوات الصدمة المجرمة، أو قتلى بغداد خلال اليومين الماضيين الذي بلغ عددهم اكثر من 12 شهيداً وأكثر من 150 جريحاً ومعاقا.
في الوقت الذي يطالب الشعب المنتفض برئيس حكومة جديد ومجلس وزراء جديد، وكلاهما من المستقلين النزيهين وليس من الطائفيين والفاسدين حكام الفترة الحالية، يطرح هذا الحاكم المشوه اخراج القوات الأمريكية من العراق، لا لأنه ضد القوات الأجنبية، بل لأنه يريد ان تَستفردَ إيران والميليشيات الطائفية المسلحة والدموية وكل مؤسسات الدولة العميقة المافيوية بقوى الانتفاضة وقمعها وتصفيتها. إن هذا النهج التقى، شاء مقتدى الصدر أم أبى، مع دعوته لمظاهرة مليونية مناهضة عملياً لقوى الانتفاضة بذريعة اخراج القوات الأمريكية من العراق. انه شعار خاطئ من حيث التوقيت والهدف، إذ يراد به حرف وجهة النضال والتجاوز على المهمة المركزية التي تواجه كل المناهضين للطافية والفساد والتبعية لإيران أو لأي دولة أخرى.
إن هذه الدعوة تبتعد عن إعمال العق والمنطق الوطني، ولهذا لا بد من مقاطعة هذه التظاهرة السيئة التي دعا لها مقتدى الصدر. واعتقد جازماً بأن الكثير والكثير جداً من أتباع الكتلة الصدرية الحريصين على الانتفاضة وأهدافها المباشرة، وهم في الغالب الأعم من كادحي العراق ومن المهمشين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وبيئياً، ستقاطع هذه التظاهرة غير الوطنية لكي لا يصبوا الزيت على النيران التي يريد أعوان إيران في العراق زيادة اشتعالها لقمع التظاهرات الشعبية وقتل المزيد من شبيبة العراق الشجعان.
إن المهمة المركزية للانتفاضة تتلخص في تغيير الحكومة وتغيير قانون الانتخابات وتغيير مفوضية الانتخابات وإجراء انتخابات مبكرة ونزيهة ومراقبة دولياً وحقوقياً. بعدها ستأتي المهمات الأخرى، وبعد ان ننتهي من خطر داعش وخطر الميليشيات الطائفية المافيوية الشيعية التي يقودها الفياض والعامري والخزعلي وكل الفقاعات الأخرى التي سيطرت على الساحة العراقية وداست بأقدامها القذرة كرامة الانسان العراقي والمجتمع. ان المهمة الراهنة هي كنس هذه الفئة السفيهة الحاكمة والفاسدة والتخلص من رثاثتها التي عمت البلاد.


25
كاظم حبيب
موقف كادحي العراق من الأحزاب والميليشيات الإسلامية السياسية الفاسدة
تعرض كادحو العراق على مدى عقود عديدة لاضطهاد متنوع ومديد، كما كانوا وقوداً لحروب النظام وسياساته العدوانية نحو الداخل والخارج، إضافة إلى اتساع قاعدة هذه الفئة الاجتماعية بسبب الظروف الاقتصادية والمعيشية التي مرّ بها المجتمع العراقي، لاسيما في فترات الحروب والحصار الاقتصادي من خلال تدهور وانحدار الكثير من عناصر الفئة الوسطى وجمهرة واسعة من البرجوازية الصغيرة والمثقفين والطبقة العاملة إلى مصاف الفئات الهامشية في المجتمع، بسبب البطالة والفقر المدقع وتوقف عملية التنمية الاقتصادية وتراجع الخدمات العامة. إن هذا الواقع الذي تميز بسيادة الاستبداد والقسوة وغياب كامل للحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية للفرد والمجتمع من جهة، وغياب القوى الديمقراطية، سواء أكانت يسارية أم لبرالية أو مستقلة عن الحياة السياسية والمسرح السياسي العراقي لسنوات طويلة من جهة ثانية، قد فسح في المجال لنشوء حالة من الشعور بالمظلومية الجارحة لدى الغالبية العظمى من السكان، لاسيما تلك التي شكلت الغالبية العظمى من سكان الوسط والجنوب وبغداد العاصمة، وأعني بهم أتباع المذهب الشيعي والكرد، خاصة بعد تهجير قسري لمئات الآلاف من العرب الشيعة والكرد الفيلية إلى إيران بذريعة قذرة هي أنهم من التبعية الإيرانية  والحرب الداخلية ضد الشعب الكردي أولاً، والتفتيش عن حماية لهم في الدين عموماً ولدى المراجع الدينية الشيعية ثانياً. وقد أوجد هذا الوضع انطباعاً خاطئاً لدى الغالبية الشيعية بأن السنة هم المسؤولون عن واقعهم، في حين لم يكن أتباع المذهب السني من ابتاع المذهبين الحنفي والشافعي هم المسؤولون عن هذا الواقع، بل النظام السياسي البعثي الذي اضطهد بطرق وأساليب أخرى اهل السنة أيضاً، كما إن الكرد هم من أتباع المذهب السني المالكي، الذين لم يتعرضوا للاضطهاد فحسب بل وإلى الإبادة الجماعية في عمليات الأنفال الإجرامية.         
إن اللجوء الواسع النطاق لشيعة الجنوب والوسط وبغداد صوب المراجع الدينية الشيعية في فترة حكم الدكتاتورية البعثية والصدامية قد ساعد بشكل كبير جداً على التحاق الكثير من أتباع هذا المذهب بالأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية الطائفية التي اعتمدت الخطاب الطائفي وناهضت هوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية بعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة في عام 2003، والتي حصلت على تأييد غير محدود ومستمر من جانب المرجعيات الدينية الشيعية دون استثناء، لاسيما مرجعية السيد علي السيستاني، مما ساهم في حصول هذه الأحزاب وميليشياتها الطائفية المسلحة، وهي تنظيمات مافيوية قلباً وقالباً، على أكثرية أعضاء مجلس النواب في الانتخابات العامة التي جرت في أعوام 2006، 2010 و2014 و2018 على التوالي وبمساعدة مباشرة من مواقعهم في قيادة السلطة والقضاء وهيمنتهم على المال العام وممارستهم الفساد والتزوير بأوسع اشكال ظهوره، وكذلك تشويه سمعة الآخرين واستخدام قوى الدولة العميقة المجرمة، ومنها الميليشيات الطائفية المسلحة الفاسدة والمسيرة من القيادة الإيرانية، للهيمنة على مجلس النواب والبقاء في السلطة.
وعلى مدى الفترة المنصرمة كان التذمر من نهج وسياسات القوى الطائفية في مختلف المجالات يتصاعد تدريجاً ويفتح ثغرات متسعة بين المزيد من اتباع المذهب الشيعي وبين الأحزاب الشيعية الطائفية الحاكمة. فغياب التنمية الاقتصادية وتفاقم البطالة، لاسيما بين الشبيبة، وتنامي الفقر ووصوله إلى نسبة عالية جداً من نفوس المجتمع، وتدهور الخدمات العامة والأساسية وتفاقم الفساد المالي والمحسوبية والمنسوبية ذات الوجهة الطائفية والحزبية، والخضوع للقرارات الإيرانية في مختلف المجالات والسياسات وثلم الاستقلال والسيادة الوطنية، قد تسبب كل ذلك في جرح كرامة الإنسان العراقي والمجتمع في آن. ورغم الحركات الاحتجاجية الهادئة والسلمية والمطالبة المستمرة بالتغيير، لم يكن للطغمة الطائفية الفاسدة الحاكمة آذاناً صاغية قطعاً، بل واجهت تلك الاحتجاجات والمظاهرات السلمية بالملاحقة والاعتقال والقتل وتشويه السمعة والاتهام بالبعثية أو العمالة لأمريكا وإسرائيل! كانت هذه السياسة الوقحة للفئة الحاكمة في بغداد قد ألبت المزيد من أبناء المذهب الشيعي ضد الحكومة التي تدعي زوراً وبهتاناً أنها تدافع عن أتباع المذهب الشيعي، في وقت مارست العنت والاضطهاد ضد الشيعة، ولكنها مارست القتل الواسع النطاق ضد السنة في عام 2011 وفسحت في المجال لقوى وعصابات داعش أن تغزو وتجتاح الموصل ونينوى وتهدد كردستان بخطر الاجتياح أيضاً في عام 2014. وكانت الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين والمسيحيين، وضد التركمان والشبك أيضاً، وكانت الاستباحة التامة لكرامة الإنسان العراقي.
إن كل ما حصل خلال الأعوام الأخيرة قد أجج نيران الغضب في نفوس سكان العراق كله، ولكن الغضب تفجر في نفوس الشعب في الوسط والجنوب وبغداد بشكل خاص وانطلقت شرارة الانتفاضة في الأول من تشرين الأول 2019، لأن الطغمة الحاكمة كانت تدعي زوراً وكذباً وبهتاناً تمثيلها لسكان هذه المناطق وهم منها براء كبراءة الذئب من دم يوسف!
لم تصغ هذه الفئة الحاكمة الضالة إلى صوت العقل، إلى صوت الشعب، وتستجيب لمطالب التظاهرات الأولى بل واجهتها بالحديد والنار، مما أججت الغضب وكل أوضاع القهر والظلم والبؤس والخراب والرثاثة المتراكم في صدور ونفوس الناس لتنطلق الانتفاضة المباركة وتستمر حتى اليوم وستبقى حتى تحقيق النصر. إن الانتفاضة الباسلة اعطت حتى الآن على وفق الإحصاء الحكومي غير الصحيح 700 شهيد، وما يزيد على 25 ألف جريح ومعوق، وبالأمس فقط (20/01/2020 سقط في بغداد 7 شهداء و50 جريحاً ومعاقاً، عدا المحافظات الأخرى، ومنها البصرة والناصرية وكربلاء والحلة.. الخ، وما تزال الحكومة الساقطة أخلاقياً وسياساً واجتماعياً تقوم بتصريف الأعمال، وما تزال الطغمة الحاكمة تلعب على الوقت لتمييع الانتفاضة ومطالبها المشروعة، وما تزال تمارس القتل والنهب في آن واحد.
من هنا يمكن القول وبوضوح تام إن الكادحين الذين وقفوا خطأ ووهماً وتحت أوضاع استثنائية إلى جانب الأحزاب الإسلامية السياسية الفاسدة وميليشياتها الطائفية المسلحة المافيوية، يتخلون اليوم عن الوقوف إلى جانب هذه الأحزاب المارقة، بل هم يناضلون بقوة مع بقية الأوساط الشعبية، التي لم تنزل حتى الآن إلى الساحة النضالية لأسباب معروفة، لإزاحة هذه الطغمة الفاسدة والمشوهة عن الحكم وتغيير مجمل العملية السياسية والدفع باتجاه الحياة المدنية والدولة الديمقراطية والتمتع بالحقوق الأساسية في وطن مستقل غير مستباح. لقد عاد الكادحون العراقيون والكادحات العراقيات وكل الواعين من أبناء وبنات الشعب العراقي إلى مواقعهم الاجتماعية الحقيقية، إلى مواقع النضال الوطني ضد التمييز العنصري والديني والطائفي وضد المرأة ومن أجل هوية المواطنة الحرة والمتساوية ومن أجل وطن حر ومعافى وسيد نفسه. إلى هؤلاء الثوار الأشاوس أرفع صوتي عالياً وأحيي بحرارة وأدعو العالم كله لتأييد الانتفاضة ومطالبها المشروعة وانحني إجلالاً للشهداء الخالدين والتمنيات بالشفاء العاجل للجرحى والمصابين والمواساة للأمهات والزوجات والآباء والأخوات الثكالى الذين فقدوا أحباء لهم من أجل قضية الشعب والوطن، من أجل "نازل أخذ حقي" و "أريد وطناً" خال من الأوباش والطغاة والسفاحين القتلة ومن التبعية للأجنبي.                         

26
كاظم حبيب
مؤامرة الطغمة الحاكمة لن تمر والمنفضون لها بالمرصاد
تؤكد الأحداث الجارية في العراق إن الطغمة الحاكمة تعمل بكل السبل المتاحة لديها على قمع الانتفاضة وتصفيتها وشطب الأهداف العادلة والمشروعة التي يناضل من أجلها المنتفضون والمنتفضات منذ الأول من تشرين الأول 2019 حتى الآن. وقد استخدمت لهذا الغرض سبيل التآمر وشق وحدة الصف الوطني وتوجيه خراطيم المياه وعلب الغاز القاتل والرصاص الحي والمطاطي إلى رؤوس وصدور المناضلات والمناضلين، وإلى عمليات الخطف والتغييب والقتل العمد، على أيدي القوات الأمنية العراقية وكل الميليشيات الطائفية المسلحة العاملة في العراق وذات الهوية الإيرانية، إضافة إلى استفزاز القوات الأمريكية لافتعال ما حصل من قتل للمجرم الإيراني الذي عبث بأمن الشعب العراقي والذي عمل من أجل هيمنة إيران على بلاد ما بين النهرين واعتبار بغداد العاصمة الثانية للإمبراطورية الفارسية الجديدة، إضافة إلى افتعال معركة جديدة في العراق بذريعة إخراج القوات الأمريكية التي جاءت بهم على ظهر دباباتها إلى حكم البلاد. لقد اتفقت كل الطغمة الحاكمة في بغداد دون استثناء على المماطلة والتسويف وإرهاق المنتفضات والمنتفضين وإحباط روحهم الثورية بالقتل اليومي والمطاردة الليلية والاعتقال والتعذيب والإسقاط والإنهاك من خلال عدم الاستجابة للمطالب العادلة والمشروعة، وكذلك التجاوز حتى على من كانت الطغمة الحاكمة تؤكد احترامها له وسماع رأيه وتنفذ توصياته، وأقصد هنا السيد علي السيستاني، المرجع الأعلى لأتباع المذهب الشيعي في العراق، والذي قال بكلمة واضحة بتاريخ 15/11/2019 ما يلي:
" إن المواطنين لم يخرجوا إلى المظاهرات المطالبة بالإصلاح بهذه الصورة غير المسبوقة إلا لأنهم لم يجدوا غيرها طريقاً للخلاص من الفساد المتفاقم يوماً بعد يوم والخراب المستشري على جميع الأصعدة، بتوافق القوى الحاكمة من مختلف المكونات." كما دعاهم إلى الاستجابة لمطالب الشعب العراقي. (راجع، نعطافة في خطاب السيستاني لصالح الشارع تعطي الاحتجاجات في العراق دفعا جديدا، قناة فرنسا، 24). وفي ضوء ذلك ادعى رئيس الوزراء السفاح عادل عبد المهدي أنه استجابة للمرجع الديني حين قدم استقالته، إلا إنه استمر كرئيس وزراء تصريف أعمال، ثم سرعان ما بدأ محاولة العودة من جديد إلى رئاسة الوزراء وطلب تأييد القيادة الكردية، مما يؤكد طبيعته العدوانية إزاء الشعب الجريح الذي سقط له رسمياً أكثر من 700 شهيد وأكثر من 25 ألف جريح ومعاق، وهو المسؤول الأول عن سقوط هؤلاء الضحايا الأبرياء، وهو الذي سيحاكم أولاً وقبل كل الآخرين على ما جناه بحق الشعب العراقي والمنتفضات والمنتفضين البواسل.
 لنقرأ معاً أهازيج المنتفضات والمنتفضين في شوارع العراق وساحاته، إنهم يرددون:
"قانون الانتخابات... حبر بورق مسوينه، عادل يحكم بالخضراء... باقي الهسه مخلينة، اسم القاتل ضيعتوه... ولا تحقيق كملتوه، دم أولادچ یا ذي قار ... لا والله ما ناسينه، لا تخطفني ولا تغتال... صارت خطة مفهومة، راح أبدي وياك التصعيد... مني اسمعه المعلومة، ريس مو من الأحزاب... حدد يوم الانتخاب، لا تورطني بين إيران ... وبين أمريكا المشؤومة."   
إن وعي المنتفضات والمنتفضين وسلمية الانتفاضة ووضوح الأهداف والمهمات هي من العوامل الأساسية التي سيكون في مقدورها تغيير موازين القوى لصالح الانتفاضة وكسب تأييد الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي أولاً، كما يمكن البدء بتشكيل لجنة عالمية من كبار الشخصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومنها العلمية والأدبية والفنية والإعلامية لدعم الشعب العراقي والدفاع عن حقه في العيش في وطن غير مستباح، في وطن مستقل وغير تابع لأي بلد أو قوة في العالم، والعيش في حرية وديمقراطية وسلام من جهة أخرى لممارسة المزيد من الضغط على الطغمة الحاكمة للتراجع والبدء بتسمية رئيس وزراء يقبل به المنتفضون والمنتفضات ويتناغم كلية مع أهداف ومهمات الانتفاضة الشعبية.
يا حكام العراق الطغاة لن تستطيعوا تركيع المنتفضات والمنتفضين، بل ستركعون أنتم أمام الشعب وتطلبون المغفرة منه، وستحاكمون باسمه أمام قضاء مستقل وعادل ونزيه، وليس أمام القضاء المسيس والطائفي والفاسد الراهن. ستحاكمون لأنكم خنتم الأمانة وخذلتم الشعب وسرقتم وطنه وحريته وحياته وكرامته وأمواله. الخزي والعار لكم أيها الحكام الأوباش، والذكر الطيب والخلود للشهداء الأبرار والشفاء العاجل للجرحى والمعاقين وإطلاق سراح المعتقلين والمختطفين. 
       


27
كاظم حبيب
هل يستحق موت المتآمر على شعب العراق الحزن والأسى؟
أقول ابتداءً إن الطريقة التي قتل بها الجنرال قاسم سليماني مدانة في ضوء القانون الدولي واستهتار من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الطريقة المثلى التي تمارسها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل ضد من تعتقد أنه يعمل ضد مصالحهما بعيداً عن الشرعية الدولية وأحكام لوائح الأمم المتحدة. كما أشير ابتداءً بأن أحكام الإعدام بكل أشكالها مدانة أيضاً، لأنها ليست الطريقة الحضارية والإنسانية في التعامل مع الجرائم التي ترتكب، إذ أن السجن هو العقاب الوحيد الذي يفترض أن يسود في العالم لكل من يرتكب جريمة ما على وفق التشريعات والقوانين الدولية.
وإذ أُدين هذه الجريمة التي ارتكبت على أرض العراق وانتهكت فيها حرمة وسيادة البلاد، أُدين أيضاً بكل قوة وحزم وبكل وضوح وصراحة كل العمليات الإجرامية التي مارسها الجنرال الإيراني قاسم سليماني وتابعه أبو مهدي المهندس والميليشيات التابعة لهما والتي كان يقودها فعلياً قاسم سليماني لا غيره، على الأرض العراقية وضد شعب العراق. وهما وبقية أمراء الطوائف وقادة الميليشيات الطائفية المسلحة ومن ارتبط بهم من الحشد الشعبي والقوات الأمنية والمسلحة العراقية، مسؤولون عن استشهاد أكثر من 600 مناضل ومناضلة خلال المئة يوم المنصرمة من انتفاضة الشعب المقدامة وجرح وإعاقة ما يقرب من 30000 مناضل ومناضلة ممن شاركوا في الانتفاضة الشعبية. كما أنهم مسؤولون عن اختطاف وتعذيب وتغييب واغتيال المئات من نساء ورجال الانتفاضة في سائر أنحاء العراق. كما إنها من مسؤولية الحكومة العراقية الحالية وعلى رأسها السفاح عادل عبد المهدي، الذي ارتضى لنفسه أن يكون على رأس من أصدر الأوامر بمواجهة المنتفضات والمنتفضين بالحديد والنار، بالعنف القاتل، وأصر على البقاء في السلطة لمواصلة نحر الانتفاضة وحصل على تأييد من لا ذمة وضمير عنده ويستخف ويستهتر بالدم العراقي من أجل إنهاء حكومة تصريف الأعمال وتجديد ولاية أخرى له ليمارس نهجه الدموي المناهض لمطالب الشعب العادلة.
من يتابع ما حصل عند إعلان قتل الجنرال قاسم سليماني يستغرب من الذاكرة القصيرة والضعيفة لجمهرة غير قليلة من أبناء الشعب العراقي وبناته حين ساروا في جنازته، في حين أنهم يعرفون ما قام به ضد الشعب حتى لحظة قتله، بل إن البعض أطلق عليه وعلى تابعه لقب "أبطال!" معركة التحرير من الدواعش. إن استمرار وجود ذاكرة قصيرة في صفوف الشعب العراقي ليس في مصلحة الشعب ونضاله المجيد من أجل التغيير. فقاسم سليماني كان من أوائل من دعا إلى السيطرة على العراق وفرض الهيمنة الإيرانية عليه وعلى شعب العراق. اليكم ما جاء في خطبة له وهو لا يزال شاباً عن موقفه من العراق وشعب العراق:             
"عدائنا معهم ليس بجديد، قدمنا تضحيات لكسر شوكتهم وكبح جماحهم وتدمير أمجادهم المزعومة. نحن نقاتل لأجل هدف أساسي وكبير، نقاتل من أجل إعادة إمبراطورية لم يبق منها سوى الأطلال، نضحي ونقاتل ونموت لكي لا يبقى شبر من أرض فارس ولا يبقى فيها تحت سيطرة أناس كانوا يسكنون الصحارى. المشروع الأهم هو بسط النفوذ وليس هزيمة العراق". وماذا قال قادة إيران الجدد، المدنيون منهم والعسكريون، عن العراق: "قال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إن "إيران اليوم أصبحت امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي"، وذلك في إشارة إلى إعادة الامبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام التي احتلت العراق وجعلت المدائن عاصمة لها." (راجع: إيران: أصبحنا امبراطورية عاصمتنا بغداد، العربية في 8 أذار/مارس 2015). وقال "وزير الدفاع الإيراني حسن دهقان، أنّ العراق بعد العام 2003 قد أصبح جزءاً من الامبراطورية الفارسية وأنّ لديهم في العراق قوة هي الحشد الشعبي والتي سوف تقوم بإسكات أي صوت يميل إلى التحالف العربي الإسلامي." راجع: هذيان الملالي.. دهقان: نحن أسياد المنطقة والعراق جزء من الامبراطورية الفارسية، بغداد بوست، 1 حزيران، يونيو 2017).
إن مثل هذه الأوهام التي يريد الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية والدولة العميقة ورئيس حكومة تصريف الأعمال جعلها واقعاً قائماً، وهي المسألة التي يناضل ضدها منتفضو ومنتفضات ساحات وشوارع العراق وهي التي تجلت في شعارهم الأساسي "نريد وطن"، أي نريد الحرية والسيادة الوطنية للوطن والشعب، نريد الحقوق في وطننا المستباح.
إن من ساروا في جنازة قاسم سليماني وذرفوا الدموع عليه وعلى تابعه أبو مهدي المهندس هم اليوم ومعهم رئيس حكومة تصريف الأعمال، من هلل للدعوة التظاهرية المليونية التي أعلن عنها مقتدى الصدر ومن مدينة قم وتحت تأثير إيران ومرشدها خامنئي، وهم اليوم يشددون الدعوة إلى التظاهرة المليونية لطرد القوات الأمريكية من العراق، لا لأنهم ضد كل الوجود الأجنبي في العراق، بل لجعل إيران تستفرد بالعراق وتخضعه لها وتصفي الانتفاضة الباسلة، إنها محاولة يائسة لشق وحدة صف قوى الانتفاضة والتي هلل ودعا لها كل المتهمين بالقتل والاختطاف والتعذيب وفي المقدمة منهم نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض وقيادة حزب الله والنجباء وبقية أمراء وقيادات الميليشيات الطائفية المسلحة والفاسدة. إن من ذرف الدموع على قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، هلل لمقتل أكثر من 600 شهيد من المنتفضين والمنتفضات وتلك الآلاف المؤلفة من الجرحى والمعاقين. لنشحذ ذاكرتنا ونواجه أعداء الانتفاضة وكل الانتهازيين وراكبي موجة الانتفاضة والغرباء عنها بحزم وصرامة لمواصلة الانتفاضة الباسلة وتحقيق أهدافها النبيلة والعادلة.     

       
 

28
كاظم حبيب
أيتها المنتفضات، أيها المنتفضون الاحرار:
احذروا الالتفاف على هدف الانتفاضة المركزي،
احذروا الطغمة الحاكمة ومؤامراتها ضد التغيير!
لم يبخل المنتفضون والمنتفضات بالنفس والنفيس من أجل تحقيق الهدف المركزي المنشود، هدف تغيير النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد والمشوه والموبوء والخاضع للجارة إيران بشكل تام، ولم يتوقفوا عن النضال منذ ما يزيد عن ثلاثة شهور عن التظاهر والاحتجاج والتجمع في ساحات وشوارع النضال في وسط وجنوب العراق والعاصمة بغداد، ولم يتخلوا عن الخيام رغم الاختطاف والترويع والتعذيب والتوقيع على أوراق بيضاء تفرض على المعتقلين لتملأ بما يريده جلاوزة الطغمة الحاكمة وعلى رأسهم السفاح عادل عبد المهدي، أو القتل على أيدي جلاوزة إيران في العراق. لقد كانت وما تزال أهدافهم إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة مستقلة بعيدة عن الأحزاب السياسية الحاكمة وتغيير قانون الانتخابات وبنية مفوضية الانتخابات وإجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة بأشراف دولي وحقوقي ومن قوى الانتفاضة الشعبية، وإنقاذ العراق من براثن القوى الخارجية الدخيلة والمتدخلة في الشأن العراقي.
ولم تبخل الطغمة الحاكمة الفاسدة من أجل كسر شوكة الانتفاضة من استخدام شتى صنوف الأسلحة الخفيفة والقاتلة والغاز المسيل للدموع والقاتل وخراطيم المياه، إضافة إلى الاختطاف والتغييب والتعذيب والقتل والاعتداء على الإعلاميين ناقلي حقائق ما يجري في العراق، كما لم تبخل بالكذب والتزوير تشويه سمع المنتفضين واتهامهم بالبعثية أو بالعمالة لأمريكا وإسرائيل أو الإساءة بشتى الطريقة القذرة لأهداف المنتفضات والمنتفضين العراقية النبيلة. والطغمة الحاكمة كلها دون استثناء تتآمر بشتى الطرق لإبقاء السفاح عادل عبد المهدي على رأس الحكومة ثانية ومواصلة مسيرة قتل الانتفاضة الشعبية.
إن الأحداث المفتعلة الأخيرة التي أدت إلى قتل، أحد كبار المتآمرين على شعب العراق، الجنرال الإيراني قاسم سليماني، والطائفي بامتياز والتابع لقاسم سليماني أبو مهدي المهندي، قد أدت إلى بروز محاولة جادة من الطغمة الحاكمة بكل مكوناتها وتفرعاتها للالتفاف على أهداف الانتفاضة الآنية الملحة والمباشرة، بطرح شعار إخراج القوا الأجنبية، والمقصود بها قوات الولايات المتحدة الأمريكية من العراق، في حين إن هذا هو واحد من مهمات الحكومة الجديدة التي ي فترض أن تشكل بعد إجراء الانتخابات وتغيير الاتفاقية المعقودة مع الولايات المتحدة.
إن الهدف المباشر من وراء هذا الشعار هو فسح في المجال أمام الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران بكل مكوناتها وكذلك قوات الحرس الثوري الإيراني والبسيج وفيلق القدس الموجودة كلها وبأعداد غير قليلة، للاستفراد بقوى الانتفاضة وقمعها وتصفيتها. إنها جريمة جديدة تسعى القوى التابعة والمؤيدة لإيران إثارتها حالياً والاستفادة من حساسية الموقف إزاء وجود القوات الأمريكية في العراق من جانب قوى الانتفاضة لضرب قوى الانتفاضة بالصميم.
إن شعار التظاهرة المليونية الذي يدعو إليه مقتدى الصدر يعطي الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الطائفية والميليشيات الطائفية المسلحة إمكانية التحرك الفعلي ضد الانتفاضة الشعبية لوأدها بعد أن فشلت بأساليب القتل والتشريد والاختطاف والإساءة للسمعة بوأدها. إنها مؤامرة قذرة على قوى الانتفاضة الشعبية لا بد من الانتباه لها والحذر الكامل منها وتجاوزها باستمرار تأكيد شعارات الانتفاضة المركزية والآنية.
إن الانتفاضة المليونية ينبغي أن تتوجه صوب الشعار المركزي، صوب التغيير الحكومي وتغيير النظام الطائفية أولاً وقبل كل شيء، وليس إلهاء المجتمع بشعارات وأهداف لاحقة، لاسيما وان الشعار الذي يراد للمظاهرة المليونية رفعه، طرد القوات الأجنبية من البلاد، لن يتحقق بهذه السهولة وبهذه السرعة، بل سيكون تحقيق هدف كتلة الفتح أو البناء ومن وراءها إيران بذبح الانتفاضة، بنحرها من الوريد للوريد، وهو ما ينبغي التصدي له أياً كان الشخص الذي طرح شعار المظاهرة المليونية، فهو، إن أدرك أم لم يدرك، يساهم بقوة في نحر الانتفاضة. وعلى قوى الانتفاضة ألا تسمح بذلك، أياً كان صاحب هذا الشعار الملتبس والخاطئ حالياً، والذي يصب في الاتجاه الذي تريده إيران وما تسعى إليه في العراق.

29
كاظم حبيب
عادل عبد المهدي ما يزال طامعاً بحكم العراق!


إن أسوأ ما يصاب به الإنسان هو أن تداس كرامته وعزة نفسه، وهذا ما فعلته الأحزاب الإسلامية السياسية وحكمها السياسي الطائفي الفاسد والجائر منذ 2003 حتى الآن، وهو بخلاف ما تفعله الشعوب والدول المتحضرة التي تحترم كرامة الإنسان وتُحرَّم المساس بها بأي حال. وكرامة الإنسان العراقي تداس اليوم بشتى السبل ابتداءً من البطالة والفقر والجوع والحرمان والاعتقال والتعذيب والاختطاف والتهديد والقتل والابتزاز والكذب وتزوير الانتخابات وصعود قوى وعناصر إلى قمة الدولة بسلطاتها الثلاث يساهمون يومياً لا بالدوس على كرامة الإنسان الفرد فحسب، بل وعلى كرامة شعب بكامله. يمارسون ذلك بدم بارد وبعنجهية وهدوء وكأن لم يحصل شيء يذكر في البلاد. وإذا كان رئيس الوزراء الأسبق قد بزَّ الجميع بسلوكه المشين وطائفيته الوقحة وحكمه البليد، فأن رئيس الوزراء الحالي قد تجاوزه بما يمارسه من عدوان يومي وقتل مستمر على الشعب العراقي ومن إساءة مستمرة للكرامة وعزة النفس وسلب للحقوق واستمراره بالحكم وكأنه ليس مستقيلاً ومهمته تصريف الأعمال! وهو يسعى اليوم بكل بلادة ووقاحة إلى تجديد ولاية ثانية له!!!  إنه العهر السياسي لا غير! ولا نبتعد عن الحقيقة حين نقول بأن وجود قوى وحكم الإسلام السياسي الطائفي الفاسد والمشوه في العراق يعتبر أكبر إساءة مدوية لكرامة الإنسان والشعب في البلاد!
رغم الخلط المستمر للأوراق السياسية والعسكرية في العراق، ما زالت اللوحة السياسية تتسم بوضوح الاستقطاب بين قوى الانتفاضة الشعبية والقوى المضادة لها، سواء أكان في الأهداف أم السلوك والوسائل، مع بروز حالة من الانسيابية المخلة لبعض القوى التي ركبت الموجة الثورية، ولكنها عجزت عن الصمود طويلاً في معسكر الانتفاضة، بحكم ايديولوجيتها الدينية. فقيادة هذه المجموعة تبذل أقصى الجهود للدخول بمساومات مخلة تضعف معسكر قوى الانتفاضة الشعبية، فهي تعيش بين مدينتي نعم ولا، إنها تخشى العبور التام إلى صف الشعب المنتفض، وفي الوقت ذاته تخشى البقاء في صف أعداء الشعب الذين قتلوا حتى الآن أكثر من 600 متظاهر ومتظاهرة وعشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين. هذه القيادة تبدو وكأنها تريد الرقص على حبال غير متماسكة سرعان ما تتقطع فتسقط في وحل أعداء الشعب وتعزل نفسها تدريجاً عن قاعدتها الشعبية الواسعة. وليس هناك من يتمنى ذلك! فالتذبذب المستمر والتصريحات المتناقضة هي السياسة النموذجية للقوى الانتهازية التي ما زلنا نتابعها منذ سنوات والتي تبنت، تحت ضغط قاعدتها الاجتماعية الكادحة والفقيرة، "الدولة المدنية!" التي يبشر بها الإسلاميون السياسيون خطأ ليتجنبوا الحديث عن الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي. هذه القيادة تعاني من ضغوط مستمرة من الدولة الإيرانية الجائرة على العراق وشعبه، ومن قيادة إيران الدينية باسم المذهب والطائفة!
والعراق يعيش اليوم حالة فريدة وصراع بين قطبين لا يمكن أن يلتقيا، وهما:
1)   قوى الانتفاضة الشعبية التي استطاعت بعدالة وشرعية مطالبها وبتضحياتها الكبيرة إسقاط حكومة عادل عبد المهدي المسؤولة عن تلك الضحايا وحولتها إلى حكومة تصريف أعمال. ومنذ البدء برز لدى قوى الانتفاضة الوعي المناسب بتجنب الاعتماد على قوى مترددة تؤثر سلباً على حركة الانتفاضة وتضعف من جذرية مطالبها باستعدادها للمساومة غير المبدئية. 
2)   قوى المضادة للانتفاضة مستمرة في مراوغتها ومماطلتها في تسمية رئيس وزراء يقبله المنتفضون والمنتفضات بهدف كسب الوقت والتغلب على الانتفاضة ومطالبها العادلة وتعزيز ميزان القوى لصالحها والعودة إلى تسمية عادل عبد المهدي رئيساً للحكومة مجدداً، مستثمرة ما حصل من أحداث لم تكن في البال فأضعفت، ولو مؤقتاً، معسكر قوى الانتفاضة. ولكن سرعان ما عاد المنتفضون والمنتفضات وهمي يحملون بسواعدهم قضية شعب مستباح وحقوق مهدورة وكرامة مداسة. يذكرني هذا بما قرأته في كتاب "البجعة السوداء" للكاتب نسيم طالب صادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، مترجم عن الإنجليزية عن يعتبر أحياناً مفاجئات وهي ليست في الواقع مفاجئات لأننا لم نتعرف قبل ذاك على العوامل المحركة لها أو لم نكن نملك معلومات كافية عن المحرك لها.
وفي الوقت الذي تعرضت قوى الانتفاضة إلى محاولة كبيرة لتصفيتها من خلال تشديد التوتر العسكري والسياسي بين الولايات المتحدة وإيران على الأرض العراقية والاستفادة منها لتغيير موازين القوى الإقليمية والدولية في العراق (معارك الصواريخ المتبادلة وقتل قاسم سليماني)، وبروز موقف جديد لدى القوى الحاكمة الفاسدة بسعيها لكسب القوى المتذبذبة والانتهازية إلى جانبها لاستعادة مبادرتها في حكم البلاد وربما إعادة عادل عبد المهدي للحكم ثانية، في الوقت ذاته عادت قوى الانتفاضة الشعبية بروح وثابة وشجاعة إلى شوارع وساحات العراق لمواصلة النضال وبحمية وحماس كبيرين أسقط حتى الآن في أيدي المتآمرين الفاسدين تصفية الانتفاضة وأعاد من جديد مطالب الشعب العادلة والمشروعة إلى الواجهة، وربما سيفرض على تلك القوى المتذبذبة التفكير أكثر من مرة قبل الاستسلام للدولة الإيرانية والميليشيات الطائفية المسلحة وعلى رأسها كتلة الفتح ومسؤولها الذي بكى بحرقة على قائده الأجنبي قاسم سليماني، ولكنه استقبل بدم بارد وفرح طاغٍ استشهاد 600 مناضل ومناضلة من أبناء وبنات الشعب العراقي وما يزال يسعى تكتله مواصلة حصد المزيد من رؤوس الشبيبة العراقية المنتفضة!!!
تشير المعلومات الواردة من المحافظات إلى تجدد التظاهرات والاحتجاجات في كل من محافظات بغداد وبابل والنجف وكربلاء وميسان والمثنى والديوانية وواسط وذي قار والبصرة وإلى تصاعد المزاج الثوري السلمي للمنتفضات والمنتفضين وإصرارهم على تحقيق المطالب، في حين توجهت قوى الحكم الأمنية، ومعها قوى الدولة العميقة الفاجرة، إلى اعتداءات وحشية وقتل غادر للمزيد من الشباب المنتفض وقتل المزيد من الإعلاميين كما في قتل أحمد عبد الصمد وصفاء غالي في البصرة وشهيدين في كربلاء والكثير من الجرحى.. إلخ. وهذه الظاهرة الرائعة تؤكد قدرة الشعب على مواصلة النضال والانتصار على القوى الشريرة التي تحكم العراق بالحديد والنار منذ 2003/2004 وحتى الآن!       
     

30
كاظم حبيب
العاشر من كانون الأول أفشل مؤامرة قوى الثورة المضادة في العراق
تجمعت غيوم كثيفة داكنة فوق سماء بغداد وكل العراق، وهبت رياح عاتية وعواصف رعدية مجنونة مصحوبة بأمطارٍ غزيرة مهددة البلاد بالغرق وإتلاف الزرع والضرع. بدا وكأن الإنسان العراقي عاجزٌ أمامها، فاقد للحيلة خاضع لها. وهكذا دبّ الخشية الصادقة على الانتفاضة في نفوس البعض من قدرة القوى المضادة على إجهاض الانتفاضة الشعبية الباسلة! هكذا بدت صورة العراق حين بدأت مؤامرة كبرى تحاك خيوطها المتباينة في ألوانها وأنسجتها ومتانتها في ليالٍ مظلمة، مؤامرة ذات أهداف متباينة من أطرافها، استهدفت، ولا تزال تستهدف، القضاء على انتفاضة الشبيبة والشعب الباسلة الساعية إلى إحداث تغيير جذري حقيقي في أوضاع البلاد المزرية، تغيير النظام الطائفي المحاصصي الفاسد والمشوه بامتياز، واستعادة القرار العراقي المستقل. وكذلك الإطاحة بالنخبة والطغمة الفاسدة الحاكمة التي أغرقت البلاد بالشهداء والجرحى والمعوقين، من جهة، وبالرثاثة والفساد والخراب من جهة ثانية، وبالركوع أمام الجارة إيران الطامعة بالهيمنة الكاملة جغراقياً على العراق والتحكم التام بمقدراته وسياساته، والمهادنة المخزية مع كل القوى والدول الراغبة في التأثير المباشر وغير المباشر على أوضاع وسياسات العراق الداخلية والخارجية من جهة ثالثة.
هكذا كان وضع الانتفاضة المظفرة في أعلى قممها وبدا قرب انتصارها، حين بدأ الحشد الشعبي وتوابعه من الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة جملة وتفصيلاً لإيران، بتنفيذ بنود المؤامرة، بتطبيق الخطة رقم 2 الإيرانية-العراقية، بقصف المواقع العسكرية العراقية–الأمريكية لاستفزاز الولايات المتحدة، وبالتنسيق التام مع حكومة عادل عبد المهدي، بعد أن فشلوا جميعاً بقمع انتفاضة الشعب بأساليب الاعتقال والقتل وتشويه السمعة، وبعد أن عجزت الطغمة الحاكمة من رئاسة الجمهورية ومروراً بمجلس النواب والسلطة التنفيذية وسلطة القضاء كلها بإمرار مرشحها لرئاسة الحكومة الذي يخلف رئاسة حكومة تصريف الأعمال السفاح الفاسد عادل عبد المهدي. فكان العدوان على "كي وان" ومن ثم الضربات الانتقامية على عناصر في ميليشيا حزب الله العضو في الحشد الشعبي، ثم محاولة استباحة السفارة الأمريكية وما اقترن بها من قتل إجرامي على الأرض العراقية لقائدي المليشيات الطائفية المسلحة الإيرانية-العراقية قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ومحاولة قوى الإسلام السياسي العراقية ومن جانب الطغمة الحاكمة في العراق التعبئة العامة والتحشيد باسم الدفاع عن سيادة البلاد، والتي عبر فيها المتظاهرون عن رفضهم لارتكاب جرائم على أرض العراق من أي بلد كان، لقصم ظهر انتفاضة الشعب وإبعاد الجماهير عنها. فماذا حصل؟
لقد جاء نداء المنتفضات والمنتفضون إلى التظاهر يوم العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2020 مجسداً إرادة الشعب في مواصلة الانتفاضة وتحقيق التغيير. إذ لم يتغير أي من العوامل التي قادت إلى الانتفاضة، بل كل الدلائل تؤكد بأن الطغمة الحاكمة العراقية وسيدتها الطغمة الحاكمة الإيرانية، تسعيان معاً وبكل السبل، إلى وضع العراق، كل العراق، تحت قيادة وسيادة إيران، رغم كل الادعاء بالاستقلالية والحيادية وإبعاد العراق عن صراع الدولتين على الأرض العراقية. فكان العاشر من كانون الأول، كانت عودة المنتفضين والمنتفضات إلى ساحات النضال مجدداً، رغم أنهم لم يغادروها أبداً. فكانت الألوف المؤلفة تملأ ساحات النضال الوطني رافعة ذات الشعارات وحاملة ذات الأهداف وبعزيمة أكبر وأروع. وقد أثار، هذا التعبير الرائع عن إصرار قوى الانتفاضة على مواصلة المسيرة الشعبية المظفرة، قوى الثورة المضادة، قوى الإرهاب والفساد والطائفية، قوى الدولة العميقة ومعها مجموعات من الأجهزة الأمنية الحاقدة، فعمدت إلى مطاردة واعتقال والقتل العمد للمنتفضين في الشوارع والساحات، إلى اغتيال من كان في واجهة الانتفاضة الشعبية والداعين إلى مواصلة النضال ضد قوى الظلام والفساد، إلى اغتيال مناضلي البصرة، فكان استشهاد البطلين الرائعين الصحفي البصري أحمد عبد الصمد والمصور صفاء غالي.
لن تستطيعوا أيها القتلة الجبناء، أيها المجرمون الفاشيون، تصفية الانتفاضة الشعبية، لن تستطيعوا قتل الشعب كله، فالشعب كله يقف لكم بالمرصاد وسينهي نظام الطائفية الفاسد المشوه وسيفرض عليكم الخضوع لإرادته وترك العراق للشعب المنتفض والشجاع الذي يسعى إلى بناء عراق ديمقراطي حر وحديث، عراق الخير والرفاه والسعادة، عراق الأمل والحياة والسلام، عراق الاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية.     
 تحية وألف تحية للمنتفضات والمنتفضين البواسل في سوح النضال، الإجلال والخلود لشهداء الانتفاضة الأبرار، والشفاء للجرحى، والحرية للمعتقلين والمختطفين، والنصر للشعب العراقي.               

31
كاظم حبيب
المؤامرة الإيرانية ضد انتفاضة الشعب العراقي والمغامرة الأمريكية!
برؤية واضحة وصريحة أؤكد: إن من واجب الشعب العراقي الملح والضروري جداً وبكل السبل السلمية المتوفرة إفشال مؤامرة الطغمة الحاكمة في إيران وأتباعها الصغار في العراق ضد انتفاضة الشعب العراقي السلمية الباسلة، إنها مؤامرة تستهدف اصطياد عصفورين بحجر واحد: ضرب الانتفاضة الشعبية التي نهض المنتفضون والمنتفضات ضد الهيمنة الإيرانية على العراق وسياسات الدولة العراقية الهشة وضد قوى الإسلام السياسي الطائفية الفاسدة والمشوهة والتابعة لإيران أولاً، وجعل الساحة العراقية السياسية والعسكرية والأمنية حكراً لها ولأتباعها، والسعي الجاد لجعل العراق لقمة سائغة لإيران عبر قوى النظام السياسي الطائفي والفاسد، وذلك بإخراج كل القوات الأوروبية والأمريكية من العراق بكل السبل غير المشروعة والمشروعة المتوفرة لدى الطغمة الحاكمة الفاسدة، التي تقاتل حالياً مع الجيش العراقي ضد بقايا داعش، التي لا تزال تمارس عمليات إرهابية في مواقع غير قليلة من البلاد.
لقد كانت المؤامرة من صنع الجنرال قاسم سليماني مع المجموعة العراقية في الحشد الشعبي والمليشيات الطائفية المسلحة، كما اشرت في مقال سابق، جزءاً من الخطة رقم 2 الإيرانية التي كانت ولا تزال تستهدف بالأساس سحق الانتفاضة الشعبية وتصفيتها من خلال توفير الأجواء المناسبة لذلك، والتي تمثلت باستفزاز متواصل للقوات الأمريكية الموجودة في العراق من خلال توجيه صواريخ الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة، كحزب الله وعصائب أهل الحق وفيلق بدر والنجباء وغيرهم، إلى المنطقة الخضراء مستهدفة مواقع قريبة من السفارة الأمريكية مرة، وقصف المواقع العسكرية التي فيها جنود أو مقاولون متعاقدون أمريكيون، سواء أكان في بغداد أم في مواقع عسكرية أخرى، مرات كثيرة. وكان الهدف الأساسي منها استفزاز الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب ودفعه، وهو الرجل غير العقلاني وغير محسوب فيما يتخذه من إجراءات، إلى تنفيذ إجراء يقود إلى تعقيد اللوحة السياسية العراقية. وكان اخر تلك الاستفزازات قصف حزب الله الموقع العسكري "كي وان"، وما أعقبه من توجيه القوات الأمريكية صواريخ على مواقع حزب الله في غرب القائم بالعراق. ثم كان الهجوم على السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء كرد فعل مفتعل ومضخم من جانب الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة ضد الولايات المتحدة. وكان رد الفعل الأمريكي للاستفزازات الإيرانية الصادرة من الأراضي العراقية وعبر فصائل مسلحة عراقية ذات هوية وتبعية إيرانية، هو الانجرار الفعلي غير المتوقع بأي حال من الرئيس الأمريكي بقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني على الأرض العراقية. وإذا كانت الطغمة الحاكمة الإيرانية تتوقع انجرار ترامب لاستفزازاتها المستمرة وتسعى إليه بشتى السبل، لأنه كان من أولى غاياتها من تلك الاستفزازات، ولكنها لم تكن تتوقع بأي حال أن تتجاوز الولايات المتحدة كل الخطوط الحمر في الدبلوماسية الدولية وأن تكون الضربة موجعة بهذا القدر الكبير بقتل أثنين من كبار مدللي علي خامنئي، الجنرال قاسم سليماني مخطط السياسة الخارجية الإيرانية وراسم تحركاتها العسكرية في الخارج، وأبو مهدي المهندس، المسؤول الفعلي عن الميليشيات المشكلة للحشد الشعبي العراقي بهيته الإيرانية والجندي المطيع لدى قاسم سليماني حسب تصريحاته الشخصية، وأن تكون الضربة الموجعة في العراق لتستفز مشاعر الإنسان العراقي في عدم احترام السيادة العراقية. ولا بد من الإشارة إلى أن طبيعة المؤامرة الإيرانية وهدفها الأساسي في سحق الانتفاضة العبية وجعل العراق ساحة محتكرة لإيران قد غاب عن وعي الكثير من الناس ممن شارك في التشييع وتغير مزاجه الآني بعد أن سيطرت عليه العاطفة أكثر مما حركه العقل.
إن المؤامرة الإيرانية كبيرة جداً، وهي التي تسببت في قتل قاسم سليماني، وذلك باستفزاز الرجل النزق الذي لا يتعامل مع الأحداث على وفق منظور مبادئ واستراتيجية سياسية رصينة، بل يتعامل كتاجر رخيص جداً، يمكن أن تقود أفعاله إلى عواقب وخيمة على العراق كانت إيران تنتظرها طويلاً، وأن ضحت بعناصر لا تعوض بسهولة، لأنها تعتقد بأنها قد انتصرت على العراق وانتفاضة الشعب.
المشكلة التي ستواجه الشعب العراقي هي محاولة إيران الانتقام من قتل سليماني في الساحة العراقية، وبالتالي تحافظ على أجواء العداء والتوتر في المنطقة مما يضعف القدرة على التعبئة الشعبية في الساحات والشوارع العراقية لمخاطر جدية في تبادل الصواريخ أو غيرها في العراق. إنه المخاطر الجديدة التي تهدد الانتفاضة والشعب العراقي في الأيام والأسابيع القادمة. وهو جزء من محاول سحق الانتفاضة.
ولكن هل في مقدور إيران أن تنتصر على انتفاضة الشبيبة والشعب في العراق؟ أقول وأؤكد هيهات أن يتحقق لها ذلك على المديين المتوسط والطويل، رغم ما يبدو وكأن إيران والطغمة الحاكمة التافهة في العراق قد انتصرت! إن الانتفاضة الشعبية لم تقتل، بل هي ما تزال حية ومتحركة وسيكتشف الناس بسرعة طبيعة المؤامرة الإيرانية، وسيعود من شارك في تشييع جثامين من وضعوا الحروف الأولى للمؤامرة في الخطة رقم 2 الإيرانية، وسيدرك هؤلاء الناس بإن انتفاضتهم كانت هي المقصودة من تلك الأحداث الأخيرة التي افتعلتها إيران عبر الحشد الشعبي وميليشياته المسلحة ورئيس وزراء تصريف الأعمال السفاح الخبيث والبعثي الإسلامي النزعة والسلوك الوحشي، عادل عبد المهدي وحفنة من كبار قادة الأحزاب الإسلامية السياسة والميليشيات الطائفية المسلحة.
النصر في المحصلة النهائية سيكون للشعب العراقي وانتفاضته المقدامة طال الوقت أم قصر، إلا أن تحقيق النصر يتطلب من المنتفضين والمنتفضات العمل على توفير مستلزمات النجاح في تجاوز الخلافات الثانوية والبدء بعملية تنسيق بين التنسيقيات لتوحيد وجهات النظر وبلورة الآلية المناسبة لحركة وفعل الانتفاضة، وتلك القيادة الميدانية الواعية والقادرة على تسيير دفة الصراع الجاري بين قوى التغيير والقوى المضادة الداخلية منها والخارجية.             

32
كاظم حبيب
العواقب الوخيمة لسياسة تصدير الثورة الإسلامية على شعوب المنطقة!
ما أن سُرقت ثورة الشعب الإيراني وكادحيه ومنتجي خيراته وقواه السياسية الديمقراطية من قبل روح الله مصطفى الموسوي الخميني (1902-1989م) وبقية فئة شيوخ الدين الإيرانية وقوى الإسلام السياسي المتطرفة في عام 1979 حتى برزت على سطح الأحداث وجهة ومضمون السياسة الإيرانية الجديدة في الشرق الأوسط والعالم بوضوح وتبلورت في نزعتين ذات مضامين فكرية وسياسية خطرة لا تخطئها العين: أولاً، الرغبة الجامحة في التوسع الإيراني صوب منطقة الخليج والشرق الأوسط بأمل إعادة بناء الإمبراطورية الفارسية ودورها في المنطقة وعلى الصعيد الدولي؛ وثانياً، الجموح المخل والخطر في تصدير "الثورة الإيرانية، أي تصدير المذهب الشيعي الصفوي في الإسلام إلى دول العالم الإسلامي وحيثما وجد مسلمون في العالم وبكل السبل والأدوات المتوفرة. وكان وراء هاتين النزعتين التوسعيتين هدف أساسي ومركزي هو فرض الهيمنة الإيرانية المباشرة على سياسات ودول المنطقة واستعادة ما تدعي أنه كان جزءاً من الإمبراطورية الفارسية القديمة، وتأمين "المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي والعسكري والأمني الحيوي" للبرجوازية الكبيرة الإيرانية في المنطقة، تلك المصالح التي تشابكت بسرعة بمصالح الشريحة العليا من فئة شيوخ الدين، هذه الفئة الاجتماعية الطفيلية الواسعة التي تعيش على حساب مصالح الفئات الاجتماعية الأخرى والاقتصاد الوطني. ولم تكن رغبة التوسع والهيمنة جديدة لدى حكام إيران، بل كانت منذ فترة حكم شاه إيران محمد رضا بهلوي، وبسببها حصل الاجتياح الإيراني لجزر "أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى" واحتلالها حتى الآن. وهيأ هذا الاتجاه الأرضية للمنافسة شديدة بين دول المنطقة، لاسيما تركيا والسعودية ومصر والتي جرت فيما بعد دولاً أخرى ارتبطت بتحالفات مؤقتة ومتغيرة وموجهة عموماً ضد شعوب ومصالح دول المنطقة.
لم يكن روح الله الخميني قد ثبَّتَ أقدام الدولة "الإسلامية!" على الأرض الإيرانية حتى بدأ مباشرة بدعم قوى الإسلام السياسية في العراق وتأهيل عناصرها للقيام بعمليات إرهابية ضد نظام البعث الدكتاتوري، ومنها التفجير الذي حصل قرب الجامعة المستنصرية في شهر نيسان عام 1980 حين وجود طارق عزيز فيها ولم ينجحوا في ذلك، والتي استخدم الدكتاتور صدام حسين هذا الحادث بعد عدة شهور لإعلان الحرب على إيران. (راجع: د. عبد الجبار منديل، تفجيرات الجامعة المستنصرية ومحاولة اغتيال طارق عزيز - ذكريات شخصية، الحوار المتمدن، 13/5/2008). وكانت عواقب التدخل في الشؤون الداخلية العراقية ورغبة إيران في وصول قوى الإسلام السياسي المتعاونة مع إيران إلى السلطة نشوب حرب دموية مدمرة دامت ثماني سنوات عجاف أدت إلى خسائر هائلة بالأرواح والممتلكات والأموال وتدمير للمواقع الثقافية والحضارية في البلدين. وفي العام ذاته، وبسبب عدم تحمل الخميني عواقب الحرب وعجز قواته عن تحقيق النصر النهائي في تلك الحرب قال في حينها، بعد أن أُجبر على إيقاف الحرب، "لقد تجرعت كل السم"، ثم توفى حسرة على عدم وصول أتباعه الإسلاميين إلى حكم العراق حينذاك! وبدلاً من أن تستفيد الطغمة الحاكمة الطائفية الفاسدة في إيران من عواقب ودروس تلك الحرب المديدة والتخلي عن تصدير الثورة إلى البلدان الأخرى، بادرت إلى تشكيل فيلق القدس "سپاه قدس" العسكري من صفوف قوى الحرس الثوري الإيراني، باعتباره الفيلق الذي من شأنه المشاركة في تصدير الثورة الإسلامية الشيعية الصفوية الإيرانية إلى دول الخليج وعموم الدول ذات الأكثرية المسلمة. جاء تشكيل فيلق القدس في أعقاب الحرب العراقية-الإيرانية أي بحدود عام 1990/1991 ووضع له المشرعون مهمات مباشرة يمكن تلخيصها بما يلي:
1.   المساعدة في دعم السياسة الخارجية الإيرانية الأمنية والعسكرية الهادفة إلى تصدير الثورة الإسلامية الصفوية إلى البلدان الأخرى.
2.   تم تشكيل فيلق القدس بحجة تحرير مدينة القدس من احتلال إسرائيل لها.
3.   أما الهدف الحقيقي فكان العمل على تشكيل ميليشيات مسلحة شبه عسكرية في الدول الأخرى وتدريبها لتمارس المهمات التي توكل إليها من قبل المرشد الإيراني الأعلى عبر فيلق القدس.
4.   تأمين الموارد المالية والعسكرية لها وللميلشيات المسلحة في الدول الأخرى، وعلى غرار ميليشيا حزب الله في لبنان.
5.   أن يكون المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران هو القائد والمسؤول عن فيلق القدس واختيار قائد عقائدي متطرف لها هو اللواء أحمد وحيدي (الملقب أحمد شريفي) (1958).
ولا بد من الإشارة إلى أن الحرس اثوري، وقبل تأسيس فيلق القدس بسنوات، قام على وفق تعليمات مباشرة من الخميني، في عام 1982 بتأسيس حزب الله وجناحه العسكري الذي ولد في إيران وأصبح لبناني الصورة إيراني الهوية والمصالح والأهداف.
ومنذ تأسيس فيلق القدس بشكل خاص بدأت عمليات تدريب عناصر من قوى الإسلام السياسي الشيعية على السلاح والدعوة الإسلامية و"الجهاد" من أجل الوصول إلى السلطة ونشر المذهب الشيعي الصفوي وعبر التعاون مع قوى الإسلام السياسي في دول الخليج والشرق الأوسط وبقية دول جنوب غرب آسيا، إضافة إلى الفلبين وحيثما وجد مسلمون شيعة. تولى اللواء أحمد وحيدي (الملق بأحمد شريفي) (1958) قيادة فيلق القدس منذ تشكيله حتى عام 1997 والذي عرف بتشدده العقائدي الصفوي وتطرفه العسكري والعمليات النوعية الإرهابية التي نفذها اتباعه والميليشيات التي شكلها أو دعمها. بعدها تسلم اللواء قاسم سليماني قيادة الفيلق ومارس عمله حتى قتله عبر صاروخ أمريكي في مطار بغداد مع مجموعة من العسكريين الإيرانيين والميليشياويين العراقيين في 02/01/2020. وإذا كانت فترة القائد الأول لهذه التشكيلة الإرهابية قد شهدت الكثير من العمليات الإرهابية والاغتيالات وإشاعة المشكلات بين الكثير من أتباع المذهبين الشيعي والسني في مناطق كثيرة من الدول ذات الأكثرية المسلمة وعمليات إرهابية كثيفة في الفلبين، فأن فترة القائد الثاني سليماني قد عمد إلى توسيع قاعدة الميليشيات المسلحة في المزيد من البلدان، لاسيما في لبنان وأفغانستان وسوريا والعراق واليمن والسعودية والبحرين. وهذه الميليشيات المسلحة بقيادة فيلق القدس تتحمل مسؤولية كبيرة جداً لما جرى ويجري في كل من سوريا والعراق ولبنان والبحرين وأفغانستان واليمن والسعودية والفلبين وباكستان وغزة، مع واقع وجود عوامل مساعدة لتلك العمليات بسبب السياسات غير الديمقراطية والاستبدادية لتلك الدول.
إن الضربة التي وجهت لإيران في قتل الجنرال قاسم سليماني، وهو الرجل الثاني فعلياً في إيران بعد خامنئي، والمستشار السياسي والعسكري والأمني المباشر لخامنئي على الصعيدين الداخلي والخارجي، كانت مباشرة وموجعة جداً تجاوزت فيها الولايات المتحدة الخطوط الحمر في العلاقات الدبلوماسية، باعتباره دبلوماسياً إيرانياً وجنرالاً عسكرياً. وكما هو معروف كان اسم سليماني على لائحة المتهمين المطلوبين في القائمة السوداء للولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر المسؤول الأول عن الضربات التي وجهت للأمريكيين في العراق وفي مناطق أخرى من العالم، إضافة إلى ضرب معسكر "كي وان" والهجوم على السفارة الأمريكية في العراق. والسؤال الذي يدور في بالي وبال الكثير من الناس هو، لماذا تم قتل هذا الرجل على الأرض العراقية، وكانت أمام ترامب فرصاً كثيرة لقتله في أماكن أخرى من العالم، سواء أكان في لبنان أم في سوريا مثلاً؟ في الإجابة عن السؤال تبرز الكثير من الاحتمالات والأهداف على وفق ما ورد على لسان الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين على الصعيد العالمي. في التحري عن الإجابة يقف الباحث أمام مسائل عقدية منها: الإحساس بحالة رثاء على شعبنا العراقي الذي يواجه إصراراً عجيباً من جانب الدولتين بجعل العراق ساحة مواجهة مباشرة بينهما على حساب إرادة ومصالح الشعب العراقي أولاً، كما من المخزي والمحزن أن نجد في العراق قوى إسلامية سياسية حاكمة ومتطرفة تريد أن يكون العراق طرفاً في هذا الصراع وساحة مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة ثانياً، من أجل إبعاد أو إنقاذ إيران من عواقب الصراع والنزاع المباشرين المحتملين على أرض إيران ذاتها. أي أنها مستعدة للتضحية بالعراق وشعبه لصالح إيران وشعبها، وهي في ذلك تمارس خيانة فعلية للشعب والوطن، أدركت ذلك أم لم تدركه!!!
إن قتل الولايات المتحدة للجنرال سليماني خارج أطر القانون الدولي وعلى أرض عراقية قاد عملياً إلى خلط كبير للكثير من الأوراق في العراق وشوش مباشرة وبقوة على انتفاضة الشعب الباسلة، وقدم هذا الفعل، شاء ترامب أم لا، في المحصلة النهائية خدمة كبيرة لقادة إيران الذين يحاولون الاستفادة من غضب الشارع العراقي، بسبب استخدام أمريكا للأرض العراقية في قتل سليماني وجعل الوطن المستباح أرضاً للمواجهة بين الدولتين، لصالحهم وضد الولايات المتحدة وضد المنتفضين!!!
إن عدالة وشرعية الانتفاضة ستتجاوز هذه المحنة والأزمة الجديدة لأن من يسمح بهذه المواجهة بين الدولتين على الأرض العراقية هي ذات الطغمة الطائفية المحاصصية الفاسدة التي تحكم العراق منذ العام 2003/2004 حتى الآن، وهي التي وفرت الغطاء الكامل لنشاط وفعاليات قاسم سليماني في العراق وفي قيادة الدولة العميقة بكل أجهزتها ومؤسساتها وقياداتها وأعوانها، إضافة إلى دوره في رسم سياسات ومواقف الدولة الرسمية وسلطاتها الثلاث أيضاً. وبالتالي فان هذه الأزمة المتفاقمة لن تحول دون تصاعد غضب الشارع العراقي وسلمية الانتفاضة ومواصلة النضال للتخلص من الطغمة الحاكمة ومن العملية السياسية الفاسدة والمشوهة، ومن النفوذ الإيراني والأمريكي والأجنبي عموما، وسوف لن يُكتب النصر للسفاح العراقي الخبيث رئيس وزراء تصريف الأعمال، عدل عبد المهدي.
لست ممن يفرح بقتل إنسان حتى لو كان عدوي المباشر وقاتل بعض أفراد عائلتي والكثير من أبناء شعبي، لأن القضاء هو المسؤول عن تحقيق العدالة، كما أرفض حكم الإعدام بكل أشكاله أساساً. ولهذا لم افرح بموت وبطريقة قتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وغيرهما، لاسيما وآن القتل حصل على أرض عراقية وتجاوز على سيادة البلاد المستباحة منذ سنوات كثيرة. ولكنني أشعر بالخزي لهؤلاء الحكام العراقيين الأوباش الذين لم تُسكب لهم دمعة واحدة على استشهاد ما يقرب من 1000 عراقي وعراقية وجرح ما يقرب من 30000 عراقي وعراقية على أيدي الميليشيات الطائفية المسلحة وبعض أجهزة الأمن العراقية العقائدية والمرتشية المؤيدة لقرارات صادرة عن فيلق القدس وقائده الجنرال قاسم سليماني، ولكنهم ذرفوا الدموع واللطم على الصدور على قتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، إنها المفارقة الصارخة التي تعبر عن طبيعة وهوية وولاء هؤلاء الحكام الأوباش الذين يحكمون العراق بالحديد والنار والخبث اللعين.
إن أوضاع منطقة الشرق الأوسط لن تهدأ ما لم تكف إيران عن تصدير ثورتها الإسلامية الشيعية الصفوية المتطرفة التي تثير في الطرف المقابل القوى السنية الوهابية المتطرفة وتُشعل المواجهات في الدول العربية وذات الأكثرية المسلمة في محاولة للهيمنة على قرارات هذه الدول وتحقيق مصالحها الاقتصادية أولاً، وما لم تتوقف محاولات الولايات المتحدة الأمريكية فرض هيمنتها على الشرق الأوسط وسياساتها الاستعمارية وعقوباتها التي تنطلق من ذهنية ليبرالية جديدة متطرفة جداً وتحت قيادة رجل تاجر رخيص لا يعرف من السياسة غير عهر المال والتهديد والكذب والاحتيال، ويصارع الدولة الإيرانية المتطرفة على الأرض العراقية ثانياً. إن حرية الإنسان في بلدان الشرق الأوسط وحياة شعوبها في أجواء الديمقراطية وتمتع دولها بالسيادة الوطنية هي المفقودة حالياً بسبب سياسات هاتين الدولتين اساساً ووجود أذرع قذرة لهما ممتدة داخل دول المنطقة وهي المتسلطة على رقاب شعوبها وتسمح لهما وللدولة التركية والسعودية وغيرهما أيضاً بالتدخل الفظ في الشأن العراقي واستباحة حقوقه وسيادته.
             

33
كاظم حبيب
من المسؤول عن جعل العراق ساحة صراع إيراني-أمريكي متفاقم؟
هذا ما كنا نخشاه، وهذا ما نبهنا إليه وحذرنا منه ودعونا إلى تجنب مخاطر تحويل العراق أو جعله ساحة مباشرة للصراع الأمريكي – الإيراني وموقعاً أمامياً للمواجهة وتصفية الحسابات بينهما على حساب الشعب العراقي وقضاياه العادلة، وتجاوزاً فظاً من جانب الطرفين على استقلال العراق وسيادته وحرمة أراضيه وحياة سكانه. لم يكن في أجندة البلدين الطامعين بالعراق احترام إرادة الشعب ومصالحه وتطوره واستقلال قراراته، بل كان وما يزال وسيبقى همهما الأول والأخير مصالح بلديهما وسبل الهيمنة على العراق ومنطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط.
منذ سنوات والشعب العراقي يدين سياسة البلدين ونهجهما الحامل للمخاطر الكبيرة والجدية على حياة ومصالح الشعب ويحتج عليهما ويتظاهر وينتفض ويطالب الدولتين بإيقاف نهجيهما العدوانيين وتصفية حساباتهما على الأرض العراقية، وهو ما كان ولا يزال يفعله بقوة وإصرار صادقين. ولم تكن هناك أذن صاغية. فالشعب المنتفض لا يمكنه أن يوقف تحويل بلاده إلى ساحة صراع أو إيقاف التدخل في شؤونه الداخلية والعدوان عليه، إذ إنها من المهمات الأساسية والمركزية للحكومة العراقية ومجلس النواب ورئاسة الدولة المركزية ومسؤولياتها المباشرة. ومن يتابع مجرى الانتفاضة الشعبية منذ ثلاثة شهور يدرك الضغط الكبير الذي يمارسه المنتفضون والمنتفضات على السلطات الثلاث لتغيير هذا الواقع المزري ويطالب بالتغيير الكامل لنهج الدولة والحكم ومجمل العملية السياسية الفاسدة والمشوهة. ولكن الحكومات العراقية المتعاقبة المصابة بالاغتراب الشديد عن إرادة الشعب ومصالحه ومستقبل أجياله لا تريد أن تصغي لصوت الشعب ولطخت أيديها بدماء الشبيبة العراقية المقدامة. وهذا النهج التدميري الإجرامي للطغمة العراقية الحاكمة قد أدى إلى ما نحن عليه اليوم حيث تفاقم الصراع والنزاع الأمريكي - الإيراني على الساحة العراقية.
فالحكومة العراقية، التي يقودها المستبد بأمر إيران، لم توقف اعتداءات الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران على المواقع العسكرية العراقية التي فيها جنود أو خبراء أمريكيون رغم التحذيرات الكثيرة التي قُدمت للعراق ومطالبة الحكومة باتخاذ ما يلزم لوقف هذه الاعتداءات. وآخر اعتداء وقع في معسكر "كي وان" وقاد إلى قتل ثلاثة أشخاص (أمريكي وعراقيين)، مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانتقام وتوجيه ضربة موجعة ضد لوائي 45 و46 على الحدود العراقية السورية وقتل وجرح ما يقرب من 100 شخص من ميليشا حزب الله التابع لإيران والذي يشكل جزءاً أساسياً من الحشد الشعبي. وإذا كان الفعل الإيراني الأول عبر الميليشيات الطائفية المسلحة وحشدها الشعبي تدخلاً فظاً في الشأن العراقي الداخلي وخوض الصراع ضد الولايات المتحدة في البلاد، فأن القصف الأمريكي لميليشيا حزب الله يعتبر هو الآخر تدخلاً فظاً وتجاوزاً على سيادة العراق الفاقد عملياً للسيادة منذ فرض الاحتلال الأمريكي، ثم هيمنة إيران الكاملة منذ العام 2010 على الدولة العراقية. إن قصف ميليشا حزب الله وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى دفع بالحشد الشعبي وميليشياته إلى تنظيم تظاهرة حشدية ضد السفارة الأمريكية وبموافقة الحكومة العراقية التي لم تمنع أجهزتها الأمنية من دخول المحتجين المتظاهرين إلى المنطقة الخضراء ثم الاعتداء على السفارة ومكاتب الاستعلامات وتدمير ما فيها وحرقها. وأظهرت مظاهرة الحشد مضمون هتافات المشاركين فيها والشعارات التي كتبت على جدران السفارة بأن هذا الجزء المشارك في المظاهرات ليس عراقياً بل تابع لإيران وأنه يقاد من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، إذ كانت الشعارات "امريكا برة برة، إيران تبقى حرة، قائدنه سليماني"، كما كُتب على الجدران "سليماني قائدي". ويبدو إن الرسالة الاستفزازية وصلت إلى الإدارة الأمريكية، فقرر ترامپ، على طريقته الخاصة والتيي تغيب عنها أية إستراتيجية سياسية عقلانية، الانتقام من الاعتداء على السفارة الأمريكية وممن اعتبر قائداً للحشد الشعبي العراقي وقائداً لفيلق القدس، فكانت الضربة الصاروخية المميتة التي وجهت لعربتين تحملان الجنرال قاسم سليماني وبعض الضباط الإيرانيين الآخرين وبعض قادة الحشد الشيعي، ومنهم أبو مهدي المهندس ومحمد رضا الجابري...، بعد خروجهم من مطار بغداد، فاحترقتا بمن فيهما. وتشير المعلومات التي تناقلتها الصحف العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي إلى وصول معلومات إلى الرئيس الأمريكي من وكالة المخابرات المركزية بوجود حالة استنفار في الحشد الشعبي يقودها قاسم سليماني تتجه صوب القصر الجمهوري لفرض رئيس وزراء تريده الطغمة الفاسدة، أو قتل رئيس الجمهورية وإعلان تشكيل حكومة جديدة بقيادة أسعد العيداني، والذي يعد انقلاباً عسكرياً حشدياً (إيرانياً) ومن ثم تقوم الحكومة الانقلابية بقمع الانتفاضة الشعبية بكل قسوة وتطرف. وتشير المعلومات بأن الفرق بين الضربة الأمريكية لموكب قاسم سليماني وساعة الصفر كان ساعة واحدة لا غير. نحن أمام اعتداء إيراني في الداخل العراقي وعلى أيدي عراقية على السفارة الأمريكية، وهو تدخل فظ بالشأن العراقي وضد سفارة أجنبية في المنطقة الخضراء المحمية من الحشد الشعبي الذي يقوده الجنرال قاسم سليماني من جهة، ورد فعل شديد القسوة والحساسية لإيران ضد أقوى ثاني رجل في الدولة الفارسية على الأرض العراقية، وهو تدخل فظ أيضاً. وبالتالي، تحول العراق بفعل نهج وسياسات ومواقف الدولة العراقية الهشة بسلطاتها الثلاث، إلى ساحة للصراع الإقليمي الدولي الأمريكي-الإيراني. والذي ستكون له تداعيات على العراق ذاته وقبل غيره.
ليس فينا من لا يعرف من هو قاسم سليماني، قائد فيلق القدس المسؤول عن عمليات التدخل السياسي والعسكري في دول منطقة الشرق الأوسط، والدور الذي لعبه منذ أعوام في السياسات الداخلية والخارجية للدولة العراقية في فترات حكم الجعفري، والمالكي، لاسيما في عام 2011 وضد الهبة الشعبية ضد حكومة المستبد في العراق بأمر إيران، وثم العبادي، وأخيراً في حكومة المنتفگي وفي قيادة الميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي والمسؤول عن قيادة الدولة العميقة والإشراف عليها في العراق، وتسبب، ومن معه من قيادات عسكرية رسمية وغير رسمية، بسقوط ما يزيد عن 500 شهيد، حسب الإحصاء الرسمي، وأكثر من 1000 شهيد حسب واقع الحال، وأكثر من 30000 جريح ومعاق خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عمر الانتفاضة الشعبية الباسلة ضد الطغمة الحاكمة، رغم سلمية المنتفضين والمنتفضات ورفضهم الرد بالمثل على قوى الأمن الداخلي أو على القتلة من أفراد الميليشيات الطائفية المسلحة وقوى معينة في الحشد الشعبي.
إن ما يجري في العراق يجسد في واقع الحال ما يلي:
1.   تبرهن الطغمة الحاكمة إنها مسيرة وتابعة وغير قادرة على حماية الشعب العراقي وسيادة العراق من التدخلات الخارجية، وأنها طغمة حاكمة فاسدة ومفسدة وخاضع لقرارات خارجية لا بد من الخلاص منها ومن مجمل العملية السياسية المشوهة.
2.   وأن نهج الدولة العراقية وسياسة الحكم هما من سمحا مع سبق إصرار على جعل العراق ساحة للصراع الإقليمي والدولي والمواجهة بين الولايات المتحدة والدولة الإيرانية وعلى حساب مصالح الشعب العراقي.
3.   وأن الدولة الإيرانية تهيمن حالياً على العراق كما أنه شبه مستعمرة لها بسبب الجيش الموازي للجيش العراقي، أي بسبب وجود الدولة العميقة المتمثلة بالميليشيات الطائفية المسلحة وقيادة الحشد الشعبي ذات الولاء المطلق لولي الفقيه علي خامنئي في إيران.
4.   وأن الدولتين الإيرانية والعراقية لا يعيران لإرادة ومصالح الشعب العراقي ولا يحترمان استقلاله وسيادته الوطنية، بل يتنافسان ويتصارعان وهمهما يتلخص بالسيطرة الكاملة على العراق وموارده الأولية والمالية وإخضاع سياساته لمصالحهما في المنطقة.
5.   إن ما حصل في العراق خلال الفترة الأخيرة يؤكد من جديد بأن الدولتين تخوضان صراعاً يستهدف تصفية حسابات بينهما على الأرض العراقية وعلى حساب الشعب العراقي، ولن يخوضا في الغالب الأعم حرباً مدمرة بينهما، بل سيسعيان إلى إيجاد لغة مشتركة ومساومة لاحقة بينهما على حساب العراق ومصالحه الأساسية أيضاً، كما أنه سيكون على حساب شعوب المنطقة، ومنها الشعب الإيراني ذاته.
6.   إن المهمة المباشرة أمام الشعب العراقي هي مواصلة انتفاضته الباسلة للخلاص من الطغمة الطائفية الفاسدة المهيمنة على الدولة العراقية والمسيرة خارجياً والتي تتلاطمها أمواج الصراع الإقليمي والدولي وضحيتها هو الشعب في وادي الرافدين. وأن المهمات التي رفعها المنتفضون والمنتفضات ما تزال تحتفظ بحيويتها وأكثر من أي وقت مضى، وأن على من يريد إقامة دولة ديمقراطية مستقلة ومجتمع مدني ديمقراطي الدعوة للخلاص من كل أشكال الوجود والتأثير الخارجي لصالح الإرادة الوطنية والسيادة العراقية.
7.   كما إن من واجب كل القوى الوطنية والديمقراطية العراقية الدعوة إلى تقوية الجيش العراقي وتطهيره من القوى الطائفية التي تصدت للانتفاضة الشعبية بأمر من قوى غير عراقية والدعوة إلى حل جميع الميليشيات الطائفية المسلحة وكذلك الحشد الشعبي وإنهاء دوره العسكري، لأنه ملغم بقيادات الميليشيات المسلحة ذات الولاء التام لإيران.
8.   إن من واجب المجتمع الدولي، لاسيما مجلس الأمن الدولي والهيئة العامة للأمم المتحدة والجامعة العربية، والرأي العام العربي والعالمي العمل على تهدئة الأوضاع بين الدولتين المتصارعين وإبعاد صراعهما الراهن عن الأرض العراقية، بهدف حماية السلام في منطقة مشتعلة أصلاً. فالمنطقة
برميل مثقل بكمية هائلة من البارود القابل للاشتعال ولا يحتاج إلا إلى ديناميت يرمى عليه، من أحدى الدولتين في لحظة يغيب عنهما الوعي الإنساني وتسيطر لغة القوة والحرب بدلاً من الحوار والدبلوماسية!
         
         
       


34
كاظم حبيب
إفشال العواقب المحتملة لنهج الطغمة الحاكمة في العراق
أكدت الأحداث الجارية في العراق عن النهج الخطير الذي تصر حكومة عادل عبد لمهدي ومعها كل الأحزاب والقوى السياسية المشاركة والمساندة والمؤيدة على الاستمرار في ممارسته، الذي جعل من العراق ساحة فعلية للصراع الإيراني الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وخطوط أمامية لإيران في مواجهة العقوبات الأمريكية المتنوعة. وبرز هذا بوضوح كبير في مواقف الميليشيات الطائفية المسلحة التي تشكل الهيكل العظمي والفكر المحرك للحشد الشعبي والدولة العميقة منها: الهجمات المسلحة الظالمة التي شنتها هذه القوى ضد انتفاضة الشعب في مختلف مدن بغداد ووسط جنوب العراق، ثم الاختطاف والقتل والاغتيالات والاعتقالات للمنتفضات والمنتفضين وتعريضهم لأبشع أساليب التعذيب الفاشية من تراث وترسانة الإسلام السياسي في محاولة لقمع الانتفاضة وتصفيتها وإنقاذ النظام السياسي الطائفي الفاسد والهش من السقوط في مزبلة التاريخ من جهة، والضربات العسكرية الخائبة التي وجهتها هذه الميليشيات المسلحة في الأشهر والأسابيع الأخيرة ضد المعسكرات والمواقع العراقية التي فيها خبراء أو قوات أمريكية، وكان آخرها ضد معسكر "كي وان" قرب القائم من جهة ثانية. وإذا كان نوري المالكي عبداً خانعاً ومطيعاً لسيده علي خامنئي ومستبداً شرساً على الشعب العراقي، الذي هو ليس منه، فأن عادل عبد المهدي اصبح خادماً ذليلاً ومنفذاً وقحاً لما يقرره قاسم سليماني وخدمه في العراق والمهيمنين على مكتب رئيس الوزراء والموجهين له من أمثال فالح فياض وأبو مهدي المهندس وهادي العامري وقيس الخزعلي وحامد الجزائري وقادة حزب الله وهاشم بنيان الولائي وأكرم عباس الكعبي ومحمد الحيدري وحفنة أخرى من رؤساء أبرز 67 ميليشيا طائفية مسلحة تشارك في الحشد الشعبي وتقود ألويته وسراياه وفصائله والتي يقودها ويشرف عليها فعلياً وعلى مجمل أفعالها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى العسكرية والأمنية الجنرال الإيراني البغيض قاسم سليماني.
لقد تبلورت خطة القيادة الإيرانية في استخدام الساحة العراقية لمواجهة العقوبات الأمريكية من جهة، وانتفاضة شعبها الإيراني من جهة ثانية، إضافة إلى مواجهة انتفاضة الشعب العراقي من جهة ثالثة، باستفزاز الولايات المتحدة ودفعها لإجراءات يمكن أن تعقد الوضع في العراق وتشغل الشعب العراقي عن انتفاضته، كما تشيع كراهية لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة. وقد استجاب عادل عبد المهدي الخانع لهذه الخطة القذرة فسكت عن جميع استفزازات الميليشيات الطائفية الفاسدة ضد المعسكرات العراقية والمنطقة الخضراء وأينما وجد أمريكيون فيها، ثم لم يخبر الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة أو تأخر في إعلامها بقرب وقوع ضربة عسكرية في أحد أو أكثر على مواقعها، بهدف حصول الضربة وإثارة الزوبعة المنشودة. وهو الذي حصل فعلاً. فتحرك الحشد الشعبي بكل ميليشياته المسلحة وقادته ليتظاهروا ويعتصموا أمام السفارة الأمريكية. ولم تقف الحكومة العراقية ولا أجهزتها القمعية لمنع دخول هذه العصابات المسلحة إلى المنطقة الخضراء، كما منعت قبل ذاك المتظاهرين من الاقتراب حت عن بعد من هذه المنطقة. لقد كانت خطة مدبرة ومنسقة بين الحكومة الإيرانية والحكومة العراقية من خلال قاسم سليماني المشرف على تنفيذ "الخطة رقم 2".
ثم جاء التهديد الأمريكي للحكومة العراقية مما دفع بها لمطالبة الحشد وميليشياته بالابتعاد عن السفارة الأمريكية بعد أن خربوا وأشعلوا النيران في جوانب منها. ويمكن، في ضوء الأحداث الأخيرة، وضع الاستنتاجات التالية:
1)   اعتراف الميليشيات الطائفية المسلحة بوضوح تام بأن ولاءها لإيران ولمرشدها علي خامنئي ورئيسها المباشر قاسم سليماني، وأنها ملزمة بتنفيذ قراراتهم فقط، وليس ولاءها للعراق وقواته المسلحة ولجزار الشعب الخبيث عادل عبد المهدي، الذي خان الأمانة التي وضعت في عنقه حين اقسم بالحفاظ على العراق وشعبه. وقد جاء هذا الاعتراف على لسان قادة قوى الحشد الشعبي نفسه دون استثناء!
2)   الهيمنة الفعلية الشديدة لإيران على القرار السياسي للحكومة العراقية وعلى كل الطغمة الحاكمة التي ما تزال متشبثة بالنظام السياسي الطائفي الفاسد والمشوه.
3)   وبالتالي أظهرت الأحداث عجز الحكومة العراقية الفعلي على اتخاذ قرار مستقل تمتثل له الميليشيات الطائفية المسلحة، بل يطالبها "قائدها الرسمي!" بالانسحاب من محيط السفارة الأمريكية والتظاهر والاعتصام في مواقع أخرى!!!
4)   برهنت هذه الأحداث إن الحشد الشعبي بميليشياته المسلحة أقوى عدة وعدداً من القوات المسلحة العراقية أولاً، وأن في عداد القوات المسلحة العراقية، ومنها قوى الأمن الداخلي، التي بنيت على أساس المحاصصة الطائفية أيضاً، الكثير ممن يلتزمون بقرارات الحشد الشعبي وينفذون أوامره ثانياً. وهذا ما حصل في الموقف من الانتفاضة الشعبية ومن الدخول إلى المنطقة الخضراء والتظاهر أمام السفارة الأمريكية.
5)   وتجلى في الأحداث الأخيرة الفارق الكبير بين النهج الوطني والسلوكيات الحميدة لقوى الانتفاضة الشعبية السلمية المطالبة بحقوق الشعب وسيادة الوطن من جانب، وبين النهج الولائي لإيران والسلوكيات العدوانية والتصريحات المشينة لأفراد الميليشيات الطائفية المسلحة التي تفتخر في كونها تلتزم بمرجعية علي خامنئي وأن قائدها الفعلي هو قاسم سلماني، وإن وطنها إيران وليس العراق، من جانب آخر!!! وعبر عن موقف ناضج وسليم حين تبرأ المنتفضون والمنتفضات من تلك الجمهرة التي دخلت إلى المنطقة الخضراء وحاصرت السفارة الأمريكية، فهدف الانتفاضة هو التغيير الجذري للعراق ونهجه وسياساته الداخلية والخارجية، بما في ذلك تحالفاته الإقليمية والدولية، ومنها الاتفاقية الأمنية والوجود الأمريكي في العراق. وقد برز نفور المنتفضين من هذه الزمرة الخائبة بشعار المتظاهرين "موش ويانه الذيل الطب للخضراء". (ليس معنا ذلك الذيل الذي دخل الخضراء).
6)   وبرهنت الأحداث بوضوح أن الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية عاجزة عن حماية المنطقة الخضراء والسفارات والممثليات الأجنبية فيها من تجاوزات الميليشيات الطائفية المسلحة المشكلة للحشد الشعبي، لأنها لا تمتلك السيطرة على هذه الحشد التابع في أغلبه لإيران مباشرة.
وإزاء الأحداث الأخيرة تبرز، كما أرى، مجموعة من المهمات المباشرة أمام قوى الانتفاضة الشعبية، منها:
** مواصلة الانتفاضة وتعظيم زخمها وكسب المزيد من بنات وأبناء الشعب العراقي من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية ومن مختلف المهن، ومن النساء والرجال، ومن المدينة والريف للمشاركة في الانتفاضة المقدامة.
** الإصرار على تحقيق الأهداف النبيلة التي طرحتها قوى الانتفاضة في ساحة التحرير وفي بقية ساحات وشوارع العراق، لاسيما التغيير الجذري لنظام الحكم الطائفي المحاصصي الفاسد والمشوه، وإقامة نظام ديمقراطي حديث ومجتمع مدني ديمقراطي حديث وعقلاني، وبقية الأهداف المسطرة في أجندة الانتفاضة.
** إيجاد الأطر التنظيمية المناسبة والتنسيق الفعال لقوى الانتفاضة في أنحاء البلاد والقيادة الناضجة والواعية للما يدبر ضدها من مناورات ومؤامرات لا لفضحها فحسب، بل وإفشالها والانتصار عليها وتحقيق المنشود.
** المطالبة العاجلة بتسمية رئيس وزراء وحكومة وطنية وديمقراطية مستقلة ونزيهة برئيسها وأعضائها وحريصون على تنفيذ إرادة الشعب والدفاع عن مصالحه وحقوقه وسيادة الوطن.
** منع استمرار جعل العراق جزءاً من الطرف الإيراني في الصراع الجاري بين إيران والولايات المتحدة، كما يجب ألا يكون العراق إلى جانب الولايات المتحدة في هذا الصراع، إذ لا بد من تجنيب الشعب حروباً جديدة، لا ناقة له فيها ولا جمل. 
** التنسيق مع القوى المساندة للانتفاضة في خارج البلاد لضمان التعبئة الدولية والرأي العام العالمي إلى جانب الانتفاضة وتأييد مطالبها العادلة والمشروعة، والنأي بالعراق عن الصراعات الإقليمية والدولية.
** مطالبة مجلس الأمن الدولي باتخاذ قرار يُحرًّم استخدام الدولة لأجهزتها القمعية أو مؤسسات وميليشيات الدولة العميقة المرتبطة بها وبإيران والمنسقة معها ضد الانتفاضة الشعبية، وفرض امتثال إيران لقرارٍ يمنعها استخدام العراق ساحة أمامية في صراعاتها الإقليمية والدولية.
   
                         
   
 

35
كاظم حبيب
خطة رقم 2 لإيران وميليشياتها في العراق
استغربَ الجنرال الإيراني قاسم سليماني جداً من فشل خطته المحكمة في قمع المنتفضين والمنتفضات في العراق، رغم استخدامه الفعلي لجزءٍ مهمٍ من قوى القمع الداخلي ذات الولاء الفعلي الطائفي لإيران أو المرتشية، إضافة إلى كل المليشيات الطائفية المسلحة التي تعتبر نفسها جزءاً أساسياً من الدولة العميقة التي يقودها خامنئي الإيراني في البلاد، ورغم استخدام سليماني وتوابعه أبشع أساليب القمع من قتل جماعي واغتيالات واختطاف وتعذيب وتغييب، التي أدت إلى سقوط ما يقرب من 1000 شهيد و30 ألف جريح ومعوق ومختطف ومعتقل. في حين استطاع أمثاله من العسكريين والحرس الثوري والبسيج وغيرها من التنظيمات القهرية في إيران قتل وجرح وإعاقة واعتقال نصف هذين العددين في قمع وإجهاض هبَّة الشعب الإيراني الصديق ولو إلى حين. هذا الفشل أثار أعصاب رئيسه الإيراني علي خامنئي، إذ أصدر له الأوامر باستخدام الخطة رقم 2 من مجموع خطط الاحتياط الإيرانية لمعالجة الوضع في العراق قبل أن يفلت زمام الأمور من يديها.
بدأت الخطة رقم 2، باستفزاز مباشر للولايات المتحدة في العراق، والتي بدأت منذ فترة وجيزة بتوجيه قذائف صوب السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء أو توجيه قذائف باتجاه مواقع عسكرية عراقية فيها قوات أمريكية أو خبراء، والتي صبرت عليها الولايات المتحدة ولم تشجب من المسؤولي الدولة العراقية، إلى أن أدى القصف الأخير على قاعدة "كي وان" إلى قتل متعاقد أمريكي وعراقيين يعملان في "كي وان". أثار هذا الفعل الاستفزازي الرئيس الأمريكي ترامب ولم يفكر بما تبيته وتريده إيران من هذه الاستفزازات العسكرية لمواجهة انتفاضة الشعب العراقي ودون أية حسابات سياسية عقلانية، كما هي عادته السيئة، وجه ضربة عسكرية شديدة القسوة إلى جزء مهم وأساسي من الجماعات التابعة لإيران في العراق، إلى ميليشيات حزب الله، التي تشكل بقوة أساسية في الحشد الشعبي، التي لا يشرف عليها القائد العام للقوات المسلحة بل يقودها قاسم سليماني الإيراني جملة وتفصلا. وقد سقط لهذه الميليشيات الحشدية 27 قتيلاً وأكثر من 50 جريحاً ومعوقاً. وبذلك نجح الإيرانيون تحقيق هدف "الخطة رقم 2" كمدخل لإشاعة الفوضى في العراق وتسليط قوى الحشد الشعبي على الساحة العراقية والتمهيد لضرب الانتفاضة بذريعة إنها من أفعال الولايات المتحدة وإسرائيل في العراق، وأن العراق يواجه مؤامرة أمريكية-إسرائيلية ضد نظامه السياسي!!! وهو ما ظهر واضحاً منذ اللحظة الأولى لضربة معسكر الميليشيات الشيعية الإيرانية المتطرفة قرب القائم باتجاهين:
1)   تصريحات نارية مهددة بالانتقام من الولايات المتحدة في العراق والتي جاءت على لسان هادي العامري وقيس الخزعلي والفياض وأبو مهدي المهندس، "الذي أكد بأن قاسم سليماني هو قائده الفعلي ويفتخر أنه جندي لدى سليماني وأن استشهد أن يدفن في إيران وليس في العراق!!"، وبقية قادة ميليشيا حزب الله في العراق ولبنان أولاً، وعلى لسان المسؤولين الإيرانيين ومنهم وزير خارجية إيران ظريف ثانياً.
2)   تحشيد جمهرة من أكثر العناصر وحشية وعدوانية من عناصر الميليشيات الطائفية المسلحة وقادتها للاعتداء على السفارة الأمريكية والذي حصل صباح يوم 31/12/2019 بالدخول إلى باحتها والتهديد بغلقها والتهديد بتطويق كل المواقع التي فيها قوات أمريكية بهدف طردها من العراق. وكان الهدف الرئيسي لهذه الميليشيات "أمريكا برة برة" و "قاسم سليماني قائدي"!!!
والملفت للنظر في سلوك أجهزة الدولة الأمنية أن سقط للمنتفضين والمنتفضات الكثير من الشهداء والجرحى والمعوقين بسبب اقترابهم من منتصف الجسر الموصل إلى المنطقة الخضراء على أيدي أجهزة الأمن العراقية، في حين هذه الأجهزة ساكناً لمنع الميليشيات المسلحة من الدخول إلى المنطقة الخضراء وإشعال النيران في غرف في باحة السفارة الأمريكية وتخريب وكسر النوافذ فيها.
لا شك في أن الضربة الصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية على الأراضي العراقية تعتبر تجاوزاً على سيادة البلاد ولم تكن ضرورية بأي حال ولا بد من إدانتها. كما إن الضربات التي وجهتها الميليشيات الطائفية المسلحة بقرار من إيران ضد المعسكرات العراقية التي فيها قوات أمريكية تعتبر تجاوزاً أيضاً ومستمراً على السيادة العراقية والتي يفترض أن تدان من جانب الدولة العراقية، والتي لم يمارسها الحكام العراقيون الخاضعون للقرارات الإيرانية.
 ما هي الخطوة القادمة التي سيقوم بها أتباع إيران في العراق؟
ستكون الخطوة القادمة جزءاً من "الخطة رقم 2" التي يسعى قاسم سليماني تنفيذها في العراق:
1) تقديم نواب الأحزاب الإسلامية السياسية طلباً إلى مجلس النواب لإصدار قرار بسحب القوات الأمريكية من العراق، والذي سيجد مقاومة من جزء من قوى الحكم ذاته لأنها سيسقط العراق كلية في الحضن الإيراني المطلق من جهة، وستبدأ صراعات وحرب مريرة في العراق ويتحول إلى سوريا ثانية من جهة أخرى، وهو ما تسعى له إيران، إن عجزت عن فرض هيمنتها التامة على العراق!
2) أما الجزء الآخر من "خطة رقم 2" الإيرانية الميليشياوية فسيتوجه صوب الانتفاضة ومحاولة الهجوم عليها والتحريض ضدها واتهامها بأبشع التهم الجاهزة والكاذبة من جهة، وترشيح واحد من طغمتها الفاسدة وتقديمه إلى رئيس الجمهورية لفرضه كرئيس وزراء جديد من جهة ثانية!
إن على قوى الانتفاضة الشعبية إفشال "الخطة رقم 2"، كما أفشلت "الخطة رقم 1"، الموجهة ضد الانتفاضة، كما إن من واجب الجميع التفكير المعمق بالعوامل المتنوعة والمختلفة المحركة للصراعات الراهنة في العراق، وتلك القوى الراغبة في إخماد جذوة الانتفاضة الشعبية، لاسيما وأن القائد العام للقوات المسلحة لا يملك أية سيطرة على قوات الحشد الشعبي والتي ادعى أخيراً بأنه يسيطر على 95% منها، في حين لا تصل سيطرته حتى على 5% من قوات الحشد الشعبي المنفلتة من عقالها.
إن "الخطة رقم 2" ليست سوى محاولة خبيثة وقذرة للالتفاف على مطالب الشعب العراقي في انتفاضته الباسلة، محاولة لتحويل دفة الصراع ضد النظام السياسي الطائفي الفاسد وضد إيران التي تشرف وتقود القوى الفاسدة وتهيمن على سياسة وقرارات العراق، إلى صراع نحو الخارج، ضد الولايات المتحدة الأمريكية، باعتباره الشيطان الأكبر كما جاء في هتافات المليشيات المسلحة أمام السفارة الأمريكية، وه الذي سوف لن يسمح له المنتفضون والمنتفضات، رغم موقفهم المبدئي ضد السياسات الأمريكية في العراق والشرق الأوسط.   
         

36
كاظم حبيب
دور الميليشيات في الحشد الشعبي في تأجيج الصراع الخارجي!
من يتابع تطور الانتفاضة الشعبية واتساع قاعدة المشاركين فيها وتكرس أهدافها العادلة والمشروعة في أذهان الشعب، وتأييد متزايد إقليمياً ودولياً لمطالب الشعب من جهة، وبروز عجز متفاقم لدى الطغمة الحاكمة وقوى الدولة العميقة المنسقة معها على المناورة وفشلها حتى الآن بدفع أحد أكبر فاسديها لتولي رئاسة الحكومة من جهة ثانية، دفع بها إلى افتعال معارك جانبية مع القوات الأمريكية الموجودة في العراق من خلال توجيه ضربات صاروخية ضد القاعدة العسكرية في كي وان حيث يوجد مجندون أمريكيون فيها باتفاق رسمي مع الحكومة العراقية من جهة ثالثة. وبحسب المعلومات المتوفرة فأن الميليشيات الطائفية المسلحة العاملة في الحشد الشعبي والمسيطرة بقوة على قيادة هذا الحشد، قامت "منذ 28 تشرين الأول/اكتوبر، بشن 11 هجوماً على قواعد عسكرية عراقية تضم جنوداً أو دبلوماسيين أميركيين، وصولا الى استهداف السفارة الأميركية الواقعة في المنطقة الخضراء المحصنة أمنيا في بغداد." وأن "أول عشرة هجمات أسفرت عن سقوط قتيل وإصابات عدة في صفوف الجنود العراقيين، إضافة إلى اضرار مادية، غير أنّ هجوم الجمعة المصادف 27/12/2019 مثّل نقطة تحوّل حيث لم يسفر الهجوم عن مقتل متعاقد أميركي فحسب، وإنّما كانت المرة الأولى التي تسقط فيها 36 قذيفة على قاعدة واحدة يتواجد فيها جنود أميركيون، وفق مصدر أميركي." (راجع: تصعيد خطير في العراق، حسب بغدادـ (أ ف ب)، موقع رأي اليوم 30/12/2019). والغريب بالأمر أن الحكومة العراقية برئاسة عادل عبد المهدي لم تشجب هذه الاعتداءات العسكرية على القواعد العسكرية العراقية التي فيها جنود أمريكيون، بل سكتت عنها أو اشارت إلى إنها تحقق في الأمر ولم تظهر أي نتيجة حتى الآن، لأنها تعرف الفاعلين جيداً، فهي منهم وإليهم!
وأمس، الأحد 29/12/2019، قام الطيران الأمريكي بالرد المباشر على مواقع حزب الله في الحشد الشعبي، حيث تم قصف ثلاث مواقع لميليشيات حزب الله العاملة ضمن الحشد الشعبي في الأراضي العراقية غربي القائم، وموقعين في الأراضي السورية على الحدود بين البلدين. وقد ذكرت مصادر في هيئة “الحشد الشعبي” العراقية فجر اليوم الاثنين أن إجمالي ضحايا قصف الطيران الأمريكي على مقرات الحشد ارتفع إلى 25 قتيلا ونحو 50 جريحا في قضاء القائم 500/ كم أقصى غربي العراق." (راجع: ارتفاع ضحايا الحشد الشعبي في القصف الأمريكي، موقع القدس في 30/12/2019). وأشار بيان صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن “الأهداف الخمسة التي استهدفها القصف تشمل ثلاثة مواقع للكتائب، في العراق، واثنين في سوريا”، مردفاً “شملت هذه المواقع مرافق تخزين الأسلحة ومواقع القيادة والسيطرة التي يستخدمها حزب الله للتخطيط وتنفيذ الهجمات على قوات التحالف”. (راجع: مضمون اتصال بين عبد المهدي وآل حيدر بعد الضربة الأميركية ضد مقار كتائب حزب الله، موقع ناس، 30/12/2019).
السؤال العادل الذي يواجه كل مواطنة ومواطن في العراق مباشرة هو: ما هو السبب الحقيقي وراء هذا التصعيد العسكري للصراع الإيراني – الأمريكي في الأراضي العراقية من جانب ميليشيات "كتائب حزب الله" العراقية- الإيرانية العاملة ضمن الحشد الشعبي؟
كل المؤشرات التي تحت تصرفي تقول بأن هذه الميليشيات الطائفية المسلحة والفاسدة، إيرانية الهوية الإيديولوجية والهوى الطائفي، كجزء من الدلة العميقة، بذلت المستحيل لقمع الانتفاضة الشعبية ودحرها واستخدمت القتل الجماعي والاغتيالات والتعذيب والاختطاف والقتل اليومي للنشطاء والكذب والمناورة والتآمر، ولكنها فشلت حتى الآن. ويبدو أن رئيسها الذي علمها السحر (خامنئي وممثله سليماني)، دفع بها لتصعيد الصراع العسكري ضد الولايات المتحدة في العراق بهدف إبعاد أذهان الناس عن الانتفاضة الداخلية وتسليط الانتباه على تبادل القذائف بين القوات الأمريكية وقوات الميليشيات الشيعية المسلحة أولاً، وإثارة الشعب ضد الوجود العسكري الأمريكي في البلاد ثانياً، والتوجه لبذل المزيد من الجهد لقمع الانتفاضة الشعبية بأساليب خبيثة جديدة.     
وفي الوقت الذي لم تشجب الدولة العراقية بمختلف سلطاتها قصف المعسكر العراقي كي وان وبقية المواقع العسكرية حيث توجد قوات أمريكية فيها من جانب ميليشيات حزب الله وميليشيات مسلحة أخرى خاضعة لقرارات خامنئي وسليماني ضمن قوى الحشد الشعبي، بادرت إلى شجب القصف الأمريكي على القواعد العسكرية الإيرانية فعلياً في العراق. لا أشك في أن الرد الأمريكي سيعقبه رد من جانب الميليشيات، وقد بدأ فعلاً في معسكر التاجي حيث يوجد مجندون أمريكيون مما سيثير الولايات المتحدة ثانية، وهكذا سيدخل البلد في دوامة من هذا النوع وهو هدف الميليشيات الطائفية المسلحة وقيادة الحشد الشعب ذات الهوية والهوى الإيرانيين.
علينا شجب استخدام الساحة السياسية والعسكرية العراقية أرضاً للصراع العسكري والسياسي بين الولايات المتحدة وإيران، إذ إنه سيقود إلى احتمال نشوب حرب جديدة تحرق الأخضر واليابس في آن واحد. إن المسؤولين العراقيين يتحملون مسؤولية المنع الكامل للنشاط غير المشروع للميليشيات الطائفية المسلحة وحشدها الشعبي وتحريم استخدام سلاحها ضد القواعد العسكرية العراقية عموماً وتلك التي فيها جنود أمريكيون، ووجودهم بموافقة رسمية من الحكومة العراقية. إن هذا الفعل يؤدي بالضرورة إلى جر العراق لما لا يسعى إليه الشعب العراقي ولا يريد استبدال النضال من أجل تغيير الطغمة الحاكمة والنظام السياسي الطائفي الفاسد بصراع خارجي لا ناقة للشعب فيه ولا جمل، بل سوف يتحمل خسائر بشرية ومالية لا حصر لها.
ويبدو لي أن الأيام القادمة ستشهد تصعيدين: الأول تصعيد ضد الولايات المتحدة وتعبئة المؤيدين للميليشيات الطائفية المسلحة بمظاهرات وشعارات "ليس منّا الذل"، بمعنى الانتقام من القوات الأمريكية في العراق، والتصعيد الثاني سيكون بالهجوم على قوى الانتفاضة والادعاء بأنهم يشاركون الولايات المتحدة تآمرها على الحكم الطائفي الفاسد القائم. وهو ما سمعناه دوماً وسنبقى نسمع الادعاء بأن الحركة الثورية هي من صنع أمريكا وإسرائيل، وهو ليس باتهام باطل فحسب، بل ويتحمل أصحابها مسؤولية ارتكاب جرائم بحق المتظاهرين كما حصل حتى الآن وأدى إلى استشهاد أكثر من 1000 مواطن ومواطنة وإلى جرح أكثر من 22 ألف متظاهر واعتقال الآلاف ...الخ. 
إن المناورات وإثارة الصراعات مع الخارج في داخل البلاد لن تنفع قوى الطغمة الحاكمة والدولة العميقة، لأنها المنتفضين لا يشغلهم غير التغيير الجذري للنظام السياسي الفاسد والعملية السياسية المشوهة، ولأن قوى الظلم والظلام تقف ضد الشرعية وضد العدالة في حكم البلاد، في حين يناضل الشعب من أجل حقوقه ووطنه المستباح والجريح.

37
كاظم حبيب
ضد من يخوض الشعب العراقي معركته العادلة؟
ليس فينا جميعاً من كان يتصور أن الشبيبة المقدامة قادرة، وفي لحظة تجلى حاسمة، أن يهتز النظم السياسي الطائفي الفاسد والمسنود بقوة هائلة من الخارج بهذه السرعة الزلزالية. كما لم يكن أحدنا يتصور أن النظام ذاته سيجد نفسه في وضع لم يسبق له مثيل ويهتز من الأعماق فيفقد صوابه تماماً. وليس فينا من كان يتصور أن هذا النظام الإسلامي السياسي المتطرف بأساليبه الفاشية في الحكم والتعامل الوحشي مع الشعب والرأي الآخر أن سيستسلم بسهولة ويتنازل عن الحكم ويسلمه للشعب المطالب بحقوقه المسروقة وبالوطن المنهوب والكرامة المجروحة.
ولكن الكثير منّا، وأقصد من عارض ويعارض هذا النظام السياسي الطائفي الفاسد بمختلف صيغ المعارضة، كان يدرك بما لا شك فيه أن هذا النظام، الذي رفض كل نداءات الشعب بتوفير الحرية والكرامة ولقمة عيش كريمة وفرصة عمل وكهرباء وماء ونقل ومواصلات واتصالات وصحة وتعليم عقلاني وبيئة نظيفة، سيمارس كل السبل المشروعة وغير المشروعة، الجزرة والعصا، الكذب، العادات والتقاليد البالية، وكذلك السلاح الحي والاغتيال والاختطاف والاعتقال والتعذيب والقتل الواسع النطاق، إضافة إلى الدين، الذي تحت غطاءه سرقوا أموال الشعب، في مواجهة قوى الانتفاضة الشبابية التي تحولت في فترة قصيرة جداً إلى انتفاضة شعبية متواصلة منذ الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حتى الوقت الحاضر (30/12/2019) وستستمر حتى تحقيق النصر.
لقد استخدمت الطغمة الحاكمة، الفاقدة للشرعية الفعلية بانتفاضة الشعب الجارية، الدولة بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبكل أجهزتها القمعية، ومؤسسات وميليشيات الدولة الإرهابية العميقة، وقوى الدولة الجارة، إيران، المتحكمة بالطغمة السياسية الفاسدة الحاكمة بالبلاد، دفاعاً عن نظامها السياسي الطائفي والأثني الفاسد والمشبع بالحقد والكراهية ضد الشعب ومصالحه وطموحاته وأجياله القادمة.
يوجد في العراق الان معسكران متمايزان ومتناقضان يتصارعان: المعسكر الأول، معسكر الشعب، ويشمل:
أولاً: الفئات الشعبية الكادحة التي تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمحرومة من الحياة الإنسانية التي يفترض أن تتوفر للفرد، إنها الفئات العاطلة عن العمل أو العاملة على هامش الاقتصاد الوطني والتي تشكل نسبة عالية من أبناء وبنات الشعب العراقي، ‘نهم ضحايا الطائفة والفساد.
ثانياً: فئات البرجوازية الصغير المنتشرة في العراق ومنها الكسبة والحرفيين والمعلمين والمدرسين وصغار الموظفين والجمهرة العظمى من المثقفين والطالبات والطلاب وتلاميذ المدارس الثانوية الواعين بحقائق الوضع في العراق.
ثالثاً: الطبقة العاملة التي تعمل في قطاع النفط الخام والميناء والسكك الحديد والمعامل الحكومية المتوقفة عملياً والقطاع الخاص، إضافة إلى نسبة عالية تعمل في قطاعات الخدمات العامة والخدمات الإنتاجية أو أنها عاطلة عن العمل جزئياً أو كلياً.
رابعاً: فئات فقراء الريف والفلاحين المعدمين العاملين لدى كبار الملاكين والعائلات الإقطاعية القديمة التي استعادت قوتها وهيمنتها على الريف العراقي والزراعة العراقية.
خامساً: فئات البرجوازية المتوسطة الصناعية والزراعية وقطاع تجارة المفرد الداخلية وجمهرة من متوسطي الموظفين في البنوك الخاصة والحكومية.
تسنى لقوى الانتفاضة الجارية أن تعبئ جماهير واسعة من القوى الواعية من الأجزاء الثلاثة الأولى وتزجها في النضال من أجل قضية الشعب والوطن وتحت شعار "نازل أخذ حقي!"، في حين ما تزال الانتفاضة لم تعبئ بما يكفي من قوى الجزئين الآخرين، أي من الفلاحين والفئات المتوسطة التي تشكل قوة ضرورية لتغيير ميزان القوى لصالح الانتفاضة. ويبدو إن استمرار الانتفاضة يمكن أن يجلب لها المزيد من تلك المجموعتين السكانيتين وانخراطهما مع قوى الانتفاضة. ومن هنا تنشأ الحاجة لتكثيف العمل لا في الساحات والشوارع فحسب، بل وكذلك في الريف العراقي وبين الفلاحين الفقراء وصغار الفلاحين والمعدمين، وكذلك في صفوف أجهزة الدولة والفئات المتوسطة التي من مصلحتها تغيير الواقع الراهن لصالح المجتمع والتطور الاقتصادي.
أما المعسكر الثاني فيشمل كل القوى، ومن مختلف القوميات، التي ترى في النظام السياسي الطائفي والفاسد مصلحة لها في بقاءه واستمرار تدفق الأموال عليها وبقية الامتيازات التي تحققت لها خلال سنوات الاحتلال والحكم الطائفي الفاسد، وبالتالي فهي ترى في الانتفاضة تقويضاً لدولتها وسلطاتها الثلاث ومصالحها، لاسيما المالية، ونفوذها الاجتماعي والسياسي الداخلي والخارجي. ويشمل هذا المعسكر، الذي تحول إلى عدو للشعب عملياً، إلى المجاميع التالية:
أولاً: البرجوازية البيروقراطية والطفيلية الحاكمة التي تتربع على قيادة الدولة بسلطاتها الثلاث وأجهزتها المدنية والعسكرية وعلى رأس الدولة العميقة بمؤسساتها وميليشياتها الطائفية المسلحة. إنها الفئات الرثة التي تتجلى رثاثتها في مجالات الفكر والممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وفي علاقات تبعية خارجية جارحة لكرامة الشعب ولاثمة للسيادة والاستقلال الوطني. ونجد فيها قادة والكثير من كوارد الأحزاب الحاكمة وقادة الميليشيات الطائفية المسلحة والقيادات التي تشرف على وتقود قوى الجريمة المنظمة، لاسيما الاقتصادية والمالية والمتاجرة بالسلاح والبشر وأعضاء الإنسان والمخدرات والكحوليات والسوق الموازي...الخ.
ثانياً: بقايا كبار الملاكين والعائلات الإقطاعية القديمة، وكبار التجار الكومبرادور المعروفين بهيمنتهم على التجارة الخارجية وعداءهم المفضوح للتنمية الإنتاجية لاسيما التصنيع وتحديث الزراعة، إضافة إلى البرجوازية العقارية التي نهبت الكثير من الأراضي والعقارات من جهة، وتستغل المجتمع بهيمنتها على سوق بيع وتأجير السكن والبناء والعقارات من جهة أخرى. وتصطف معها البرجوازية المالية التي تهيمن على نسبة عالية من الأموال وعلى المصارف الخاصة والسياسة المالية للدولة العراقية وعلى البورصة ومزاد العملة الصعبة.
هذه القوى المناهضة لأي تغيير في العراق قد تسنى لها خلال السنوات المنصرمة تحقيق ما يلي:
1)   الهيمنة وبمختلف السبل غير المشروعة على نسبة عالية جداً من حجم الأموال التي تحققت للعراق من بيع نفطه، كما توفرت للميزانيات السنوية مبالغ مالية كبيرة وصل مجموعها للفترة بين 2003 - 2019 حوالي 1160 مليار دولار$.
2)   إعاقة أي توجه فعلي للتنمية الاقتصادية والبشرية، ولاسيما التصنيع وتحديث الزراعة وحماية البيئة، كما إنها لم توفر حتى للقطاع الخاص فرصاً مناسبة لاستثمار رؤوس أمواله في الصناعة الوطنية وفتح فرص لتشغيل الأيدي العاطلة عن العمل.
3)   حاربت الإنتاج الصناعي والزراعي المحليين بمختلف السبل، لاسيما إغراق الأسواق العراقية كلها بالسلع الإيرانية والتركية على التوالي، ومن ثم من الصين ودول أخرى، وغالباً ما تكون نوعيتها عموماً أسوأ السلع، وهي أرخص من السلع المنتجة محلياً رغم اختلاف النوعية لصالح بعض المنتجات المحلية.
4)   هيمنة القطاع الأجنبي، لاسيما الإيراني والتركي، على عقود البناء والإعمار ودخول المقاولين العراقيين كوسطاء وسماسرة أو الجهة الثالثة أو الرابعة لتنفيذ المشاريع بعد بيعها المتتابع لقاء رشوة مالية كبيرة.
5)   عدم توفير فرص عمل في القطاعات الإنتاجية، مما أجبر المسؤولين الفاسدين على فتح باب التعيين في دوائر الدولة، المدنية والعسكرية والأمنية، مما جعلها مشبعة جداً وتعاني من بطالة مقنعة شديدة واستنزاف مبالغ كبيرة من ميزانية الدولة لصالح الرواتب والامتيازات لكبار موظفي الدولة والوزراء والنواب وحماياتهم...إلخ.
6)   إهمال شديد لمصالح المجتمع وظروف حياته والتي تجلت في تراجع شديد للخدمات بكل قطاعاتها، كالصحة والتعليم والكهرباء والماء والنقل والاتصالات.. والذي أدى إلى مزيد من التذمر والغضب. 
7)   إشاعة الصراع القومي والديني والطائفي في البلاد في محاولة لتنفيذ سياسة "فرق تسد" الاستعاري.           
إن الصراع الدائر في المجتمع حالياً ليس قومياً، ولا دينياً، ولا مذهبياً، بل هو صراع بين هذين المعسكرين وعلى مسألتين مهمتين هما:
أولاً: إنقاذ الشعب من الطغمة الحاكمة والقوى التي تدعمها داخلياً وخارجياً بإجراء التغيير في النظام السياسي المشوه القائم وفي العملية السياسية المشوهة الجارية والتصدي للطائفية، التي يتستر بها أعداء الشعب، ومن الفساد السائد الذي التهم ثروات البلاد.
ثانياً: إنقاذ الوطن من الهيمنة الخارجية على القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئة التي ثلمت وما تزال الاستقلال والسيادة الوطنية وكرامة الشعب ومصالحه الأساسية.
من هنا تبلور وانطلق بوعي كبير شعار "نازل أخذ حقي" وشعار "أريد وطن".
إن المعركة محتدمة بين المعسكرين وستزداد سخونة خلال الأيام والأسابيع القادمة، وقد واجهنا ذلك لما حصل لرئيس الجمهورية الذي رفض تكليف مرشح قوى الإسلامي السياسي الحاكمة المتطرفة والفاسدة، أسعد العيداني، لرفض الشعب له، رغم الضغوط التي سلطت عليه من إيران وأتباعها الراكعين للخامنئي في البلاد. وهي اليوم تشن حملة ضده بطلب مباشر من إيران وممثلها قاسم سليماني، رغم إنها هي التي وافقت على ترشيحه لمنصب رئاسة الجمهورية.
الانتفاضة بحاجة ماسة إلى قيادة تمارس التنسيق الفعلي بين التنسيقات، بحاجة إلى قيادة فاعلة ومعترف بها من المنتفضين والمنتفضات وقادرة على تأمين وحدة الإرادة ووحدة العمل لقوى الانتفاضة في سائر أنحاء البلاد، إنه الطريق الأكثر ضمانة لتحقيق النصر على الأعداء المنظمين جيداً، رغم الصراعات على السلطة والمال والجاه فيما بينهم، إنهم ماسكون بزمام الدولة بسلطاتها الثلاث وأجهزتها القمعية والدولة العميقة حتى الآن، والتي لا بد من تفكيكها وتخلص الشعب منها.   
إن النصر سيكون لصالح المنتفضين البواسل والمنتفضات الباسلات، والاندحار سيكون في المحصلة النهائية لأعداء الشعب من كل الأصناف والاتجاهات العدوانية. 




38
كاظم حبيب
تعاظم زخم الانتفاضة سبيل دحر مناورات الطغمة الحاكمة
الشبيبة المنتفضة تدرك تماماً، وبحكم تجربتها التي اغتنت خلال الأعوام الـ 17 المنصرمة، حجم التجارب التي كدستها الطغمة الحاكمة خلال سنواتها حكمها المريرة في المناورة مع مطالب الشعب والالتفاف عليها وكسب الوقت، إضافة إلى استخدام شتى الأساليب الأخرى، بما فيها المماطلة والتسويف وشراء الذمم والكذب والعنف والغدر والقتل وخيانة الأمانة وخيانة الشعب والوطن، للبقاء في السلطة واستمرار نهب ثروات الشعب وقمعه والهيمنة على إرادته ومصالحه وطموحاته. كما إنها مستعدة للسقوط الكامل والمطلق في أحضان الدولة الدخيلة الغاشمة، إيران، دفاعاً عن حكمها الطائفي الفاسد، كما هو حالها الآن. وعلينا أن نستعيد هبّات الشعب أعوام 2008، 2011، 2015، 2018، وحالياً، 2019، وما تمارسه من مناورات وقحة مناهضة للشعب ومصالحه.
إن وعي الشبيبة المتنامي بالواقع الرث لهذه الطغمة الحاكمة وبالواقع العراقي الذي أغرقته بالرثاثة هو الذي يقود الشبيبة ويدفع بها إلى الإصرار والحزم باستمرار الانتفاضة وزيادة زخمها يوماً بعد آخر، والذي نجهد بشكل خاص في محافظات الوسط والجنوب وساحات بغداد، ومواجهة مناورات الدولة بسلطاتها الثلاث، والتي تجلت من جديد بالموقف من مسألتين مهمتين هما: موقف رئيس الجمهورية واستفساره عن الكتلة الأكبر في مجلس النواب، والجواب المخزي والمدفوع الثمن منذ العام 2010 من جانب المحكمة الاتحادية ورئيسها، ذليل صدام حسين، بالتجاوز على مصالح الشعب وإرادته، ثم موقف مجلس النواب الذي يرسل أسماءً وقحةً وفاسدةً وأيديها ملطخة بدماء بنات وأبناء الشعب، كما هو حال محافظ البصرة وموقفه من مظاهرات البصرة في عام 2018 أولاً، والالتفاف على تعديل قانون الانتخابات بالفقرة التي تنص على اعتماد الدوائر الانتخابية الصغيرة التي لا تمنع من تسلط الاحزاب المتنفذة على  مقاعد المجلس، إذ إنها توفر  ارضية مناسبة للانتخاب على أساس الولاءات التقليدية كشيوخ عشائر ومضايفها، وجوه اجتماعية من ذوي الثراء والجاه، رجال دين مشوهين، مقابل الحد من فرص الفوز للعناصر المستقلة ومن يمثل الكادحين واكثرية المعبرين عن مصالح الفقراء والمحرومين والفئات المتوسطة. ولا سبيل الى تغيير هذا الواقع الا بوضع ضوابط تجعل فرص المرشحين متساوية في تمويل حملاتهم الانتخابية وفي الاعلان والدعاية والمتطلبات الضرورية الاخرى. ومن أجل إن يتحقق للشعب قيام مجلس نيابي يمثل مصالحه فعلاً، لا بد من ان يحصل كل نائب من اعضائه على ما لا يقل عن 50 في المائة من الاصوات في دائرته الانتخابية. اما اعتبار من يحصل على مجرد اعلى الاصوات فائزا، فذلك هو عين الظلم في حق الشعب والبرلمان والديمقراطية. ولا أشك بأن المجلس النيابي الفاسد الحالي قد تجاوز مبدأ اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة واحتساب النسبية في حساب الأصوات والقائمة المفتوحة في الانتخابات. (طريق الشعب). إن من واجب رئيس الجمهورية ألّا يصادق على التعديلات الجديدة لقانون الانتخابات إلى أن يجري تعديل الفقرات الخاصة بالدائرة الصغيرة المشار إليها في أعلاه ويؤكد على تحقيق مطلب المنتفضين الذين يرفضون مناورات الطغمة الحاكمة. إن تعاظم ضغط الشارع العراقي هو الذي أدى إلى إجراء تلك التعديلات على قانون الانتخابات، وهو القادر أيضاً على منع ترشيح عناصر فاسدة من الطغمة الحاكمة وأحزابها الطائفية الشريرة إلى رئاسة مجلس الوزراء أولاً، ومنع اختيار وزراء على أساس المحاصصة الطائفية المذلة ثانياً، وتأكيد استقلالية وتقنية ووطنية ونزاهة من يكون عضواً في مجلس الوزراء ثالثاً، والذي يقوم بالتهيئة لانتخابات جديدة وإجراء تعديلات جدية واسعة في الدستور العراقي، إضافة إلى إصدار القوانين المجمدة حالياً وتعديل ما صدر منها وشوه بسبب طبيعة هذا المجلس ونهجه الفاسد والظلامي. نعم أكرر من جديد:
وإذا تكاتف الأكف فأي كف يقطعون         وإذا تعانق شعبنا فأي درب يسلكون 

39
والتمنيات الطيبة بالصحة والسلامة
كاظم حبيبمع الود والتقديم والتهاني بعيد الكريسمس وقرب حلول رأس السنة الميلادية


40
كاظم حبيب
التسويف والمماطلة ديدن الطائفيين والفاسدين من حكام العراق
تمر الأيام مسرعة والمنتفضون يتكاثرون ويتعاضدون ويتضامنون أكثر فأكثر ويعبئون المزيد من الثائرات والثوار للقضية العادلة، الثائرات والثوار الذين "نزلوا ليأخذوا حقوقهم" العادلة والمشروعة والمنهوبة من الحكام الذين اغتصبوا الحكم وأساءوا للشعب، كل الشعب، وسرقوا الوطن، كل الوطن لتسليمه لقمة سائغة لإيران ليصبح جزءاً من الإمبراطورية الفارسية، كما صرح بذلك دون حياء قادة إيران الأوباش الذين يتدخلون يومياً وفي كل ساعة ودقيقة في شؤون شعبنا وبلادنا. الحكام الذين ولغوا بدماء الشعب ودموع الثكالى ونشروا الرثاثة والبؤس والفاقة والفساد في كل شبر من هذا البلد العزيز فكراً وممارسة. منذ الأول من أكتوبر 2019 حتى اليوم 24/12/2019 ومازال المناضلون والمناضلات يجوبون شوارع الجنوب والوسط وبغداد ويملؤون ساحات العراق بالشبيبة المقدامة من النساء والرجال ومن مختلف الأعمار وسيواصلون ذلك حتى تحقيق مطالبهم العادلة والمشروعة التي يحاول الحكام الطائفيون والفاسدون بشتى الطرق غير المشروعة التسويف والمماطلة لكسب الوقت في وهمٍ يعيشونه بأن الشبيبة التي انتفضت ستُنهك وتترك ساحات وشوارع النضال فارغة وتعود إلى بيوتها خائبة. خاب فألكم يا أشباه الرجال، أيها الجبناء الراكعون أمام سيدكم الإيراني ومصالحكم الأنانية المتعارضة مع مصالح الشعب واستقلال وسيادة الوطن.
لقد بدأ جميع حكام العراق بمساومة قذرة بين السلطة التنفيذية والبرلمان العراقي بلعبة جديدة قديمة، لعبة الكتلة الأكبر، فرشحوا إبراهيم بحر العلوم، وفشل، ثم رشحوا قصي السهيل، فشل أيضاً، والآن يطلب رئيس الجمهورية بمعرفة من هي الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي. واستناداً إلى مساومة طائفية قديمة بائسة منذ العام 2010 من جانب المحكمة الاتحادية ورئيسها الشيعي الطائفي، يجيب رئيس البرلمان بأن كتلة البناء التي يراسها الإيراني الهوية والهوى، هادي العامري، هي الكتلة الأكبر، أي التي يفرض أن يأخذ بها رئيس الجمهورية ليكلف من ترشحه هذه الكتلة لرئاسة الوزراء، في حين يعرف الجميع بأن الشعب العراقي الرافض لكل العملية السياسية يرفض ذلك، وأن الشعب هو الذي يشكل الكتلة الأكبر في العراق، ولا يمكن تجاوز إرادته الحرة وإصراره على تسمية رئيس وزراء بمواصفات دقيقة وأساسية، مواصفات الوطنية والاستقلالية والنزاهة والعقلية الديمقراطية، التي تعي مصالح الشعب وتحترم إرادته في المرحلة الانتقالية لنظام حر وديمقراطي، لدولة ديمقراطية وبناء مجتمع مدني ديمقراطي ...الخ.
إن رئيس مجلس النواب العراقي هو الراكع الجديد أمام السيد الإيراني، وهو الذي يتحدث الشعب عن أنه اشترى مركزه بأكثر من 30 مليون دولار أمريكي وبدعم من خامنئي ووعد بالوقوف إلى جانب ما تريده إيران في العراق.. فهل يمكن الثقة بشخص يعتقد الشعب جازماً بأنه أحد الذين لم يشتروا موقعه في البرلمان فحسب، بل اشترى الكثير من النواب الذين يحتلون مقاعدهم في مجلس النواب المزيف والمشوه لإرادة الشعب ومصالح الوطن. لننتظر ماذا سيكون عليه موقف رئيس الجمهورية الذي وقف حتى الآن متفرجاً، وكان الأمر لا يهمه رغم سقوط المئات من الضحايا البريئة وجرح الآلاف من المنتفضين واعتقال ألاف أخرى، وكأنه يعيش في جزيرة الواق واق وليس في العراق، وقف ممثلاً فاشلاً وخطيباً بائساً وغير موفق في مواجهة المنتفضات والمنتفضين ويطلق حديثاً سمجاً ومرفوضاً، لأنه لا يعبر إلا عن إرادة غير عراقية حتى الآن وعاجز عن اتخاذ الموقف الذي يتطلبه مركزه في الدولة العراقية إلى جانب مطالب الشعب. 
أيها الحكام الفاسدون إنكم تدفعون بالانتفاضة الشعبية المقدامة لتتحول إلى ثورة شعبية سلمية عارمة وقادرة على إجهاض وإفشال كل المؤامرات والمناورات الداخلية والخارجية القذرة التي تدبر خلف الكواليس وفي الظلام وخلف ظهر كل المنتفضات والمنتفضين الأشاوس. إنكم تسعون إلى حتفكم السياسي بإرادتكم القذرة المناهضة لمصالح الشعب وسيادة الوطن. خسأتم يا من ولغتم بدماء أكثر من 550 شهيداً وأكثر من 21000 جريحاً ومعوقاً وعدة ألاف من المعتقلين والمختطفين والمعذبين، لن تستطيعوا أن تلووا إرادة الشعب، فهو الكفيل بدحركم وتحقيق ما نزل لانتزاع حقوقه المشروعة. ستمتلئ شوارع وساحات العراق كل العراق بالثوار، وسيقف شعب كردستان وبقية القوميات بعقولهم وقلبوهم إلى جانب بقية أبناء وبنات الشعب العراقي إلى جانب الانتفاضة الشعبية ومطالبها العادلة والمشروعة.   

41
د. كاظم حبيب
انتفاضة تشرين الأول الشبابية السلمية والآفاق المستقبلية للعراق
الفهرست
أولاً: العوامل التي فجرت الانتفاضة الشبابية السلمية
ثانياً: مطالب الانتفاضة الشبابية السلمية
ثالثاً: موقف قوى النظام الطائفي الفاسد من تلك المطالب العادلة
رابعاً: وجهة تطور الأحداث والمشاهد المحتملة لمستقبل العراق
*********
أولاً: العوامل التي فجرت الانتفاضة الشبابية السلمية
إن القراءة المتمعنة في العوامل التي فجَّرت الانتفاضة الشبابية السلمية في الأول من تشرين الأول 2019 تضع أمام الباحث مجموعتين متشابكتين هما:
مجموعة العوامل الداخلية:
1.   الإحساس الداخلي العام لدى الشبيبة بأن الوطن العراقي مستباح من قوى في الداخل وأخرى من الخارج، ومعه استبيحت كرامة الإنسان العراقي، فأثُيرت غيرته وشهامته الوطنية على وطنه المسروق والمستباح وكرامته المجروحة.
2.   واقع الاغتراب المتبادل والكامل بين الشبيبة العراقية وبين الطغم الحاكمة في البلاد، إذ ساد بينهما حوار الطرشان، ولم يعد للكلام بينهما من فائدة ترجى لما تسعى إليه الشبيبة للشعب والوطن. وقد تجلى لها ذلك في الموقف الممعن بالرفض والقهر لمطالب المدنيين وعموم الشبيبة في الهبَّات والاحتجاجات في 2008 و2011 و2015 و2018.
3.   برز هذا الاغتراب ولا يزال في ظواهر صارخة متراكمة تحولت في لحظة معينة إلى حالة نوعية جديدة هي الانتفاضة المتعاظمة، وهي:
أ‌.   نهج المحاصصة الطائفية السياسية بين القوى الحاكمة والتي تعاملت مع الهويات الفرعية القاتلة وأهملت واحتقرت عملياً الهوية الوطنية والكفاءات المتوفرة في البلاد وركزت على المصالح الذاتية لما أطلق عليه بالمكونات، وكان المقصود بها تلك الأحزاب لا غير.
ب‌.    نهج التمييز الصارخ والمترسخ لدى الطغمة الحاكمة إزاء القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى في البلاد والذي تجلى ليس في المحاصصة في توزيع السلطات الثلاث للدولة العراقية فحسب، بل وفي كامل السلوك العام في الدولة والمجتمع من جهة، واقترانها بالفساد الشامل من جهة ثانية، مما قادا إلى ابتعاد الطغمة الحاكمة عن الاهتمام والدفاع عن استقلال الوطن وسيادته وأدى إلى اجتياح البلاد بقوى القاعدة ومن ثم داعش وما نتج عن ذلك من عواقب كارثية مرعبة وإبادة جماعية لا يمكن ان تنساه الذاكرة العراقية، لاسيما الشبيبة، التي خاصت المعارك بشرف لإنقاذ العراق من تلك الوحوش الكاسرة.
ت‌.    نهج مصادرة الحريات العامة وحقوق الإنسان التي كفلها الدستور على عِلّاته، وصدور قوانين وإجراءات مخالفة للوائح الدولية لحقوق الإنسان، بما فيها الموقف من حقوق المرأة وحقوق الطفل، وكذلك الاعتقالات خارج الشرعية والاختطاف والتغييب والتعذيب والاغتيالات والابتزاز وهيمنة الميليشيات الطائفية المسلحة على الشارع العراقي وتقاسمها المناطق السكنية لإخضاعها لها وابتزازها المالي والاجتماعي. كما بدأت شكلت لها مافيات اقتصادية مارست من خلالها المتاجرة بالجنس والمخدرات وأعضاء جسم الإنسان وكل ما هو إجرامي ومعيب ومؤذي للفرد والمجتمع.   
ث‌.    الفساد العام والشامل الذي أصبح نظاماً وأسلوباً سائداً ومعمولاً به في تعامل الدولة بسلطاتها الثلاث والمجتمع ومع الخارج، وأصبح العراق في قبضة وتحت رحمة المافيات المحلية والإقليمية والدولية الفاعلة في العراق. وأصبحت الميليشيات الطائفية المسلحة هي المجسدة والواجهة لهذه المافيات من جهة، وسلاح الدولة العميقة في الدفاع عن النظام السياسي الطائفي الفاسد وعن خضوع العراق للسياسة الإيرانية من جهة ثانية.
ج‌.    أدى هذا الواقع وطبيعة النظام السياسي الرث والفاسد إلى نشوء تمايز هائل بين الفئات الاجتماعية، بين حفنة رثة من الفاسدين الأثرياء التي كونت ثروتها من السحت الحرام ومن الرواتب والمخصصات والامتيازات العالية جداً وعلى حساب لقمة عيش المواطنة والمواطن، وبين اتساع قاعدة العائلات الفقيرة والمعدمة التي تعيش تحت خط الفقر أو عليه أو فوقه بقليل، مما عمق وشدد من التناقضات والصراعات الاجتماعية.
ح‌.    وأدى الإهمال التام لعملية التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية وتغييب متعمد للاستثمار في القطاعات الإنتاجية الى بروز بطالة واسعة جداً ومتراكمة سنة بعد أخرى، لاسيما بين الشبيبة، وبطالة مقنعة واسعة جداً في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، خاصة وأن الفجوة قد اتسعت بين نسب الولادات العالية وولوج سنوي متزايد من عدد القادرين على العمل إلى القوى العاملة، وبين عجز الدولة على توفير فرص العمل مما راكم في حجم البطالة وعمق التذمر. 
خ‌.    لقد تحقق للعراق خلال الأعوام 2014-2019 ما يزيد عن ألف مليار دولار أمريكي، إضافة إلى قروض دولية استدانها العراق، ولكنها لم توظف لتغيير واقع الاقتصاد المتخلف والمشوه ولا إلى إزالة رثاثة المدن العراقية ولا غيَّر من بنية الهياكل الارتكازية المتخلفة مما أدى إلى تخلف شديد في تقديم الخدمات العامة للمجتمع كالكهرباء والماء والصحة والتعليم والنقل والاتصالات...الخ، وهي اليوم في أسوأ أحوالها.
د‌.   لقد ناهضت الطغمة الحاكمة الفنون الإبداعية والثقافة الحرة وأدخلوا الشبيبة في أجواء من الفراغ القاتل وأجواء الحزن والبكاء الدائم والبطالة والعوز، إضافة إلى إشغالهم بما لا يمكنه التعويض عما تحتاجه الشبيبة العراقية التي تعرفت عبر وسائل الاتصال العالمية الحديثة لما تحقق للشبيبة في دول العالم الغربي وغيرها من تقدم حضاري وحياة آمنة ومليئة بالإنتاج لصالح مجتمعاتها وتقدمها.


 مجموعة العوامل الخارجية:

أ‌.   لقد خضع العراق بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة للاحتلال الأمريكي المباشر ونتج عنه، بإصرار مقصود ومسبوق الصنع، إقامة نظام طائفي محاصصي، ومن ثم فاسد، أشاع الفرقة والتمييز والصراع في مجتمع متعدد القوميات والديانات والمذاهب والأفكار والاتجاهات السياسية. فكانت بداية الكارثة الفعلية للعراق وشعبه، بدلاً مما ادّعته الولايات المتحدة كذباً وخداعاً من نشر الحياة الحرة والديمقراطية في   البلاد على أنقاض الدكتاتورية الفاشية للبعث. كما تم في فترة الاحتلال وضع الدستور العراقي المشوه وقانون الانتخابات سيء الصيت وكذا المفوضة المستقلة للانتخابات، وهي كلها عمقت الانقسام المجتمعي وفرضت المحاصصة الطائفية والأثنية في البلاد وما نجم عنها من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع.
ب‌.   وقد فسح هذا الواقع المرير في المجال لولوج قوى الإرهاب الدولي إلى العراق تحت واجهات شتى، والتي كانت الولايات المتحدة تريد إبعاد تلك القوى عن ساحتها والساحات الأوربية بخوضها المعارك ضد هذه القوى في العراق بشكل خاص، وكان التنظيم الإرهابي الدولي للقاعدة، الذي بني أساساً بدعم من الولايات المتحدة والسعودية وباكستان في أفغانستان، ومن ثم بروز تنظيم داعش الأشد تطرفاً وإرهاباً، وهي كلها نتاجات القوى الإسلامية السياسية المتطرفة التي تشكلت بتعاون كبير وطويل بين وكالة المخابرات المركزية والدولة العربية الإسلامية المتطرفة. وكانت المعاناة كبيرة ومريرة والضحايا هائلة والخسائر فادحة.
ت‌.    من خلال هذا الواقع، وبسبب وجود قوى الإسلام السياسي الطائفية الشيعية في قيادة الدولة، سُهلَّ ومُكَّن لإيران الولوج الواسع النطاق والشامل في حياة العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والمذهبية والعسكرية والأمنية، بما خلق قناعة فعلية صادقة وراسخة لدى الشبيبة العراقية بأن العراق محتلٌ أو شبه مستعمرة لإيران وواجهتها في الصراع الدولي مع الولايات المتحدة ودول المنطقة، كما فسح في المجال لتدخل القوى الإقليمية الأخرى في الشأن العراقي، لاسيما سوريا وتركيا والسعودية وبعض دول الخليج.
ث‌.    إن الصراع الجاري بين إيران والولايات المتحدة قد انتقل بشكل واسع وعميق إلى الحياة اليومية للشعب العراقي، بسبب وجود النفوذ العسكري والسياسي الأمريكي من جهة، وقوة وسعة النفوذ السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والاجتماعي والطائفي الإيراني من جهة ثانية، مما عرَّض العراق لمشكلات جديدة، بسبب وقوف قيادة الحكم الطائفية وأحزابها السياسية إلى جانب إيران في هذا الصراع.
ج‌.    تشير الكثير من المعلومات الموثقة إلى حصول الحكومة الإيرانية مبالغ طائلة من العملات الصعبة استنزفت من خزينة الدولة العراقية وعبر كبار المسؤولين الحكوميين والبنوك الأهلية الفاسدة ومزاد الدولار الرسمي والتهريب المستمر للعملة الصعبة إلى غيران. 
من كل هذا يتبين بأن شعب العراق يخضع لنظام سياسي طائفي محاصصي فاسد يعيد إنتاج نفسه في كل دورة انتخابية وتشكيل حكومة جديدة، ويعيد إنتاج وتعويق العلاقات والظواهر السلبية المشار إليها في أعلاه، مما جعل الشبيبة العراقية تعي بعمق وشمولية ما جرى ويجري في البلاد وأصبحت عاجزة تماماً عن تحمل كل ذلك فانفجر الغضب الشبابي في لحظة إشراقة وهاجة ليبدأ بمرحلة جديدة ونوعية من النواحي الفكرية والسياسية المستقلة والجديدة في مواجهة النظام السياسي القائم والطغمة الحاكمة.   

ثانياً: مطالب الانتفاضة الشبابية السلمية
إن الحالة الموصوفة في الفقرة الأولى بظواهرها الكارثية والمدمرة لحياة الإنسان العراقي، هي التي حددت للشبيبة العراقية المطالب الأساسية التي تجلت في التظاهرات الشبابية السلمية في الأيام الأولى من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، ومن ثم منذ الخامس والعشرين من الشهر نفسه حتى الآن. والتي تتلخص بما يلي:
1)    التخلص من النظام السياسي الطائفي الفاسد ومن التبعية الكاملة لإيران. وهذا يعني إجراء تغيير جذري في الواقع المعاش سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وثقافياً وبيئياً، وما يرتبط بكل ذلك من تغييرات تشريعية ووضع قوانين جديدة تضمن إعادة الاعتبار لهوية المواطنة العراقية واحترام الهويات الفرعية، والعدالة الاجتماعية في توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي. ويتطلب هذا التغيير جملة من الإجراءات الأساسية، نشير إلى أهمها فيما يلي:
2)    بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي تحت تعاظم الضغط الشعبي المتعاظم وسقوط المزيد من الشهداء والجرحى والمعوقين، يستوجب منطق الأحداث تشكيل حكومة وطنية مستقلة مؤقتة ذات كفاءات بصلاحيات واسعة ومن خبراء مستقلين يتسمون بالنزاهة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والقانون والثقافة تأخذ على عاتقها وضع عدة قوانين أساسية: قانون ديمقراطي جديد وحديث لانتخابات مجلس النواب، وقانون جديد لمفوضية الانتخابات العامة، وقانون جديد للأحزاب السياسية، وقانون جديد لمنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان.
3)    وبعد الانتخابات العامة وتشكيل المجلس النيابي الجديد وانتخاب حكومة جديدة يتم وضع دستور جديد للجمهورية العراقية الاتحادية، أو إجراء تعديلات واسعة وأساسية على الدستور العراقي الراهن لتخليصه من طابعه الطائفي والجوانب غير الديمقراطية فيه، وتكريس فصل الدين عن الدولة والسياسة، ورفض تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي، وتغيير بنية النظام السياسي لصالح دولة ديمقراطية فيدرالية حديثة تكرس الحريات العامة للمواطنات والمواطنين وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، ويستفتى به الشعب. إضافة إلى ذلك يقوم المجلس بوضع بقية القوانين المهمة، ومنها قانون العمل، وقانون الإعلام، وقانون الأحوال الشخصية، وقانوي الضمان الاجتماعي وحالات العجز والشيخوخة وقانون الصحة العامة.. الخ. 
4)    إطلاق سراح المعتقلين كافة الذين اعتقلوا بسبب مشاركتهم في الانتفاضة الشعبية والتحري عن السجون السرية لتحرير المعتقلين واعتقال المتسببين في ذلك ومحاكمة من أصدر الأوامر باستخدام العنف ضد المنتفضين وتكريم الضحايا وعائلاتهم، إضافة إلى متابعة قضايا المعتقلين السياسيين أو المتهمين بقضايا الإرهاب للتيقن من صحتها والإسراع بإنجازها.
5)    مكافحة البطالة الواسعة والبطالة المقنعة من خلال الولوج الواسع في التنمية الاقتصادية، لاسيما القطاعات الإنتاجية وخدماتها والخدمات العامة، وفتح معاهد للدراسات الفنية والمهنية ومراكز للتدريب. 
6)    البدء الفوري بدراسة وضع القضاء العراقي (مجلس القضاء الأعلى) والمحكمة الاتحادية والادعاء العام، لتكريس استقلالية القضاء العراقي التي استبيحت من السلطتين التنفيذية والتشريعية.
7)    البدء بمحاكمة كبار الفاسدين في الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث والمفوضيات والهيئات المستقلة. كما لا بد من وضع قانون "من أين لك هذا؟" من اجل استعادة أموال العراق المهربة والمسروقة ومطاردة السارقين أينما كانوا قانونياً.
8)    البدء بمعالجة جادة ومسؤولة للمشكلات القائمة كافة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق بما يعزز التلاحم الأخوي والتضامن بين الشعبين وبقية القوميات، وكذلك معالجة العلاقة القانونية والإدارية والمالية بين الحكومة الاتحادية ومحافظات البلاد على وفق أسس اللامركزية.   
9)    جعل السلاح بيد الدولة فقط وتفكيك جميع الميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي واستعادة أو مصادرة الأسلحة المشاعة في البلاد، ورفض وجود قوات أجنبية ممن ترفض الحكومة الجديدة المستقلة وجودهم في العراق، مع العمل لإنهاء كل أشكال الوجود والتدخل الأجنبي في العراق.
10)   معالجة مشكلة الخدمات الأساسية للمجتمع وفئاته الكادحة والمهمشة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، لاسيما خدمات الكهرباء والماء الصالح للشرب والسكن والصحة والتعليم والنقل والاتصالات. 
11)   إعادة النظر بقانوني الخدمة المدنية ومجلس الخدمة الاتحادي العام وتفعيلهما وإزالة العيب عنهما وما نشأ عن ذلك.   
12)   انتهاج سياسة إقليمية ودولية تتميز بالاستقلالية وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والاحترام والمنفعة المتبادلتين ورفض كل أشكال التدخل الخارجي في شؤون العراق الداخلية والخارجية. والطلب من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والهيئات الدولية لحقوق الإنسان التدخل لدعم المطالب العادلة والمشروعة للشعب العراقي المنتفض، ووضع حد لاستخدام العنف القاتل في مواجهة المتظاهرين.
ولا بد هنا من الإشارة على إن الشبيبة العراقية المنتفضة قد اختارت سبيل الانتفاضة السلمية لقناعتها التامة بما يلي:
** إن تجارب الدول المجاورة تشير إلى أن الفئات الحاكمة ترغب في تحول المظاهرات السلمية إلى العنف لتواجهها باستخدام كل أنواع الأسلحة لقمعها وشل حركة المنتفضين.
** إن التذمر الشعبي قد وصل إلى مرحلة متقدمة تمكن الشعب العراقي على فرض الحلول العادلة والمشروعة على الحكم القائم بالنضال السلمي، رغم توقع المنتفضين، وكما حصل فعلاً، إلى استخدام الدولة للسلاح وقتل المتظاهرين أو اعتقالهم.
** إن التظاهرات السلمية في مقدورها شل نسبي للقوى العسكرية للدولة العميقة ضد المتظاهرين، والتي استخدمت فعلاً في بغداد والناصرية والنجف، والتي أطلقت الدولة ذاتها عليهم بـ "الطرف الثالث"، وكأنها لا تعرف هوية هذا الطرف الدخيل والجرائم التي ارتكبها حتى الآن.
 
ثالثاً: موقف قوى النظام الطائفي الفاسد من تلك المطالب العادلة
بدلاً من الاستجابة العقلانية والفورية لمطالب الشعب الأساسية والعادلة في الفاتح من تشرين الأول/أكتوبر 2019 من جانب النخب الحاكمة وأحزابها السياسية، عمدت إلى المماطلة والتسويف والوعود الكاذبة من جهة، واستخدام العنف المفرط والرصاص الحي والرصاص الصوتي والغاز القاتل والغاز المسيل للدموع لقمع المتظاهرين بدم بارد من جهة أخرى، مما أدى إلى استشهاد 149 مناضلاً متظاهراً وجرح ما يقرب من 5000 متظاهراً في الأيام الأولى للانتفاضة الشبابية.
لقد أدرك المتظاهرون بأن الطغمة الحاكمة غير مستعدة للاستجابة إلى أي من المطالب العادلة للشبيبة والشعب، وأنها مستعدة لقتل المزيد من البشر بهدف البقاء في السلطة والتمتع بامتيازاتها ونهبها لموارد وخيرات العراق. فاتسعت الانتفاضة وازداد عدد المشاركين والمشاركات فيها وتنوعت أساليبها السلمية في مواجهة الرصاص الحي للقوات العسكرية الرسمية والميليشيات الطائفية المسلحة التابعة للدولة العميقة التي ترعاها قوى النظام السياسي الطائفي الفاسد.   
لقد بدأت السلطات الثلاث، لاسيما رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب والحكومة، تماطل بما كان يفترض أن يتحقق من مطالب المنتفضين منذ اليوم الأول للتظاهرات، وأصرت على استخدام العنف المفرط ضد الشعب في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب بدم بارد واستخفاف مريع وعنجهية فارغة وذهنية فاشية مدمرة، مما أدى إلى سقوط المزيد من الشهداء؛ حيث تجاوز عددهم إلـ 500 شهيد وما يقرب من 20 ألف جريح ومعوق، عدا الآلاف من المعتقلين والمختطفين والمغيبين والمعذبين في المعتقلات العلنية والسرية للنظام وأجهزته القمعية غير الرسمية. وتقدم سراديب "بناية شهيد المحراب: في النجف خير دليل على ما تفعله قوى الدولة العميقة في المعتقلين هناك من تعذيب شرس بما فيه قلع العيون. وقوبل هذا التوجه الجهنمي للدولة القمعية والهشة بإصرار وصمود رائعين على سلمية التظاهرات من جانب شبيبة العراق وجماهير الشعب الواعية. إذ لم يستطع النظام بكل عدوانيته ودمويته قهر إرادة الشبيبة المقدامة، بل اتسعت لتضم الملايين من بنات وأبناء العراق ومن مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية.
بعد تنفيذ مجزرتين رهيبتين بحق أبناء الناصرية وأبناء النجف وسقوط ما يقرب من 80 شهيداً وأكثر من ألف جريح ومعوق خلال يومي 29 و30/11/2019 فقط، أجبر الحاكم المستبد بأمره وأمر طغمته الفاسدة واسياده في إيران، على تقديم استقالته المخزية، وكأنه لم يرتكب جرائم بشعة وشنيعة بحق الشعب العراقي وشبيبته الباسلة خلال الشهرين المنصرمين من جهة، ومصراً بعقل مغلق وجامد ودم بارد وبأسلوب خطابي استفزازي مثير، الاحتفاظ بنظام المحاصصة الطائفية الفاسد من جهة أخرى، مما يستحق إطلاق لقب "الجزار الخبيث" في العهد السياسي الطائفي الفاسد والمريض. وحين كلف عادل عبد المهدي بتصريف الأعمال توجهت قوى عميلة وعصابات منظمة للدولة العميقة بتوجيه نيران أسلحتها صوب المتظاهرين السلميين المتجمعين في ساحتي الخلاني والسنك وقتلوا بدم بارد وهمجية 24 متظاهراً من الشبيبة المقدامة وجرحوا وعوقوا أكثر من 120 متظاهراً دون أن تتحرك الأجهزة الأمنية بحكايتهم. ولا يخفى على الشعب المنتفض أساليب التنسيق بين قوى الدولة العميقة المجرمة ومسؤولي الدولة والنظام السياسي الطائفي الفاسد.         

رابعاً: وجهة تطور الأحداث والمشاهد المحتملة لمستقبل العراق
إن استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لم تأت اختياراً رغم مرور شهرين على الانتفاضة الباسلة واتساع قاعد المشاركين فيها من فئات من مختلف فئات الشعب، بل عبَّرت عن مدى تشبث النخب الحاكمة بالنظام السياسي الطائفي الفاسد وعدم استعدادها للتسليم السريع بالأمر الواقع. وسبب ذلك يكن في كون ميزان القوى لا يزال في صالح قوى النخب الحاكمة التي تجسد قوى الثورة المضادة، إذ إنها لا تزال تمتلك السلطات الثلاث وتتحكم بها وبكل الأجهزة العسكرية والأمنية والقدرات المالية، وكذلك قوى الدولة العميقة بكل مكوناتها السياسية والعسكرية (الميليشيات المسلحة والمافيات الاقتصادية والاجتماعية والمنابر الدينية الطائفية التابعة لها)، إضافة إلى دور إيران المباشر في شؤون البلاد. ومع ذلك فأن ميزان القوى بدأ يهتز نسبياً ووجد تعبيره في هذه الاستقالة التي فتحت الطريق على عدة احتمالات يفترض متابعتها والإعداد لكل منها بما تتطلبه من عدة من جانب قوى الانتفاضة الشبابية والشعبية السلمية:
1.   احتمال يشير إلى إصرار النخب الحاكمة على مواجهة الانتفاضة الشعبية بالحديد والنار ومحاولة الاحتفاظ بالسلطة من خلال ترشيح رئس وزراء جديد من وسط الطغمة الحاكمة وتشكيل حكومة طائفية محاصصية فاسدة جديدة، واستخدام كل ما تملك من إمكانيات وأساليب الخديعة والتزوير، إضافة إلى دفع الميليشيات الطائفية المسلحة وقوى الدولة العميقة للصدام مع الجماهير المنتفضة سلمياً لقمعها وإطفاء شعلة الانتفاضة الوهاجة. لا يمكن إلغاء هذا الاحتمال الذي يعني بأن قوى الثورة المضادة وم يساندها خارج الحدود مصممة على عدم تسليم السلطة لقوى التغيير الجذري المنشود في البلاد. إنها تعمل على وفق منطق [[أخذناها بعد ما ننطيه، أشحد واحد يأخذها، هو ليش أكو واحد يكدر يأخذها]]!!!
2.   كما يمكن أن يُستكمل هذا الاحتمال للقوى الأكثر تطرفاً وعدوانية وتبعية، قوى الثورة المضادة، طلب مباشر بتدخل من قوى إيرانية موجودة أصلاً في العراق وقوى أخرى تتسلل إلى العراق يومياً لتثير معركة واسعة ضد المجتمع وإشعال حرب مدمرة مماثلة لما يعاني منها الشعب السوري منذ سنوات. إلا إن هذا الاحتمال يواجه صعوبة فعلية موضوعية لعدة أسباب هي: الاستعداد الكامل للشبيبة العراقية ومعها كل الشعب إلى مقاومة سلمية مظفرة بمثل هذا التدخل وبكل السبل المتوفرة أولاً، والوجود الفعلي للقوات الأمريكية في العراق على وفق الاتفاقية الأمنية بين البلدين ثانياً، ثم رفض الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية لمثل هذا التدخل العسكري ثالثاً، وأخيراً احتمال تحول فعلي لقوى الجيش وبقية صنوف القوات المسلحة إلى جانب الشعب ورفض التدخل العسكري بمختلف أشكاله في الشأن الداخلي للعراق ومقاومته رابعاً.
إن إصرار الحكم على الاحتمالين الأول وربما الثاني يعني استمرار الانتفاضة الشعبية واتساعها وتصاعد مزاج الشعب الثوري، والذي سيقترن بسقوط المزيد من الشهداء والجرحى والمعوقين وهدر المزيد من الدماء والدموع وخسائر مالية وحضارية كبيرة. مع حقيقة أن النظام الطائفي الفاسد لا يستطيع حماية وجوده، إذ لم يعد قابلاً للحياة وسيسقط في النهاية تحت ثقل جرائمه وتبعيته وضغط الشارع العراقي. 
3.   أما الاحتمال الثالث فيمكن أن يتجلى بخضوع قسري للنخب الحاكمة لانتفاضة الشعب والبدء بتنفيذ مطالبه ابتداءً من موافقة مجلس النواب الفاسد على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة ومؤقتة تمارس دورها بالتهيئة لانتخابات نيابية جديدة من خلال إنجازها للمهمات الأساسية الواردة في الفقرة الثانية من مطالب الانتفاضة التي تناط بها من قبل المنتفضين. وهذا الاحتمال سيجنب الشعب المزيد من الضحايا البشرية والخسائر المادية. ولكن عند اختيار هذا الطريق سيحتاج الشعب، لإرساء دعائم الأمن والسلام الخلاص من التركة الثقيلة لبقايا وإرث النظامين الدكتاتوري الشوفيني البعثي وإرث النظام السياسي الطائفي الفاسد وتطهير الدولة بسلطاتها الثلاث من رجس الفاسدين، إلى خوض نضالٍ حثيث ودؤوب واستمرار انتفاضته المجيدة حتى تحقيق النصر.
إن المؤشرات التي تحت التصرف تشير إلى إن المرحلة القادمة، بخطواتها الكثيرة المطلوبة لإرساء دعائم دولة ديمقراطية حديثة ومستقلة ومجتمع مدني ديمقراطي يستند إلى عقد اجتماعي يعتمد في نهجه على اللوائح والمواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والأهداف والمهمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، والتي سيكون تحقيقها أكثر تعقيداً وأكثر صعوبة من إزاحة النخب الفاسدة من سلطات الدولة الثلاث. إن المخاض الصعب للانتفاضة الشبابية والشعبية سيمنح الولادة الجديدة فرصة إرساء دعائم حياة آمنة وكريمة ومستقبل وضاء للمجتمع بأسره لاسيما شبيبة تلك الفئات الاجتماعية التي عانت الأمرين من الإذلال والفقر والبطالة والحرمان، كما كانت وقوداً للسياسات غير الوطنية والاستبداد والحروب الداخلية والخارجية، ومن ثم كانت الأدوات الفعلية لتحرير العراق من ذل الغزو والاجتياح والسبي والاغتصاب والقتل والنزوح العام والهجرة القسرية.
وتستوجب المرحلة الجديدة من قوى الانتفاضة الشعبية وكل القوى الديمقراطية المشاركة في الانتفاضة السعي لتحقيق ما يلي:
أولاً: العمل على كسب المزيد من فئات الشعب إلى ساحات النضال ودعم الانتفاضة الشبابية والشعبية. فالانتفاضة الحالية كسبت جماهير واسعة من شبيبة الفئات الكادحة والفقيرة والمعدمة والطلبة والمثقفين وجمهرة من العمال والكسبة وجماهير من أبناء العشائر وعدد متزايد من النساء، ولكن الانتفاضة لم تكسب إيها حتى الآن الفئات الوسطى (البرجوازية المتوسطة وشرائح من البرجوازية الصغيرة) من المجتمع، لاسيما في محافظات الوسط والجنوب وبغداد، بمن فيهم موظفو الدولة.
ثانياً: الأهمية القصوى للعمل الجاد لمزيد من عمليات التنوير والتوعية في صفوف المجتمع وبين المنتفضين من أجل كسب المزيد من بنات وأبناء المجتمع للانتفاضة بوعي ومسؤولية إزاء مصائر العراق الراهنة ومستقبل أجياله.
ثالثاً: إيلاء اهتمام خاص لهيكلية تنظيمية لقوى الانتفاضة أو الثورة الشبابية والشعبية التي تساعد على تحقيق ائتلاف القوى والشخصيات الفاعلة والمؤثرة في ساحة التحرير وبقية ساحات وشوارع العراق والجماهير المنتفضة وبين التنسيقيات القائمة لضمان وحدة الموقف إزاء مؤامرات ومناورات قوى الثورة المضادة الفاعلة حالياً وذات الموقف الموحد عملياً في مناهضتها لقوى الثورة. إن مثل هذا التنظيم لقوى الانتفاضة يسهم في بلورة وحدة الإرادة والعمل ووحدة الموقف إزاء أعداء الشعب. إذ يبدو لي وجود ضرورة ملحة بتشكيل تحالف اجتماعي مدني وديمقراطي واسع تلتقي عنده أهداف ومصالح الفئات الاجتماعية التي من مصلحتها تغيير النظام الطائفي الفاسد الراهن، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة وإرساء أسس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يستجيب لمصالح الشعب ويستثمر موارد البلاد الأولية والمالية في النهوض بعملية التنمية الاقتصادية والبشرية في خدمة الأجيال الراهنة والقادمة. إن في مقدور الانتفاضة فتح الأبواب مشرعة نحو حياة أفضل ومستقبل زاهر وسعيد لكل الشعب بقومياته وأتباع دياناته ومذاهبه العديدة واتجاهاته الفكرية والسياسية الديمقراطية واعتماد مبدأ المواطنة العراقية المشتركة والمتساوية..
رابعاً: السعي لبلورة وبروز قيادة شبابية للانتفاضة السلمية ومواصلة دورها في استمرار الانتفاضة وتعبئة القوى حولها بما يسهم في وحدة الإرادة والعمل بتوحيد القوى وسيرها الحثيث على طريق إنجاز المهمات وتحقيق النصر.

42
كاظم حبيب
بلطجية إيران والعراق السفلة يقتلون المتظاهرين في النجف!
من تابع نشرات الأخبار خلال الأسبوع الأخير وهي تنقل ما يدور حول مقبرة "شهيد المحراب!" من كر ٍ وفرٍ بين متظاهرين سلميين وغير مسلحين بغير إيمانهم وقناعتهم التامة بعدالة القضية التي يتظاهرون من اجلها، من اجل استعادة الوطن المسلوب والممتهن وكرامة شعب مستباح بالطائفية والتبعية والفساد من جهة، وبين مجموعة من البلطجية القادمين من إيران وآخرين تابعين لهم من العراق، وهم من الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الطائفية المسلحة العراقية التابعة لعلي خامنئي، يحملون البنادق الرشاشة والسيوف والقامات ليقتلوا المزيد من المتظاهرين الأبرار، تماماً كما فعلوا في الأيام القليلة الفائتة ليحموا تلك السراديب المليئة بالمعتقلين من المتظاهرين والمختطفين عنوة والذين يجري تعذيبهم بوحشية وبشاعة لا مثيل لها تذكرنا بما جرى ويجري في سجن إيفين (زندان أوين) الواقع في الشمال الغربي من العاصمة طهران، والذي تحدث عنه المناضل العراقي الشهم الرفيق حيدر الشيخ علي في الرواية عن معاناته المريعة ومعاناة المعتقلين والسجناء الشيوعيين والديمقراطيين وفدائيي خلق على أيد "السجانة المسلمين المؤمنين!!!"، التي اعاد صياغتها روائياً وأدبياً الكاتب والروائي الفقيد الأستاذ عبد الرحمن منيف في روايته الشهيرة "الآن هنا .. أو الشرق المتوسط مرة أخرى" وصدرت عام 1991. جاء في اتصال هاتفي من مدينة النجف أشار فيه المتحدث عن اكتشاف أشخاص معتقلين في هذا السرداب عذبوا بوحشية حيث تم اثناء التعذيب قلع عيني واحداً من المعتقلين وشوه وجه آخر ... إلخ.
من تسنى له إلقاء نظرة على تلك الوحوش البشرية الحاملة للسيوف والأسلحة النارية وهم بكروشهم وأجسامهم الضخمة يطاردون المتظاهرين يدرك كيف تمت تربية هؤلاء البشر على التوحش والاستعداد التام للقتل والتعذيب بدم بارد ودون ان يحسوا بتعذيب الضمير أو حتى خدشه. فهم يؤدون فعلاً تدربوا عليه ومارسوه مئات وربما آلاف المرات وتربوا على ممارسة هذه المهنة الحقيرة مهنة الاختطاف والتعذيب والقتل باسم الدين وباسم المذهب، وباسم هذا الدين، هتف المتظاهرون، باگونة الحرامية.، فالنظام الطائفي المحاصصي الفاسد والمتفسخ لم ينهب خزينة الدولة فحسب، بل سرق الوطن والمواطنة وجيرها للهويات الفرعية الطائفة القاتلة أيضاً. هؤلاء البلطجية هم أبناء أولئك البلطجية الذين تظاهروا في إيران وأسقطوا وزارة الدكتور مصدق عام 1952/1953 وجاؤوا بالجنرال زاهدي إلى الحكم، وهم نفس البلطجية الذين سرقوا ثورة الشعب الإيراني في عام 1979 وأقاموا دولة ثيوقراطية متخلفة وطائفية مقيتة، وهم الذين مارسوا قتل المتظاهرين والمحتجين الإيرانيات والإيرانيين في شهر تشرين الثاني 2019 وقتلوا أكثر من 200 متظاهر شهيد وأصابوا الآلاف من الجرحى والمعوقين.
ولكن هذه الوحوش البشرية لن تستطيع كسر شوكة الشعب العراقي بشبيبته المقدامة، ولن تستطيع إذلاله مرة أخرى، فقد انتفض ليضع حدا فاصلاً بين قبل تشرين الأول/اكتوبر 2019 وما بعد هذا التاريخ.
لهذا لم يكن فرض استقالة الجزار الخبيث عادل عبد المهدي سوى الخطوة الأولى على طريق غير قصير وغير سهل لتحقيق التغيير الجذري في واقع النظام العراقي القائم والبدء ببناء دولة حرة وديمقراطية ومجتمع مدني ديمقراطي حديث، إنها المهمة المركزية التي تواجه المجتمع في هذه المرحلة التاريخية الفريدة.



43
كاظم حبيب
نحو خوض المعركة الحاسمة لإسقاط الحكم الطائفي الفاسد
لم يكن عادل عبد المهدي سوى الأداة القذرة الضاربة بيد الطغمة الحاكمة بأحزابها الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة. وإن استقالته لا تعني نهاية الحكم الطائفي المحاصصي الفاسد، فكل النخب الحاكمة في بغداد ليست سوى طيارات ورقية خيوطها بيد علي خامنئي وقاسم سليماني يتحكم بها كيفما يشاء. وقد وصل الأخير إلى بغداد مجدداً ليشخص من هو أكثر الفاسدين استعداداً لممارسة الفساد والأكثر تبعية لولاية الفقيه الإيراني، ومن هو أكثر حقداً على الشعب العراقي واستعداداً لتنفيذ المجازر ضد الشعب المنتفض ليخلف الجزار عادل عبد المهدي في رئاسة الوزراء. لقد حوَّل الأخير مهمة اختيار رئيس وزراء جديد إلى مجلس النواب المليء بالطائفيين والفاسدين والذين وصل أغلبهم إلى احتلال المقاعد النيابية عبر الولاء التام للطائفية السياسية ومحاصصاتها، والقبول بالتزوير وممارسته والمشاركة في الفساد وبيع وشراء المقاعد الخاوية.
لم تنتفض الشبيبة المقدامة لكي يغادر المتهم الأول، باعتباره رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة العراقية، بقتل أكثر من 408 متظاهراً شهيد وأكثر من 16 ألف جريح ومعوق، ليغادر عادل عبد المهدي وجوقة الوزراء مقاعد الحكم فحسب، بل لتغادر الطغمة الفاسدة الماسكة بزمام السلطات الثلاث كلها حكم العراق، لكي ينتهي العراق من هذه العملية السياسية المشوهة والقوى التي خربت العراق وأدمت شعبه ونهبت أمواله وجوعت أغلب سكانه وتسببت في موت مئات ألوف البشر خلال فترة حكمها الرث.
الشعب المنتفض يواجه اليوم محاولة يائسة من الطغمة الحاكمة للبقاء في الحكم ودفاعاً عن مواقعها في الدولة، وهي مستعدة على ارتكاب المجازر البشعة من أجل ذلك ومقاومة التغيير الذي يطالب به الشعب بكل ما تملك من وسائل وأساليب وأدوات دنيئة، بما في ذلك قتل المزيد من المنتفضين في شوارع وساحات العراق، تماماً كما حصل في الناصرية والنجف. إن احتياطي القوى الفاسدة الحاكمة لم يجف بعد، فهي التي استخدمت السلاح المباشر والرصاص الحي والغاز القاتل ضد متظاهري الناصرية والنجف وبغداد وبقية المدن في الشهرين المنصرمين، لاسيما في مواجهات الناصرية، ومن ثم حول بناية "شهيد المحراب" في النجف، التي خاضها المنتفضون البواسل السلميين ودون أي سلاح ضد المجموعة المجرمة المدججة بأنواع الأسلحة القاتلة والمختبئة في "محراب الشهيد" وسقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى في ليلة واحدة. لم يكن هدف المنتفضين تطويق قبر محمد باقر الحكيم، بل كان الهدف ولا يزال إخراج الجواسيس الإيرانيين من مقر اطلاعات (المخابرات) الإيرانية الذي أقيم منذ البدء في "بناية محراب الشهيد" وتحرير المختطفين المعتقلين في هذا المحراب! لقد أقامت الدولة الإيرانية في هذا البناء وكراً كبيراً متخصصاً للمخابرات الإيرانية، كما استخدم لأسر المختطفين وتعذيبهم أو حتى قتلهم أو نقلهم إلى إيران للتخلص منهم هناك. كما كان في هذا البناية مجموعة كبيرة من القناصة التي مارست توجيه أسلحتها القناصة لقتل المتظاهرين ورجال الأمن العراقيين. فاستشهد في يوم 30/11/2019 وحده أكثر من 40 متظاهراً وجرح وتعويق أكثر من 600 شخص على أيدي هؤلاء العملاء والخونة القابعين في هذه البناية. إنهم باختصار شديد جزء من الميليشيات العراقية-الإيرانية المسلحة التي تمارس القتل العمد والواسع بقرار من القيادة الإيرانية والتابعين لها في العراق والتي قالت بالحرف الواحد: "اقتلوا المتظاهرين العراقيين فهم عملاء أمريكا"!!!
طلب القضاء العراقي من عوائل الشهداء والجرحى إقامة دعاوى ضد من اشترك بقتلهم، كما قرر منع الفريق جميل الشمري واعتقاله وحجز أمواله وهو قرار صحيح. ولكن القضاء العراقي والادعاء العام لم يتحركا ضد من أمر باستخدام العنف لتفريق المتظاهرين، ولا من أرسل الفريق جميل الشمري إلى الناصرية لتفريق المتظاهرين، باعتباره رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، والمسؤول الأول عن حماية المواطنات والمواطنين وحماية مظاهرات الشعب السلمية.
من الواجب إصدار الأوامر لاعتقال القاتل مباشرة، ولكن لا بد أولاً وقبل كل شيء اعتقال من كان مسؤولاً عنه وعن قرار تفريق التظاهرات السلمية من الأيام الأولى لانتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019 المجيدة.
إن القضاء العراقي، والادعاء العام كجزء منه، مسؤول أولاً وقبل كل شيء أمام أعلى سلطة في البلاد، سلطة الشعب، عن سبب سكوت وعدم تقديم لوائح اتهام بحق رؤساء الوزارات السابقين الذين يتهمهم الشعب بالفساد ونهب المال العام وسرقة ثروة الشعب ولقمة عيش الناس، عن الذين تسببوا في اجتياح وفواجع وجرائم الإبادة الجماعية في الموصل ونينوى والمسؤولين عن خراب العراق طيلة الفترة المنصرمة الذين يتواجد أغلبهم في "المنطقة الخضراء" وعدم تقديمهم للمحاكمة العلنية والعادلة. إن هذا الإجراء، وليس معاقبة الفاسدين الثانويين، على أهميته، الذي إن تحقق، سيقود البلاد إلى بداية التغيير المنشود في الواقع العراقي الفاسد والرث. إنها البداية لتغيير الطغمة الحاكمة وتغيير تشريعاتها الخائبة، ووضع الناس الوطنيين المستقلين والمخلصين لهذا الوطن على رأس السلطة وفي مجلس النواب وفي القضاء أيضاً، إنها البداية لعملية سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية جديدة تتميز بالنزاهة والشفافية والحرص على إرادة الشعب وثرواته ومصالحه ومستقبل أجياله الحالية والقادمة واستقلال وسيادة الوطن. الشعب يوجه اتهامه وعبر المنتفضين إلى مؤسسة القضاء بمن فيها من قضاة لتي لا تريد أن تسمع بأي الناس بها، فهو يقول بغضب شديد لما يعانيه من جروح وندب: إن المؤسسة القضائية ومن فيها يعانون من حالة الصم البكم والعمي، لأنهم أصبحوا جزءاً من العملية الطائفية الفاسدة الجارية حتى الآن في البلاد! فهل سيعيش الشعب غير ذلك، هل المراهنة على القضاء العراقي رهان على حصان خاسر؟ الأيام القليلة القادمة ستكشف أسراراً وخبايا كثيرة!!!
الشعب المنتفض لن يقبل بأقل مما طالب به حتى الآن، لا يقبل إلا بالخلاص من الطغمة الطائفية المحاصصية الفاسدة المهيمنة حتى الآن على السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء وعلى سلطة الإعلام ايضاً. وسيبقى هذا الشعب بنسائه ورجاله في ساحات وشوارع التظاهر إلى ان يستقيم الوضع لصالح الشعب وينحسر القهر والاضطهاد والإمعان في القتل عن صدور الناس.     
 
 

44
كاظم حبيب
نحو النصر، نحو البدء بتطهير الدولة العراقية من مفسديها!
لم تنطلق الانتفاضة ليقدم رئيس الوزراء البائس عادل عبد المهدي استقالته المتأخرة جداً وبعد سقوط مئات الضحايا وألاف الجرحى والمعوقين الأبرياء فحسب، بل من أجل كنس العملية السياسية الفاسدة برمتها، لكنس قوى النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد والقميء كلها، لطرد كل الذين تدخلوا في الشؤون الداخلية للعراق منذ العام 2003/2004 حتى الوقت الحاضر من دول الجوار، لاسيما تلك التي تمتلك جيشاً من الجواسيس والحرس الثوري والبسيج وفيلق القدس والميليشيات الطائفية، التي تأسس بعضها في إيران والكثير منها في العراق، واعتقال ومحاكمة كل الذين ساهموا بقتل أبناء الشعب في مظاهراته المقدامة أو اعتقال واختطاف وتعذيب المتظاهرين والمتظاهرات. لم يتفجر غضب الشعب المقهور والمنهوب ليقول عادل عبد المهدي أنه سيقدم استقالته لمجلس نواب طائفي محاصصي مسؤول عن كل ما حصل في العراق حتى الآن ومسؤول عن المماطلة وتأخير إقالة الحكومة وعن سقوط الضحايا الغالية في مدن العراق المختلفة، بل انتفض ليتخلص من هذا المجلس الطائفي المحاصصي بأغلب أعضاءه الذين وصلوا للمجلس عبر بيع وشراء المقاعد النيابية، ومنهم رئيس المجلس الحلبوسي، وكذلك التخلص من قانون الانتخابات الأسوأ في تاريخ العراق الحديث، وقانون مفوضية الانتخابات المستقلة السيء الصيت والبنية المشوهة والشريرة للمفوضية ذاتها، التي ساهمت بكل قوة وخلال الدورات السابقة في تزييف الانتخابات والنتائج لصالح الأحزاب السياسية الطائفية الحاكمة.
إن المشاركات والمشاركين في الانتفاضة والتي امتد أوراها إلى إقليم كردستان ليساهموا أيضاً في تأييد الانتفاضة الشعبية، يسعون بكل حيوية واستمرارية وصرامة إلى إجراء تغيير شامل في الواقع العراقي الراهن، إلى تغيير في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي، إلى إقامة دولة ديمقراطية حديثة يكون الشعب فيها صاحب السلطة وراعيها والماسك بزمامها من خلال مندوبيه الحقيقيين الذين يصلون إلى مجلس النواب بصدق وأمانة ونزاهة وليس بالمال المتحقق عبر السحت الحرام، دولة، بسلطاتها الثلاث، تحترم استقلالها وسيادتها وقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقضائي، تحترم إرادة الشعب وحقوقه وحرياته وتحمي كرامته التي لا يجوز المساس بها قطعاً.
لم يسقط هؤلاء الشهداء الأبرار لكي يختار مجلس النواب الطائفي المشوه قرقوزاً جديداً يحكم العراق بأوامر صادر عن علي خامنئي وقاسم سليماني وسفير إيران في بغداد، وعلى أيدي مجموعة من العراقيين من ذوي الانتماء والولاء لإيران أولاً وأخيراً كالفياض والخزعلي والعامري وأبو مهدي المهندس ومن يماثلهم في الفكر والفعل والسلوك الشائن، بل لكي يكون عراقياً وطنياً صادقاً في ولاءه للشعب والوطن وقادراً على إدارة حكومة مؤقتة تقود البلاد إلى شاطئ الأمن والسلام لتمارس التهيئة الجدية لانتخابات جديدة في ظل قانون انتخابي جديد ومفوضية مستقلة جديدة وتحت إشراف الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية والمحلية غير المرتبطة بالأحزاب السياسية القائمة.
إن الحكومة الجديدة يفترض فيها منع كل الذين شاركوا في عضوية مجلس النواب في دوراته السابقة وكل الوزراء في الحكومات السابقة وكل قادة الأحزاب التي قادت العملية السياسية من خوض الانتخابات العامة بسبب ما تسببت به من مآسي وكوارث وفواجع في البلاد وما سال من دم ودموع خلال السنوات الـ 16 المنصرمة. كما عليها إنهاء وجود الميليشيات الطائفية المسلحة وجعل السلاح بيد الدولة لا غير.
إن الحكومة الجديدة يفترض فيها أن تقدم لائحة اتهامات واضحة، شفافة وصريحة ضد كل الذين تسببوا في كل ما حصل للعراق خلال السنوات الـ 16 الفائتة، لاسيما اجتياح الموصل ونينوى والنهب المنظم لموارد البلاد المالية وثرواته الطبيعية ومن كان مسؤولاً عن سقوط الضحايا والجرحى في الانتفاضة الجارية.
لن يترك المتظاهرون البواسل والمتظاهرات الباسلات ساحات العراق وشوارعه وجسوره قبل أن يتحقق ما انطلقت من أجله انتفاضة الشبيبة والشعب المقدامة، فلا بد من تغيير ميزان القوى لصالح الانتفاضة بحيث يُجبروا قادة هذا النظام السافل على إقرار ما يريده الشعب وليس ما يريده الفاسدون الذين حكموا العراق بالحديد والنار.
تحية وألف تحية للثوار البواسل والثائرات الباسلات، تحية للجرحى والمعوقين الذين نرجو لهم الشفاء العاجل. لنقف دقائق حداد على أرواح الشهداء الأبرار، وهم مشاعل وهاجة في سماء العراق تنادينا وتطالبنا بالسير على الطريق والأهداف التي استشهدوا من أجلها حتى النصر المبين.
     
         

45
كاظم حبيب
متى وكيف يمكن تغيير ميزان القوى لصالح الشعب في الصراع الجاري في العراق؟
منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة عبر تحالف دولي خارج الشرعية الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتسليم الولايات المتحدة قيادة الدولة بسلطاتها الثلاث ووسائل الإعلام، كسلطة رابعة، بيد تحالف سياسي من الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والأحزاب الإسلامية السياسية السنية والأحزاب القومية الكردية بقيادة القوى والأحزاب الشيعية وإقامة نظام سياسي طائفي محاصصي، برزت بدايات الصراع بين قوى سياسية ديمقراطية رافضة لهذا النظام باعتباره مخالفاً لتطلعات المجتمع في إقامة دولة ديمقراطية حديثة ومجتمع مدني ديمقراطي من جهة، وبين قيادات القوى والأحزاب التي تسلمت السلطة من جهة أخرى. وخلال السنوات 16 المنصرمة لعبت القوى الحاكمة دوراً بارزا في الهيمنة التامة على جميع مفاصل الدولة بـ:
1.   تكريس نظامها السياسي الطائفي المحاصصي والهيمنة التامة على مجلس النواب بممارسة الفساد المالي والإداري وعمليات الإفساد لتعزيز وجودها في السلطة، إضافة إلى بناء دولة عميقة بقوى عسكرية فعلية تابعة لها هي الميليشيات الطائفية المسلحة التي تدين بالولاء للأحزاب الإسلامية السياسية التابعة فعلياً لولاية الفقيه والحكم الطائفي في إيران.
2.   الهيمنة الكاملة على الموارد المالية للدولة والتصرف بها بما يسهم في تكريس وجودها وتفسيخ وإفساد السلطات الثلاث والسلطة الرابعة التابعة لها ونشر الفساد على أوسع نطاق ممكن في المجتمع بحيث تحول إلى نظام معمول به وساري مفعوله على الدولة والمجتمع.
3.   التخلي الكامل عن عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والاعتماد على موارد النفط المالية في إغراق الأسواق بالسلع المستوردة واعتماد المزيد من توظيف العاطلين عن العمل في أجهزة الدولة والسكوت عن دفع رواتب لعشرات الآلاف من الفضائيين المسجلة بأسماء وهمية أو مكررة.
4.   فسح في المجال إلى ولوج النفوذ الإيراني في عمق السلطات الأربعة، التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلام، وبشكل خاص في وزارات الدفاع والداخلية والأمن الداخلي، وفي الاستخبارات، وقوات مكافحة الشغب والقوات الخاصة وقوات عمليات بغداد، إضافة إلى تشكيل الحشد الشعبي بجزء أساسي من قوام الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران. وكذلك دورها المباشر في الجانب الديني المذهبي وفي المجتمع.
5.   تأييد المرجعيات الشيعية في النجف للقوى والأحزاب الإسلامية الطائفية الشيعية الحاكمة ودعمها المستمر في الهيمنة على السلطة السياسية ومجلس النواب والقضاء العراقي ووسائل الإعلام، لاسيما وأن لهذه المرجعيات، خاصة مرجعية السيستاني، تأثير كبير وملموس، شئنا ذلك أم ابينا، على جمهرة كبيرة من اتباع المذهب الشيعي. ولم يتغير هذا الموقف جوهرياً طيلة السنوت الـ 16 الفائتة.   
إن هذا الواقع قد جعل ميزان القوى في الدولة والمجتمع يميل بقوة لصالح الأحزاب التي تسلمت زمام الدولة والحكم وتسنى لها، رغم وجود صراعات غير قليلة فيما بينها تتركز حول المناصب والمواقع في السلطة ومجلس النواب وعلى الحصص المالية والنفوذ العام في المجتمع، كما منح الحكام الفاسدين فرصة تجاوز الكثير من الأزمات التي مرّت بها الدولة العراقية والهبات الشعبية التي انطلقت في أعوام 2997&2008 و2011 و2014/2015 و2018، وكذلك عبور أزمة وكارثة ومآسي الأنبار وصلاح الدين وديالى في عام 2011، ومن ثم الفواجع والإبادة الجماعية التي اقترنت باجتياح الموصل وعموم نينوى وأجزاء من كركوك وديالى ووصولاً إلى مشارف بغداد في عام 2014. وقد كلفت هذه الأزمات وغيرها مئات ألوف القتلى والجرحى والمعوقين والنازحين والمهاجرين والمسبيين والمغتصبين من النساء ومئات المليارات من الدولارات الأمريكية وتعطل كامل لعملية البناء وتوفير الخدمات.
خلال الفترة الفائتة عجزت القوى التي رفضت، وتلك التي انتقدت النظام السياسي، عن تشكيل جبهة واسعة قادرة على التصدي للقوى الحاكمة وسياساتها غير الوطنية، بل بعضها الأساسي قد اعترف بالعملية السياسية الجارية وسار فيها، مع انتقاده لها وعمل مع بعض قواها تحت خيمة مهلهلة تحت واجهة "الكتلة التاريخية" التي لم تكن في حقيقة الأمر الكتلة التاريخية المنشودة. وبالتالي استطاع النظام رغم الهبات والمظاهرات في عام 2011 و2014 و2018 أن يصمد ويتجاوز الوضع موقتا، ولكن كانت هناك نيران تتحرك تحت الرماد.
وفي السنوات المنصرمة تبلورت جملة من الوقائع عبر عملية تراكم لكل العوامل السابقة التي أمكن من خلالها إزالة الكثير من الرماد عن الجمر المتوهج، منها:
1.   إدراك المزيد من العراقيات والعراقيين، لاسيما الشبيبة، بفقدان الوطن، وطنهم العراق، بغياب الحس أو الروح الوطنية العراقية عند الحكام الطائفيين الفاسدين وتبعية القوى والأحزاب السياسية الطائفية الشيعية لإيران دون مواربة، في حين التحقت القوى الإسلامية السنية أما بتركيا أو السعودية أو بعض دول الخليج، في حين توزعت علاقات القوى الكردية بين مؤيدة لتركيا وأخرى لإيران مع صراعات حادة ومستمرة ومن ثم قبول بالعلاقة الراهنة مع رئيس الوزراء الحالي لتجاوبه مع مطالب القوى الكردية، لاسيما المالية.
2.   تلمست الشبيبة عبر أوضاعها الحياتية والمعيشية تفاقم الفساد المالي والإداري وتوقف كامل لعملية التنمية مع عجز حقيقي لدى الدولة عن تأمين وظائف جديدة لأفراد المجتمع بحيث تفاقمت البطالة المكشوفة والمقنعة وأصبح الفساد نظاماً سائداً ومعمولاً به، ولم يعد ممكناً إصلاح فساد الدولة بمن أفسدها، بعكس الوهم الذي برز لدى بعض القوى السياسية.
3.   إن هذا الواقع رفع من حجم الفقر في البلاد إلى مستويات غير مسبوقة وأصبح العيش غير ممكن في ظل هذا النظام، حين لا يجوع فرد واحد فحسب، بل الملايين منهم، عندها لا يمكن إلا أن يحصل شيء ما ليلعب دوره في التغيير، القشرة التي تقصم ظهر البعير!
4.   لقد تلمست الشبيبة الدور الإيراني المهيمن بشكل كامل على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وعلى السلطات الثلاث بمؤسسات الدولة الرسمية، وبيدها الدولة العميقة أيضاً، وعلى أجهزة الإعلام الحكومية والفاسدة، وبالتالي لم يكن أمام هذه الشبيبة الواعية إلا أن تأخذ الأمر بيديها وتعلن انتفاضتها المقدامة بوجه الحكام الطائفيين الفاسدين.
لم يشعر الحكام الفاسدون بضرورة الإصلاح أو التراجع عن هيمنتهم الكاملة على الدولة، بل شعروا بالقوة وقدرتهم على مواجهة الشبيبة المنتفضة، فعمدوا، بسبب خشيتهم على فقدان الحكم ومعه مصالحهم الذاتية، إلى استخدام أسلوب التصدي بالحديد والنار، فسقط عشرات الشهداء والجرحى ومئات المعوقين. ولم يدرك هؤلاء الأوباش ما قاله الجواهري الكبير بحق:
سينهض من صميم اليأس جيل        مُريد البأسِ جبارٌ عنيدُ
يقايض ما يكون بما يُرجّى           ويعطف ما يُراد لما يُريدُ
وازداد سيل الدماء بعد الجولة الثانية من الانتفاضة بعد الـ 25 تشرن الأول/ أكتوبر 2019، وهنا أيضاً استقبل الحكام الجبناء ذلك باستخفاف ودم بارد، كما برز ذلك في خطب المسؤول الأول عن الدم المسال، عادل عبد المهدي، ولم يدركوا مغزى قول الجواهري الكبير:
أمينُ لا تغضبْ فيومُ الطـَّغامْ       آتٍ وأنفُ شامتٍ للرَّغامْ
أمينُ لا تغضبْ وإنْ هُتـِّكَ الـ       سِّتـْرُ وديستْ حُرُماتُ الذِّمام
أمينُ خـلّ الــدمَ ينزف دماً       ودعْ ضـرامـاً ينبثقْ عـن ضــرامْ
منذ شهرين والمظاهرات السلمية مستمرة وفي اتساع يواجهها النظام بمزيد من التصدي وبمزيد من القتلى والجرحى والمعوقين والمعتقلين والمختطفين والمغيبين، ودون أن تبدو في الأفق بارقة حل سريع؟ فما العمل؟ ليس أمام المنتفضين غير الاستمرار حتى النصر المبين ولتحقيق ذلك لا بد من تغيير ميزان القوى لصالح الشعب المنتفض، فما هي الاحتمالات المتاحة في هذا الصدد؟
على وفق الواقع العراقي الراهن هناك الاحتمالات الآتية لتحقيق تغيير في ميزان القوى بحيث يقلب السحر على الساحر، بحيث يعجز الحكام عن الدفاع عن نظامهم ودستورهم ومجلسهم النيابي وقوانينهم:
1.   أن تتعاظم المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات السلمية وتستمر بدأب وعناد شديدين لتعبئة الشعب، كل الشعب حولها بما يسهم في تحطيم إرادة الحكام البغاة والجبناء ويفرض عليهم الاستسلام للأمر الواقع. وهذه العملية ممكنة ولكنها لم تصل بعد إلى درجة النضوج القصوى، فهي بحاجة إلى صبر وجهد ودأب كبيرين، وربما المزيد من الشهداء على أيدي الجناة.
2.   أن يجرى تحول كامل في أجهزة الدولة المدنية وفي الحياة الاقتصادية حين يعلن العصيان المدني التام في البلاد وتعجز الدولة عن إدارة شؤون الحياة وتتولى القوى المنتفضة تسيير الأمور وتضطر السلطة على التراجع وتسلم الأمر بيد الشعب وفق قواعد معينة دون حصول فوضى. (وهو أمر ممكن حين يتعاظم المد الثوري السلمي ويشمل المجتمع والدولة عدا قيادات الدولة الفاسدة).
3.   أن تغير القوات المسلحة، لاسيما الجيش، موقفها وترفض الدفاع عن النظام والنخب الحاكمة التي خانت قضية الشعب والوطن ولطخت أيديها بدماء الشهداء والجرحى والمعوقين. (وهو أمر ممكن في لحطة حاسمة دون أن يقترن ذبك بانقلاب عسكري).
4.   أن تتخذ المرجعية الشيعية، والتي لا زال لها تأثير في الأوساط الشيعية من الشعب، موقفاً حازماً إلى جانب المنتفضين بمطالبتها الصريحة باستقالة الحكومة أو إقالتها وتسليم السلطة إلى حكومة كفاءات مدنية مستقلة لإنجاز مهما المرحلة الانتقالية. ومثل هذه المسألة ستحرك الشعب أكثر فأكثر من جهة وستضع الحكام الشيعة الذين يدعون سماعهم لنصائح المرجعية على المحك أمام المجتمع والعالم كله. (حتى الآن لم يحصل هذا الأمر بسبب المساومة الجارية بين المرجعيات الشيعية والأحزاب الحاكمة من جهة، وبسبب المساومة بين المرجعيات الشيعية في العراق ومرجعية قم وولي الفقيه على خامنئي وتأثير الأخير المستمر حتى الآن على المرجعية الشيعية في النجف من جهة ثانية). إن أهمية هذا الاحتمال تكمن في إيمان الكثير من أتباع المذهب الشيعي في العراق بدور المرجعية، والذي كما يبدو واضحاً آخذ بالتراجع السريع بسبب ضعف مواقف المرجعية أمام النخب الحاكمة في العراق وإيران.
5.   الاحتمال الأخير حصول انقلاب عسكري ضد الحكم القائم دون أن تعرف من هي القوى التي تنفذه وماذا تريد وإلى أين تتجه أولاً، مع احتمال نشوب نزاعات دموية لا تبقي ولا تذر ثانياً. وهو ما يتجنبه المنتفضون وعموم الشعب، لأنهم ضد العنف واستخدام السلاح وضد الانقلابات. إلا إن هذه المسالة ليست بيد المنتفضين، بل ترتبط بمن يقوم به وبسلوك الحكام الفاسدين وما يمارسونه ويدفعون إليه.         
إن قوى الانتفاضة الشبابية والشعبية تقف بحزم وإصرار إلى جانب الاحتمالات الثلاثة الأولى السلمية، مع حقيقة إن جماهير واسعة لم تغسل يديها بعد من احتمال حصول تحول في موقف المرجعية لصالح الشعب لحماية وجودها ودورها الديني، وتسعى إلى تحقيق تلك الاحتمالات، في حين ترفض الانقلاب العسكري إذ لا ترى فيه حلاً لمشكلات البلاد ويمكن أن يدخلها في سلسلة من المشكلات الجديدة بما في ذلك بروز دكتاتور جديد على غرار صدام حسين ونوري المالكي وعادل عبد المهدي ومن لفّ لفّهم.   























46
كاظم حبيب
أيها الحكام السفهاء كفاكم تسويفا وضحكاً على ذقون أتباعكم!
بتاريخ 19/11/2019 اجتمعت النخب الفاسدة الحاكمة المتمثلة بالأحزاب الإسلامية السياسية وقادة الميليشيات الطائفية المسلحة في بيت واحدٍ من كبار الفاسدين والانتهازيين والطائفيين بامتياز ورئيس حزب تيار الحكمة، عمار الحكيم، ومن التابعين المخلصين لولاية الفقيه والمرشد الإيراني والدكتاتور علي خامني ووكيله في العراق الجنرال قاسم سليماني، وصدر عن هذا الاجتماع البائس قرار هزيل وسفيه يدعو إلى منح الحكومة 45 يومياً للقيام بالإصلاحات التي يريدها المجتمعون، والتي تعني بدقة متناهية استمرار بقاء النظام السياسي الطائفي والنخبة الطائفية الفاسدة في الحكم والاستفادة من الوقت لتفويت الفرصة على المتظاهرين في تحقيق التغيير الجذري المنشود وكنس النظام المشوه وممثليه والسادرين في غيهم وجورهم ضد الشعب، وهم المسؤولون عن قتل أكثر من 320 متظاهر، على وفق ما جاء في التقارير الرسمية، إضافة إلى جرح وتعويق أكثر من 16 ألف متظاهر ومتظاهرة واعتقال الآلاف واختطاف المئات منهم.
إن صدور مثل هذا القرا التافه والهزيل وعن قوى وأحزاب مسؤولة عما جرى ويجري ف البلاد من مفاسد وموبقات سياسية وأخلاقية واجتماعية، يعبر في واقع الحال عن:
1)   أزمة خانقة يعيشها الدولة الهامشية والنظام السياسي الطائفي الفاسد برمته، كما تعيش معه بذات الأزمة المتفاقمة الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة كافة، وهي التي نهبت وفرطت بأموال العراق التي قدرت خلال الفترة المنصرمة بألف مليار دولار أمريكي وعاشت على السحت الحرام وعلى خراب اقتصاده وفساد شامل في الدولة بسلطاتها الثلاث والمجتمع.
2)   عجزها هذه النخب الحاكمة عن الاستمرار في الحكم موضوعياً، ورفضها التنازل عنه وعن الامتيازات التي تتمتع بها منذ 16 عاماً ذاتياً، وبالتالي فهي محشورة في زاوية ضيقة يزداد ضيقها يوماً بعد آخر.
3)   ومن اجل خروجها من الزاوية الضيقة التي حشرت فيها، استخدمت منذ انطلاق الانتفاضة ولا تزال تستخدم حتى الآن أبشع أساليب العنف والقتل المباشر والمتعمد للمتظاهرين الرافضين لها ولوجودها في الحكم. وهي تنسى بأن العنف لم يعد سبيلاً لمعالجة الأزمة المتفاقمة التي تشد بخناقها على النظام، بل الاستجابة لمطالب قوى الانتفاضة.
4)   وإذ هي تخشى من عواقب انتزاع السلطة دستوريا منها لما يمكن أن يحصل لها من حساب قضائي عسير وعادل، يدفعها الدخيل والمحتل الإيراني على البقاء في السلطة ويُنشط أتباعه في الميليشيات الطائفية المسلحة، ومنها ميليشيا الخراساني وبدر وعصائب أهل الباطل وغيرها لمزيد من القتل والاختطاف والتعذيب ومحاولة فرض التخلي عن الانتفاضة كما حصل مع السيدة الفاضلة مريم محمد بعد اعتقالها من قبل "جهة حكومية رسمية وغير رسمية مجهولة!".   
إن هذه الوثيقة الهزيلة، التي وقَّعت عليها الأحزاب والقوى المجتمعة، تهدف بشكل صارخ إلى التسويف وكسب الوقت والضحك على ذقون الناس، لن تمر على العراقيات والعراقيين المنتفضين المفتحين باللبن، مثل هذه الأساليب البالية كما يقول المثل الشعبي، فأعلن المتظاهرون النشامى بوعي ومسؤولية عالية عن رفضهم الكامل لهذه الوثيقة البائسة التي خطها لهم الجنرال الإيراني قاسم سليماني، وطالبوا بإقالة رئيس الوزراء والحكومة كلها فوراً، دون قيد أو شرط، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة تبدأ مباشرة بإجراء تغييرات جذرية في واقع العراق الراهن، وعلى وفق ما ورد في أهداف المتظاهرين، وأنهم سوف لن يعودوا إلى ديارهم قبل أن يرحل هؤلاء مطايا الحكم الإيراني أو أي متدخل أخر في شؤون العراق الداخلية وسياساته الخارجية. وقد أحرق المنتفضون هذه الوثيقة البائسة التي تعتبر لطخة عار في جبين من وقع عليها!
إن الوضع العام يتبلور وينضج صوب إعلان العصيان المدني من جانب الشارع العراقي والمدارس والكليات والجامعات والمعاهد ودوائر الدولة، إنه العلاج الشافي لإسقاط الحكومة العراقية الإرهابية الخارجة عن دستور وقوانين البلاد بامتياز بعد أن تصدت لمظاهرات وإضرابات واحتجاجات سلمية بالعنف المفرط وقتلت الكثير جداً من بنات وأبناء شعبنا المستباح بها وبالدخيل الخارجي.
إن ساحة التحرير في بغداد قادرة على رؤية وتشخيص وجهة تطور الأوضاع والمزاج الثوري المتصاعد لفئات المجتمع والقدرة الفعلية على إعلان العصيان المدني الذي يشل دفعة واحدة الدولة والحكومة بالكامل، باعتباره العلاج الشافي لإسقاط هذه الحكومة الباغية ورئيسها الراكع للأجنبي.
ويبدو لي إن أبرز مكاسب هذه الانتفاضة الشعبية العملاقة تتجلى في النقاط المهمة التالية:
1.   التخلص الروحي والنفسي من أدران السنوات المنصرمة التي تكرست في الدولة وفي المجتمع عبر خمسة عقود من هيمنة الدكتاتوريات القومية الشوفينية والطائفية السياسية والتمييز الديني والمذهبي والقومي والحروب والحصار والفكر الغيبي التخديري، وهي التي داست على كرامة الإنسان وقيمه الإنسانية وسرقت بدون حياء حقوقه وحرياته وحياته.
2.   نشوء وحدة وطنية خلاقة ومبدعة تتجلى في صفوف المتظاهرين والمتظاهرات من أتباع مختلف الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية العقلانية المتطلعة للتغيير.
3.   المشاركة الفاعلة والمنعشة للمرأة العراقية، التي خلعت بجرأة فائقة وبوعي ومسؤولية عالية عن كاهلها المثقل بالتقاليد والعادات البالية والدولة الذكورية والمدمرة لوحدة المجتمع والتقليص الحقيقي لدور المرأة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعامة، مع الرجل في مواجهة النظام السياسي الطائفي الفاسد والخانع للأجنبي ورفعت راية النضال عالياً لتحقيق التغيير الجذري المنشود في أوضاع العراق الراهنة والمطالبة باستعادة الوطن المستباح والمسلوب! إنها انتفاضة فكرية وسياسية ونفسية للمرأة العراقية مع أخيرها الرجل، وهي الظاهرة الأكثر أهمية في حركة المجتمع الجارية لإسقاط الحكومة الدموية لعادل عبد المهدي والطغمة الحاكمة.
4.   حررت هذه الانتفاضة الشبابية نسبة عالية من شبيبة العراق وفئات واسعة من الشعب من الفكر الظلامي السائد لتنطلق في رحاب الفكر الحر والديمقراطي الإنساني المسؤول عن بناء الدولة العراقية الحديثة والمجتمع المدني الديمقراطي، حيث تكون السلطات الثلاث بيد الشعب وممثليه الحقيقيين الذين ينتخبون على وفق دستور ديمقراطي علماني وقانون انتخابات ديمقراطي عادل وحديث، وبناء مجتمع مدني ديمقراطي يعي أهدافه ومصالحه وينفذ إرادته الحرة ويحمي استقلال وسيادة البلاد.
5.   والانتفاضة الجارية تسعى إلى إعادة النظر الكاملة لا بالقوانين المناهضة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والعدالة الاجتماعية التي وضعت خلال العقود الخمسة المنصرمة وتسويق الفساد فحسب، بل ويعمل من أجل رفض التدخل في الشؤون الداخلية، وتعزيز الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وتكريس النظام الفيدرالي، وإعادة النظر بأسس العلاقات الخارجية للعراق، سواء أكانت مع دول الجوار والمنطقة، أم مع المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي، والاحترام والمنفعة المتبادلتين والأمن والسلام على الصعيد العالمي.
6.   إن في مقدور الانتفاضة وواجبها أن تفتح الأبواب مشرعة أمام عملية تنمية اقتصادية والاجتماعية مستدامة وعقلانية، لاسيما التوجه صوب التصنيع وتحديث الزراعية وحماية البيئة في آن واحد، والاستفادة القصوى من الثروة الوطنية في تطوير الاقتصاد والمجتمع وتوفير أقصى ما يمكن من فرص العمل في القطاعات الإنتاجية والخدمية للشبيبة وإغناء الثروة الاجتماعية وممارسة العدالة في توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي. 
من المفيد والضروري جداً أن ينهض المنتفضون بمهمة جوهرية، بجوار التظاهر اليومي والتعبئة المستمرة لفئات المجتمع العراقي للتغيير، هي الإقدام على تشكل لجان اختصاص من الكفاءات العراقية المتوفرة في مؤسسات الدولة والجامعات والكليات ومن ذوي الخبرات المهمة في مختلف المجالات وممن هم خارج الخدمة لأي سبب كان، والمقترحات المقدمة من عدد غير قليل من الكتاب والمهتمين، لوضع مسودات لعدد من المسائل الجوهرية التي يمكن تقديمها للحكومة المؤقتة التي ستشكل قطعاً بعد إقالة هذه الحكومة الدموية، لتستفيد منها في وضع المقترحات التي تقدم لإقرارها لاحقاً، لاسيما قانون الانتخابات، وقانون المفوضية المستقلة للانتخابات، وقانون الأحزاب، وقانون منظمات المجتمع المدني، وقانون الإعلام والصحافة، وقانون مجلس الخدمة المدنية ... الخ. إضافة إلى وضع تعديلات أساسية للدستور التي تزيل عنه طابع حمال أوجه أو التناقضات في مواده وفقراته ومنع تأسيس أحزاب على أساس ديني أو طائفي...الخ.     
لنعمل جميعاً من أجل انتصار الانتفاضة والتحول صوب الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي، وليس إلى دولة مستبدة ودكتاتور جديد، كما يتوقع البعض ممن يشكك بهذه الانتفاضة وأهدافها والقوى الفاعلة فيها من الكتاب والمحللين السياسيين، والتي لا تخلو كل انتفاضة أو ثورة من قوى دخيلة تحاول سرقة الثورة وأهدافها من خلال ركوب الموجة. وهو ما يفترض أن ننتبه له وأن نعي التجارب التي عاشتها مصر الشقيقة أو ليبيا أو غيرها من الدول. إن الشبيبة المقدامة التي تتصدى اليوم، وبهذا الزخم الثوري الهائل للحكم البربري، قادرة بوعيها الجديد على منع صعود عناصر وقوى انتهازية على أكتافهم إلى قيادة الدولة والسلطة التنفيذية، إنهم صمام أمان لمستقبل العراق المشرق الذي يطمح له الشعب العراقي بكل قومياته واتباع دياناته واتجاهاته الفكرية والسياسية العقلانية.       

47
كاظم حبيب
حوارارت ونقاشات موضوعية مطلوبة مع المحافظات غير المنتفضة
منذ الأول من تشرين الأول/اكتوبر 2019 تتظاهر شبيبة وسكان محافظات بغداد وبقية محافظات الوسط والجنوب ضد النظام السياسي الطائفي الفاسد والفاشل باعتراف نخبه السياسية الحاكمة التي سجلت أرقاماً قياسية دولية في الفساد المالي والإداري والديني، وباعتراف المرجعية التي لا تزال تحمي وتساوم هذا النظام السياسي الدموي.
وعلى أهمية وعظمة هذه الانتفاضة الشعبية وصمودها وإصرارها على تحقيق النصر وتقديمها أغلى التضحيات البشرية من القتلة والجرح والمعوقين والمعتقلين والمختطفين والمغدورين الشباب، فأن جزءاً عزيزا من أبناء وبنات شعبنا بقومياته العديدة لا يزال بعيداً عن المشاركة الفعلية، باعتباره جزءاً عضوياً من هذا الشعب المتعدد القوميات، المؤثرة في مجرى ومسيرة هذه الانتفاضة، إذ لا يكفي التأييد الشعبي الشفاهي أو الكتابي الحار، بل المطلوب مشاركة شعبية جادة ومسؤولة في الانتفاضة، لكي يفرض المجتمع، كل المجتمع العقلاني غير الفاسد، على نظام الحكم في العاصمة بغداد الخضوع المباشر لإرادة الشعب وتقديم الاستقالة الفورية، لكي يبدأ السير صوب التغيير الديمقراطي المنشود.
لا شك يعرف الكثير منا العوامل المتباينة والفاعلة التي أعاقت حتى الآن مشاركة الشبيبة وسكان عدد من المحافظات العراقية، سواء أكانت في غرب العراق ونينوى، أم في إقليم كردستان. ولكن هذه العوامل بالذات تفرض على ثوار بغداد والوسط والجنوب تشكيل وفٍد يبدأ بخوض حوارات ونقاشات جدية ومسؤولة مع الشبيبة مع القوى والأحزاب والجماهير في تلك المحافظات. فسكان هذه المحافظات يشكلون أجزاء من المعاناة العراقية التي عمرها أكثر من خمسة عقود، لاسيما الأعوام ال 16 الأخيرة، حيث ورث النظام الطائفي الجديد والفاسد ارث نظام دكتاتوري مطلق حقير، نظام عسكري توسعي ودموي، ليضيف عليه المزيد من الشمولية الفكرية والسياسية والفساد والتمييز الديني والطائفي والخضوع للدولة جارة هي إيران. وبالتالي فأن الخراب العراقي هو عام وشامل ونتيجة منطقية لسياسات هذا النظام الداخلية والخارجية. لم يقتصر نضال الشعب العراقي يوما على جزء أو قومية واحدة منه، وسكوت بقية الأجزاء أو القوميات الأخرى. ولهذا فأن ما يحصل اليوم له أسبابه التي لا بد من العمل على إزالتها. هناك خشية غير مبررة، على حسب قناعاتي، مفادها، إن هناك من يسعى لإلغاء النظام الفيدرالي في العراق، والتي تجلت في موقف الحكومة ومواقف بعض المثقفين الذين عبروا عنها بمقالات أو تعليقات. أو بسبب ضغوط من قبل الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة المهيمنة على المحافظات الغربية ونينوى والتي تمنع شبيبتها من المشاركة في الانتفاضة.
من هنا اقدم مقترحي بتشكيل وفد من ثوار ساحة التحرير لزيارة المحافظات الغربية ونينوى وإقليم كردستان أو اللقاء بوفود منها في بغداد لمناقشة العوامل المعرقلة للوحدة النضالية المنشودة للشعب العراقي بكل قومياته العربية والكردية واتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية. السياسية العقلانية. علينا أن لا نستهين بهذه المسألة، اذ يعول النظام الطائفي الفاسد والعدواني على غياب الوحدة النضالية الراهنة في استنزاف قوى الانتفاضة وإضعافها عبر كسب المزيد من الوقت الذي منحته لها قواها الذاتية الفاسدة التي اجتمعت في بيت عمار الحكيم، والمرجعية الدينية التي تطرح خطبة كل يوم جمعة لتغيب اسبوعا كاملاً عن الساحة يَقتل النظام فيه المزيد من الشبيبة المنتفضة وجرح وتعويق المئات منهم أو اختطافهم ورض التخلي عن المشاركة في الانتفاضة بتوقيع تعهدات خطية مماثلة لما كان يفعله النظام البعثي الدكتاتوري مع معتقلي الرأي الآخر.
الانتفاضة الشعبية في سباق مع الزمن، وعلى المنتفضين تقع مهمة حلحلة جميع المعضلات التي تقف حائلاً في وجه جعل الانتفاضة عامة وشاملة لكل اجزاء الدولة العراقية، لكل المحافظات، لكل بنات وأبناء الوطن المستباح بالطائفية والفساد. أملي ان يناقش المنتفضون هذا المقترح بكل موضوعية وشفافية بأمل وهدف تحقيق الانتصار السريع لانتفاضة الشبيبة والشعب المقدامة، بإسقاط الدكتاتورية الدموية الجديدة وإنهاء سيطرة القوى الظلامية على الدولة بسلطاتها الثلاث.
 




48
كاظم حبيب
صراع بين الشبيبة المتعطشة للحرية والعمل والحكم الرث والفاسد!
نشهد يومياً جمهرة ممن يُطلق عليهم بـ "المثقفين!" وهم في جهالة، لا يستفيدون من ثقافتهم وعاجزون عن استخدامها بوعي وإدراك لمغزى الأحداث الجارية وتحليلها واستخلاص النتائج منها. وهناك من يُطلق عليهم بـ "الأميين!"، وهم ليسوا في جهالة، من أبناء وبنات الشعب الذين يستفيدون من معارفهم وخبراتهم الشعبية على أفضل وجه لرؤية ووعي وتحليل الاحداث واتخاذ المواقف المناسبة بشأنها!  ك. ح.
السؤال الذي يدور في بال الكثير من الناس: هل التحول الثوري الجاري في موقف الشبيبة العراقية جاء صدفة محضة، أم إنه عملية سيرورة وصيرورة ثورية مديدة ومعقدة، تفاعلت فيها عوامل سياسية واقتصادية _ اجتماعية وثقافية، إضافة إلى العيش في بيئة ملوثة أتت على الكثير من الولادات الجديدة أو شوهت أجسامهم وموت الكثير من كبار السن والعجزة وبروز واسع النطاق لأمراض سرطانية عند الأطفال؟ وهل التحول الثوري كان مفاجأة استثنائية، أم إنه التجسيد الواقعي والموضوعي لتراكم شديد وطويل الأمد لتلك العوامل المتفاعلة وتحولها في لحظة تاريخية استثنائية من حياة المجتمع، والشبيبة على وجه الخصوص، إلى حالة نوعية جديدة تقلب موازين القوى وتغير الكثير من العلاقات والأفعال، إذ ينشأ عنها وضع نفسي ومزاج ثوري جديد وروح خلاقة متميزة تختلف تماماً وكلية عما ساد قبل تلك اللحظة الاستثنائية في صفوف الشبيبة؟
في كتاب قيَّم بعنوان "الرثاثة في العراق إطلالة دولة.. رماد مجتمع"، صدر في عام 2015 ساهم في إنجاز دراساته الكثير من المثقفات والمثقفين العراقيين وتحرير السيد الدكتور فارس كمال نظمي، تضمنت تحليلات ومضامين الدراسات جملة من الإضاءات التي كانت تؤشر بوضوح إلى ما يمكن أن يحصل لمجتمع في دولة رجعية مشوهة ورثة، تقودها نخب اجتماعية فاسدة ومستهترة بكل القيم والمعايير الإنسانية وذات أيديولوجية دينية وطائفية شمولية تتسم بالرثاثة والشراسة والعدوانية والإقصائية.
لم يكن في بال النخب الحاكمة في السلطات الثلاث سوى مسألة واحدة ورئيسية لها هي: كيف يمكنها البقاء في السلطة لتتصرف بشكل مطلق بالحكم والموارد المالية والثروة الخامية، دون أن تكلف نفسها جهد بناء دولة ديمقراطية عقلانية تولي اهتمامها الأول لبناء مؤسسات الدولة الحديثة ورعاية المجتمع والاقتصاد الوطني والثقافة والبيئة، وتوفر الخدمات العامة والأساسية للمجتمع، باعتبارها جزءاً مباشراً من مهمات الدولة. كما لم تلحظ هذه النخب بأن المجتمع العراقي ينمو بسرعة وبمعدلات عالية سكانياً، إذ يدخل سنوياً المزيد من القوى العاملة الجديدة في خانة القوى القادرة على العمل، في وقت هي عاجزة عن إيجاد فرص للتراكم المتفاقم في عدد العاطلين من السنوات السابقة، سواء أكانوا من خريجي مختلف المراحل الدراسية، أم ممن لم يتسن لهم التعلم أساساً، بسب إهمالها الفعلي لعملية التنمية الاقتصادية، الصناعية منها والزراعية، وإقامة مشاريع الخدمات الإنتاجية والعامة بما يمكنها من تشغيل تلك الأيدي العاملة العاطلة المتراكمة. وتوجهت إلى توظيف الكثير من الناس في دوائر الدولة والخدمة العسكرية بحيث أشبعت ولم يعد في مقدورها توظيف آخرين. كما إن إهمالها للقطاعات الإنتاجية اقترن بتوجهها صوب استيراد السلع والخدمات، ومنها الكهرباء والغاز والمحروقات، من الدول المجاورة، لاسيما إيران وتركيا، التي كانت توفر للنخب الحاكمة والسماسرة الكثير الامتيازات المالية والسحت الحرام.
لقد عاشت الشبيبة العراقية التي يتراوح عمرها بين 30-50 سنة حالياً ظروفاً غاية في التعقيد، منها الاستبدادي الفاشي والحروب الداخلية والحروب الخارجية والحصار الاقتصادي والآم الحرمان وتفاقم أعداد اليتامى والأرامل والفقراء والبطالة الواسعة وتراجع عملية التنمية والخدمات العامة بسبب الحروب والحصار واستبداد النخبة البعثية. وبالتالي كان الوضع النفسي والاجتماعي في تأزم شديد وخانق، ولم تكن انتفاضة 1991 سوى التعبير الصعب عن الحالة النفسية والاجتماعية التي يعيش تحت وطأتها الإنسان العراقي. وحين حل العام 2003 كان العراق قد خسر أكثر من مليون ونصف المليون إنسان بين قتيل وجريح ومعوق وأسير لدى إيران. وكان في كل بيت عراقي عزاء وألم وجراح نفسية نازفة. ومن هنا جاء التهليل لإسقاط الدكتاتورية عبر الحرب الخارجية حين أعلنت أغلب القوى السياسية المعارضة في الخارج عجزها عن إسقاط الدكتاتورية البعثية ورغبتها في أخذ الولايات المتحدة على عاتقها إنجاز تلك المهمة، وكان هذا الموقف استسلاماً أمام قوى دولية كانت بالأساس راغبة في الحرب وساعية إليها بكل السبل. كانت الجماهير الواسعة راغبة في الخلاص من ذلك الواقع المرير لتتنفس نسيم الحرية والحياة الديمقراطية والعيش بكرامة. لم أتوقع بأي حال إن في مقدور الحرب الخارجية، ومن دول ذات أطماع بموارد العراق وموقعه الجيوسياسي، أن توفر للعراق حياة كريمة ودولة ديمقراطية وحكماً عقلانياً رشيداً، تجلى في دراساتي ومحاضراتي قبل حرب عام 2003. ولم أكن وحدي في هذا الموقف بل كان هذا موقف القليل من القوى، ومنها الحزب الشيوعي العراقي وشخصيات ديمقراطية أخرى. وقد حصل ما توقعناه سلفاً.
لقد أعلن عن احتلال العراق من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا رسمياً، ونصّب على البلاد حاكم أمريكي، أودع السلطة بيد القوى والأحزاب الدينية الطائفية بمساومة عجيبة بين دولتين متصارعتين هما الولايات المتحدة المحتلة للعراق، وإيران الدولة الراغبة في احتلاله وتحويله إلى جزء من الإمبراطورية الفارسية في منطقة الشرق الأوسط وبأهداف توسعية على منطقة الخليج (اسمه الأقدم خليج البصرة) والشرق الأوسط. كما اتفق المحتلون بمساومة أخرى مع المرجعية الدينية الشيعية على هذا الحل الطائفي الأثني، وعلى إنجاز انتخابات مبكرة وإقرار دستور عاجل، دستور يضمن استمرار هذه القوى الحاكمة في السلطة. لقد كان المجتمع قد خرج لتوه من حكم دكتاتوري فاشي مرير وأوضاع نفسية معقدة وضياع حقيقي، وكان الناس وكأنهم قد عاشوا في كهوف ومغارات بعيداً عن الحضارة وحركة الزمن وسقطوا في الغيبيات والخرافات وتزييف الدين والتأثير المباشر لشيوخ الدين من المذهبين الشيعي والسني بين الحنبلية المتطرفة (الوهابية) والحنفية والشعور القومي اليميني.
لقد كان لكل ذلك تأثيره على مجرى الانتخابات النيابية ومجالس المحافظات التي حضت بتأييد من شيوخ الدين والتزييف وشراء أصوات الناخبين الفقراء والمعوزين، مما أوجد مجالس نيابية اتحادية ومجالس محافظات بعيدة كل البعد عن الديمقراطية والحياة المدنية والنزاهة والالتزام بمصالح الشعب.
وعلى المدى الأعوام الفائتة قامت النخب الحاكمة بكل ما يمكن القيام به من خلق دولة عميقة مشرفة على الدولة الهشة القائمة، ومن قوى مسلحة أكثر تسلحاً وعدداً من القوات المسلحة العراقية وأكثر دعماً من جانب القوى الحاكمة والدولة الإيرانية، وممارسة كل الموبقات من نهب لخيرات وموارد العراق المالية وتفريط بها، وشراء الذمم والضمائر والسمسرة الرخيصة. وقد كتب الزميل الدكتور فارس كمال نظمي في مقال له بعنوان ثورة تشرين والصحة النفسية السياسية في العراق: تعافي المجتمع واعتلال السلطة" نشر بتاريخ 16/11/2019 في جريدة المدى، جاء فيه بشأن النخب الحاكمة في البلاد ما يلي: 
"أما اليوم، فيمكن الحديث عن مفاهيم إضافية تخص الاعتلال النفسي المزمن للسلطة إذ أفرزت الزعامات السياسية العراقية الرسمية تحديداً، بأدائها الفاشل في التعامل مع الأزمة الحالية، ثلاثة مفاهيم– ليست جديدة في الأدبيات العالمية- يمكن إضافتها بثقة إلى القاموس النفسي- السياسي لتاريخ السلطة في العراق، بما قد يحفّز بعض الباحثين لمقاربة هذه المفاهيم نظرياً وميدانياً واستنطاق مضامينها ووظائفها في الجسم السياسي العراقي، وهي: "الخرف السياسي"، و"النرجسية السياسية"، و"السمسرة السياسية".وعند دمج هذه المصطلحات الثلاثة في إطار مفاهيمي أوسع، قد يمكن الحصول على أنموذج سياسي أكثر شمولاً وتجريداً هو "التفاهة السياسية"، يستحق التمحيص والكشف عن محركاته ومساراته وعواقبه ومآلاته".
إلا إني شعرت عبر متابعة مستمرة لسلوكيات هذه الحكومات المتعاقبة وجدت لزاماً إضافة مصطلح رابع ومهم جداً للتفاهة السياسية هو السادية السياسية التي تميز بها هذا العهد الطائفي الفاسد، والذي يتجلى بوضوح منذ اليوم الأول من انتفاضة الشباب العراقي في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 ومستمرة حتى الآن وستبقى مستمرة حتى إسقاط النظام السياسي الطائفي الفاسد.
لقد كانت الدولة في العراق بسلطاتها الثلاث، ومنذ قيامها على أسس طائفية ومحاصصة مقيتة حتى الآن، معتلة من حيث الأيديولوجيا والنظام السياسي والسياسات الجائرة والفاسدة، والمشوهة لإرادة الشعب والمتجاوزة على مصالحه. وإذا كانت الشبيبة الملتاعة من النظام الدكتاتوري السابق قد اعتقدت بأنها ستجد في الجديد ما ينقذها من إرث العقود السابقة، صدمت بواقع آخر يتماهى الوضع الجديد وإلى حدود بعيدة من حيث الجوهر مع اعتلال السلطة السابقة والتفاهة السياسية للحكام البعثيين. ومع مرور الوقت تبلور ونضج وعي الشبيبة فكراً وممارسة وخبرة، وأدرك المستنقع الذي انزلق إليه العراق على ايدي النخب السياسية الفاسدة الحاكمة، فانتفض ليعلن رفضه الكامل لما يجري في العراق وللطغمة الحاكمة التي أوصلت البلاد إلى هذا الحضيض. ولم يكن متوقعاً من السلطات الثلاث في الدولة المشوهة غير الذي مارسته، إذ عمدت إلى استخدام العنف المفرط والقتل المباشر للشبيبة المنتفضة، وهي بهذا خطت بيدها نهايتها المرتقبة، أن تكون نزيلة مزبلة التاريخ، لينهض العراق من جديد ويتعافى ويتطهر شعبه من رجس الحكومات ورثاثتها. وسيجد المثقفون الذين يدافعون عن هذا النظام العار أنفسهم في موقع لا يبتعد كثيراً عن مزبلة التاريخ بل في قعرها.



49
كاظم حبيب
هل يجرأ القضاء والادعاء العام في العراق على إقامة الدعوى ضد نوري المالكي؟
قدم السيدان المحامي كامل الحساني والقاضي السابق رحيم حسن العگيلي دعوى قضائية ضد رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة العراقية الأسبق نوري المالكي موجهين له 38 تهمة خطيرة بضمنها تهمة الخيانة العظمى. (راجع: نص الدعوى القضائية بتاريخ 25/01/2015.). لم يبدِ القضاء العراقي والادعاء العام أي اهتمام جدي ومسؤولية وطنية في الموقف من هذه التهم. كما وجهت من جانبي اتهامات خطيرة لنوري المالكي أكثر من مرة، وأخر مرة وجهت شكوى إلى الادعاء العام بتاريخ 24/10/2018 (شكوى ضد نوري كامل المالكي، رئيس وزراء العراق السابق، موجهة إلى رئيس الادعاء العام في العراق" (راجع: الحوار المتمدن، 24/10/2018). إلا إن القضاء العراقي، ومعه الادعاء العام، لم يبديا أي اهتمام مسؤول إزاء هذه التهم الخطيرة، التي حكمها إن ثبتت عليها أكثر من حكم إعدام على حسب القوانين العراقية السارية حالياً.
أجري مجلس النواب العراقي تحت ضغط الشارع العراقي تحقيقا حول اجتياح الموصل وانسحاب القوات العراقية أمام زحف مجموعة صغيرة من عصابات داعش الإرهابية وتسببت بوقوع كوارث ومآسي وإبادة جماعية على وفق اعتراف الأمم المتحدة بذلك، إضافة الى المجزرة التي نفذها الإرهابيون الدواعش ضد المجندين في القاعدة العسكرية سپايكر. "دعت اللجنة البرلمانية في تقريرها النهائي إلى محاكمة مسؤولين أمنيين وسياسيين كبار بينهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي والقائم بأعمال وزير الدفاع السابق ومحافظ نينوى وقائد شرطتها، فيما يتصل بسقوط مدينة الموصل في يد تنظيم داعش." (راجع: لجنة برلمانية تُحمّل المالكي مسؤولية سقوط الموصل، دويتشة فيلله، عن رويترز، في 16/08/2015). ولم يرى الشعب ملف التحقيق نهائياً بعد أن وضع في أدراج مجلس النواب. ولا شك في ان رئيس الجمهورية والحكومة والقضاء العراقي قد تسلما نسخاً من ملف التحقيق، ولكن أياً منهم لم يرفع دعوى قضائية ضد المالكي والطغمة التي حكمت العراق معه حينذاك، بل أصبح نائباً لرئيس الجمهورية. وعلينا أن نلاحظ بأن كل المتهمين ما زالوا يمارسون أدواراً مختلفة في حياة الدولة العراقية، مع إن تلك الكوارث والمآسي المريعة لا زال أبناء وبنات شعبنا من الإيزيديين يعانون منها، إضافة إلى النزوح والهجرة الجماعية المليونية لسكان الموصل وعموم نينوى من مسيحيين وشبك وتركمان، وكذلك ما حصل في عام 2011 في محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك. وبهذا الصدد لم يحرك مجلس القضاء الأعلى في العراق ساكناً، إذ ترأسه القاضي مدحت المحمود حينذاك، وهو نفس القاضي المتنفذ في فترة حكم صدام حسين، ورئيس المحكمة الاتحادية حالياً. وحتى اليوم لم يتخذ القضاء العراقي ولا الادعاء العام أي اجراء قضائي ضروري في التعامل المطلوب والمستقل مع هذه القضايا الكبيرة والخطيرة التي هزت العراق كله وزلزلت المنطقة بأسرها.
وإذا كنا من المتابعين لأوضاع العراق، لشخصنا حقيقة أن البلاد قد خسرت، في ظل اربع حكومات متتالية قادها أربعة من حزب الدعوة الإسلامية وبتحالف مع قوى وأحزاب إسلامية شيعية أخرى وأحزاب سنية وأحزاب كردية، برئاسة كل من إبراهيم الإشيقر الجعفري (2005-2006)، ونوري المالكي (2006-2014)، وحيدر العبادي (2014-2018)، وعادل عبد المهدي 2018 وإلى الآن، مئات المليارات من الدولارات الأمريكية، (بلغ دخل العراق خلال الفترة الواقعة بين 2004-2018 ما يقرب من 1000 مليار دولار أمريكي، سواء تم ذلك عبر الفساد بالنهب المباشر السائد كنظام فاعل في البلاد، أم عبر التفريط والتصرف غير العقلاني بموارد خزينة الدولة، إضافة إلى غياب العدالة الاجتماعية في توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي في 16 سنة الفائتة، وكذلك عبر الرواتب والمخصصات والحمايات والامتيازات السخية غير المعهودة لكبار موظفي الدولة في السلطات الثلاث، ابتداءً من رئيس الجمهورية ونائبيه ومستشاريه، ومروراً برئيس الوزراء ونوابه والوزراء وجمهرة المستشارين، ورئيس مجلس النواب ونائبيه و329 نائباً ومخصصاتهم وحماياتهم، ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية وانتهاءً بكبار المستشارين والهيئات والمفوضيات المستقلة ... إلخ.
السؤال العادل والمشروع في كل ما حفل به العراق من خراب ودمار ومجازر وفساد وتمزيق للوحدة الوطنية عبر الطائفية والتمييز الديني والمذهبي وعبر التبعية للخارج هو: هل تحرك القضاء العراقي والادعاء العام لمتابعة كل ذلك، لاسيما فساد كبار موظفي الدولة ومنهم رؤساء الوزارات الأربعة والوزراء السابقين والحاليين على مستوى العراق كله؟ كلا لم يفعل شيئاً وخيب آمال العراق كما فعلت السلطتان التنفيذية والتشريعية.
ان القضاء العراقي والادعاء العام لم يبرهن على استقلاليته عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، بل تشير الدلائل المتوفرة على مدى الفترة المنصرمة إلى عكس ذلك تماماً، فيما عدا قضايا صغيرة غير مؤثرة على وضع النخب الحاكمة الطائفية والفاسد وعلى تنقية أوضاع البلاد بمساعدة القضاء. واليوم يمارس الحكم اعتقالات واسعة خارج القانون ولم يتحرك القضاء والادعاء العام ضد هذه الممارسات، لاسيما قتل أكثر من 320 متظاهر وجرح وتعويق أكثر من 16 ألف متظاهر، وكذلك الموقف من قطع الانترنيت ومن ملاحقة الإعلاميين والإعلاميات واعتقالهم ومنعهم من ممارسة دورهم الإعلامي.
أيها القضاة، إن الانتفاضة الشعبية العارمة الجارية ستحاسب هذي المؤسسة القضائية والقضاة محاسبة حازمة وصارمة وعادلة عبر القضاء ذاته، ولكن بوجود قضاة مستقلين يحترمون كرامتهم ومهنتهم والقسم الذي أدوه في حماية الدستور والحكم بالعدل. لقد فوت القضاء الحالي الفرصة على الشعب في محاسبة ممزقي وحدته وسارقي موارد الدولة ولقمة عيش الكادحين من جانب الحكام والنواب ومن سرق المال العام. لقد كنتم من بين السلطات الثلاث من أبرز العوامل مما وصل إليه العراق المستباح حالياً من داخل العراق ومن الخارج لاسيما إيران.
أتحدى القضاء العراقي والادعاء العام إن كانا يجرأن الآن على رفع دعوى قضائية ضد رؤساء الوزارات الأربعة الانفي الذكر لكل ما تسببوا به من تجاوزات وانتهاكات فظة للدستور العراقي وقوانين البلاد والقيم النبيلة والمعايير الحضارية في المجتمعات البشرية. ان لدى القضاء العراقي والادعاء العام الكثير من الوثائق التي في مقدوره تهيئتها لإقامة الدعاوى القضائية على هؤلاء الأربعة وغيرهم ابتداءً لكي نرى كيف تجري الأمور معهم ومع غيرهم من الفاسدين وسيجد القضاء والادعاء العام التأييد الكامل من بنات وأبناء الشعب المجروح والمستباح بالطائفية والفساد. لنرى كيف يتصرف وكيف يحترم القضاء نفسه إن أراد لزوما الاستقلالية والدفاع عن مصالح الشعب واستقلال وسيادة الوطن، لنرى كيف يبرهن على استقلالية السلطة القضائية، أم لا تزال خاضعةً للسلطة التنفيذية، ومنها رئاسة الجمهورية، والسلطة التشريعية!



50

كاظم حبيب
عادل عبد المهدي الفاشوش ابو ريش المنفوش
المظاهرات والاعتصامات والاقتراب من العصيان المدني تعم البلاد. فالإضرابات تتسع لتشمل فئات اجتماعية جديدة وتنظم إليها مهناً جديدة، إضافة إلى شمولها الطلبة والمعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس الثانوية والمتوسطة والابتدائية. الإضرابات والمظاهرات والتجمعات والتعبير عن الرأي حقوق مشروعة يضمنها الدستور بالمادة 38 الواضحة والصريحة، وهي التي تسقط أية قوانين صادرة قبل ذاك تتضمن تحريماً للإضراب أو التظاهر أو الاعتصام أو العصيان المدني، بما فيها ما صدر في عهد المستبد بأمره والحاكم باسم الاحتلال الأمريكي بول بريمر الذي منع الإضرابات. ولكن حاكم العراق القراقوش الجديد أصدر أمراً أميرياً عبر الناطق الرسمي باسم وزيري التربية والتعليم العالي بأن إضراب المدارس وغيرها ومن يدعو لها يحاكم وفق المادة الثانية، 4 إرهاب! فما هو نص هذه الفقرة 4 من المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب لعام 2005؟  الفقرة تنص على "العمل بالعنف والتهديد على اثارة فتنة طائفية او حرب اهلية او اقتتال طائفي وذلك بتسليح المواطنين او حملهم على تسليح بعضهم بعضا وبالتحريض او التمويل." فهل إضراب الطلبة والمعلمين وغيرهم السلمي يتماشى مع منطوق هذه الفقرة من قانون مكافحة الإرهاب؟ كلا وألف لا، بل يتماشى مع استخدام السلطة للعنف ضد المتظاهرين. فهل يا أبناء وبنات شعبنا، بعد كل هذا وذاك، يخطئ من يقول بان الشعب العراقي يعيش تحت حكم قراقوشي فاشوشي فاشل تتعارض أوامره مع نص الدستور العراقي الذي، كما يبدو، لم يطلع عليه ولم يعرف بأن هذا القانون التظاهرات والإضرابات أبطله الدستور منذ صدوره عام 2005! أليس من واجب المحاكم العراقية محاكمة قادة الدولة العراقية منذ عام 2003 حتى الآن على وفق المادة 4 إرهاب، بسبب ممارسة الدول إرهابها الشرس والقاتل ضد الشعب المطالب بحقوقه المشروعة.
ذكرني هذا القراقوش الجديد أبو ريش المهلوس بقراقوش قديم كان وزيراً في عهد صلاح الدين الأيوني بمصر، إنه أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي الملقب بهاء الدين قراقوش (ت 597 هجرية). تميزت احكام وأوامر هذا الوزير بالظلم والجبروت والقسوة على الرعية وكان شديد التقلبات وفاشل في تطبيق أحكامه وأوامره. فحصد نتيجة سياساته كراهية الناس وأصبح اسمه التركي قراقوش، الذي يعني "النسر الأسود"، بمثابة شتيمة ضد كل حاكم ظالم وفاشل في حكمه وأحكامه. وكان في عهد صلاح الدين شخصية أخرى هو المؤرخ اسمه الأسعد ابن مماتي (1149-1211م) أصدر في حينه كتابا بعنوان "الفاشوش في حكم قراقوش" عبر فيه عن طبيعة وسلوكيات هذا الحاكم الفاشل والفاشوشي الذي يصدر أحكاماً وأوامر يعجز عن تنفيذها، ويعبر بذلك عن غباءٍ شديد في التعامل مع المجتمع. وقد اعتاد الشعب أن يطلق صفة قراقوش على كل حاكم ظالم وجبان وفاشل في حكمه. جاء في موقع المعرفة عن هذا الكتاب وعن شخصية الكتاب الآتي: "ينتمي كتاب الفاشوش في حكم قراقوش إلى أدب الفكاهة والسخرية والهجاء ويمثل بحق أسلوباً فنياً بارعاً في تصوير الغرابة والشذوذ وإحداث المفارقة. وهذا الكتاب الذي أضحك أجيالاً ولازال يضحكنا، كتبه صاحبه باللغة العامية المصرية، ووصل به إلى أعرض الجماهير حتى صار قراقوش في المخيلة الجماعية للشعب مثالاً لكل حاكم أخرق ينحرف عن طريق العقل والمنطق في سلوكه وتصرفاته". (المصدر: معرفة، الأسعد بن المهذب بن مينا بن زكريا بن مماتي، أخذ المقطع بتاريخ 19/11/2019).
في هذا العهد الجديد، في الجمهورية الطائفية الخامسة الفاسدة ظهر أكثر من قراقوش واحد، فقد انجبت الأحزاب الإسلامية السياسية، شيعية كانت أم سنية، مئات من الحكام القراقوشيين الذين حكموا العراق منذ نيف و16 عاماً كانت مليئة بالخراب والدمار والموت والجوع والحرمان ونهب خيرات البلد وإصدار الكثير من مقترحات قوانين قراقوشية، مثل قانون الأحوال الشخصية الجعفري أو قانون الانتخابات المعمول به حالياً أو قانون تشكيل المفوضية المستقلة للانتخابات ... أو قانون الأحزاب ... إلخ. وترأس هؤلاء القراقوشيون رئاسة الدولة ورئاسة وغالبية أعضاء مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء وغالبية الوزراء. وإذا كان البعض منهم ذكياً فقد وظف ذكاؤه للتخريب والفساد والإفساد بشراء الذمم والضمائر، كما هو حصل منذ العام 2005 حتى الآن في السلطات الثلاث. أما رئيس الوزراء الحالي والقائد العام للقوات المسلحة فينطبق عليه عنوان كتاب "الفاشوش في حكم القراقوش". فهذا الرجل لا يتسم بالغباء الشديد وبالتقلبات الفكرية والسياسية الكثيرة والانتهازية الكارثية وحب المال فحسب، بل وبروح عدوانية ودم بارد ازاء من يقتل من المتظاهرين على وفق القرارات الصادرة عنه وازدراء للمجتمع. فهذا القراقوش الجديد أقسم على تشكيل حكومة كفاءات غير محاصصية وسينفذ إصلاحات يطالب بها الشعب منذ سنوات كثيرة وأنه سيكافح الفساد في البلاد ويقدم الفاسدين الكبار إلى المحاكم، وأنه سيقيم علاقات متوازنة مع دول الجوار وبقية دول العالم. ولكن ماذا حصل؟ ظهر ليس في كونه حاكماً فاشلاً فحسب، بل وتعمقت في فترة حكمه القصيرة المحاصصة الطائفية وكل سيئات من سبقه من حكام الأحزاب الإسلامية السياسية وفاق على بعضهم في إصدار الأوامر باستخدام العنف والرصاص الحي وقنابل الغاز القاتل وقنابل الصوت مما أدى إلى استشهاد المئات من المواطنين المتظاهرين وإلى جرح وتعويق أكثر من 16 ألف عراقي، وهو لا يزال مصراً على البقاء في الحكم كحاكم قراقوشي فاشوشي وفاشل. لق وجد خازوق الحكم نافعاً له. وأسوأ تلك السياسات اشتداد تبعية العراق لإيران ووليها الفقيه الدكتاتور وممثله الشخصي الجنرال قاسم سليماني، كما تفاقم دور الميليشيات الطائفية المسلحة المؤتمرة بأمر قاسم سليماني ومن جاء معه أو من العراقيين الخاضعين لقراراته. كما اتسع الفساد وتراجعت الخدمات العامة وتعطلت عملية التنمية كلية وأوقف استخدام الانترنيت لتجنب استمرار الاتصالات بين المتظاهرين، وهي جريمة بشعة يعاقب عليها القانون الدولي والدستور العراقي.
لقد صبر الشعب طويلا على ظلم النظام الطائفي والمحاصصي والفاسد والتابع. ولكن ضاق صدر الشبيبة حين تفاقم نهب الخيرات واتسعت ضائقة الناس وعمت البطالة بنسب عالية بين شبيبة العراق، فانفجرت الانتفاضة الشبابية بزخم لا مثيل له في العراق منذ عقود. فما كان من هذا الحاكم الفاسد القراقوشي غير استخدام إرهاب الدولة في مواجهة المنتفضين، وكان يظهر من على شاشة التلفزة، وهو يبتسم أو يضحك ويهدد بأجهزته القمعية الرسمية. غير الرسمية لتقتل بدم بارد المتظاهرين. كما ظهر هو وبقية الطغمة القراقوشية بالرؤساء الأربعة أو مع الأحزاب الحاكمة وهم يضحكون ساخرين من الشعب ومظاهراته ويقررون رفض مطالب الشعب الأساسية بإسقاط الحكم الطائفي القراقوشي الفاسد. يا عادل عبد المهدي، يا قراقوش العراق الجديد، تذكر دوماً بأن الشعب يمهل ولا يهمل، وعليك عدم نسيان ما حل بالحكام من أمثالك في هذا العراق، تذكر اسم الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد الله ين زياد بن أبيه وصدام حسين وغيرهم ممن وجدوا مكانهم المناسب في مزبلة التاريخ. 

51
كاظم حبيب
نداء عاجل
=======
إلى أبناء الشعب العراقي في القوات المسلحة
منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 انطلقت انتفاضة شبابية مقدامة زلزلت الأرض تحت أقدام النخبة الحاكمة والأحزاب والقوى الإسلامية السياسية وقادة الميليشيات الطائفية المسلحة وقادة الحشد الشعبي وإيران الخامنئي، ثم توقفت لتنطلق ثانية في الـ 25/10/2019. وخلال الأسابيع الستة المنصرمة جوبه المتظاهرون البواسل بالحديد والنار والقتل العمد وبكل السبل القمعية التي تمتلكها أجهزة الدولة الرسمية وغير السمية من أدوات ووسائل قمعية كالرصاص الحي والقنابل القاتلة والقنابل الصوتية والغاز المسيل للدماء والدموع وخراطيم المياه والاختطاف والقتل والتعذيب. انطلقت الانتفاضة لأسباب موضوعية بعد أن غاص الحكام وأحزابهم في مستنقع الطائفية العفنة والتمييز الديني والمذهبي والفكري، وبعد أن أصبح الفساد نظاماً متكاملاً ومعمولاً به في الدولة والمجتمع وتسبب في خراب الاقتصاد الوطني وإيقاف العملية التنموية كلية منذ اليوم الأول من تسلم القوى الطائفية للحكم في البلاد. وحين أصبحت البطالة عامة وشاملة لمزيد من الشبيبة القادرة على العمل وازاد الفقر والبؤس والفاقة لليتامى والأرامل ومن هم تحت خط الفقر، وحيث أصبحت الأوضاع الكارثية لا تطاق، وحين أصبح العراق شبه مستعمرة لإيران الخامنئي، انفجرت الشبيبة بقوة وشهامة. وبمرور الأيام تتحول هذه الانتفاضة إلى ثورة شعبية عارمة تساهم فيها كل الطبقات والفئات الاجتماعية الوطنية، وأتباع جميع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية العقلانية، وأصبح المطلب المركزي للثوار ((إسقاط الحكومة والنخبة الحاكمة والنظام السياسي الطائفي الفاسد والتابع لإيران)). إن استخدام أنواع من الأسلحة القاتلة لفض تظاهرات المنتفضين قد أدت حتى الآن إلى استشهاد أكثر من 600 متظاهر من الشبيبة العراقية الباسلة، وأكثر من 16000 جريح ومعوق. والقوات المسلحة العراقية تعتبر المسؤولة عن هذه الدماء الزكية التي سالت في ساحات وشوارع العراق، ومن الممكن أن تكون العصابات الميليشياوية الطائفية المسلحة وقوى إرهابية دولية وقوى من دول الجوار، لاسيما إيران، تمارس قتل المتظاهرين والقوات الأمنية. 
من هنا يتوجه النداء العاجل والساخن إلى أبناء القوات المسلحة العراقية من مختلفة الصنوف الذي نصه:
أن الشعب العراقي لا يريد منكم انقلاباً عسكرياً تقومون به ضد الطغمة الحاكمة، لأن الانقلابات لم ولن تجلب الخير للشعب والوطن، ولكن الشعب يطالبكم باتخاذ المواقف الأمينة على الشعب وحماية مصالحه وعلى الوطن واستقلاله وسيادته. استمعوا إلى نداء المتظاهرين "نريد وطناً مستقلاً نعيش فيه بكرامة وعزة نفس وسعادة" وهو العيش الكريم الذي يشملكم ايضاً، فالوطن وطنكم باعتباركم جزءاً من هذا الشعب المناضل:
1)   أرفضوا الأوامر التي تصدر عن المسؤولين في توجيه أسلحتكم القاتلة إلى رؤوس وصدور المتظاهرين. فالقوات المسلحة لم تؤسس لمواجهة مطالب الشعب، بل ضد أعداء الشعب أو من يضطهده ويهيمن على مقدراته ويخون الأمانة التي وضعت في عنقه والقسم الذي أداه في أن يكون في خدمة الشعب، وليس في رفع راية الهويات الفرعية القاتلة والطائفية والتمييز الديني على حساب الهوية الوطنية العراقية وتمزيق وحدة الشعب وسرقة خزينة الدولة وقوت الشعب.
2)   أحموا المتظاهرين وتصدوا بشجاعة لكل الذين يحاولون توجيه نيرانهم لرؤوس وصدور المتظاهرين، أو يشعلون النيران بالمؤسسات العامة والخاصة. وهي قوى كثيرة من العهد الدكتاتوري البعثي الصدامي المتغلغلة في أجهزة الدولة ومن المليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي وقوى الإرهاب الدولي الداعشي.
3)   لا تمنعوا المتظاهرين السلميين من التحرك صوب الجسور وأوكار النخبة الحاكمة، التي أعطت الأوامر باستخدام العنف وتوجيه نيران أسلحة قوى الأمن الرسمية وغير الرسمية إلى رؤوس وصدور وظهور المتظاهرين، من أجل إجبارهم على التخلي عن السلطتين التنفيذية والتشريعية وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة تهيئ البلاد لمستقبل أفضل على وفق إرادة الشعب ومصالحه وطموحاته في دولة حرة وديمقراطية حديثة ومستقلة، ومجتمع مدني ديمقراطي حر.
4)   شاركوا في العصيان المدني في حالة إعلانه من قبل المتظاهرين والمتجمعين في ساحة التحرير والذين أجمعوا على التعاون والتنسيق والتضامن بين كل القوى المنتفضة في سائر أنحاء العراق.
- أملي وأمل المنتفضين أنكم ستساهمون في دعم انتفاضة العشب وثورته التي أسست، وهي في مهدها، أفضل العلاقات الإنسانية النبيلة والتضامنية النضالية بين بنات وأبناء العراق المتظاهرين في ساحات وشوارع العراق، بين افراد الشعب الغيارى على وطنهم الحبيب.
- لتكن القوات المسلحة العراقية أداة سلمية بيد الشعب السلمي المنتفض، وليست أداة للقتل والتشريد بيد حكام العراق المستبدين والطائفيين والفاسدين والمفسدين، ويجب ألَّا تكون أداة بيد الجنرال الإيراني قاسم سليماني وأعوانه.
- لتكن القوات المسلحة العراقية جزءاً عضوياً وحيوياً من هذا الشعب الثائر ضد الظلم والطغيان والفساد والقتل العمد، وضد القوى الخارجية التي تتدخل يومياً بالشأن العراقي وترسل الجواسيس والمستشارين ليقودوا الحكام الإمعات بما يأمر به المرشد الإيراني علي خامنئي الذي اتهم أبناء وبنات الشعب الإيراني المنتفض حالياً بكونهم أشراراً وقطاع طرق، ويصدق عليه القول العراقي "وكل إناء بالذي فيه ينضح!!!".
- لترتفع راية النضال والتضامن بين الشعب وقواته المسلحة ضد الطائفية والفساد والوطن المستباح!
18/11/1019
   

52
كاظم حبيب
من هم المندسون في مظاهرات العراق ومن هم قتلة المنتفضين؟
جميع المنتفضين في ساحات وشوارع بغداد وعموم وسط وجنوب العراق، جميع الناس الشرفاء في هذه البلد الطيب يدركون بما لا يقبل الشك بأن هناك مجموعة من المندسين في المظاهرات التي تجتاح العراق منذ اليوم الأول من تشرين الأول 2019 ومن ثم يوم 25 منه حتى الآن الذين يسعون إلى إشاعة الفوضى مرة، وقتل المتظاهرين مرة أخرى، وقتل بعض قوى الأمن مرة ثالثة. وهم يعرفون بأن هؤلاء المندسين ليسوا سوى أتباع أربعة أصناف من الجماعات الإرهابية العاملة في العراق منذ سنوات وتنشطوا الآن باتجاه القتل والخطف والتغييب والتعذيب والتشويش، إنهم:
1)   مجموعة من إرهابيي داعش من الخلايا النائمة التي تنهض اليوم وتخرج من أوكارها للإساءة للمظاهرات السلمية.
2)   مجموعة من أتباع الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة التي تمارس هذه الأفعال الدنيئة مستجيبة لقرارات صادرة عن أحزابها الإسلامية السياسية ومن القيادات الإيرانية التي تقود هذه الميليشيات الإرهابية في البلاد.
3)   مجموعة من العاملين في الحشد الشعبي والذين يرتبطون بقادة هذا الحشد العراقيين المعروفة أسماؤهم لأبناء وبنات وطننا المستلب من أمثال فالح فياض، وهادي العامري وقيس الخزعلي وأبو مهدي المهندي وغيرهم.. الذين يقادون من عناصر إيرانية يقف على رأسها قاسم سليماني. 
4)   مجموعة من العاملين في أجهزة الأمن العراقية والشرطة والجيش ممن يدينون بالولاء للأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الحاكمة والتي دخلت في هذه الأجهزة في فترة إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وغيرهم من قادة هذه الأحزاب الذي يحكمون العراق منذ العام 2004/2005 حتى الآن والذين يحقدون على العراق الديمقراطي المستقل ويسعون إلى الإجهاز على الانتفاضة ووأدها وقتل المزيد من قوى الانتفاضة.
ومن هنا نقول، كما يقول كل المنتفضين والمنتفضات في البلاد، بأن أغلب المندسين هم من أتباع النظام السياسي الطائفي، وإن المجموعة الإرهابية الداعشية تمارس بعض أفعالها من خلال التفجيرات، في حين يقتل أغلب الناس حالياً بالرصاص الحي وقنابل الغاز القاتل لرجال الأمن والشرطة، أما الاختطاف فتقوم به الميليشيات الطائفية المسلحة بالتنسيق مع بعض أجهزة الأمن الداخلي المختصة بهذه المهمة، مهمة الاختطاف، ولها بيوتها التي تجري فيها تحقيقاتها وممارسة التعذيب أو حتى قتله أو رميه على قارعة الطريق، أو كما فعل القتلة الأوباش بصب التيزاب (حمض النيتريك وصيغته الكيميائية HNO3) في فم الإعلامي المناضل والشهيد البطل كاظم الركابي ليسكتوا صوته الذي أرعبهم ولم يجدوا طريقاً آخر لإسكاته غير استعمال التيزاب الحارق والقاتل، تماماً كما كان يفعل صدام حسين بمجموعة من أشد المناضلين صلابة وصموداً بوجه الجلاوزة الأوباش. 
إن القاتل منكم يا عادل عبد المهدي، القاتل من الطغمة الحاكمة، من القادمين من وراء الحدود الشرقية أيضاً، أنتم وحكومتكم وأحزابكم وميليشياتكم هم من يسيطر على السلطات الثلاث والأجهزة القمعية الرسمية وغير الرسمية، أنتم، وليس غيركم، من يشرف على عمليات مطاردة المنتفضين واعتقالهم وتعذيبهم أو حتى قتلهم في بيوتات سرية، أنتم الذين تشرفون على تنظيم الفوضى وإرسال المندسين إلى ساحات وشوارع التظاهرات ليمارسوا أفعالهم الإجرامية ضد المنتفضين وضد وحدات قوات الأمن والشرطة. أنتم ومن هم من أمثالكم من قام بالتفجير الكبير في ساحة التحرير يوم أمس المصادف 16/11/2019 وأدى إلى استشهاد وجرح وتعويق الكثير جداً من أبطال ساحة التحرير.
إن قوى الانتفاضة من شبيبة البلاد يحققون يوماً بعد آخر نجاحات في إشراك المزيد من بنات وأبناء العراق ومن جميع الأعمار في العملية النضالية الجارية، ينظمون الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات التي تقود تدريجياً إلى تصعيد العملية السلمية وصولاً إلى العصيان المدني الذي يشل الحياة العامة كلها ويقود بالضرورة إلى إسقاط هذا النظام المشوه والهزيل ويزيله من الوجود ليرسي دعائم دولة ديمقراطية وحكم ديمقراطي دستوري سليم ومجلس نيابي نظيف غير مشوه وغير مزيف وغير فاسد.
إن المنتفضين سيقيمون ليس فقط إذاعة لهم بل قناة تلفزيونية يذيعون من خلالها أخبار نضالاتهم اليومية ويفضحون على نطاق العالم كله سياسات ونهج الحكام الفاسدين والطائفيين في البلاد. إن العراقية هي قناة رسمية تأخذ أموالها من خزينة الدولة ويفترض في المنتفضين أخذها بعملية سلمية ديمقراطية يُستبدل فيها المذيعون الإمعة والفاسدون بمذيعين من المنتفضين الذي يحملون للشعب رايات النضال الوطني والديمقراطي والكلمة الحرة والصادقة لتغيير الأوضاع الفاسدة السائدة في البلاد. إن على المسؤولين في الإعلام العراقي وفي قنوات التلفزة، على المذيعات والمذيعين الحاليين، تغيير مواقفهم وتحويلها لصالح الشعب والكف عن الدعاية للحكم القائم أو تسويق وتسويغ سياساتهم الإجرامية والدعوة للمساومة مع الحكومة على حساب أهداف الانتفاضة النبيلة. لقد خدمتم النظام الجائر سنوات طويلة وتكرشتم وامتلأت جيوب أغلبكم بالسحت الحار، فعودا إلى ضمائركم وقفوا إلى جانب الشعب في انتفاضته المقدامة.
إن المنتفضين يناضلون اليوم من أجل إيقاف الاعتقالات الجارية وإطلاق سراح جميع المعتقلين والمختطفين، وهم يدركون الغاية الشريرة من هذه الاعتقالات لكسر شوكة المنتفضين وهم في ذلك خاسرون، فالانتفاضة لن تتوقف ما لم تحقق أهدافها النبيلة بكنسكم جميعاً وتسليم السلطة لحكومة كفاءات قادرة على تسيير البلاد صوب التغيير الجذري الشامل الذي يطالب به الشعب.
لن يكون في مقدور المرجعية الشيعية بعد الآن الاستمرار في المساومة معكم ومنحكم فرصة جديدة للبقاء في السلطة لمواصلتكم قتل وجرح وتعويق المزيد من المتظاهرين، فكل يوم إضافي تمارسون فيه سلطتكم الجائرة والجبانة، سيسقط على أيديكم وأجهزتكم القمعية والدولة العميقة المزيد من المنتفضات والمنتفضين الشجعان.     
   

53
كاظم حبيب
الدولة العراقية الهشة والضائعة والمستعبدة والوطن المسروق
نحن نعيش في عراق الحضارات القديمة، ولكننا نعيش في عراق رث حيث تسيطر عليه وتستهتر به عصابات وقوى حزبية طائفية فاسدة ومُستعبدة روحياً وذهنياً. هذا العراق الهش والمائع تتدخل في شؤونه كل الدول المجاورة دون استثناء وكل الدول الكبرى دون استثناء، ولكن الدولة الوحيدة التي تهيمن فعلياً على قرارات الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث مباشرة وتستعبد الحكام بخيارهم الفعلي هي الدولة الإيرانية ومرشدها الإيراني علي خامنئي وممثله في العراق قائد فيلق القدس والحشد الشعبي "العراقي!" والميليشيات الطائفية المسلحة الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
أكد وزير الدفاع العراقي إن قنابل الغاز القاتلة ليست من مستوردات وزارة الدفاع، وهي ليست من تلك التي تستخدم في الدول العربية، وكل الدلائل تشير إلى إنها مصدرة من إيران لصالح الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، وهي تستخدم منها في قتل المتظاهرين السلميين في البلاد. إنها بيد هذه الجماعات ومن خلالهم وصلت، كما يبدو، لعدد من قوى الأمن الداخلي المحسوبين على تلك القوى التابعة لإيران، واستخدمت من قبل كل هؤلاء في قتل المتظاهرين. أدرك تماماً بأن كل الدول المجاورة يمكنها أن تصدر مثل هذه السلاح الفردي الفتاك إلى العراق، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن إيران هي صاحب الاستفادة الفعلي من استخدام هذا السلاح حيث هتف قادة وأئمة إيران بالحرف الواحد "اقتلوا المتظاهرين في العراق إنهم عملاء أمريكا"!! هذا هو الواقع المُرّ.
إن كل يوم إضافي يبقى الفاسدون في السلطة السياسية والمساومات الحقيرة للرئاسات الأربعة يعني المزيد من الشهداء والجرحى والمعوقين، ويعني تعاظم مسؤولية هذه الرئاسات عن استشهاد المزيد من شبيبة العراق! 
إن الموقف المطلوب من بنات وأبناء شعبنا المنتفض في مواجهة التدخل الإيراني الشرس والعدواني يتلخص في التالي:
** أرفضوا المساومات على الدستور وقانون الانتخابات وغيرها التي لن تنفع ما دامت الحكومة القاتلة هي صاحبة الأمر والنهي عبر ولي أمرها خامنئي، وما دام النظام الطائفي الفاسد قائماً في البلاد. الهدف الأول إسقاط الحكومة وإسقاط العملية السياسية القائمة وتشكيل حكومة وطنية مستقلة، حكومة كفاءات عراقية نظيفة ونزيهة، تعمل على تهيئة التغيير لكل شيء رث مرفوض من الشعب.
**العمل على طرد عاجل للجنرال قاسم سليماني من العراق ومعه السفير الإيراني الذي يم يترك فرصة إلا وتدخل في الشأن العراقي. وأصبحت سفارة إيران وكراً للتآمر على العراق.
** أعملوا من أجل سحب السلاح من أيدي الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة التي تمارس قتل المتظاهرين واختطافهم وتغييبهم أو نقلهم إلى إيران لقتلهم هناك. وأمامكم اختطاف ضابط الشرطة ياسر عبد الجبار على حد اعتراف رئيس الوزراء غير الشرعي.
** افضحوا عملاء إيران في العراق، اكشفوا أسماء الإيرانيين الذين يمارسون الإشراف على عمل الجماعات العراقية التابعة لإيران لطردهم من العراق، لأنهم عملاء يمارسون التخريب وإشاعة الفوضى وقتل المتظاهرين وجمع المعلومات عن المناضلين الشجعان أبناء وبنات الانتفاضة المقدامة للانتقام منهم بشتى السبل.
** العمل الدؤوب لتقديم كبار الطائفيين والفاسدين من حكام العراق ومن شارك في تسليم الموصل ونينوى للدواعش، ومن نهب أموال البلاد عبر المصارف ومن سرق النفط الخام ووقع عقوداً مجحفة بحق العراق وألحق أفدح الأضرار بالاقتصاد العراقي والمجتمع.
** قاطعوا البضائع الإيرانية بحيث يتوقف التعامل التجاري والمصرفي معها إلى حين إجراء تغيير كامل في النظام العراقي القائم أولاً، وتخلي إيران عن التدخل في الشؤون العراقية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والدينية ثانياً.
النصر سيكون حليف الشعب والسقوط المخزي للحكام الفاسدين ومن يتصدى لمطالب الشعب ويمارس القتل العمد ضد المنتفضين.



54
كاظم حبيب
هل المرجعيات الشيعية مع الشعب أم مع الحكومة الدموية؟
لن أعود إلى الوراء لأتابع مواقف المرجعيات الشيعية في النجف، لاسيما مرجعية أية الله العظمى السيد علي السيستاني، وهي معروفة في تأييدها للأحزاب الإسلامية السياسية، التي أعيد تنظيمها في إيران، كما هو الحال مع حزب الدعوة الإسلامية، أو تلك التي أسست أصلاً في إيران، كما هو حال حزب المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، ومن ثم ما نتج عنه من حزب جديد هو "الحكمة"، الذي يقوده عمار الحكيم، والمؤيد لإيران وسياساتها في العراق، ولن أعود للتذكير باستعجال المرجعية وإصرارها على إصدار الدستور العراق الأعرج وإجراء انتخابات سريعة دون المرور بفترة انتقال، وتسليم الولايات المتحدة الأمريكية السلطة للأحزاب الإسلامية السياسية بمساومة وقحة مع إيران. كل هذا وغيره لن أعود إليه بتفاصيل واسعة، بل أركز الآن على ما يجري في هذه الأيام وعبر المرجعية ووكلاءها في النجف وكربلاء، وهما متهمان بالفساد أيضاً، على وفق ما نشر من تقارير موثقة بهذا الصدد لاسيما بشأن ما يحصل في المؤسسات الحسينية والعباسية في كربلاء وفي المؤسسات المماثلة لهما في النجف.
لقد أكدت المرجعية وجود فساد ووجود تمييز في العراق بين المواطنين. وطلبت من الحكومة تغيير الوضع بعد أن تردت الأوضاع جداً. ولم تصغ الأحزاب والقوى الحاكمة لخطاب الوكلاء. واشتد الوضع سوءاً من حيث المحاصصة الطائفية والفساد ونهب خيرات واموال الشعب لاسيما بعد اجتياح الموصل وعموم نينوى، إضافة إلى تفاقم التخلف في الخدمات والفقر والحرمان والبطالة. وحين لم يعد في مقدور الشبيبة العراقية تحمل المستنقع الذي دفع إليه العراق انتفضوا على الدولة الهشة والتابعة وعلى السلطات الثلاث التي زيفت إرادة المجتمع وسلبت حقوقه. فاستقبلت حكومة عادل عبد المهدي الطائفية المحاصصية الفاسدة مظاهرات الشبيبة بتشويه سمعتها والإساءة لها ثم استخدام الحديد والنار، فسقط في الجولة الأولى 149 شهيداً وستة ألاف جريح ومعوق. بهذه الجريمة البشعة فقدت الحكومة شرعيتها لتجاوزها الشرس والعدواني على الدستور العراقي وحقوق المواطن والمجتمع.
شجبت المرجعية ذلك بصوت الوكيل عبد لمهدي الكربلائي، وطالبت بالتحقيق. ولم يحصل عبر لجنة مستقلة، بل عبر لجنة حكومية زورت الحقائق كلها وسكت عن المجرمين الكبار الذين أصدروا الأوامر باستخدام العنف المفرط والرصاص الحي والمطاطي والغاز القاتل وخراطيم المياه. توقفت المظاهرات حتى انتهاء أربعينية الحسين احتراماً. ثم بدأت من جديد في جولة ثانية وبزخم أعظم وأوسع، وكان الموقف الحكومي أبشع من الفترة التي بدأت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، حيث سقط في الجولة الثانية المئات من الشهداء بالرصاص الحي وبالغازل القاتل الموجه مباشرة إلى رؤوس وصدور المتظاهرين. واحتجت المرجعية ولكن لم ينفع! ثم جاء حل أعرج من المرجعية باتفاقها مع ممثلة الأمم المتحدة في العراقي (يونامي) في منح من فقد شرعيته في الحكم ومن هو طائفي وفاسد بامتياز فرصة ثانية لإصلاح الوضع القائم. فهل يتوقع العراقيون والعراقيات إصلاحاُ من حكم وشخوص فاسدين ومفسدين؟
أثار هذا الموقف المتظاهرين كافة، ولكنه أثلج صدور النخب الفاسدة المشاركة في الحكم، الحكومة والأحزاب الإسلامية السياسية والمستفيدة من وجود عادل عبد المهدي على رأس الحكومة. إن محاولة المرجعية منح الحكومة القائمة الفاسدة فرصة إضافية ووقتاً زائداً لترتيب أمورها يثير كل الناس الشرفاء في العراق. وبهذا الموقف غير المقبول ابتعدت المرجعية الشيعية عن الشعب، عن المنتفضين، واصطفت مع الحكومة العراقية الدموية، بإعطائها فرصة جديدة في حكم البلاد لتحسين الأوضاع، وهي غير مستعدة لتحسين أوضاعها وأوضاع البلاد إطلاقاً، لأنها لا تريد ذلك وغير قادرة على ذلك، ولأن إيران لا تسمح لها بذلك، وهي لا تسمح حتى لأي وزير بتقديم استقالته. ومن يجرأ على ذلك سيختطف من داره أو من الشارع ويختفي كما اختفى مقتدى الصدر في طهران أو قم. أو كما اختطف مدير شرطة ياسر عبد الجبار. يبدو لي إن المرجعية قد حسمت أمرها إلى جانب الحكومة الفاسدة رغم قولها" إن لم تستجيبوا سيكون لنا موقف آخر!!! 
بعد الاتفاق بين المرجعية ويونامي سقط المزيد من الشهداء والجرحى والمعوقين، وجرى اختطاف الكثير من النساء والرجال المسعفين، كما جرت محاولات اغتيال في الشارع. بعض الأجهزة الأمنية المختصة والميليشيات الطائفية المسلحة وقوى الحشد الشعبي الإيراني كلها تشكيلات تقوم باختطاف واعتقال المزيد من المنتفضين من الشوارع وفي الليل، ومع ذلك مستمرون في منح الحكومة الفرصة تلو الأخرى. خشية على مواقعكم والفوائد التي تجنى من وجود هذا النظام الفاسد والطائفي. إنكم تتراجعون عن المواقف الاجتماعية الإيجابية التي وقفتها المرجعيات في الأربعينيات من القرن الماضي إلى جانب الشعب وضد سياسات الحكومة التي لم تقتل حتى عشر هذا العدد من الشهداء الذين سقطوا في ستة أسابيع من عام 2019. تذكروا كم سقط من شهداء في وثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1952 وانتفاضة 1956 لقد كان عدد الشهداء الأبرار قليلاً ولكن سقطت حكومات، واليوم وصل عدد الشهداء حسب تقديرات مسؤولين بأكثر من 600 شهيد وأكثر من 16000 جريح ومعوق وتمنحون الحكومة فرصة إضافية!!!  كم كنت أتمنى أن لا تتدخلوا في السياسة أصلا لتجنبوا أنفسكم غضب المزيد من أتباع المذهب الشيعي، ولكنكم تخليتم عن الموقف الذي ينبغي أن تتخذوه في الابتعاد عن شؤون الدولة والسياسة وتنشغلون بشؤون الدين والحياة الاجتماعية، ولكنكم تجاوزتم ذلك وتدخلتم في السياسة من أبوابها وشبابيكها، وعليكم الآن حصاد الموقف المبدئي للمنتفضين الذين برز لديهم بوضوح موقفكم المؤيد للحكومة وبالضد من موقف المنتفضين الذين لاقوا الأمرين على أيدي الحكومة الدموية التي خانت قسمها ووعودها بالتخلي عن المحاصصة الطائفية ومحاربة الفساد وتقديمهم إلى المحاكمة، ثم قامت بقتل المحتجين والمتظاهرين ضد السياسات المناهضة للشعب العراقي والمخلة باستقلال وسيادة البلاد.
النصيحة التي يمكن تقديمها للمرجعية الشيعية للتكفير عن مواقفها السابقة والاعتذار للشعب، هي أن تتخذ الآن الموقف المطلوب، أن تقف إلى جانب الشعب ولو لمرة واحدة وتتفق مع مطلب باستقالة الحكومة أو إقالتها وتغيير الواقع المزري القائم والنظام السياسي الدموي الراهن لقطع الطريق على القتلة لقتل المزيد من بنات وأبناء الشعب، من شبيبة العراق الوطنية المقدامة!                   

55
كاظم حبيب
ساحة التحرير: شعارات المنتفضين مهمات وطنية عراقية مباشرة

(1)
الهدف المباشر: إسقاط حكومة عادل عبد المهدي وتشكيل حكومة عراقية وطنية مستقلة تمارس عملية تغيير النظام السياسي الطائفي الفاسد والتابع وتوفر أجواء الحياة الديمقراطية لتغيير الدستور وقانون الانتخابات والمفوضيات والأحزاب والحريات والإعلام ...
هذا ما تتجنبه القوى الحاكمة الفاسدة والذليلة والتابعة لإيران، هذا ما يتجنبه الفاسقون والفاسدون خشية فقدانهم للسلطة والمال والنفوذ الاجتماعي في البلاد!
هذا ما تتجنبه إيران ومرشدها وممثله في العراق الجنرال قاسم سليماني خشية فقدان شبه مستعمرتها الجديدة!
هذا ما تتجنبه الولايات المتحدة الأمريكية خشية سيادة الديمقراطية في العراق ووحدة الشعب وانتهاء السيطرة على نفط العراق والفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط!
هذا ما تتجنبه المرجعية الشيعية حتى الآن خشية غياب الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها عن الساحة السياسية العراقية!
المهمة المباشرة إفشال هذه الجهود التي تتجلى أحياناً في خطاب ممثلة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) السيدة جينين هينيس بلاسخارت (تابعوا نهاية خطابها الأخير في مجلس النواب).   
(2)
احذروا المساومة الجديدة المتوقعة بين الولايات المتحدة وإيران
على حساب إرادة ومصالح الشعب العراقي
للمرة الثالثة تظهر بوادر مساومة قذرة بين الولايات المتحدة وإيران من خلال الموافقة المشتركة على استمرار عادل عبد المهدي على رأس الحكومة الحالية مع إجراء تغييرات شكلية في عدد من الوزراء وتعديلات شكلية على قانون الانتخابات وإبقاء الأساس المادي للنظام الطائفي المحاصصي الفاسد على حاله، وإبقاء الوجوه الطائفية الكالحة والفاسدة التي حكمت العراق طوال نيف و16 عاماً والتي يرفضها المنتفضون رفضاً باتا. إنها المساومة الدنيئة الثالثة، كانت أولاها تسليم السلطة لقوى الإسلام السياسي الطائفية في العام 2005، وكانت الثانية الموافقة على استمرار المستبد بإمره والطائفي والفاسد والمفسد بامتياز نوري المالكي على رأس الحكومة العراقية لدورة ثانية، ثم تأتي المساومة المرتقبة الثالثة من وراء ظهر الشعب والمنتفضين وعلى حساب إرادة ومصالح وطموحات الإنسان العراقي في الخلاص من النظام السياسي الطائفي الفاسد والتابع والمتخلف والذي وضع العراق في مستنقع النتانة والرثاثة والتخلف. الانتفاضة تهدف إلى إسقاط الحكومة والنظام السياسي الطائفي الفاسد والتابع، فلا مساومة ولا أنصاف حلول يمكنها ا، تمر على الشعب العراقي بعد اليوم.
(3)
اطردوا قاسم سليماني من العراق، إنه الحاكم الفعلي في العراق!
أيها المنتفضون الأحرار، أيها الثوار أطردوا قاسم سليماني من العراق فهو الحاكم الفعلي في العراق وهو الذي أمر عادل عبد المهدي باستخدام العنف وقتل المتظاهرين، تماماً كما أمر ذلك علي خامنئي وقادة إيران الآخرين. تشير المعلومات المتوفرة إلى أن الأحزاب الإسلامية السياسية والقوى المشاركة في الحكم وافقت على ما رسمه وقرره العميد قاسم سليماني، ممثل علي خامنئي في العراق، بتغيير خمسة وزراء من حكومته الدموية وإبقاء عادل عبد المهدي على رأس الحكم. إن سليماني هو الحاكم الفعلي الذي يحكم العراق، كما كان بول بريمر بعد الاحتلال مباشرة. إن النداء العادل كان وما يزال: بغداد حرّة حرّة، إيران برّة برّة.
(4)
مصلحة الشعب الكردي جزء من مصالح الشعب العراقي بكل قومياته
كان ولا يزال من مصلحة الشعب الكردي إن يشارك في التظاهرات الشبابية والشعبية المنطلقة منذ الأول من تشرن الأول/أكتوبر 2019 وحتى الآن ضد الحكم الطائفي المحاصصي الفاسد في العراق ومن أجل التغيير الجذري الكامل للنظام السياسي الطائفي الفاسد والتابع، فالاندماج مع الكل لصالح الكل هو الطريق الوحيد لتحقيق مصالح الشعب العراقي عموماً والشعب الكردي أيضاً. وعلى الشعب الكردي ألا يخشى على مكاسبه العادلة التي تحقق لها. فالمتظاهرون ليسوا ضد الفيدرالية وحقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة، إنهم يناضلون من أجل وطن مسروق من الحكام الفاسدين وحقوق مسلوبة من حكام أذلوا الشعب وأساءوا لاستقلال البلاد وسيادته وموارد نهبت ولم توظف لصالح التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي. إنهم شقوا المجتمع إلى طوائف متصارعة ليبقوا في السلطة ويسرقوا المال العام.
أتمنى على شعب كردستان العراق بكل القوميات التي تعيش فيه أن تنهض مع بقية شبيبة العراق لتعزز التعاون والتضامن الوطني والديمقراطي. الانعزال في غير صالح أتباع جميع القوميات في الدولة العراقية.   
(5)
هل سحب المسؤولون في بغداد رواتبهم لستة أشهر قادمة من البنك المركزي عبر مصرف الرشيد؟
تؤكد الأخبار الواردة من بغداد إن كبار المسؤولين في السلطتين التنفيذية والتشريعية، قبل (تخفيض!) رواتبهم، قد سحبوا من البنك المركزي رواتبهم بالكامل ولمدة ستة أشهر مسبقاً خشية حصول ما لا تحمد عقباه لهم في طردهم من حكم العراق، وهو المصير المتوقع لمثل هؤلاء في أغلبهم حرامية، فقد سرقوا السلطة والمال وحكموا البلد بالحديد والنار مؤيدين من شيوخ الدين في إيران. من الضروري التيقن من هذا الخبر والسعي لمنع سحب تلك الأموال إن صح الخبر!


   

56
كاظم حبيب
لم ولن يقبل المنتفضون الحلول التساومية مع حكومة بغداد الدموية؟
كثيراً ما أشير، ومنذ سنوات، بأن العراق لم يشهد منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة عملية سياسية فعلية نظيفة وجادة يشترك فيها الشعب بحيوية ومسؤولية وإدراك حقيقي لما يمكن أن تؤول إليه. وكثيراً ما أكُد بأن ما يجري في العراق ليس بعملية سياسية، بل عمليات تقاسم مخزٍ للسلطات الثلاث ×التنفيذية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء) والتشريعية (مجلس النواب) والقضاء (مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية والادعاء العام) على وفق محاصصات طائفية وأثنية في إطار دولة هشة ونظام سياسي طائفي وفاسد ومتخلف يقاد من أحزاب إسلامية شيعية متخلفة ورجعية وفاسدة، يتعارض وجودها اصلاً مع مضمون الدستور العراقي، وبمساومة غير مقبولة وغير معقولة مع الأحزاب الإسلامية السنية ومع الأحزاب الكردية. وعلى امتداد الفترة الواقعة بين 2005 حتى الوقت الحاضر بشكل خاص، هبّ الشعب أكثر من مرة رافضاً الاحتلال والعملية السياسية الجائرة ومناضلاً من أجل التغيير الجذري للنظام السياسي الطائفي. وقد تجلى ذلك بوضوح تام في الهبَّة الشعبية المدنية والديمقراطية في عام 2011 أثناء تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء لدورة ثانية وعمد إلى استخدام كل الوسائل الدنيئة والمتعارضة مع الدستور العراقي لإخمادها بما في ذلك اتهامها بالبعثية والإرهاب واعتقال النشطاء وتعذيبهم وقتل الكثير من الديمقراطيين والمنتفضين ضد الحكم الفاسد. ولم يكن ميزان القوى مناسباً لتغيير الأوضاع حينذاك. فأمكن تجاوز الأزمة السياسية بمساومات ضد مصالح الشعب ذاته حتى أدخَلَ نوري المالكي العراق في النفق المظلم، في نفق ومستنقع الدواعش وإجرامهم والإبادة الجماعية وسوق النخاسة الإسلامي!!! ورغم كل ما حصل عملت بعض القوى الديمقراطية من منطلق وجود عملية سياسية يراد تصحيحها، ولم يكن هذا التصحيح ممكناً. واقتنع الكثير من الشبيبة العراقية التي كان وعيها ينمو ويتعمق ويكتشف دوره الفاعل في إضرابات ونشاطات مدنية واحتجاجات مستمرة. وبعد أن يئس من أي دور فاعل وكبير للقوى السياسية الديمقراطية، وبعد أن أدرك بأن النظام القائم لم يعد غير عدو حاقد على الشعب وإرادته ومصالحه وخاضع لإرادة أجنبية مباشرة إيرانية لا يريد الفكاك منها بأي حال، تفجر فيه الغضب العادل والروح الثورية الخلاقة مقترنةً بوعي عميق لما يريده لهذا الشعب المستباح والوطن الجريح. انتفض بعزم وإصرار فجوبه بالحديد والنار، بقتل المتظاهرين حتى بلغ عددهم حسب الإحصاء الرسمي 149 شهيداً وستة ألاف جريح ومعوق ومئات من المعتقلين والمختطفين والمعذبين. وإكراماً للإمام الحسين بن علي بن ابي طالب وصحبه الكرام أوقف المنتفضون تظاهراتهم لحين انتهاء الأربعينية، ليبدأ في 25/10/2019. وبدأ بعزم أشد ووعي أعمق وإصرار لا يلين. فجوبه من جديد بالحديد والنار بالقتل الجماعي في كل المدن المنتفضة وزاد عدد القتل إلى 600 قتيل و16 ألف جريح والاف المعتقلين والمختطفين والمغدورين. فهل بعد كل هذا يراد منه أن يساوم مع من أصدر الأوامر باستخدام العنف إلى حد استخدام الرصاص الحي والغاز القاتل والرصاص المطاطي بشكل مباشر إلى رؤوس وصدور المتظاهرين؟ من العبث أن تحاول القوى الحاكمة أن تخدع الشعب بتنازلات من باب تقديم قانون للانتخابات أسوأ من سابقه أو تعديل الحكومة وعلى رأسها من أصدر أوامر القتل بحق المتظاهرين. هل يصدق هذا بعد هذه المعاناة الهائلة للشبيبة المقدامة، للأجيال التي لا تعرف الخنوع والركوع والقبول بأنصاف الحلول. إنهم من جيل جديد لن تخدعه الاعيب الحكم السياسي الطائفي الفاسد والتابع، لن ينفع معه قتل المتظاهرين، فهم يعرفون جيداً بأنهم يجابهون وحوشاً قتلة لا يستحون من إلههم الذي يدعون أنهم يعبدوه، فهم عبيد المال والسحت الحرام وسرقة لقمة العيش من أفواه اليتامى والأرامل والفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل، إنهم من نهب وفرط بما يزيد عن ألف مليار دولار أمريكي، كان في مقدور هذا المبلغ تحويل العراق إلى بلد حضاري وصناعي وزراعي متقدم. ولكنهم حولوا العراق إلى بلد رث مليء بالنفايات وبهم كقوى رثة وفاسدة.
في معمعان الانتفاضة التشرينية (2019) المقدامة تجليا موقفان متعارضان حين تزاحم المنتفضون فتساقطت قلائد الحرائر والعقود والساعات والنقود والوثائق، وحين هدأ الموقف جُمعت كل تلك المفقودات لتعاد الى أصحابها دون ان تسرق قطعة نقد واحدة أو حلية ذهبية واحدة، فعبر المنتفضون عن نبلهم والقضية العادلة التي تستحثهم للتظاهر وجوهرهم الرصين، رغم أوضاع أغلبهم الاقتصادية الصعبة. كان هذا هو الموقف الأول الذي عكس روعة الإنسان العراقي عند المحن والتضامن. وحين ارتفعت أصوات المنتفضين لتصل الى عنان السماء، وتبين إن في سمع الحكام الطائفيين الفاسدين وقر كامل، برز الموقف الثاني حيث انطلق وحوش الغابة بأمر من الرئيس المتوحش والمفترس للحقوق، فوجهوا القناصة نيران بنادقهم ورصاصهم الحي والمطاطي والصواعق والغاز القاتل وخراطيم المياه صوب تلك الجموع الحاشدة والمتزاحمة، فسقط شهداء أبرار وجرح من جرح، ونجا منهم من عاود المسيرة والزحف العظيم الى أمام، فعبَّر المهاجمون الشرسون، الذين جرى اختيارهم بعناية لمماسة القتل المباشر، عن نذالة في الخُلق والسيرة والطباع ووحشية بلا حدود، والتوقع بقتامة في مستقبلهم ومستقبل من اصدر لهذه الوحوش المفترسة الأوامر بالقتل والتشريد والتعذيب والاختطاف والتغييب. نحن اليوم أمام النبل الشعبي مقابل النذالة الحكومية، أمام شجاعة المنتفضين مقابل جبن المسؤولين، أمام نبل البذل في النفس والنفيس لصالح الشعب والوطن مقابل بؤس السارق الرخيص والجالس على خازوق الحكم والجور!
فالمتظاهرون يريدون إسقاط هذه العملية الفاسدة التي تسمى كذباً بـ "العملية السياسية!"، إسقاط النظام السياسي الطائفي الفاسد والخاضع للأجنبي، إسقاط كل رموز الفساد والخيانة الوطنية ومن سلم الوطن للدواعش مرة، ويعمل على استمرار بقائها تابعة كشبه مستعمرة لإيران مرة أخرى.
الشبيبة العراقي المنتفضة ترفض الخضوع لأي أجنبي يسعى للتدخل في شؤون العراق، يرفض المحتل الأمريكي الأسبق والمحتل الإيراني الجديد. ترفض الأحزاب الإسلامية السياسية المتعارض وجودها مع نصوص الدستور الحالي. ترفض المساومة فـ"مسحو بوزكم" يامن أنهكتم الشعب 16 عاماً من أي مساومة بأنصاف الحلول.
ساحة التحرير طرحت خطة طريق لخلاص العراق منكم ومن نظامكم الطائفي البائس والفاسد. وقد اسمعكم المنتفضون إياها عبر صرخاتهم المدوية، عبر شعاراتهم المرفوعة في كل ساحات وشوارع العراق في الوسط والجنوب وبغداد، عبر الشهداء الذين سقطوا في سوح النضال النبيل، عبر جراحهم وجرحاهم ومعوقيهم. إن ممثلة الأمم المتحدة (يونامي) في العراق السيدة جنين هينس-بلاسخارت ينبغي لها أن تعرف ما يريد الشعب، لا أن تسعى إلى أنصاف الحلول وإنقاذ الفاسدين والمفسدين من الحكام وأحزابهم من العقاب، فالشعب "نزل إلى الساحات والشوارع ليأخذ حقه كاملاً غير منقوصٍ"، وعلى الأمم المتحدة أن تعرف ذلك ولا تحرفه. فدم الشهداء يصرخ في وجوه الجميع لا مجال للمساومة مع الحكام الطائفيين الفاسدين القتلة واللصوص والجبناء!!!                               

57
كاظم حبيب
هل من شرعية للنظام السياسي الطائفي الفاسد والدموي في العراق؟
لقد فقد النظام السياسي الطائفي الفاسد القائم في العراق منذ العام 2004/2005 شرعيته الدستورية منذ أول قطرة دم زكية سالت في شوارع العراق على أيدي أجهزة الأمن والشرطة والميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي بناء على أوامر صدرت عن رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية في الأيام الأولى للانتفاضة الشبابية، أيام 1 و2 و3 تشرين الأول/أكتوبر 2019 وما بعدها. لقد كانت المظاهرات سلمية عبَّر فيها خريجوا مختلف المراحل الدراسية عن مطلب الحصول على فرصة عمل ليضمنوا عيشة كريمة لهم، فاستقبلهم رئيس وزراء العراق بالحديد والنار، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، كانت الشرارة التي فجرت كل الضيم والقهر والاضطهاد الفكري والسياسي والاجتماعي والرثاثة البيئية المكتومة منذ أن هيمن المحتلون الأمريكيون ومن ثم المستعمرون الإيرانيون على العراق، إذ وجد شبيبة العراق إن هذا النظام الذي حكم 16 عاماً في عملية سياسية قذرة وفاشلة ومدمرة لا يمكن أن تستمر فالظلم إن دام دمَّر!
فالدستور العراقي، على علاته، يمنح الفرد والشعب في العديد من مواده الحق في التجمع والاحتجاج والاعتصام والإضراب والتظاهر والعصيان المدني لتأمين حقوقه المغتصبة، ويرفض بالمطلق المحاصصة الطائفية والفساد والإفساد والاعتقال الكيفي والتعذيب والقتل العمد من جانب الدولة أو أي شخص أو جماعة. وكل هذه الموبقات والجرائم ارتكبت من جانب الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، بنظامها السياسي ومجلس نوابها وسكوت مطبق لقضائها المسيَّس بحق الشبيبة المنتفضة ضد النظام السياسي العراقي الذي اغتصبت حقوقه وحريات الشعب وقتل المئات من المتظاهرين وجرح وتعويق الآلاف منهم واعتقال الآلاف منهم ايضاً.         
إن الشعب العراقي يعيش إرهاب الدولة بأجلى معانيه وبشكل مباشر. وقد سكت المجتمع الدولي طويلاً على إجرام الحكومة العراقية والأحزاب التي تشارك وتسند وتطالب باستمرار عمل هذه الحكومة القاتلة لأبناء وبنات الشعب والهادرة لكرامة الإنسان. وفي الوقت الذي بدأ المجتمع الدولي بالتحرك لمعارضة ما يجري في العراق من قتل واعتقال واختطاف وتعذيب، انبرت المرجعية الشيعية، والتي كنا وما زلنا نطالب بابتعادها عن السياسية سلباً أو إيجاباً لحمايتها من الإساءة، وهي التي ساندت القوى الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة طويلا، حتى بعد اجتياح الموصل والكوارث التي لحقت بالعراق، وسكتت لفترة طويلة عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب من جانب قوى النظام، نطقت أخيراً منتقدة الحكومة ومطالبة بالكف عن استخدام العنف المفرط، ولكنها عادت لتمنح الحكومة فرصة أخرى لإصلاح أمرها والأمور، وهي التي لم تصلح نفسها ولا أمور الشعب طوال 16 عاماً بالتمام والكمال، بل زادت فيه سوءاً. إن المنتفضين الذين يتعرضون يومياً للاعتقال والاختطاف والتعذيب والقتل يتساءلون بحق ومشروعية: هل موقف المرجعية الشيعية معقولاً ومقبولاً إنسانياً بعد كل الذي حصل في العرق من استشهاد ما يزيد عن 600 مواطن وجرح ما يزيد عن 15 ألف مواطن ومواطنة واعتقال الآلاف منهم، في أن تمنحهم فرصة إضافية ليزيدوا من قتل وتعذيب واعتقال الناس؟ لقد قتل النظام مزيداً من الشبيبة حتى بعد عقد اللقاء بين السيد علي السيستاني وممثلة الأمم المتحدة في بغداد، وعرضها موقف المرجع الشيعي في رفض القتل والعنف المفرط ضد المنتفضين!
رغم قناعتي التامة بفصل الدين عن الدولة والسياسة تماماً، فأن التأييد الذي منحه المرجع الديني الشيعي للنظام السياسي الطائفي الفاسد يجب أن يتخلى عنه الآن كلية وأن يعلن ذلك صراحة ومباشرة أولاً، وأن يدين بشكل صريح وواضح سياسة النظام ويطالب باستقالة الحكومة وحل مجلس النواب وإدانة سكوت القضاء العراقي، لأن المرجعية كانت ولا تزال المسؤولة عن دعمها واستمرار وجود هذه الحكومة منذ أن بدأ هذا النظام عمليته السياسية الدنيئة في العراق ثانياً، وأن يدين بشكل مباشر وصريح تدخل إيران على لسان على خامنئي وممثله في العراق قاسم سليماني في الشؤون الداخلية للعراق وأن يُسفَّر هذا الدخيل من البلاد فوراً ثالثاً، وأن يؤكد انتهاء حاجة العراق للجهاد الكفائي وحل الحشد الشعبي، الذي تشكل بسبب فتواه مع بداية اجتياح العراق للموصل، والميليشيات الطائفية المسلحة كافة، رابعاً.
إن الشبيبة العراقية المنتفضة، والشعب الذي ازدادت واتسعت مشاركته في الانتفاضة، تدرك تماماً بأن النظام السياسي القائم والعملية السياسية الفاشلة الجارية، قد فقدتا مشروعيتهما ولا بد من الإطاحة بهما وإجراء تغيير جذري في الوضع العراقي والدولة العراقية. إنه الطريق الوحيد للخلاص من الجرائم التي ترتكب ضد المنتفضين والشعب العراقي من جانب الحكم القائم وأساليبه في كسب الوقت والالتفاف على ما يناضل من أجله الشعب. على المرجعية الشيعية ألّا تمنح هذا النظام الجائر مزيداً من الوقت، وهي مسؤولة عنه، أي فرصة جديدة لأن الموقف سيتحول ضدها، كما هو ضد النظام السياسي القائم، وستكون مسؤولة عن الدماء التي تسفك، وهو ما لا نريده لمرجعية دينية مختصة بشؤون المذهب الديني الشيعي في العراق، والتي يمكن أن يبقى لها دوراً دينياً واجتماعياً وليس سياسياً.           

58
كاظم حبيب
من هو الرئيس الذي يقود الرئاسات الثلاث في العراق؟
رئاسات ثلاث هامشية ومهمشة في دولة عراقية هشة وهامشية وتابعة. هذه الرئاسات الثلاث يقودها رئيس جديد يشير لهم بقراراتها وإجراءاتها وما تفعله مع شعبها الذي لم يعد يريدها. هذا القائد الجديد هو الممثل الشخصي لولي الفقيه الإيراني علي خامنئي في العراق، إنه العميد العسكري وقائد فيلق القدس قاسم سليماني. وهو الذي قرر تسفير المسؤول الفعلي عن كتلة "سائرون" مقتدى الصدر إلى طهران ليصدر من هناك قراراً للولي الفقيه علي خامنئي برفض "سائرون" استقالة الحكومة، كما فعلت كتلة فتح ودولة القانون والحكمة وكل المطبلين للنظام السياسي الطائفي والفاسد والتابع، في حين كان مقتدى الصدر من بين وربما أول من ادعى مع "سائرون" بطلب استقالة عادل عبد المهدي. فماذا جرى للصدر في طهران؟ هو نفس الأمر الذي حصل مع الرئاسيات الثلاث التي خضعت" شاءت أم أبت" لقرارات الخامنئي عبر القائد الفعلي للعمليات العسكرية الجارية ضد المنتفضين في البلاد الجنرال العسكري قاسم سليماني. وهو الموقف الذي صدر عن اجتماع الرئاسات الثلاث الأخير يوم 10/11/2019، الذي قال عنه المتظاهرون في ساحات العراق وشوارعها: تمخض الجبل فولد فأرا! وكان حتى هذا الفأر الوليد مصاباً بالصم والبكم والعمي في آن!! 
وامام هذا الركوع المخزي لولي الفقيه الإيراني لم يكن امام المنتفضين في سائر أنحاء العراق المنتفض ليس رفض القرار السخيف بتقديم مشروع قانون جديد للانتخابات في ظل النظام السياسي الطائفي الفاسد فحسب، بل ورفض وجود هذه الرئاسات الثلاث التي تواصل اذلال الشعب وقتل وجرح وتعويق المزيد من المواطنين الشجعان والمزيد من الاعتقالات وممارسة التعذيب بحقهم ومحاولة سحق إرادتهم الحرة!
لم يعد عادل عبد المهدي، المصدر الفعلي المباشر للأوامر باستخدام العنف والسلاح والرصاص الحي والمطاطي والغاز القاتل وخراطيم المياه والاعتقالات والتغييب والتعذيب، وحده المسؤول عن قتل وجرح الآلاف المؤلفة من المتظاهرين السلميين في سائر أنحاء العراق فحسب، بل يشارك في المسؤولية الفعلية كل الرئاسات الثلاث التي تصر على استمرار عمل الحكومة وكذلك الاحزاب والقوى التي وافقت على عدم استقالة الحكومة.
لن يكف المنتفضون عن مواصلة التظاهر السلمي ضد وجود النظام السياسي الطائفي المحاصصي والفاسد والدموي في البلد حتى اسقاط هذه العملية السياسية الفاسدة والفاشلة وإسقاط النخب السياسية الفاسدة الحاكمة والمتجبرة التي تكذب يومياً مئات المرات ولا تستحي من كذبها. وقد وضع القائد العام للقوات المسلحة واحداً من أكبر الكذابين القدامى والجدد ناطقاً رسمياً له لممارسة الكذب ليزيد على كذب رئيسه بأكاذيب جديدة ضد المتظاهرين الذين ينعتهم بالخارجين على القانون ومدمري منشآت الدولة ومثيري الفتن!!!
ماذا يريد الشعب المنتفض المصمم على مواصلة التظاهر السلمي حتى تحقيق الأهداف؟ إنه يناضل من أجل:
1)   التخلص من النظام السياسي الطائفي الفاسد ومن التبعية الكاملة لإيران. وهذا يعني إجراء تغيير جذري في الواقع المعاش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً في كل مراحله وثقافياً وبيئياً، وما يرتبط بكل ذلك من تغييرات تشريعية ووضع قوانين جديدة. ويتطلب هذا التغيير الإجراءات التالية:
2)   الاستجابة الفورية باستقالة أو إقالة الحكومة الحالية عبر الضغط الشعبي المتعاظم، والمباشرة بتشكيل حكومة وطنية مستقلة مؤقتة بصلاحيات كاملة ومن خبراء مستقلين يتسمون بالنزاهة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والقانون والثقافة تأخذ على عاتقها وضع خطة تنموية قصيرة الأمد لمعالجة الاختلالات الكبيرة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية وغياب العدالة الاجتماعية ومعالجة مشكلة البطالة والفضائيين والبطالة المقنعة وتشغيل المنشآت الصناعة العامة والخاصة المعطلة إلى حين وضع خطط تنموية متوسطة وبعيدة المدى.
3)   إطلاق سراح المعتقلين كافة الذين اعتقلوا بسبب مشاركتهم في الانتفاضة الشعبية والتحري عن السجون السرية لتحرير المعتقلين واعتقال المتسببين في ذلك ومحاكمة من أصدر الأوامر باستخدام العنف ضد المنتفضين وتكريم الضحايا وعائلاتهم.
4)   إلغاء مجلس النواب الحالي، وإعادة النظر بنظم وبنية المفوضيات والهيئات المستقلة.
5)   إعادة النظر بالدستور العراقي لتخليصه من طابعه الطائفي والجوانب غير الديمقراطية فيه، وتكريس فصل الدين عن الدولة والسياسة، وتغيير بنية النظام السياسي لصالح دولة ديمقراطية فيدرالية حديثة تكرس الحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، إضافة إلى وضع قانون ديمقراطي جديد للانتخابات ولمفوضية الانتخابات المستقلة وقانون الأحزاب وقانون الإعلام وقوانين للضمان الاجتماعي والصحي وحالات العجز والشيخوخة، وتحديد فتة زمنية لإجراء الانتخابات العامة. 
6)   البدء الفوري بتغيير القضاء العراقي (مجلس القضاء الأعلى) المسيًّس والمحكمة الاتحادية المسيَّسة والادعاء العام، وتكريس استقلالية القضاء العراقي. والبدء بمحاكمة كبار الفاسدين في الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث والمفوضيات والهيئات المستقلة. كما لا بد من وضع قانون من أين لك هذا من اجل استعادة أموال العراق المهربة والمسروقة ومطاردة السارقين أينما كانوا قانونياً.
7)   البدء بمعالجة جادة ومسؤولة للمشكلات القائمة كافة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق بما يعزز التلاحم الأخوي والتضامن بين الشعبين وبقية القوميات، وكذلك معالجة العلاقة القانونية والإدارية والمالية بين الحكومة الاتحادية ومحافظات البلاد على وفق أسس اللامركزية.   
8)   جعل السلاح بيد الدولة فقط وتفكيك جميع الميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي واستعادة أو مصادرة الأسلحة المشاعة في البلاد، ورفض وجود قوات أجنبية ممن ترفض الحكومة الجديدة المستقلة وجودهم في العراق.
9)   معالجة مشكلة الخدمات الأساسية للمجتمع وفئاته الكادحة والمهمشة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، لاسيما خدمات الكهرباء والماء الصالح للشرب والسكن والصحة والتعليم والنقل والاتصالات. 
10)   انتهاج سياسة إقليمية ودولية تتميز بالاستقلالية وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والاحترام والمنفعة المتبادلتين ورفض كل أشكال التدخل الخارجي في شؤون العراق الداخلية والخارجية. والطلب من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والهيئات الدولية لحقوق الإنسان التدخل لدعم المطالب العادلة والمشروعة للشعب العراقي المنتفض، ووضع حد لاستخدام العنف القاتل في مواجهة المتظاهرين.




59
نداء لجمع التواقيع
إقامة الدعوى ضد رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة عادل عبد المهدي في فرنسا
بالنظر إلى الجرائم المرعبة التي ارتكبت في العراق ضد المنتفضين الذين يطالبون بحقوق الشعب العراق المغتصبة من نظام سياسي طائفي وفاسد ومدعم من دولة أجنبية هي إيران، ولأن رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، عادل عبد المهدي، الذي أصدر الأوامر بصفتيه الرسميتين باستخدام العنف والرصاص الحي والمطاطي والغاز القاتل ضد المنتفضين، مما أدى إلى استشهاد 301 عراقي وجرح 15 ألف من المتظاهرين الشباب حتى الآن.
نحن الموقعين أدناه نطلب من أخواتنا وإخوتنا العراقيين الحاملين للجنسية الفرنسية إقامة الدعوى القضائية ضد المدعو عادل عبد المهدي، الحامل للجنسية الفرنسية أيضاً، لمحاكمته على الجرائم التي ارتكبت في العراق خلال الفترة الواقعة بين الأول من تشرين الأول حتى 10/11/2019 من قبل قوات الأمن والشرطة وقوات الجيش والحشد الشعب والميليشيات الطائفية المسلحة والقوات الإيرانية غير الرسمية الموجودة في العراق.
الموقعون:
د. كاظم حبيب       كاتب وباحث وناشط مدني وسياسي/ ألمانيا
محمود سعيد الطائي   روائي وكاتب / الولايات المتحدة الأمريكية
عبد الله حجازي       ناشط مدني/ ألمانيا
مثنى صلاح الدين محمود إحصائي ومترجم وناشط مدني
فوزية العلوجي       ناشطة مدنية/ بريطانيا 
د. محمد الموسوي    أستاذ جامعي وكاتب وناشط مدني/ بريطانيا
د. أحمد الربيعي       أستاذ جامعي وناشط مدني/ استراليا 
نهاد القاضي       مهندس استشاري وناشط مدني، هولندا
د. سربست نبي      أستاذ جامعي وباحث وكاتب وناشط مدني/ سوريا
د. صادق أطيمش    أستاذ جامعي وباحث وكاتب وناشط مدني / المانيا
د. مهند البراك       طبيب وباحث / المانيا
ضياء الشكرجي      مهندس استشاري وباحث وكاتب وسياسي/ المانيا 
أ‌.   د. راجح البدراوي   زراعي/ ألمانيا
د. غالب العاني      طبيب وناشط مدني
عصام الياسري       صحفي/ ألمانيا
د. خليل عبد العزيز      إعلامي وكاتب/ السويد 
حازم كويي      ناشط مدني/ المانيا       

60
كاظم حبيب
هل مقتدى الصدر محتجز في طهران؟
لقد كان مقتدى الصدر قد عاد لتوه من إيران إلى النجف بعد أن التقي بولي الفقيه الإيراني علي خامنئي وجلس بجوار قاسم سليماني، وبالقرب من كرسي الشاهنشاهية الذي اعتلاه خامنئي متبخترا وينظر إلى رعيته من علٍ، كما أظهرتهم الصور المنشورة في الصحافة العالمية. وكانت الانتفاضة قد تفجرت بأرقى أشكالها السلمية في العراق، فأعطى الصدر رأيه بالموقف الذي، كما يقال عنه "لا يطير ولا ينكض بالأيد"، والذي تعرف عليه متظاهرو النجف حين ذهب إليهم بالسيارة لتأييدهم، ولكنهم لم يرغبوا أن يكونوا تحت عباءته أو عباءة سائرون! وحين ارتفع صوت الشعب: بغداد حرة حرة .. إيران برة برة، تحدث حينها رئيس مجلس النواب الإيراني وانتقد بشدة مقتدى الصدر واعتبره مخطئاً ومسيئاً لإيران!! لم يمر أكثر من يوم واحد حتى وصل قاسم سليماني إلى العراق ونظم عملية المقاومة للانتفاضة ووزع الأدوار بين القوى المؤيدة للوجود الإيراني في العراق وهيمنتها على السياسة والاقتصاد والمجتمع في البلاد. وحين لم يستطع التوافق المطلوب تماماً مع مقتدى الصدر [تقرر!] سفر مقتدى الصدر إلى طهران. وها هو لليوم الخامس في عاصمة إيران ووليها خامنئي ولم يعد إلى النجف، وسكتت كتلة "سائرون" عن الكلام المباح، عدا الحديث عن إعداد ملف الأسئلة لحين حضور عادل عبد المهدي إلى مجلس النواب، ولن يحضر. ولكن الكثير ممن هم في سائرون ومن ذوي الرأي المستقل يشاركون في الانتفاضة وبعيداً عن أي قرار. عطل رئيس مجلس النواب، على وفق توزيع الأدوار، عمل مجلس النواب بذريعة الجلسة مفتوحة ولن تعقد إلا حين يحضر رئيس الوزراء، ولن يحضر. وبالتالي أعفى مجلس النواب لأيام حاسمة نفسه من اتخاذ القرارات الضرورية حتى في غياب عادل عبد المهدي. إلى ماذا تشير الأمور الجارية في العراق حالياً؟ اطرح المسائل التالية:
أولاً: استمرار سلطات الدولة الثلاث، وفي مقدمتها الحكومة، في المراوغة والخداع والكذب وكسب الوقت وقتل المزيد من المتظاهرين واعتقال النشطاء منهم وبث الرعب من خلال المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة، إلى حين تراجع المظاهرات، كما يتوقعون ويتوقع كل المستبدين في أرض الله!! وأخر صورة نشرت لعادل عبد المهدي وهو يضع النظارة السوداء على عينيه. فقد ذكرتني بصورة للدكتاتور بينو شيت في شيلي وصورة صدام حسين بنظارته السوداء أو حافظ الأسد أو القذافي أو حسني مبارك أو نوري المالكي، أو كل المستبدين وهم يضعون النظارات السوداء على عيونهم وكأنهم لا يريدون أو يخشون النظر المباشر في عيون الشعب! ولكنهم، كما نعرف لا يستحون حتى من ربهم الذي يدعون كذباً إيمانهم به، بعد أن فقدوا ضميرهم وتخلوا عن أي حس إنساني نبيل!!
ثانياً: هناك احتمال وارد في حجز مقتدى الصدر في إيران لتعطيل مشاركة أتباعه في سائرون في التظاهرات بانتظار عودته، ولكن الكثير منهم يشارك فعلاً، ويبدو أنه لن يعود قبل (قتل!) الانتفاضة، ولكن هل في مقدور هؤلاء الأوباش قتل الانتفاضة، وإذا عاد مقتدى الصدر، هل استطاع الخامنئي غسل دماغه كما فعلوا مع نور المالكي والجعفري والعامري والخزعلي والفياض والمهندس ومن لف لفهم!
ثالثاً: كل المعطيات الجارية على أرض الواقع العراقي تشير بما لا يقبل الشك إلى أن المنتفضين في سائر مدن الانتفاضة لن يتراجعوا قيد أنملة، بل ستتسع المظاهرات وتنمو وتتطور في سائر أرجاء العراق؟ كل الدلائل المتوفرة تشير إلى استبسال حقيقي للمتظاهرين واتساع رقعة المظاهرات والمشاركين فيها، كرد فعل واقعي وضروري من جانب الشعب لسببين هما: أ) إصرار عادل عبد المهدي وطغمته على الاستمرار بخداع الشعب بإصدار قرارات بائسة في محاولة للالتفاف على المطالب المركزية للانتفاضة بأمل كسب الوقت والتهيئة لأمر سيء جداً ضد المنتفضين من جهة، وب) استمراره بإعطاء الضوء الأخضر والقرار الواضح بمواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي والمطاطي والقنابل القاتلة تحت اسم "قنابل مسيلة للدموع!"، والذي عبَّر عنه بصراحة تامة العسكري الفالت من عقاله عبد الكريم خلف السيء الصيت والذليل أمام كل حاكم مستبد وأمام المال والسحت الحرام!!
خامساً: التآمر على الانتفاضة حتى الأمس كان مستمراً، إذ كان المجتمع الدولي في غيبوبة عما جرى ويجري في العراق من قتل يومي، وقد عبر عن ذلك الرجل الذي أعطى أوامره بالقتل، عادل عبد المهدي، حين قال بأن القتل أصبح أقل حالياً. ذكرني هذا يما قاله المجرم علي كيمياوي، ابن عم المجرم صدام حسين، حين قيل له في احد الاجتماعات بأن السلاح الكيماوي الذي استخدم في حلبچة وضد الكرد وعموم عمليات الأنفال في الإبادة الجماعية قد قتل فيها أكثر من 180 ألف إنسان كردستاني، ردَّ عليهم بقوله: لماذا تبالغون بعدد القتلى، إنه لم يزد عن 100 ألف شخص!!! فتأملوا هذه الوقاحة لعلي كيماوي، والذي يماثل قول عادل عبد المهدي المسؤول عن حماية الشعب والمتظاهرين قل عدد القتلى، اية وقاحة هذه أيها الصعلوك!!! إن السكوت السابق وغير المعقول للإعلام العالمي والمجتمع الدولي والرأي العام العالمي أمام انتفاضة الشبيبة والشعب الباسلة، رغم العدد الكبير للقتلى والآلاف المؤلفة من الجرحى والمعوقين وآلاف المعتقلين المعذبين والمختطفين والمغيبين، فإن هذه المؤسسات الدولية والإقليمية بدأت اليوم بالتحرك ضد ما يجري في العراق. تحرك الأمين العام للأمم المتحدة وتحرك الاتحاد الأوروبي وتحرك ممثل الأمم المتحدة في العراق، كما تحركت منظمات حقوق الإنسان الدولية ومنظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الدولية التي تشجب عنف الحكومة العراقية وتدين قتلها الوحشي للمتظاهرين ورفضها الاستجابة لمطالب الشعب العادلة والمشروعة. إن هذا التحول مهم جداً ونأمل أن تتحرك الشعوب العربية في تأييد ودعم الشعب العراقي والتضامن معه في نضاله ضد الطائفية والفساد والتدخل الخارجي الفظ في الشأن العراقي.
سادساً: ليس هناك ما يخسره المنتفضون غير قيودهم. فوطنهم مستباح من قبل الطائفيين والفاسدين والخامنئيين، ولهذا فهم بطالبون بـ "وطنهم"، باسترداده ممن سرقوه وحولوه إلى وطن الرثاثة، وليس وطن الحضارة، إلى وطن البؤس والفاقة والحرمان، وليس وطن الغنى والثروة النفطية والرفاهية والسعادة، وطن القتل للمتظاهرين السلميين، وليس وطن الحب والحنان والاستجابة لإرادة الشعب ومطالبه. إنها المأساة والمهزلة التي يمر بهما العراق حالياً ومنذ 16 عاماً بالتمام والكمال.
سابعاً: ليس فينا من لا يعرف بأن الكثير من اتباع مقتدى الصدر هم من الكادحين المهمشين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وأن الكثير منهم بدأ يدرك خلال السنوات الأخيرة أهمية تغيير النظام السياسي القائم ليس بالإصلاح غير الممكن لأن النخبة الحاكمة لا تريد ذلك، بل لا بد من تغييره وإقامة نظام مدني ديمقراطي على أنقاضه والعملية السياسية الفاسدة لا يمكن أن تستمر. ولهذا فلا بد لهم وبغض النظر عن موقف مقتدى الصدر، الذي ربما هو محجوز في طهران أو قم، كما كان رئيس حكومة لبنان سعد الحريري محجوزاً في الرياض حتى تم إقناعه بما ينبغي عليه فعله على وفق إرادة السعودية، أن يتخذوا الموقف المناسب. والكثير منهم يشارك في الانتفاضة بالرغم من إرادة إيران المناهضة للمنتفضين.                       
وأخيراً، فنحن أمام مؤامرة قذرة تستهدف عملية التغيير للنظام السياسي الطائفي الفاسد في العراق، وعلينا مواجهتها والكشف عن ابعادها والقوى المساهمة فيها، علينا تعبئة الصفوف وتحقيق التنسيق والوحدة والتضامن الكامل بين قوى الانتفاضة في بغداد والمحافظات بهدف تطوير الزخم والضغط وممارسة كل الأساليب السلمية في مواجهة المعتدين وإحراز النصر على الحكام الظالمين.


61
كاظم حبيب
هل في جعبة نوري المالكي من جديد؟
وبالأمس عاد عراب إيران الأول من جديد، عاد المستبد بأمره والطائفي بامتياز ورئيس الحكومة الأسبق والقائد العام للقوات المسلحة الأسبق ورئيس حزب الدعوة ورئيس قائمة دولة "اللاقانون"، والمتهم الأول بحكم وظيفتيه وعمله عن تسليم الموصل ونينوى للدواعش وعن كل ما حصل خلال ولايتين له على رأس مجلس الوزراء العراقي والقوات المسلحة العراقية من مآسي وكوراث ومحن وقتل على أساس الهوية الدينية والطائفية والتمييز ضد أتباع الديانات الأخرى ونشوء نظام متكامل للفساد وتسلط المافيات المعروفة بأسماء الميليشيات الطائفية المسلحة في البلاد وتبعية كاملة لإيران وولي الفقيه فيها، عاد نوري المالكي والعود غير محمودٍ وغير مطلوبٍ وغير مرغوبٍ به، فهو شخصية محروقة عراقياً وعربياً ودولياً، إلِّا إيرانيا فهو "الولد المدلل" لولي الفقيه على خامنئي. هذا "الطائفي" و"الطاغية" عاد ليطالب مرة بموقع نائب رئيس الجمهورية، ومرة أخرى عراباً لحكومة عادل عبد المهدي، بعد الجرائم التي ارتكبتها حكومته في البلاد وسقوط مئات الضحايا وآلاف الجرحى والمعوقين وتلطخت أيديه في أكتوبر ونوفمبر من هذا العام (2019) بدماء الشهداء، كما تلطخت أيدي نوري المالكي بدماء العراقيين في أحداث 2011. عاد لينقذ النظام الطائفي بطرح مقترح التفاوض بين وفد من الانتفاضة وبين الحكومة بتعهد طرف ثالث. هل يعتقد هذا الطائفي بأن الشعب الذي انتفض اليوم قد نسى التعهد الذي قطعه المالكي على نفسه بتغيير الأوضاع في مئة يوم، فماذا حصل حينذاك؟ لقد سقط الرجل أكثر فأكثر في مستنقع العداء للشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية، وتسبب في كوارث عام 2014 حيث تم اجتياح العراق وسبيه واغتصاب نساءه وسبي الآلاف من النساء الإيزيديات وبيعهن في "سوق النخاسة الإسلامي" ونزوح مئات لألوف من السكان من الموصل وعموم محافظة نينوى، وكذلك قتلى معسكر سپايكر.. الخ. إنه يراهن على دعم إيران له للعودة. إن الشعب الذي يرفض استمرار عادل عبد المهدي على رأس الحكومة ويطالب بتغيير النظام الطائفي الفاسد، يرفض ألف مرة ومرة وصول نوري المالكي ورهطه ويرفض النظام الطائفي كله ومجمل العملية السياسية الفاشلة والفاسدة. لقد برهنت الحياة في كل الدول ذات الأكثرية المسلمة بأن الحكم الإسلامي إن أقيم في أي من هذه البلدان لن يكون غير حكمٍ استبداديٍ مقيت وظالم وفاسد. وأمام المنتفضين في العراق سلسلة من الدول منها إيران والسعودية وقطر ومصر الإخوان المسلمين وباكستان ...الخ. ويزداد الأمر سوءاً حين تكون في الدولة مجموعة من الديانات والمذاهب التي تستوجب إقامة الدولة الديمقراطية التي تتخذ موقفاً حيادياً من كل الديانات وتفصل بين الدين والدولة. (اقرأ في هذا الصدد مقالتين للسيد الدكتور قاسم حسين صالح بعنوان "الحاكم الإسلامي حين يتحول الى مستبد (1 و2) تحليل سيكولوجي"، الحوار المتمدن في 2 و5/11/2019).
ومع بدء تحرك المالكي ظهرت شخصية شبيهة بوزير الدعاية العراقي المهرج الذي أشبعنا انتصارات كاذبة في فترة الحرب عام 2003 محمد سعيد الصحاف، إنه المتحدث الجديد باسم القائد العام للقوات المسلحة عبد الكريم خلف ليشبعنا كأي مهرج ومخادع بوجود متآمرين من المنتفضين يريدون إلحاق الضرر بالاقتصاد العراقي.. كما أنتم أيها الطائفيون تعبدون المال والسحت الحرام.
إن الضمانة الوحيدة لانتصار الشعب على هذه الزمر الحاكمة هي وحدة الشعب واستمرار الانتفاضة السلمية واتساع قاعدتها بالمزيد من بنات وأبناء الشعب، إنها الضمانة الفعلية للخلاص من أي وجود أجنبي، ومنه الوجود والهيمنة الإيرانية والتخلص من أتباع إيران وذيولها في العراق.   
   


62
كاظم حبيب
من يحكم العراق بالحديد والنار؟

لقد خضع العراق لقرون وعقود تحت هيمنات استعمارية كثيرة وانتفض عليها وأسقطها بعد أن تكبد الكثير من الدماء والدموع والكثير من الخراب والتأخر. ولكنه في المحصلة النهائية انتصر كل مرة. وبعد فترة يتعرض لهجوم جديد وخيانات من قبل حكام مستبدين جدد، فيسقط مرة أخرى تحت هيمنة جديدة. هذا ما سجله تاريخ العراق منذ آلاف السنين. يمكن أن أعود بكم إلى كتابي الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين" (11 مجلداً بـ 4250 صفحة عن دار أراس، أربيل 2013) حيث نطالع فيه لمحات من تاريخ العراق منذ السومريين والبابليين ومروراً بغيرهم ووصولاً إلى الفرس والعثمانيين ومن ثم الانجليز والعهد الملكي وثورة تموز وحكم القوميين والبعثيين الدكتاتوري، حتى قيام الحكم الطائفي الفاسد الراهن تحت حراب المحتل الأمريكي-البريطاني. كثيراً ما كسَّر الشعب قيوده ليبني وطنه، ثم يبرز من بين أبناءه، وليس بناته، من يخون الزاد والملح ومن يخون حليب أمه فينقلب على الشعب ويحكمه بالحديد والنار ويدوس على كرامته. حصل هذا منذ العام 1963 واستمر حتى الوقت الحاضر. فمرة عبد السلام محمد عارف وأخرى أحمد حسن البكر وثالثة صدام حسين ورابعة إبراهيم الجعفري، ثم نوري المالكي، المستبد بأمره وأمر ولي وولي أمره علي خامنئي، الذي برهن على أنه يلتقي مع الأكثر توحشاً وعدوانية في حكم العراق صدام حسين، ومن ثم كان العبادي، وأخيراً الدكتاتور الصغير عادل عبد المهدي، الذي تلطخت أيديه بدماء شهداء بغداد والناصرية والبصرة والحلة وكربلاء وواسط والعمارة وديالى و... الخ. السؤال الذي يدور في بال كل العراقيات والعراقيين هو: من يحكم العراق؟ لم يكن الجواب صعباً على المنتفضين في بغداد وكربلاء والبصرة وبابل والناصرية فقد أجابوا بصوت واحد: (بغداد حرة حرة.. إيران برة برة)، ومن ثم "كربلاء حرة حرة .. إيران برة برة". ثم عززوها بالشعار الآخر، الذي أكد بأن إيران تحكم العراق عبر أتباع لها في الداخل: حين هتفت الجماهير الغاضبة والمنتفضة: (باسم الدين باگونة الحرامية)، هتافات هزّت الأرض والسماء صارخة ضد الميليشيات الطائفية المسلحة وضد الأحزاب الإسلامية السياسية ورموزها الحرامية.. هكذا حدد شعب العراق من يحكم العراق منذ إسقاط الدكتاتورية واستيلاء حزب الدعوة والتحالفات الطائفية التي أطلق عليها "أهل البيت" على السلطة في البلاد بتآمر ومساومة بين الولايات المتحدة وإيران.
ولكن حكام العراق الذين يحكمون باسم إيران في العراق هم محكومون بمستشارين قادمين من إيران وبقوات عسكرية تحمي هؤلاء الحكام وتوجه نيرانها صوب المنتفضين. أن الحاكم الفعلي في العراق ليس عادل عبد المهدي بل قاسم سليماني وليس عادل عبد المهدي سوى الذراع القذرة التي يستخدمها الحاكم والمستبد بأمره قاسم سليماني. وهذه الذراع يجب أن تقطع وكل ذراع مماثلة. هذه هي الحقيقة المرة التي تواجه العراق. وحين يقول عادل عبد المهدي لن "أستقيل" فهو يردد إرادة علي خامنئي ووكيله في العراق قاسم سليماني. إن منتفضي كربلاء على حق حين أكدوا بأن إيران هي الفاعل الفعلي في العراق منذ 16 عاماً وهي التي يجب أن تطرد من العراق مع رموزها والتابعين لها والضاربين باسمها انتفاضة الشبيبة والشعب من أمثال فالح فياض والعامري والخزعلي وعبد الكريم خلف وغيرهم من المعادين لحقوق الشعب التي يضمنها الدستور وممن يسيئون يومياً للشعب والوطن وانتفاضته ويمارسون الكذب دون حياء أو وجل!!!   
أرى في الانتفاضة الشبابية ضوءاً شديد التوهج في نهاية النفق الذي أدخلَ المحتلون الأمريكان العراق فيه وسلموه لإيران ومعهم حفنة رثة من أتباعها تحكم الشعب بالحديد والنار، وقد برهنت الحياة أن لا مستقبل لمثل هذه السياسات المعادية للشعوب، وأن انتصار الشعب آت لا ريب فيه!       

63
كاظم حبيب
أين تكمن مصالح شعب كردستان؟
السؤال الذي راودني مباشرة بعد سماعي لما أعلنه السيد مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وما أعلنه السيد مسرور البارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، بأنهما يرفضان إقالة حكومة السيد عادل عبد المهدي لأنه استجاب في موضوع المالية ليس إلا! فهل عادل عبد المهدي هو من يضمن الحقوق الأساسية للشعب الكردي، أم عراق حر، ديمقراطي ومستقل عن الإرادات الأجنبية، لاسيما إرادة الدول المجاورة للعراق وكردستان العراق، أي إيران وتركيا، اللتان تقفان ضد مصالح الشعب الكردي في كل أقاليمه؟ أن تصريحات المسؤوليين الكرد في أربيل تعني بوضوح ما يلي: إن الحزب الذي يقود الحكومة الكردستانية يتخذ موقفاً معارضاً إزاء إرادة الانتفاضة الشبابية والشعبية العراقية التي تطالب باستقالة عادل عبد المهدي، وترى في العملية السياسية الجارية عملية فاشلة وسيئة ينبغي أن تنتهي، وأن ينتهي معها النظام السياسي الطائفي والفاسد، الذي لم يكن يوما ما ومنذ قيامه صديقاً للشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة. ومع إن عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء، لم يتوقف عن استمرار تنفيذ قراره بممارسة العنف والسلاح (الحديد والنار) في مواجهة الانتفاضة الشعبية وسقوط المزيد من الضحايا والذي بلغ عددهم أكثر من 400 شهيداً وأكثر من 12 جريح ومعوق خلال شهيد خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر واليام الأربعة الأولى من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، لم يتوقف تأييد حكومة إقليم كردستان لرئيس وزراء الحكومة الاتحادية، رغم صدور بيان تضامني تاريخي مهم من مثقفي إقليم كردستان مع المنتفضين في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب. والسؤال الذي يواجه كل صديق مخلص للشعب الكردي، وأنا أحدهم، هو: أين تكمن مصالح شعب كردستان: هل هي في تأييد عادل عبد المهدي، الذي احرق كل أوراقه لدى الشعب العراقي، أم في تأييده للشعب العراقي المنتفض ضد الحكومة العراقية وضد النظام الطائفي السياسي الفاسد الذي لم يقصر في الإساءة المستمرة للشعب العراقي كله، وكذلك للشعب الكردي في كردستان العراق أيضاً؟ لا أحتاج إلى تفكير طويل لأقدر بصواب إن مصالح الشعب الكردي تتحقق في دولة عراقية ديمقراطية حرة وفي نظام سياسي ديمقراطي غير طائفي وغير فاسد وفي مجتمع مدني ديمقراطي حر وعلماني، عراق مستقل عن الإرادات الخارجية، سواء أكانت إيرانية أم أمريكية أم تركية أم خليجية، مثل هذا العراق هو الذي يضمن للشعب العراقي كله وللشعب الكردي والقوميات الأخرى حقوقها المشروعة والعادلة. لهذا أرى بأن موقف رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس حكومة إقليم كردستان ليست صائبة فيما لو استمر على تأييد استمرار حكومة عادل عبد لمهدي، إذ إنها تسهم في إضعاف التضامن الضروري بين شعبين صديقين لإقامة عراق ديمقراطي حر ومستقل تتمتع فيه شعوبها بالحرية والحياة الديمقراطية وبالحقوق المشروعة لجميع القوميات وأتباع الديانات والمذاهب. إن سبعين عاماً من التضامن العادل والصادق مع الشعب الكردي ومع حقوقه المشروعة لا يزعزعها هذا الموقف، ولكن سيزعزع الصداقة والتضامن الضروريين اليوم ومستقبل العلاقات بين الشعبين الصديقين. وهو ما يقلقني كثيراً. أتمنى على حكومة الإقليم والأحزاب الكردستانية وبقية القوى السياسية أن تعيد النظر بموقفها من انتفاضة العراق الباسلة ومن المطالب العادلة المطروحة في ساحة النضال الوطني، في ساحة التحرير وفي كل ساحات الوسط والجنوب والتي يمكن أن ترفع في كل أنحاء العراق. إن عادل عبد المهدي قد نفذ مجزرة دموية في بغداد وفي بقية مدن محافظات الوسط والجنوب وتحول إلى دكتاتور صغير يمارس الظلم والقسوة إزاء الشعب والشبيبة المنتفضة، ولن يغفر له الشعب ذلك بأي حال. إن من مصلحة الشعب الكردي أن يتضامن مع الشعب العربي وبقية القوميات المناضلة والمنتفضة في بغداد وبقية المحافظات، وأن يقف إلى جانب تغيير النظام الطائفي الفاسد ورموزه المعروفة والفاسدة وتأييد تغيير الدستور لحماية كل الحقوق القومية العادلة والمشروعة، وكذلك قانون الانتخابات وقانون الأحزاب والمفوضية المستقلة للانتخابات ...الخ. وان لا تكون في تلك التعديلات ما يُضعف حقوق الشعب الكردي والمكاسب المشروعة والعادلة التي تحققت له خلال الفترة المنصرمة والتي ستبقى مكرسة في الدستور المطلوب تعديله. إن الشعب سينتصر في معركته الراهنة، وسينتهي عهد الظلم والطغيان عاجلاً أم آجلاً، وستُفتح صفحة جديدة في تاريخ العراق، صفحة جديدة في علاقات التآخي والتضامن والاستجابة لحقوق القوميات في العراق.


   
 

64
كاظم حبيب
الفحوى الكارثي لرسالة عادل عبد المهدي: عرب وين ... وطنبورة وين!!!
من استمع إلى رسالة عادل عبد المهدي الموجهة إلى الشعب العراقي أو سمع بها، التي أذيعت من أكثر من قناة عراقية بتاريخ 03/11/2019، يمكنه أن يسجل ثلاث فرضيات، وهي:
1) إما إن هذا الرجل دكتاتور صغير لا يأبه بالدم العراقي ولا بمطالب الشعب التي دعت إلى استقالته فوراً، بل يسعى جاهداً على كسب الوقت للإجهاز على المنتفضين بذريعة العنف ووجود خارجين على القانون!؛ 2) أو أن يكون الرجل معتوهاً وفاقداً لعقله بالتمام والكمال، ولم يعد يتذكر إن مئات الضحايا التي سقطت على أيدي أجهزة الأمن والميليشيات الطائفية المسلحة والحشد أللاشعبي والقوى الإيرانية التي وصلت إلى العراق خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، إضافة إلى آلاف الجرحى والمعوقين وآلاف المعتقلين والمختطفين والمغيبين والمعذبين من بنات وأبناء الشعب المنتفض وبقرارات مباشرة منه. وأخر مختطفين هما سيف راضي، الذي وجد مقيداً ومعذباً ورمياً على قارعة الطريق ومغشياً عليه، والسيدة الناشطة المدنية والإسعافية صبا المهداوي، والتي لم تعد حتى الآن إلى عائلتها، وإن الشعب لا يمكن أن يغفر له وللنخبة السياسية الحاكمة ما فعلوه طيلة الأعوام الفائتة حتى الوقت الحاضر، حيث يمارسون قتل الناس وتعذيبهم بدم بارد، كما فعل أتباع الدكتاتور صدام حسين وأبشع؛ 3) أو أن يكون ابن المنتفگي محتجزاً ورهينة تفرض عليه القرارات وكتابة الرسال على وفق ما يقرره العميد العسكري وممثل ولي الفقيه علي خامنئي في المنطقة الخضراء وعموم العراق قاسم سليماني، الذي وصل العراق خصيصاً لدفن الانتفاضة الشعبية.
ويبدو إن قادة الدولة الإمعة أصبحوا يستجيبون لطلبات سليماني وسيده خامنئي دون عنوة، كما فعل كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب والسلطة القضائية التي لم تحقق حتى الآن مع من أصدر الأوامر بقتل المتظاهرين، ومع من طالب المنتفضون البواسل بمحاسبته وتقديمه للقضاء من حكام العراق منذ العام 2004 حتى الآن.
لقد وجه هذا الدكتاتور الصغير والبائس رسالة وقحة استخدم فيها، كما يقال "الجزرة والعصا"، فهو من جهة يتحدث عن تحقيق الإصلاحات، التي فات أوانها اصلاً، ومن جهة أخرى يهدد باتخاذ أقسى العقوبات لمن لا يلتزم بما تطلبه الحكومة من المتظاهرين وركز على الخارجين على القانون. وعادل عبد المهدي يدرك بأنه وحكومته العراقية ومجلس النواب وبقية الحكام هم الخارجون على الدستور وقوانين البلاد، وهم الذين داسوا على الدستور العراقي والقوانين المرعية وكرامة الإنسان العراقي امرأة كانت أم رجلاً، وهم الذين، مع بقية الأحزاب الإسلامية السياسية، نهبوا الدولة والمال العام والموارد الأولية، لاسيما النفط الخام، وهم الذين، مع أحزابهم الإسلامية السياسية الطائفية الفاسدة، زورا الانتخابات وشوهوا حياة الإنسان العراقي وسلموا الموصل ونينوى لعصابات داعش لتعيث فيها فسقاً وفساداً وقتلاً وتدميراً..
إن الحكومة العراقية يا عادل عبد المهدي الراهنة، والحكومات الأخرى قبلها، هي الخارجة على القانون وليس الشبيبة المتظاهرة، ولا الشعب المطالب بحقوقه (انزل ..أخذ حقي)، وهي التي تترسل بعض المرتزقة القادمين من إيران أو المنتمين للميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران وأحزاب إيرانية في العراق لإشعال الحرائق وخلق الفوضى في البلاد لتسهيل مهمة الهجوم على المنتفضين بدعوى الفوضى والخروج على القانون. هذه اساليبكم يا عادل عبد المهدي، أساليب الخامنئي وأتباعه في العراق وأتباع كل التشكيلات الإرهابية، سواء أكانت محلية أم عربية أم إسلامية أم دولية!
لا يستحق رئيس الوزراء الرد على رسالته وثرثرته الفارغة، إذ إنه يتحدث وكأنه يعيش في كوكب أخر. لقد كان عليه أن يقدم استقالته فوراً بعد مطالبته وقبل سقوط أول مجموعة من الشهداء في ساحات العراق، فالشعب هو مصدر السلطات وليس مجلس النواب الذي جاء في أغلبه بشراء المقاعد بالملايين من الدولارات وبموافقة القوى الطائفية الفاسدة والمتحكمة بالمفوضية غير المستقلة للانتخابات التي ساهمت بحيوية بالغة في تزوير وتشويه الانتخابات. إن المثل الشعبي العراقي القائل " عرب وين طنبورة وين" يعبر بصدق عن رسالة الهبل عادل عبد المهدي الموجهة للشعب العراقي، هذا الفلاح المهموم بسبب نزاع وقتلى من عشيرته، الذي قال عن زوجته الطرشة والخرسة ذلك القول المأثور، وهي التي اعتقلت إن إشارته المهمومة تعني أنه يريد منها شيئاً آخر!!! والشعب يرى في رسالة رئيس الوزراء إنه "الطنبورة"، الأخرس، والأطرش، والأعمى أيضاً!!!
سيبقى المنتفضون في الساحات العامة والشوارع وسيعلنون الإضراب العام في أنحاء البلاد وسيتخذون قرار إعلان العصيان المدني ليس لإسقاط الحكومة ومجلس النواب فحسب، بل والنظام السياسي الطائفي الفاسد وكل العملية السياسية المشوهة والمزيفة والمتحكم بها علي خامنئي وطغمته في إيران وأتباعه الأوباش في العراق. سيبقى المنتفضون المناضلون صامدين بوجه إرهاب الدولة ومن معها حتى تحقيق النصر للشعب على الحكام الطغاة الفاسدين والظالمين...     
 
     

65
كاظم حبيب
أعداء الشعب يستخدمون غازات قاتلة ضد المنتفضين
[لتتسع قاعدة المشاركين بالانتفاضة بأفراد القوات المسلحة]
أنزل الرأي العراقي والإقليمي والعالمي، وكذلك المجتمع الدولي، أشد اللعنات على رأس الدكتاتور صدام حسن وقريبه علي كيماوي بسبب استخدامهما الأسلحة الكيمياوية، لاسيما غاز الخردل وغاز السارين، ضد الشعب الكردي في مدينة حلبچة الجريحة مما أدى إلى في عام 1988 إلى استشهاد ما يزيد عن 5 ألاف إنسان وأكثر من 5000 جريح ومعوق من بنات وأبناء الشعب الكردي ومن مختلف الأعمار، إضافة إلى نفق الكثير من الماشية والخراب والدمار الذي حل بالمنطقة كلها، كما استخدم هذان المجرمان السلاح الفتاك نسه ضد قوات البيشمركة الكردية والانصار الشيوعيين العراقيين في إقليم كردستان في العام ذاته وأدى الى سقوط ضحايا وجرحى ومعوقين. لقد مارس الدكتاتور عمليات إبادة جماعية بحق الشعب الكردي. واليوم نتابع بغض وإدانة شديدة بدء النظام الطائفي الفاسد في العراق استخدام غازات سامة ضد المنتفضين على مظالم النظام وطغيانه. وبرهنت أحداث شهر تشرين الأول/أكتوبر ويومي الأول والثاني من تشرين الثاني نوفمبر 2019 إلى أن حكام إيران وأتباعهم في بلاد الرافدين لن يتورعوا عن ممارسة ذات الأساليب واستخدام ذات الأسلحة الفتاكة ضد شعبنا الصامد والمناضل. إذ أنهم بدأوا بذلك وهم يخططون الآن ويسعون من خلال كسب الوقت وانتظار الفرصة المواتية لتنفيذ المزيد من الجرائم بحق الشعب العراقي. واليوم وأمام أنظار العالم كله يستخدم النظام الطائفي الفاسد في العراق الغازات السامة معبأة بعبوات أكبر من حجم علب الغاز المسيل للدموع التي تستخدم عادة وعالميا، رغم تحريمها، والتي تصيب العيون بالتقرح وتسيل الدموع من المصابين بها، أي إصابات غير قاتلة عموماً، أولا، وتستخدم أنواعاً أخرى من الغازات التي لا تصيب العيون فحسب، بل تصيب الجهاز التنفسي وتعطله عن العمل وتصيب الرأس فتهشمه، انها غازات قاتلة جديدة تصنع في بلغاريا وصربيا، كما أشارت إلى ذلك منظمة العفو الدولية ذات المصداقية العالية. وقد أصدرت هذه المنظمة بياناً قالت فيه "ان خمسة متظاهرين قتلوا في بغداد بقنابل مسيلة للدموع "اخترقت جماجمهم" داعية العراق الى عدم استخدام هذا النوع "غير المسبوق" من قنابل الغاز المسيل للدموع والذي يبلغ وزنه عشرة أضعاف وزن عبوات الغاز المسيل للدموع التي تستخدم في العادة. وهي لا تستخدم لتفريق المتظاهرين بل إلى قتلهم...". وتشير المعلومات المؤكدة بأن اتباع الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران، لاسيما قادة بدر وعصائب أهل الحق والخراساني وحزب الله ومجموعة اخرى من قادة "الحشد اللاشعبي"، هي التي تساهم بفعالية في استخدام هذا السلاح الذي جاءها من إيران أيضا وعبر قوات الحرس الثوري وفيلق القدس والبسيج، وهي كلها قوات إيرانية حصل المتظاهرون على هوياتهم الشخصية، كما عرضت تلك الهويات على شاشة التلفزة.
إن القوات العسكرية العراقية، لاسيما الجيش، يفترض أن تدرك بأنها جزءٌ من هذا الشعب، وان الشبيبة المنتفضة ضد النظام السياسي الطائفي والفساد هم اخوتهم أو أبناؤهم أو أخواتهم أو بناتهم وربما أمهاتهم أيضاً وأباؤهم، وان عليهم الدفاع عنهم بل والامتزاج معهم في النضال الشعبي ضد هذا النظام الدموي الذي داس على كرامة الوطن بأقدام القوات الأجنبية القذرة واعداء العراق الأوباش. ان حياة العراقيات والعراقيين أمانة في اعناق كل ضابط وكل جندي وشرطي في العراق وعليهم تقع مسؤولية حمايتهم وليس حماية تلك الفئران المذعورة من انتفاضة الباسلة والمحتمية بهم وبغيرهم في المنطقة الخضراء. هذه المنطقة التي تصدر منها المؤامرات ضد الشبيبة المنتفضة وعموم الشعب العراقي. ورغم الادعاء بعدم استخدام العنف، إذ بالأمس، 02/11/2019، وحده سقط المزيد من الشهداء في بغداد والبصرة أضافة الى العشرات من الجرحى والمعوقين في بغداد وما يماثلها في البصرة ومدن عراقية أخرى.
أيها المنتفضون البواسل، لم تعد التجمعات والتظاهرات اليومية بمئات الآلاف كافية لإسقاط النظام السياسي الطائفي الفاسد والمستبد بأمره وأمر علي خامنئي الذي يرفض قادته الفاسدون القبول بإرادة الشعب والتخلي عن السلطة، بل يفترض التوسع بالنضال واستخدام أسلوب الإضراب العام والعصيان المدني لأنهما ينسجمان مع المستوى الرفيع الذي بلغته الانتفاضة الشبابية من حيث الحجم والمشاركة من فئات الشعب الأخرى ومن حيث تبلور قيادة لها في بغداد وعمليات تنسيق مع بقية المحافظات العراقية، باعتباره الأسلوب الناجح للإطاحة بهذا النظام وعمليته السياسية الفاسدة. إن العصيان المدني بأشكاله المتطورة سيعجل تحقيق الانتصار على النخبة الحاكمة الباغية. إنها الأداة المجربة التي مارسها مهاتما غاندي في قيادة نضال الشعب الهندي السلمي للخلاص من الاستعمار البريطاني في أربعينيات القرن الماضي. وعلى قوى الانتفاضة السلمية تقع اليوم مسؤولية تطوير وتنويع وتنسيق وتوحيد أساليب وأدوات النضال وأهدافه النبيلة.
الانتفاضة الجارية في العراق لم تعد شبابية فحسب، وهو أمر مهم جداً، بل التحق بها المزيد من فئات الشعب ومن مختلف الإعمار ومن الذكور والإناث، التحق بها العمال والطلبة والمعلمون وأساتذة الجامعات والكسبة والحرفيين والكثير من موظفي الدولة الصغار والفلاحين تحت واجهات "عشائرهم". وإذا ما التحق بها أفراد القوات العسكرية العراقية بمختلف صنوفها فسيكون النصر المؤازر أكثر سرعة وضمانة. اجواء الانتفاضة في العراق تشير الى اتجاه تطور الأحداث بهذا الاتجاه التوسعي ونوعية جديدة متميزة لم يشهد مثيلاً لها عراقنا الحبيب والمستباح من قبل.
أكرر مرة أخرى وثالثة ورابعة لشعبنا المنتفض ما قاله كاظم السماوي:
وإذا تكاتفت الأكف فأي كف يقطعون         وإذا تعانق شعبنا فأي درب يسلكون


66
كاظم حبيب
التحولات الجارية في المجتمع العراقي ومطالب المنتفضين
على مدى 16 عاماً شهد المجتمع العراقي تحولات كبيرة لم تبدو واضحة للبعض من السياسيين والمتابعين لتطور واقع المجتمع العراقي. فقد نشأت خلال هذه الفترة، وبدعم خارجي ملموس من الدول المجاورة، لاسيما إيران وتركيا ودول الخليج، إضافة إلى ما كرسه ممثل قوى الاحتلال الأمريكية باول بريمر، طبقة رأسمالية طفيلية جديدة اعتمدت منذ البدء وحتى الآن على نهب موارد الدولة الأولية والمالية واستنزافها ووضعها في البنوك الخارجية، إضافة إلى نهب عقارات الدولة ودورها والأراضي الزراعية من جهة، وعلى مرحلة التبادل، (التبادل والتوزيع والاستهلاك) التجارة الخارجية والداخلية مع الدول الإقليمية على نحو خاص، لاسيما إيران وتركيا، لتأمين أقصى الأرباح على حساب الاقتصاد الوطني، على حساب الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية والعامة من جهة أخرى، وتوسيع وتنشيط نظام متكامل من الفساد المالي والإداري على شكل مافيات منظمة محلية وإقليمية، في الدولة والمجتمع من جهة ثالثة، وعلى طبقة عاملة جديدة مكونة من جمهرة غفيرة من العاطلين قسراً عن العمل ومهمشة عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، طبقة مغدورة من القوى الحاكمة الطائفية الفاسدة، والبعيدة كل البعد عن عملية تنمية اقتصادية وبشرية تسمح بتوفير فرص عمل وتنشيط مرحلة الإنتاج في عملية إعادة الإنتاج. وبالتالي فهو، كما يشير السيد الدكتور مظهر محمد صالح في مقال له منشور على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، إلى صراع طبقي جديد مميز بين المهيمنين على السلطات الثلاث وعلى المال والنفوذ، وعلى مجمل الحياة الاقتصادية والمالية من جهة، وبين الطبقة العاملة الجديدة العاطلة عن العمل من شبيبة البلاد القادرة على العمل والمهمشة والعابرة للأديان والطوائف أو المذاهب والقوميات. (راجع: شبكة الاقتصاديين العراقيين   http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2019/10)
   وهذا الصراع قد وصل إلى مستوى لا يمكن الفكاك منه إلا بحصول تغيير جذري في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم، تغيير في النظام السياسي الرأسمالي الطفيلي الرث القائم والمعبر عن مصالح الفئات الرثة الحاكمة في البلاد وتلك القوى التي تهيمن عليها في الخارج.
إن الشبيبة العراقية السلمية المغدورة طيلة السنوات المنصرمة والمنتفضة بوجه النظام السياسي الطائفي الفاسد، وهي مصرة على إسقاطه، وليس إجراء إصلاحات شكلية بوعود كاذبة، تتعرض اليوم في انتفاضتها المقدامة إلى مؤامرة كبيرة وتدخل سافر في الشؤون الداخلية لشعب العراق. جاء هذا التدخل الفظ وبشكل صارخ على لسان ولي الفقيه الإيراني علي خامنئي، حين تحدث يوم الأربعاء الفائت عن مؤامرة أمريكية إسرائيلية تجري في العراق ولبنان ومنفذها هم المنتفضون!! لله يسامح يا رجل، كم أنت بغيض زمانه وشعبه وشعبنا!!! لقد أعطى هذا التصريح التشويهي والعدواني القائل بأن: "الاحتجاجات الشعبية المستمرة في العراق ولبنان، بحسب وكالة "فارس" الإيرانية للأنباء. أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة"، وأن مطالب الشعب يمكن أن "تتحقق ضمن الأطر القانونية لبلادهم حصراً"! وهنا يردد رئيس جمهورية العراق دون أن يتعثر لسانه أو يستحي كلام علي خامنئي الإيراني السيء بحق الشعب العراق وانتفاضته ولما يجب أن يكون عليه العراق!! (راجع: الكثير من الصحف والمواقع العراقية والعربية: خامنئي يهاجم المظاهرات في لبنان والعراق ويصفها بـ"الشغب"!!!).

 لقد أعطت هذه التصريحات الإيرانية، المناهضة لانتفاضة الشبيبة العراقية العابرة للأديان والطوائف، الضوء الأخضر للنخب السياسية الطائفية الفاسدة والحاكمة التابعة للمستعمر الإيراني للتشبث بالحكم، وأوعزت لقاسم سليماني في أن يتحرك بسرعة وتصميم للتأثير المباشر، وبعيداً عن أية دبلوماسية أو احترام لسيادة العراق واستقلاله، على كل المسؤولين في العراق ابتداءً من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، وانتهاءً ببقية الأتباع والمريدين السيئين الآخرين لرفض استقالة حكومة عادل عبد المهدي وإلى حين يتم طبخ البديل المنشود في مطبخ الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية الفاسدة والميليشيات المسلحة وبالتنسيق الكامل مع قاسم سليماني واستجابة لإرادة خامنئي!
إن هذه الحقيقة المرة شاخصة تماماً أمام أنظار الشبيبة المنتفضة في ساحة التحرير وفي شوارع المدن والساحات العامة في أنحاء كثيرة ومتزايدة من العراق ولن تمر، كما كانت تمر سابقاً. وقد قرأ المنتفضون بإمعان وتدقيق فائقين توجيهات خامنئي وسليماني في خطاب رئيس الجمهورية حيث بذل كل ما في جعبته من إمكانيات للضحك على ذقون المنتفضين وكسب الوقت إلى حين يتم لهم ما يريدون ويراهنون على تعب المنتفضين أو التهيئة لتوجيه ضربة قاسية للمنتفضين عبر القوات الإيرانية التي بدأت تتدفق إلى العراق. لم يكن أي منتفض يريد أن يرى رئيساً لجمهورية العراق يخضع لإرادة خامنئي وسليماني والعامري والخزعلي والمهندس وفياض ومن لف لفهم البغيض ويلقي تلك الخطبة المليئة بوعود غير صادقة معبرة عن إرادة المتدخل الفظ في الشأن العراقي علي خامنئي ومن لف له في العراق، فهي ليست إرادة العراق ولا شبيبته أو شعبه، إنها إرادة الأجنبي الدخيل والحاقد!
كما أن خطبة المرجعية التي أكدت حق العراقيين والعراقيات على التظاهر، ولكنها لم تحدد، لمن منحتهم الثقة دوماً، سقفاً زميناً لاستمرار جرجرة الحكام وعدم استعدادهم الفعلي لأي تغيير في واقع العراق الطائفي الفاسد. أي أن المرجعية تراهن هي الأخرى على تعب المتظاهرين من خلال كرم الوعود الفارغة التي قدمها وما زال يقدمها جميع كبار المسؤولين دون أن ينفذوا ولو 1% من تلك الوعود التي لم يعد يثق بها الشعب أو يصدقها اساساً، ليست هناك ثقة بهذه الطغمة الفاسدة والطائفية!
لقد حصلت تغيرات كبيرة في المجتمع العراقي، لقد غاص الحكام في مستنقع الطائفية والفساد وتدمير الاقتصاد الوطني والإساءة الكاملة لقضيته العادلة إلى حد خيانتها، وهو ما يفترض تشخيصه والعمل على تنشيط التظاهرات الجارية وتعميم الحركة باتخاذ الإجراءات الضرورية لإعلان العصيان المدني في البلاد والذي سيسقط الطغمة الحاكمة. إنها الفرصة السانحة والوقت المناسب، فهناك تحول ملموس في موقف الكثير ممن التحق، بسبب وطنيته ودفاعه عن العراق ضد الدواعش، بالحشد الشعبي، إلى الانخراط حالياً بالانتفاضة الشبابية، وقد أدركوا النوايا الشريرة لقادة الحشد الشعبي من التشكيلات الطائفية المسلحة المرتبطة هوية وولاءً لإيران الخامنئي.
إن قوى التيار الديمقراطي العراقي، ومنها شبيبة الحزب الشيوعي العراقي، المنخرطة حالياً في الانتفاضة الشبابية والشعبية، تتحمل وأكثر من أي وقت مضى مسؤولية المساهمة الفعالة إلى جانب الشبيبة العراقية العابرة للديانات والمذاهب والمتطلعة لعراق وطني ديمقراطي مستقل وحر ومزدهر بكل ما تملك من إمكانيات تعبوية وتنظيمية لصالح الانتصار الفعلي لأهداف الانتفاضة الباسلة. إنها الفرصة السانحة لتغيير ميزان القوى لصالح الطبقات الكادحة والمغدورة والمهمشة وضد الفئات الحاكمة الفاسدة والغادرة لكل طموحات وآمال الشعب العراقي في حياة حرة وكريمة ومستقبل أفضل، إنها الكتلة التاريخية الفعلية. فلنعمل يداً بيد ومع الجميع لصالح انتصار كامل للانتفاضة الشبابية المقدامة. لنشد على أيدي المنتفضين ونهنف معاً وسوية: النصر لنا نحن الشباب وليس للفاسدين والقتلة الطغاة!       
 

67
كاظم حبيب
حياء الإنسان قطرة وليس سلطة، فهل لحكام العراق من حياء؟
المثل العراقي الشعبي النابت يقول: إن الحياء ليس سوى قطرة وليس سطلة. والسؤال هنا، بعد كل ما حصل في العراق خلال شهر تشرين الثاني/أكتوبر 2019، دع عنكم كل الموبقات السابقة، هو: هل عادل عبد المهدي، الحاكم بأمره وأمر ولي الفقيه الإيراني، وبقية حكام العراق الحرامية والنخب المرتبطة بها وقادات الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة، تستحي من نفسها، من شعبها، من الرأي العام العالمي، من المجتمع الدولي، م إلهها الذي لا تؤمن به اقتراناً بسلوكها، إم إنها فقدت الحياء كله منذ أن بدأت مسيرتها الضالة في الحكم، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على نحو خاص، وواصلت نهبها المنظم لخيرات العراق وسرقة المال العام وسلب لقمة العيش من أفواه الأطفال واليتامى والأرامل وضحايا الحروب والعاطلين عن العمل، وانتهجت سياساتها القذرة التي اتسمت منذ اليوم الأول وحتى الآن بالتمييز الفجائعي بين المواطنات والمواطنين على أساس الهوية الدينية والطائفية والقومية والإقليمية والعشيرة ...الخ، ومارست الحكم الطائفي المحاصصي واستخدمت كل ما حرمته الديانات السماوية والشرائع الوضعية المحلية والدولية والتقاليد النبيلة والمشرفة لشعب العراق في ممارسة الحكم؟ الجواب وصل عبر المنتفضين في كل ساحات وشوارع العراق، في بغداد والبصرة والعشار وبابل وكربلاء والنجف والناصرية والسماوة والكوت وطويريج (الهندية) والديوانية و.. الخ، (باسم الدين باگونة الحرامية)، (بغداد حرة حرة، إيران برة برة)، (الشعب يريد إسقاط النظام).. الجواب للسؤال: لا حياء ولا حياة لمن تنادي! لا حياء ولا مستحى لدى حكام العراق!
لقد اعتاد حكام العراق الجدد ممارسة القاعدة المعروفة في النظام الفاشي الهتلري: "اكذبوا ثم اكذبوا ثم اكذبوا، لعل بعض أكاذيبكم تعلق بأذهان الناس!" وحين يكون رب البيت الحاكم كذاباً بامتياز، فشيمة بقية الأجهزة التابعة لهذا الحاكم هو الكذب. "إذا كان رب البيت بالدف ناقر فشيمة أهل البت كلهم الرقص!". هكذا برهن من جديد عادل عبد المهدي ومحافظ كربلاء على سبيل المثال لا الحصر، دع عنك بقية الموظفين الكبار من القوى المحسوبة مباشرة على الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة. فهذا المحافظ يكذب حين يدعي بأن المواطن المنتفض، الذي قتل في كربلاء برصاصتين واحدة في عينه اليمنى والأخرى في رأسه، قد قتل بسبب جناية وخارج المدينة، في حين إن قوى الأمن قتلته بهذه الطريقة الإجرامية بسبب مشاركته القوية في انتفاضة شبيبة كربلاء، وبهذا فالمحافظ لا يكذب فحسب، بل ويريد تشويه سمعة مناضل عنيد وبطل.
يعتقد عادل عبد المهدي أنه قادر على خداع الشبيبة العراقية المنتفضة، وعموم الشعب، المطالبة بالتغيير الجذري للنظام السياسي المحاصصي الفاسد والمقيت. فهو يتحاور مع مقتدى الصدر، الذي طالبه بالاستقالة: أنك تريدني أن أستقيل، إذن اتفق مع هادي العامري لتشكيل حكومة جديدة وسأستقيل مباشرة. أي أنه يريد أن يبقي تشكيل الحكومة في إطار المحاصصة الطائفية التي يرفض الشعب ذلك. ولكن ماذا كان جواب الصدر الذي سار على نفس النهج الطائفي حين أجابه: سأدعو العامري لتغيير الوزارة، أي أن تبقى الوزارة الجديدة في إطار لعبة المحاصصات الطائفية الفاسدة التي تم بموجبها اختيار عادل عبد المهدي لرئاسة الوزارة بين كتلتي "سائرون" و"الفتح"، والتي لم تكن تعبر عن إرادة ومصالح الشبيبة وعموم الشعب. ولهذا انتفض الشعب ليتخلص من هذه الحكومة ومن النظام السياسي الذي يقوم على أساس المحاصصة الطائفية السيئة الصيت والسلوك والسياسات والفساد السائد في البلاد كنظام متكامل ومتفاقم.
اختشوا (على حد قول المصريين) من ربكم إن كنتم لا تختشون يا حكام العراق من الشعب العراقي والرأي العام العالمي الذي يتابع مهازلكم اليومية وفي كل ساعة في وطن استبحتموه وسببتم سبيه واغتصاب الآلاف من نسائه الشريفات وبيعهن في "مزاد السبي الإسلامي!"، اتركوا العراق للعراقيات والعراقيين يا من بعتموه بأبخس الأثمان، اتركوا الوطن الذي أوصلتموه إلى مستنقع الرثاثة والعفونة.. اتركوا هذا الوطن الجميل الذي قبحتموه بأفعالكم الدنيئة.
يريد عادل عبد المهدي تحقيق الاتفاق فيما بينهم على تشكيل حكومة جديدة من الطراز الطائفي الفاسد نفسه، ويطلب من الكتلتين الكبيرتين "سائرون والفتح" الاتفاق فيما بينهما، وهما في مجلس نيابي لا يختلفان في النهب عن أكثر أعضاءه وعنكم، وفيهما من الفاسدين ما يكفي للاستمرار في المحاصصة والنهب. وهو ما يدركه الشعب جيداً ولن تمر عليه هذه اللعبة الجديدة. الشعب لا يأخذ موافقته في إسقاطكم من علي خامنئي (إيران)، كما يفعل برهم صالح وعادل عبد المهدي وهادي العامري وفالح الفياض وأبو مهدي المهندس وغيرهم، والذين لم يحصلوا حتى الآن على الموافقة، كما يبدو، بل قيل لهم ليبقى هذا "النكد" في الحكم حتى نجد من يمكن أن يخلفه ولا يختلف عنه. الشبيبة المقدامة أدركت من أنتم، وماذا يبقيكم، ومن يبقيكم، في السلطة، وهو يريد إسقاط كل أسباب بقاؤكم في السلطة ومن يريد ذلك بهدف وضع البلاد بأيدي شعبه وشبيبته المنتفضة التي تسعى اليوم لبلورة وتشكيل قيادتها الواعية والمدركة لما تريد وتسعى إليه بكل إصرار ومسؤولية. إن الشبيبة تناضل من أجل إقامة دولة حرة ديمقراطية، دولة لا يحكم فيها الدين والمذهب والطائفة والفساد، بل الشعب، وباسمه ستسقطكم الشبيبة أيها الحكام الذين تركتم الذمة والضمير خلفكم ووضعتم الدولار الأخضر قبلة لكم واحتميتم بالمنطقة الخضراء التي سوف لن تحميكم من غضب الشعب الذي تحمل الكثير ولم يعد قادراً على تحمل أكثر مما تحمل من أعباء تنهار تحت ثقلها الجبال!             

68
كاظم حبيب
المشاركة الكبيرة لأهالي محافظة النجف والكوفة في الانتفاضة الشبابية
 
لم تتخلف أي مدينة في جنوب ووسط العراق، ومنها العاصمة بغداد والأقضية التابعة لها، عن المشاركة الجادة والمسؤولة والفاعلة في الانتفاضة الشبابية والشعبية التي انطلقت في الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، التي ستبقى مستمر لتحقيق أهدافها المنشودة، والتي تركز على المطالب الوطنية والمهنية الكبيرة والتي تجسد الأوضاع المتردية والسيئة جداً التي أوصلته إليها النخب الحاكمة الطائفية والفاسدة بقيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الفاسدة التي ضربت وتخلت عن هوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية وأحلت محلها الهويات الفرعية القاتلة وأججت الصراعات الطائفية والقتل على الهوية لفترة طويلة وسمحت للإرهاب الدولي ان يغزو العراق من بوابات كثيرة، لاسيما بوابة الموصل، وما نجم عن ذلك من اجتياح وسبي واغتصاب ونزوح وتهجير وقتل وتعذيب. ومدينتا النجف والكوفة، تشاركان في الانتفاضة الشبابية من أوسع أبوابها. وإليكم التقرير المهم والوافي الذي وصلني من صديق فاضل ومواطن أمين على وطنه وشعبه ومشارك في هذه الانتفاضة الوطنية الرائعة.     
"في يوم ٢٥ أكتوبر الحالي بدأت المرحلة الجديدة من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية السلمية وفي مدينة النجف والتي توصف بأنها مركز التشيع في العالم وتحتضن المرجعيات الدينية...ففي مساء ٢٥ أكتوبر توافد عشرات الآلاف غرهم من الشباب إلى ساحة ثورة العشرين... وبدأت كراديس منها بالتوجه إلى المحافظة ومجلس المحافظة وقد قام المتظاهرون بإغلاق الباب الرئيس للمحافظة وإغلاق مجلسها غير الموقر ...وكتبوا لافته (مجلس المحافظة.. مغلق بأمر الشعب) ... وقد تفاعل قادة القوات الأمنية مع إرادة المتظاهرين.. ولم يحصل أي احتكاك مع المتظاهرين... وفي اليوم التالي استمرت التظاهرات وبكل سلميه... وفي اليوم الذي تلاه أي ٢٧ اكتوبر يوم الاحد دخل طلاب جامعة الكوفة وعدد كبير من طلاب المدارس الثانوية إلى المعترك الاحتجاجي الكبير ... حيث انطلق ألوف الطلبة من باب جامعة الكوفة والذي لا يبعد كثيرا عن ساحة الاعتصام ومن جنوب وشرق وغرب الساحة كان هنالك تناغم رائع مع الآلاف من طلاب المدارس وبعض الكليات الحكومية والاهلية والذين توافدوا وبتنسيق ممتاز إلى ساحة الاحتجاج والتي غصت بعشرات الآلاف من المتظاهرين.
وفي صوره لم يشهدها تاريخ النجف على الإطلاق...نصبت الخيم بالعشرات وكتبت الشعارات ومن أهمها (الشعب يريد ...اسقاط النظام ) و (إيران بره بره ... بغداد تبقى حره) ..وشلع قلع كلكم حراميه ...الشعب يريد تغيير الدستور ....ولا نريد دوله طائفية و(يا عمار يزباله يا قائد النشاله) وشعارات كثيره جدا ولافتات خطها بعض المحتجين على صدورهم...وما ميز هذه الاحتجاجات هو حضور نسائي كبير ...عززه طالبات كلية الصيدلة وهن يرتدين الصدريات البيضاء وزميلات لهن من طب الكوفة وكلية الهندسة وقانون الكوفة وكليات ومعاهد أخرى... وبعد أن انسحب بعض الطلبة مؤقتا...فأن الآلاف من الشباب من غير طلبة الجامعات ... من الموظفين وأصحاب المهن الحرة والعاطلين عن العمل توجهوا وبانسيابية كبيره ودخلوا ساحة الاعتصام المركزي في النجف...واليوم وخلال تواجدنا وبشكل شبه دائم...لاحظنا ما يسر الصديق ويغض اعداء العراق ...حيث العشرات من الخيم والتي تم نصبها بسرعه كبيره.. تقوم وعلى مدار الساعة بتوزيع المياه المعقمة الباردة ومختلف أنواع الاغذية من الوجبات السريعة.. وبكميات كبيره جدا ...ولوحظت دلال القهوة العربية تتوسط بعض الخيم التي نصبتها بعض العشائر. ولابد أن أشير الى ان هنالك نشاطات فنية ومسرحيات جميله واغاني وطنية تقام في ساحات الشرف تلك وغير ذلك، كما خصصت بعض الخيم للحلاقة المجانية وأخرى يتواجد فيها فنانون وخطاطون يرسمون الإعلام العراقية على وجوه وايادي بعض الشباب الراغبين بذلك، وقد لاحظت صفاً طويلاً من الشباب ينتظرون دورهم ولكي توصم وجوههم واياديهم بعلم العراق الجريح ...وبوصف بسيط دون تهويل او تزويق...فإن ساحة الاعتصام في النجف أصبحت ((مزارا للعوائل النجفية.. حيث يزورها المئات من تلك العوائل بنسائها واطفالها الحلوين حيث تزدان اياديهم ورؤوسهم بأعلام عراقية ذات احجام مختلفة...مزينين سياراتهم بعلم العراق الشامخ والتي يتركوها بمسافه بعيده عن ساحة الاعتصام وبسبب الأعداد الهائلة للمعتصمين والزائرين... اتمنى ان اكون قد قدمت وصفا بسيطا وواقعيا عن ثورة الأول من أكتوبر الشعبية العراقية 2019.
اما ما يخص توجهات الشباب المعتصمين... فإنهم يرفضون جميع الحلول الترقيعية ولا يقبلون الا بطرد ومحاكمة كامله لكل رموز النظام ...ونقرأ ومن خلال أحاديثهم الواقعية رفضهم لكل الأحزاب الدينية ويقولون بأنها سبب كل معاناتهم وآلامهم.. واخيرا فإن ساحات الاعتصام أصبحت مزاراً للأخيار." اكتفي بهذا القدر وواثق من أن هذه الانتفاضة الباسلة ستحقق المنشود والمطلوب منها لصالح دولة المواطنة الديمقراطية والحكم الديمقراطي والمجتمع المدني الحر، ويتخلص من الطائفيين والفاسدين والانتهازيين الذين أغرقوا البلاد بدم الشباب العراقي وبالجرحى والمعوقين. الذكر الطيب للشهداء والشفا العاجل للجرحى والمعوقين والنصر للشعب على النخبة الظالمة والمستبدة في العراق.



69
كاظم حبيب
من هم مثيرو الفتنة والشغب؟ من هم المتآمرون على انتفاضة الشبيبة؟
في مسرحية هزيلة وبائسة وقف إرهابيان دوليان هما قيس الخزعلي وهادي العامري يتحدثان عن الفتنة والمؤامرة ضد النظام السياسي الطائفي الفاسد والتابع لإيران، التي "يثيرها" المتظاهرون السلميون في العراق. إنهم يتحدثون عن مؤامرة تقودها إسرائيل والولايات المتحدة في العراق، كما يتحدث صنوهم في بيروت حسن نصر الله حين اتهم مظاهرات الشعب اللبناني بأنها مدفوعة الأجر من الخارج، ويقصد بالضبط إسرائيل والولايات المتحدة! وقف هذا المسخان يتحدثان عن المجاهدين الذين سقطوا في المظاهرات، في حين هم يعرفون إن المظاهرات السلمية والسلميين لم يتحرشوا بمقرات الأحزاب الإسلامية السياسية والميليشيات الطائفية المسلحة، بل المتآمرون على الانتفاضة الشعبية، الراغبون في تفتيتها بممارسة أعمال اشغب والفتنة وممارسة اشعار الحرائق لاتهام الانتفاضة بها! أنهم يريدون بذلك شن الهجوم على المظاهرات السلمية باعتبار المشاركين فيها "بعثيون وفوضويون وأعوان إسرائيل وأمريكا!!!"، إن هذه الجماعة الحاقدة والكراهة للانتفاضة وأهدافها النبيلة تحاول القيام بكل دنيء وخسيس لمواجهة مظاهرات الشبيبة المقدامة، إن من أحرق تلك المقرات في بعض دول الجنوب هم المرتزقة الذين أرسلتهم الميليشيات الطافية المسلحة، مرتزقة إيران وقاسم سليماني ومن لف لفهما، ويفترض على من يسعى لمعرفة الحقيقة أن يتحرى في هذه الأوساط عن المجرمين، وليس في صفوف المتظاهرين السلميين الذين أعلنوا منذ اليوم الأول، في الأول من تشين الأول وفي الخامس والعشرين من تشرين الأول، أنهم سلميون لا يريدون اعتداء على أحد، ولا الاعتداء على مؤسسات الدولة والملكية الخاصة وبيوت الناس والأشخاص. إن من يحاول التحري عن المجرمين في صفوف المتظاهرين السلميين، كمن يريد حقاً الاصطفاف مع أعداء الشعب لتخريب الانتفاضة وقمعها بكل السبل الدنيئة وغير المشروعة. على الحكومة الجائرة أن تتحري عن المجرمين الذين أشعلوا الحرائق في صفوف الحرس الثوري الإيراني بالتنسيق مع الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة التابعة لإيران ايضاً التي لا تتوورع عن استخدام كل الأساليب لتبرير قمع المظاهرات! إنه نفس الأسلوب الذي تمارسه الدكتاتوريات والقوى الفاشية، إسلامية الاسم أو غيره، التي تحمل السلاح غير المجاز وخارج القانون وتمارس الإرهاب جنباً إلى جنب مع إرهاب الدولة والحكم الطائفي الفاسد.
المتظاهرون السلميون لا يقتلون أحدا، المتظاهرون السلميون لا يدمرون البنايات الحكومية، وهي أملاك الشعب، ولا يعتدون على دور الناس ومؤسسات القطاع العام والخاص، بل الذين يمارسون ذلك هم المعادون للمظاهرات السلمية، والمنافقون الأوباش هم الذين يمارسون الفوضى والتخريب العمد.
إن المسرحي المسخ والفاشل قيس الخزعلي يقبل رأس امرأة قتل ابنها، وهي تصرخ مستغيثة، ويحتضنها وكأنه حاميها ويدافع عنها ويطالب بالثأر، بدم القتيل عنها. ولكن عليه أن يفتش عن القتلة في صفوف تنظيمه الميليشياوي الطائفي "عصائب الحق الفاشية، وميليشيات منظمة بدر التي شكلت في طهران أصلاً وبقيادة قاسم سليماني، وميليشيات الخراساني وحزب الله التي أسسهما الحرس اثوري الإيراني.. وغيرها، هذه التنظيمات الفاسدة والمسلحة من مخازن أسلحة الدولة العراقية ودولة إيران الطائفية، والمزودة بأموال السحت الحرام، أموال الشعب المجباة بطرق شتى غير مشروعة والفضائيين المسجلين في قوائم زائفة، وكذلك من الأموال التي تدفع للحشد اللاشعبي، وما يصل إليها من تمويل إيراني مباشر. لم يعد الشعب يثق بكم، لقد تعريتم أمام الشبيبة العراقية المنتفضة والمقدامة، لم يعد يصدق أكاذيبكم وتدينكم المزيف وعمائمكم التي تحتها يكمن ألف إبليس وإبليس إلا الناس غير المتنورين والمتأثرين بدعاياتكم المزيفة. مسرحيتكم في إحدى الساحات ببغداد وحولكم مرتزقتكم والمغشوشين بكم ومن أتباع ولي الفقيه الإيراني لن تمرَّ إلا على الذين ما يزال الجهل بكم يلفهم، لن يصدقها الشعب الذي تتفتح عيونه يوماً بعد آخر. كم أنتم سادرون في غيكم وظلمكم وتجبركم وقسوتكم السادية في التعامل مع المعتقلين خارج القانون، كم أنتم مناهضون لهذا الشعب الأبي وحقوقه المشروعة والعادلة، كم أنتم حاقدون على أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، بل حتى على أتباع المذهب الشيعي الذين لا يتبعونكم ويعرفون نهجكم العدواني. أنتم لا تختلفون عن داعش والقاعدة وغيرها من التنظيمات العدوانية بشيء، إلا ادعاءكم التشيع، وهو تشيع صفوي، باطل ومشوه وحاقد. لقد سيطرتم حتى على الحكومة ورئيسها ورئيس مجلس النواب وهيمنتم على قراراتهما وسيرتموهما كما يشاء علي خامنئي ووكيله في العراق قاسم سليماني.
أتمنى أن يتسارع التنوير الشبابي ليصل إلى كل الشعب، إلى الفئات الكادحة والمؤمنة، إلى النساء والرجال في كل أنحاء العراق، ليدركوا جميعاً عمق المستنقع الذي دفعوا العراق إليه، والنفق المظلم الذي أدخلوه فيه. إن انتفاضة الشبيبة هي المفتاح والخطوة الأولى على طريق الخلاص من هذا المستنقع الطائفي الفاسد والخروج إلى نور الحرية والحياة الديمقراطية والحرص على إرادة الشعب وطموحاته ومصالحه الأساسية.
على الشبيبة العراقية أن تحافظ على سلمية التظاهرات ألَّا تنجر للعنف وأن ترفضه بقوة، وأن تفضح العناصر التابعة للميليشيات الطائفية المسلحة والحرس الثوري والحشد الشعبي التي تمارس العنف، كالقتل وإشعال الحرائق والعربدة، إن انتصاركم يا شبيبة العراق يرتبط بمدى قدرتكم على إبعاد الصيادين المرتزقة بالماء العكر والانتهازيين وعملاء إيران. إن المتآمرين من النخب الحاكمة التي تعمل من وراء ستار يخططون وينظمون وينفذون عمليات إرهابية واغتيالات وحرائق وإجراءات من شأنها إشاعة العنف في الشارع العراقي لقمع الانتفاضة الشبابية الرائعة. أن العدل والشرعية مع الشبيبة العراقية وستنتصر على النخب السياسية الطائفية الحاكمة والفاسدة والتابعة.     

     


70
كاظم حبيب
الخزي والعار لحكومة تقتل شعبها!
الخزي والعار لمجلس نواب طائفي وفاسد وقضاء مُسيَّس!
ومن جديد يسقط أكثر من 40 شهيداً وأكثر من 2000 جريحاً ومعوقاً على أيدي أجهزة الأمن والشرطة والمليشيات الطائفية المسلحة والمثلمين القادمين من وراء الحدود، من جديد تستخدم القوى المناهضة للمتظاهرين المطالبين بالتغيير والرافضين لما يسمى بـ"العملية السياسية" المشوهة الجارية، الرفضين للنظام الطائفي المحاصصي الفاسد، الرفضين للفاسدين في السلطات الثلاث والإعلام الحكومي والأحزاب السياسية الحاكمة، الرافضين لنهب خيرات وموارد الشعب، والرافضين لكل تبعية للخارج، القمع الوحشي الهمجي، كما تدعي عجزها عن إيقاف من تطلق عليهم بالملثمين والقناصين القتلة، وتتجنب بإصرار وقح الكشف عن هوية هؤلاء القتلة الأوباش. (تقرير اللجنة الحكومة عن قمع التظاهرات في ت1/أكتوبر 2019).
لقد سجل متظاهرو الوسط والجنوب وبغداد المزيد من الحيوية والإقدام والسلمية في مظاهراتهم ولم يتعرضوا بالإساءة لقوى الأمن والشرطة، في وقت أجج من هم قريبون من مواقع الحكومة والأحزاب الحاكمة وأشاعوا الفوضى والحرائق في بعض المدن العراقية التي أدت بدورها إلى استشهاد مجموعة من المتظاهرين واحتراقهم بالنيران المشتعلة، ليساعدوا في فرض حالة لطوارئ بمنع التجول ليحرموا المتظاهرين من التظاهر وإعلان موقفهم من الحكم القائم. إنها سياسة معروفة تمارسها القوى الفاشية والعدوانية التي تحاول الإساءة لطبيعة المظاهرات السلمية ومطالبها المشروعة والعادلة.
إن العيب في العراق ليس في حكومة عادل عبد المهدي السيئة والفاسدة فحسب، بل في كل النظام السياسي الطائفي والفاسد والمشوه الذي خرب العراق ودمر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية بسياسات وثقافة قوى الحكم المناهضة لحقوق الشعب وحريته وحياته الديمقراطية وكرامته، والتي تسببت في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي الرث الذي تعيش فيه وتحت وطأته الملايين من أبناء وبنات العراق النشامى. إن هذه النخب السيئة الفاسدة التي تعيش في جحورها في المنطقة الخضراء تخشى الشعب وتخشى دخوله إلى جحورهم لإخراجهم منها لمواجهة الشعب الباسل الذي يتحدى رصاصهم الحي والميليشيات المسلحة و"الحشد" الثوري الإيراني وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع. لقد سقط شهيدان والكثير من الجرحى عند جسر الجمهورية على أيدي قوات الأمن بسبب رغبة المتظاهرين الوصول إلى المنطقة الخضراء التي يعشش فيها الفساد والفاسدين والطائفيين، وغالبيتهم من المعادين لمصالح الشعب والوطن، وفي مقدمتهم نوري المالكي والجعفري ورهطهم. يا حكام العراق تذكروا مصائر من سبقوكم في الحكم من العتاة أمثالكم، تذكروا استبداد وظلم عبد السلام محمد عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين وطغمهم، تذكروا مصائر كل طغاة العالم إلى أين انتهوا، تذكروا إن الشعب يمهل ولا يهمل! فهل ستعن هذه الحقيقة؟
ها هو الشعب يتفجر غضباً لأنكم أذلتموه، لأنكم دستم على كرامته بنهب العراق وتسليمه لقمة سائغة لكل من هبَّ ودبَّ من القوى الأجنبية، سواء أكانت دولة إيران الطائفية والمستبدة الفاسدة، التي ترسل عملاءها إلى كل الدول العربية ودول ذات الأكثرية المسلمة لتخرب وتجهض الحركات الثورية والديمقراطية بذريعة نشر المذهب الشيعي، أم أمريكا ترامب، هذا السمسار الدولي الفاسد، هذا الذي صرخ بعنجيهة "أمريكا أولاً"، ولم يعنِ سوى "ترامب أولاً".
لقد نسيتم القاعدة التي تقول "الدم ينزف دماً"، لقد تجاوزتم بإصرار شرس على كل المحاذير الدستورية بفظاظة مريعة، وعلى كل الشرائع الدولية وحقوق الإنسان، وتنكرتم للشعب، الذي نشأتم فيه، ولكنكم اغتربتم عنه كلية وتبنيتم هوية "ولاية الفقيه" الاستبدادية والسيئة الصيت والسلوك إزاء الحريات الفردية والعامة ومصالح الشعب والوطن، التي لا يهمها سوى مصلحة الفئة الحاكمة واستمرار حكمها وهيمنتها على القرار السياسي بفتاوي جاهلة، مريضة ومدمرة.
لقد هتف المتظاهرين ووصلت أصواتهم إلى عنان السماء: ارحلوا..، ثم ارحلوا..، ثم ارحلوا أيها الكذابون المزيفون والمشوهون الذين حكمتم العراق أكثر من 16 عاماً مليئة بالبؤس والرثاثة والطائفية المحاصصية المقيتة والفساد العام، مليئة بالموت والدمار والسبي والاغتصاب والتهجير وملاحقة أصحاب الفكر والرأي الآخر.. لقد عبثتم في العراق بؤساً وفساداً وخراباً فأرحلوا عن هذا البد الأمين والشعب المستباح بكم وبمن معكم من دول الجوار، ارحلوا عن عراق السلام والمحبة والتضامن، ارحلوا أنتم وسلطاتكم الثلاث، ابتداءً من الحكومة المستبدة والمجلس النيابي الطائفي المزيف، والذي اشترى رئيسه وأغلب النواب مقاعدهم بالمال الحرام، والقضاء المسيس الذي لم يلتزم بأسس القضاء العادل وأساء للشعب والوطن. ارحلوا ودعوا الشعب يحكم نفسه بقواه الأمينة عليه وعلى طموحاته ومصالحه.. ارحلوا أيها الفاسدون العتاة.. واتركوا العراق بأمن وسلام... سلام الأمن والمحبة على المتظاهرين الأشاوس الذين صمموا الدفاع عن شعبهم ووطنهم ضد المعتدين المحليين والأجانب، إن الشبيبة تناضل من أجل "استعادة وطن" سلب وشعب استبيح عيشه وكرامته!!
لتبقى مظاهرات الشبيبة المقدامة والشعب العراقي سلمية وديمقراطية ترفض العنف وتشجب إرهاب الدولة والميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي وبقية ذيول إيران في العراق.   

71
كاظم حبيب
المتهم والمحقق واحد، فما الذي ينتظره الشعب؟
طالبت غالبية الشعب العراقي بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة ومهنية للتحقيق بعن من أعطى الأوامر باستخدام العنف المفرط والرصاص الحي والمطاطي وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع وأساليب أخرى في القتل والاعتقال والتعذيب خلال المظاهرات التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 لقمع الجماهير المحتجة على أوضاعها المزرية. وقد أدى ذلك العنف الدموي إلى استشهاد جمهرة مقدامة من شبيبة العراق قدرت بالمئات وجرح وتعويق الالاف في مختلف مدن الوسط والجنوب. فماذا فعل رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة العراقية؟ لقد أصدر عادل عبد المهدي بصفتيه قراراً شكل بموجبه لجنة تحقيق وزارية يرأسها وزير التخطيط وعضوية وزير الدفاع ووزير الداخلية والعديد من الموظفين الكبار في القوات المسلحة وأجهزة الأمن والمخابرات وآخرين من نفس النخبة الحاكمة. ومثل هذا القرار يعبر بما لا يقبل الشك عن:
1.   نية بميتة في توجيه التحقيق الوجهة التي تبعد الاتهامات الموجهة لرئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزيري الدفاع والداخلية أولاً وقبل كل شيء.
2.   استهانة رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة بمطلب الشعب بتشكيل لجنة مهنية مستقلة للتحقيق بمجريات قمع المظاهرات ومن شارك في قمعها.
3.   استهانة رئيس الوزراء بقدرة الشعب العراقي على إدراك اللعبة التي مارسها في تشكيل لجنة تحقيق غر مستقلة وبعيداً عن الحيادية ومن أعضاء مجلس الوزراء وهيئات عسكرية ومدنية ساهمت في إصدار الأوامر لقمع المظاهرات بالوحشية الدموية ومارستها فعلاً.
4.   إن الجهات التي شاركت في التحقيق والذي صدر قرار تشكيل اللجنة متهمون أصلاً بإصدار التعليمات باستخدام هذه الأجهزة للعنف المفرط واستخدام السلاح في فظ مرعب للمظاهرات الشبابية السلمية. 
5.   وهذا يعني بأن رئيس الوزراء بعيدٌ كل البعد عن مطلب الجماهير الشعبية بمعاقبة كل المسؤولين الكبار عن القتل العمد والفاسدين والمسؤولين عن تلك الجرائم التي ارتكبت أثناء فظ المظاهرات.
6.   وبالتالي فهو مصر على البقاء على رأس سلطة طائفية فاسدة ومناهضة لمصالح الشعب ومطالب المتظاهرين برغم المطالبة المتعاظمة باستقالته واستقالة حكومته التي أخلت بالأمانة التي أقسموا جميعاً بالحفاظ عليها وتنفيذها وفي المقدمة منها الخلاص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة وتقديم الفاسدين الكبار إلى القضاء العراقي.
7.   كما برهن القضاء العراقي والادعاء العام، ومن جديد، على أنه مسيس 100 بالمئة ولصالح النخب الإسلامية السياسية الطائفية الحاكمة وضد الشه=عب مباشرة، وأعاد إلى الأذهان دور المحكمة الاتحادية المخل بالدستور في التفسير المشوه للدستور وتكليف المستبد بأمره نوري المالكي في تشكيل الوزارة عام 2010 والتي أدت إلى كوارث ومآسي لا مثيل لها لعموم الشعب وبشكل أخص ببنات وأبناء غرب العراق ونينوى.
فماذا كانت حصيلة التقرير الذي أنجزته اللجنة الوزارية؟
أ‌.   لقد جاء التقرير النهائي معبراً عن إرادة ورغبة ومصلحة رئيس الوزراء والوزراء المسؤولين عن القوات المسلحة (الدفاع والداخلية) بتبرأتهم من إصدار قرار استخدام العنف في قمع المظاهرات، أي بعيداً عن إدانة كبار المسؤولين في مجلس الوزراء، لاسيما رئيس الوزراء ووزيري الداخلية والدفاع، إذ وجهت التوصيات الاتهامات والعقوبات لمجموعة من أولئك الذين نفذوا قرار قمع المظاهرات، وليس كلهم.
ب‌.   كما ابتعد كلية عن الإشارة إلى الدور الذي لعبته قوى الحشد الشعبي والمليشيات الطائفية المسلحة، رغم الدور المعروف الذي مارسته هذه القوى المؤتمرة بأوامر ولي الفقيه الإيراني وقاسم سليماني، إذ إن ولاءها لإيران وليس للعراق، أثناء المظاهرات وما بعدها في القنص والقتل والاعتقال والتعذيب والتغييب الشرس للمناضلين المدنيين، ومنهم من لا يزال في المعتقل، كما في حالة الدكتور ميثم الحلو. ولم يشر إلى أسماء الجهات التي كانت تمارس القنص!!
ت‌.   إن التقرير يشير إلى ضعف إدارة المسؤولين في التعامل مع المتظاهرين وعدم قدرتهم على الضبط والسيطرة. ولكن السؤال العادل هل المشكلة في ضعف المسؤولين فقط، أم مسؤوليتهم الفعلية ورغبتهم الجامحة في قمع المتظاهرين بالحزم والشدة، أي بالعنف والرصاص الحي والمطاطي وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، أياً كان الثمن؟
ث‌.   من هنا يمكن تأكيد حقيقة أن التقرير قد ابتعد كلية وبقصد مسبق عن تسجيل الحقائق والوقائع في مجرى المظاهرات وقتل شبيبة العراق في جميع مدن الوسط والجنوب. إنه تقرير مشوّه وزائف ومُسيس في غير صالح الشعب العراقي والمتظاهرين وضحايا إرهاب الدولة. 
وتعبر الحكمة العراقية الآتية عن هذا التقرير المُرّ والمعبر عن نصف الحقائق والمشوه لوقائع أخرى: "حَدّث العاقل بما لا يعقل فأن صدقك فلا عقل له"! إنه تقرير هزيل وبائس ومضلل ومشوه للوقائع!
إن من واجب المجتمع العراقي والمنظمات المدنية والأحزاب الديمقراطية أن ترفض هذا التقرير النهائي وتدين ابتعاده كلية عن إدانة المسؤولين الأساسيين والرئيسيين الذين أصدروا قرار قمع المظاهرات وقتل وجرج وتعويق المتظاهرين، إنها مسؤولية سياسية ومعنوية أو أدبية أن يعترف رئيس الوزراء بمسؤوليته السياسية الكاملة عما جرى وليس يختبئ كالفأر الهارب من القط في زاوية مظلمة. إن من واجب المجتمع والمتظاهرين والقوى الديمقراطية والمستقلة، الراغبة والمناضلة من أجل التغيير الجذري للنظام الطائفي الفاسد، زيادة المطالب بمطلب جديد في مظاهرات 25/10/2019 القادمة ورفع شعار يدعو إلى تشكيل لجنة دولية للتحقيق في دور المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في العراق خلال مظاهرات أوائل أكتوبر الجاري، وفي المقدمة منها مسؤول السلطة التنفيذية والقائد العام للقوات المسلحة، عادل عبد المهدي. كما من واجب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والهيئات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان أن تساند الشعب العراقي وتطالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية مهنية عالية المستوى، وتحقيق المطالب الأساسية التي تظاهر من أجلها شبيبة العراق والتي تتلخص بتحقيق تغيير الحكم الطائفي الفاسد وإقامة دولة وسلطات حرة وديمقراطية ونزيهة وحياة مدنية ديمقراطية في العراق.
لقد كان من واجب القضاء العراقي والادعاء العام، إن لم يكونا مسيسين لصالح الدولة الطائفية الفاسدة والحكم الطائفي الفاسد، أن يبادرا إلى العمل للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت أثناء المظاهرات. ولكن سكوتهم المشبوه يؤكد ما أشرنا إليه دوماً بأن هذا القضاء ومنذ البدء كان طائفياً ومسيساً في صالح الجعفري والمالكي على نحو خاص وحتى الآن.   
لتكن مظاهرات يوم الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 مجسدة لإرادة الشعب العراقي وطموحاته ومصالحه المستباحة من الطغمة الحاكمة الذليلة والخانعة والمنفذة لأوامر ولي الفقيه الإيراني ومن يمثله في العراق! لتشترك جموع الشعب تحت ذات الأهداف التي رفعها المتظاهرون في أوائل تشرين الثاني/أكتوبر وبعيداً عن تدخلات من لا يريد التغيير والخير لهذا الشعب الكريم ومن يبدي الاستعداد الكامل للمساومة على حساب الشعب وإرادته ومصالحه.         

72
كاظم حبيب
التآمر التركي - الأمريكي ضد الكُرد ووحدة سوريا
إن التصريحات المتلاحقة للرئيس التركي العنصري بامتياز تلتقي بالتوافق والتنسيق مع التصريحات اليومية الشرسة والعدائية للرئيس الأمريكي، سمسار النفط والسلاح والحروب الإقليمية وموت الأبرياء من سكان المنطقة لاسيما الكرد، تؤكد بأنهما قد اشتركا في صفقة سياسية – عسكرية قذرة تستهدف تصفية الحركة الكردية المسلحة وحقوق الكرد في سوريا وإجراء تغيير ديمغرافي (سكاني) في المنطقة الكردية في سوريا لصالح المتعاونين من المسلحين السوريين في تركيا: وكل اللاجئين في تركيا هم من العرب السوريين لإسكانهم فيما يسمى بالمنطقة الآمنة التي تمتد على طول الحدود السورية التركية وصولاً إلى الحدود العراقية على الفرات. والدكتاتور التركي يريد الدخول في العمق السوري قرابة 40 كيلومتر وعلى امتداد 120 كيلومتر كمرحلة أولى و444 كيلومتر كمرحلة ثانية. أي جريمة أخرى إضافية غير جريمة قتل المسلحين الكرد بدم بارد التي عبر عنها الرئيس التركي بقوله سأسحق رؤوس الكرد إن لم ينسحبوا من المنطقة التي هي أرضهم، أرض الدولة السورية. أنه تدخل سياسي وعسكري فظ يرتكبه الرئيسان ترامب وأردوغان في تلك المساومة الجبانة وضد كل القوانين واللوائح الدولية، وكأن الأرض السورية ملكهم يتصرفون بها كما يشاؤون ويقتطعون منها ما يشاؤون.
إن سياسة أردوغان التوسعية على الأراضي التابعة لسوريا ووجوده العسكري في كردستان وشمال العراق تعتبر مخالفة صريحة وتجاوزاً فظاً على لوائح الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وحقوق الإنسان والشرعية الدولية ومحاولة جادة لإجراء تغيير ديمغرافي محرم دولياً ضد السكان الكرد الذين يعيشون منذ قرون في هذه المنطقة من سوريا.
إن النهج السياسي الذي يمارسه أردوغان يعتبر بمثابة امتداد سافل لفكر وسياسات الدولة العثمانية الاستعمارية والعنصرية التي مارستها إزاء المسيحيين الكلدان أولاً، ومن ثم إزاء الأرمن، حيث مارسوا الإبادة الجماعية بحقهم وقتلوا ما يزيد عن مليون أرمني وأرمنية، بين طفل وشيخ وامرأة وشاب ومن كل الأعمار، ومن ثم ممارساتهم ضد الكرد والإيزيديين التي ماتزال تشكل كلها عاراً في جبين الدولة العثمانية والدولة التركية الحديثة. وها هو أردوغان يمارس سياسة الإبادة الجماعية ضد كرد سوريا لا في تصريحاته المتوحشة فحسب، بل وفي سلوكه السياسي الممعن بالكراهية والحقد العنصريين.   
إن الحرب التي يخوضها أردوغان لن تجلب لتركيا والشعب التركي السلام والأمن والاستقرار، بل ستزيد من الصراعات والنزاعات السياسية والعسكرية وستقود بدورها إلى مزيد من سباق التسلح والموت لمزيد من البشر، إضافة إلى تدهور في الاقتصاد التركي وتفاقم نسبة الفقراء والمعوزين وتعطل عملية التنمية في تركيا، التي بدأت تعاني فعلاً من أزمة اقتصادية واجتماعية عاتية.
لقد ابتلي الشرق الأوسط بمستبدين عنصريين يتسمان بمواصفات متقاربة إن لم تكن متماثلة، والفارق هو أحدهما في تركيا والثاني في الولايات المتحدة التي لا تسمح لترامب أن يمارس سياسات تلتقي بشكل كامل مع سياسات الدكتاتور التركي، الذي يفكر بإعادة تركيا إلى العهد العثماني، في حين يبشر ترامب بشعار "أمريكا أولاً"، التي لا تعني سوى الهيمنة السياسية والاقتصادية على العالم وتسخير كل شي لصالح الولايات المتحدة. إلا إن سياسات ترامب العدوانية لن يكتب لها النجاح، كما لن يستطيع الدكتاتور التركي العنصري تحقيق كل ما يسعى إليه في سوريا أو في عموم المنطقة، بعد أن تشكلت أقطاب دولية جديدة.
إن المستفيدين الكبيرين من الصراعات الجارية في المنطقة في الوقت الحاضر هما روسيا وإيران، في حين سيبقى الدكتاتور بشار الأسد حبيس إرادة هاتين الدولتين وسياستيهما، رغم استفادته من السياسة التركية في إضعاف مطالب الكرد بحقوقهم، ومنها الإدارة الذاتية لمناطق سكناهم في إطار الدولة السورية وإضعاف الحياة الديمقراطية في البلاد. في حين إن الخاسر الأكبر هو الشعب السوري عموماً والكرد السوريين خصوصاً والأمن والسلام في المنطقة، كما إنه إضعاف حقيقي لدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في معالجة القضايا والنزاعات الإقليمية بالطرق السلمية التفاوضية.
إن سحب القوات الأمريكية من منطقة الصراع التركي-السوري يعتبر خيانة للعهد والوعد الذي قطعه ترامب على نفسه وعلى الولايات المتحدة حين تحالف مع كرد سوريا لمواجهة عصابات داعش الإرهابية في المنطقة، حيث ترك الكرد وحدهم يواجهون الدولة التركية المدججة بالسلاح الحديث، الذي يَرد إليها من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا وغيرها، في حين لا يملك الكرد سوى أسلحة محدودة وقدرات ضعيفة، ما عدا إيمانهم بالقضية التي يناضلون من أجلها وشجاعتهم في مواجهة العدو التركي وعصاباته السورية الخاضعة لإرادة الدكتاتور أردوغان.
إن أردوغان الموجود حالياً في روسيا يسعى لمساومتها في الحصول على موافقة بوتين في إبعاد الكرد عن مناطقهم وإحلال العرب محلهم وتحت الحماية التركية بأمل ألّا يصطدم بالقوات الروسية أم القوات الحكومية السورية. وهي مساومة يمكن أن تحصل، وهي في كل الأحوال ليست في صالح الشعب السوري بكل قومياته، ومنهم الكرد السوريين، إذ يبدو إن روسيا مستعدة لمثل هذه المساومة تحت غطاء "الحفاظ على وحدة سوريا" أولاً، والنجاح في خروج القوات الأمريكية من سوريا ثانياً، وحلول روسيا مكانها ثالثا، التي لا تختلف في أهدافها الاستعمارية الحديثة عن كل الدول الاستعمارية الأخرى، وهي التي كانت تطمح لمثل هذا الوجود السياسي والعسكري في المنطقة. ومن هنا، وليس حباً في عيون الشعب السوري، يحتج الكونغرس الأمريكي ضد انسحاب القوات الأمريكية من سوريا. لقد اكتفى ترامب بوجود قوات رمزية له في المناطق النفطية من سوريا والتي بدأ، كما يبدو، باستخراج النفط منها لصالحه، وأدعى أنه سيعطي أموالاً للكرد السوريين من بيع النفط السوري، وكأنه يحاول بذلك التغطية على خيانته الكبيرة لهم، والتي ستترك أثاراً إضافية كبيرة على فقدان الثقة بالولايات المتحدة ووعودها لدى شعوب دول المنطقة! إن ترامب سمسار دولي سيء السياسة والخلق. ففي الوقت الذي سحب القوات الأمريكية من سوريا بذريعة أنه لا زجهم في القتال ولا التضحية بهم، أرسل المزيد من القوات الأمريكية إلى المملكة السعودية للدفاع عنها، لأن قادتها يدفعون المزيد من أموال الشعب العربي لتغطي تكاليف وجود هذه القوات، بل ويدفعون أكثر!!               
أما الجامعة العربية، الجامعة التي لم تلّم الدول العربية، اكتفت بإصدار بيان بائس يدين التدخل العسكري التركي في سوريا، وكفى الله المؤمنين شر القتال! كم كان المنولوجست عزيز على مصيباً حين غنى:
"والطُمَع عَامي بَصيرتْنا.... والزَعَامَه كَاتْلَتْنا
وْالَاجْنَبِي قَالِقْ راحَتْنا....تْفَرَّجُوا شُوفُوا حَالَتْنا
والعَتَب على جَامِعَتْنا
جَامِعَتْنا الْمَا لمَّتْنا" 
22/10/2019   

73
وفاة الصحفي الكبير والإنسان النبيل والمناضل الجسور، وفاة عدنان حسين   

وفاة الصحفي الكبير والإنسان النبيل والمناضل الجسور، وفاة عدنان حسين
لقد حمل الأصدقاء في لندن الخبر الحزين والأليم، نبأ وفاة الصديق العزيز الكاتب والصحفي والمفكر العقلاني الشجاع عدنان حسين (ابو فرح)، بعد ان عانى الكثير من مرض السرطان. لقد كان الفقيد نموذجا رائعاً ومقداماً للصحفي الملتزم بمبادئ الحرية والديمقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية والروح الأممية ازاء مصائر الشعوب الأخرى. لقد جند عدنان قلمه الشجاع ضد العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية وضد التمييز ازاء المرأة ومصادرة حريتها وحقوقها والإساءة لكرامتها، وضد السياسات الطائفية ومحاصصاتها المذلة للشعب وضد الفساد والفاسدين كمؤسسات وأحزاب وشخصيات وضد البطالة والفقر وحرمان العائلات الفقيرة وتهميشها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، من اجل التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية ووضع موارد البلاد الأولية في خدمة التقدم الاقتصادي والاجتماعي وضد سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة التي لم تفرط بموارد البلاد الأولية وتجييرها لصالحها والفاسدين فحسب، بل ونهبت خزينة الدولة والمليارات التي حصل عليها العراق من إيرادات تسويق نفطه الخام. لقد وقف الفقيد ضد الحروب والعدوان والاحتلال بكل أشكاله وضد عسكرة البلاد وضد الوجود الأجنبي أياً كان، وناهض وجود ونشاط المليشيات الطائفية المسلحة، وضد وجود دولة عميقة داخل الدولة، وجيش عميق داخل القوات المسلحة العراقية. لقد ناضل الفقيد الغالي ضد سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في العراق والشرق الأوسط، كما ناضل ضد وجود إيران العسكري والسياسي لإيران، وتدخلها السافر في شؤون العراق الداخلية والتحكم بسياسات البلاد من خلال حكام فاسدين وخانعين للأجنبي الإيراني. لم يتوقف المناضل عدنان حسين ولو للحظة واحدة عن الكتابة، وحين أراد حرية أكبر في الكتابة والنشر عمد الى النشر في صحافة أخرى خارج العراق ليضع النقاط على الحروف ويوضح المخفي من سياسات النظام السياسي الطائفي الفاسد في العراق. لقد خسر الشعب العراقي قلماً حرا لا يساوم ولا يتصالح مع سارقي قوت الشعب ولا يتوانى عن فضح وقائع إرهاب الدولة وفسادها أينما وحيثما حصلت. لقد كان أميناً لمبادئه الإنسانية ولم يرحم نفسه حتى في فترة مرضه الأولى، اذ واصل الكتابة الحرة والمحبة للشعب العراقي والكارهة لكل أعداء الشعب والفاسدين الطائفين من الحكام وغيرهم.
العزاء والمواساة القلبية لعائلة الفقيد، لزوجته الفاضلة والعزيزة أم فرح وابنته فرح ولكل أفراد العائلة الأخرين، العزاء لحزبه الشيوعي العراقي ورفاق وأصدقاء ومحبي الفقيد، العزاء للشعب العراقي بفقدان هذا القلم الحر والشجاع المدافع عن إرادة الشعب وحريته ومصالحه وضد استغلاله، عن استقلاله وسيادته الوطنية، والذكر الطيب دوماً لعزيزنا الرائع الفقيد عدنان حسين.

74
كاظم حبيب
السلطان العثماني الدكتاتور والجلاد يجتاح سوريا
بالضد من اللوائح والمواثيق والعهود الدولية، بالضد من إرادة شعوب العالم واحتجاجها الشديد، بالضد من مواقف وإرادة المجتمع الدولي وتنديها، بالضد من مصالح وسلام منطقة الشرق الأوسط وشعوبها، أقدم الدكتاتور العثماني الجلاد رجب طيب أردوغان على إرسال قواته المسلحة وبالتعاون مع جميع الميليشيات التكفيرية المسلحة التباعة لتنظيمي  القاعدة وداعش بمسميات مختلفة، والميليشيات السورية المسلحة العميلة للدولة التركية وصنيعة أردوغان، لاجتياح وغزو المناطق الكردية الشمالية من أراضي الدولة السورية وتهجير جماعي لسكانها وقتل الكثير منهم واحتلالها وفرض الأمر الواقع.
لم تتم هذه العملة الجبانة من جانب الدكتاتور أردوغان لولا خيانة الولايات المتحدة الأمريكية لوعودها وتعهداتها بالدفاع عن الكرد في سوريا، في هذه المنطقة الحدودية الحساسة بين الدول الثلاث المتجاورة تركيا والعراق وسوريا، وتخليه وسحب القوات الأمريكية على وفق مساومة قذرة بين أردوغان ودونالد ترامپ التي لم تفاجئ العالم لمعرفتهم الدقيقة بهذه الشخصية الكاركاتيرية التجارية التي أشاعت الفوضى في منطقة الشرق الأوسط والعالم والذي لا يفكر بمصالح الشعوب بل بكمية النقود التي تدخل جيبه أولاً، والخزينة الأمريكية ثانياً.
والغريب بالأمر أن تهديدات ترامب وعنجهيته لأردوغان ذهبت ادراج الرياح، بل وأكثر من ذلك صرح وزير خارجيته بومبيو، بأن من حق تركيا ضمن أمنها وحدودها، بهذه الخسة والدناءة يتركون حليفهم في الحرب ضد داعش، فهل حقاً تحارب الولايات المتحدة داعش، أم إنها البعبع الذي تخيف به شعوب الدول العربية وذات الأكثرية المسلمة!   
إن من مهازل القدر أن يتعرض شعب مثل الشعب الكردي في القرن الحادي والعشرين، وقوامه يزيد على 40 مليون نسمة، إلى مثل هذه المجازر البشرية على ايدي حكام الدول الأربعة، تركيا وإيران والعراق وسوريا، التي توزعت عليها شعوب الأمة الكردية وبالتناوب، فمرة على أيدي حكام إيران، وأخرى على أيد حكام تركيا، ثم حكام العراق لاسيما صدام حسين بعملياته الأنفالية والإبادة الجماعية، وأخيراً على ايدي حكام تركيا ومن جديد، وعلى أيدي المليشيات التكفيرية المسلحة أيضاً التي تأتمر بأوامر العضو القيادي في تنظيم الأخوان المسلمين الدولي رجب طيب أردوغان. إنها من مهازل القدر أن تضطر أجزاء من الأمة الكردية أن تتحالف مرة مع هذه الدولة أو تلك لتنتزع حقوقها المغتصبة من دولة أو أخرى، ثم تصاب بالخيانة من الدولة التي تعهدت لها بالدعم كما حصل في خياة شاه إيران عام 1974/1975 في اتفاقية الجزائر الخيانية بين الدكتاتور صدام حسين وشاه إيران وبموافقة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
لقد بدأ الاجتياح والغزو ليلة العاشر من شهر أكتوبر 2019 مدعما بقصف مكثف للطائرات الحربية التركية، مما أدى إلى سقوط خسائر فادحة بالأرواح والممتلكات وهجرة جماهير واسعة من منطقة القتال. لقد تصدت وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) للاجتياح التركي والعصابات المرافقة لهذا الاجتياح والغزو، وهي تقدم المزيد من الضحايا دفاعاً عن حقوق وحرية الشعب الكردي في سوريا ودفاعاً عن حرمة الأراضي السورية. ورغم استعداد قوات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية بالتفاوض مع الحكومة السورية لمواجهة الاجتياح والغزو التركي، إلا إن النظام السوري والدكتاتور الأرعن بشار الأسد رفض التفاوض وادعى نائب وزير خارجيته كما ورد في الأخبار: "هاجم نائب وزير الخارجية السوري قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها أكراد وتدعمها واشنطن قائلا إنها خانت بلادها واتهمها بتبني أجندة انفصالية منحت تركيا ذريعة لانتهاك سيادة البلاد، وأكد رفض دمشق الحوار معهم". (أخبار دويتشة فيلة DW، 11/10/2019)، وهذا التصريح الخبيث يدرك بأن كرد سوريا قالوا دائماً بأنهم لا ينوون الانفصال عن سوريا وهم يدافعون عن وحدة سوريا.
والغريب بالأمر أن الدكتاتور التركي هدد الاتحاد الأوروبي بأن أي إدانة لتركيا لاجتياح سوريا سيطلق اللاجئين الموجودين بتركيا لتزحف صوب دول الاتحاد الأوروبي فأسكت بذلك ألمانيا، في حين ندد الرئيس الفرنسي ماكرون بالاجتياح. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي ترك نفسه رهين بيد هذا الدكتاتور العثماني الجديد!!
إن من واجب شعوب العالم والمجتمع الدولي إدانة هذا العدوان الاجتياحي والغزو الإجرامي لسوريا والعمل على إيقافه فوراً والإصرار على انسحاب القوات المسلحة التركية الغازية والقوى العميلة المرافقة لها من سوريا.
لن يحصد العدوان التركي سوى الخذلان في مستقبل الأيام ولن يفرح الدكتاتور بأفعاله الإجرامية في سوريا وفي الضربات التي وجهها إلى سكان العراق القاطنين في المناطق الجبلية من كردستان العراق. ولكن إلى ذلك ستسقط الكثير من الضحايا وسيتعرض الاقتصاد التركي إلى الكثير من الخسائر المادية، إضافة إلى الخسائر البشرية، التي ستصيب الترك كما تصيب الشعب الكردي عموماً وفي سوريا خصوصاً.
ليسقط الاجتياح التركي للأراض السورية، لا للحرب، لا للدكتاتور التركي، لا للظلم وإرهاب الدولة التركية، لا للتجاوز على اللوائح والمواثيق والقوانين الدولية من جانب الدولة التركية، ومن جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي تخلت عن عهودها ووعودها للشعب الكردي في سوريا.         


75
كاظم حبيب
الشعب وجمهرة الحكام الكذابين والمزيفين: العراق نموذجاً
كان وزير الدعاية الألماني بأول جوزيف غوبلز (1897-1945) يؤكد لأعضاء حزبه والغستابو والأس أس دون كلل أو ملل القاعدة التالية: " اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس"، كما اعتمد على قاعدة أخرى أكثر تدميراً لوعي الإنسان والمجتمع حين أكد "أعطني إعلامًا بلا ضمير أُعطك شعبًا بلا وعي". وكان النظام النازي الهتلري يعيش وينمو ويتوسع على هاتين القاعدتين في صفوف الشعب الألماني طيلة عقد ونصف من السنين المريرة والعجفاء من الدكتاتورية والعنصرية والفاشية والإرهاب والحروب الدموية والموت لملايين البشر. وكان الغالبية العظمى من الشعب الألماني تصدق بالكثير من تلك الأكاذيب المفبركة، لأن إعلامها كان بلا ضمير وأصبح شعبها بلا وعي سليم. هاتين القاعدتين الفاشيتين التزم بهما الكثير من حكام العالم المستبدين الجائرين على شعوبهم، ومنهم الكثير من حكام دول الشرق الأوسط وفي بقية اسيا وأفريقيا/، وفي أمريكا اللاتينية، وغير قليل من دول العالم الأخرى. وكان النموذج الصارخ للكذب في العراق هو النظام البعثي الفاشي الدكتاتوري الدموي، الذي مرّغ جبين الشعب العراقي بالتراب، قد أدخل الشعب بأكاذيبه بالكثير من الحروب والحصار والموت.
كان الكثير من بنات وأبناء الشعب في العراق قد اعتقد بأن الولايات المتحدة، التي وعدت بالخلاص من دكتاتورية صدام حسين وأكاذيبه وقهره من خلال حربها غير الشرعية في عام 2003، أنها ستبني دولة الحرية والديمقراطية والرفاهية في العراق، ولكنه بعد مرور فترة قصيرة من وجود الاحتلال الأمريكي قد أدرك بأن الولايات المتحدة لم تكن كاذبة بامتياز فحسب، بل إنها اقامت حكماً طائفياً فاسداً وكاذباً بامتياز أيضاً وعمدت بإصرار وعن عمد على تجزئة الشعب عبر النهج والسياسة الطائفية. فالنظام السياسي الطائفي الفاسد الحالي في البلاد قام على كذبة كبرى، وجُل حكامه مفترون بأعلى معايير الكذب والافتراء على الناس. ويخدمهم في ذلك الإعلام الحكومي، الذي تحدث عنه غوبلز "إعلام بلا ضمير" ونزع مسؤولوه عنهم ضميرهم ووضعوا مكانه مصالحهم الذاتية الأنانية المناهضة لقضايا ومصالح شعبهم.
لقد استطاع الحكام الجدد، الذين زرعتهم الولايات المتحدة وإيران في البلاد، ان يمرروا أكاذيبهم لسنوات كثيرة على الشعب العراقي بمساعدة مباشرة وغير مباشرة، وبوعي كامل ودعم مستمر، من المرجعيات والمؤسسات الدينية الشيعية والسنية أخيراً، ومن رجال دين دجالين في العراق وإيران، واستطاعوا ان يجنوا أصوات الكثير من الناخبين عبر هذا الدعم الديني والأكاذيب والإفساد المالي والتزوير وقوانين مشوهة. إلا إن الانتفاضة الشبابية المقدامة الأخيرة قد قدمت دليلاً جديداً بعد أحداث 2011 و2014 و2015 ومن ثم أحداث البصرة في 2018، بأنها تدرك كذب وزيف وعدوانية هذه القوى وفسادها وطائفيتها الوقحة التي جزأت الشعب العراقي، والتي حكمته بالوعود الكاذبة وبنهب خيراته ولقمة عيشه.
تشير المعلومات غير الرسميةـ التي يرصدها الشارع العراقي إلى ان عدد ضحايا الأحداث الجارية لم تكن 120 شهيدا بل إن الرقم الحقيقي هو أضعاف هذا العدد من الشهداء الأبرياء، إضافة الى آلاف الجرحى والمعوقين وآلاف مؤلفة من المعتقلين والمخطوفين والمغيبين يقبعون في معتقلات تحت الأرض أو نقلوا إلى إيران ويديرها ويشرف عليها "الحرس الثوري" وشريكه في الإثم الجرمي "الحشد الشعبي" حيث يُمارس التعذيب والقتل والدفن في آن واحد. وقد أمكن نشر الكثير من الفيديوهات عن أساليب التعذيب الوحشية بحق المتظاهرين المعتقلين، كما نشرت بعض المعلومات عن مواقع بعض هذه المعتقلات. فقد جاء في مذكرة لرئيس جمعية المواطنة لحقوق الإنسان، المحامي السيد محمد السلامي، موجهة إلى المفوضية العليا لحقوق الإنسان والرئاسات الثلاث ووزير الداخلية...، ما يلي:
"الاعتقالات
وصلتنا معلومات من أحد المعتقلين الذين تم إطلاق حريتهم وسراحهم من الذين تم القاء القبض عليهم في التظاهرات الاسبوع الماضي بعد 1-10-2019، بوجود نحو 150 شاباً من المتظاهرين في محافظة ذي قار محتجزون حاليا في قاعدة الامام علي (10 كم عن مركز المحافظة) وقد تم اطلاق حرية وسراح 52 منهم بكفالات ثقيلة جدا تبلغ قيم مبالغها 15 مليون دينار. كما انهم يجبرون بالتوقيع على تعهد بعدم التظاهر، في نفس الوقت ما زال هناك الآن عدد 98 معتقل يصعب الوصول لهم او معرفة مصيرهم. علما ان من قام باعتقالهم ((لواء الاسد في جهاز مكافحة الارهاب)) خلال التظاهرات الاخيرة.
الافادات
وهناك امر في غاية الخطورة الا وهو تحريف وتغيير سبب الاعتقال فتفرض توقيع افادات على المعتقلين باعتبارها ((تهم جنائية مثل تخريب المؤسسات والحرق والتكسير)) وهي امور غير صحيحة لان الاعتقال جرى خلال التظاهرات السلمية؛ لكن بعض المحققين يجبرون المعتقل الشاب على ارتكابه لهذه التهم خلال كتابة افادته.
التعذيب خلال التحقيق او الاعتقال
كما افاد أحد المعتقلين المطلق سراحه بأنه ومن معه قد تعرضوا للتعذيب بأساليب مختلفة حيث جرى التعذيب باستخدام العصي الكهربائية مع المعتقلين؛ واصبح البعض غير قادر على السير على قدميه بعد اطلاق حريته وسراحه." (من نص بيان رئيس جمعية المواطنة لحقوق الانسان محمد حسن السلامي، صادر بتاريخ 09/10/2019).
منذ ان وصل الدكتاتور الجديد المدعو عادل عبد المهدي المنتفگي إلى رئاسة الحكومة، توقعت الشر وحذرت منه لطبيعة هذه الشخصية القلقة، المهزوزة، والهزيلة، وتقلباته الفكرية المستمرة، وخنوعه الكامل لرؤسائه وجشعه المالي، إضافة إلى انتمائه للشريحة العليا من فئة الإقطاعيين الظالمة والمستغلة في التعامل مع الفلاحين منذ العهد الملكي، ولم أتوقع منه الخير أبداً. وقد كتبت عن شخصية عادل عبد المهدي عدة مقالات حاولت فيه الإشارة إلى العواقب المتوقعة من اختياره، الذي يمكن ان يتنمر حين تكون السلطة بيديه وحين يكون سيده شخصية آمرة ومتحكمة دينياً مثل علي خامنئي، مرشد إيران والعراق والمستبد بأمره والذي يشارك في إشاعة الفوضى في منطقة الشرق الأوسط وفي الدول ذات الأكثرية المسلمة.
ان نضال الشبيبة المنتفضة لن توقفه الوعود الكاذبة التي أغدقها المستبدون، إذ كثيرا ما يلجأ إليها المستبدون والمشعوذون الدجالون لتجاوز مرحلة الخطر المحدقة بهم، وهم سرعان ما ينسون ما وعدوا به " فكلام الليل يمحوه النهار!".
كم أتمنى أن يرتفع صوت القوى الديمقراطية واليسارية أكثر فأكثر في العراق لا لفضح الزمر الحاكمة وأحزابها الإسلامية السياسية فحسب، بل والعمل مع الشبيبة والشعب لمواصلة النضال من أجل التغيير الفعلي وتحقيق المنشود الذي يطمح له شباب العراق من النساء والرجال. لقد بدأ الصوت الديمقراطي واليساريين يرتفع تدريجياً بعد خفوت مؤلم، فمتى سيمكننا سماعه بالعلو الذي تتحرك فيه انتفاضة الشعب التي لم تهدأ ولن تهدأ حتى لو قدر لها أن تقمع، ففي طريق الشعب نحو الحرية والديمقراطية والحياة الآمنة والكريمة صخر وشوك كثير وكثير جداً، لكنه سيسير ويسير ويطيح بكل الحكام الجائرين الذين تنكروا للشعب وإرادته ومصالحه وحقوقه طموحاته العادلة والمشروعة.
 

76
كاظم حبيب
مقترح خطة محاضرة
انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019، انتفاضة الشبيبة العراقية المقدامة
أولاً: طبيعة نظام الحكم في العراق منذ الاحتلال الأمريكي للعراق حتى الآن
ثانياً: واقع العراق والعوامل الكامنة وراء الانتفاضة وما ترتب عنها من عواقب على المجتمع العراقي
أ‌)   السياسيات الداخلية والخارجية
ب‌)   الاقتصادية
ت‌)   الاجتماعية
ث‌)   البيئية
ج‌)   العسكرية
ثالثاً: طبيعة القوى التي فجرت الانتفاضة الشبابية
رابعاً: الأهداف الأساسية لقوى الانتفاضة الشبابية
رابعاً: القوى الداخلية والخارجية التي تصدّت للانتفاضة وعملت على قمعها
خامساً: الحصيلة ومجرى العملية النضالية للشبيبة وعموم الشعب العراقي
الوقت اللازم للمحاضرة: 45 دقيقة 
الوقت اللازم للمناقشة: 90 دقيقة
من الساعة السادسة والنصف حتى الساعة الثامنة و45 دقيقة تقريباً

77
كاظم حبيب
الواقع الجاري ومقترحات رئيس الجمهورية العراقية!

القى رئيس الجمهورية العراقية خطاباً موجهاً إلى الشعب العراقي مقدماً ثماني مقترحات لمعالجة الأزمات المتلاحقة والمتفاقمة والانتفاضة الشعبية الجارية في البلاد. ولم يرد ضمن هذه المقترحات الموقف من الطائفية السياسية والمحاصصة المذلة بين القوى والأحزاب الإسلامية والقومية على أساس ديني ومذهبي وأثني. وهو أساس البلاء في العراق. كما أنه نفى أن تكون الدولة ومؤسساتها قد أصدرت قرارات باستخدام العنف ضد المتظاهرين. وهي تثير السخرية حقاً، إذ من غير المعقول أن يستشهد أكثر من 120 متظاهراً ويجرح ويعوق أكثر من 6000 متظاهر، ولم يكن هناك قرار من إحدى سلطات الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، لاسيما من القائد العام للقوات المسلحة. لقد كتب لي أحد المسؤولين في هذه الدولة العراقية يقول بأن رئيس الجمهورية بهذا الادعاء "أما أنه يضحك على ذقنه، أو أنه يضحك على ذقون بنات وأبناء الشعب العراقي، وفي الحالتين ادعاء مرفوض لا يمت إلى الواقع بصلة.
إن مقترحات رئيس الجمهورية لا يدعمها ما يجري في الساحة السياسية العراقية وأليكم ما يلي:
أولاً: قائد الوحدات الخاصة الايرانية: ارسلنا 7500 عنصر من القوات الخاصة إلى العراق
المشهد الأمني: الثلاثاء 08 تشرين أول 2019 الساعة 15:16 مساءً
أعلن قائد الوحدات الخاصة التابعة لقوى الأمن الداخلي الإيراني، العميد حسن كرمي، عن إرسال قوة مكونة من 7500 عنصر إلى العراق، مدعيا أنها لحماية “مراسم أربعين الحسين”، وسط اتهامات من المتظاهرين العراقيين للحرس الثوري والميليشيات التابعة له بالتدخل لقمع وقتل المحتجين. وقال كرمي الذي تتولى قواته مسؤولية مواجهة الاحتجاجات مع إيران، في مقابلة مع وكالة “مهر” الحكومية، الاثنين، إن “أكثر من 10 آلاف من أفراد القوات الخاصة يتولون مسؤولية حماية مراسم الأربعين بشكل مباشر“. وأضاف: 7500 منهم يعملون ويتواجدون بشكل مباشر، وهناك 4000 عنصر احتياط”. [راجع سكاي برس، ومواقع كثيرة أخرى]. فهل هذا يعني لا يوجد تدخل إيراني في العراق، وهل هؤلاء الأوباش جاءوا من دون قرار من رئيس الحكومة أم ماذا؟ وهل يحتاج العراق إلى غير جنوده ليحموا زوار الإمام الحسين؟ لقد كانت مهمة هؤلاء قمع التظاهرات الشبابية العادلة والمشروعة والمنسجمة مع الدستور العراقي، والظالم والمعتدي هو النظام الطائفي الفاسد وأجهزته المرتبطة بإيران وهؤلاء الذين جاءوا من وراء الحدود ليخمدوا أنفاس الشبيبة العراقية المحتجة على الأوضاع المزرية!!!
1) نصائح للمسؤولين الحاليين
 من  بارباروسا آكيم إلى أستاذ كاظم حبيب
تحياتي أستاذ كاظم حبيب
الحقيقة إن المنظومة الحاكمة في العراق لا تسمع النصيحة و تذهب دائماً إلى حلول القوة المفرطة
نوري السعيد كان يقول : الشعب العراقي مثل الملح الفوار، و لكن في النهاية تم سحله في الشارع بيد الملح الفوار
لذلك الحلول الأمنية و الاغتيالات و الاستعانة بالأجنبي على الداخل لن تجدي نفعاً، بل ستراكم مشاعر غضب و مظلومية في مجتمع يكاد ينفجر. و الاستعانة بقوة ايرانية على الداخل سيولد حقد أعمى لا مثيل له

صدام حارب ايران 8 سنوات لكنه لم يستطع زرع الكراهية بين العراق و إيران مثل ما يحصل الآن مع العلم إنه جند كل طاقات الدولة و التوجيه السياسي و أشلاء جثث القتلى في المعارك، الآن خامنئي ينجح بشكل منقطع النظير فيما فشل به صدام. أقولها لمصلحة الشعبين الصديقين لا فائدة من الحلول الأمنية و الاستعانة بالأجنبي على ابن البلد فهذا يولد حقدا و مشاعر بغضاء، و أخاطب العقلاء في الحكومة العراقية
رجاءً، رجاءً راجعوا ذواتكم قبل فوات الأوان
تحياتي و محبتي و تقديري
ثانياً: وصلتني الكثير من الرسائل والتعليقات بشأن أوضاع العراق الراهنة، اليكم منها:
1) مذكرات اعتقال بحق الناشطين والإعلاميين
وصلتني الرسالة التالية من مصدر موثوق به وبمعلوماته، وتأكدت من مصادر عديدة
عزيزي الدكتور كاظم، كل التحايا الطيبة
"لقد اصدرت الجهات الامنية بمختلف مسمياتها مذكرات اعتقال لمجموعة كبيرة من الناشطين والصحفيين وقد سمعنا بأنهم قد وجهت لهم تهمة 4 إرهاب، هناك حملة مسعورة تقوم بها سلطة الاسلام السياسي للتنكيل بكل الاصوات التحررية ، ان هذه القوى تمر بأزمة حكم وهي تنزع نحو السيناريو السوري، فهي لا تستطيع بل لا تريد ان تلبي مطالب المحتجين لذلك تراها تقمع بشكل هستيري. اليوم يعيش العراقيون ايام صدام الثمانينات، تقبل خالص تحياتي".

2) هل إن الوضع مستتب حقاً كما يدعون، وليس هناك عنف واعتقالات وتعذيب بحق المتظاهرين والمحتجين؟
وصلتني الرسالة التالية:
"الأستاذ الدكتور ابا سامر المحترم
 أحييكم مره اخرى من شواطئ الكوفة الجريحة
متمنيا لكم تمام الصحة والعافية، وبعد،
 اطلعت على جميع مقالاتكم الأخيرة والتي خصصتموها إلى ثورة الجياع والتي بدأت شرارتها الاولى في الأول من أكتوبر الحالي وكما تعلمون ...ووجدنا فيها كل الدقة والرأي الثاقب سرداً وتحليلا
شاكرا جنابكم الكريم على نشر رسالتي الأخيرة لكم في آخر مقالة كتبتموها رغم انها كانت مستعجله وبسبب ظروف الشبكة حيث قُطعت الشبكة قبل ان ارسلها وأرسلت بعد عودة الشبكة بعد يومين بعد ان تم اعادتها جزئيا في ليلة أمس ٧ اكتوبر2019. ...
انا اقدر انشغالكم هذه الأيام بمتابعة الأوضاع الراهنة في العراق ونشركم  وبشكل مستمر لحلقات من مقالات تخص تلك الأوضاع وتداعياتها و ما تعرض له المواطنون من انتهاكات خطيره لحقوق الإنسان وكان أخطرها إزهاق أرواح العشرات من الابرياء أغلبهم  من اليافعين والشباب وانتهاكات أخرى تشمل أساليب تعذيب وضرب مبرح للمحتجين الثوار واهانات بألفاظ نابية من قبل بعض أفراد الأمن الوطني مثلما حصل لعدد من الناشطين كان منهم محامين وأطباء وسياسيين يساريين حيث تم اعتقال سته منهم بعد أن تم متابعتهم ( تحت مجسرات  ثورة العشرين في النجف) والمعروف عنهم يشاركون في جميع التظاهرات السلمية السابقة ويرفضون أي محاولة لحرف سلمية التظاهرات وجنوحها إلى العنف أو التجاوز على ممتلكات الدولة او مقرات  الاحزاب... حيث تم توقيفهم في مديرية الأمن الوطني في النجف وتعرضوا وهم في السيارة إلى الضرب والاهانة وبألفاظ بذيئة ... يقول أحدهم أنه لم اسمعها من قبل !!
وبعدها تم إطلاق سراحهم بعد الاتصال بمحافظة النجف وبواسطة بعض الشخصيات الاجتماعية!
...وفي مدينة الكوفة و التي لم تتحدث عنها وسائل الإعلام كثيرا
 فقد حصلت فيها مواجهات مسلحة وخلال ثلاثة أيام متتالية حيث تبدأ ليلا وتنتهي في فجر اليوم التالي، وقد كانت هذه المواجهات بين شباب من أحد الأحياء الفقيرة والذي يسمونه (الشيشان) وهذه (تسميه شعبية غير رسمية) ... وبين عناصر من القوات الأمنية حيث يسمع الرمي شبه المتواصل في شوارع الكوفة القديمة ولمدة ثلاثة أيام، ايام ٢ و٣ و٤ من اكتوبر الحالي وقد اصيب العديد من المحتجين، كانت اصابة ثلاث منهم خطيره للغاية.. حيث يقال إن أحدهم تم رفع (الطحال) من جسده
وما زالت المعلومات عنهم شبه معدومة". 08/10/2019 
 سأوافيكم أعزائي القراء والقارئات الكرام بما تصلني من معلومات مدققة وثقة من أخوتنا وأخواتنا في الوطن المستباح بالطائفية والفساد والتدخل الخارجي ببكل أنواعه لاسيما إيران والولايات المتحدة.


78
كاظم حبيب
خطاب المُستعمِر الإيراني الجديد للعراق وسوريا ولبنان!!!
لم أبتعد عن الحقيقة حين قلت بأن العراق الراهن، الدولة العراقية الهشة، النظام السياسي الطائفي الفاسد، الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية الفاسدة، قد سقطت كلها تحت النير الإيراني، إنها شبه مستعمرة لإيران، يتحكم بها الولي الفقيه كما يشاء ويرغب. ولم يبتعد رئيس جمهورية إيران حسن روحاني عن الحقيقة حين خطب متحدياً العالم كله، ومنه دول الغرب والشرق مؤكداً نفوذ إيران الفعلي وتدخلها المباشر في شؤون وأحداث العراق وسوريا ولبنان واليمن وكل المنطقة. إنها تكشف أيضاً عن دور إيران الوقح في أحداث العراق الأخيرة حيث توجهت السلطة، ومعها القوى الإيرانية الفاعلة والمؤثرة في القوات المسلحة العراقية والمسيطرة بالكامل على قيادات الحشد الشعبي، ضد الشعب العراقي وضد القوى الشبابية المنتفضة ضد أوضاع العراق الفاسدة والرثة. خطب حسن روحاني بعفونة وعنجهية حيت قال: 
"نحن نفتخر بكل أعمالنا، نفتخر بأعمالنا في العراق، نفتخر بأعمالنا في سوريا، نفتخر بأعمالنا في لبنان، نفتخر بكل أعمالنا حتى النهاية. هل تعتقدون بأننا نطلب منكم إجازة في تدخلنا، لماذا تفاجأتم بنفوذنا في العراق وسوريا، نفوذنا ليس في العراق وسوريا، نفوذنا ليس في هذه البلدان، بل في كل المنطقة، وليس منذ اليوم. نفوذنا يمتد في الشرق حتى شبه القارة الهندية، سواء أتعرفون ذلك أم لم تعرفوه، نفوذنا يمتد في الغرب حتى البحر الأبيض المتوسط. الشعب الإيراني لا يخشاكم، من أنتم لكي يخشاكم، أنتم لستم بعيدين عن متناول أيدينا..."  https://www.youtube.com/ 
هكذا يتحدث حسن روحاني بكل صراحة ووقاحة عن نفوذ إيران في بلاد وادي الرافدين، فهل بعد هذا يجري الحديث عن استقلال وسيادة الوطن العراقي المستباح بالإيرانيين وبقواتها المسلحة المكشوفة والمتسترة، بالحرس الثوري وجيش المقدس وقادة هاتين القوتين العسكريتين الإيرانيتين. إن الفيديوهات التي وصلتنا تبرهن عن حمل الجنود الإيرانيين إشارة الجيش الإيراني وهم يتحركون في قمع المظاهرات أو حتى في تعذيب المعتقلين الشباب والدماء تسيل من هؤلاء الشبيبة المقدامة. إن المطالبة بإطلاق السراح لا تكفي فحسب، بل لا بد من الإدانة الشديدة للجرائم التي ترتكب بالعراق.
وهكذا برهن الشخصية العراقية-الإيرانية فالح الفياض تبعيته لإيران ولولاية الفقيه الذي هدد أخيراً باستخدام الحشد الشعبي لقتل المتظاهرين „المتآمرين!" على الدولة العراقية، وكأنه لم يستخدمها فعلاً لا في المطاردة والقتل ولا في الاعتقال والتعذيب بشراسة منقطة النظير التي لا تختلف قطعاً عما كان يفعله صدام حسين وعصاباته بالعراقيين المعارضين لنظامه. إنها الوحشية الإسلامية السياسية المعروفة التي تمارس أساليب القرون الوسطى التي قرأنا عنها في كتب التاريخ في مواجهة القرامطة وثورة الزنج وغيرها من الحركات الفكرية والسياسية في الدولة العباسية في العراق. أي جرائم ارتكبت وترتكب في هذه الأيام الستة وما بعدها في العراق ضد المتظاهرين الأبرياء الذين طالبوا ويطالبون بحقوقهم العادلة والمشروعة.
تشير المعلومات الواردة من بغداد إلى أن الأجهزة الأمنية والشرطة وميليشيات الحشد الشعبي وشرطة إيرانية تلاحق 300 مواطن عراقي بتهمة التحريض على المظاهرات في وقت يدعي رئيس الوزراء بأن الحكومة العراقية تعمل على إطلاق سراح المعتقلين من المتظاهرين. لقد وصلتني فيديوهات عبر الواتس أپ تشير إلى الأساليب الهمجية التي يمارسها جلاوزة النظام السياسي الطائفي الفاسد في العراق ضد شبيبة العراق، إنها جرائم يعاقب عليها القانون الدولي والدستور العراقي وقوانين العراق وكذلك اللوائح والمواثيق الدولية. إنها من البشاعة التي لا يجرأ إنسان أن يعرضها في مقالاته لأنها تجرح كرامة المعذبين وتثير الروع في نفوس البسطاء من الناس.
إن من واجب كل القوى الديمقراطية، لاسيما اليسارية أن تفضح هذه الأساليب الهمجية، أن تدينها بحزم وتشجب الفاعلين الأوباش والذين يصدرون لللجلاوزة الأوامر بفعل ذلك.
السكوت عما يجري في العراق وما يفعله عملاء إيران جريمة لا تغتفر لكل عراقي عارف بذلك وساكت عليه سواء أكان في الداخل، ولاسيما من هم في الخارج. لا أدري كيف سيكون وضع هؤلاء عندما ينتصر الشعب على أعدائه من حكام العراق الحاليين.، لا أدري حقاً كيف يمكن وقف الناس من الانتقام ممن يقوم اليوم بتعذيب وقتل الناس بكل صفاقة وقذارة ووحشية؟ أشعر بالألم لما يعاني منه الشعب ومعارضو النظام، أشعر بوخز القلب حين لا أجد إدانة لكل هذه الأفعال الإجرامية التي ترتكب بحق الشعب.
لقد وصلتني الرسالة التالية من صديق في العراق أود اطلاعكم عليها دون ذكر الأسماء:
"بعد أرق التحايا الأستاذ الدكتور ابا سامر
  اكتب لك وانا على مقربة من ساحات يغتال فيها شباب بلدي...بكل تلك الهمجية و الوحشية
  اكتب لك في الساعة الخامسة فجرا بتوقيت العراق في السادس من تشرينه الدموي ...حيث فتحت الشبكة العنكبوتية بعد ما يقارب ستة ايام من اغلاقها ...ولا نعلم انها فتحت لفترة ساعات او انهم اجبروا على إعادتها ...
ففي مثل تلك الاوقات يعتقد بأن سلطان النوم قد سيطر تماما على مستخدميها ...وهم اي الطائفيون قد أرعبهم تماما التواصل الإلكتروني الفاعل بين الشباب الثوار ...فكانت تلك القرارات الهستيريه والتي تزامن فيها فتح نيران أسلحتهم الغادرة على جموع المتظاهرين قبل وصولهم إلى ساحات الاحتجاج المعروفة في بغداد والناصرية و النجف ... تزامن مع الاقدام على قطع خدمة الانترنت تماما ...
 من خلال تواصلي على الهاتف مع زملائي في بغداد وبعض المحافظات أخبرني الدكتور ... ليلة أمس بأن الوضع في بغداد وخاصة في صوب الرصافه خطير للغاية ...فقد اعتلى قناصون مجهولي الهوية بعض العمارات وقاموا بقتل الناس في وضح النهار ... وخاصة في منطقة لا تبعد كثيرا عن مستشفى الشيخ زايد وهي تقابل مقر اتحاد أدباء وكتاب العراق ولكن باتجاه القناة ... وقد اختلفت الروايات عن هوية هؤلاء المجرمين !!! ...بدأت الشبكه تضعف .. أخشى من قطعها ... قرأت مقالاتكم الثلاث الأخيرة قبل قليل والتي وصلت مرة واحده".
هكذا هو العراق الراهن الغاطس في مستنقع إرهاب الدولة العراقية والدولة الإيرانية... لن تستطيعوا إخماد انتفاضة الشعب المقدامة وستتحول إلى ثورة عاجلاً أو آجلاً لتشعل الأرض تحت أقدام القتلة والمجرمين والذين عرضوا هذا الشعب لجرائم القتل العمد حتى زاد عدد القتلى المعلن عنه 120 شهيداً وآلاف الجرحى والمعوقين والكثير منهم أوضاعهم خطيرة. سيكنس الشعب العراقي هذه الزمر العراقية-الإيرانية وينظف العراق من دنسهم وخنوعهم!   
       

79
كاظم حبيب
الإجراءات الترقيعية لن تحل الأزمة السياسية والاجتماعية المتفاقمة!
لم تنطلق المظاهرات الشعبية الشبابية العارمة في بغداد وبقية محافظات الوسط والجنوب بهدف الحصول على منحة راتب شهري للعاطلين عن العمل من حملة الشهادات العالية والثانوية، ولا صدقة شهرية للعائلات الفقيرة والمعدمة ولفترة قصيرة لعبور الحكم موجة الغضب العارمة، ثم العودة إلى ما كان عليه الأمر قبل ذاك، بل الانتفاضة الشعبية الشبابية انطلقت بهدف التغيير الفعلي لواقع العراق الراهن، للخلاس من النظام الطائفي المحاصصي النذل، ومن الفساد السائد كنظام كامل معمول به في العراق، ومن الفاسدين المهيمنين على سلطة الدولة ومجلس النواب والقضاء العراقي، للخلاص من البؤر المتحكمة بموارد العراق المالية وسياساته الاقتصادية، ومنها التنموية والنفطية والنقدية والتجارية والبيئية، للخلاص من الرثاثة التي تعم البلاد بفضل وجود الفئات والأحزاب الرثة فكراً وممارسة على رأس الحكم، من أجل بناء عراق ديمقراطي جديد بفصل بين الدين والدولة وبين الدين والسياسية ويمنع قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي بل على أساس مدني ومواطني، من أجل وجود مجلس نيابي نزيه ومخلص لا تباع وتشترى مقاعده النيابية بما فيها رئاسة المجلس كما حصل في البلاد حتى الآن، من أجل قضاء نزيه وعادل وغير مسيَّس وادعاء عام يمثل المجتمع وليس قضاة ومدعين عامين خانعين لرغباتهم الذاتية وللحكام ولمن يحكم الحكام من وراء الحدود.
إن سياسة تقديم الوعود الزائفة والخادِعة والمراوِغة، وتقديم المكاسب الجزئية المؤقتة لكسب الوقت وعبور الأزمة المحتدمة حالياً التي يمارسها عادل عبد المهدي ينبغي ألَّا تنطلي على الشعب المنتفض، على الشبيبة المقدامة التي تجرعت المرَّ عبر هذه السنوات العجاف من حكم الأحزاب الإسلامية السياسية وقيادة القوى الشيعية الطائفية الفاسدة للحكم، وهي قوى وأحزاب غير معبرة عن إرادة الشعب العراقي الحقيقية، ومنهم الذين يؤمنون بالمذهب الشعب في الإسلام. إن عادل عبد المهدي لا يؤمن بإرادة الشعب ولا بمصالحه، بل يحاول، كأي مستبد بأمره، أن يعبِّر عن التزامه بالمرجعية الشيعية وكأنها "الشعب ذاته!"، وهي غير ذلك قطعاً، لينفذ بعض ما طرحته، في حين إن الأزمة أعمق وأوسع وأشمل من ذلك بكثير جداً. إنها أزمة حكم جاهل ومشوه وفاشل، أزمة حكم وحكام لا يريدون الخير للشعب ولا التقدم للبلاد، وإلا كان على هذا الحكم عبر العقود الكثيرة أن يعمل ولو شيئاً قليلاً وسليماً لهذا الشعب والبلاد، في حين أن ألف مليار (1000.000.000) دولار أمريكي دخل خزينة الدولة رسمياً من إيرادات النفط فقط خلال الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية البعثية الصدامية حتى الآن وهي التي ابتلعتها الأحزاب والنخب السياسية الإسلامية الحاكمة وغيرها، ولم يحظ الشعب إلأَّ فتات موائدهم، إلا "مرگة هوا"، كم هي صادقة هذه الأهزوجة (عادل يأكل عنبر والشعب بليه دنان اسمع يا القاضي ، عادل يركب كاديلاك والشعب بليه نعال اسمع يا القاضي". ويمكن أن نستبدل عادل بـ نوري" أو "حيدر" أو "هادي" أو "الخزعلي" أو "أبو مهدي المهندس" أو "الصافي" أو "الكربلائي" وكيلا المرجعية في النجف وكربلاء.
مشاهدو التلفزيون ما زالوا يتذكرون قول عادل عبد المهدي أنه يتسلم مليون دولار أمريكي شهرياً، وعدد آخر من هؤلاء الحكام" كمنحة" يتصرفون بها كما يشاؤون، وهو مبلغ إضافي زيادة على ما يتسلمونه من رواتب ومخصصات مالية ومخصصات باسم حماياتهم المضخمة عدداً والكثير منهم فضائيون! أليس هذا نهباً للمال العام، أليس هذا اقتطاع لقمة عيش وخبز الشعب، لاسيما الفقراء والمعوزين والذين ينامون على الطوى؟ أيمكن لمثل هذا الرجل ومن يماثله تصحيح وتغيير مسار الدولة ونهجها الطائفي الفاسد؟
إن الانتفاضة الشعبية ينبغي لها أن تحقق أهدافها، ينبغي أن تغير الواقع القائم، يجب أن تطيح بالسياسات الطائفية والفاسدين، وأن تؤلف حكومة وطنية مستقلة واعية لإرادة الشعب ومصالحه وطموحاته في التغيير الجذري. إن الفاسدين من أمثال رؤساء الوزارات السابقين من الإسلاميين السياسيين وأعضاء في مجلس النواب وفي مجالات أخرى، ينبغي أن يقدموا إلى المحاكمة لينالوا الجزاء العادل بسبب فسادهم وإفسادهم ونهبهم أو تفريطهم بأموال الشعب وتجويعه، واعتقال البشر وتعذيبهم وقتلهم بأساليب مختلفة الشعب. ينبغي محاسبة ومحاكمة من تسبب بكارثة غزو الموصل ونينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى الذي لا زال يطالب بأن يكون نائباً لرئيس الجمهورية وهم الذي نتهمه بارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي... وهو من تسبب في سبي واغتصاب وقتل ونزوح وهجرة قسرية لنسبة عالية من سكان هذه المحافظات، لاسيما اخواتنا وأخوتنا من الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، إضافة إلى 1700 شهيداً في معسكر سپایکر التدريبي على أيدي عصابات داعش. لا يمكن لعادل عبد المهدي الذي كان وزيراً لعدة مرات ونائباً لرئيس الجمهورية ورئيساً للوزراء في هذا النظام الطائفي الفاسد، والمتهم بإعطاء الأوامر باستخدام الرصاص الحي والمطاطي وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين العزل، أن يقوم بتقديم ملفات كبار الفاسدين إلى القضاء العراقي، فهو واحد منهم ومن أسوأ الذين حكموا العراق من المستبدين، إنه يستكمل دور أبيه في استغلال وخداع الشعب العراقي، وعليه أن يرحل، وأن يحقق في دوره في كل ذلك لاسيما سقوط الشهداء المائة حتى الآن والجرحى الذين يبلغ عددهم 4000 جريح ومعوق من خلال تشكيل لجنة مستقلة من قضاة ومحامين ومتخصصين بالجرائم وتحت إشراف الأمم المتحدة ومشاركة منظمات حقوق الإنسان للوصول إلى تقديم تقرير يشخص كل ذلك ليتم تقديم كل المسؤولين إلى القضاء العراقي. كم هو صادق وسليم هذا الشعراء الذي رفع ف ساحة التحرير في اليوم السادس للمظاهرات والذي كتب بحروف كبير وخط أحمر "الحكومة العراقية تقتل شعبها!"
إن خداع الشعب لن يتحقق حتى لو تدخلت المرجعية الشيعية لإنقاذ الرؤوس العفنة التي تسببت في كل ما يعاني منه الشعب العراقي خلال السنوات الـ 16 الأخيرة، لأن مصداقيتها لم تعد مقبولة بعد أن زكت هؤلاء ومنحتهم الثقة وأزرت حكمهم وتدخلت في شؤون السياسية على أوسع نطاق، ثم سكتت أمام ما يحصل طويلاً، وحين نطقت، لم يكن سوى الهامش الذي لا يطال الرؤوس المساومة معها. الشعب واثق من النصر وسيبقى يهزج ويؤكد
الشعب مـا مـات يومـاً وإنـه لن يموتــا
إن فاته اليوم نصر ففي غدٍ لن يفوتا
                     

80
كاظم حبب
خطيب جمعة طهران: اقتلوا عملاء أميركا المتظاهرين العراقيين"!!!
لم يكن أمام رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، كما يبدو بوضوح كبير، إلا تنفيذ أوامر صدرت له من ولي الفقيه الإيراني علي خامنئي وعبر وكيله خطيب جمعة طهران الذي قال بالحرف الواحد: "اقتلوا عملاء أميركا المتظاهرين العراقيين!!!"، معبراً بذلك عن سياسة الدولة الإيرانية التي تعتبر العراق شبه مستعمرة لها وجزءاً من مجالها الحيوي ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط وخليج البصرة. فهل إن متظاهري العراق عملاءٌ للولايات المتحدة الأمريكية؟ بهذه الوقاحة تحدث خطيب جمعة طهران إزاء شعب العراق، إزاء المتظاهرين الأبطال، إزاء من لا يريدون خضوع العراق لقرارات وسياسات إيران العدوانية في المنطقة. هذه الجماهير الشبابية المحتشدة في شوارع وساحات العاصمة بغداد والكثير من مدن الوسط والجنوب، هذه الجماهير الشعبية التي تطالب بالخبز والعمل، بالكفاح ضد الفساد والطائفية والمحاصصة المذلتين، هؤلاء الذين هبوا دفاعاً عن حياتهم وعيشهم الكريم، ورفضوا الذل والهوان والبؤس والفاقة والحرمان، هؤلاء الذين رفضوا المعممين المخادعين والأفندية الذين ارتدوا لبوس الدين ونهبوا البلاد وسبوا العباد، هؤلاء الذين تعرضوا للسبي والاغتصاب والقتل، هؤلاء من النساء والرجال الذين تظاهروا وملأوا الشوارع وارتفعت أصواتهم إلى عنان السماء مطالبين بإسقاط النظام الطائفي الفاسد والمتوحش، هل هؤلاء جميعاً هم عملاء لأمريكا؟ هكذا يفكر من يهيمن على سياسة غالبية الإسلاميين السياسيين المشاركين في الأحزاب الإسلامية السياسية.
بهذه الصورة الوحشية ونتيجة لهذه الفتوى القذرة والأوامر الوقحة تصرف وأمر رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة عادل عبد المهدي المنتفجي قبل خطبته الأخيرة وبعد خطبته "الملكية غير السامية" أيضاً، فارتفع عدد القتلى بعد الخطبة ليصل إلى أكثر من مئة شهيد وأكثر من 4000 جريح ومعوق في العاصمة بغداد وذي قار وغيرها من مدن العراق. لقد صدرت الأوامر إلى الحرس الثوري أي الحشد الشعبي، وتلك القوى من الأمن والشرطة المرتبطة بفتوى ولي الفقيه لتمارس و"تبدع" في القتل عبر القناصة الذين اعتلوا سطوح بعض البنايات أو ارتدوا الأقنعة وقتلوا المتظاهرين الأبرياء أو صوبوا نيران بنادقهم لأولك الأشخاص من رجال الأمن والشرطة الذين لم يستخدموا سلاحهم الناري في قتل المتظاهرين.         
يا قادة إيران ويا ساسة العراق التابعين لهم لن تموت الانتفاضة التي حمل رايتها شبيبة العراق من الذكور والإناث، والتي تردد بوضوح كامل "باسم الدين باگونه الحراميه"، و"الشعب يريد إسقاط النظام"، و"العراق خيارنا" وليس إيران أو أمريكا، كما يتمناها البعض بل سيشتد ساعد المتظاهرين بالمزيد من الكادحين والفقراء والمعوزين، بالمثقفين وحملة الشهادات العالية والطلبة والحرفيين والكسبة، بل الطبقة الوسطى أيضاً التي حرمت من التصنيع واستثمار رؤوس أموالها الوطنية النظيفة وليس المنهوبة عبر الفئة الطفيلية الفاسدة والحاكمة وحواشيها في الأحزاب الإسلامية السياسية. لن تموت الانتفاضة وهي بيد الشبيبة الحرة والمناضلة في سبيل عراق ديمقراطي حر ومستقل. فالمنتفضون يعلنون جهارا نهارا أنهم مستقلون يعملون على وفق إرادتهم الحرة وليس لأي حزب سياسي أو جهة سياسية داخلية أو خارجية تأثير عليهم. إنها الانتفاضة الشعبية العفوية التي يتبلور فيها الوعي التراكمي لما واجه ويواجه العراق من مشكلات ومصاعب وتعقيدات سبَّبها الحكام الحاليون الذين لا تعرف عقولهم النتنة غير النهب والقتل لمن يقف ضد نهبهم وسيطرتهم على حكم البلاد.
 في اليوم الخامس وأيضاً وبلا ذمة أو ضمير أو حياء جه رئيس الوزراء العراقي نيران غضبه عبر أجهزة الأمن والشرطة والحشد الشعبي ضد المتظاهرين السلميين أمام مبنى وزارة النفط ليقتل من جديد خمسة شهداء وجرح وتعويق العشرات. إنها جرائم متلاحقة ترتكب في خمسة أيام، رغم وعوده بخطبته البائسة بأن سوف يرفض استخدام الرصاص الحيّ!!
أي رئيس وزراء وقائد عام للقوات المسلحة يحترم نفسه وشعبه كان قد قدم استقالته مباشرة، ولكن هل لمثل هذا الرجل حياء! هل الحياء "سطلة أم قطرة"! وكذلك الوزراء الذين يعتبرون أنفسهم مستقلين كان عليهم الاستقالة لأنهم يتحملون مسؤولية القتلى والجرحى في الأحداث الجارية! كل الدلائل تشير إلى إن عادل عبد المهدي سيغوص في مستنقع خيانة القَسَم الذي قدمه أمام مجلس النواب في احترام إرادة الشعب ومصالحه، فهل من مصلحة الشعب وإرادته قتل ما يزيد عن 100 شهيد وأكثر من 4000 جريح ومعوق؟ وربما الحبل على الجرار!!! وهذا يشم الوزراء ومجلس النواب ورئيس الجمهورية أيضاً.
إن المطالب المركزية للجماهير الواسعة المنتفضة تتلخص في التغيير الجذري للنظام الطائفي المحاصصي الفاسد عبر تشكيل حكومة مستقلة تماماً عن الأحزاب الحاكمة وتلك المساهمة في العملية السياسية الفاشلة والبائسة والساكتة عن الجرائم التي ترتكب في العراق، وحل مجلس النواب الطائفي الفاسد القائم، وتغيير قانون الانتخابات وإجراء تغيير في الدستور العراقي لصالح دستور ديمقراطي حديث لإقامة الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي وتنتهج سياسة مستقلة وتمارس التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية لصالح المجتمع والتقدم الاجتماعي، تغيير المفوضية المستقلة للانتخابات وأسس عملها وبإشراف من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني المستقلة. لن تموت انتفاضة حتى لو استطعتم إخمادها مؤقتاً فستنفجر أشد وأعلى مما تتصورون.       

81
كاظم حبيب
أصوات اليسار الخافتة في معركة النضال ضد نظام الطائفية والفساد
ارتفع عدد قتلى معركة الكفاح ضد نظام الطائفية والمحاصصة والفساد، ضد نهب موارد البلاد وخزينة الدولة وتجويع الغالبية العظمى من بنات وأبناء الشعب وعدم توفير فرص العمل والتخلي عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم دور الميليشيات الطائفية المسلحة العائدة للأحزاب الإسلامية السياسية التابعة لإيران وولي الفقيه الإيراني في الدوس على كرامة الناس وملاحقتهم وابتزازهم، بل اختطافهم ونقلهم إلى إيران وتضييع أي أثرٍ لهم، إلى 73 شهيداً وأكثر من 3000 جريح ومعوق خلال الأيام الأربعة المنصرمة من انطلاق انتفاضة الشعب المستباح والمحروم من حقوقه وإرادته الحرة وحياته الديمقراطية الكريمة. لقد دخل القتلة إلى دار عائلة بصرية ساهمت في مساعدة المتظاهرين ليقتل الزوج وزوجته شر قتلة دون أن تكشف سلطات الأمن عن القتلة المجرمين!!
النظام السياسي الطائفي الفاسد الجائر يوغل ويصرُّ في قتل الناس بأمر من رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة من خلال أجهزة الأمن والشرطة وقوى الحشد الشعبي المشكلة من الميليشيات الشيعية المسلحة التابعة لولي الفقيه الإيراني دون وازع من ضمير. وقد جاء خطابه "الملكي!" مصمماً على سلوك ذات السبيل الجهنمي الذي أدى إلى استشهاد الشبيبة العراقية وجرح وتعويق المزيد منهم، مدعياً تحقيق الكثير خلال عام واحد، في حين إن كل الدلائل التي تحت تصرف الجميع تؤكد بأنه لم يحقق أي بند من البنود التي تعهد بها، لا في مجال مكافحة الفساد ولا في التخلص من الطائفية ومحاصصاتها ولا من التوجه صوب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا في توفير فرص عمل للشبيبة العاطلة ومنهم خريجو الكليات والدراسات العليا، بل وجه لهم نيران أسلحة قواته الأمنية وميليشياته المجرمة التي تفننت في قتل الناس ومطاردتهم واعتقالهم وتعذيبهم. لقد سقط قناع عادل عبد المهدي ليكشف عن وجهه العدواني إزاء الشعب ومصالحه وإرادته وحقوقه المشروعة والعادلة. إنه الأبن البار لكل القوى العدوانية المناهضة للشعب ومصالحه، إنه أبن الأغنياء الحرامية الذين نهبوا موارد العراق ولقمة العيش من افواه الناس، وابن الإقطاعيين الذين سلخوا جنود الفلاحين بسياطهم واستغلالهم لجهدهم وكدهم اليومي القاسي.
73 شهيداً سقطوا في أربعة أيام، لم يسقط بهذا العدد الكبير في وثبة كانون 1848، وفي انتفاضة تشرين الثاني 1952، وفي انتفاضة 1956 في العهد الملكي، حيث كان أبوه عيناً وداعما لسياسات نوري السعيد وصالح جبر. إنه الرجل الذي وضع في المكان الصحيح من جانب القوى الإسلامية الشيعية الحاكمة ليمارس دوره في الدفاع عن نظام المحاصصة الطائفية والفساد لا التخلص منهما. وقد اسقطت المظاهرات الشعبية تلك الحكومات العراقية الملكية. 73 شهيداً ولم نسمع صوت اليسار العراقي، صوت الحزب الشيوعي العراقي، ليطالب بإسقاط الحكومة التي قتلت هذا العدد الكبير من المتظاهرين وجرت وعوقت 3000 متظاهر
لقد تحركت الشبيبة العراقية بعفويتها الواعية والمدركة لما يجري في العراق وما يراد للشعب في هذه الفترة العصيبة من حياة الوطن المستباح. وكان الحزب الشيوعي من بين من لعب دوره البارز في الفعاليات المدنية في ساحة التحرير وعموم العراق في السنوات المنصرمة. ولكن الغريب في الأمر أن صوت اليسار العراقي، صوت الحزب الشيوعي العراقي، خفت في هذه الأيام، وصدر تصريح للمكتب السياسي ما كان له أن يصدر، وصدر بيان وكأن العراق وشبيبته لا يعيشون انتفاضة شعبية رائعة ومقدامة يقتل الشبيبة في شوارع العراق بدم بارد من جانب الحكومة العراقية وبقرار من رئيس السلطة التنفيذية.
لقد كان صوت الحزب عالياً ودوماً لا في المشاركة في انتفاضات الشعب ومظاهراته فحسب، بل في قيادتها، فأين هو اليوم من هذه الانتفاضة المقدامة. هل لأن بعض المقنعين من الحشد الشعبي والمليشيات الطائفية المسلحة قد دخلوا المظاهرات واستخدموا العنف لقتل المتظاهرين، وربما بعض رجا الأمن؟ أنها لحجة باهتة لا تصمد أمام قوة المظاهرات وتحدي منع التجول الذي أصدر القائد العام للقوات المسلحة بأمل الدفاع عن سلطته الخربة والهزيلة.
أدعو قيادة الحزب الشيوعي العراقي وقوى اليسار العراقي عموماً أدعو جميع الشيوعيين والشيوعيات، أدعو جميع الديمقراطيين والديمقراطيات، كل الوطنيين والوطنيات المخلصين لوطنهم وشعبهم في العراق وفي الخارج، إلى التحرك والمشاركة الفاعلة لمنع الغوص في دم الشبيبة العراقية المقدامة في مختلف المدن العراقية، أدعو إلى المساهمة في طرح الشعارات التي تتناغم مع قوة وحجم الحراك الشعبي المناهض لنظام المحاصصة الطائفية والفساد، لإجراء التغيير الجذري العميق في البلاد.
اليوم هو يوم النضال من أجل التغيير وليس غداً، لنكن عند مستوى الحدث والفعل الشعبي، لنكن عند مسؤوليتنا إزاء مصائر الوطن والشعب.         

82
المنبر الحر / من القاتل؟
« في: 18:40 04/10/2019  »
كاظم حبيب
من القاتل؟
لمن يوجه الاتهام بارتكاب جرائم القتل العمد ضد شبيبة العراق التي تظاهرت أيام 1 و2 و3 تشرين الثاني/أكتوبر 2019 مطالبة بحقوقها المعادلة والمشروعة والمغتصبة من قبل حكام العراق؟ هل يوجه الاتهام إلى قوى الأمن والشرطة والحشد الشعبي الذي ظهر مقنعاً ليمارس مع البقية الأمنية بالقتل العمد، أم يوجه إلى رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة الذي لولا صدور أوامره باستخدام الرصاص الحيّ وخراطيم المياه الساخنة والغازل المسيل للدموع، لما سقط شهد واحد من المتظاهرين السلميين في بغداد وذي قار والحلة والنجف والكوت.. وغيرها من المدن المنتفضة سلمياً؟ لا شك بأن الجواب واحد لا غير! الاتهام يوجه مباشرة إلى رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة العراقية الذي أصدر أوامره بممارسة القتل العمد، بممارسة قمع المظاهرات بكل السبل المتاحة لدي قوى الأمن والشرطة والحشد الشعبي، بتوجيه الرصاص الحيّ إلى صدور الشبيبة، إنه الشخص الوحيد القادر على إعطاء الأوامر باستخدام الرصاص الحي وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين في جميع أنحاء العراق أولاً، وهم الرئاسات الثلاث التي يستشيرها رئيس الوزراء في مثل هذه الحالات. فهو القاتل، وهم القتلة إن كان قد استشارهم وساندوا موقفه في توجيه الحديد والنار إلى صدور وظهور المتظاهرين الشباب، إنه المتهم بقتل الجياع والمعوزين والعاطلين عن العمل الذين يتظاهرون مطالبين بالخبز والعمل ومكافحة الطائفية والفساد!!
إذا كان أحدنا قد اعتقد بأن نوري المالكي هو الوحيد من بين قادة قوى الإسلام السياسي مستبداً بأمره، دكتاتوراً أهوجاً مارس القمع والقتل ضد المتظاهرين المطالبين بحقوقهم وضد الطائفية في الحكم والمحاصصة والفساد في أنحاء العراق، فأن عادل عبد المهدي يؤكد بأنه مستبد شرقي فاسد ودكتاتور أخر لا يقل عدوانية عن الآخرين إزاء المتظاهرين من بنات وأبناء الشعب. 
إن قوى الأمن والشرطة، ومعها قوى من الحشد الشعبي، ارتدت أقنعة خاصة، تنفذ أوامر رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة بقمع المظاهرات واستخدام الرصاص الحي وكل وسائل القمع الأخرى لإعادة "الأمن!" و "الاستقرار!" إلى ربوع البلاد، أي إلى حماية "الحكام الحرامية" من غضب الشعب. ويمكن أن يحاسب بصرامة وحزم عبر المحاكم كل أولئك الذين استخدموا السلاح في التصدي للمتظاهرين السلميين وقتلوا مجموعة كبيرة من الشبيبة وجرحوا المئات منهم، ولكن المتهم الفعلي بالقتل، المتهم بارتكاب هذه الجرائم البشعة في هذه الأيام العصيبة هو رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، إنه عادل عبد المهدي.
خرج علينا عادل عبد المهدي وكأنه ملك العراق الجديد ليقدم خطاب النصح الملكي للمتظاهرين بأن لا يركنوا لدعاة اليأس ولا يلتفتوا لدعاة العودة إلى الوراء! نحن الملك الدكتاتور عادل عبد المهدي أطلب من شعبي أن يركن للهدوء وسأعالج كل مشكلاته!!! أي بؤس وفاقة وقباحة تهيمن على فكر هذا الرجل القادم من عهود خلت، من قبل 1400 سنة، ليشارك في فرض مجموعة من الطائفيين واللصوص على شعب بلاد الرافدين لتبني دولة ثيوقراطية جاهلة وتخضع الشعب لهيمنة استعمارية إيرانية. 16 عاماً وأنتم في الحكم فماذا فعلتم غير نهب موارد البلاد المالية والأولية وتمزيق وحدة الشعب بالطائفية المقيتة والتمييز الديني وضد المرأة، ماذا فعلتم غير تسليم الموصل ونينوى ومحافظات الأنبار وصلاح الدين للقاعدة وداعش، ماذا قدمتم للشعب غير البؤس والعوز والجوع والحرمان والموت والخراب والرثاثة الفكرية والسياسية؟ نحن ملك العراق عادل عبد المهدي لن يكون في مقدوره خداع الشعب، ولاسيما شبيبة العراق، بالوعود المعسولة ودفع راتب شهري للمعوزين.. كفوا عن هذه الأساليب الخبيثة والمكشوفة.   
وربما الغريب بالأمر إن المرجعية الشيعية في النجف ووكلائها في كل مكان قد احتجوا ضد قتل الشيعة في البحرين، وهو أمر صائب، كما أشار إلى ذلك بصواب الدكتور قاسم حسين صالح، ولكن لماذا سكتت عن الجرائم التي ارتكبت في بغداد وذي قار والبصرة وفي مدن عراقية أخرى حتى ارتفع عدد القتلى إلى 44 شهيداً ومئات الجرحى والمعوقين حتى الآن. إنها تخشى على حكم قوى الإسلام السياسي وعلى مصالحها في العراق، وهي تخشى المظاهرات التي تطالب بالتغيير الجذري للنظام السياسي الطائفي ومحاربة الفساد، لأنه سيشملها ويشمل كل ممثلي المرجعيات الدينية في النجف وكربلاء.
لن يستطيع عادل عبد المهدي إسكات أفواه الجائعين والعاطلين عن العمل وجموع الفقراء الذين سُرقت لقمة عيشهم من حكام العراق الحاليين، ولن يمنعهم حظر التجول ولا رصاص رجال الأمن والشرطة والحشد الشعبي الإيراني والمليء بعصابات الحرس الثوري وعلى رأسهم القائد الفعلي للحشد الشعبي وللحكومة العراقية قاسم سليماني، عن التظاهر والمطالبة بالحقوق العادلة والمشروعة المغتصبة.
المظاهرات التي عمت بغداد ومدن الجنوب والوسط ستمتد لا ريب في ذلك، إن عاجلاً أو أجلاً، إلى جميع مدن العراق وأريافه، إلى كل زاوية من هذا الوطن المستباح، سينهض طلبة الجامعات والمعلمون والمدرسون وأساتذة الجامعات، سينهض العمال والفلاحون والكسبة والحرفيون، سينهض كل الناس المكتوين بنار الطائفية والمحاصصة والفساد والذين يعانون من الفقر والبطالة والحرمان وتزييف إرادته الحرة.
الشرارة متوقدة ولن تنطفئ وسيلتهم السعير الذي أججه الطائفيون الفاسدون في بلاد الرافدين حكام العراق وبقية الفاسدين.
وكما قال الشاعر العراقي كاظم السماوي:
وإذا تكاتفت الأكف فأي كف يقطعون
وإذا تعانقت الشعب فأي درب يسلكون
             

83
كاظم حبيب
سنبقى نناضل ونطالب ونحتج، ولكن... ماذا بعد؟
نحن الديمقراطيين واليساريين بكل تنوعاتنا سنبقى نناضل مع الشعب ونطالب له حقوقه واسترداد إرادته ونحتج له يومياً وفي كل لحظة ضد ما يرتكب بحقه من جرائم وموبقات لا مثيل لها وسرقات للمال العام لم تحصل بحجمها ووقاحة نهبها العلني في جميع ارجاء العالم، سنبقى ندافع عن الإنسان العراقي المُغتصب والمُنتزع من حقوقه المدنية من حكامه الإسلاميين السياسيين بكل تنوعاتهم وأشكال ظهورهم، سواء اكانوا بعمائهم ملونة أم بدونها، سواء من هم فاسدون منهم أم من مدعي الدين...، سندافع عن العاطلين عن العمل وعن الجياع المتزايد عددهم يومياً، سنحتج على من يُقتل في شوارع الناصرية وبغداد، ومن يصاب منهم بجروح وتعويق، سنندد بالقتلة ومن أعطى لهم الأوامر باستخدام الرصاص الحي وخراطيم المياه الغاز المسيل للدموع والضرب المبرح، سننظم التعازي والفواتح على الشهداء الأبرار، وسنطالب العالم كله للتضامن مع متظاهري العراق، نعم سنقوم بكل ذلك، ولكن ماذا بعد؟ علينا أن ندرك ونبلغ الشعب كله بأن هذا النظام متوحش وفاسد ولا ينفع معه كل ذلك، وأن من واجبنا أمام الشعب ان نناضل له ونتضامن معه، ولكن أن نقول للشعب بأن حكام هذا النظام مستبدون أوباش لا يعتمدون لغة الحوار والاحتجاج، بل يعتمدون لغة القوة والعنف والإكراه، قوى متوحشة لم تتردد حتى الآن على توجيه خراطيم المياه الساخنة والمطعمة بما يؤذي الجسم والعينين والرصاص الحيّ ضد الجماهير، ضد أبناء وبنات الشعب من حاملي الشهادات العالية الذين يطالبون بالعمل وخدمة الشعب، بدلا من الحوار معهم وتوفير فرص العمل لهم. انه النظام الطائفي الفاسد الساقط في مستنقع العفونة، النظام الذي لا ينفع معه سوى كنسه من الأساس، لأنه فاسد وفاسق ومتعفن من الجذور التي يرتوي منها الفسق والجشع والكراهية للشعب والوطن. إن أغلب القوى الحاكمة في العراق ليست من أهل البلاد أو تخلوا عنه كلية، إنهم غرباء وسلموا امرهم للأجنبي الإيراني الذي يهين الشعب يوميا وفي كل لحظة.
إن تصاعد الغضب الجماهيري ينبغي أن يحتضن من كل القوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية، وأن تكون مواقفها واضحةً لا لبس فيها، وليس كما يقول المثل العراقي: لا يطير ولا ينكض بالأيد". نعم هناك محاولات جادة وكثيفة من جانب أتباع إيران من "الحشد الشعبي" وأحزابها التي ترطن، كما عبر عن ذلك شعلان أبو الچون في ثورة العشرين حين عبر عن طبيعة الحكومة العراقية حينذاك التي كانت خاضعة للإنجليز، لأن حكام هذا الزمان يريدون أن يقف العراق بالكامل مع إيران وخاضعاً بالتمام لإيران وقراراتها في الصراع مع الولايات المتحدة، أن يكون العراق مستعمرة إيرانية لا غير!!!
إن من يقوم بقتل وجرح المتظاهرين هم من أعداء الشعب ومطالبه العادلة في التغيير، ولأنه لم يعد قادراً على تحمل المزيد من البؤس والفاقة والحرمان من جهة، والمزيد من نهب خيراته وموارده ولقمة عيشه بكل وقاحة وفي كل لحظة من جهة أخرى، ولم يعد يرى بصيصاً من أمل الإصلاح والتغيير الموعدين، سيوجهون نيرانهم صوبه الجماهير المتظاهرة.
لقد سطر عادل عبد المهدي المنتفجي الكثير من المقالات في التنمية ودفاعا عن الإنسان العراقي حين كان ولفترة قصيرة خارج السلطة، ويمكن الاطلاع على ذلك في جريدة العالم البغدادية. ولكن ما ان وصل الى رأس السلطة التنفيذية حتى تنمر كما تنمر من قبله المستبد بأمره الذي وجه طائراته فوق سماء ساحة التحرير ليهدد المتظاهرين بالاعتقال والتعذيب، وفعل ذلك فعلاً. لا يختلف هذا الوزير الأول عن سابقيه فقد تربوا على نفس الفكر الفاسد والمناهض لحقوق الإنسان، فبدلاً من أن يستجيب لمطالب الشعب العادلة والمشروعة والملحة، راح بأمر بقمع المتظاهرين ليثبت لأسياده في إيران بأنه حريص على ما يسعون إليه ولا يحتاجون إلى تغييره بفياض أو المهندس أو المالكي أو مستبدين آخرين تخلوا عن ضمير الإنسان لديهم إلى غير رجعة!!
علينا حماية المتظاهرين ومساندتهم والمشاركة الفعالة في تظاهراتهم وقيادتها ومنع محاولات تشويهها. إن مطالب الشعب واضحة ودقيقة وصائبة، إنها مطالب الخلاص من الطائفية ومحاصصاتها، ومن الفساد وأركانه في الحكم والأحزاب الحاكمة، إنها مطالب التغيير لصالح قيام دولة ديمقراطية ومجتمع مدني ديمقراطي ودستور ديمقراطي وحياة برلمانية ديمقراطية نزيهة لا تباع فيها المقاعد النيابية، بما فيها رئاسة المجلس، بآلاف الدولارات الأمريكية. أنها المطالب التي تدعو إلى التنمية الاقتصادية والبشرية، واستخدام موارد البلاد لصالح التقدم الاقتصادي والاجتماعي وتنظيف البلاد من التلوث والأوبئة والخرائب.
علينا الاستمرار بالتظاهر ورفض محاولات قمع الرأي الحر والحق في التجمع والتظاهر السلمي والمطالبة بالحقوق المغتصبة من قبل حكام العراق الحاليين، لأنها حقوق يدعمها حتى الدستور القائم حالياً بكل ما فيه من اختلالات وتشوه.     
 




84
كاظم حبيب
هل يكفي أن نحذر من وقوف جماعة الإخوان المسلمين وراء مظاهرات مصر؟
حين نشرت مقالي الأخير الموسوم "بشائر خير منعشة من شعب مصر"، وردتني عدة رسائل من إخوة وأصدقاء كرام، إضافة إلى بعض النداءات الهاتفية، التي أشارت باحتمال أن تكون جماعة "الإخوان المسلمين" وراء تلك المظاهرات، لاسيما وأن هتاف "ألله أكبر" قد احتل مكانه بين الهتافات أولاً، وأن دولة قطر وقناتها "الجزيرة" وتركيا" تؤيدان بحرارة تلك المظاهرات وتضخمان بها، وأن قادة الدولتين منتمون لتنظيم الإخوان المسلمين على الصعيد العالمي ومنحازون بالكامل لمسيرة وأفعال هذا التنظيم الدولي التخريبي.
لا شك قطعاً بأن هذا الاحتمال وارد، أي أن الإخوان المسلمين مشاركون فاعلون في هذه الأحداث الأخيرة. ولكن لا بد من الإشارة إلى عدد من الملاحظات المهمة:
1.   إن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر تتدهور يوماً بعد آخر وبشكل متسارع، بحيث أصبح الفقر عاماً يشمل نسبة عالية جداً من الشعب المصري، وأن الفئة المتوسطة تعاني من الاضمحلال بحيث يمكن استخدام التعبير الذي سجله الاقتصادي المصري المتوفي الدكتور رمزي زكي بقوله "وداعاً للطبقة الوسطى في مصر"، كما إن مقص الفجوة بين مستوى المعيشة والدخل للفئات والطبقات الاجتماعية في مصر آخذ بالاتساع السريع والمريع بشكل لم تعرفه مصر في أي وقت من الأوقات.
2.   إن الاستقرار الشكلي الراهن في مصر لم يأت بسبب تحسن الأوضاع المعيشة والسياسية والاجتماعية في مصر، أو سيادة الدمقراطية والحريات العامة، بل بسبب تفاقم الاستبداد والقسوة والتعذيب والتهديد بالاختطاف والاعتقال وامتلاء السجون المصرية بالمزيد من السجناء لا من أتباع الإخوان المسلمين فحسب، بل وبالأساس من القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية، ومن أولئك الذين أشعلوا الثورة ضد نظامي حسني مبارك وضد محمد مرسي وجماعته من التنظيم العدواني للإخوان المسلمين.
3.   إن الدكتاتور المصري الجديد المدعو "عبد الفتاح السيسي" يهدر أموال الشعب المصري ببناء القصور والمدن الجديدة. وحين اتهم بذلك قال في مؤتمره الصحفي الأخير: نعم بنيت وأبني وسأبني قصوراً وقصوراً كثيرة، وهي ليست لي بل لمصر!!!"، هل سمعتم شخصاً عبيطاً مثل هذا الحاكم! ملايين المصريين يتضورون جوعاً، ملايين منهم يسكنون المقابر التي تحولت إلى مقابر كأحياء سكن للبشر، وهو يتبجح بأنه يبني القصور لمصر، وهو يباري في ذلك صدام حسين ومثيله رجب طيب أردوغان!
4.   كل الدلائل والمعلومات التي تنشرها الصحف المصرية، حتى الحكومية، تتحدث عن هيمنة القوات المسلحة، وبتعبير أكثر دقة مجموعة من القادة العسكريين وعلى رأسهم السيسي ذاته، على الاقتصاد المصري، وينتشر الفساد المالي والإداري في صفوف القوات المسلحة والاقتصاد المصري على حساب قوت الشعب ومصالحه الأساسية. لم يكن الفيديو الذي نشره المقاول المهندس والفنان محمد علي وحده هو الذي حرك المظاهرات، بل واقع الحال في مصر هو الذي حرك وسيحرك دوماً احتجاجات الشارع المصري ومظاهراته وانتفاضاته ضد المستبدين الأشرار! 
5.   لقد كانت الأحزاب السياسية المعارضة قبل وقوع المظاهرات الأخيرة تبحث في إمكانية تنظيم مظاهرات ضد الفقر والبطالة والجوع والاستبداد. ويبدو إن الخبر قد وصل إلى أسماع السيسي ورهطه عبر جواسيسه وعيونه المنتشرة والمبثوثة في كل مكان بمصر، تماماً كما كان حال البشر في العراق في فترة حكم الدكتاتور الأرعن صدام حسين. فهددت قوى المعارضة بأن السلطة سوف تستخدم العنف وبأقصى صوره لقمع أي حراك جماهير ضد النظام. وهذا السلوك هو الديدن الدائم لكل المستبدين في الأرض.
6.   أشرت في مقالتي المذكورة في أعلاه إلى الفقرة التالية: "هل ستحرك هذه الشرارة قوى المعارضة الديمقراطية المصرية الى التفكير بالتعاون والتنسيق والتضامن لمواجهة دكتاتورية النظام المصري؟ هل لها أن تفي بوعودها للشعب بأنها تناضل من أجل مصالحه ووحدته الوطنية وضد المستبدين من الحكام، وليس لأغراض حزبية خاصة؟ إنه السؤال الذي ننتظر الإجابة عنه من القوى الديمقراطية المصرية كما حصل في السودان الشقيق وانتصر حتى الآن على الحكام الظالمين، رغم إن المعركة في السودان لم تنته بعد! ولكن حذارى حذارى أيها المصريون والمصريات من محاولات الإخوان المسلمين استغلال التذمر المتعاظم للعودة إلى السلطة ثانية وممارسة ذات السياسات القذرة التي مارسوها بقيادة محمد مرسي وتحت شعار "الله أكبر"، و "الإسلام هو الحل"!!!" 
إن التظاهرات الأخيرة التي يمكن أن شاركت فيها جمهرة من الإخوان المسلمين، إلا إن الجمهرة الأساسية ليست منهم، لأن الشعب كله متذمر من الوضع كله، وأن الغضب يتعاظم يومياً ضد السلطة السياسية والسيسي بالذات، بسبب سياساته، هي التعبير الواقعي المهم عن "كسر حاجز الخوف" الذي نشره السيسي خلال السنوات الأخيرة لحجم الاعتقالات وصدور الأحكام القاسية بالسجن وممارسة التعذيب الوحشي ضد المعتقلين والسجناء.
إن الشعب المصري الذي خبر حكم الإخوان المسلمين وعرفهم جيداً، حتى وهم خارج الحكم، لن يقبل بعودة وهيمنة قادة الإخوان المسلمين الأوباش على الحكم ثانية، ولكنه لم ولن يرضى بحكم العسكر وما يمارسه قادة القوات المسلحة من استبداد وفساد وظلم ضد المجتمع وقوى المعارضة السياسية في مصر.
ومن المحزن حقاً ألَّا تبادر القوى الديمقراطية، ومنها اليسارية والحزب الشيوعي المصري، وتتحرك لقيادة الجماهير لتحقيق مطالبها الأساسية ومصالحها التي داسها النظام الحاكم بأقدامه وتترك الساحة لجماعة الإخوان المسلمين الفاسدين لتنظيم التظاهرات. إن من واجب القوى الديمقراطية ألا تعيب على الغير لعب هذا الدور، رغم فسادها وعهرها السياسي، إن لم تبادر هي للعب هذا الدور، أو أن تخضع لتهديدات النظام بممارسة العنف ضد الحراك الشعبي.
أتمنى على القوى الديمقراطية المعارضة ألاَّ تكتفي بالتحذير مما يمكن أن يفعله "الإخوان المسلمون" وإشاعة الفوضى في البلاد، بل أن تتحرك لتوجه الجماهير المتظاهرة عفوياً بسبب تفاقم أوضاعها المزرية.   


85
كاظم حبيب
بشائر خير منعشة من شعب مصر
تتوجه أنظار شعوب العالم كلها نحو شعب مصر، شعب الحضارة والنضال. الشعب المصري تواق إلى الحرية والديمقراطية والتمتع بحقوق الإنسان. شعب يمهل ولا يهمل. سرقت ثوراته وانتفاضاته مرة بعد أخرى، مرة من العسكر، وأخرى من الإخوان المسلمين، وثالثة من العسكر، وكان الحكام الجدد، الذين يعدون، بعد كل انتفاضة أو ثورة، بالتجديد والخير العميم وممارسة الديمقراطية ومنح الشعب حقوقه المغتصبة من الحكام السابقين، يمارسون بلا حياء وبكل وقاحة وبعد كل مرة، مزيداً من الاستبداد والقسوة، ومزيداً من نهب خيرات البلد وسلب قوت الشعب وملء السجون والمعتقلات بمزيد من المناضلين الذين حركوا الشارع وطرحوا الشعارات الصائبة والمعبرة  عن حاجات وطموحات الناس وقادوا تلك الانتفاضات والثورات.
انظار العالم تتجه صوب مصر، صوب المظاهرات التي انطلقت بعد انتهاء مباراة الأهلي والزمالك في بطولة السوبر المصري لكرة القدم يوم الجمعة 20/09/2019 لتمتد وتصل في يوم السبت إلى مدن كثيرة. فها نحن نتابع المظاهرات الشعبية في بورسعيد ومحافظات القاهرة، لاسيما في ميدان التحرير وميدان عبد المنعم رياض، والجيزة، والإسكندرية، والسويس، والدقهلية، والغربية، والشرقية، إضافة إلى الدمياط والمحلة الكبرى، وهي كلها تنادي برحيل الدكتاتور الجديد عبد الفتاح السيسي، وتردد ""ارحل يا سيسي"، "ارحل يا بلحة"، "الشعب يريد إسقاط النظام". وتشير الأخبار الواردة من مصر عن حرق أو تمزيق صور الشخص الذيب تولى سرقة الثورة باسم الشعب ثم زيّف إرادة الشعب. جريدة العالم العراقية، 22/09/2019).
وتؤكد المعلومات الموثقة إلى استخدام الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، وتم اعتقال عشرات الأشخاص ممن شاركوا في المظاهرات. وجاء في موقعNews  BBC )بي بي سي نيوز) الخبر التالي: "ذكر بيان للمركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية إنه تلقى بلاغات بالقبض على 45 شخصا، في مدن القاهرة، الإسكندرية، دمنهور، دمياط، والمحلة الكبرى خلال التظاهرات، بينما قدر شهود عيان عدد المعتقلين بأضعاف ذلك الرقم.". (21/أيلول/سبتمبر 2019).
ولكن ما هي الشرارة التي تسببت بهذه المظاهرات في مصر؟ إنها الفديوات التي نشرها الفنان المصري محمد علي التي تدين السيسي والقوات المسلحة بالفساد وبوثائق دامغة حركت الشارع المصري لتؤكد وجود تراكم مرير من عواقب السياسات الخاطئة غير الإنسانية والاستبدادية التي بدأ بممارستها السيسي منذ اليوم الأول لتسلمه السلطة وترك يد قادة القوات المسلحة تلعب ما تشاء في الاقتصاد المصري وتهيمن أكثر فأكثر عليه، وتزيد من فقر الفقراء وغنى قادة العسكر، بمن فيهم السيسي، وبقية الأغنياء بمصر، إنها سياسة كبت الرأي الأخر وكتم الأصوات وإملاء السجون بالمنتقدين والمعارضين والمطالبين بالحريات العامة وحقوق الإنسان، إنها السياسة الاقتصادية الفاشلة التي فاقمت البطالة والاستغلال والبؤس في صفوف الشعب المصري وزادت في مديونية مصر للمؤسسات المالية الدولية.
وعقد السيسي مؤتمراً ليرد على محمد علي، فماذا كان الرد؟ لقد برهن الرد بأن الرئيس المصري لا يملك رداً على محمد علي سوى القول "إنه يكذب وأنا شريف" ويعتب على الشعب الذي جوعه وداس على كرامته أن يصدق ما نشره محمد علي!!! إن رد الرئيس السيسي يؤكد صواب تلك الاتهامات على حسب رأي الكثير من المتابعين والمراقبين لما يجري في مصر، سواء أكان من مصريين أم من أجانب!
ربما يستطيع السيسي قمع المظاهرات التي انطلقت يوم الجمعة المنصرم، ولكنها الشرارة التي ستشعل الأرض من تحت أقدام الدكتاتور، فالشعب المصري انتفض ضد المستبدين الجبابرة لا ليضع مستبد جبروت آخر على رأس الدولة المصرية.   
هل هذه الشرارة الأولى ستحرك قوى المعارضة الديمقراطية المصرية الى التفكير بالتعاون والتنسيق والتضامن لمواجهة دكتاتورية النظام المصري، هل لها أن تفي بوعودها للشعب بأنها تناضل من أجل مصالحه ووحدت الوطنية وضد المستبدين من الحكام، ولي لأغراض حزبية خاصة؟ إنه السؤال الذي ننتظر الإجابة عنه من القوى الديمقراطية المصرية كما حصل في السودان الشقيق وانتصر حتى الآن على الحكام الظالمين، رغم  إن المعركة في السودان لم تنته بعد!

86

كاظم حبيب
هل من حلول عملية لمحنة قوى التيار الديمقراطي في العراق؟
الحلقة الثانية
أسعى في هذه الحلقة إلى طرح رأيي الشخصي بشأن بعض مشكلات قوى التيار الديمقراطي العراقي، من خلال الإجابة عن الأسئلة التي وجهها الزميل الدكتور قاسم حسين صالح.

1)   هل هو الشعور بالإحباط واشاعة ثقافة التيئيس من كتاب تقدميين ومن واقع حال العراق الان.. هو الذي اوصل الصديق نبيل لهذا القرار.. ؟
إن التخلي عن السياسة ورفع قبعة الاستسلام أمام واقع معين يعتبر من العمليات الإنسانية المعقدة والمديدة التي لا يُتخذ بشأنها قرار سريع ومفاجئ من جانب هذا المناضل السياسي الديمقراطي أو الشيوعي أو ذاك، كما إنه يختلف من حالة إلى أخرى، فلا يخضع لعامل واحد لدى الجميع، بل يعود لعوامل عدة ومتنوعة ومتباينة. إذ يمكن أن يكون التخلي عن النشاط السياسي ناجم عن إحباط عام من الوضع السياسي القائم في العراق، حيث يرى هذا الشخص أو ذاك فيه نفقاً طويلاً مظلماً دون أن يرى نقطة ضوء في نهايته. كما يمكن أن يعود السبب إلى خلل عام ومديد في العلاقات الإنسانية بين القوى العاملة في الحقل السياسي في هذا الحزب أو ذاك، أو في هذا التحالف أو ذاك، أو نشوء شعور بالمرارة من منافسات غير عقلانية وغير موضوعية في عمل يقوم أساساً على التطوع والاختيار الذاتي لصالح الشأن العام. كما يمكن أن تكون هناك عوامل شخصية كالصحة أو الوضع العائلي، أو أن تكون من عوامل متداخلة ومركبة من بعض أو كل العوامل المذكورة سابقاً ...الخ.
هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى وجود أجواء غير سليمة ليست جديدة في صفوف الحركة الديمقراطية العراقية وبين أطرافها وفي تحالفاتها السياسية. كما أن هناك شعوراً بالاستعلاء والمنافسة والمناكدة والهيمنة والمزاجية من بعضها إزاء البعض الآخر. إن بروز مثل هذه المشاعر هي التي يمكن أن تقود هذا المناضل أو ذاك إلى الإحساس بالعجز عن مواجهة مثل هذه الأجواء، أو أنه غير قادر وغير مرغم عليها، فيرى أن من الأفضل له أن يترك الساحة السياسية لمن يحاول الحلول محله أو إبعاده. هناك من يتخلى عن السياسة كلية أو عن موقع معين ويواصل العمل السياسي العام دون التزامات مع قوى بعينها. لا يمكن القول بوجود إحباط عام في مجمل الحركة الديمقراطية العراقية، ولكن هناك شعور بوجود عقبات جدية على طريق التفاهم والتفاعل والتضامن والسير المشترك، رغم ضعف الحركة في المرحلة الراهنة وحاجتها لذلك، ناتجة عن وجود خلافات ناشئة عن تباين في المواقف والسياسية إزاء الوضع السائد في العراق وإزاء العملية السياسية الجارية وإزاء التحالفات السياسية القائمة. فإنهاء وجود "تقدم" أدى عملياً، من خلال نشوء تحالف جديد للحزب الشيوعي العراقي مع حركة التيار الصدري الإسلامية السياسية في "سائرون"، إلى حصول شرخ مؤذٍ في صفوف الحركة الديمقراطية العراقية الضعيفة أصلاً، وعمق الاختلاف والتباعد فيما بين هذه القوى. من نافل القول الإشارة إلى أن كل الأحزاب والقوى السياسية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، تمتلك الحق في التحالف مع من تشاء من القوى والأحزاب السياسية، ولكن من الصواب والحق أيضاً أن ينتبه كل حزب إلى الحلفاء الموضوعيين الذين يتناغمون مع أهدافه القريبة والبعيدة أولاً، ومدى تأثير التحالف الجديد على علاقاته وتحالفاته الأخرى وعلى مجمل عمل الحركة الديمقراطية العراقية. واعتقد بأن الجميع قد عاش الفوضى والارتباك اللذين سادا في صفوف الحركة الديمقراطية والصراعات التي برزت بسبب تلك الخطوة، سواء أكان ذلك في صفوف الحزب الشيوعي، أم في صفوف مجمل الحركة الديمقراطية العراقية وتأثيرها الفعلي السلبي على علاقات ونشاط أطراف هذه الحركة.
لقد مرّت الحركة السياسية العراقية بتجربة الدخول في تحالفين في الثمانينيات من القرن الماضي حين دخل الحزب الشيوعي في تحالفين في آن واحد مع "جوقد" في سوريا، ومع "جود" في كردستان العراق، الأول ساهم فيه الاتحاد الوطني الكردستاني، والثاني اشترك فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكلا الحزبين كانا في صراع وقتال فعلي حين عُقدت هاتان الجبهتان، وكانت لهما عواقب شديدة الأذى على الحزب الشيوعي ذاته، قبل غيره. لا شك في وجود فارق بين تلك الفترة وهذه الفترة وحتى بين القوى المشاركة، ولكنها تبقى تجربة غنية كان من الضروري الاستفادة من دروسها.
لقد بذلت القوى الديمقراطية جهوداً كبيرةً ومضنيةً حتى تحقق لها تشكيل "تقدم" في عام 2017. ولم تمض فترة طويلة على ذلك حتى دخل الحزب الشيوعي العراقي في تحالف مع التيار الصدري الإسلامي السياسي، متخلياً عملياً عن "تقدم" التي تفككت وغاب اسمها عن الساحة السياسية العراقية وخسرت هذه القوى جهوداً كبيرة ولسنوات عدة، لا تزال الحركة الديمقراطية في الداخل والخارج تعاني منها. 
هذا التحالف الذي حصل في الداخل انعكس بشكل سلبي حاد على واقع وعمل تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج، التي كانت قد تشكلت قبل ذاك، ومن ثم تعززت في فترة عمل "تقدم" للقوى والأحزاب الديمقراطية وعقدت مؤتمراتها ووضعت برامج لتنسيقياتها. فقد دخل إليها العطب النسبي والاختلاف في الرؤية السياسية وفي أساليب العمل وأدواته وشخوصه بين حزب التيار الاجتماعي الديمقراطي وجماعات وشخصيات ديمقراطية مستقلة من جهة، وتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية والشخصيات المستقلة المؤيدة له والمتعاونة معه من جهة ثانية. وفي هذا الإطار نشأ نوع من الصراع بين الأجندات العملية وما نشأ عنها من مماحكات ومناكدات وحتى منافسات لا تزال مستمرة ومنغصة. ومع إن مثل هذه الأجواء غير مرغوب بها بأي حال، ولكن الواقع يشير إلى وجودها ودورها السلبي وتأثيرها على مجمل عمل التنسيقيات في الخارج، حتى أدى الوضع في الفترة الأخيرة إلى استقالات وبيانات تضامن ورسائل وإساءات متبادلة لا يجوز أن تبرز بين قوى تقف في معسكر واحد رغم الاختلافات القائمة في رؤاها السياسية.
منذ ما يزيد على عام يبذل الحزب الشيوعي العراقي محاولات حثيثة لرأب الصدع من خلال تشكيل تحالفات لقوى ديمقراطية أخرى، إلا إنها لا تزال ضعيفة وشكلية رغم ضرورتها، لأن قوى أخرى تريد ضمانات لكي لا يحصل معها ما حصل قبل ذاك مع "تقدم"، لاسيما وأن الحزب الشيوعي ما زال مع "سائرون" في تحالف سياسي معقد. ولا بد من الإشارة إلى أن تحالف "سائرون" لم يقدم للشعب البديل المناسب القادر على التعبئة الضرورية، كما لم يلعب دوره في تنفيذ ما التزمت به قوى "سائرون" في محاربة الطائفية ومحاصصاتها المذلة والفساد السائد في العراق وتبعية العراق للخارج، بل هناك من الدلائل ما يشير إلى تورط العديد من أطراف "سائرون"، ما عدا الحزب الشيوعي، في معمعان الطائفية والفساد والمحاصصة في الدولة العراقية، إضافة إلى احتلال "سائرون" المئات من الوظائف المدنية المهمة التي أنيطت بهم على أساس المحاصصة الطائفية، والتي لم يتلوث بها الحزب الشيوعي حتى الآن، إضافة إلى وجود ميليشيا مسلحة لدى التيار الصدري الذي يقود "سائرون" باسم "سرايا السلام" التي تشكل جزءاً من الحشد الشعبي. وفي هذا الحشد الشعبي تؤمن غالبية الميليشيات الطائفية المسلحة وقياداتها بولاية الفقيه الإيراني، ويعتبر قائدها الأعلى، وتأخذ الفتاوى والأوامر منه وليس من رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة. كما لم يعد بإمكان القوى الديمقراطية العاملة في سائرون توجيه أي نقد لـقائد سائرون الفعلي "مقتدى الصدر" حين يكون النقد موضوعياً وضرورياً.
حين تنشأ مشكلات في صفوف الحركة الديمقراطية العراقية ينبغي أن نتوجه بدراسة طبيعة تلك المشكلات والعوامل التي تسببت بها وسبل معالجتها بعيداً عن التشنجات والتوترات والإساءات، إذ من تسيء له اليوم لا بد ستعمل معه غداً لأن الجميع في موقع واحد وليس في موقعين، وحين ذاك يصعب عليك الدفاع عنه، إذ أن المصداقية ستسقط أمام الناس.
أؤكد مرة أخرى بأن على قيادات القوى والأحزاب الديمقراطية في العراق أن تعقد لقاءات مكثفة وعاجلة لمعالجة الوضع الراهن لكي لا تحصل تداعيات إضافية فتتساقط التنسيقيات كقطع الدومينو التي لا يريد ولا يرغب أي منا حصولها. إن استقالة الزميل نبيل تومي، بغض النظر عن العوامل التي كانت وراءها، أثارت مشكلة كانت وما تزال تعاني منها الحركة الديمقراطية العراقية وتستوجب الدراسة والمعالجة ولهذا يمكن القول "رب ضارة نافعة"! وهي موضوع الحلقة الثالثة.
يتبع
 


87
كاظم حبيب
هل من حلول عملية لمحنة قوى التيار الديمقراطي في العراق؟
(الحلقة الأولى)
أثارت استقالة الزميل نبيل تومي الهواجس والاجتهادات حول العوامل الكامنة وراء تقديم هذه الاستقالة. في حينها كتبت تعليقاً قصيراً رجوت من قوى التيار الديمقراطي في بغداد دراسة هذه المسألة وعموم وضع التيار الديمقراطي في الداخل والخارج لتأمين تطور مناسب لقوى التيار الذي يعوَّل عليه الكثير في أوضاع العراق الراهنة. وقد كتب لي الزميل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح رسالة جاء فيها ما يلي:   
" تشخيصك صحيح جدا.. ينبغي إيصاله الى الحزب الشيوعي والقوى التقدمية ايضا. من اختصاصي كسيكولوجست اتساءل: هل هو الشعور بالإحباط واشاعة ثقافة التيئيس من كتاب تقدميين ومن واقع حال العراق الان.. هو الذي اوصل الصديق نبيل لهذا القرار.. وقد يكون العد التنازلي للقوى الماركسية والتقدمية والمدنية في العراق؟ هل هو ضعف.. تقصير.. فشل.. نواب هذه القوى في البرلمان؟ " (الرسالة في أرشيفي الشخصي).
قبل هذا وذاك وصلتني رسالة موجهة لي وللزميلين جاسم المطير وزهير كاظم عبود من الزميل الأستاذ الدكتور تيسير عبد الجبار الآلوسي يرجو فيها المساعدة لمعالجة المشكلة المتفاقمة في عمل اللجنة التنسيقية للتيار الديمقراطي في هولندا. في حينه كنت قد أكدت بأن المشكلة يفترض أن تعالج في بغداد أولاً. وقد قرأت بعد ذلك حضور الزميل الدكتور أحمد إبراهيم إلى هولندا وحضوره اجتماعاً واسعاً لمعالجة المشكلة. ثم قرأت يوم أمس بياناً تضامنياً من مجموعة من المثقفين العراقيين العاملين ضمن قوى التيار الديمقراطي ومن المستقلين في هولندا يعلنون فيه انسحابهم من العمل في هذا المجال الحيوي والتطوعي. إن هذه الحالة وعموم ما حصل خلال السنوات الثلاث المنصرمة في إطار قوى التيار الديمقراطي، والتي كانت تشغل بال ونشاط اللجنة التي شاركت في تأسيسها تحت اسم "لجنة المبادرة لدعم وحدة القوى الديمقراطية العراقية" بالمشاركة مع الزملاء "تيسير الآلوسي، زهير كاظم عبود، نهاد القاضي، غيث التميمي، سلمى السدَّاوي، رابحة مجيد الناشئ، محمود سعيد الطائي، وكاترين ميخائيل وكاتب السطور". وكان همَّ هذه اللجنة الدفع باتجاه إيجاد صيغة عملية لوحدة نضال قوى التيار الديمقراطي في هذه المرحلة الأكثر حراجة ومحنة وتأزماً من تاريخ  العراق الحديث. ورغم أن اللجنة قد تم الترحيب بها من قبل الجميع لأن هدفها الوحيد هو الدفع باتجاه الاتفاق والعمل المشترك لقوى التيار الديمقراطي، فإنها عانت من اعتقاد لدى البعض بأننا ننوي احتلال موقع على حساب جهة أخرى، والذي لم يكن في بال أي زميل منّا.       
سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أشارك في طرح وجهة نظري بشأن الوضع في صفوف قوى التيار الديمقراطي
وفي الرسالة التي وجهتها اللجنة بتاريخ 29/10/2017 بمناسبة انعقاد مؤتمر "تقدم" جاء ما يلي:
"لقد تم تشكيل لجنة المبادرة المستقلة، وهي ليست بحزب أو منظمة، بهدف دعم جهود قوى التيار الديمقراطي وبقية القوى الديمقراطية والمستقلة والشخصيات الدينية العلمانية لتحقيق التعاون والتنسيق والتحالف فيما بينها لضمان السير على طريق تغيير واقع العراق الراهن. ويسعدنا تحقيق هذا التحالف الجديد، آملين أن يتم التعاون والتنسيق مع قوى أخرى يمكنها أن تكون مع "تقدم" وتلعب دوراً مهماً باتجاه تحقيق الدولة الديمقراطية العلمانية بالعراق. وسنبقى نعمل وندعم "تقدم" من أجل تحقيق هذا الهدف." (راجع: كاظم حبيب، رسالة تحية وتهنئة موجهة إلى تحالف القوى الديمقراطية العراقية (تقدم) الحوار المتمدن، 30/10/2017).
سأحاول في عدة مقالات أن أطرح وجهة نظري الشخصية عن الأهمية والضرورة الملحة لتجميع وتعبئة قوى هذا التيار الديمقراطي لصالح تحقيق الأهداف المرجوة والمنشودة من الشعب العراقي أولاً، وكذلك الإجابة الواضحة عن الأسئلة المهمة التي وجهها لي الزميل الفاضل الدكتور قاسم حسين صالح ثانياً. 
الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد يشير إلى تفاقم المعركة السياسية والاجتماعية بين غالبية الشعب العراقي ومعها القوى والأحزاب والشخصيات الديمقراطية المستقلة والجماعات المتنورة والواعية بأهمية وضرورة فصل الدين عن الدولة والسياسة من جهة، وتلك القيادات في القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الفاسدة التي تقود الحكم الطائفي الفاسد والمتخلف والتابع الحالي من جهة ثانية. وتصر القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة على مواصلة ذات السياسات الطائفية والفساد المالي والإداري الذي بدأت بممارسته منذ تسليمها الحكم في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الغاشمة من قبل المحتل الأمريكي وبدعم مباشر من القيادة الإيرانية الطائفية والفاسدة حتى الآن. فالنظام السياسي الطائفي الفاسد القائم هو ليس النظام الذي يعبر عن إرادة الشعب ومصالحه الأساسية، فهو ليس نظام القوى السياسية الديمقراطية والشعب الذي جاء بحفنة من السراق وقطاع الطرق والمارقين الذين اثروا على حساب خزينة الدولة وأموال الشعب ونشروا الرذيلة والفتنة بالبلاد.
تتميز المعركة السياسية والاجتماعية الجارية بالقسوة والمرارة، وستكلف الكثير من التضحيات الغالية من بنات وأبناء الشعب وقواه الوطنية والديمقراطية النزيهة والمخلصة. ولهذا فخوض هذه المعركة يستوجب الاستعداد المتعدد الجوانب المستمر والمتطور لها من الجانبين النظري والعملي، والذي يمكن أن ألخصه بما يلي:
أولاً: الإمعان في التمييز ووضع الحدود ورفض التمييع والتشابك بين القوى السياسية الطائفية والفاسدة والتابعة الحاكمة من جهة، وبين القوى الديمقراطية والتقدمية والمتنورة الرافضة للطائفية ومحاصصاتها المذلة وللفساد والتبعية لإيران أو غيرها من الدول. إن مثل هذا التمييز الواضح في المواقع والأفكار والأهداف يسهم في تعبئة القوى النظيفة في المجتمع والواعية في مواجهة تلك الحفنة من النخب الإسلامية السياسية الحاكمة التي برهنت على أنها بلا ذمة وضمير أو أخلاقٍ في التعامل مع مصالح الشعب وهمها أولاً وأخيراً مصالحها الذاتية الضيقة والمحرمة قانوناً.
ثانياً: عدم السكوت عن خبايا النظام السياسي الطائفي والفاسد والتابع في جميع جوانب سياساته وإجراءاته المناهضة للحياة الديمقراطية والحريات العامة والمتعارضة مع أهم بنود الدستور العراقي، لاسيما في مجال حقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والفلسفية وحقوق المرأة والطفل على نحو خاص.
ثالثاً: اعتبار الفساد والطائفية من جهة، والإرهاب الفكري والسياسي من جهة أخرى، هما وجهان لعملة واحدة، وهو ما يتميز به النظام العراقي الراهن، ويزيده بؤساً وفاقة خضوعه للإرادة الإيرانية ومساومته المستمرة مع الولايات المتحدة مرة وإيران مرة أخرى.
رابعاً: إن القوى الديمقراطية العراقية بكل أحزابها وكتلها وتجمعاتها المدنية وشخصياتها الوطنية المستقلة تشكل تياراً سياسياً واجتماعياً مدنياً ديمقراطياً عريضاً وواسعاً في البلاد يسعى إلى بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي، إنه يضم من الناحية الاجتماعية بقايا البرجوازية المتوسطة وفئات البرجوازية الصغيرة، ومنهم الكسبة والحرفيون وصغار المنتجين وصغار الموظفين، إضافة إلى الطلبة والمثقفين والعمال والفلاحين، علماً بأن جزءاً كبيراً من هذه القوى غير منظمة في أحزاب سياسية أو تنظيمات مهنية أو نقابات أو جمعيات مجتمع مدني، بل هم مستقلون ولكن لهم مصالح تلتقي مع مصالح القوى الديمقراطية العراقية.
خامساً: في مقالات لي طرحتها في الفترة الأولى من إسقاط الدكتاتورية طرحت شعاراً يؤكد الأهمية الفائقة لرفع شعار "قووا تنظيم الحركة الوطنية والديمقراطية تقوى وتتعزز تنظيمات احزابكم السياسية"، أي قلبت بمعنى معين شعار الرفيق فهد الذي قال في أوائل وجود الحزب: قووا تنظيم حزبكم. قووا تنظيم الحركة الوطنية". ومثل هذا الشعار ينسجم تماماً مع الحياة السياسية والمشكلات القائمة والصراعات المحتدمة. وهذا الأمر لا يزال قائماً ومطلوباً بإلحاح كبير.
سادساً: ومثل هذا التوجه الضروري يتطلب موقفاً شديد الوضوح والحساسية من جانب الحزب الشيوعي العراقي، باعتباره أكثر الأحزاب العراقية الوطنية عمراً وتجربة، إضافة إلى امتلاكه نظرية ومنهجاً تساعده على التحليل واستنتاج السياسات والحلول العملية والواقعية للمشكلات القائمة، من خلال إبراز وتنشيط وتشجيع القوى والأحزاب والحركات والكتل والشخصيات الديمقراطية في ثلاثة مجالات جوهرية هي:
1.   في الائتلافات السياسية الانتخابية والتحالفات الجبهوية في الداخل والخارج.
2.   في منظمات المجتمع المدني الديمقراطية في الداخل الخارج.
3.   التعامل الواعي والديمقراطي في قبول أو رفض سياسات أو مواقف أو إجراءات الحزب في المجال الديمقراطي وإخضاعها الفعلي لمبدأ الأكثرية والأقلية.
إن هذا لا يعني بأي حال تخلي الحزب الشيوعي عن المشاركة أو تأمين مواقع عمل نافعة وضرورية لرفاق الحزب في تلك المجالات، بل أن يتم ذلك باختيار خيرة العناصر المتميزة بالاستقلالية والديمقراطية والمرونة المبدئية، وأن تكون الأكثرية للقوى الديمقراطية والمستقلة لضمان التعبئة الواسعة في وحول هذه المنظمات.   
تشير أدبيات الحزب الشيوعي العراقي إلى أن قيادة الحزب تسعى لتحقيق ذلك. وهو ما كنا نطرحه في السابق أيضاً. ولكن تجربتي الطويلة في السابق، بما في ذلك مسؤوليتي عن تنظيمات الخارج في النصف الثاني من العقد التاسع من القرن  العشرين ومعاينتي للواقع على صعيدي الداخل والخارج سابقاً وحالياً، لاسيما الخارج، تشير إلى وجود أشخاص على رأس منظمات الحزب أو قيادة الخارج، أو بعض الشيوعيين والشيوعيات العاملين في التنظيمات الديمقراطية، يتعاملون بغلظة وتشدد، أي بصيغة أخرى غير صيغة الدماثة وصيغة التعامل الأخوية المطلوبة التي قيل لي من أكثر من رفيق قيادي في الحزب أنهم يبشرون بها ويروجون لها، وهو أمر يؤكده الكثير من الأشخاص وتؤكده وقائع الحصاد الراهن التي تشير إلى استمرار وجود هذه الظاهرة السلبية أيضاً.
لا بد هنا من الإشارة إلى أن القوى الأخرى أو الديمقراطيين المستقلين ليسوا كلهم ملائكة أو بدون أخطاء أو بدون حساسية إزاء الحزب الشيوعي العراقي، لاسيما أن جمهرة منهم كانوا في السابق أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي.
التتمة في الحلقات القادمة
             


88
كاظم حبيب
حكومتان أم حكومة واحدة، جيشان أم جيش واحد في العراق؟
هذا سؤال كبير يدور في بالي، وكما أرى يدور في بال الملايين من البشر في العراق وخارجه. هذا السؤال يدور في بالي كل يوم، بل وفي كل ساعة ولحظة، أقرأ أو أسمع فيها أخبار العراق وتصرفات مجموعة من قادة القوى والأحزاب الإسلامية السياسي في العراق، وهم في الوقت نفسه قادة عسكريون في الحشد الشعبي. لهم مقرات وزارية في مقرات أحزابهم ومقرات لهم كقادة عسكريين في مقرات الحشد الشعبي، وهم في الوقت نفسه شيوخ أو رجال دين مزيفين، ورئيسهم ليس رئيس وزراء العراق، بل خامنئي، هو رئيسهم، وقائدهم العسكري ليس القائد العام للقوات المسلحة العراقية، بل خامنئي ونائبه في العراق العميد قاسم سليماني. وهكذا، فعند الشدة لا يلجؤون الى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في العراق بل إلى طهران مباشرة ودون أخذ الإذن من أحد، ليتلقوا الفتاوى والتعليمات من ولي الفقيه علي خامنئي وقادة الحرس الثور وفيلق القدس والبسيج، وربما أيضاً من حسن روحاني.
لم يكن عبثاً ولا عفوياً حين وصف "معاون زعيم ميليشيات النجباء، يوسف الناصري، بتصريح متلفز، الجيش العراقي بـ"المرتزق"، وطالب بحله وإسناد مهامه إلى ميليشيات الحشد الشعبي"، بل هو نهج ثابت لدى قادة تلك الأحزاب الإسلامية السياسة التابعة لإيران وقادة الحشد الشعبي التابعين عقلاً وعاطفة لإيران حيث يجسد روح الانتقام من الجيش العراقي ورغبة إنهاء دوره لصالح الحشد الشعبي المعبر عن إرادة ومصالح إيران في العراق.
إنها المعضلة الكبيرة التي يعاني منها العراق: يسافر اثنان من قادة الحشد الشعبي، وهما نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس وزعيم حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وهما من أشد أنصار ولاية الفقيه الإيراني علي خامنئي، في زيارة غير معلنة، بهدف الحصول على "منظومة دفاع جوي محدودة ـ باور 373" لمواجهة الطيران المعادي، لصالح القوات الإيرانية في العراق، أي لصالح "الحشد الشعبي". والسؤال لماذا لم يكلف رئيس الوزراء قادة عسكريين في الجيش العراقي ليقوموا بزيارة رسمية إلى إيران أو إلى أي بلد آخر لاقتناء السلاح المناسب للدفاع عن الأجواء العراقية. وهذا الشخصان هما من رفض أيضاً قرار دمج الحشد الشعبي بالقوات المسلحة العراقية، بل يريدون دمج حل الجيش العراقي ودمج بعض وحداته بالحشد الشعبي ليحل مجل الجيش العراقي! هكذا تسير الأمور في العراق!
وليس غريباً ألَّا يعترض أو يحتج رئيس الوزراء على هذه الزيارة، فهو منهم وأليهم، ولا يجد غضاضة أن يهمل، فهو ليس الأمر بنفسه، بل مأمور ممن أجلسه على مقعد رئاسة الوزراء، وهكذا حال رئيس الجمهورية، الذي لا حقوق ولا واجبات له في الدولة العراقية، ولكن الغريب حقاً أننا لا نسمع أصوات احتجاج من القوى التي تتحدث عن رفض وجود حكومة ظل، ونرفض وجود دولة داخل دولة وجيش داخل جيش.
إن الحشد الشعبي يريد، شاء الشعب العراقي أم أبى، أن يقف العراق الرسمي إلى جانب إيران في صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه سيكون العراق جبهة أمامية في هذا الصراع، وسيتلقى الضربات الجوية العدوانية من إسرائيل الحليف الأساسي للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وفي الصراع مع إيران.         
هناك حكاية قديمة حين زار امبراطور المانيا وزوجته دمشق الشام وأعجبت الإمبراطور بحمار ابيض كان في الشارع حين مرور الموكب، فأرادت الحصول عليه. رفض صاحب الحمار التخلي عنه لكيلا يقال بأن الإمبراطورة لم تجد في الشام غير الحمار لتعجب به. فبلغ الإمبراطور وزوجته بموقف صاحب الحمار فقال الإمبراطور: "هناك أناس يخافون على سمعة بلادهم من الحمير، وهناك حمير تبيع البلد بما فيه!!!" هذا هو ما يحصل في بلاد الرافدين في المرحلة الراهنة!! 
31/08/2019


       

89
كاظم حبيب
العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية وحقوق الإنسان ومكافحة الفقر
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن نسبة الفقر في العراق وصلت اليوم إلى 22،5% مقدرة على أساس عينة عشوائية، في حين أن الواقع العراقي يشير إلى إنها تزيد عن 30% من إجمالي السكان، ولاسيما في المحافظات التي تعاني من فقر مدقع تزيد في بعضها عن 50%، كما في محافظة المثنى. وطرحت اللجنة، التي شكلت لوضع استراتيجية تخفيف الفقر في العراق والمكونة من خبراء عراقيين وأجانب بالتعاون مع مؤسسات دولية مختصة، في مقدمتها البنك الدولي، برنامجا يتضمن مجموعة نقاط وردت التنمية الاقتصادية في آخر تلك التوصيات وأكثرها اختصاراً. وهو أمر مفهوم حين يكون البنك الدولي طرفاً رئيسياً في مثل هذه المعالجات المناهضة في جوهرها للإنسان عموماً والفقير خصوصاً، والمعبرة بصدق عن مصالح رأس المال والدول الرأسمالية المتقدمة.
تغيب عن هذه الاستراتيجية البائسة كل القضايا الجوهرية والمسائل الأساسية التي كانت وما تزال تعتبر السبب وراء وجود الفقر والفقراء في العراق، هذا البلد الغني بثرواته وقدراته البشرية وجمهرة المثقفين والعلماء والفنيين. ومن الملاحظ أن تفاقم حالة الفقر ونسبة الفقراء المرتفعة قد قادت وماتزال تقود إلى توترات اجتماعية لا يمكن لأي متتبع تجاوزها. (قارن: د. حسين أحمد السرحان، استراتيجية التخفيف من الفقر 2018 - 2022 في العراق، جريدة العالم، الخميس - 22 اب/ اغسطس 2019). (راجع أيضاً خطة التنمية للفترة 2018-2022، وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء) استراتيجية لتخفيف من الفقر).   
من البديهيات في علوم السياسة والاقتصاد والمجتمع الوقائع التالية: حين تغيب سلطة الشعب الديمقراطية، وحين تصادر الحريات وحقوق الإنسان وحرية وحقوق المرأة، وحين تغيب العدالة الاجتماعية، وحين تسقط من البرنامج التنفيذي الفعلي الرؤية العقلانية والتناغم المنشود في عملية تنمية اقتصادية وبشرية ناضجة ومستدامة، وحين يسود في الواقع نظام سياسي طائفي وفاسد، حيث يشكل الفساد نظاماً قائماً بذاته فعلياً ويمارس في جميع سلطات الدولة ومفاصلها وأجهزتها ومؤسساتها من القمة إلى القاعدة، وحين يهيمن الفاسدون وأحزابهم على مقدرات السلطة والمال العام والمجتمع، وحين تنتشر المافيات المنظمة تنظيماً عالياً ومرتبطة بدول الجوار وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي ولها ميليشياتها المسلحة تسليحاً عالياً يفوق تسليح القوات المسلحة الرسمية، وحين تعمل بتخصص وفي جميع المجالات، وحين تمتد أذرعها إلى الاقتصاد الوطني وحياة الناس ومعيشتهم اليومية، عند ذاك اقرأ على أي برنامج مهما كان عقلانياً سليماً الفاتحة في مواجهة ومكافحة أو حتى تخفيف الفساد، فكيف والأمر مع استراتيجية تخفيف الفساد التي يشارك في وضعها البنك الدولي!                 
الديمقراطية وحقوق الإنسان ملح الحياة، حين ينقص الملح في جسم الإنسان يختل توازنه، وربما ينتهي ما لم يتم تدارك هذا النقص. والديمقراطية ليست فقط غائبة عن العراق، بل تعتبر في عرف قوى الإسلام السياسي كفر، ولكن ابتدع المحدثون منهم إمكانية وضرورة استخدامها كأداة أو وسيلة للوصول إلى السلطة ومن ثم التنكر لها لأنها منكر أساساً. إن أية إستراتيجية جادة وعقلانية لمحاربة الفساد تتطلب قبل كل شيء وجود نظام ديمقراطي حر يستند إلى دستور ديمقراطي يقر المبادئ الديمقراطية في تشكيل الدولة، وأعني بذلك إلى دستور يقر الفصل بين سلطات الدولة الثلاث وتمارسها الدولة فعلاً، والفصل بين الدين والدولة لصالح الدين والدولة في آن واحد، ومنع قيام أحزاب دينية طائفية في بلد متعدد الديانات والمذاهب، بل يفترض أن تقوم على أسس فكرية وسياسية ديمقراطية تؤمن بمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والموحدة، وترفض العنصرية والشوفينية والطائفية والتمييز الديني والمذهبي، وكذلك ترفض التمييز بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق والواجبات والمواطنة. أي وجود دولة دستورية وبرلمان نزيه وقضاء وادعاء عام مستقلين، ورؤية واضحة لواقع العراق الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي وقدراته المادية والبشرية من أجل وضع استراتيجية شاملة لمجمل الاقتصاد والمجتمع، بما في ذلك مكافحة الفساد والبطالة والإرهاب وغياب العدالة الاجتماعية. والسؤال العادل الذي يفرض نفسه علينا هو: هل هذه المتطلبات، بل حتى الجزء الأساسي منها متوفر في العراق؟ الإجابة نجدها في الكثير من المقالات التي تنشرها جريدة العالم أو جريدة المدى وصحف عديدة أخرى. فلو قرأنا مقالات السيد علي الشرع، التي تبحث في يوميات الاقتصاد العراقي والمنشورة في جردية العالم لتعرفنا على حقيقة غياب مستلزمات محاربة الفساد في العراق أو التوجه الفعلي صوب التنمية، أو لو اطلعتا على رسالة الأستاذ أحمد موسى جياد الموسومة: "ما هذا يا وزارة الكهرباء- متابعة مهمة مع ديوان الرقابة المالية الاتحادي الموقر"، بتاريخ 24/آب 2019، التي يكشف فيها ما يعتبر نوعاً من الفساد المبطن والمكشوف من جانب وزير الكهرباء، والأسلوب المخاتل الذي يستفيد من دولة وسلطة فاسدتين لا تريد الكشف عن الفساد والفاسدين، رغم وجود أناس شرفاء في هذا النظام الفاسد أيضاً، وهو ما يشير إليه الأستاذ جياد نفسه.
تقرير استراتيجية تخفيف الفقر يراهن على النظام القائم ويطالب من الفاسدين إصلاح بعض جوانب الفقر والفساد، ولكنه يبتعد كلية عن عملية تغيير بنية الاقتصاد الوطني والإدارة الاقتصادية، البنية الريعية التي أوجدت دولة ريعية نفطية فاسدة ومفسدة، إذ مثل هذه الدولة هي التي يحتاجها البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، وهو الذي يتجلى فيما رسمته خطة التنمية الخمسية 2018-2022. ومن يتابع القسم الخاص بالصناعة التحويلية في الخطة يدرك مدى ابتعاد المخطط عن تلك السياسية الاقتصادية والاجتماعية التي في مقدورها مكافحة التخلف والبطالة والفساد في البلاد. إن الحكومة الحالية تتحدث عن أهمية القطاع الخاص الصناعي، ولكن السؤال العادل هنا أيضاً: هل تساهم الحكومة في توفير مستلزمات تطوير وتوسيع قاعدة نشاط القطاع الخاص الصناعي أو حتى الزراعي، أم أن سياستها التجارية المفتوحة الأبواب على مصراعيها وسياستها الجمركية المتخلفة عن حاجات الاقتصاد الوطني وحماية الصناعة والزراعة المحلية، التي وضعها بول بريمر قادت وتقود إلى المزيد من منافسة الإنتاج المحلي وتدميره عملياً؟ كلا بأي حال، لإنها السياسات التي يروج لها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي التي سوف لن تنهي التخلف والبطالة والفساد، بل تزيدها وتعمل على إعادة إنتاجها في البلاد!           



90
كاظم حبيب
هل العراق دولة مستقلة ذات سيادة؟
تمر الأيام والأسابيع والأشهر والسنين مسرعة والوعود الكاذبة والمخاتلة تتوالى لتنطلي على كثرة كاثرة من الناس الطيبين من بنات وأبناء الشعب العراقي المستباح بالطائفية والفساد السائدين والهيمنة الأجنبية. عاد العراق كما كان قبل 70 عاماً تسوده علاقات شبه إقطاعية – عشائرية وشبه استعمارية، عراق تابع لدولة جارة ترى فيه جزءاً حيوياً من الإمبراطورية الفارسية، وجزءاً أساسياً من مجال نفوذها الاقتصادي والسياسي ومصالحها الأخرى في الهيمنة على المنطقة بأسرها. قادة إيران يرون في طاق كسرى وبغداد عاصمة ثانية لهذه الإمبراطورية إلى جانب طهران العاصمة. لم تعد الحكومات العراقية المتعاقبة منذ العام 2005 حتى الآن سوى طائرات ورقية خيوطها بيد علي خامنئي المرشد الإيراني الأعلى لقوى الإسلام السياسي الشيعية الطائفية في إيران ولأغلب الميليشيات الشيعية المسلحة وأحزابها السياسية التي تدين بالولاء لإيران ولخامنئي. لم يعد هذا التشخيص مقتصراً على تقدير جمهرة من الديمقراطيين العلمانيين فحسب، بل اتسع ليشمل بعض قوى الإسلام السياسي التي ترى بأن القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والابتعاد الجاد لم يعد بيد رئيس وزراء العراق، بما في ذلك قرار الابتعاد عن محاربة ومحاكمة رؤوس الفساد في البلاد، بل بيد ممثل خامنئي والحرس الثوري الإيراني العميد قاسم سليماني. إنه بمثابة "المستشار الذي شرب الطلا: فهل تنفع عربدة رئيس الوزراء والادعاء بقدرته على منع الطيران فوق سماء العراق إلَّا بموافقته وبقرار منه!
بالأمس رأينا مواطناً عراقياً طريح الأرض المتربة في وسط مدينة البصرة، في شارع عام، وجه له شخص بندقيته الرشاشة، ثم عشرات الأشخاص وجهوا نحوه بنادقهم الرشاشة وبشكل جماعي وأردوه قتيلاً، حولوا جسده إلى منخل (غربال) من كثافة الرمي الناري من فوهات بنادقهم الرشاشة التي وجهت لهذا المواطن الأعزل طريح الأرض. ثم ارتفعت فوهات ذات البنادق صوب السماء لتمطرها بألاف الإطلاقات إعلاناً عن انتصارهم وانتقامهم وقدرتهم على تحدي وتخطي هيبة القانون والقضاء والحكومة والدولة معاً، إذ لم يعد لكل هذه المسميات هيبة تذكر. لم يعد هؤلاء القتلة إلى العمل في جنح الظلام لاغتيال مواطن عراقي، فهم يتكئون على عشائرهم، وهي أقوى وأكثر هيبة من الدولة الطائفية الفاسدة والمشوهة والهامشية في دورها وفعلها. فهم أعلى من القانون والدستور المفرغين من محتواهما ومن القضاء الفاسد والمسيَّس والعاجز عن النهوض بما اقسموا عليه القضاة باحترام القانون والدستور ومهنتهم.
بالأمس قتل الكاتب والأديب والشخصية الاجتماعية الدكتور علاء المشذوب في مدينة كربلاء دون أن يجد رئيس الوزراء العراقي سبباً لاهتمامه بهذا الموضوع، فالقتلة هم من ضمن القوى التي رشحته لرئاسة الوزراء ومنحته ثقتها، فهل يمكن أن يخيب ظنها، لاسيما وأن المغدور تخطى المحظور من الأمور، تحدث عن الخامنئي بما لا يقبل به أوباش العراق من المليشيات الشيعية المسلحة والمتطرفة. فهل تحرك القضاء العراقي ورئيسه ليستفسر عن القتلة؟ وأين هو المدعي العام؟
وقبل ذاك اغتيل الكاتب والمسرحي هادي المهدي، ثم اغتيل الكاتب المبدع والشيوعي المتميز والمناضل من أجل دولة ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي كامل عبد الله شياع (في الذكرى الحادية عشرة لاستشهاده) على أيدي القتلة من أفراد المليشيات الطائفية التي عملت وتعمل ضمن بعض الأجهزة الأمنية الملتصقة بإيران وسياساتها ونهجها في التخلص من العناصر النشطة. وضاع دم هؤلاء لقلة المطالبين بدمه وخشية على العملية السياسية المشوهة الجارية!
بالأمس واليوم يستمر نهب أموال البلاد بشتى الأساليب والطرق. الحرامية كانوا ولا زالوا يملأوون وظائف الدولة الكبرى، إلا من تسنى له مغادرة العراق بما نهبه هو أو أبناءه وأقاربه في تصوره الخاطئ أنه سيحاسب! الأموال المنهوبة من خزينة الدولة أو عبر تهريب النفط الخام والعملة الصعبة (الدولار في مزاده العلني)، تقدر بعشرات المليارات، فهل حوسب أحد على ذلك؟   
اشرت أكثر من مرة إلى أن العراق أصبح منذ سنوات وكأنه أرضاً إيرانية أو مدينة تابعة لإيران. ففي هذا العراق المستباح تمتلك إيران أكبر ترسانات للسلاح الإيراني الحديث الموزع في مناطق مختلفة من العراق، كما تحول إلى مقر أساسي للمخابرات الإيرانية والحرس الثوري والبسيج وغيرها من التنظيمات الإيرانية، ومنها فرق خاصة ومدرية للاغتيالات التي تتكون من مجموعات عراقية ذات انتماء ديني مذهبي سياسي إيراني وعناصر إيرانية مؤدلجة مذهبياً. وهي منتشرة في جميع أنحاء العراق، لاسيما في الوسط والجنوب وبغداد.
وبالأمس أيضاً توجهت طائرات "مجهولة الهوية!" قصفت ترسانات الأسلحة، التي يقال إنها تابعة للحشد الشعبي، في أكثر من موقع في العراق، إنها وضعت في معسكرات تضم مخازن للصواريخ، وربما، نصبت فيها منصات صاروخية إيرانية، من بينها معسكر صقر ومعسكر الشهداء، وهي كلها أسمياً تابعة للحشد الشعبي!! ولكن أليس هو الحرس الثوري أو شقيقه؟   
لقد هددت إسرائيل كل الدول التي توافق على جعل أراضيها مخازن سلاح لإيران، ستتعرض لقصف جوي وتدمير مباشر. وفي العراق، كما يبدو، هناك مخازن للسلاح الإيراني وأخرى لحزب الله اللبناني الإيراني، وثالثة للمليشيات الشيعية المسلحة ذات الهوية الإيرانية والمسجلة رسمياً باسم الحشد الشعبي. لم تتأخر إسرائيل في ضرب مخازن أسلحة في سوريا تابعة لإيران ولحزب الله، والآن جاء دور العراق. لا يمكن إخفاء السلاح الإيراني في الأراضي العراقية عن المخابرات الأمريكية أو عن التصوير الجوي لطائرات الاستكشاف الأمريكية والإسرائيلية. كما لا يمكن لقرار عادل عبد المهدي بمنع الطيران في سماء العراق دون موافقته أن يمنع قصف مخازن السلاح في البلاد، وما قراره إلا محاولة بائسة لاستغفال المجتمع العراقي، إذ أن الطيران الإسرائيلي لا يطلب الأذن من عبد المهدي حين يتطير في أجواء العراق دون أن تلتقطه الرادارات العراقية. فما دامت السيادة العراقية مخترقة بشكل تام وليس من جانب إيران فقط، بل وقبل ذاك وحالياً من الولايات المتحدة أيضاً، ومن إسرائيل تأكيداً وبصيغ مختلفة، سيبقى العراق هدفاً سهلاً وستنشط مجدداً وأكثر من السابق قوى الإرهاب الدولي داعش وبناتها، والمليشيات الشيعية المسلحة وبصيغ جديدة معرضة حياة المزيد من الناس إلى مخاطر الموت والإصابة والمزيد من الخسائر المادية والحضارية.
أتمنى على القوى الديمقراطية الواعية والمدركة لما يجري في العراق وما يمكن أن يحل به، أن تكون بعيدةً عن القناعة بأن الوضع الراهن مناسب لها ولعمل القوى السياسية العراقية، وأنه يتطور نحو الأفضل، في حين أن المياه العكرة تسير من تحت أقدامها دون أن يحسوا بها، فتغرق المجتمع قبل أن يصبح الديمقراطيون واليساريون جزءاً من ضحايا هذه السياسة أيضا. إن الوعي بواقع الحال يفرض على الجميع المشاركة في التنبيه إلى المخاطر المتفاقمة والمتشابكة المحيطة بالعراق، وإن الحديث عن عملية سياسية في ظل نظام طائفي سياسي، وليس محاصصي فقط، إذ أصبح التعبير، كما يبدو، سائداً الآن على بعض الألسن على وفق ما سمعته من محاضرات في الآونة الأخيرة، إذ يجرى التخلي تدريجياً عن الإشارة الواضحة والدقيقة إلى طابع المحاصصة الطائفي والأثني الفعلي الجاري في العراق، وليس المحاصصة العامة فقط. فالأحزاب التي تقود الحكم هي أحزاب إسلامية سياسية طائفية تعتمد المحاصصة الطائفية ولن تتخلى عنها، ما لم يحصل تغيير في ميزان القوى السياسية في الداخل، وما لم نعتمد على تعبئة القوى الديمقراطية، رغم ضعفها الراهن وتفككها الإضافي الذي أصيبت به خلال السنتين المنصرمتين، رغم الجهود الكبيرة والدؤوبة التي بذلت لتشكيل "تقدم". القوى الديمقراطية بحاجة إلى سياسة عقلانية واعية تقنع الناس وتطمئنها بأنها قد تعلمت جدياً من تجاربها الفائتة، وإلا فسوف لن تأخذ دور وسياسة القوى الديمقراطية بالجدية المطلوبة والقناعة الفاعلة.
حين التقينا بسكرتير عام الحزب الشيوعي الشيلي في عام 1971 في سنتياغو دي شيلي العاصمة ثناء انعقاد مهرجان اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، تحدث لنا عن الوهم الذي صاحبهم مراراً في اعتمادهم على قوى معينة كانت من حيث المبدأ معادية لنا، وكان هنا يقصد القوات المسلحة، وقد تعاملنا معهم كالتائه في البيداء وهو عطشان فيرى في الأفق البعيد ماءً بسبب اشتداد تعبه وعطشه، فيتقدم إلى أمام قاصداً الماء السراب إلى أن ينهك، في حين أنه كان لا يرى سوى سراب، سوى الوهم، فهل تجري الاستفادة من خبرة القائد الشيوعي السابق لويس كورفالان، في التحالفات والتعامل الجاري، لا أرى ذلك رغم تمنياتي!                       

91
الكردي (الكردستاني)، بسبب الموقف من القضية الكردية وتباين الرأي بينهما، ومن ثم المؤسسات الدينية السنية والمرجعيات الدينية الشيعية بسبب قانون الأحوال المدنية وحقوق المرأة الذي أقرَّ بعضها القانون، ومسائل أخرى تمس التحولات الاجتماعية التي وقفت القوى الدينية كلها ضدها والادعاء بشيوعية قاسم!!
وعلى المستوى العربي برز نشاط عسكري أمريكي في لبنان بهدف التدخل وإفشال الثورة بالتعاون مع الأردن والحكومة اللبنانية في فترة رئاسة كميل شمعون. ولكن الجموع الثائرة وتهديد الاتحاد السوفييتي منع التدخل السافر ضد الثورة. أيدت الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر موقفاً واضحاً مؤيداً للثورة. ولكن سرعان ما اتخذت خطورة أخرى على لسان رئيسها جمال عبد الناصر بدعوته لإقامة الوحدة مع مصر وسوريا. علماً بأن الدولتين كانا لتوهما قد أعلنا الوحدة بينهما. وحين رفضت حكومة قاسم تنفيذ هذا الشعار اتخذت الجمهورية العربية المتحدة موقفاً مناهضاً لحكومة قاسم. تبنت القوى القومية والبعثية شعار الوحدة وجعلته هدفاً مركزيا لها مما أدى إلى انشقاق الشارع العراقي إلى مجموعتين، إحداهما ايدت الوحدة وأخرى رفعت شعار الاتحاد الفيدرالي لتجاوز شعار الوحدة، رغم إن الوضع لم يكن مناسباً لكلا الشعارين. وتسبب هذا الصراع إلى نشوب خلاف جديد مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي طرح السؤال التالي: كيف سيكون وضع الكرد وكردستان في حالتي الوحدة أو الاتحاد؟ علماً بأن الجميع، بمن فيهم الكرد، بأن الوضع لا يساعد على إقامة الوحدة أو الاتحاد الفيدرالي. 
لم تكتف الجمهورية العربية المتحدة بطرح هذا الشعار، بل نظمت تحالفا ضد الثورة ونهجها وموَّلت القوى القومية والبعثية وكل المناهضين للثورة بالمال والسلاح والعتاد وسخَّرت الإعلام المصري والسوري وأسست إذاعة خاصة لتبث من دمشق باسم العراق. لم يمر على الثورة عامها الأول حتى نفذ أول تمرد وتآمر على جمهورية 14 تموز من جانب القوميين والبعثيين ومن ساندهم من القوى المتضررة من الثورة. وحصل هذا التآمر بعلم وتأييد تامين من عبد الناصر ومكتب المخابرات المركزية الأمريكي، حين تحرك العقيد عبد الوهاب الشواف ونفذ تمرداً فاشلاً في الموصل في أذار/مارس 1959. وقد أدى ذلك إلى توترات إضافية شديدة في أوضاع البلاد السياسية، وإلى نزوح كبير للعائلات المسيحية وعائلات شيوعية إلى بغداد بسبب حملة إرهابية واغتيالات مكثفة ضدهم جرت في الموصل.
لم تستطع الدول الرأسمالية وشركات النفط الاحتكارية قبول الثورة وعواقبها على وجودها العسكري ومصالحها الاقتصادية والسياسية في العراق، بما اتخذته حكومة الثورة من اجراءات عرَّضت الكثير من مصالحها ومواقعها إلى مخاطر جمة لا في العراق فحسب، بل في منطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط، مما دفعها إلى الدخول في عملية تآمر واضحة ضد الوضع الجديد والسعي لتشويهه في الصحافة والإعلام الدوليين وإثارة الإشكاليات الداخلية وتمويل القوى المتآمرة.
لم يكن الوعي السياسي للأحزاب السياسية العراقية كلها دون استثناء، رغم وجود تباين فيما بينها. فالقوى القومية والبعثية استخدمت أسلوب بث الإشاعات وممارسة الاغتيالات السياسية والتآمر، في حين أيدت قوى سياسية أخرى نظام الحكم الجديد، كما لم يكن قاسم والحكومة على مستوى المسؤولية الكبيرة. وكانت الحكمة القديمة تقول: القيام بالثورة أسهل بكثير من الاحتفاظ بها وبزخمها وتنفيذ سياساتها وتطويرها وحمايتها. في هذه الفترة بالذات، لاسيما بعد محاولة اغتيال قائد الثورة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم من جانب قوى حزب البعث، برزت بشكل واضح أولى علامات اهتزاز الوضع وانفراد قاسم بالسلطة وقراراتها وإجراءاتها والاستفادة من صراع القوى والأحزاب السياسية العراقية لتعزيز مواقعه، وسعيه لتكريس وجود القوات المسلحة في السلطة من خلاله، والتخلي عن الوجهة الأساسية التي كان على الحكم السير صوبها، أي إرساء أسس الحياة الديمقراطية واعتماد دستور ديمقراطي متقدم ودائم وإجراء انتخابات نيابية، أي البدء بتسليم السلطة إلى المدنيين وعودة القوات المسلحة إلى معسكراتها لحماية حدود البلاد.
لقد حصلت صراعات حادة بين القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية من جهة، والقوى القومية والبعثية ومن ساندها من قوى النظام السابق من جهة ثانية، واستقطب الوضع حول وجهة تطور البلاد وتركز على شخصين هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف على التوالي، رغم إن الصراع كان أبعد وأعمق من أن يقتصر على الشخصين المذكورين، إذ كان على اتجاهين في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية. ورفعت الجماهير الواسعة، التي ملأت شوارع العاصمة والمدن الأخرى، شعارات منها: عاش الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم، والحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم، والاتحاد الفيدرالي، ولم يكن لقيادة الحزب الشيوعي دور في ذلك، ولكنها لم تقف ضدها. في حين برَّزَ البعثيون والقوميون وقوى رجعية عبد السلام محمد عارف وهتفوا لجمال عبد الناصر، ورفعوا شعار الوحدة وعملوا بقوة ودأب ضد قاسم والشيوعيين وكل الديمقراطيين. وكان الوضع يزداد تأزماً. فتوجه قاسم بالقمع ضد القوميين والبعثيين بحدود ضيقة جداً وأعدم شخصيات عسكرية منهم بتهمة التآمر. ولم يكن ضرورياً في كل الأحوال، بل عمق ووسع دائرة الصراع. ثم بعد فترة وجيزة غير الدفة، إذ توجه بالقمع ضد الشيوعيين والديمقراطيين، لاسيما بعد وقوع الصراعات الدموية في الموصل وكركوك وسقوط قتلى وجرحى، ثم البدء بعمليات اغتيال للشيوعيين والديمقراطيين في مختلف مدن العراق من جانب قوى البعث والقوميين، إضافة إلى قيام الحكم باعتقال إعداد غفيرة من الشيوعين وزجهم في السجون بسبب رفعهم شعار "السلم في كردستان"، بعد أن بدأت المعارك بين الجيش العراقي والقوات المسلحة الكردية في أيلول عام 1961.
وفي الفترة الأولى، ومن أجل حماية مكاسب الثورة، اعلنَ قاسم قرار تشكيل المقاومة الشعبية رسمياً، وكان الشيوعيون واليساريون والديمقراطيون المستقلون قوامها الأساس. لعبت هذه المنظمة شبه العسكرية تحت قياد ضابط حكومي هو العقيد طه مصطفى البامرني، الذي كان قبل آمر الحرس الملكي، الذي عينه رئيس الحكومة، دوراً في مواجهة بعض الأعمال المعادية والكشف عن بعض مؤامراتها، ولكن المعلومات الحيادية المتوفرة تشير إلى ارتكاب بعض الأخطاء من قبل بعض الشباب الأعضاء فيها وإساءة تصرف في هذه المدينة أو تلك. وقد شن المعادون للثورة حملة شعواء موجهة ضد المقاومة الشعبية، مما أدى إلى إعلان حلها وتعرض أفرادها إلى حملة ظالمة من جانب القوى المعادية للثورة. ولا بد من الإشارة الواضحة بأن العقيد البامرني لم يكن عضواً في حركة الضباط الأحرار ولا عضواً أو مؤيداً للحزب الشيوعي العراقي، بل كان ضابطاً احتضنه عبد الكريم قاسم وكان ملتزماً بما كلف به في قيادة المقاومة الشعبية.
أصدرت حكومة الثورة قراراً بتشكيل محكمة الشعب لمحاكمة النخبة القيادية الحاكمة في العهد الملكي، وفيما بعد، أولئك الذين اتهموا بالتآمر في أحداث الموصل وكركوك. وإذا كانت ضرورية ومعبئة في البداية، فإنها تحولت بمرور الوقت إلى منبر للخطابة والدعاية والسخرية من المتهمين والدعاية المكثفة للزعيم الركن قاسم. وأصبحت المحكمة غير متناغمة مع أصول المحاكمات الشرعية وحقوق الإنسان وحقوق المتهمين مهما كانت التهم الثقيلة الموجهة لهم، إلِّا إنها كانت تحاكي مزاج غالبية الناس وتتناغم مع مستوى وعيهم ومدى إدراكهم لحقوق الإنسان. وهي الأخرى تعرضت مع رئيسها فاضل عباس المهداوي إلى حملة كبيرة أدت في النهاية إلى إنهاء عملها.

فترة الانتكاسة والسقوط للعهد الجمهوري الأول

الفترة الثانية: فترة الانتكاسة والإجهاز على الجمهورية الأولى
بدأ الوضع الداخلي يزداد تعقيداً وتشابكاً. فما أن بدأ الجيش عملياته العسكرية ضد قوات الپيشمرگة الكردستانية في خريف عام 1961، وما أن أعلنت القيادة الكردية "ثورة أيلول" من نفس العام، ورفع الحزب الشيوعي العراقي شعار "السلم في كردستان"، حتى بدأت حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشيوعيين وأعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد والألوية الكردستانية وإصدار أحكام سريعة وقاسية بحق المعتقلين وزجهم في السجون، فنشأ توتر ملحوظ وضار بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم. وكانت أجهزة الأمن والقضاء مستعدة لهذا الغرض، لأنها لم يحصل فيها التغيير المنشود وتعاملت بشراسة، وربما أكثر مما كان يسعى إليه قاسم. كما بدأت الجماعات الإسلامية الشيعية تتجمع تحت واجهة الحزب الفاطمي وتتحرك ضد حكومة قاسم وتشديد التهم ضده وضد الشيوعيين. وفي الوقت ذاته رفع البعثيون والقوميون سقف هجومهم الشرس على الحكم والقوى الديمقراطية اليسارية والحزب الشيوعي بدعم مكثف وشامل من جانب الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر ودول الخليج والسعودية ودول حلف بغداد. وتمادى كبار ملاكي الأراضي الزراعية في الريف العراقي في تصديهم لتنفيذ بنود قانون الإصلاح الزراعي بدعم مباشر من الجهاز الإداري في القطاع الزراعي وتعطيله واتهام الفلاحين بالتعرض لهم، مما أدى إلى حصول توتر في الريف واتهام الحزب الشيوعي بالوقوف وراء ذلك أيضاً، لاسيما تنامي شعور لدى الفلاحين بابتعاد حكومة الثورة عن مساندتهم وحل مشكلاتهم المتفاقمة وعواقبها السلبية على الإنتاج الزراعي وعلى حياتهم. كل هذا أشَّر تحولاً ملموساً عن المبادئ والحياة الديمقراطية التي أعلنت عنها حركة الضباط الأحرار وبرزت في أعقاب ثورة تموز حتى بداية خريف عام 1959 وبداية عام 1960. فما هي العوامل الكامنة وراء هذا التراجع في مسيرة ثورة 14 تموز 1958؟
 إنني كمتابع لأحداث تلك الفترة يمكنني تسجيل الاستنتاجات التالية:
أدرك عبد الكريم قاسم شدة الأزمة الداخلية المتفاقمة التي تعيشها البلاد والثورة، ولكنه لم يرَ السبب في سياساته وإجراءاته وابتعاده عن العمل الحكومي الجماعي والانفراد الفعلي بالسلطة، بل عزاها لغيره وللأحزاب السياسية العراقية. لهذا لم يطرأ على باله تغيير دفة السياسة لصالح الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني والبدء بإنهاء فترة الانتقال بوضع دستور دائم والتهيئة لانتخابات برلمانية ديمقراطية لنقل السلطة إلى القوى المدنية وإقامة الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني وعودة القوات المسلحة إلى ثكناتها. بل راح قاسم يفجَّر الصراعات مع القوى والشركات الأجنبية ودولها. وقد لعبت هذه السياسة دورها في زيادة حدة التوتر في الأوضاع الداخلية والخارجية. كان يأمل امتصاص الاحتقان الداخلي. ولكن ما حصل كان عكس توقعاته تماماً.
فقد عمد إلى المطالبة بالكويت، باعتبارها جزءاً من ولاية البصرة منذ العهد العثماني وقبل ذاك أيضاً. وهي حقيقة من حيث المبدأ وكانت قبل ترسيم الحدود من جانب الاستعمار البريطاني. بهذه المطالبة هيج ضده بريطانيا ودول الخليج والسعودية مرة واحدة، فبدأ العمل المكثف لتوفير الحلفاء في الداخل للانقضاض على الحكم الوطني.
ثم بدأ قاسم معركة جديدة مع شركات النفط الأجنبية وألزمها على التفاوض لاستعادة بعض حقوق العراق في نفطه، لاسيما موضوع "تنفيق الريع" وما إلى ذلك. وبهذا حرك شركات النفط الاحتكارية وكل الدول الرأسمالية التي تقف مع هذه الشركات ضده. كما لم تكن الدعوة إلى تشكيل الأوبك موقع ارتياح من قبل شركات النفط العالمية ولا الدول الرأسمالية. 
ولا شك في أن وقوف الحكومة العراقية إلى جانب الحياد الإيجابي والتحرر من حبائل الحرب الباردة والعمل مع دول عدم الانحياز، قد حركت العالم الغربي ضد العراق واُعتبرت سياسات قاسم كلها موجهة ضدها ومساندة للاتحاد السوفييتي وحلفاءه، وأنها كلها ناجمة عن وجود ودور للشيوعيين في البلاد وتأثير الحزب الشيوعي على قاسم وحكومته وسياساته!!
في ذات الفترة أجرى قاسم تغييرات واسعة في قيادات الفرق العسكرية العراقية، إذ أبعد الشيوعيين والديمقراطيين أو الذين شعر بأنهم إلى الحزب الشيوعي العراقي أو يتعاطفون معه إلى مواقع بعيدة عن العاصمة بغداد، ونسَّب مكانهم عناصر قومية وبعثية، أو من الضباط القدامى من العهد الملكي الذين لا يكنون الود لحكومة قاسم. وقدم قاسم بهذه التنقلات أكبر خدمة ممكنة غير مقصودة لتلك القوى التي كانت تتآمر عسكرياً ضده وضد الجمهورية الأولى.
رفض قاسم بإصرار عجيب، رغم حديثه عن تشكيل لجنة لوضع دستور دائم وإنهاء فترة الانتقال، إلى تحديد فترة الانتقال وإنجاز ما هو ضروري، إذ إن الواقع الفعلي كان يشير إلى خمس مسائل حاسمة:
1)   إنه لا يريد التخلي عن السلطة مقرونة باشتداد النزعة الفردية في حكم البلاد وفي اتخاذ القرارات، وعدم عودته للحكومة ولا حتى استشارتها فيما يتخذه من إجراءات.
2)   وهو غير راغب بوضع دستور دائم في الوقت الحاضر ولا يميل إلى إجراء انتخابات برلمانية أو حياة ديمقراطية دستورية.
3)   وأنه مصر على بقاء العسكر في السلطة، وأن يبقى هو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة في آن واحد، كما أضعف دور مجلس السيادة الثلاثي كلية.   
4)   وأنه قد حقق تفوقه على القوى الأخرى بتأييد الشعب له، باعتباره الزعيم الأوحد للبلاد. وبهذا بدأت محاولاته التخلص من دور وتأثير الحزب الشيوعي على الجماهير من جهة، ودور القوميين والبعثيين من خلال ضرب بعضهم، أو إعادة بعضهم لمواقع المسؤولة من جهة أخرى، لإرضاء بعض الدول العربية.
5)   وأن تكون المعارك الخارجية التي أثارها مساعدة له في تخفيف الاحتقان الداخلي وإشغال الناس بقضايا وطنية مثل "استعادة الكويت" ومفاوضات النفط.
مع هذا التراجع في سياسة قاسم واعتقاله المزيد من الشيوعيين والديمقراطيين وإبعاد الضباط الشيوعيين والديمقراطيين عن مواقع المسؤولية في القوات المسلحة، برز صراع ملموس في قيادة الحزب الشيوعي العراقي واللجنة العسكرية التابعة للحزب، دار حول الموقف من دور عبد الكريم قاسم وحكومته. كان الرأي الأول يميل إلى إجراء تغيير في العراق اعتماداً على قدرات الحزب والقوى الديمقراطية القريبة منه في القوات المسلحة، في حين رفض الرأي الآخر ذلك وأكد ضرورة العمل مع قاسم ومساعدته في تجاوز العثرات الراهنة في سياساته. تغلب الرأي الثاني في الحزب، كما وجد التأييد من جانب الاتحاد السوفييتي، الذي رأى في حكومة عبد الكريم قاسم وفي العراق دولة متحررة وصديقة يستوجب دعمها. ولا يعرف حتى الآن ما إذا كان فحوى هذا الصراع قد وصل إلى آذان عبد الكريم قاسم، فضلاً عن الشعار الخاطئ الذي رفعته الجماهير "الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم"، فانتفض ضد الحزب وقرر معاقبته بالطريقة التي أدت إلى عواقب وخيمة عليه وعلى الحزب الشيوعي وعلى الشعب العراقي كله، رغم أن قرار قيادة الحزب الشيوعي النهائي كان لصالح العمل مع قاسم ودعمه.
لقد كانت تحركات المتآمرين صارخة ومفضوحة، يسمعها ويتلمسها كل إنسان يمتلك حساً سليماً ورؤيةً سياسية واقعية وناضجة. وفي حينها تلقى الحزب الشيوعي العراقي معلومات كثيرة ودقيقة تشير إلى استعدادات قوى التآمر، بُلّغَ بها عبد الكريم قاسم أكثر من مرة. لم يأبه بها واعتبرها، كما يبدو، مناكدة من الحزب الشيوعي ضد البعثيين والقوميين! وكان يؤكد باستمرار بأن الجيش والشعب معه ولن يخشى أحدا. فكانت الطامة الكبرى، وكان الانقلاب الفاشي الدموي الذي قاده حزب البعث وأشرفت عليه وكالة المخابرات المركزية ووفرت له المعلومات لتنفيذ مجزرة رهيبة ضد قادة الثورة والحزب الشيوعي العراقي، وضد القوى الديمقراطية وحركة التحرر الوطني في العراق.
يجري الحديث عن نزاهة ووطنية قاسم وعن دوره في الخلاص من النظام الملكي وإصداره التشريعات الديمقراطية المهمة. هذا الكلام صحيح جداً وتماماً، ولا يشك فيه حتى أعداء قاسم. ولكن النزاهة والوطنية وحب الفقراء ومأثرة قيادة الثورة سمات طيبة ومهمة، غير إنها ليست كافية لوحدها لقيادة البلاد وحماية المكاسب ومصالح الشعب، بل لا بد لها أن تقترن بوعي عميق وقناعة تامة بالنظام السياسي الديمقراطي والحياة الحرة والدستورية والبرلمانية، والمجتمع المدني الديمقراطي والعلماني، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة والالتزام بدور القوات المسلحة كمؤسسة في حماية حدود الوطن وليس حكم البلاد أو التدخل في شؤون الحكم. يفترض في الحاكم الديمقراطي أن يعي مسؤوليته إزاء الشعب والوطن، وأن يتصرف بحكمة وعقلانية وروح جماعية إزاء مصائر البلاد. لم يتمكن قاسم، كما أرى، وعي الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة به والتي لم تكن إلى جانبه، بل كانت كلها تعمل بسرعة وكثافة ضده. لم تكن تلك المتطلبات الديمقراطية متوفرة في قاسم بفعل تربيته العسكرية وحبه للسلطة وقناعته بانه الشخص الأفضل والأمثل والأكثر إخلاصاً في خدمة الشعب وحماية الوطن والأكثر صدقاً في الدفاع عن الفقراء، وأن الشعب كله والجيش معه ولن يخذلاه! وقد لعبت الجماهير الشعبية دوراً ملموساً فيما يمكن تسميته بنشوء هذه الرؤية الذاتية والنرجسية لدى قاسم.
لم يكن عبد الكريم قاسم وحده المسؤول عما حصل في العراق، لكنه كان المسؤول الأول، بل تتحملها معه القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية واليسارية التي لم يكن وعيها ونشاطها بالمستوى المطلوب، بما يسهم في تجنيب المجتمع ما حصل له في انقلاب شباط/فباير 1963 وما بعده. ولكن المسؤولية الكبرى والأساسية في كل ما حصل للشعب والوطن تتحملها تلك القوى التي تآمرت على العراق والحكم الجمهوري الأول وعلى المكاسب الوطنية والديمقراطية التي تحققت للشعب خلال فترة قصيرة من عمر الجمهورية، فضلاً عن القوى العربية والإقليمية والدولية وشركات النفط الاحتكارية التي شاركت القوى الداخلية في عدائها للثورة ومكاسبها ولعبد الكريم قاسم بالذات. لقد لعبت الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية ودول حلف بغداد، ولاسيما الجارة إيران، والدول العربية، لاسيما، مصر ودول الخليج والسعودية والأردن دوراً عدوانياً مباشراً ضد الشعب العراقي والجمهورية الأولى وضد قائد ثورة تموز 1958.
إن ما حصل في 8 شباط/فبراير 1963 حتى سقوط نظام التحالف البعثي-القومي-الرجعي-الأمريكي من مجازر دموية ضد قادة الثورة وضد قادة وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية ومناصري قاسم وضد المجتمع عموماً، فضلاً عن جريمة قطار الموت وإعدام المناضلين الشجعان حسن سريع ورفاقه، وزج الآلاف في السجون والمعتقلات وتنفيذ عمليات التعذيب في قصر الخزي والعار، قصر النهاية المشؤوم، لكفيل بفضح الأهداف الإجرامية والخيانية الوطنية لقادة هذا الانقلاب الفاشي في أساليبه والخياني في أهدافه وعمالة منفذيه. ولم يكن غريباً أن يصرح نائب رئيس وزراء حكومة الانقلاب علي صالح السعدي في لحظة صحوة ضمير" جئنا بقطار أمريكي!"  ويبدو أن القطار الأمريكي والقطار الإيراني لا زالا يعملان في أوضاع العراق الراهنة!
الهوامش والمصادر

   د. راجع: رشيد الخيون، نوري السعيد وبريطانيا، الرسالة العراقية.
   قارن: بدر خالد البدر، مع قافلة الحياة، 1987، الكويت.   
   راجع: د. فالح مهدي، "مقالة في السفالة: عن حاضر العراق"، دار سطور، بغداد، 2019.
   راجع: محمد حمدي الجعفري، بريطانيا والعراق، حقبة من الصراع 1914-1958، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2000، ص 145.
  راجع: حسين مروّة، ثورة العراق، دار الفكر الجديد1958، ص 33.
  راجع: فارس كريم فارس، "مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة عام 2015م.
   راجع: د. كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 2015.
  راجع: الدكتور عدنان الباجه جي، "مزاحم الباجه جي سيرة سياسية"، منشورات الوثائق والدراسات التاريخية، لندن، 1989، ص 410-415. 
  راجع، محمد علي الشبيبي، من أعماق السجون، موقع الحوار المتمدن، 2012.
  قارن: عبد المنعم تقي، حادثة سجن الكوت سنة 1953، ملاحق المدى، 28/07/2013.
  راجع: جاسم الحلوائي، حدث هذا قبل نصف قرن 4-4، الحوار المتمدن، عن حالة السجن بين 05/05/-09/07/2015.
  راجع: حامد الحمداني، ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاساتها واغتيالها، دار نشر فيشون ميديا-السويد، 2006، ص 60.
  راجع: ميثاق ثم حلف بغداد 1955، جريدة المدى، العدد 3015، بتاريخ 23/02/2014. 
  قارن: صبري، أنور والخالدي، أسعد. تجربة الإصلاح الزراعي في العراق. ط 1. مطابع دار الثورة. بغداد. 1974. ص 46.
  راجع: د. كاظم حبيب/ لمحات من عراق القرن العشرين، المجلد الخامس، العراق بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط النظام الملكي، دار أراس، أربيل، 1913.
   راجع: د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي 1921-1958، دار الحصاد، ط1، 2000، ص 135.
  المصدر: نبيل ياسين، التاريخ المحّرم، قراءة تحليلية وقائعية للفكر السياسي العربي - العراق نموذجا، الطبعة الأولى 1998.
  قارن: منتدى سماعي الطرب (موقع الكتروني).
  راجع: أ. د. سيّار الجميل، العراق 1958 في الوثائق البريطانية الحلقة الثانية: نوري باشا السعيد، موقع الدكتور سيّار الجميل.
  موقع المعاني عربي عربي)، موقع الكتروني.
   محمود درويش، لا أحد يحن إلى وجع، موقع أدبنا، 14/09/2016.
   أرشيف الكاتب كاظم حبيب.
   المصدر السابق نفسه.
   راجع: د. كاظم حبيب، دراسة في اتجاهات ومشاكل التطور الصناعي في العراق للفترة 1917-1963، مجلة الجامعة المستنصرية، العدد 2، السنة 1971، مطبعة سلمان الأعظمي، بغداد، 1971.
  راجع: كاظم حبيب، ذكريات مرة في ضيافة التحقيقات الجنائية- بمناسبة اليوم العالمي ضد التعذيب، نشر في الحوار المتمدن بالعدد 880 بتاريخ 30/06/2004 في محور حقوق الإنسان.
  قيس الزبيدي، رسالة خاصة في أرشيف الكاتب كاظم حبيب.
  قارن: حامد الحمداني، ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاساتها واغتيالها، فيشو ميديا-السويد، 2006، ص 172/173.
   قارن: المصدر السابق نفسه.
  راجع: رفعة عبد الرزاق محمد (إعداد)، تقرير العقيد طه البامرني آمر الحرس الملكي عن احداث 14 تموز، ملاحق جريدة المدى اليومية » الأخبار » الملاحق » ذاكرة عراقية، تاريخ النشر: الأحد 14-07-2013.
  راجع: الدكتور عبد الله إسماعيل، مفاوضات العراق النفطية،1952-1968، دار نشر لام، لندن 1989، الملاحق.
  راجع: محاضر مجلة الطليعة المصرية لعام 1964 في لقاء بين هيئة تحرير المجلة وعلي صالح السعدي في مقر المجلة في القاهرة.

92
النخبة الحاكمة دوراً سلبياً كبيراً في مصادرة الحريات العامة والتجاوز على الدستور وعلى حقوق الإنسان، والتي يفترض أن تُبَّرز لمن لم يعش، أو يقرأ عن هذه الفترة وعن سياسات الحكومات الملكية المتعاقبة وأوضاع الشعب العراقي وحياة البالغة العظمى البائسة.
في عام 1951 ارتكبت الحكومة العراقية عملاً فظيعاً وفظاً، عملاً عدوانياً مخالفاً لنص الدستور العراقي في تحريمه لإسقاط الجنسية عن أي مواطن أو مواطنية مهما كانت الأسباب، في حين أصدر النظام الملكي العراقي قانوناً أباح فيه إسقاط الجنسية عن يهود العراق فقط "إن تأخروا ثلاثة شهور خارج الوطن"، أو من يريد إسقاطها!! فمارسوا شتى أساليب الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي بين أعوام 1947-1953، وفيما بعد أيضاً، لكي يتخلصوا من 120 ألف مواطن ومواطنة من أتباع الدين اليهودي ومن مختلف الأعمار. واستمرت هذه العملية إلى أن انتهى وجود أي يهودي في العراق عملياً.  لقد كانت خسارة فادحة للعراق بمواطنيها، كما خسر اليهود وطنهم العراق، باعتبارهم جزءاً من مواطني ومواطنات البلاد. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن مؤامرة تهجير اليهود كانت رباعية الأطراف ساهمت فيها حكومات الدول التالية: إسرائيل، وبريطانيا، والولايات المتحدة والعراق. وكان توفيق السويدي، رئيس الوزراء، الذي صدر في عهده قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق حينذاك، هو الواجهة، في حين كان نوري السعيد وأغلب النخبة الحاكمة مع هذا القرار والذي صادق على القانون غالبية أعضاء مجلس النواب العراقي ومجلس الأعيان وبروز اعتراضات قليلة أو تحفظات محدودة. وكان مزاحم الباجه جي أحد أبرز المعارضين الذي قدَّمَ مطالعة مهمة في مجلس الأعيان ضد هذا القرار.  ومنذ عام 1947 بدأت السجون العراقية تمتلئ بالسياسيين المعارضين لسياسات الحكومات المتعاقبة، وسقط لقوى المعارضة شهداء في المظاهرات، وشهدت سجون العراق شهداء سقطوا برصاص الشرطة أيضاً بسبب مطالبتهم الحصول على حقوق سجناء سياسيين وتحسين أوضاعهم. اليكم أمثلة بهذا الصدد:
** في 18 حزيران 1953 نفذت شرطة سجن بغداد مجزرة ضد السجناء العزل، بسبب رفضهم نقلهم من سجن بغداد إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي، فأدى ذلك الهجوم الشرس إلى استشهاد سبعة سجناء وجرح 22 سجيناً ونقل البقية 120 سجيناً إلى سجن بعقوبة. 
** وفي 2/9/1953 وقعت مجزرة ثانية في سجن الكوت ضد السجناء العزل الذين كانوا يطالبون بتحسين أوضاعهم وتغذيتهم، إذ شنَّت شرطة السجن وشرطة القوة السيَّارة هجوماً شرساً باستخدام الرصاص الحي ضد السجناء مما أدى إلى استشهاد 8 سجناء وجرح 94 سجيناً ونجاة 19 سجيناً فقط. وأكدت التحقيقات التي أجريت في حينها، بأن إدارة السجون كانت مصممة على "تلقين السجناء والسياسيين عموماً" درساً لا ينسى!! 
** في سجن بعقوبة بإدارة مدير السجن علي زين العابدين كان التعذيب والإساءة للسجناء تحصل يومياً، وفي الغالب الأعم دون وجود سبب سوى كون مدير السجن والشرطة يمنحون مكافأة مالية إذا ما استطاعوا إجبار أحد السجناء على تقديم البراءة المذلة، وبسبب حقد وكراهية دفينين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ركز هذا المجرم في حينها على تعذيب الشاعر والكاتب، الذي غيَّب فيما بعد، عبد الرزاق الشيخ علي، إذ كان يضرب على رقبته بحذائه، مما أدى إلى أصابته بمرض عصبي استمر يرافقه في فترة الإبعاد في بدرة إلى حين اختطافه في بغداد وتغييبه. 
في الفترة الواقعة بين 1947-1958 كلكلت السجون العراقية والمواقف على الآلاف من السجناء السياسيين من مختلف الاتجاهات السياسية، لاسيما قوى اليسار وفي مقدمتها أعضاء وأصدقاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي، وقوى ديمقراطية أخرى ومن ثم بعض العناصر البعثية، وعانوا من مرارة التعذيب الوحشي في التحقيقات الجنائية وفي أغلب الشُعب الأمنية في الألوية بما فيها التعليق بالمروحة، وقلع الأظافر والكوي بالسجائر، والضرب بالصوندات والخيزران. 
علينا هنا الإشارة الواضحة بأن مدراء السجون كانوا يتعاملن مع السجناء السياسيين لا على وفق ما يرونه مناسباً، بل كانوا يمارسون ما يتفق عليه مع وزير الداخلية وموافقة رئيس الوزراء، بل والبلاط أيضاً. إذ من غير المعقول بأي حال أن يقرر مدار السجون بشن حملات قتل وجرح عشرات السجناء دون موافقات من جهات عليا بهدف الخلاص منهم أو تأديبهم!   
في عام 1954 جرت انتخابات المجلس النيابي وحصل 11 نائباً من قائمة الجبهة الوطنية على مقاعد نيابية من مجموع 135 نائباً. لم تستطع النخبة الحاكمة، وعلى رأسها نوري السعيد، تزوير صناديق هؤلاء المرشحين في مناطقهم، كما لم تستطع تحمل وجودهم في المجلس النيابي، فُحل المجلس بإرادة ملكية وبطلب ملح ومباشر من نوري السعيد. وفي هذا العام شكل نوري السعيد حكومة جديدة وأصدر المراسيم الاستبدادية الاستثنائية التالية:
1- مرسوم إسقاط الجنسية رقم 17 لسنة 1954 عن المتهمين والمدانين باعتناق الشيوعية من قبل المجالس العرفية.
2- مرسوم رقم 18 لسنة 1954 القاضي بغلق النقابات والجمعيات والنوادي.
3- مرسوم رقم 19 لسنة 1954 القاضي بحل الأحزاب السياسية.
4- مرسوم رقم 24 لسنة 1954 القاضي بإلغاء امتيازات الصحف.
5- مرسوم رقم 25 لسنة 1954 القاضي بمنع الاجتماعات العامة والتظاهرات. 
وفي هذه الأجواء الإرهابية التي مارسها الحكم أجرى نوري السعيد انتخابات المجلس النيابي وفاز بـ 123 مقعداً بالتزكية ودون منافس من مجموع 135 نائباً، ولم يسمح لأي معارض ديمقراطي أن يرشح نفسه للانتخابات أو يصبح عضواً في هذا المجلس. وبهذا توفرت لنوري السعيد الفرصة الكبرى لفرض السياستين الداخلية والخارجية اللتين جاء من أجلهما. فأقر المجلس النيابي دخول العراق في حلف بغداد (السنتو) عام 1955 بمشاركة كل من تركيا وإيران وباكستان والعراق وبريطانيا وبتأييد كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان قبل ذاك قد وقع على اتفاقية مع الأردن، وميثاق مع تركيا في 23/02/1955 والذي تحول إلى حلف بغداد في تشرين الثاني 1955. وكان الشعب العراقي قد رفض هذا الحلف واحتج عليه وخرجت مظاهرات ضد زيارة عدنان مندريس، رئيس وزراء تركيا للفترة 1950-1960 إلى بغداد، كما كُتبَ الكثير ضد هذا الحلف من جانب قوى المعارضة السياسية. 
لم يعد الكثير من الناس يتذكر الدور الرجعي لحكومات النظام الملكي في المنطقة العربية. فتأمر العراق ضد مصر وسوريا خلال فترة الخمسينيات لا تزال في الذاكرة من عاش هذه الفترة الحرجة من حياة الدول العربية. وقد وجهت القوى الديمقراطية والتقدمية النقد الشديد للعراق وهاجمت سياسات الأحلاف العسكرية والتآمر ضد القوى الديمقراطية من خلال حلف بغداد وتشكيل لجنة مختصة بمكافحة الشيوعية ولم تكن تعني غير مكافحة كل القوى الديمقراطية تحت غطاء مكافحة الشيوعية. وقد وضع الدكتور عبد العزيز الدوري وعالم التاريخ العراقي سكرتيراً لهذه اللجنة، وهو الذي كان يتحدث عن القومية العربية وينتمي للقوميين العرب.
لم تصبر قوى المعارضة كثيراً على الضيم، فانطلقت في انتفاضتها ضد سياسة الحكومة العراقية إزاء تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي ضد مصر في عام 1956. وكانت مشاركة الشعب واسعة في جميع أنحاء العراق. وفي هذه الانتفاضة استخدم النظام الملكي كعادته الحديد والنار لإنهاء الانتفاضة، فسقط شهداء وأعدم آخرون، وأعلنت حالة الطوارئ وصدرت مجموعة كبيرة من الأحكام بحق المتظاهرين وزجوا بالسجون وعانوا الأمرين من التعذيب النفسي والجسدي.       
يتبجح البعض بأن النظام الملكي قد عمل الكثير لصالح الشعب، وكأن ليس من واجبه ذلك. إذ لا شك في أن النظام الملكي قد أنجز العديد من المشاريع المهمة إضافة إلى ما أشرت إليه في الحلقة الثانية، منها إقامة السدود والخزانات لمواجهة الفيضانات التي كانت تتعرض لها بغداد بشكل خاص، وساهم في دفع كبار الملاكين إلى شراء المضخات والمكائن الزراعية، كما قدم المصرف الزراعي القروض لهم وللمزارعين المتوسطين، مما ساهم في تحسين الإنتاج الزراعي، ولكنه لم يخفف من استغلال كبار الملاكين للفلاحين الفقراء، بل زاد من فقرهم ورغبتهم في هجرة الريف والانتقال إلى المدينة، والتي تفاقمت في العقد السادس من القرن الماضي وشكلت حزاماً حول بغداد والمدن الكبرة الأخرى. وحقق التعليم الابتدائي توسعاً في قبول التلاميذ والتلميذات ووصل التعليم إلى بعض مناطق الريف العراقي، وكذلك ازداد عدد طلبة المتوسطة والثانويات، وازداد عدد الكليات المتخصصة، لاسيما الفروع الإنسانية، إضافة إلى كليات الطب والصيلة والعلوم والهندسة والرياضيات. إلخ، كما اتسعت في فترة الحكم الملكي قاعدة الفئات المتعلمة والمثقفة من الرجال والنساء، واتسع تأثيرهم على المجتمع وعلى وعيهم الاجتماعي والسياسي. وساهمت مؤسسة كالوست كولبنكيان بإرسال عدد كبير من خريجي الإعدادية للدراسات الهندسية، ولاسيما النفط، إلى الولايات المتحدة على نحو خاص، وهو الذي مُنح 5% من إيرادات نفط العرق الخام المُصدر على وفق امتياز 1924.
لا بد من متابعة بعض المعلومات المدققة عن الاقتصاد العراقي وأوضاع الناس المعيشية والسياسية خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي، لكي نتبين واقع الحال حينذاك ولا نعتمد على الذاكرة التي يشوبها الكبر أحياناً والحنين أحياناً أخرى والكثير من الأمور الأخرى.
لقد عرف الريف خلال سنوات الحكم الملكي الكثير من الهبّات والانتفاضات الفلاحية المناهضة لهيمنة الإقطاعيين على الأرض والماء والحيوان والمكائن الزراعية والمضخات المائية والمحصول واقتطاع أكبر نسبة ممكنة من الدخل الزراعي لصالح مختلف فئات كبار ملاكي الأراضي الصالحة للزراعة والسراكيل، في حين كانت حصة الفلاحين النزر اليسير من الدخل الزراعي، مما دفع بنسبة مهمة منهم إلى الهجرة إلى المدن والعيش في أطرافها على هامش الحياة الاقتصادية فيها. وكانت لهذه الظاهرة عواقبها السلبية على الفلاحين المهاجرين أولاً، وعلى سكان المدن ثانياً. وهذا الواقع المرير دفع بالأحزاب السياسية المناهضة للملكية أن ترفع شعارات مناهضة للإقطاع وتدعو إلى إصدار وتنفيذ قانون للإصلاح الزراعي بما يسهم في مكافحة التخلف وإنهاء سيطرة كبار الملاكين على الأرض والريع المنتج من قبل الفلاحين واستخدامه البذخي الاستهلاكي في المدن. إذ هيمن كبار ملاك الأراضي، أو المستحوذون عليها بتعبير أدق، على نسبة عالية من خيرة الأراضي الزراعية في العراق والتي كانت تحقق لهم ريعاً تفاضلياً بسبب خصوبة الأرض وقربها من الأنهار ومن المدن، في حين كان الفلاحون وصغار المزارعين لا يملكون سوى مساحات صغيرة أو أنهم مجبرون على العمل لدى كبار الملاكين، وهم يشكلون الغالبية العظمى، ويمكن للجدول التالي أن يبين واقع توزيع الملكية الزراعية عشية ثورة تموز 1958:     
توزيع الأراضي الصالحة للزراعة في ظل النظام الملكي في العراق في عام 1958   
حدود حجم الملكي الزراعية /دونم   عدد الملكيات الزراعية   المساحة الكلية/ دونم   التوزيع النسبي للمالكين %   التوزيع النسبي لحدود الملكيات %
من 1 – 100 دونم   144802   2.446.952   86,1   10,5
من 101 -  1000 دونم   70126   5.024.736   11,9   21,5
من 1001 - 100.000  فأكثر    3418   15.855.621   2,0   68,0
المجموع    168346   33.477.309   100   100
قارن: صبري، أنور والخالدي، أسعد. تجربة الإصلاح الزراعي في العراق. ط 1. مطابع دار الثورة. بغداد. 1974. ص 46.
ومنه يتبين واقع غياب العدالة في الاستحواذ على أراضي الدولة من جانب كبار الملاكين، والتي كانت قبل ذاك تحت تصرف الفلاحين المنتجين. ولكن دعونا نتابع اللوحة الكاريكاتيرية التي رسمها نوري السعيد لحل المسألة الزراعية في العراق. ففي عام 1956 ألقى نوري السعيد خطاباً نادراً من إذاعة بغداد أطلق عليه فيما بعد بخطاب "دار السيد مأمونة"، ولم تكن الدار مأمونة، تحدث فيه عن عدد من المسائل منها كيف يعالج مشكلة الأرض، وكان جوهر رأيه:
يتزوج شيوخ العشائر وكبار الملاكين الكثير من النساء وتنجب زوجاتهم الكثير من الأبناء، وحين يموت هؤلاء الآباء يتم تقسيم أراضي الأب على الأبناء، ... وهلمجرا. وبهذا تتقلص مساحات الأراضي التي بحوزة هذه العائلات!! هكذا تصور نوري السعيد حل مسألة الأرض الزراعية في العراق ومكافحة الإقطاع، على حد قول المثل "عيش يا كديش حتى يطلع الحشيش!". 
أما في القطاع الصناعي فقد تركزت جهود مجلس الإعمار (1950) ووزارة الإعمار (1953) على إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية خلال الفترة الواقعة بين 1951-1958، تم إنجاز ثلاثة منها فقط قبل وقوع ثورة تموز عام 1958، في حين استمر العمل بخمسة مشاريع أخرى أنجزت في أعقاب الثورة. وكانت المشاريع الثلاثة المنجزة هي مشروع إنتاج الإسمنت في سرچنار/السليمانية، ومشروع الغزل والنسيج/الموصل، ومشروع الإسفلت في القيارة/الموصل. أما المشاريع الصناعية التي أنجزت فيما بعد فكانت مشروع السكر/الموصل، ومشروع المنتجات القطنية/الهندية، ومشروع الإسمنت في حمام العليل/الموصل، ومشروع السجاير/السليمانية، ومشروعات إنتاج الطاقة في أبو دبس وبغداد والنجيبية، وتم إنجاز هذه المشاريع في أوائل الستينات من القرن الفائت.  كما ساهم المصرف الصناعي بإنشاء مشاريع صناعية مختلطة، ونشط القطاع الخاص بإقامة مشاريع صناعية عديدة برؤوس أموال محلية. ومن يتابع السياسة التجارية حينذاك سيجد إنها لم تساهم بأي حال في دعم قطاعي الصناعة والزراعة، بل كانت تُغرِق الأسواق بالسلع الأجنبية من منتجات بريطانيا، مما كان يعيق النمو الاقتصادي غير النفطي في البلاد، كما لم يقلص منافسة السلع الأجنبية للإنتاج المحلي.
ونتيجة ذلك، وبعد أن كان طابع الاقتصاد العراقي المهيمن زراعياً ريعياً وحيد الجانب، أصبح منذ أوائل الخمسينيات اقتصاداً ريعياً نفطياً وحيد الجانب، فتراجعت مشاركة القطاع الزراعي، ومعه قطاع الصناعة الضعيف أساساً، في تكوين الناتج المحلي الإجمالي وصافي الدخل القومي لصالح قطاع النفط الخام. وزادت تبعية العراق استيراداً وتصديراً لبريطانيا ومكشوفيته الكاملة عليها، والذي أدى بدوره إلى عدم قدرة الاقتصاد العراقي على استيعاب الزيادات السكانية المتأتية من بعض العوامل المهمة: ارتفاع معدلات النمو السكانية سنوياً التي تراوحت بين 3،0-3،2%، وتقلص معدلات الوفيات بين الأطفال لتحسن الحالة الصحية عموماً وتوفر الأدوية، وقد تجلى ذلك في ارتفاع متوسط عمر الفرد وتحسن الهرم السكاني.       
من يتابع السياسة العراقية في فترة العهد الملكي يرى بأن هناك مجموعة محدودة من النخبة الحاكمة التي كانت تهيمن على السياسة العراقية وتشكيل الحكومات المتعاقبة لم يتجاوز عدده ألـ 166 شخصاً، وكانت الغالبية منهم من أصول عسكرية، إذ بلغت نسبتهم 60% من مجموع النخبة الحاكمة في العهد الملكي.  فالسياسي العراقي المخضرم نوري السعيد، حليف وصديق بريطانيا والغرب الأول في العالم العربي، كان ضابطاً عسكرياً في الجيش العثماني، تولى رئاسة الوزراء 14 مرة بين 1930-1958، وشارك كوزير للدفاع أو للداخلية أو للخارجية أكثر من ذلك بكثير. وكان لكثرة العسكريين منذ بدء تشكيل الحكومة العراقية الأثر السلبي الكبير على اتجاهات تطور العراق. يشير إلى ذلك بوضوح كبير وصواب الدكتور نبيل ياسين حين كتب"
"أضف الى ذلك ان التركيبة التي وجدها العهد الملكي أمامه ، هي تركيبة تتكون من اكثر من ستمائة من ضباط الجيش العثماني من العراقيين الذين تمتعوا بميزتين ستلقيان بظلالهما الكئيبة على طبيعة السلطة وعلى تاريخ العراق . الاولى كانت النزعة العسكرية التي حكمت عقلية الحكم وسلوك عدد كبير من رؤساء الوزارات المتحدرين من الجيش العثماني مثل نوري السعيد وياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجعفر العسكري وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي ، ولذلك فان استخدام الجيش في حل الخلافات الناشئة بينهم او استخدام الجيش في الانقلابات العسكرية لم يكن بعيدا عن تفكيرهم السياسي الذي يعتمد على استخدام الجيش ، الاداة الوحيدة لحسم الصراع . والميزة الثانية لم تكن منفصلة عن الاولى. فالتركيبة العسكرية هذه لم تنشأ الّا وفق أسس عشائرية وطائفية ومناطقية اقامتها السلطة العثمانية وطبقتها في حكم العراق. ولذلك فليس من الغريب او الاستثنائي ان يستمر هؤلاء في التمسك بهذه الاسس وتعميقها وجعلها المعايير الوطنية التي يقوم عليها نظام الحكم ، والتي ستستمر وتكون اساسا لازمة الحكم المستمرة في العراق. " 
هذه الفقرة والفقرة التي سبقتها تقدم ملخصاً مكثفاً عن معاناة الشعب العراقي، لاسيما قواه السياسية المعارضة، من سياسات الحكم الملكي الداخلية، ومن الدور الفظ والكبير لبريطانيا في التدخل في شؤون العراق الداخلية والخارجية، والتي أهمل حكام العراق ذلك، بل ساروا على وفق ما أمر به ممثلو بريطانيا في العراق، المندوب السامي والسفارة البريطانية والتي قال عنها عزيز علي في مونولوج صلي عالنبي:
"صَل عَا لنَّبِي صَل عَا لنَّبِي...واصِل أياغَه هَالصِبِي
مالِح وطَيِّب لَبْلَبِي...خوْش زْلِمَه هَا لجَلَبِي
(مُختار ذاك الصوْب) هَمْ...ممنون مِنَّه والنَّبِي
الّلهُمَّ صَلّي عَا لنَّبِي".
و"مختار ذاك الصوب" كنية يطلقها ابناء بغداد على المندوب السامي البريطاني، وفيما بعد على السفير البريطاني في منطقة صوب الكرخ ببغداد.".  كم أتمنى على من يمدح العهد الملكي أن يستمع بوعي ومسؤولية إلى مونولوجات عزيز علي الكثيرة والمحللة لواقع العراق السياسي والاجتماعي حينذاك. وبهذا المعنى كتب نوري السعيد نفسه وقبل قتله الشنيع والمرفوض كلية، مقالة نشرتها مجلة لايف الامريكية بعد مصرعه شاكياً من دور الغرب في التأثير عليه وعلى سياسات العراق حينذاك ما يلي: "انني كعربي وبرغم صداقتي للعالم الحر ، أقول جهرا : ان طاقتي في التحمل بلغت نهايتها ، فلقد طفح الكيل كثيرا جراء سياسات الغرب معنا . ويشاركني في مشاعري كل المسؤولين العرب في العالم . لقد سبق ان نبهناكم ونصحناكم مرارا بضرورة انصافنا وحل قضيتنا قبل ان يستفحل الامر ، ولكنكم تجاهلتمونا ، فحّلت في المنطقة عدة مشاكل وخطوب .. والان انني ارى كوارث مقبلة في الافق البعيد ، فهي ان حلت عن طريق اليأس .. فلا بد ان يتجدد سعيرها الملتهب على ايدي شيوعيين او ارهابيين في المستقبل القريب ، ويقيني ان اخمادها حين ذاك لن يكون هينا بأي حال من الأحوال.”. 
من هنا يمكن القول بوضوح شديد بأن المعارضة العراقية كانت على حق كبير حين كانت تدين التدخل الغربي في الشؤون العراقية وتدين حكام العراق الذين كانوا لا يأخذون برأي الشعب العراقي والمعارضة العراقية، بل كانوا خاضعين لسياسات الغرب، ساكتين عنها، ومنفذين لها، وفي مقدمتهم نوري السعيد نفسه.

العوامل المتنوعة والمتباينة في الموقف من النظام الملكي

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة ذكرت وجود أربع مجموعات من الناس، بغض النظر عن حجم كل منها، ولكنها موجودة كفكر وممارسة، وهي تطرح تصورات متباينة ومغايرة للواقع الذي كان قائماً في العراق في العهد الملكي. وفي هذا المقالة اتابع بنية هذه المجموعات وبلورة وإبراز العوامل الكامنة وراءها والمحركة لكل منها:
1) مجموعة من الشبيبة لم تتعرف على طبيعة وسياسات وسلوكيات حكومات النظام الملكي، ولكنها تعيش مأساة النظام الحالي، وتلك التي عاشت مأساة وكوارث وحروب النظام البعثي التوسعية، أو سَمَعتْ عنه من جهات معينة رأيها في النظام الملكي وحسناته، وابتعدت كلية عن ذكر سوءاته، التي كانت سبب الإطاحة به.
هذه المجموعة من شبيبة العراق التي ولدت في نهايات فترة النظام الدكتاتوري البعثي التي عانت من الاستبداد وعواقب الحروب والحصار الاقتصادي الدولي، من المجاعات والبؤس والفاقة، أو تلك التي ولدت في فترة النظام السياسي الطائفي المقيت الراهن التي زاد في معاناتها الإرهاب والتشريد والقتل والفساد والتمييز الديني والمذهبي المتشدد، ومن واقع السبي والاغتصاب والنزوح الداخلي والتهجير القسري بعد اجتياح داعش لمحافظة نينوى وعبث الميليشيات الطائفية المسلحة بالمجتمع والاقتصاد الوطني.. إلخ، من جهة، وهي التي لم تعش في فترة الحكم الملكي ولا تعرف عنه، ولكنها لا يمكن أن تتصور بأنه يماثل ما يعانيه الناس في الفترة التي هي فيها، من جهة أخرى، هو الذي يجعلها تنفر وتعتقد بأن ما حصل في 14 تموز 1958 كان السبب في كل ما حصل لاحقاً، والمسؤول عن الأوضاع البائسة والمدمرة التي تعيش تحت وطأتها يومياً.
لا شك، إن ما حصل في العهد الملكي من أوضاع سيئة لا يمكن مقارنتها، بما حصل أثناء وبعد انقلاب شباط 1963، أو ما حصل بعد عودة البعث ثانية إلى الحكم وبقاءه فيه بين 1968-2003، أو معاناتها مع ما يحصل اليوم في البلاد. وهذه حقيقة واقعة حقاً لا يجوز إنكارها أو إهمالها. ولكن يفترض في من عاش تلك العقود أن يطرح للشبيبة العراقية حقيقة أنهم، وهو يعيشون حياة مليئة بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية المعقدة التي تجعل من حياة الغالبية العظمى من المجتمع جحيماً لا يطاق، يكمن بالأساس في جوهر سياسات النظام السياسي الذي أقامته الفئات الحاكمة في العهد الملكي، إذ لم يكن الأساس الذي بني عليه العراق متيناً وديمقراطياً جيداً، بل كان وإلى حدود بعيدة بذهنية عسكرية وروح شوفينية ورؤية غير ديمقراطية للمجتمع والمعارضة السياسية، كما حاولت تبيانه في الحلقتين الثالثة والرابعة السابقتين، كما أشرت إليه في الحلقة الثانية التي جرى فيها الإشارة إلى بعض إيجابيات النظام الملكي. فتشويه الدستور الديمقراطي وتزوير الانتخابات والقبول بوجود نظام اقتصادي سياسي شبه إقطاعي–شبه استعماري، وتشكيل تحالف بين كبار الملاكين والكومپرادور التجاري وكبار موظفي النخبة الحاكمة، وعلى رأسها نوري السعيد والوصي عبد الإله بن علي وصالح جبر، مع بريطانيا، وقبولها تدخل بريطانيا الفظ واليومي في جميع شؤون حياة الشعب وسياسات الحكم، واتساع الفجوة بين حياة وغنى الأغنياء وبؤس وفاقة الفقراء، وتدهور شديد للحياة الديمقراطية وامتلاء السجون بالسياسيين ...الخ، كلها كانت سبباً في تحرك أجزاء من القوات المسلحة، التي تشكل جزءاً من الشعب وتتأثر بأوضاعه وحياته اليومية، للإطاحة بنظام الحكم الملكي وإقامة الجمهورية العراقية. إن من واجب كل الوطنيين والديمقراطيين شرح هذا الواقع وذلك الدور، لاسيما وأن ذاكرة الكثير من الناس قصيرة وينسون ما عاناه الآباء والأمهات في العهد الملكي، والتي كانت سبباً في تأييدهم الحار والحازم لانتفاضة العسكر والذي لعب الدور الحاسم الفعلي في تحويل تلك الانتفاضة العسكرية في 14 تموز 1958 إلى ثورة شعبية عارمة شملت البلاد كلها، فيما عدا تلك القوى التي كانت تحكم البلاد والتي خسرت حكمها ومكاسبها وامتيازاتها واستغلالها للشعب.
لم يكن من العبث أن تقف الغالبية العظمى من الفئة المثقفة العراقية الواعية من مختلف الاختصاصات ومن مختلف الفنون الإبداعية إلى جانب قوى المعارضة العراقية في فترة الحكم الملكي وتتلقى من الحكم الملكي كل العنت والاضطهاد والسجن، كما حصل في زج طلبة المتوسطة والثانوية والشبيبة في معسكر الشعيبة عقاباً لنشاطهم السياسي، أو في حجز جمهرة كبيرة من طلبة الكليات والمثقفين والعلماء وأساتذة الكليات والمعاهد في معسكر السعدية بسبب مواقفهم الفكرية والسياسية، دع عنك امتلاء السجون بالمثقفين وخريجي الكليات والمعاهد والفنانين، إضافة إلى الكثير من العمال والكسبة والحرفيين.           
2) مجموعة من الناس عاشت مرحلة النظام الملكي وعرفت سوءاته، ولكنها عند مقارنة ما حصل فيما بعد، لاسيما بعد انقلاب شباط/فبراير 1963، تجد إنه كان أفضل بكثير من العيش في ظل نظام البعث أو في ظل النظام الطائفي والفاسد الحالي.
إن هذه المجموعة من الناس ربما عانت أو لم تعانِ من مشكلات ومصاعب كبيرة ومباشرة في العهد الملكي، لهذا تجد في العهود التي تلت 1963 وفي الواقع الراهن، ما لا يمكن مقارنته بالعهد الملكي من حيث السوء والمعاناة. وهي على حق في ذلك، إذا نظرنا إلى حجم المعاناة والقسوة المفرطة والمدمرة التي حصلت مع انقلاب شباط 1963. ولكن هذه المجموعة تنسى حقيقة أساسية هي أن النظام الملكي أرسى الأساس الهش لدولة ديمقراطية ومجتمع مدني علماني من جهة، وزاد في الطين بلة حين بدأ بتشويه الدستور وتزور الانتخابات علناً حتى تجرأ نوري السعيد ليتحدى أعضاء المجلس النيابي ليقول لهم بشحمة لسانه بأنه يتحدى جميع النواب في قدرتهم الذاتية للوصول إلى مقاعد مجلس النواب دون دعم الحكومة المباشر لهم. قالها في واحدة من جلسات مجلس النواب العراقي. هكذا كان واقع الأمر فعلاً!   
 وهنا يمكن الإشارة على عامل آخر، عامل الحنين الذي يمتلك الناس: كل الناس، لاسيما حين يمرون بفترة عصيبة وقاسية. وحين يلاحظون بأن الفترة التي عاشوا فيها لم تكن سيئة كالتي يعيشون فيها حالياً. تشير معاجم اللغة العربية (معجم عربي عربي) إلى الحنين بكونه: صوت الأم الى ولدها؛ صوت الذي في فؤاده نزعة ألم؛ صوت الريح والنسيم الرقيق؛ صوت العود عند النقر عليه ؛ صوت القوس عند الإنباض ؛ صوت المرأة تفتقد زوجها ؛ صوت المشتاق.  أما الشاعر محمود درويش فيصف الحنين بصيغ شتى منها قوله: "الحنين أنين الحق العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية." وفي موقع آخر يقول: "أنين البيوت المدفونة تحت المستعمرات، يورثه الغائب للغائب، والحاضر للغائب، مع قطرة الحليب الأولى، في المهاجر والمخيمات." كما يقول "لا أحد يحن إلى وجع".  ولكن وجع اليوم الأقسى ينسي الإنسان وجع الأمس القاسي، ويبدأ الحنين للماضي!!!   
كتب الصديق الفنان والمخرج السينمائي والكاتب قيس الزبيدي رسالة شخصية معبراً عن ارتياحه لمضمون المقالين الأول والثاني في هذه السلسلة وتعليقا عليهما بصدد الحنين: "درس العلماء مؤخرًا الشعور بالحنين للماضي وما فيه من سعادة يشوبها الألم، ووجدوا أن لهذا الشعور وظيفة إيجابية؛ إذ إنه يحسِّن الحالة المزاجية، وربما الصحة النفسية أيضًا؛ فقد ألقت دراسة جديدة بالضوء على فائدة الشعور بالحنين للماضي، وتوصلت إلى أن هذا الشعور لا يحبسنا في الماضي، بل إنه في الواقع يرفع من معنوياتنا وشعورنا بالحيوية.".  حين أتصفح مواقع الاتصال الاجتماعي أو الرسائل الإلكترونية التي تصلني عبر البريد الإلكتروني أجد كمَّاً هائلاً من الصور التي تُنشر عن حياة المجتمع في العهد الملكي، عن الطالبات والمعلمات فارعات الرؤوس في المدارس الثانوية وفي الكليات، عن شوارع بغداد في الخمسينيات من القرن الفائت، عن التمور العراقية، عن الأكلات الشهية حينذاك، عن الحفلات الموسيقية والمسرحيات ومجالس الأدباء، وعن البلم والقفة والمسگوف على نهر دجلة... إلخ. وبهذا الصدد كتب قيس الزبيدي في رسالته الآنفة الذكر مشيراً إلى أن الباحث تيم وايلدشوت -أحد المشاركين في دراسة عن الحنين من جامعة ساوثهامبتون مع سيديكايدس- أن هناك الكثير من الطرق التي يشعر الناس من خلالها بالحنين للماضي؛ ومنها النظر إلى الصور أو طهي وجبات معينة أو مشاركة قصص الذكريات أو عزف الموسيقى. ويصف وايلدشوت هذا الشعور الذي نمر به بصورة طبيعية عدة مرات في الأسبوع بأنه “استجابة مناعية نفسية، تحدث عندما تواجهك بعض عقبات الحياة”. لذا إذا شعرت بأنك مضطرب قليلاً في موسم الأعياد، اصطحب نفسك في رحلة إلى الماضي مستعيناً بألبوم صور الذكريات.". 
3) مجموعة لبرالية فكرا ًوسياسة تؤيد النظام الملكي وتكتشف بعض سيئاته، ولكنها تعتبر إن ما حصل كان البداية للتطور المدني الذي قطعه انقلاب 14 تموز 1958، من جهة، وهي في الغالب الأعم ذات منحى يميني وضد القوى اليسارية، لاسيما ضد الحزب الشيوعي العراقي، وتوجه نيرانها ضد هذه القوى وكأنها وحدها كانت وراء إسقاط النظام الملكي أو الخراب الذي حصل فيما بعد. لقد كانت بداية النظام الملكي طيبة عموماً، ولكنه تراجع منذ منتصف العقد الرابع من القرن الفائت، وتفاقم سنة بعد أخرى، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حين سقوط النظام، ولم تعد هناك أي نسمة ديمقراطية.
لقد كان للعهد الملكي مثقفوه وجمهرة من السياسيين والاقتصاديين، لكنهم لم يشكلوا الأكثرية في إجمالي القوى المثقفة والسياسية والاقتصادية، بل كانوا قلة بالقياس للقوى الديمقراطية واليسارية والمستقلة، لاسيما في صفوف المثقفين. وكان المثقفون والسياسيون والاقتصاديون، سواء من أيد منهم نظام الحكم أم خالفه في بعض سياساته، قد وجدوا في النظام الملكي البرلماني قاعدة أساسية لمجتمع قائم على أساس اللبرالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهي وجهة نظر سائدة في العالم الرأسمالي وفي غالبية البلدان النامية، وبالتالي كانوا يعتقدون بأن أي إصلاح في الوضع الداخلي يفترض أن يأتي عبر الانتخابات النيابية وبعيداً عن استخدام العنف والسلاح. وهو أمر صائب من حيث المبدأ. ولكن السؤال الذي يبتعد هؤلاء عن الإجابة عنه هو: هل فسح نظام الحكم الملكي لقوى المعارضة السياسية الحق في العمل السياسي العلني، أم كان بين فترة وأخرى يلغي الأحزاب والنقابات والصحف والمظاهرات والاجتماعات ويفرض الأحكام العرفية (حالة الطوارئ) في البلاد؟ وهل كان النظام يسمح بمعالجة ملكية الأرض الزراعية التي استحوذ عليها شيوخ العشائر والميسورون في المدن؟ الجواب يأتينا من نوري باشا السعيد الذي وضَّحَ رأيه في كيفية حل المسألة الزراعية، الذي أشرنا إليه، أو في موقف المحاكم من الفلاحين ومطاردة الشرطة لهم في المدن التي لجأوا إليها للعمل مع عائلاتهم، لإعادتهم إلى "سيدهم!" الإقطاعي ليعملوا لديه بالسخرة كالرقيق عملياً بذريعة دفع الديون التي بذمتهم!! وهل فسحوا لوجهات النظر الفكرية والسياسية أن تتصارع، أم كان السجن نصيب من يخالف، وشملت القوى والشخصيات البرجوازية الوطنية الإصلاحية التي كان نصيبها السجن أيضاً، كما حصل للأستاذ كامل الجادرجي أو الأستاذ محمد مهدي كبة أو عشرات غيرهم في عام 1957 مثلاً، دع عنك امتلاء السجون بالشيوعيين واليساريين والديمقراطيين والمستقلين؟ وهل وظف الحكم الملكي أموال النفط فعلاً للتنمية والإعمار. لقد أنجزت دراسة حول المناهج الاقتصادية التي وضعها مجلس الإعمار في فترة الحكم الملكي 1950-1958 لمتابعة مستوى وضعها وتنفيذها:
"لقد وضع مجلس الإعمار خلال هذه الفترة ثلاثة مناهج استثمارية خمسية، صدر أولها في عام 1951 ليغطي الفترة حتى عام 1955، ثم عدل وأضيفت عليه مبالغ جديدة ومدد حتى عام 1956. وقد جرى تخصيص مبلغ قدره (31) مليون دينار تقريباً لتنمية الصناعة الوطنية. إلا إن ما صرف فعلاً من هذا المبلغ كان (5,4) مليون دينار فقط، أو ما يعادل 17،4% من المبلغ المخصص للصناعة، أو ما يعادل 3،5% من مجموع تخصيصات المنهاج الخماسي الذي بلغ مجموع تخصيصاته 155،3 مليون دينار. وفي عام 1955 صدر المنهاج الاستثماري الثاني ليشمل الفترة حتى عام 1959، وقد كان نصيب الصناعة في التخمينات 43،6 مليون دينا أو ما نسبته 14،3/ من المجموع الكلي للمنهاج"، من ثم جرى تمديد فترة المنهاج حتى العام 1960، إلا أن تنفيذ المنهاج الثاني لم يكن بأفضل من المنهاج الأول. كما إن تنفيذ مشاريع المنهاج الكلية في القطاعات الأخرى لم تكن بأفضل حالاً من المنهاج الصناعي.  من هنا لم تكن الإطاحة بنظام الحكم الملكي نابعة عن رغبة وإرادة ذاتية لبعض الضباط الأحرار فحسب، بل جاءت وبالأساس بسبب نشوء شروط موضوعية وذاتية نضَّجت ووفَّرت مستلزمات الانقضاض على النظام وإسقاطه، إذ لم يعد أمام القائمين بالانتفاضة العسكرية طريقاً آخر غير هذا الطريق وما أعقبه من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية في البلاد.
4) مجموعة من الناس من عائلات محافظة وميسورة تضررت من منجزات ثورة الرابع عشر من تموز 1958، منهم بشكل خاص كبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقارات أو المستحوذين عليها، وكبار التجار الكومبرادور، وأغلب المؤسسات والمرجعيات الدينية ... الخ، وهؤلاء جميعاً يحنون للماضي ويكرهون الثورة التي أطاحت بحكمهم الملكي وسحبت امتيازاتهم وقلصت مصالحهم حينذاك. علماً بأن هؤلاء وغيرهم من نفس النمط الفكري والسياسي الرثين قد استعادوا كل، بل وأكثر مما صادرته ثورة تموز 1958 من الأراضي التي كانت بحوزتهم أو السلطة والنفوذ والتأثير والبريستيج التي أُخذت منهم وزادوا عليها نهباً وسلباً للمال العام وتخريب وتلويث البلاد.
إن الكثير من أبناء وأحفاد تلك القوى السياسية التي حكمت العراق بين 1921-1958 قد استعاد أوضاعه السابقة من جديد، وزاد عليها. وهو أمر يمكن متابعته من خلال الدور المتعاظم لشيوخ العشائر وملاك الأراضي وغيرهم حالياً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. إن هذه المجموعة من البشر تقوم اليوم بنشر رأيها بتمجيد العهد الملكي وشتم ثورة تموز 1958 على نطاق واسع، ومنها أو عبرها تنشر الكثير من صور الحياة الماضية وإشاعة الحنين للماضي، ولكنها تسكت عن معايب ذلك النظام والمنجزات التي حققتها ثورة تموز 1958 في السنتين الأولى والثانية على نحو خاص. هذه المجموعة محكومة فيما تقوم به بعاملين مهمين هما:
** جسَّدَ نظام الحكم الملكي السابق تحالفاً بين القوى الاجتماعية والسياسية المالكة أو المستحوذة على الأراضي الزراعية والمهيمنة على التجارة الخارجية والداخلية، وعبَّر عن مصالحها المشتركة خير تعبير، ووفِّر لها امتيازاتها وغناها وثرواتها وعيشها المرفه، وبالتالي فهي التي خسرت نظامها السياسي وفقدت امتيازاتها وتضررت مصالحها بقيام الثورة وبالسياسات والإجراءات التي اتخذتها حكومة الثورة برئاسة عبد الكريم قاسم.
** كما إن النظام السياسي الحالي يجسد جزءاً أساسياً مما تطمح إليه ويوفر لها شروط استعادة مصالحها ومواقعها في السلطة والمجتمع، وهي تحاول دفع الأمور بالاتجاه الذي يلبي مشاريعها، وتتطلع إلى إعادة نظام الحكم الملكي للعراق، كما في طروحات "الأمير" علي بن حسين بن علي بن الحسين شريف مكة، الذي يعمل من أجل ذلك، وهي بالتالي تحاول أن تستثير عواطف وحنين الناس إلى ماضٍ لم يتعرفوا عليه ولم يعانوا منه، بل عاشوا مرارة حكم البعث الدموي والحكم الطائفي الفاسد ومراراته وخرابه الجاري.
في عام 2004 كتبت مقالاً أهديته لهذا "الأمير!" تحت عنوان "ذكريات مرة في ضيافة التحقيقات الجنائية- بمناسبة اليوم العالمي ضد التعذيب-،  أشرت فيه إلى أساليب التعذيب الوحشية التي مورست بحق صديقي ورفيقي الفنان الملحن وعازف الكمان الأستاذ عبد الأمير صالح الصراف وبحقي خلال فترة الاعتقال في التحقيقات الجنائية ولمدة أسبوعين، وهي عينة بسيطة من الأساليب التي مورست في تعذيب المعتقلين حينذاك.
وعليه يمكن القول بأن ما ينشر حول مدح النظام الملكي يعبر من جانب عن حنين لما كانت تعيش فيه هذه المجموعة من الناس من بحبوحة وحكم، ومن جانب أخر رغبتها الشديدة في العودة الفعلية إلى النظام الملكي أو في ظل نظام يلبي كل مصالحها التي هي ضد مصالح غالبية الشعب. وأرى ضرورة تأكيد حقيقة أن هذه القوى كانت هي السبب الأساسي والرئيسي وراء تشوه النظام الملكي والإساءة البالغة للدستور الديمقراطي وحياة المجتمع، وهي التي وفَّرت مستلزمات إسقاطه. ولم تكن حركة الضباط الأحرار إلا اليد التي نفذت ما أستوجبه تطور الأحداث والوقائع التاريخية في العراق. إن من واجب من يتصدى لهذا الموضوع أن يميز بين المجموعات التي تتحدث عن الماضي وعن ثورة تموز 1958. وألَّا يرمي كل هذه المجموعات في سلة واحد، وكأنهم شيء واحد! وبودي أن أختم هذه الحلقة بما كتبه الأستاذ قيس الزبيدي بصدق ووضوح:
"نجد أن النوستالجيا (الحنين) لا بد أن تفهم في سياق الحاضر والعلاقة معه، فحالة النوستالجيا مؤشر على وجود علاقة مرتبكة بين الذات وإدراكها للعالم والواقع من حولها، سواء نحن كأفراد أو كجماعات في لحظة تاريخية معينة، وحينما يكون الواقع غير مدرك أو مستوعب تماما من قبل الذات تصبح غير قادرة على تعريف هويتها أو تسكين نفسها في موضع آمن داخل هذا العالم، فتلجأ إلى العيش في الماضي كنوع من المراوغة والالتفاف على الواقع المرفوض، ويظل الحنين مصاحبا لها إلى ما يشعرها بالأمان والاستقرار. إلا أن سؤالا هاما يمكن أن يُطرح علينا، حول ما إذا كانت النوستالجيا دوما تتجلى باعتبارها هروبًا من الواقع المأزوم."   وجوابي عن هذا السؤال هو: ليس في كل الحالات أو بالضرورة، كما حاولت تبيانه في هذه الحلقة وميزت بين المجموعتين الأولى والثانية من جهة والمجموعة الثالثة من جهة أخرى، ثم المجموعة الرابعة أخيراً. 


انتفاضة الجيش وثورة الشعب في 14 تموز 1958

لا يمكن لأي حركة سياسية أو عسكرية أن تنجح في قلب نظام حكم في أي بلد من البلدان وتتسلَّم السلطة، ما لم تكن شروط ومستلزمات تلك العملية، الموضوعية منها والذاتية، ناضجة ومتوفرة. فمن تابع فترة نظام الحكم الملكي في العراق في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، يستطيع أن يقدر بأن الصراع بين المجتمع وقواه السياسية من جهة، والفئات الحاكمة وسلطتها السياسية من جهة أخرى، قد بدأ بالتفاقم المتسارع، وإن عوامل التفكك والانحلال بدأت تنخر بالدولة الملكية وتؤهلها للتغيير. ولم تكن الوحدات العسكرية التي قادها عبد الكريم قاسم في الرابع عشر من تموز 1958 سوى الأداة التنفيذية لفعل قوانين التطور الاجتماعي والتحولات التاريخية الذي تجلى في المد الثوري العارم الذي شهدته بغداد العاصمة وبقية المدن والقرى العراقية، كما شهده العالم في صبيحة الانتفاضة العسكرية المظفرة.
أهداف حركة الضباط الأحرار

حدَّدت حركة الضباط الأحرار أهدافها باختصار بما يلي: 1) إلغاء النظام الملكي وإقامة الجمهورية؛ 2) الخروج من الاتحاد الهاشمي مع الأردن؛ 3) الخروج من منطقة الإسترليني؛ 4) نبذ الأحلاف العسكرية والخروج من حلف بغداد والالتزام بالحياد ودول عدم الانحياز؛ 5) إلغاء الإقطاع وتشريع قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين؛ 6) إقامة أفضل الروابط مع الدول العربية، وخاصة مع الجمهورية العربية المتحدة؛ 7) العمل عل تحرير فلسطين؛ 8) إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع جميع البلدان على قدم المساواة؛ 9) العمل على تأمين حقوق الشعب العراقي بثروته النفطية وتامين دخل أكبر لتأمين تنفيذ مشاريعه التنموية؛ 10) العمل على النهوض بالبلاد من حالة التخلف في مختلف المجالات.  وهي كما يلاحظ القراء والقارئات أهدافاً طموحة، بعضها واقعي ومطلوب وبعضها الأخر قد اصطبغ بالوهم، كما في الفقرة السابعة والتي كان الجميع، بمن فيهم من كتب هذا الهدف يدرك استحالة تحقيقه وبالوجهة التي كان قد وضعها القوميون العرب في حركة الضباط الأحرار حينذاك، ولا زالوا يتحدثون بذات الخطاب السياسي، في حين لم يعد من فلسطين في عام 1947 أو حتى بعد قرار التقسيم إلا النزر اليسير.     

أهداف جبهة الاتحاد الوطني

حددت اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني أهدافها بما يلي: "1) إسقاط حكومة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي؛ 2) الخروج من حلف بغداد، والتزام الحياد الإيجابي؛ 3) إطلاق الحريات الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلغاء كل ما يتعارض معها من مراسيم وتشريعات شاذة؛ 4) إلغاء مرسوم الإدارة العرفية، وحل المجالس العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم وإلغاء مرسوم إسقاط الجنسية عن المواطنين؛ 5) تعزيز الروابط مع البلدان العربية المتحررة." 
كانت هذه الأهداف بمجملها تعبر عن وعي بواقع العراق وتحمل مسؤولية تغيير هذا الواقع بما يعيد التناغم والانسجام بين النظام السياسي وسياساته وإرادة ومصالح الشعب في الداخل والخارج. ولم تجسد تطرفاً أو عبَّرت عن روح الانتقام من أحد، سواء أكان من العائلة المالكة، أم من النخبة السياسية التي حكمت العراق طوال 37 عاما. وهنا تستوجب الإشارة إلى استحالة السيطرة على ردود أفعال الناس إزاء ما عانوه من الحكم الملكي، بعد انتصار الثورة, وبهذا الصدد يمكن إيراد أمثلة من دول كثيرة حصلت فيها انتهاكات كبيرة، كان ينبغي لها ألَّا تحصل، كما في ثورة 14 تموز في فرنسا، أو ما حصل في العراق بالنسبة لشخصيات ثلاث ليس بقتلهم فقط، بل التمثيل بجثثهم وسحلها وتعليقها على أعمدة في شوارع بغداد أيضا، وهم عبد الإله بن علي، ونوري السعيد، وصباح نوري السعيد، إضافة إلى قتل الملك الشاب فيصل الثاني، الذي كان لتوه قد تسلم العرش، وجميع أفراد العائلة الهاشمية المالكة الذين وجدوا في قصر الرحاب حينذاك. وهي جريمة بشعة نفذها النقيب عبد الستار العبوسي دون قرار صادر عن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، أو عن لجنة الضباط الأحرار، وانتشر خبر مفاده أن عبد السلام محمد عارف هو من أعطى الأمر بقتلهم! وليس هناك من وثائق يمكن بموجبها تأكيد أو نفي هذا الادعاء.

مسيرة ثورة 14 تموز 1958

مرَّت ثورة تموز/يوليو 1958 بفترتين هما:
الفترة الأولى: النهوض والمنجزات وبداية الصراعات والمصاعب
لم تحصل أعمال شغب أو نهب أو سرقات للبيوت والمحلات التجارية، ولم تقع حوادث أمنية، ما عدا الجريمة التي أشرنا إليها بقتل أو بقتل وسحل أفراد من النخبة الحكمة، رغم خروج الملايين إلى شوارع البلاد. فقد عبَّرت الحشود الشعبية عن نضجها العام ووعيها السياسي وحرصها على ممتلكات الدولة والمجتمع. وتجدر هنا المقارنة بين أيام الثورة الأولى عام 1958، وبين ما حصل في بغداد والمدن الأخرى بعد احتلال العراق عام 2003. إذ سمحت القوات الأمريكية التي احتلت بغداد بوقوع عمليات نهب وسلب لدوائر الدولة وبيوت المسؤولين والكثير من المحلات التجارية والبنوك، إضافة إلى الاستيلاء على الكثير منها. شارك في ذلك الكثير من جنود وضباط الاحتلال، لاسيما في نهبهم لثروتنا الوطنية من المتاحف العراقية والقصور الرئاسية والبنوك. إن هذه الأعمال المشينة عبَّرت بعمق ودقة عن حالة الجماهير بعد 35 عاماً أو 50 عاماً من هيمنة القوى البعثية والقومية الشوفينية على الحكم وعن الدكتاتورية والاضطهاد والظلم التي عانت منها تحت حكم حزب البعث، إضافة إلى الحروب والمجاعات التي تسبب بها وعمقها وزاد فيها الحصار الاقتصادي الدولي.
خلال هذه الفترة تم إعلان الدستور المؤقت بمضامين ديمقراطية وتأكيد شراكة العرب والكرد في هذا الوطن، وحرية أتباع الديانات والمذاهب في ممارسة دياناتهم وطقوسهم، وتشكيل مجلس الرئاسة من ثلاث شخصيات سياسية تجمع بين المدنيين والعسكريين، وبين الشيعة والسنة وبين العرب والكرد في أن واحد، والخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، وعقد اتفاقية تصنيع البلاد مع الاتحاد السوفييتي وإصدار قوانين العمل والعمال والإصلاح الزراعي والأحوال المدنية وتوسيع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الاشتراكية وغيرها، والدعوة إلى إقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية والمجاورة، والانضمام لدول عدم الانحياز، ومبادرة تشكيل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وقرار استعادة 99،5% من الأراضي غير المستغلة التي كانت بحوزة شركات النفط الأجنبية، وتوزيع الأراضي السكنية على العائلات الفقيرة، لاسيما في مدينة الثورة، وتأسيس جامعة بغداد والتوسع في إرسال البعثات والزمالات الدراسية ومكافحة الأمية...الخ.
واجهت هذه الإجراءات ردود فعل متباينة على المستويات الداخلية والعربية والدولية. فعلى المستوى الداخلي وقفت الغالبية العظمى من المجتمع إلى جانب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والدولية التي مارستها حكومة عبد الكريم قاسم وأيدتها بحرارة، لأنها كانت تتطلع لها وتحتاجها، في حين كانت مجموعة صغيرة من الفئات التي تضررت بتلك السياسات، ممن أشير إليهم سابقاً، قد رفضت الثورة ومنجزاتها وبدأت تعيد تنظيم صفوفها لمواجهتها. كما برزت صراعات سياسية جديدة في نهاية هذه الفترة بين مجموعتين سياسيتين مختلفتين من جهة، وحكومة الثورة من جهة أخرى، ثم تفاقمت في الفترة الثانية، وهما الحزب الديمقراطي الكردي (الكردستاني)، بسبب الموقف من القضية الكردية وتباين الرأي بينهم

93
كاظم حبيب


هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني
للعهد الملكي والتنكر لمنجزات ثورة 14 تموز 1958؟

بغداد – برلين
صيف 2019 
الفهرست


هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني للعهد الملكي والتنكر لمنجزات ثورة 14 تموز 1958؟   1
الفهرست   2
المدخل: التباين في وجهات نظر المناهضين لثورة تموز 1958   3
من هم الذين يجدون في العهد الملكي دولة ديمقراطية حرَّةً؟   4
منجزات العهد الملكي في العراق   6
أخفاقات العهد الملكي ونضوج مستلزمات إسقاطه   11
العوامل المتنوعة والمتباينة في الموقف من النظام الملكي   21
انتفاضة الجيش وثورة الشعب في 14 تموز 1958   26
أهداف حركة الضباط الأحرار   27
أهداف جبهة الاتحاد الوطني   27
مسيرة ثورة 14 تموز 1958   28
فترة الانتكاسة والسقوط للعهد الجمهوري الأول   31
الهوامش والمصادر



المدخل: التباين في وجهات نظر المناهضين لثورة تموز 1958

من يتابع مواقع الاتصال الاجتماعي، لاسيما الفيسبوك، سيجد أمامه مجموعة من التعليقات السياسية النقدية التي تعتبر العهد الملكي وكأنه كان مدنياً حراً وديمقراطياً، حيث تمتع الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية بالحياة الحرة والكريمة، وأن النظام الملكي قد حقق لهذا الشعب الكثير من الحقوق والمصالح الأساسية والحيوية. وعلى أساس هذا التصور يرى هذا البعض غير القليل بأن إسقاطه عبر انقلاب عسكري أو انتفاضة عسكرية كان عملاً غير مبرر وغير سليم وأساء للشعب. وإن معاناة الشعب طيلة العقود المنصرمة وما تعرض له من كوارث ومآسي ومحن كانت كلها بسبب لذلك الانقلاب. وبالتالي فهي لا تكف عن شنّ حملات ظالمة وهستيرية ضد منجزات ثورة تموز في سنواتها الأولى. لاسيما وأن البعض منهم يريد أن يتجاوز تلك القوى الداخلية والخارجية التي تآمرت على منجزات الثورة ونظمت وقادت ونفذت انقلاب شباط الدموي عام 1963 وما تبعه من انقلابات عسكرية ونظم دكتاتورية وحروب داخلية وخارجية مدمرة وإبادات جماعية واحتلال وحصار دولي واجتياح وغزو وسبي واغتصاب وبيع النساء في سوق النخاسة "الإسلامي"!! 
أُقدر بأن الناس الذين يتحدثون بهذه الوجهة لا ينطلقون من منطلق واحد أو رؤية واحدة ولا هدف واحد، بل هناك تمايز كبير واحياناً تقاطع بينهم استناداً إلى عوامل كامنة وراء تلك المنطلقات والرؤى والأهداف. ومن هنا تنشأ الحاجة لمتابعة ومناقشة مثل هذه الرؤى الفكرية والسياسية المتباينة بكل هدوء وموضوعية، لكي نتبين ما فيها من صواب أو خطأ، لاسيما وأن هناك جمهرة تحمل مثل هذه الرؤى وهم من الشبيبة التي يفترض طرح الحقائق والوقائع أمام أبصارها وبصائرهم، لاسيما من قبل أولئك الذين عاشوا مرحلة الثورة والمراحل اللاحقة ولا زالوا على قيد الحياة، ومنهم الكاتب نفسه.
لا يجوز لمن يبحث في تلك الفترة أن يرمي تلك الأفكار والآراء والانتقادات، وهي متباينة حقاً في منطلقاتها وتفاصيلها وغاياتها، في سلة واحدة، وكأن ليس هناك من تفاوت كبير وكبير جداً أحياناً بين من يتحدث بها. لهذا فنحن بحاجة إلى حوارات هادئة ونقاشات فكرية وسياسية موضوعية، جدية ومسؤولة، ازاء هذا الاستنتاج الفكري والسياسي والاجتماعي.
الأسئلة التي تواجه من يكتب بهذا الموضوع كثيرة منها: من هم الذين أطلقوا هذا الاستنتاج السياسي أولاً، وما زالوا يرددونه؟ وما هي العوامل التي تدفع بهم إلى طرح مثل هذا الاستنتاج ثانياً؟ وما هي اهدافهم الفعلية ثالثاً؟ وهل كل ما يدَّعون به خاطئا أم أن فيه ما يدعونا إلى التفكير والتمييز بين بعض منطلقات القائلين به رابعاً؟ وأخيراً، كيف يمكن خوض المواجهة الفكرية والسياسية مع تلك المجموعات المتباينة القائلة بهذا الاستنتاج السياسي، وما هي التمييز العقلاني فيما بينها؟ يتطلب من الباحث العلمي الموضوعي أن يميز بحرص ومسؤولية عن فترتين متباينتين في مرحلة حكم الزعيم الركن حكم عبد الكريم قاسم، الفترة الأولى التي تمتد حتى عام 1960/1961، والفترة الثانية التي تمتد بين 1961 و1963، حيث وقع الانقلاب الفاشي الدموي الذي قاده تحالف سياسي-اجتماعي-اقتصادي رجعي وشوفيني، داخلي-إقليمي-دولي. ثم مدى مسؤولية عبد الكريم قاسم والقوى السياسية التي ساندت الحكم الجمهوري الأول في ذلك.   
في هذه الدراسة المكثفة أعبر عن قناعاتي الشخصية المستمدة لا من أيديولوجية معينة أو حنين ماضوي، بل من معايشتي الفعلية لواقع العراق حينذاك وقناعتي التامة حول مسائل مهمة مثل: كيف كنت أرى مجرى الأمور حينذاك؟ وما هي المشكلات التي كانت تحرك الناس لمعارضة النظام الملكي والتصدي للأوضاع البائسة التي كانت تعيش تحت وطأتها؟ وهل يختلف تقييمها اليوم عن الفترة التي سادت فها تلك الأوضاع؟
لقد كنت ومازلت أبذل الجهد لكي أكون موضوعياً وصادقاً مع نفسي ومع من يتابع قراءة المقالات والكتب التي انجزتها ونشرتها، وكذلك مع الأجيال القادمة، التي لها الحق في التعرف على الوقائع التاريخية بصدق ومسؤولية، وأرجو أن أوفق في هذا المسعى. وأشير هنا بأن ليس من حق أحدٍ أياً كان أن يدعي الصواب في كل ما يكتب، ولكن أؤكد بأن ما أكتبه وأسجله يعبر عن قناعتي الشخصية، القابلة للصواب والخطأ.

من هم الذين يجدون في العهد الملكي دولة ديمقراطية حرَّةً؟

عبر قراءاتي لآراء ومداخلات جمهرة من الناس الذين تبنوا الرأي القائل بـ "خطأ إسقاط النظام الملكي"، تبلورت لديَّ المجموعات التالية:
1)   مجموعة من الشبيبة التي لم تتعرف على النظام الملكي، ولكنها تعيش مأساة النظام الحالي بكل موبقاته ونفاسده ومحاصصاته الطائفية، وكذلك تلك التي عرفت مأساة وكوارث وحروب النظام البعثي الاستبدادي الشمولي التوسعية، وسَمَعتْ من جهات بعينها رأيها في النظام الملكي وحسناته، وابتعدت كلية عن ذكر سوءاته، التي كانت سبب الإطاحة به.
2)   مجموعة من الناس التي عاشت مرحلة النظام الملكي وعرفت سوءاته، ولكنها عند مقارنة ما حصل فيما بعد، لاسيما بعد انقلاب شباط/فبراير 1963، تجد إنه كان أفضل بكثير من العيش في ظل نظام البعث أو في ظل النظام الطائفي والفاسد الحالي.
3)   مجموعة لبرالية فكرا ًوسياسة تؤيد النظام الملكي وتكتشف بعض سيئاته، ولكنه كان البداية للتطور المدني التي قطعها النظام الجمهوري اساساً من جهة، وهي في الغالب الأعم ذات منحى يميني وضد القوى اليسارية، ولاسيما ضد الحزب الشيوعي العراقي، وتوجه نيرانها ضدهم وكأنهم وحدهم كانوا وراء إسقاط النظام الملكي أو الخراب الذي حصل فيما بعد.
4)   مجموعة من الناس من عائلات محافظة وميسورة تضررت من منجزات ثورة الرابع عشر من تموز 1958، منهم مثلاً كبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقارات وكبار التجار الكومبرادور والمؤسسات والمرجعيات الدينية ... الخ، وهؤلاء جميعاً يحنون للماضي ويكرهون الثورة التي أطاحت بحكمهم الملكي وامتيازاتهم ومصالحهم حينذاك. علماً بأن هؤلاء جميعاً قد استعادوا جل، بل وأكثر مما صادرته ثورة تموز 1958 من الأراضي التي كانت بحوزتهم أو السلطة والنفوذ والمال التي أخذت منهم وزادوا عليها نهباً وسلباً للمال العام ولحقوق الإنسان.
من هنا يمكن أن نتبين بأن العوامل المحركة للمجموعة الأولى هي غير العوامل المحركة للمجموعة الثانية ولا للثالثة ولا للرابعة، في حنينها للنظام الملكي أو في تقريعها للقوى التي قامت بثورة تموز 1958، أو تلك التي ساندتها وأيدت مجموعة من السياسات الديمقراطية التي مارستها حكومة الثورة، لاسيما في الفترة الأولى من قيامها.


منجزات العهد الملكي في العراق

تخلَّص العراق من ظلمتي النظام الاستعماري العثماني القديم والبالي، ظلمة التخلف والجهالة، وظلمة الفقر والقهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الظلمة التي كانت معرقلة لكل نمو وتقدم وتطور، مع نهاية الحرب العالمية الأولى ووقوعه تحت احتلال الاستعمار البريطاني. مع بدء الاحتلال بذلت بريطانيا الجهود الكبيرة لجعل العراق جزءاً من التاج البريطاني ومشابها لوضع الهند حينذاك. لكنها فشلت في ذلك تحت ضغط الحركات الشعبية الثورية في سائر أنحاء العراق، ابتداءً من انتفاضة نجم البقال في النجف وثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية في عام 1919، وأخيراً ثورة العشرين في عام 1920. فأجُبرت هذه الحركات السياسية والاجتماعية الدولة البريطانية على صرف النظر عن مشروعها الاستعماري الأول والإقرار بمطلب تأسيس الدولة العراقية الملكية في عام 1921، مع وضع البلاد تحت الانتداب البريطاني بقرار من مجلس عصبة الأمم.
مع تشكيل الدولة الجديدة وانتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق الحديث. إذ رغم علاقات الملك الحميمة مع بريطانيا ومراعاته لمصالحها وجوهر قراراتها، أبدى الملك فيصل الأول مسؤولية محسوبة إزاء المجتمع العراقي وتوجهاً علمانياً وعقلانياً في وضع أسس الدولة العراقية، مع السماح لبريطانيا بتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية ووجودها المديد في البلاد عبر اتفاقيات ثنائية ملزمة. فتم منح شركات النفط الاحتكارية امتياز النفط لعقود عدة في عام 1924 مع حصة ضئيلة قدرها أربع شلنات ذهب عن كل برميل نفط خام يصدر إلى الخارج، ثم البدء مباشرة بمباحثات لوضع معاهدة تضمن الوجود العسكري المديد للقوات البريطانية في البلاد والتي وقع عليها في عام 1930، كما أُقر الدستور العراقي الديمقراطي في عام 1925، رغم تضمينه مادة تقول بأن "الإسلام دين الدولة الرسمي"، إذ أن الدولة لا دين لها باعتبارها شخصية معنوية، بل الدين للناس لا غير. وفي عام 1926 ألُحقت ولاية الموصل بأقضيتها العربية والكردية بالدولة العراقية مع تقديم التزامات من جانب الملك فيصل والحكومة العراقية بمنح الكرد بعضاً من حقوقهم المشروعة والمهمة، ولكنها لم تقترن بضمانات فعلية ملزمة.
 خلال الفترة الواقعة بين 1921 و1932 لعبت الحكومة البريطانية وممثليها في العراق دوراً أساسياً في تنصيب حكومات مؤيدة تماماً للوجود البريطاني والمصالح البريطانية في العراق، مما سعدها على أن تلعب دورها في بنية أعضاء مجلس النواب العراقي إلى حدود بعيدة. وخلال هذه الفترة جرت انتخابات المجلس النيابي وتعيين أعضاء مجلس الأعيان، حيث كانت تجري فيهما نقاشات حرة نسبياً، رغم أن الحكومة، ومعها بريطانيا، كان لها اليد الطولى في التأثير على جو الانتخابات والمرشحين وأعضاء المجلس. وكانت جريدة الوقائع العراقية الرسمية تنشر تفاصيل جلسات مجلس النواب ومناقشات النواب في مختلف المسائل المطروحة للنقاش والإقرار ويطلع عليها من يريد. وكانت بداية فعلية لبناء مجتمع مدني في بلد كانت أكثريته بدوية وفلاحية ويعم الجهل والأمية والفقر في البلاد. وفي هذه الفترة بالذات برزت صراعات متعددة الاتجاهات، كانت تتفاقم سنة بعد أخرى، لاسيما بعد إنهاء حالة الانتداب في عام 1932، وهي:
1)   صراع حول دور بريطانيا في السياسات الداخلية والخارجية، إذ كان هناك من رفض هذا الدور ومن أيده ودافع عنه، والذي تجلى فيما بعد بانقسام النخبة السياسية إلى قوى معارضة، وأخرى تمسك بزمام الحكم. 
2)   صراع بين البداوة والحضر والتي كتب عنها الدكتور علي الوردي في العديد من مؤلفاته الاجتماعية المهمة، كما نجدها في كتب الدكاترة شاكر مصطفى سليم وإبراهيم الحديري وفالح عبد الجبار.
3)   صراع حول المرأة وتعليمها ودورها في المجتمع وما أطلق عليه بـ "السفور" أي نزع المرأة عباءتها"، وتجلى ذلك في الصحافة العراقية، حيث انبرت هيئة تحرير جريدة "الصحيفة" في تكثيف الكتابة عن أهمية وضرورة تحرير المرأة من أغلالها وقيود المجتمع البالية، وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي واحداً من أبرز مؤيدي حرية المرأة.     
بعد مصادقة الحكومة العراقية على معاهدة 1930 وملاحقها العديدة التي واجهت معارضة شديدة من جانب القوى السياسية العراقية والتي قال عنها الشاعر معروف الرصافي (ت 1945): "والعهد بين الإنجليز وبيننا... كالعهد بين الشاة والغربال"  (الرسالة العراقية، انظر رشيد الخيون، نوري السعيد وبريطانيا).
وافقت بريطانيا على تقديم طلب بإنهاء حالة الانتداب البريطاني على العراق، حيث تم فعلاً في عام 1932، وبالتالي أصبح العراق من حيث المبدأ مستقلاً عن بريطانيا، ولكن لم يتخلص من وجودها ومستشاريها في كافة الوزارات العراقية وتدخلها في الكثير من الشؤون العراقية. وقد وصف الشاعر محمد باقر الشبيبي (ت 1960) الوضع حينذاك بقوله:
قالوا استقلت في البلاد حكومة        فعجبت إن قالوا ولم يتأكدوا
أحكومة والاستشـارة ربهـا             وحكومة فيهـا المشــاور يعبد
المستشار هـو الذي شـرب الطـلا     فعـلام يا هــذا الـوزير تعـربـد؟
ورغم ذلك تمتع العراق خلال هذه الفترة القصيرة بأجواء من الحرية والديمقراطية العامة والنسبية التي تناغمت مع حالة المجتمع الخارج لتوه من ظلمات الدولة العثمانية ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي العام. وقد تمتع بهذه الحريات أتباع مختلف الديانات والمذاهب، كما أمكن تأسيس بعض الأحزاب والجمعيات وتوفرت حرية عقد الاجتماعات وتنظيم المظاهرات.
وقبل وفاة الملك فيصل الأول وقعت بعض الأحداث المرعبة، كما في معركة ديرابون على الحدود العراقية السورية أو مذبحة سهل سميل حيث قتل في المجزرتين 850 شخصاً من الآشوريين، وكان بالإمكان تفاديهما، على وفق تقدير الملك فيصل الأول أيضا في حديث له مع صحفي حين كان في سويسرا للمعالجة وقبل وفاته. وقد اشتكى الملك فيصل الأول من تفكك وتخلف المجتمع العراقي، وسعيه الجاد لبناء دولة حديثة و"أمة عراقية" من قوميات مختلفة ومجتمع مدني في نص له وجهه للشعب العراقي قبل وفاته.
توفي الملك فيصل الأول في عام 1933 وتسلم غازي الأول العرش من بعده، وتوّج ملكاً على العراق. في عهد الملك غازي برزت جملة من الإشكاليات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالوضع السياسي، لاسيما وأن حياة التخلف والجهل والأمية والفقر والبطالة قد سادت البلاد ولم تعالج خلال الفترة القصيرة المنصرمة. كما برز تيار قومي يميني في الحكم توجه ضد يهود العراق وإزاحتهم من وظائف الدولة في العام 1935، إضافة إلى توجه ملموس صوب النازية الألمانية والدولة الهتلرية من قبل قوى "نادي المثنى بن حارث الشيباني" الذي تأسس في عام 1935.  وقبل ذاك أقرت قوانين الخبير البريطاني في شؤون الأرض ارنست داوسن الجائرة بحق الفلاحين والزراعة في عامي 1932/1933 والتي أطلق عليها بـ “قوانين تسوية حقوق ملكية الأراضي”، ثم استكملت بقوانين مجحفة أخرى في عام 1938، بعدها صدرت قوانين وتعديلات أخرى في عامي1951  و1952، حول بيع الأراضي الأميرية التابعة للدولة والتي كُرَّست، بموجب جميع تلك التشريعات، علاقات إنتاجية شبه إقطاعية استغلالية في الريف العراقي، حيث تم انتزاع الأراضي من أيدي الفلاحين الفقراء وصغار المنتجين ووضعت في أيدي شيوخ العشائر والمتعاقدين السابقين مع الحكم العثماني وتجار المدن والعائلات الميسورة. وعليه كرست سيطرة كبار ملاكي الأراضي الزراعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على الريف والفلاحين والإنتاج الزراعي والريع المنتج في الزراعة. فتفاقمت مشكلة الأرض والزراعة والفلاحين، كما تصاعدت رغبة التصنيع بعد بدء تصدير النفط في نفس العام، رغم قلة التصدير حينذاك وحصة العراق الضئيلة من إيراداته.
تبلورت في الثلاثينيات من القرن العشرين أحزاب جديدة منها الحزب الوطني (1929/1930) برئاسة محمد جعفر أبو التمن ، وجماعة الأهالي والإصلاح الشعبي (1933/1934) برئاسة مجموعة من العناصر الديمقراطية، منهم كامل الجادرجي وعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وحسين الجميل ..وغيرهم، والحزب الشيوعي العراقي (1934) بقيادة يوسف سلمان يوسف وعاصم فليح وقاسم حسن.. وغيرهم، ونادي المثنى بن حارث الشيباني القومي (1935). وخلال هذه الفترة بالذات وفي أعقاب عقد معاهدة 1930، انشطرت القوى السياسية في البلاد إلى مجموعتين، رغم التداخل بينهما، قوى الحكومة وقوى المعارضة السياسية، خاصة بعد أن وقعت أحداث مناهضة لسياسة الحكومة في عامي 1935/1936 في الفرات الأوسط وفي كردستان العراق، حيث استخدم العنف العسكري من جانب الحكومة في قمع تلك الحركات المطالبة بحقوق عادلة ومشروعة.
في عام 1936 حصل انقلاب بقيادة بكر صدقي العسكري-حكمت سليمان، وبتأييد جماعة الأهالي والحزب الوطني له، وكان أبو التمن قد التحق لتوه بالأهالي. وكان أول انقلاب عسكري غير واضح الاتجاه والأهداف في الدولة الحديثة. لم يستمر حكم الانقلابيين طويلا، حيث قتل قائد الانقلاب عام 1937 في مطار الموصل، فسقطت بموته حكومة الانقلاب. ولكن هذا الانقلاب أقلق القوات البريطانية كثيراً، لاسيما وإن نظام الانتداب لم يعد قائماً وأصبح العراق دولة مستقلة من الناحية الرسمية،
مع نهاية الانقلاب نشأت بدايات فعلية لأجواء غير ديمقراطية في نظام الحكم لاسيما إزاء قوى المعارضة في المجتمع بضغط متزايد من بريطانيا. فحصلت خلال الفترة بين 1936-1941 سلسلة من التشكيلات الوزارية المتعاقبة إذ كانت تحل بعد سنة أو أقل لتشكل حكومة جديدة لتطرح برنامجاً جديدا. وكان هذا أحد الأسباب التي تذرعت به الحكومات المتعاقبة لتشير إلى إنها عجزت عن تحقيق البرامج الاقتصادية الثلاثية التي كانت تضعها والتي أوقفتها مع بدء الحرب العالمة الثانية عام 1939. خلال هذه الفترة تنامي عدد العاطلين عن العمل وعدد الفقراء وتفاقمت أوضاع الفلاحين المعيشية، كما ازداد التجاوز على الحريات العامة بإصدار قوانين لا تنسجم مع مواد ومضامين الدستور، وكذلك تفاقمت تجاوزات دائرة التحقيقات الجنائية وشُعبها الخاصة في الألوية، إضافة إلى تصاعد تأثير ألمانيا النازية على القوميين العراقيين ومناهضة الوجود البريطاني في البلاد. قادت مجمل هذه الأوضاع إلى انقلاب عسكري قومي في الأول من أيار/مايس1941 قاده العقداء الأربعة العقيد صلاح الدين الصباغ ، العقيد كامل شبيب ، العقيد فهمي سعيد ، والعقيد محمود سلمان ، زائداً يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني ومحمد أمين الحسيني (مفتي القدس). وكان هؤلاء جميعاً قادة حزب الشعب القومي السري الذي تأسس في العام 1940/1941 بمبادرة من مفتي القدس. بعد مرور شهر واحد على الانقلاب، سقطت حكومة رشيد عالي الكيلاني تحت ضربات القوات البريطانية التي اشتبكت بمعارك ضارية مع قوات الجيش العراقي وانتصرت عليها. علماً بأن هذا الانقلاب القومي قد حاز على تأييد واسع من الشعب وغالبية القوى السياسية المعارضة، بما فيها قوى اليمين واليسار، ومنها الحزب الشيوعي العراقي. وبعد سقوط حكومة الانقلاب مباشرة، أي في يومي 1 و2/حزيران/يونيو 1941 وقعت عمليات قتل للمواطنين والمواطنات اليهود وحوادث سلب ونهب لدورهم ومحلات عملهم ودكاكينهم، أطلق عليها بـ "فاجعة الفرهود". لقد شارك في هذه المجزرة، التي قتل فيها 144 مواطنة ومواطنا من يهود العراق، جمهرة من المناهضين لليهود وأفراد من الجيش العراقي المهزوم ومجموعة من فدائيي يونس السبعاوي وكثرة من سكان أطراف بغداد. علماً بأن فرهوداً آخر حدث قبل ذاك وفي شهر مايس نفسه ضد يهود البصرة ولكن لم يحث قتل فيه، ثم أعيدت أكثر المنهوبات إلى أصحابها من المواطنين اليهود. بعد هذه الأحداث تصاعد بشكل كبير دور وتأثير وتدخل بريطانيا في السياسات العراقية الداخلية والخارجية. وهي التي عمقت الخلاف بين قوى الحكومة وقوى المعارضة، ليس بسبب دور بريطانيا فحسب، بل وبسبب توجهات السياسة الداخلية للحكومات العراقية المتعاقبة.
في اعقاب الحرب العالمية الثانية وفي الأجواء الديمقراطية التي سادت العالم بعد انكسار القوى النازية والفاشية والعسكرية (دول المحور الثلاث، ألمانيا وإيطاليا واليابان) انتعشت الحياة السياسية في العراق، فتأسست بعض الأحزاب والجمعيات ومنعت أخرى وصدرت الصحف والمجلات وتنامت الحركات المطالبة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتغيير شروط امتيازات النفط الممنوحة للشركات الأجنبية (شركة نفط العراق) وفي النصف الثاني من العقد الرابع تم تأسيس (شركتي نفط البصرة والموصل)، واتسعت المعارضة السياسية لمعاهدة 1930.
في عام 1947 بدأت مفاوضات الحكومة العراقية مع الحكومة البريطانية لوضع اتفاقية جديدة لتحل محل معاهدة 1948. وقد تم التوقيع على هذه الاتفاقية الجديدة في عام 1948 في مدينة بورتسموث من قبل صالح جبر رئيس الوزراء التي أطلق عليها "اتفاقية جبر-بيفن"، وهي التي كانت السبب وراء وثبة كانون الثاني عام 1948 التي استطاعت إلغاء الاتفاقية. ولكن الحركة الوطنية أصيبت بالتراجع وعاشت جزراً موجعاً حيث تفاقم القمع في البلاد وازداد عدد السجون وعدد السجناء في آن.
في عام 1952 وافقت شركات النفط الأجنبية على مبدأ المناصفة في إيرادات صادرات النفط العراقي، ابتداءً من عام 1950/1951، وبالتالي توفرت للعراق إمكانيات مالية أفضل، فشكلت الحكومة مجلس الإعمار ثم وزارة الإعمار، فأقدما خلال الفترة بين 1952-1958 إلى وضع برامج اقتصادية مهمة وواسعة، ولكن أغلب تلك المشاريع لم يرَ النور، بسبب كثرة التبدلات في التشكيلات الوزارية والوضع السياسي الملتهب وعجز الحكومة عن تأمين الحياة الحرة والديمقراطية. ومع ذلك أقيم عدد من المنشآت الصناعية الخفيفة والاستهلاكية في أنحاء مختلفة من البلاد. كما توفرت إمكانيات أفضل للزراعة حيث ارتفع عدد المضخات المائية المستخدمة على ضفاف الأنهر، وبعض المكائن الزراعية، ولكن بقي العمل اليدوي الفلاحي هو السائد في الزراعة العراقية والأساليب القديمة البالية في زراعة الأرض والإنتاج. 
في عامي 1952 و1956 حصلت انتفاضتان شعبيتان ضد السياسات الداخلية والخارجية في الأولى توجه ضد سياسات الحكومة وضد مشروع الشرق الأوسط الأمريكي، والثانية ضد موقف الحكومة العراقية من تأميم قناة السويس وعدم شجبها للعدوان الثلاثي على مصر تحديداً. حيث استخدم نظام الحكم الحديد والنار ضد المتظاهرين فسقط بعض الشهداء في الانتفاضتين. في عام 1957 أقيم الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن وشكلت في العام 1958 أول حكومة مشتركة لهذا الاتحاد دون ان يُسأل الشعب العراقي ويؤخذ رأيه بذلك!
والخلاصة، يمكن تقسيم العهد الملكي إلى فترتين: تمتد الأولى من عام 1921 وتنتهي مع نهاية الانتداب على العراق  عام 1932، حيث لعب الملك فيصل الأول دوراً مهماً في التأثير على سياسات الحكومة العراقية ومنع تدهور الحريات العامة. ومن أبرز منجزات العهد الملكي في هذه الفترة هو الاتفاق على إلحاق الموصل بالعراق بدلاً من جعلها جزءاً من الدولة التركية الجديدة، والبدء ببناء المجتمع المدني وفسح المجال أمام الحريات العامة والبدء بنشر التعليم الحديث وبناء المدارس للأولاد والبنات، إذ توفرت فرص لا بأس بها لدخول أبناء وبنات العائلات المتوسطة والضعيفة فيها وبدء تقلص عدد سكان البادية لصالح سكان الريف والزراعة والتوطن. أما في الفترة الثانية فقد بدأ فيها التراجع التدريجي عن الحريات العامة وتنامى التشدد وتبلور في بروز معارضة سياسية منذ عام 1932/1933، لاسيما بعد وقوع الانقلابين العسكريين، واستمر حتى سقوط النظام الملكي. وفي هذه الفترة يمكن القول باحتدام الصراعات السابقة وتبلورها أكثر فأكثر. ومع ذلك فقد اتسع التعليم ونشأت صناعة وطنية خفيفة في القطاعين العام والخاص إضافة إلى قطاع مختلط. ولعب مجلس ووزارة الإعمار والمصرف الصناعي دوراً ملموساً في هذا التوجه، كما تم تأسيس المزيد من المدارس والكليات والمعاهد التربوية والمهنية وإرسال البعثات إلى الخارج للدراسة. وتقلص سكان البادية لصالح سكان الريف، وكذلك انتقال الكثير من سكان الريف إلى المدن وزيادة الولادات وتقلص وفيات الأطفال، بحيث حصل في نهاية هذه الفترة تغيراً ملموساً في ميزان القوى السكانية لصالح الحضر، إضافة إلى تحسن نسبي في الهرم السكاني نتيجة تقلص الوفيات بين الأطفال. لم تكن في بداية هذا العهد أجواء مناهضة لأتباع الديانات الأخرى والمذاهب، أو ضد الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى، لاسيما في عهد الملك فيصل الأول، في حين برزت ظاهرة التمييز في الفترة الثانية. وحين برزت توجهت صوب ثلاث جماعات: ضد الشعب الكردي واليهود والشيوعيين واليساريين عموما.
لقد أشرنا في هذه الحلقة إلى أهم وأبرز منجزات العهد الملكي وجوانبه الإيجابية، وستتضمن الحلقة الثالثة الجوانب السلبية أو الإخفاقات الفعلية لنظام الحكم الملكي والتي قادت إلى بروز الشروط الموضوعية والذاتية لحركة الضباط الأحرار في الانقضاض على الحكم عسكرياً وإسقاطه، وخروج الشعب كله ليعلن ثورته في صبيحة اليوم ذاته في 14 تموز 1958.     


أخفاقات العهد الملكي ونضوج مستلزمات إسقاطه

اقترن تشكيل الدولة العراقية بسبعة حقائق موضوعية هي:
1) خضوع العراق للهيمنة البريطانية وتحت انتدابها المباشر وإشرافها الكامل على سياساته الداخلية والخارجية، حتى بعد إلغاء الانتداب ودخول العراق عضواً في عصبة الأمم في عام 1932، لما فيه مصلحة بريطانيا إلى أبعد الحدود الممكنة. وقد استمرت هذه الحالة حتى سقوط هذا النظام الملكي عام 1958. وتشير الكثير من المصادر إلى أن انتحار عبد المحسن السعدون، رئيس مجلس وزراء العراق عام 1929، جاء بسبب التدخل الفظ لبريطانيا في الشؤون العراقية الداخلية ورفضها تحقيق مطالب الشعب العادلة والذي قال في رسالة لابنه قبل انتحاره، "الشعب يريد والإنجليز لا يوافقون".  (قارن: بدر خالد البدر، مع قافلة الحياة، 1987، الكويت).   
2) تولي ضباط عراقيون من ذوي التربية العسكرية والسياسية العثمانية، ومن جماعات مدنية خضع بعضهم الكثير لإرادة بريطانيا، كما في سلوك رئيس أول حكومة في عهد الاحتلال المباشر عبد الرحمن النقيب وأفراد طاقمه. فهذه المجموعة تولت قيادة الدولة العراقية منذ تأسيسها وطبعوا البلاد بذهنيتهم العسكرية وتربيتهم العثمانية والروح القومية والدينية المتزمتة.
3) تم اختيار الأمير فيصل ملكاً على العراق، وهو أبن الجزيرة العربية، بدلاً من شخصية عراقية، وكان هناك أكثر من مرشح للتاج، ولكن الأمير فيصل كان صديقاً مخلصاً لبريطانيا وللشخصية المميزة واللاعبة الكبيرة في السياسة العراقية مس جيرترود بيل، بعد أن عجز الفرنسيون تنصيبه ملكاً على سوريا وأجبر على مغادرتها. 
4) وكانت النخبة السياسية العراقية خلال فترة التأسيس خاضعة للابتزاز البريطاني، بسبب رغبتها في تأمين إلحاق ولاية الموصل بالعراق ولدور بريطانيا في اتخاذ مثل هذا القرار في مجلس عصبة الأمم، لاسيما إصرار تركيا على التمسك بها.
5) وكان المجتمع العراقي الخارج لتوه من الظلمات إلى نور الحضارة الحديثة: كما عبر عن ذلك الدكتور فالح مهدي في كتابه الموسوم "مقالة في السفالة: عن حاضر العراق"،  ما يزال يعيش فترة التخلف والأمية والجهل والمرض (الثلاثي المرعب)، كما كانت النسبة العظمى من الشعب تعيش حالة البداوة والفلاحة، إضافة إلى الفقر والفاقة العامة. وكان المجتمع العراقي يتكون قومياً من العرب والكرد والكلدان والسريان والتركمان والفرس، ومن ثم الآشوريين، ومن أديان ومذاهب عديدة. ومن هنا جاءت شكوى فيصل الأول الذي صعق لتفكك المجتمع وصراعاته الطائفية، بسبب سياسات تركيا وإيران وصراعاتها في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية قبل ذاك، إضافة إلى التخلف والجهل.   
6) وكانت العلاقات الإنتاجية السائدة فيه تتراوح بين الأبوية وشبه الإقطاعية بحكم العلاقة بين البدو والفلاحين من جهة، وشيوخ العشائر وكبار الملاكين من جهة أخرى، وصدور نظام العشائر الأول في فترة الاحتلال البريطاني عام 1916، إضافة إلى وقوف المؤسسات والمرجعيات الدينية إلى جانب شيوخ العشائر وكبار الملاكين والعائلات الميسورة.
7) الضغوط البريطانية المشتدة قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية من أجل ضمان مصالحها وتكريس وجودها وهيمنتها بأقصى وأطول فترة ممكنة.
كل ذلك أدى إلى حقيقة وجود علاقات شبه إقطاعية شبه استعمارية في البلاد وبروز مقاومة وطنية متنامية ضد الهيمنة السياسات الحكومية الملكية وضد تكريس تلك المصالح والوجود الأجنبي.
من يطلع على تفاصيل الامتياز النفطي الممنوح للشركات الأجنبية عام 1924، أو على نصوص معاهدة 1930 وملاحقها السرية، لاسيما المالية والإدارية والعدلية والعسكرية، يدرك فحوى الاستعمار وعدم الإنصاف وطبيعة الصراعات التي نشبت حينذاك بين أطراف عراقية متشابكة فيما بينها ولا يمكن وضعها في بداية الأمر في قطبين مختلفين، إذ إن الاختلاف والاستقطاب بدأ يتبلور ويتفاقم بين قوى حاكمة وأخرى معارضة في الثلاثينيات وما بعده من القرن الفائت. وفي عام 1925 أقر دستور ديمقراطي متقدم كثيراً جداً قياساً لواقع المجتمع العراقي وبنيته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية المتخلفة، وكان مكسباً مهماً، رغم الخلل في اعتبار الإسلام دين الدولة، في حين إن الدولة لا دين ولا مذهب لها باعتبارها شخصية معنوية، بل الدين للناس، وهم يؤمنون بديانات ومذاهب عديدة. ورغم أن الدستور ينص على إن الملك مصون غير مسؤول، وعلى الفصل بين السلطات الثلاث، فقد مُنح الملك حق تسمية رئيس الوزراء، وحل مجلس الوزراء، وحل مجلس النواب، والمصادقة على القوانين والقرارات.. التي شكلت خللاً في مضمون الدستور الديمقراطي وفتحت باباً واسعة لهيمنة الملك والسلطة التنفيذية على السلطات الثلاث والتي برزت بشكل صارخ في الفترة الثانية من العهد الملكي.   
برز أول إخفاق صاحب سياسات الحكومات العراقية في موقف النخبة الحاكمة السلبي من تنفيذ مطالب الشعب الكردي التي وردت كحقوق مشروعة وعادلة تضمُن الدولة العراقية تنفيذها، على وفق اتفاق تم بشأنها قبل إلحاق ولاية الموصل بالعراق بين عصبة الأمم والملك فيصل الأول والحكومة في عام 1925/1926. علماً بأن عصبة الأمم هي الأخرى قد ابتلعت الموقف الذي ورد في معاهدة سيفر بحق الكرد في إقامة حكم ذاتي في شمال كردستان (كردستان تركيا) ليتطور إلى دولة مستقلة يُمكن لكردستان الجنوبية (كردستان العراق) أن تلتحق بها. وقد تسبب كل ذلك في نشوء تحركات وعمليات مختلفة تطالب بالحقوق المشروعة من جانب الكرد قادت إلى قتال وسقوط ضحايا كثيرة. ونجم موقف النخبة الحاكمة العراقية من طبيعة التربية القومية العثمانية الشوفينية التي تعلمت بها وتثقفت عليها، والقائمة على كره الكرد واعتبارهم "ترك الجبال"، وليسوا شعباً بذاته له حقوقه المشروعة، كما له واجباته كباقي شعوب العالم.
ثم برز الإخفاق الثاني في عام 1933 في نفاد صبر الحكومة العراقية في مواجهة مطالب الآشوريين العديدة والصعبة التحقيق، الذين استوطنوا العراق بعد خروجهم من مناطق سكناهم في حكاري، جنوب شرق تركيا، أثناء الحرب العالمية الأولى، واستخدام السلاح في موقع ديرابون على الحدود العراقية السورية أولاً، وفي سهل سميل في لواء الموصل ثانياً، وحصول مجزرة بشرية ضدهم، كان يمكن تجنبها بالصبر والأناة والحكمة الضرورية.
وفي عام 1935/1936 انطلقت حركات كردية في كردستان العراق وأخرى فلاحية في الفرات الأوسط والأدنى مناهضة لسياسات الحكومة، الأولى مطالبة بحقوق عادلة ومشروعة مهضومة، والثانية لأربعة أسباب جوهرية: قانون تسوية حقوق ملكية الأراضي الجائر بحق الفلاحين، ورفض الفلاحين دفع الضريبة الاستهلاكية على الإنتاج الزراعي، إذ كانت ثقيلة على الفلاحين دون الملاكين والسراكيل، وضد التجنيد الإجباري للشبيبة الفلاحية، إذ كان الفلاحيون يستخدمون أبناؤهم في الزراعة، إضافة إلى تفاقم تهريب السلع إلى دول الجوار التي كانت ترفع من أسعار المتبقي منها في الداخل وترهق الفلاحين. (قارن: م.م ومیض سرحان ذیاب الربیعي، حركة العشائر في الفرات الاوسط والادنى، 1935-1936، معھد الإدارة في الرصافة/ هيئة التعليم التقني). وقد واجهت الحكومة هذه الحركات بالعنف واستخدام السلاح وأرسلت الجيش العراقي لضرب الكرد وقصف مواقع الفلاحين، إذ اعتبرتها الحكومة تمرداً يجب فظه بالقوة العسكرية. وكان الموقف مناهضاً للكرد والفلاحين ولصالح كبار الملاكين وكانت له عواقب وتبعات سلبية على المجتمع والعلاقة مع الدولة.
لقد أدت سياسات الحكومات المتعاقبة، الداخلية ومواقفها لصالح السياسات البريطانية، إلى بروز قوى وأحزاب سياسية معارضة لقوى حاكمة، لكنها كانت تشارك معها أحياناً في تشكيل الحكومات. وظهرت اتجاهات قومية يمينية مناهضة ليهود العراق، إذ فُصل المئات من الموظفين اليهود من بعض الوزارات وإحلال مسلمين مكانهم، لاسيما في فترة وزارة أرشد العمري في عام 1934/1935، كما استمر تنامي عدد العاطلين عن العمل وعدم تنفيذ مشاريع موعودة، إضافة إلى بروز اتجاه قومي يميني شوفيني في الشارع العراقي، لاسيما في نهج نادي المثنى بن حارث الشيباني القومي اليميني وفي الموقف من يهود العراق، وتنامي التعاون بين النادي وأعضاءه ومؤيديه مع الدولة الألمانية النازية المناهضة لليهود والشيوعيين ومشاركة فعالة من قنصل ألمانيا في العراق حينذاك الدكتور فرتز گروبه.
تبلورت وبرزت اتجاهات المعارضة السياسية في انقلاب عسكري عام 1936 مناهض للهيمنة البريطانية وسياسات الحكومة من مواقع الوسط واليسار، وبعض قوى اليمين أيضا، بقيادة بكر صدقي العسكري، الذي اغتيل عام 1937 وأعلن بموته فشل الانقلاب.
وفي عام 1938 أصدرت الحكومة العراقية ذيل قانون العقوبات البغدادي رقم (51) لسنة 1938، حيث نصت الفقرة الاولى من المادة الاولى" يعاقب بالإشغال أو الحبس مدة لا تزيد على سبع سنين أو الغرامة، أو كليهما، كل من حبذ أو روَّج بإحدى وسائل النشر المنصوص عليها في المادة 77 من هذا القانون أياً من المذاهب الاشتراكية أو البلشفية أو الفوضوية أو الإباحية". كما نص على الحكم بالإعدام على كل عسكري ينتمي للحزب الشيوعي العراقي. وهي نصوص مخالفة لبنود ومضامين الدستور العراقي التي تمنح الإنسان حرية العقيدة والفكر وحرية الرأي، وقد وضع وأقر هذا القانون بضغط مباشر من بريطانيا وبمبادرة نوري السعيد خشية تنامي الفكر اليساري.
اشتد الخلاف بين الحكومات العراقية المتعاقبة وقوى المعارضة وتبلور في انقلاب جديد قاده أربعة من العقداء العسكريين القوميين العرب ومن سياسيين من أمثال يونس السبعاوي ورشيد عالي الگيلاني والحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، ونادي المثنى بن حارث الشيباني و"حزب الشعب" القومي السري حينذاك. وتم هذا الانقلاب بدعم فعلي من المانيا الهتلرية ومن قوى مناهضة للهيمنة البريطانية. وقد حظي بتأييد واسع من جميع الأحزاب السياسية العراقية المعارضة. وقد جوبه بقوة وبطش من جانب القوات المسلحة البريطانية وانتهى بفشله وهروب قادة الانقلاب المدنيين والعسكريين إلى خارج العراق. وحين أُعيد العسكريون إلى العراق، حوكموا بسرعة وأعدموا. لقد كانت هذه أول أحكام بالإعدام على عناصر من قوى سياسية في العرق، مما أوجد شرخاً جديداً في العملية السياسية. كما أعدم في عام 1946 أربعة ضباط كرد عراقيين بسبب مشاركتهم في قوات جمهورية مهاباد الكردية التي أسست في عام 1946 في كردستان إيران، وبعد أن سلموا أنفسهم ووعدوا بمحاكمة عادلة تم الحكم عليهم بالإعدام ونفذ بهم الحكم فعلاً. وبذلك اتسع الشرخ وتعمق بين الحركة الكردية والحكومات العراقية المتعاقبة وتبخرت ثقتهم بالنخبة الحاكمة.
إن نشوء أوضاع ديمقراطية وحريات بسيطة في أعقاب سقوط دول المحور في الحرب العالمية الثانية في العراق دفع جمهرة من المثقفين والنشطاء السياسيين إلى تقديم طلبات تأسيس أحزاب سياسية وجمعيات مدنية، وقد منحت بعض الأحزاب السياسية، مثل الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، والاتحاد الوطني، وحزب الشعب،  في حين حرم حزب التحرر الوطني من العمل الشرعي، وهو قريب من الفكر اليساري والحزب الشيوعي. كما منحت عصبة مكافحة الصهيونية إجازة العمل العلني، ثم سحبت بذرائع واهية ونذير شؤم ضد يهود العراق وصدرت بعض الأحكام بحق قياديي هذه المنظمة الديمقراطية.  إن الخشية من حصول مدّْ ثوري يساري في البلاد دفعت الحكومة إلى إجراءات غير ديمقراطية استهدفت تقليص الحريات العامة والحياة الديمقراطية البسيطة. فعمدت إلى توجيه أول ضربة قاسية لمظاهرة 28 حزيران في بغداد حيث سقط فيها أول شهيد عراقي شيوعي هو شاؤول طويق، ثم تلتها حوادث مروعة أخرى منها: قمع إضراب عمال النفط في كركوك بالحديد والنار وحصلت مجزرة كاورباغي في تموز 1946 حيث راح ضحيتها 16 عاملاً و30 من العمال الجرحى، ثم وقعت مذابح أخرى مماثلة في قاعدة الحبانية وميناء البصرة وعمال سكك الحديد. وفي هذه الأجواء عمدت النخبة الحاكمة إلى بدء مفاوضات مع الحكومة البريطانية لاستبدال معاهدة 1930 بمعاهدة جديدة بسبب رفض الشعب للأولى، ولكن الشعب كان يرفض مثل تلك لمعاهدات عموماً. فوقَّعَ صالح جبر معاهدة بورتسموث في 15 كانون الثاني 1948، مما أدى إلى نهوض مظاهرات عارمة في كل أنحاء العراق، فكانت وثبة كانون التي سقط فيها شهداء واعتقال عدد كبير من المتظاهرين وتقديمهم للمحاكمة وصدور أحكام قاسية بحقهم من جهة، ولكنها استطاعت إلغاء هذه المعاهدة وسقوط وزارة صالح جبر من جهة أخرى. وفي ذات الوقت حصل جزر شديد في الحركة الديمقراطية العراقية، مما شجع الحكومة وبدفع مكثف وشديد من بريطانيا إلى إعدام خمسة من قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين اعتقلوا خلال الفترة 1947-1949، وهم ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي يوسف سلمان يوسف وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي، إضافة إلى إعدام عضوين في اللجنة المركزية للحزب هما ساسون دلال ويهودا صديق يهودا.       
مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي تبلور صراع جديد على الصعيد العالمي بين الاتحاد السوفييتي ومجموعة من الديمقراطيات الشعبية في أوروبا وفي الصين، وبين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. وأصبح العراق جزءاً من الحرب الباردة التي تفاقمت سنة بعد أخرى بين المعسكرين ووقف إلى جانب المعسكر الغربي. ومن هنا بدأت محاولات جادة لجعل العراق عضواً في أحلاف عسكرية تقودها بريطانيا أو الولايات المتحدة تحت عنوان "الدفاع المشترك"، في حين كانت القوى السياسية المعارضة تقف ضد توريط العراق في هذه الأحلاف وإلى جانب الحياد الإيجابي الذي بدأ يتبلور من مجموعة دول نامية في القارات الثلاث. كما واجه المجتمع مشكلات عديدة كالبطالة والفقر وغياب الحريات وامتلاء السجون بالمعتقلين السياسيين والتعذيب الشرس في مديرية التحقيقات الجنائية والشُعب الأمنية في مدن الألوية. لهذا تجلت مطالب الشعب والمتظاهرين في عام 1952 بعدد من المطالب الملحة منها: إلغاء معاهدة 1930، تشكيل حكومة ديمقراطية، وتعديل قانون الانتخابات، وإلغاء الأحكام العرفية، وإعادة حرية التنظيم السياسي والنقابي.. إلخ. ولما يئست القوى السياسية من اتخاذ أي إجراء سليم، ولم تنفع اعتصامات وإضرابات طلبة الكليات في بغداد والمظاهرات التي امتدت إلى سائر أنحاء العراق في لجم الحكومة عن إجراءاتها غير الديمقراطية طيلة الفترة الواقعة بين بداية المظاهرات وتشكيل الوزارة الجديدة بعد استقالة مصطفى العمري وتسليم السلطة لرئيس أركان الجيش الفريق الأول نور الدين محمود. كما لم تستطع الحكومة إيقاف المظاهرات مما جعلها تعمد إلى إعلان الأحكام العرفية ومنع التجول في البلاد وإنزال قوات الشرطة والشرطة السياسة وقوات الجيش إلى الشوارع واستخدام العنف ضد المتظاهرين، مما أدى إلى سقوط ضحايا قتلى وجرحى. وفي مواجهة هذه الانتفاضة استخدمت القوات المسلحة الرصاص الحي، ثم استخدمت لأول مرة الغاز المسيل للدموع وإلى شن حملة اعتقالات واسعة بين صفوف المتظاهرين أو اعتقالهم ليلاً من بيوتهم، مما أدى إلى أن يكون يوم 23 تشرين الثاني اليوم الأخير في انتفاضة تشرين الثاني 1952. ومن الجدير بالذكر إن أحد الساخرين أرسل برقية إلى رئيس الوزراء الجديد قال فيه "تسعيركم الشلغم أثلج صدورنا!"، لأن رئيس الوزراء كان قد أصدر بعض الإجراءات بأمل تهدئة الأوضاع. لقد كانت النكتة لا تخلو في مواجهة العنف الحكومي، ففي وثبة كانون الثاني، وبعد أنت تسلَّم السيد محمد الصدر، وهو رجل دين معمم وعضو مجلس الأعيان، رئاسة الحكومة، انطلقت أهزوجة في الشوارع العراقية تردد "ردناك عون اطلعت فرعون يا بو لحية النايلون".
لم تكن الأحزاب والقوى السياسية العراقية، كلها دون استثناء، قد طرحت قبل انتفاضة 1952 شعار إسقاط الملكية، بل كانت كل المطالب، بما فيها مطالب قوى اليسار والحزب الشيوعي العراقي، قد اقتصرت وركزت على الإصلاح السياسي الداخلي، لاسيما حول قضايا الحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية للمجتمع وتطوير الاقتصاد الوطني وضد البطالة والفقر ومن أجل التصنيع ...إلخ أولاً، وإيقاف محاولات جرّ العراق للأحلاف العسكرية الدولية ثانياً، خاصة وأن هذه الفترة قد شهدت طرح مشروع الشرق الأوسط من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في سعي جاد لربط العراق بالقوى العسكرية الغربية. ولأول مرة ارتفع في الشارع العراقي شعار إسقاط النظام الملكي باعتباره المسؤول عن الأوضاع الداخلية المتردية، وعن توريط العراق بالسياسات البريطانية والدولية والحرب الباردة، إضافة إلى التدخل الفظ في شؤونه الداخلية. كما إن هذه الانتفاضة كسبت إليها جميع القوى السياسية العراقية، بما فيها الأحزاب البرجوازية والقومية واليسارية والشخصيات المستقلة، بل وتجاوبت معها بعض القوى الدينية، مثل المرجع الديني الشيعي محمد حسين كاشف الغطاء حين رفض اللقاء والحوار مع السفير الأمريكي في بحمدون/لبنان، متفقاً مع مطلب إبعاد العراق عن الأحلاف العسكرية الأجنبية.
لا بد من الإشارة إلى أن الانقلابات العسكرية التي حصلت في العقدين الرابع والخامس، ومن ثم احداث الوثبة والانتفاضات في الخمسينيات من القرن الفائت، قد أدت كلها إلى نشوء معسكرين متناقضين في المصالح والأهداف ومتصارعين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليومية، وهما:
أولاً: معسكر البلاط الملكي والنخبة السياسية الحاكمة المرتبطة بالحزبين الحاكمين الحزب الدستوري برئاسة نوري السعيد، وحزب الأمة الاشتراكي برئاسة صالح جبر، ومعهم شيوخ العشائر وكبار الملاكين وكبار التجار الكومبرادور وكبار الموظفين والمؤسسات الدينية التي ازداد اعتمادها على بريطانيا وعلى القوات العسكرية في قاعدتي الحبانية (بغداد) والشعيبة (البصرة)، وازداد التلاحم بينها والدفاع عن مصالحها المشتركة.
ثانياً: معسكر القوى المناهضة لهذا التحالف وبنيته التي تشكلت من البرجوازية الوطنية، لاسيما الصناعية، والبرجوازية الصغيرة بفئاتها العديدة كالمثقفين والطلبة والكسبة والحرفيين، وكذلك الطبقة العاملة وجمهرة واسعة من الفلاحين. ولم يكن قوام هؤلاء من العرب فحسب، بل ومن القوميات الأخرى، لاسيما الكرد، الذين لم يشعروا يوما بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات وأنهم مهمشون حقاً في المجالات كافة وكانوا يعانون من التمييز.
وقد كان تدخل الملك، أو الوصي على العرش، والحكومات المتعاقبة، وخلافاً لدستور 1925، له الأثر الأكبر في التأثير على قرارات وسياسات مجلس النواب وانتخاباته ودوره، وكذلك على القضاء والإعلام، وعلى غياب الاستقرار السياسي. فعلى سبيل المثال أشار الزميل فارس كريم فارس في رسالته لنيل شهادة الماجستير، بعنوان "مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، جاء فيها: "فقد تعرض خمسة عشر مجلس نيابي للحل من مجموع ستة عشر منذ انتخاب اول مجلس نيابي عام 1925 الى نهاية حكم الملكية، كما تألفت 59 وزارة بواقع 233 يوم متوسط عمر الوزارة الواحدة وخضعت البلاد في اغلب الفترة المذكورة الى الاحكام العرفية."  (راجع: فارس كريم فارس، "مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة عام 2015م). لقد لعبت النخبة الحاكمة دوراً سلبياً كبيراً في مصادرة الحريات العامة والتجا

94
** أن توجهوا أنظاركم وجهودكم صوب الدفاع الديني عن الإنسان، أياً كان، دينه أو مذهبه، قوميته أو لغته أو جنسه، أي الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، الذين تعرضوا للعسف والاضطهاد والقتل على الهوية والسبي والاغتصاب وبيع النساء الإيزيديات في سوق النخاسة الإسلامي وممارسة العبودية بحق الإنسان غير المسلم!!!
** أن تلعبوا دوركم الديني في الاستعداد الفعلي للكشف دون رحمة عن الذين استخدموا وما زالوا يستخدمون الدين للخديعة والكذب وتشويه العقول وسرقة المال العام، سواء أكانوا من شيوخ الدين، أم من العاملين في الأحزاب الإسلامية السياسية وفي السلطة، لأنهم باسم الدين يمارسون كل ذلك.
** أن تساهموا من موقعكم الديني في الدفاع عن الأيتام والأرامل والمعوقين من ذوي الحاجات الخاصة، والابتعاد عن الدفاع عن كل مَن ارتدى العمامة، لكن جيوبه مليئة بالسحت الحرام، فهؤلاء ذئاب وليسوا بشراً. وكم كان أبن النجف الشاعر محمد صالح بحر العلوم محقاً حين قال وهو يخاطب تلك الذئاب بالذات:
يا ذئاباً فتكت بالناس ألاف القرون
اتركيني أنا والدين فما أنت وديني
أمن الله قد استحصلت صكاً في شؤوني
وكتاب الله في الجامع يشكو
اين حقي!
**  أن تقوموا بتوزيع الأموال التي في حوزتكم، ولاسيما الخمس، لإعمار العراق، ومنها إقامة بيوت للأرامل والفقراء ودور حضانة ومدارس لليتامى من الأطفال، بدلاً من توجيه تلك الأموال إلى بناء ما يشاء ويريد حكام إيران، على حسب ما قرأته في موقعكم على الإنترنت، وما يتحدث به اقرانكم.
**  إن تبحثوا مع شيوخ الدين بإيران ليتخلوا حقاً وصدقاً عن التدخل الفظ في الشأن الديني العراقي، وأن يكفوا عن تصدير الجمعيات والبدع التي تشوه الدين والمذهب بالعراق، في حين لا يمارس كل ذلك بإيران.
**  أن تطلبوا من إيران الكف عن تمويل المليشيات الطائفية المسلحة بالأموال والسلاح والعتاد والخبراء والقياديين والجواسيس الذي يتولون العمل في الحشد الشعبي برموزه المعروفة التي لا تلتزم بالإرادة العراقية، بل بإرادة المرشد الإيراني السيد علي خامنئي، وهو ما يصرح به أغلب قادة المليشيات الطائفية المسلحة. إن هذه المهمة واحدة من مهماتكم وواجباتكم الدينية وليس السياسية.
**  ومن واجبكم الديني والاجتماعي أن تمنعوا شيوخ الدين من وكلائكم أو غيرهم، من شتم المدنيين والديمقراطيين والشيوعيين والإساءة لسمعتهم باسم الدين وباسمكم وبأسماء مراجع دينية أخرى بالنجف. لأنهم بذلك يسيئون بقصد التشويه إلى أناس شرفاء لم تتدنس أيديهم بالسحت الحرام أو خطايا الكذب والتزوير والتهريب والقتل.. إلخ. وهو ما يعرفه الإنسان العراقي جيداً.
**  كم أتمنى عليكم أن تمنعوا رفع صور شيوخ الدين الإيرانيين والعراقيين في الساحات العامة وفي الدعآية الانتخابية مستثمرين بساطة الناس لتشويه إرادة العراقيات والعراقيين باسم الدين وباسمكم.
**  من واجبكم الديني، وليس السياسي، تحريم الرشوة وشراء وبيع أصوات الناخبين أو ممارسة التزوير والغيبة لأنها كلها مخالفات تتناقض ما هو ملزم ومطلوب من المسلم والمسلمة عموماً، فـ “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده!”.
**  ومطلوب منكم أن تحرموا مثلاً شراء أعضاء من جسم الإنسان، ولاسيما الأطفال، بسبب حاجة العائلات للمال، أو عهر الأطفال من الذكور والإناث الذي أصبح تجارة رابحة بالعراق، أو تصدير المخدرات من افغانستان وإيران إلى العراق وتدمير صحة أطفال وشباب العراق، والتي أصبح موسم الزيارات الحسينية أحد الأبواب المهمة في تهريب المخدرات إلى العراق!
لديّ، سماحة السيد، قائمة طويلة بما هو مطلوب منكم باعتباركم تحتلون الموقع الأهم والأول بين مراتب شيوخ الدين الشيعية بالعراق، إذ يمكن أن يُسمع صوتكم الديني من قبل المسلمات والمسلمين الشيعة بجانبه الديني وليس السياسي. فما ذكرته في أعلاه يعتبر جملة من المجالات التي يمكنكم أن تخدموا الإنسان العراقي والحياة الدينية والاجتماعية العراقية، وأن تدعوا للتآخي بين اتباع جميع الديانات والمذاهب بالعراق وتحرموا الصراع والنزاع الديني والمذهبي والقومي، فقد سالت بالعراق دماء ودموع كثيرة وكثيرة جداً لا طاقة لهذا الشعب في تحمل المزيد منها، والظلم، كما تعرفون، إن دام دمّر. لم يكن البعثيون وحدهم من تسبب بسيول الدماء في الحروب وفي الاستبداد، بل الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية بميلشياتها الطائفية المسلحة وسياساتها التي مزقت النسيج الوطني العراق أكثر فأكثر.
ارجو لكم الصحة والعمر المديد للقيام بالواجبات الدينية والاجتماعية الملقاة على عاتقكم، على حسب اجتهادي وقناعتي.
مع خالص التقدير
د. كاظم حبيب
في 08/04/2018







95
كاظم حبيب
رسائل مفتوحة من الدكتور كاظم حبيب إلى المرجعية الدينية الشيعية في النجف السيد علي السيستاني

طلب مني صديق فاضل أن أكتب مقالاً عن المرجعية وموقفها من أحزاب الإسلام السياسي فأرسلتن له الرسائل التي كنت قد وجهتها لكبير المرجعيات الدينية الشيعية في النجف والتي أنشرها الآن مع ملاحظات مهمة في مقدمة هذه المقالات:
تحية طيبة
رجوتم ان أكتب عن المرجعية الشيعية في النجف. فماذا اكتب بعد أن كنت قد وجهت للشخص الأول في المرجعية السيد علي السيستاني مجموعة من الرسائل منذ العام 2005 دون فائدة؟ أدرك جدياً بإن ما يحصل في العراق من جانب المرجعية وأحزاب الإسلام السياسي والحوزة الدينية الشيعية في قم وغيرها لا يبتعد عن الاستنتاجات التالية:
1. إن المرجعيات الشيعية، رغم المنافسة في ما بينها للحصول على أكبر عدد من المقلدين في العالم الإسلامي الشيعي لارتباط ذلك بما تتسلمه من إيرادات الخمس والتبرعات، فأنها تعمل على وفق مبدأ تقسيم العمل فيما بينها، وبالتالي لا فرق بينها إلا في مستوى التشدد الشكلي، ولكن حين تصل الأمور إلى شعورها بالخطر المشترك، حتى لوكان هذا الخطر مسبق الصنع من جانبها، فأنها تمارس التنسيق الكامل، كما حصل في معاداتها لحكومة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والجمهورية الأولى في العام 1960 بعد صدور قانون الأحوال المدنية والإقرار ببعض الحقوق المهمة للمرأة العراقية.     
2. كما إن هناك تقسيماً للعمل مدروس ومنظم بين المرجعيات الدينية والأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، وهو في غير صالح الشعب العراقي والدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني. ومن الممكن حصول خلاف مع هذا الشخص أو ذاك من قادة الأحزاب الإسلامية السياسية، ولكن توزيع العمل والسياسات والمواقف يبقى قائماً فيما بينها.
3. توجد خلافات معينة بين الحوزات في النجف وحوزة قم أو غيرها في إيران، ولكن في المحصلة النهائية هناك تقسيم عمل وتوزيع أدوار فيما بينها، إضافة إلى واقع المنافسة في الحصول على تقليد وتأييد الجماهير المؤمنة بالمذهب الشيعي الجعفري في العالم.
4. ورغم وجود تباين في الموقف من ولاية الفقيه بين العراق وإيران، إلا إن وجود الطائفيون الشيعة على رأس الدولة الإيرانية يجعلهم في موقع أقوى من المرجعية الشيعية في النجف، مما جعل غالبية الميليشيات الشيعية العراقية-الإيرانية المسلحة تؤيد مرجعية قم الممثلة بالخامنئي وتدين له بالولاء والالتزام بما يفتي ويأمر. أمثلة على ذلك: ميليشيات بدر وعصائب الحق وحزب الله ...إلخ.

لهذا لا يرتجى شيء من المرجعيات الدينية الشيعية في النجف لصالح الدولة الديمقراطية وضد الفساد ولصالح المجتمع المدني الديمقراطي. ولهذا فأن نشر محاولات وتصورات خاطئة عن مواقف المرجعية ضد الأحزاب الإسلامية السياسية وبناء عليها أشياء وردية غير مناسب بأي حال وخادع للجماهير الواسعة، لاسيما تلك المخدوعة بالواقع القائم، الطائفي والفاسد والمقيت، إضافة إلى إنه يفوت الفرصة على النضال الفعلي وتوسيعه في العراق لصالح التغيير الديمقراطي السلمي لنظام الحكم الطائفي والفاسد والجبان.   
اليكم مجموعة من الرسائل التي وجهتها إلى مسؤول المرجعية الأكبر في النجف خلال السنوات المنصرمة والتي يمكن أن تعبر عن موقفي في هذا المجال.
كاظم حبيب

رسائل مفتوحة من الدكتور كاظم حبيب إلى الرجعية الدينية الشيعية في النجف السيد علي السيستاني
رسالة مفتوحة إلى سماحة السيد السيستاني العراقي بتاريخ 17/3/2005
إلى سماحة آية الله العظمى السيد على السيستاني المحترم/ الحوزة العلمية/ النجف الأشرف
تحية واحتراماًً
سيكون من بواعث اعتزازي واعتزاز الغالبية العظمى من سكان العراق حيازتكم على الجنسية العراقية. ليس الغريب في حصولكم على الجنسية العراقية، بل الغريب تماماً أنها لم تمنح لكم خلال الفترات المنصرمة. وهي لعمري دلالة قاطعة على طبيعة النظم الاستبدادية التي سادت العراق خلال تلك الفترات، والتي يعمل الشعب كله من أجل ن لا تعود ثانية وبأي صيغة كانت إلى الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والعسكرية العراقية.
يسعدني جداً أن أكون من بين المهنئين سماحتكم بتسلمكم الجنسية العراقية.
لقد برز دوركم الإيجابي والفعال في موقفكم من أحداث النجف وفي الموقف العقلاني الحصيف والحكيم المتميز من قوات الاحتلال والوجود الأجنبي في العراق، وكذلك من الدعوة لإجراء الانتخابات بأمل الانتهاء من الفترة الانتقالية بأسرع وقت ممكن، وبالتالي الخلاص من الإرهاب المهيمن على العراق.
طالما سعى الشعب العراقي إلى الخلاص من الدكتاتورية والإرهاب والقمع والقهر بمختلف صوره الذي سيطر منذ عشرات السنين على رقاب الناس، وطالما سعى الشعب إلى التمتع بطعم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية، وطالما قدم التضحيات الغالية على هذا السبيل. واليوم تبرز إلى الواقع العملي إمكانية فعلية لقطف ثمار ذلك النضال المجيد الذي خاضه الشعب العراقي.
ولن ينس الشعب تلك المواقف النبيلة والمشرفة لعلماء الدين الوطنيين الذين اختطفوا منا مبكراً، ومنهم السيدين محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر والسيد محمد باقر الحكيم، إلى جانب كل الوطنيين والديمقراطيين العراقيين الآخرين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية، الذين شاركوا في هذا النضال بصور شتى وقدموا حياتهم في سبيل الخلاص من الدكتاتورية ومن أجل عراق يسعد شعبه بالحرية والرفاهية والسعادة. وتبدو الفرحة على وجوه العائلات التي عانت الضيم والقهر طوال العقود المنصرمة.
إن الحوزة العلمية في النجف لها مكانتها في نفوس المسلمين الشيعة المؤمنين، كما لكم احترامكم الكبير في نفوس بقية المسلمين المؤمنين، ومن هنا تنشأ الحاجة الماسة إلى أن تلعب الحوزة العلمية وسماحتكم شخصياً الدور البارز في التأثير الإيجابي على عملية التنوير الديني في المجتمع العراقي ومساعدة الناس في الخلاص مما يقدم صورة غير حضارية وغير إنسانية وغير إسلامية أمام العالم كله، ومنها قضايا الضرب بالسلاسل على الظهر والتطبير أو ضرب الرأس بالسيوف، على سبيل المثال لا الحصر، أو التمسك بأساليب وسياسات التمييز الطائفي التي مورست في العراق طوال عقود وقرون وجلبت الخراب والبؤس والموت للناس، إذ أن لها مخاطرها على الإنسان العراقي وعلى وحدة الوطن ونسيجه الاجتماعي، إضافة إلى الأساليب البالية في التعامل مع المرأة العراقية التي تولد حرة تماماً كما يولد الرجل حراً.
كثرة كاثرة من نساء ورجال العراق، وأنا منهم، تتطلع لهذا الدور الاجتماعي التنويري للحوزة العلمية ولكم شخصياً، وتثق بأن للحوزة ولكم القدرة على تغيير الكثير من العادات والتقاليد غير المقبولة في الإسلام الحنيف والمرفوضة من قبل مختلف المذاهب في الإسلام، بما فيها المذهب الشيعي الجعفري.
أرجو لكم يا سماحة السيد الوقور موفور الصحة والعمر المديد.

كاظم حبيب
17/3/2005

رسالة مفتوحة إلى سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني المحترم/ النجف/ العراق بتاريخ 23/07/2005
تحية واحتراماً
قرأت في الصحافة العراقية والعربية بأن ناطقاً باسمكم قد أشار إلى الخطأ الذي حصل في تأييدكم لقائمة عراقية دون غيرها من القوائم الكثيرة التي طرحت في انتخابات الجمعية الوطنية الأخيرة وما نجم عن ذلك من حصول قائمة الائتلاف الوطني العراقي الشيعية حصراً على نسبة عالية من الأصوات ومن مقاعد الجمعية الوطنية التي تسمح لهذه القائمة بالتأثير المباشر على اتجاهات وضع الدستور والمسيرة السياسية للبلاد. وهذا الخطأ الذي اعترف به الناطق باسمكم، إن صح ذلك، فقد جاء متأخراً جداً، إذ أن الخطأ المذكور قد أساء، شاء المسؤول عنه أم أبى، إلى الشعب العراقي وساهم في تفتيت الوحدة العراقية التي كان النظام الاستبدادي السابق قد زعزعها، وتساهم بها كل قوى الإسلام السياسي العراقية المتطرفة منها وتلك التي تسمى معتدلة، إذ أنها قد أججت المشاعر الطائفية المقيتة في أوضاع العراق البائسة الراهنة، وسمحت لهذه القوى السياسية الطائفية الوصول إلى السلطة بطريقة غير إنسانية وغير ديمقراطية. وأنتم أيها السيد الفاضل وممثليكم قد ساهمتم بهذا الخطأ الفادح. ليس المذهب الشيعي أو المذاهب السنية في الإسلام هي المسؤولة عن ذلك أو هي المدانة هنا، بل المسؤول والمدان هو من يستخدم هذه المذاهب الإسلامية لأغراض سياسية والذي يؤجج التمييز الطائفي المقيت، وهو الذي يلحق أفدح الأضرار بالعراقيات العراقيين وبمستقبلهم ويصب الماء في طاحونة الإرهابيين من سنة وشيعة. إن الخطأ الذي ارتكبته الحوزة العلمية، كما أرى، لا يصحح بالقول بأن خطأ قد ارتكب في هذا الصدد وكفى الله المؤمنين شر القتال، بل من خلال الدعوة إلى إبعاد الدين الإسلامي عن مشاريع الدولة العراقية وإبعاد الشريعة الإسلامية عن أن تكون أساساً للتشريع في العراق.
إنكم إن أردتم تصحيح الخطأ الذي وقعت به الحوزة العلمية بتأييدها غير المعقول وغير المنطقي لقائمة دون غيرها قد كلف وما يزال يكلف الشعب العراقي كثيراً من الضحايا والخسائر، ويصب الماء في طاحونة كل الطائفيين في العراق، أياً كان دينهم ومذهبهم. لهذا فأن تصحيح الموقف يتطلب قدرة عالية في الدعوة الصارمة إلى:
1.;إبعاد الدين عن الدولة لضمان احترام كامل وحقيقي ومتواصل لكل الأديان والمذاهب في العراق الجديد، فالدين لله والوطن للجميع.
2رفض جعل الشريعة الإسلامية أساساً للتشريع وصياغة مضامين القوانين في العراق، ورفض مبدأ المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب الحكومية والوزارات والمؤسسات ..الخ.. إذ أن على العراق أن يأخذ بمبدأ المرأة المناسبة أو الرجل المناسب في المكان المناسب استناداً إلى كفاءة الإنسان ومقدرته، وليس على أساس قومي أو ديني أو مذهبي أو سياسي.
3.;رفض تبني العراق والشيعة العراقيين لولاية الفقيه، كما يجري العمل بذلك في إيران حالياً، إذ أن ذلك يعيد الاستبداد بصيغة أخرى إلى العراق.
4. الدعوة إلى إقامة مجتمع مدني ديمقراطي يتمتع فيه جميع المواطنات والمواطنين بحقوقهم ويمارسون واجباتهم كاملة غير منقوصة.
5. رفض تقييد المرأة بأي قيود مخلة أو حرمانها من حقوقها المشروعة ومساواتها بأخيها الرجل في الحقوق والواجبات فكلاهما من بني البشر.
6دعم حق الشعب الكردي في إقامة الفيدرالية كجزء من العملية الديمقراطية المنشودة للعراق الجديد، إضافة إلى ضرورة تمتع جميع القوميات الأخرى بحقوقها المشروعة.
7الدعوة إلى رفض العنف بكل أشكاله ولأي سبب كان وإدانة العمليات الانتحارية باسم الجهاد الإسلامي والتثقيف بثقافة الاعتراف بالآخر والتسامح بين البشر ومعالجة جميع مشكلات العراق بالطرق السلمية والتفاوض بدلاً من استخدام السلاح والقتل.
8إبعاد التربية الدينية العامة وفي المدارس الدينية عن الإساءة للأديان أو المذاهب الأخرى بل الاعتراف بالآخر وحقه في تبني أو الإيمان بأي دين أو مذهب أو فكر غير عدائي وغير عنصري.
هذه مبادئ عامة يفترض أن يلتزم بها العراق كله، وأنتم كأحد مواطني العراق ومسؤول عن جمهرة كبيرة من أتباع المذهب الشيعي من الناحية الدينية وليس السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية ...الخ، أتمنى أن تشاركونا الدعوة إليها والعمل من أجلها.
الصراحة في الحديث معكم يا سيدي الفاضل ضرورة كبيرة ومهمة في آن واحد، لأننا الآن نتحمل تبعات تأييدكم أو تأييد من تحدث باسمكم لقائمة الائتلاف العراقي الشيعية التي تحاول اليوم الهيمنة على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية العراقية وتساهم في تعقيد صورة الوضع في العراق أكثر من أي وقت مضى وتصب المزيد من الزيت على النيران التي أشعلها النظام السابق المقبور والمتطرفون من أتباع المذهب الوهابي أو من أتباع القاعدة والزرقاوي وغيرها من الجماعات الإرهابية، إضافة إلى ممارسات هيئة علماء المسلمين والقوى القومية الشوفينية العربية.
أتمنى أن تكون رسائلي السابقة قد وصلتكم، فهي تعبر عن رغبة صادقة في مخاطبتكم لتكونوا عوناً بالاتجاه السليم وبعيداً عن تلك الأجواء الطائفية التي يثيرها أتباع المذاهب المختلفة الذين يتسمون بالطائفية السياسية والتمييز الطائفي.
أملي أن يكون صوتي مسموعاً لديكم، إذ نحن بأمس الحاجة إلى تنوير ديني وإلى عقلانية في ممارسة الدين على أيدي علماء الدين الأفاضل الذين يشعرون بالتغيرات التي طرأت على عصرنا والزمان الذي نحن فيه والحاجة الماسة إلى التغيير والتنوير وتطوير البلاد والاستجابة لحاجات الناس وحل مشكلاتهم وتوفير فرص العمل لهم وتحسين ظروف عملهم ومعيشتهم، إذ بدون هذا التنوير والعقلانية الدينية سيغوص العراق مرة أخرى في ظلمات الصراعات الدينية والطائفية المميتة التي تزيد بلوى العراقيات والعراقيين، وحصدهم الموت يومياً كما يحصل اليوم في العراق، وسيحصد معه الكثير من أتباع المذاهب والمؤمنين أيضاً دون وجه حق، كما يجري اليوم في العراق.
أرجو أن تصل رسالتي إليكم عبر ممثليكم وأملي أن استمع إلى رأيكم، إذ أن موقفكم الراهن والقادم سيلعب دوراً مهماً في جعل الانتخابات أكثر نظافة من السابق ويجعلها أكثر حرية في اختيار من يمثلهم في الجمعية الوطنية القادمة بعيداً عن تأييد أو إدانة هذه القائمة أو تلك، كما يفترض أن يؤثر على مضمون الدستور الذي نريده مدنياً ديمقراطياً حضارياً يفصل بين السلطات وبين الدين والدولة ويحترم المرأة ويعترف بحقوقها كاملة ويعترف بالفيدرالية وحقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، ويساهم في بناء العراق الاتحادي الديمقراطي الجديد.
مع خالص احترامي.

كاظم حبيب
23/07/2005
  
رسالة مفتوحة إلى الأخ الفاضل والمواطن العراقي آية الله العظمى السيد علي السيستاني المحترم
بتاريخ 20/09/.2010
تحية واحتراماً
بعد أن أضناني الجهد لتوضيح الموقف من الزيارات المليونية والطقوس التي تمارس في أيام عاشوراء و الموت المتواصل الذي يلاحق العراقيات والعراقيين عند سيرهم على الأقدام لمسافات طويلة بغرض زيارة مراقد أئمة الشيعة المسلمين في المدن العراقية، كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء على سبيل المثال لا الحصر على أيدي الإرهابيين والتكفيريين، وجدت نفسي مجبراً ن أتوجه لجنابكم راجياً منكم أن تلعبوا الدور المنوط بكم، دور المنور وتساهموا في التنوير الديني لأتباع المذهب الشيعي ومن يقلدونكم في الإسلام.، إن ما يحصل في أيام عاشوراء من ممارسات لطقوس غير دينية تجسد، وفق رأيي، قمة التخلف وغياب الوعي الديني السليم لدى المشاركين في ممارسة تلك الطقوس، وسيطرة وعي ديني مزيف روجته قوى وجهات مغرضة أدت إلى عواقب وخيمة على الإنسان كما شوهت أراء ومواقف أئمة المذهب الشيعي الساكتين عن بتلك الأفعال.
وقد كتبت عن تلك الطقوس ورجوت شيوخ الدين الشيعة إلى تحريم هذه الطقوس لأنها ليست من الإسلام، والإسلام الصحيح برئ منها. فاتهمني البعض بالانحياز ضد الشيعة، لست معنياً بهذه التهمة، إذ أني أحترم كل الأديان وكل المذاهب الدينية وأتباع الأفكار المختلفة وأحترم أتباعها دون استثناء ولست مناهضاً لأي منها، ولكني أكتب عن ظواهر غير مشروعة دينياً ومدانة إسلامياً حين يقوم الإنسان بتعذيب نفسه، فهو محرم في الإسلام. وبما أني من مواليد مدينة كربلاء في العام 1935 فقد تعرفت جيداً على تلك الطقوس وعايشتها سنوات غير قليلة ومارست بعضها حين كنت صبياً، ولكن أدرك اليوم بعمق ومسؤولية، بل ومنذ سنوات طويلة، أضرارها الفادحة والعواقب السلبية التي تترتب على ممارسة مثل هذه الطقوس لأتباع المذهب الشيعي على صعيد الوضع النفسي والعصبي للفرد ذاته وعلى الصعيد المحلي والإقليمي والدولي.
لقد اطلعت بشكل دقيق على آراء الكثير من شيوخ الدين الشيعة الذين رفضوا ممارسة هذه الطقوس وأدانوها بعبارات واضحة تعتبر بمثابة فتاوى فقهية ناضجة. أليكم أدناه بعض من تلك الآراء لمراجع دينية شيعية معترف بها في فقه الدين.
آراء بعض المراجع الشيعية بطقوس عاشوراء
1- آية الله العظمى السيد محسن الحكيم "إن هذه الممارسات (التطبير) ليست فقط مجرد ممارسات... هي ليست من الدين وليست من الأمور المستحبة بل هذه الممارسات أيضا مضرة بالمسلمين وفي فهم الإسلام الأصيل وفي فهم أهل البيت عليهم السلام ولم أرى أي من العلماء عندما راجعت النصوص والفتاوى يقول بان هذا العمل مستحب يمكن إن تقترب به إلى الله سبحانه وتعالى إن قضية التطبير هي غصة في حلقومنا".
2-  آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي: في رده على سؤاله حول إدماء الرأس وما شاكل يقول "لم يرد نص بشرعيته فلا طريق إلى الحكم باستحبابه)) راجع: المسائل الشرعية ج2 ص 337ط دار الزهراء بيروت.
3- آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر في جوابه لسؤال الدكتور التيجاني حين زاره في النجف الاشرف " ان ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجهالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على منعه وتحريمه" راجع: كل الحلول عند آل الرسول ص 150 الطبعة الأولى 1997 م للتيجاني.
4- آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني "ان استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم من أمثالها في مواكب العزاء بيوم عاشوراء باسم الحزن على الحسين (عليه السلام) انما هو محرم وغير شرعي". راجع: كتاب هكذا عرفتهم. الجزء الأول لجعفر الخليلي.
5- آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي "على المؤمنين الأخوة والأخوات السعي إلى إقامة مراسم العزاء بإخلاص واجتناب الأمور المخالفة للشريعة الإسلامية وأوامر الأئمة (عليهم السلام) ويتركوا جميع الأعمال التي تكون وسيلة بيد الأعداء ضد الإسلام، إذ عليهم اجتناب التطبير وشد القفل وأمثال ذلك..."
6- أيه الله العظمى السيد كاظم الحائري "ان تضمين الشعائر الحسينية لبعض الخرافات من أمثال التطبير يوجب وصم الإسلام والتشيع بالذات بوصمة الخرافات خاصة في هذه الأيام التي أصبح إعلام الكفر العالمي مسخرا لذلك ولهذا فممارسة أمثال هذه الخرافات باسم شعائر الحسين (عليه السلام) من أعظم المحرمات".
7- أيه الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله "... كضرب الرأس بالسيف أو جرح الجسد أو حرقه حزنا على الإمام الحسين (عليه السلام) فانه يحرم إيقاع النفس في أمثال ذلك الضرر حتى لو صار مألوفا أو مغلقا ببعض التقاليد الدينية التي لم يأمر بها الشرع ولم يرغب بها." (راجع: إحكام الشريعة ص 247).
8- آية الله الشيخ محمد مهدي الاصفاني "لقد دخلت في الشعائر الحسينية بعض الأعمال والطقوس فكان له دور سلبي في عطاء الثورة الحسينية وأصبحت مبعثا للاستخفاف بهذه الشعائر مثل ضرب القامات.". (راجع: عن كيهان العربي 3 محرم 1410 ه).
9- أيه الله العظمى السيد محسن الأمين ".... كما ان ما يفعله جملة من الناس من جرح أنفسهم بالسيوف أو اللطم المؤدي إلى إيذاء البدن إنما هو من تسويلات الشيطان وتزيينه سوء الأعمال." (راجع: كتاب المجالس السنية. الطبعة الثالثة ص 7 ).
10- أيه الله محمد جواد مغنية ".... ما يفعله بعض عوام الشيعة في لبنان والعراق وإيران كلبس الأكفان وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في العاشر من المحرم ان هذه العادات المشينة بدعة في الدين والمذهب وقد أحدثها لأنفسهم أهل الجهالة دون ان يأذن بها إمام أو عالم كبير كما هو الشأن في كل دين ومذهب حيث توجد فيه عادات لا تقرها العقيدة التي ينتسبون إليها ويسكت عنها من يسكت خوف الاهانة والضرر." راجع: كتاب تجارب محمد جواد مغنية.
11-  آية الله الدكتور مرتضى المطهري "ان التطبير والطبل عادات ومراسيم جاءتنا من ارثودوكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم." راجع: كتاب الجذب والدفع في شخصية الإمام علي (عليه السلام).
وهناك أسماء كثيرة ضد ظاهرة التطبير ومنهم أيه الله العظمى الشيخ محمد علي الأراكي، وآية الله السيد محمود الهاشمي، وآية الله محمد باقر الناصري والعديد من كبار العلماءالآخرين.
السيد المحترم
أنا واثق بأنكم على إطلاع دقيق على هذه الفتاوى والآراء الناضجة، وأنا واثق أيضاً بأنكم لا تختلفون في التفكير عن السيد ابو الحسن الأصفهاني الموسوي مثلاً وترفضون معه مثل هذه الطقوس والبدع المؤذية للنفس والعائلة والمجتمع ولسمعة المذهب الشيعي عالمياً. ومن هنا ينطلق سؤالي لجنابكم الموقر:
لماذا لا تصرحون بموقفكم الإسلامي ضد هذه الطقوس التي أدانها علماء دين كبار ذكرت بعضهم في أعلاه؟
أنا أرجوكم، بل وأطالبكم، ومن حقي كمواطن وحرصاً على أبناء الشعب العراقي، أن تتحدثوا إلى المسلمات والمسلمين من أتباع المذهب الشيعي وإلى كل مسلمات ومسلمي العالم بأنكم لستم مع هذه الطقوس والبدع التي ليست من الإسلام، بل هي مسيئة للإسلام، وأن تحرمون ممارستها على أتباعكم ومقلديكم على أقل تقدير وهم كثر في العالم الإسلامي.
أن الحسين بن علي بن أبي طالب هو شهيد كل المسلمين، وليس الشيعة وحدهم وطقوس زيارته لا تستوجب اللطم واستخدام السلاسل الحديدية ولا السيوف لشج الرؤوس ولا الزيارات المليونية، بل تستوجب الوقوف الصامت احتراماً لتلك الشهادة.
أتمنى عليكم، وأنتم تمتلكون الشجاعة الكافية، أن تقوموا بإعلام المسلمات والمسلمين والعالم كله بموقفكم الرافض لهذه الطقوس، إذ أن السكوت عن ذلك تعني مواصلة ممارستها وتعني الموت المتواصل للناس وتعني الإساءة المستمرة للمذهب الشيعي الذي أنتم أحد العاملين البارزين في الدعوة له، وهي بمثابة المشاركة في العمل غير المسموح به إسلامياً.
أرجو لكم موفور الصحة وطول العمر.
مع خالص التقدير والاحترام.
تاريخ 20/09/.2010

رسالة إلى الأخ الفاضل سماحة السيد علي السيستاني المحترم بتاريخ 23/7/2011
تحية طيبة
وجهت لجنابكم بتاريخ 20/9/2010 رسالة وددت فيها سماع رأيكم وموقفكم بشأن ما ورد فيها. وها نحن نقترب من مرور عام على تلك الرسالة دون أن أحظى بجواب من جنابكم، سواء أكان بالتجاوب مع ما طرحته أم برفضه والاتفاق مع من يُمارس وما يمارس من طقوس في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء. وقد وردت الكثير من التعليقات على تلك الرسالة المفتوحة نشرت في موقع الجيران الإلكتروني وفي مواقع أخرى كالحوار المتمدن. وكانت التعليقات تتراوح بين مؤيد لمضمون الرسالة ومعارض لها، وبين مهاجم للكاتب ومدافع عن أفكار الرسالة، بين من فهم مغزاها وأهميتها بالنسبة لأتباع المذهب الشيعي ذاته ومن ظلم الكاتب بهجوم كاسح لا يستند إلى معطيات فكرية ورؤية عقلية لما جاء في الرسالة.
وجُهت لكم، أخي الكريم، من قبل السيدات والسادة الذين كتبوا التعليقات ملاحظات بين متهم لكم بالسكوت، باعتبارها علامة الرضا عن ممارسة تلك الطقوس، وبين مدافع عنكم باعتبارها طقوساً دينية تحدث عنها بعض الأولياء الصالحين، بين راض عن موقفكم الساكت، وبين مستفز من هذا السكوت. ولكنكم حتى الآن لم تبادروا لإبداء الرأي في ما طرح عليكم من سؤال مهم: ما هو الموقف من المغالاة بطقوس غير دينية تسمى ظلماً دينية، وبالتالي تسيء إلى الدين وإلى الأولياء الصالحين الذين استشهدوا في سبيل الحق والعدل والدين الصحيح؟ في حين أن واجبكم الشرعي، باعتباركم من كبار المجتهدين في الدين الإسلامي والمذهب الشيعي، الإجابة عن المسائل التي طرحتها عليكم رغم كوني لا أقلد شيخاً من شيوخ الدين.
كتب البعض يعلق على رسالتي بقوله: لماذا لا انتقد الطقوس الأخرى التي تمارس في بقاع أخرى من هذه الدنيا، وهي التي لا تختلف كثيراً عن تلك التي تمارس من قبل جمهرة كبيرة من أتباع المذهب الشيعي الجعفري؟ والبعض الآخر يتساءل لماذا لا أنصرف لأموري بدلاً من الاهتمام بأمور أتباع المذهب الشيعي؟
أجد نفسي ملزماً بتوضيح ما يجب أن يوضح في مثل هذا المقام. لقد ولدت في مدينة كربلاء وفي أحضان عائلة متدينة معتدلة وترعرعت فيها وشاركت أحزان الناس على استشهاد الأمام الحسين وصحبه الكرام وشاركت مراراً في هرولة طويريج (الهندية) إلى كربلاء حين كنت صبياً وشاركت في مواكب طلبة المتوسطة والثانوية السنوية، وتعرفت على الكثير من الأمور التي تجري في كربلاء أثناء تلك الزيارات وممارسة تلك الطقوس، ورأيت كيف تسيل الدماء وكيف يسقط البعض ميتاً وكيف تستخدم السلاسل الحديدية وبرؤوسها من السكاكين المعوجة التي تصيب الظهر بجروح بالغة، وكيف يموت البعض تحت أقدام الآخرين أثناء الركض السريع، وخاصة من منتصف طريق الهندية (طويريج) إلى كربلاء عند بوابات صحن الحسين دخولاً وخروجاً. وفي حينها، وليس الآن، أدركت مخاطر تلك الطقوس على الدين ذاته وعلى تشويهه بكل معنى الكلمة والإساءة للحسين من حيث يريد البعض تكريمه! في حين كان موكب الطلبة محترماً ويليق بمقام الحسين والحزن عليه.
كل الطقوس المشابهة، سواء تلك التي يمارسها المسيحيون في أمريكا اللاتينية أم في جنوب إيطاليا أم في غيرها من الدول التي أغلب سكانها من أتباع المذهب المسيحي، أو تلك التي يمارسها أتباع الديانة اليهودية، سواء في إسرائيل أم في بلدان أخرى، أو الطقوس التي يمارسها أتباع الدين الهندوسي أو أتباع الدين البوذي في التبت أو في النهد أو في ديانات أخرى التي تلحق أضراراً بالإنسان وتلحق خسائر به وبمجتمعه هي باطلة وينبغي تحريمها، إذ ليس من حق الإنسان أن يؤذي نفسه، فهو ملك نفسه من جانب ولكنه ملك المجتمع في آن واحد، وبالتالي خسارته خسارة للمجتمع ذاته والأضرار التي تلحق به هي إضرار بالمجتمع. وأنا ضد الممارسات الشاذة وغير الطبيعية التي تمارس من بعض أتباع المذهب السني أيضاً. فكل الممارسات الخاطئة يفترض أن تحرم من المؤسسات والمرجعيات الدينية.
نحن بحاجة إلى عملية تنوير ديني لا يمكن لرجل مثلي أن يقوم بها، بل هي من أولى واجبات شيخ الدين باعتباره المسؤول عن إبعاد الدين عن التشويه أو خلق وعي مزيف لدى الإنسان بطقوس غير دينية على إنها دينية. ولهذا توجهت لكم بتلك الرسالة.
أنا لست ضد زيارة الحسين وصحبه ولست ضد إحياء ذكرى استشهاد الحسين وصحبه، فإحياء الذكرى وبصورة إنسانية وحضارية تعبر عن القناعة بصواب المسألة التي استشهد من أجلها، ولكن لا بسيل من دماء أتباعه والضرب على الصدور وعلى الظهور أو التمرغل (تمرغ) بالطين من الرأس إلى باطن القدمين أو الزحف على الأقدام، إنها بدع ليست من الإسلام بل هي مشوهة للدين الإسلامي ومسيئة لشيوخ الدين العقلاء والواعين لحقيقة وأهمية ودور الدين في المجتمع حين يسكتون عنها. ومع مرور الأعوام تزداد هذه الطقوس بؤساً وسوءاً وتشوهاً. والغريب أن الشيخ العاملي يتحدث عن ارتياحه النفسي بعد التمرغل بالطين، إنه البؤس والجنون والجهل بعينه، إنه عملية خداع للناس والمزيد من التشويه للمذهب الشيعي.
ولأهمية تلك الرسالة التي وجهتها لجنابكم، كما أرى، أجدد طرح موضوعاتها على سماحتكم راجياً منكم الإجابة عنها.
أدرك تماماً إن الأحزاب الإسلامية السياسية وأغلب قادتها، إن لم نقل كلهم، هم الذين يروجون ويشجعون على ممارسة مثل هذه الطقوس ويسعون إلى إدامتها وتوسيعها والتفنن بطرح الجديد من هذه الطقوس الضارة، فمن خلال ذلك يسعون إلى تعميق الفرقة في المجتمع وتنشيط الاصطفاف المذهبي لصالح الحصول على أصوات الناخبين. إنه الفساد بعينه، وعليكم مواجهته.
لو اطلعتم على التعليقات التي كتبت على رسالتي لوجدتم واقع التشوه في العقلية والوعي الديني المزيف الذي يحمله البعض وتفسيرهم لتلك الطقوس.
أتمنى عليكم أن تناقشوا رسالتي السابقة، التي أرفقها بهذه الرسالة، والتعليقات التي وردت عليها لكي يتبين الجميع من مقلديكم وغيرهم مدى صواب أو خطأ ممارسة تلك الطقوس وليس أحياء الذكرى الجليلة لاستشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وابن بنت محمد بن عبه الله وصحبه الكرام.
أرجو لكم موفور الصحة والعافية.
مع خالص الاحترام والتقدير.
د. كاظم حبيب
23/7/2011






رسالة مفتوحة إلى السيد السيستاني وبقية المراجع والهيئات الدينية الشيعية والسنية
بتاريخ 14/06/2014                     
إلى حضرة السيد علي السيستاني وبقية السادة في المراجع والهيئات الدينية، الشيعية والسنية، المحترمين
تحية واحتراماً
تدركون جيداً، وأنتم في المعمعان الجاري، بأن الوطن العراقي وشعبه يمران بخطر كبير جداً، خطر اندلاع حرب أهلية أوسع مما هي عليه الآن عملياً. ومثل هذه الحرب الأهلية الطائفية ستحرق الأخضر واليابس، ستقتل مئات ألوف السكان من كل القوميات والديانات والمذاهب بالعراق، ستدمر الوطن العراقي كما دُمرت الدولة السورية المجاورة والشقيقة.
وأنتم شيوخ الدين لعبتم، مع الأسف الشديد، دوركم في ما وصل إليه العراق بسبب تأييدكم وتشجيعكم، كل من جانبه، الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية وساندتم وصولها إلى السلطة ولم تعترضوا على السياسات التي مارسوها هؤلاء الساسة إلا بعضكم وفي الآونة الأخيرة وباستحياء كبير. إن تدخلكم بالسياسة قد اقنع الكثير من السكان الطيبين والبسطاء، سواء أكانوا من الشيعة أم السنة، بانتخاب هؤلاء الأشخاص الذين أساءوا للوطن والشعب العراقي وأوصلوه إلى الحالة الكارثية التي هو فيها الآن. إنكم وبكل صراحة وشفافية وثقة تتحملون جزءاً أساسياً مما وصل إليه الحال بالعراق وما استباحات داعش وقوى البعث الفاشي المسلحة المجرمة ومن لف لفها سوى نتيجة منطقية للسياسات التي مارسها رئيس وزراء العراق الطائفي السياسي بامتياز ومن معه من طائفيين من الشيعة والسنة والصراعات التي خاضوها بعيداً عن مصالح الوطن والشعب.
إن دعوتكم إلى الجهاد ستشعل نيران حرب طائفية مدمرة، خاصة وأنكم لم تتفقوا في الموقف مع شيوخ الدين السنة ولم تدعو إلى استقالة نوري المالكي لكي تشكل حكومة إنقاذ وطني حتى يقتنع أتباع المذهب السني بأنكم تدافعون عن مصالحهم أيضاً وليس مصالح القوى الحاكمة الشيعية التي اضطهدت السنة واستفردت بحكم البلاد بلا حكمة ولا عقلانية بل بكل رعونة وعنجهية فارغة وفساد مالي واسع النطاق.
أنكم بهذه الدعوة ضيعتم فرصة توفير مستلزمات الدفاع المشترك عن الوطن العراقي، إذ لم يأت رفض منح نوري المالكي تفويضاً بإعلان حالة الطوارئ من قبل مجلس النواب من خلال الانسحاب من جلسة يوم الخميس المصادف 12/6/2014 سوى الإعلان الصارخ والعادل عن عدم ثقة هؤلاء به وبحكومته. وكان المفروض أن تأخذوا هذه المسألة بنظر الاعتبار لا أن تستجيبوا لطلب هذا المستبد بأمره نوري المالكي  بإعلان الجهاد والتعبئة الشيعية وليس الوطنية العامة لأن المجرمين القتلة من داعش وغيرهم قد هددوا باقتحام بغداد وكربلاء لأنهم ينوون تدمير المراقد الشيعية الموقرة.
لإنني أحملكم مسؤولية ما سيحصل بالبلاد من كوارث وحرب طائفية قاتلة ومدمرة للشعب والوطن ما لم تبادروا إلى تصحيح الموقف والدعوة، رغم عدم رغبتي بتدخلكم في السياسة، إلا إنكم ولجتم هذا المجال من أوسع أبوابه المحرمة دستورياً، من خلال الدعوة إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني لتوحيد الشعب كله، من حيث القومية والدين والمذهب والفكر العقلاني والسياسة الحكيمة. إنكم بذلك تعلنون لجميع أبناء وبنات الشعب العراقي بأن هذا يمكن أن يصحح المواقف الخاطئة السابقة ويوقف نزيف الدم الذي بدأ واسعاً ومدمراً وسيتسع أكثر فأكثر ما لم تتخذ الإجراءات الواقية والسريعة.
أرجوا أن تلعبوا، وقد بلغتم الرابعة والثمانين من عمركم وأرجو لكم طول العمر، وبقية شيوخ الدين دوركم الاجتماعي في تجنيب البلاد حرباً تشمل العراق كله ولن يبقى الشيعة أو السنة، في مأمن من هذه الحرب بل سيشملهم الموت على أيدي المتحاربين من الطرفين. أرجو أن تحتكموا إلى العقل وحكمة الشيوخ الذين خبروا الحياة ومشكلاتها وسبل معالجتها. أعملوا على إيقاف نزيف الدم لا إلى تسهيل مهمة سفك المزيد من دماء أبناء وبنات العراق الحبيب. أعملوا لإقامة حكومة إنقاذ وطني غير طائفية لتتعامل مع الجميع على قدم المساواة، أعملوا من أجل إنقاذ الشعب والوطن لا سحقهما بالسلاح المدمر للجميع.
14/6/2014                   

رسالة مفتوحة جديدة إلى سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني المحترم/ الحوز الدينية بالنجف بتاريخ 17/09/2016
تحية واحترماً
لقد فكرت كثيراً قبل أن أوجه هذه الرسالة لجنابكم، ولكن شعرت، وللمرة الثالثة، بضرورة الكتابة لكم، لأنكم، من الناحيتين الدينية والاجتماعية، تتحملون مسؤولية كبيرة ورئيسية في مواجهة التدهور المتفاقم في الأوضاع المعقدة والمتشابكة والعسيرة التي يمر بها شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفلسفية والسياسية، ولما وصل إليه العراق في ظل قيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، (البيت الشيعي والتحالف الوطني) للحكم بالبلاد.
فلو عدنا إلى السنوات الأولى بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية – الصدامية الغاشمة، لواجهتنا الحقيقة التالية: أنتم أول من زكى الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية ذات النهج الطائفي المقيت، بعد أن وضعهم المحتل الأمريكي-البريطاني في مقدمة المكونين لمجلس الحكم الانتقالي ورئاسة الوزراء الثانية، وأنتم من طلب من أتباع المذهب الشيعي بالعراق تأييدهم، وأنتم أول من دعوتم إلى انتخابهم في الانتخابات العامة لثلاث دورات انتخابية، 2006، 2010 و2014، وأنتم أول من عجل بسن الدستور الدائم الراهن، الذي يحمل بصمات طائفية وبعيدة عن روح المواطنة وحيادية الدولة ودستورها وسلطاتها الثلاث إزاء أبناء وبنات البلد الواحد، وأنتم أول من ساعد على تكريس النظام السياسي الطائفي بالبلاد. ولهذا فمسؤوليتكم كبيرة من جوانب ثلاثة:
الجانب الأول: تدخلكم كمرجعية دينية مذهبية شيعية بالسياسة، لا كمواطن عراقي له الحق في العمل السياسي، بل كمرجعية شيعية، في حين إن أغلب من تولى المرجعية الدينية في حوزة النجف لم يتدخل بالسياسة، ما عدا السيد محسن الحكيم، وكان أسوأ من قاد الحوزة الدينية بالعراق في فترة الستينيات من القرن الماضي، وأول من شارك في العمل والدعوة للتحالف مع الشيطان، حزب البعث والقوميين الشوفينيين لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم، وبتأييد ودعم من شاه إيران حينذاك. 
الجانب الثاني: أنكم سمحتم لهذه الأحزاب وقياداتها بالتصرف بالمال العام دون أن تتحدثوا وتدينوا دورهم في نهب المال العام، مال الشعب ودون أن تتصدوا فعلياً، وليس قولاً عبر وكلاؤكم بكربلاء والنجف، لهؤلاء الأشخاص الذين تصرفوا باسم الدين الإسلامي والمذهب الشيعي، واستندوا إلى تأييدكم لهم، وهم الذين تستروا بكم لنهب البلاد وسبي العباد!
الجانب الثالث: وعلى مدى سنوات تعرض بنات وأبناء الوطن الواحد، من مسيحيين ومندائيين وإيزيديين إلى أبشع الانتهاكات والتهديد بالقتل والتشريد والسطو على دورهم ومحلات عملهم وما يملكون من قبل المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد قبل أن يتعرضوا لإجرام عصابات القاعدة ومن ثم داعش، دون أن يجري التنديد بهم والتصدي لهم وشجب سياسات الحكومة العراقية منذ العام 2005-حهى العام 2014م من جانب المرجعية الدينية في النجف أو من جانب المؤسسات الدينية السنية. 
وفي العام 2014م، ولأول مرة وبعد خراب البصرة، اتخذتم موقفاً أخر، تميز بالوعي للمخاطر التي أصبحت تحيط بالبلاد، وبعد أن يَسّرَ رئيس الوزراء السابق، ومن معه من حزبه وقائمته وتحالفه الوطني، بسياساته الهوجاء وطائفية الجامحة والمقيتة، اجتياح الموصل ونينوى، وقبل ذاك الأنبار وصلاح الدين والحويجة وديالى. إذ ساعد موقفكم الجديد، مع الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة والمآسي والكوارث التي تعرض أهل نينوى بشكل خاص، وقبل صلاح الدين والأنبار وديالى، بتغيير رئيس الوزراء المستبد بأمره وجيء برئيس وزراء جديد من نفس الحزب والقائمة والتحالف الوطني، الذي لم ينفذ ما وعد به من تخلي عن الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة للشعب العراقي ومن إصلاحات وتغيير فعلي في الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالبلاد. لقد وعدكم ووعد الشعب والحراك اشعبي وأخلف الوعد وواصل السير على سياسة سلفه في أغلب الأمور، فيما عدا موضوع الحرب ضد داعش، والذي تلعب القوات المسلحة العراقية والپيشمرگة دوراً هاماً في ذلك، وبدعم من القوات الجوية الأمريكية وغيرها.
إن دعوتكم للجهاد باعتباره "فرض كفاية" لعب دوراً في تطوع الكثير من المؤمنين المخلصين لشعبهم، ولكنه فسح في المجال في الوقت ذاته للميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، التي ارتكبت الكثير من الجرائم وخاضت المعارك ضد الميليشيات الطائفية السنية المسلحة ومارست معها عمليات القتل على الهوية، إضافة إلى ممارساتها ضد المسيحيين والصابئة المندائيين وغيرهم، والتي تأتمر بأوامر السيد علي الخامنئي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية، أن تسيطر على "الحشد الشعبي" ووضعه تحت قيادتها، وخاصة تحت قيادة شخصيات سياسية عسكرية إيرانية وأخرى عراقية بانحياز إيراني. وهنا سيواجه المجتمع العراقي مشكلة أكبر تعقيداً حتى من وجود داعش، الذي سيقتلع قطعاً، مشكلة مع الميليشيات الطائفية المسلحة المنتمية إلى الحشد الشعبي، بعد التحرير مباشرة، لأنها ملغومة بعناصر طائفية كارهة للآخر وانتقامية لم تع ولم تتعلم من دروس التاريخ حتى الآن، ويبدو أنها لا تريد أن تتعلم ايضاً. وهي تتصرف بالضبط بنفس الذهنية الطائفية لرئيس الوزراء السابق الذي تحدث من مدينة كربلاء حين روج مدعياً استمرار الصراع بين أنصار الحسين وأتباع يزيد! وكان تحريضاً مكشوفاً ضد أبناء الشعب من السنة، على وفق الموروث الشعبي الخاطئ السائد بين الأوساط الشيعية ذات الوعي المزيف والمشوه. 
السيد السيستاني المحترم، أنتم أدرى مني بأن الأجهزة الأمنية والحرس الثوري الإيراني يهيمنان على مواقع حساسة في بنية المئات من الحسينيات والجوامع المقامة بالعراق، وكذلك في جامعة المصطفى، التي صرف على كل ذلك مئات الملايين من الدولارات الأمريكية، والتي أنيطت بها مهمات لا تخدم استقلال العراق وسيادته، بل تساهم في تحويله إلى مستعمرة خاضعة خانعة للحكام بإيران، وإلى تجهيل الشعب بنشر الخرافات والأساطير واللطم والتطبير وضرب الزناجيل (السلاسل المعدنية) عبر المعممين الفارغين من العلم والمعرفة، والتي نادراً ما تمارس بإيران. ويفترض أن لا تقبلوا بذلك في كل الأحوال. إنهم لا يساهمون في تنوير الشعب دينياً واجتماعياً، بل العكس من ذلك، وهي كارثة إضافية يصاب بها العراق. لقد أصبح العراق تدريجاً ساحة للصراع بين السعودية وقطر وتركيا من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى!         
وعلى وفق قناعتي فأنكم كمسؤول عن أعلى مرجعية بالنجف، ومعكم بقية المرجعيات الشيعية، والمؤسسات الدينية السنية، تتحملون مهمة إصلاح ما خرب دينياً واجتماعياً وسياسياً، برفع التأييد عن هذه الأحزاب والجماعات والشخصيات الفاسدة التي أبتلي بها العراق وفي غفلة من الزمن كما ابتلى قبل ذاك بالبعثيين والقوميين الشوفينيين والطائفيين، والدعوة المركزة والمستمر على إقامة دولة مدنية علمانية تلتزم بمبدأ أساس هو "الدين لله والوطن للجميع". إن تأثير المرجعية الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية البارز على أتباعهما المؤمنين يفترض أن يتوجه صوب تأكيد الحرص على الوطن والالتزام بمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية، وبعيداً عن التمييز القومي والديني والمذهبي، وبذلك تقدمون خدمة للوطن والمواطن، رجلاً كان أم امرأة. فهل أنتم فاعلون؟ هذا ما أتمناه، وارجو ألا أكون ممن يمكن أن يطلق عليهم القول، "التمني رأس مال المفلس!".
إن هذه الرسالة موجهة لسماحتكم، ولكنها موجهة في الوقت عينه إلى كل أبناء وبنات الشعب العراقي ليدركوا الوضع الذي أوصلتهم إليه الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة والابتعاد الاستبدادي عن مصالح الشعب وحقوقه وحرياته!
د. كاظم حبيب         
في 17/09/2016
رسالة مفتوحة إلى سماحة آية الله العظمى السيد على السيستاني المحترم/ الحوزة الدينية بالنجف
بتاريخ 08/04/2018
تحية طيبة،
وبعد، كُنتُ قد وجهت في السنين المنصرمة أكثر من رسالة إلى جنابكم حول عدد من الأمور التي تمس المجتمع العراقي بالصميم، ومنها ما يمس أتباع الدين الإسلامي والمذهب الشيعي أو ما تعرض له أتباع الديانات الأخرى بالعراق وفي ظل حكومات تترأسها وتقودها أحزاب إسلامية سياسية حظيت بتأييدكم وبركاتكم. ولم احظ بجواب منكم. وكان من المفترض، وأنتم في المقام الديني الرفيع، أن تجيبوا على رسائلي ذات المضامين غير الشخصية والتي تمس الشأن العراقي الديني والاجتماعي العام مباشرة. ومع ذلك فأن من فوائد رسائلي المفتوحة أنها تُقرأ من عدد كبير من القارئات والقراء بالعراق وبدول عربية أخرى وحيثما وجد قراء بالعربية. إذ إن لها بعداً تنويرياً يعالج العيوب التي يعاني منها المجتمع والتي لا تجد أذاناً صاغية لدى الغالبية العظمى من شيوخ الدين بالعراق، لأن عدداً كبيراً منهم منشغل بأكتناز وتكديس الأموال والتعاون مع جمهرة من سياسيي الصدفة من رجال الدين والأحزاب الإسلامية السياسية. وفي الغالب الأعم، فأن هذه الأموال هي من السحت الحرام، إضافة إلى العقارات ودور السكن التي احتلوها وسكنوا فيها أو حولوها إلى مراكز لعملهم الحزبي و”الديني!”. وهذا ليس ادعاءً أهوجاً أو غير مسؤول من جانبي، بل هو التعبير الصارخ عن حقيقة دامغة تحدثَ البعض من وكلائكم عنها، ومنهم الشيخ عبد المهدي الكربلائي. ولم يهتف الشعب عبثاً أو رغبة في الإساءة إلى أحد، حين قالوا “باسم الدين باگونه الحراميه”، وباسم الله هتكونة الشلايتيه”!!، بل كان هذا الشعار المزدوج واقعاً يعيشه الناس يومياً وفي كل شبر من أرض الدولة العراقية دون استثناء. ومن هؤلاء من أصبح رئيساً للوزراء ووزراء وحكام ...إلخ.
السيد المحترم
لقد تدخلتم، وما زلتم، بالسياسة من أوسع أبوابها، وهي ليست من صلب مهمات موقعكم ومركزكم الديني، وتسببتم بوصول أشخاص وأحزاب سياسية إسلامية طائفية مريضة بكراهية الشعب والفساد والرغبة في إيذاء أوسع دائرة ممكنة من الناس، ولاسيما أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، وتسببتم في هيمنتهم على سلطات الدولة الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، ودعمتم أسوأ هذه الشخصيات التي تسببت بمآسي وكوارث العراق خلال السنوات الـ 15 المنصرمة، التي سرقت وسهلت نهب أموال الشعب وقوته اليومي ، كما سلَّمَتْ، بعدوانيتها وطائفيتها المقيتة، مدينة الموصل وسهل نينوى، وكل محافظة نينوى، ومحافظات غرب العراق، إلى المحتل الدموي، تنظيم داعش المجرم، والذي أدى إلى موت مئات الآلاف من أبناء وبنات العراق ومن كل الأعمار وإلى جرائم الإبادة الجماعية.
ومن موقع المسؤولية الدينية التي في أيديكم وعنقكم لم تقفوا بوجه البدع الدخيلة على الإسلام التي تمارس سنوياً في عشرة عاشوراء أو أربعينية الشهيد الحسين وصحبه الكرام، ولا في المناسبات الأخرى التي أصبحت تشمل ثلثي أيام العمل بالعراق. كما لم تساهموا في مساعدة فقراء العراق من خلال تبيان رأيكم الديني، وليس السياسي، في واقع الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء، بين “بحبوحة” شيوخ الدين ومعممي السياسة من جهة، والعوز الشديد الذي يلف نسبة عالية جداً من سكان العراق من جهة أخرى.
لا أدعوكم هنا إلى التدخل في السياسة أبداً، أو الوقوف إلى جانب هذا وضد ذاك، بل أدعوكم إلى الالتزام بمهامكم الدينية، تلك التي تخليتم عن الكثير منها منذ سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة وقيام النظام السياسي الطائفي المقيت على أنقاضه، وتدخلتم في مهمات ليست ضمن واجباتكم الدينية، من خلال:
** عدم التدخل في السياسة والالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، وبين الدين والدولة، وهو مبدأ لصالح الدين وأتباعه، ولصالح الدولة ومواطناتها ومواطنيها في آن واحد.
** أن توجهوا أنظاركم وجهودكم صوب الدفاع الديني عن الإنسان، أياً كان، دينه أو مذهبه، قوميته أ

96

كاظم حبيب
هل انتهت حقاً أهمية وضرورة الإجراءات الحمائية للمنتجات الوطنية في العراق؟
نشر الزميل الدكتور حميد الكفائي مقالاً مهماً في جريدة الحياة بتاريخ 9 أغسطس/آب 2019 تحت عنوان "متى تنتهي الإدارة العشوائية للاقتصاد العراقي"، سجل فيه جملة من الأفكار الصائبة التي تعبر عن المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد العراقي في المرحلة الراهنة، التي لم يكف الاقتصاديون العراقيون عن ذكرها دوما دون أن تجد آذاناً صاغية لدى حكام العراق القدامى والجدد، ما عدا فترة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم القصيرة، حين كان الفقيد الأستاذ وعالم الاقتصاد إبراهيم كبة وزيراً للاقتصاد.
لقد شخص الزميل حميد الكفائي نقاطا جوهرية عديدة عبَّر فيها عن تلك المشكلات التي يمكن تلخيصها على النحو التالي: الاعتماد على مصدر واحد أساسي في تكوين الدخل القومي (النفط)، غياب التنوع في الاقتصاد العراقي، لاسيما قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة والخدمات، وبالتالي عدم تنويع مصادر الدخل القومي، "الاقتصاد العراقي في الحقيقة اقتصاد عشوائي يستمد أمواله من ريع النفط"، و"اقتصاد غير مستقر، تعبث به مافيات طفيلية تعتاش على السرقة والنهب والإجرام والتهريب. مافيات وعصابات مسلحة مرتبطة بدول أخرى، ومستغلة ضعف الحكومة". ورغم استقلال البنك المركزي من الناحية القانونية، إلا إن هذا "لا ينعكس على سياساته التي يساير بها الحكومات المتعاقبة"، ثم الكارثة الاقتصادية في المزاد العلني للدولار في العراق..، فـ "مزاد بيع العملة سيف ذو حدين يذبح الاقتصاد العراقي كل يوم"... " إضافة إلى ثبات سعر العملة بذريعة مواجهة التضخم المتفاقم في العراق". (قارن مع نص مقال الدكتور حميد الكفائي). ولم ينس الزميل الكفائي الإشارة إلى واقع الرثاثة الفعلية لمدينة بغداد المليئة بالقمامة. وأرى جازماً أن هذه الرثاثة تجسد في حقيقة الأمر رثاثة فكر وممارسات النخب والفئات الحاكمة وسياساتها ومواقفها من الشعب وإرادته ومصالحه، فالمهم عندها كيف تُبدع وتُنوع أساليب نهب المال العام، وليس من همومها كيف تنمس وتطور وتراكم الثروة الوطنية وتحسن أوضاع الاقتصاد ومستوى معيشة الغالبية العظمى من المجتمع.
ومع اتفاقي إلى حدود بعيدة فيما ذهب إليه الزميل الكفائي، إلا أني أرى بأنه قد جانب الصواب في واحدة من أهم السياسات الاقتصادية، التبادل التجاري/ إذ كتب:
"ليست هذه دعوة لاتخاذ إجراءات حمائية لحماية المنتجات العراقية، كرفع التعرفة الجمركية على الواردات مثلا، فمثل هذه الإجراءات عفا عليها الزمن ولم تعد مجدية، ولكن يجب الانتهاء من عشوائية الإدارة، وتنظيم الاقتصاد بحيث يتمكن من المساهمة في الاقتصاد العالمي وإنتاج بعض ما يُستهلك محلياً بعيدا من الاعتماد على تصدير المواد الأولية." وإذا كان الجزء الثاني من هذا المقتطف صائباً بشكل عام، فأن الجزء الأول منه لا يصلح للعراق، بل يعتبر مشاركة فعلية في استمرار وجود وفعل السمات السلبية في الاقتصاد العراقي، ومنها سمتا وحدانية الجانب والتبعية للدول المستوردة للنفط.
إن التشخيصات الصائبة التي سجلها الدكتور حميد الكفائي جعلني اعتقد بأن سيخرج باستنتاجات أخرى تماماً غير هذا الاستنتاج. فالزمن، الذي نحن فيه، لم يعف على سياسة الحمائية الجمركية العقلانية للصناعة والزراعة، وهي مجدية جداً للاقتصاد العراقي حين تقترن بسياسة تنموية اقتصادية واجتماعية ومالية ونقدية مستدامة وواعية ومدركة لحاجات العراق وإمكانياته وقدراته المادية والبشرية. 
السؤال العادل والمشروع الذي يفرض نفسه: كيف يمكن تغيير سمات التخلف والتشوه ووحدانية الجانب في الاقتصاد العراقي، إذا استمر العراق بممارسة سياسة "الباب المفتوح" في التجارة الخارجية ورفض اعتماد مبدأ الحمائية الجمركية؟ أرى بإن استنتاج الدكتور الكفائي ودعوته بعدم "اتخاذ إجراءات حمائية لحماية المنتجات العراقية، كرفع التعرفة الجمركية على الواردات مثلا"، قد ابتعد عما يفترض اتخاذه من إجراءات لتغيير واقع الاقتصاد العراقي ومعالجة مشكلاته. فما توصل إليه يعني جعل اقتصاد العراق مكشوفا بالكامل استيراداً وتصديراً على الخارج وتابعاً له، جزءاً متخلفاً ومشوهاً وتابعاً لعملية إعادة الإنتاج في الاقتصاد الدولي، لاسيما الدول الرأسمالية الكبرى عموماً، إضافة إلى خضوعه الشديد للسياسة التي ترسمها إيران للاقتصاد العراقي.
من يتابع بعناية السوق العراقية منذ سنوات، سيرى عواقب سياسة الباب المفتوح في التجارة الخارجية، فهو مغرق بالسلع المستوردة من دول مثل إيران وتركيا والصين والدول الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا، إضافة إلى بعض الدول العربية. وعلى وفق المعلومات المتوفرة والمدققة فأن إيران وتركيا والولايات المتحدة تقف كلها، وبشكل مباشر، ضد تصنيع العراق، بل وأفشلت حتى، لاسيما إيران وتركيا، مشاريع إنتاج الطاقة وتنشيط منشآت قطاع الدولة واستثمار رؤوس الأموال في الصناعة أو تحديث وتطوير الزراعة.
إن السياسة الجمركية النيولبرالية التي فرضها بول بريمر، ومن ثم سار عليها الحكم الطائفي السياسي الفاسد، منذ العام 2004، تساهم بما لا يقبل الشك في إعاقة أي عملية تنمية صناعية وزراعية في العراق، وهي تريد احتكار السوق العراقي لسلعها الصناعية والزراعية. إن بعض الاقتصاديين اللبراليين الجدد ينصحون الحكام الفاسدين بالالتزام بقاعدتي الميزة المطلقة لآدم سميث والميزة النسبية لديفيد ريكاردو، وهما غير صالحتين لاقتصاد غالبية الدول النامية، ومنها العراق، إذ لا يجوز لها ولا للعراق التخلي عن سياسة التصنيع وتحديث الزراعة والبقاء في حالة التخلف، لأن بلداناً أخرى قادرة على إنتاج سلع بتكاليف أقل.
إن ممارسة سياسة حمائية للصناعة والزراعة في العراق لا تعني ممارسة سياسة الاعتماد على الذات كلية وفي كل الصناعات والمنتجات الزراعية، فهذا غير ممكن وخاطئ في عالمنا المعاصر والتقسيم الدولي الرأسمالي الجاري للعمل، وفي إطار   ثورة الإنفوميديا. إلّا إن من المفيد للعراق الاعتماد كثيراً على قدراته الذاتية بما يمتلك من موارد أولية لتنمية وتطوير صناعته وزراعته، مع الانتباه إلى تأمين حاجاته الاستيرادية بالنسبة لتلك السلع التي تساهم في تطوير اقتصاده وإشباع حاجات سكانه الأساسية.   
إن سياسية الباب المفتوح في التجارة الخارجية تقود في أوضاع العراق الراهنة، ولسنوات طويلة قادمة، إلى العواقب التالية:
1)   إن الوجهة التي تدعو إليها عملياً تحصر النشاط الاقتصادي العراقي في مجال التداول وبعيداً عن الإنتاج، وهي خسارة فادحة للاقتصاد الوطني وعملية التنمية وعملية تغيير بنية الاقتصاد الوطني المشوهة والمتخلفة وبنية الدخل القومي.
2)   إنها إضعاف للتوجه الضروري في السياسة الاقتصادية صوب تنمية القطاعين الصناعي والزراعي.
3)    كما إنها إضعاف للقدرة الفعلية على توفير أكثر فرص عمل للأيدي العاملة العاطلة والقوى العاملة الجديدة التي تدخل سنوياً في سوق العمل لاسيما في بلد مثل العراق حيث نسبة الولادات السنوية عالية.
4)   وفي هذا استنزاف نسبة عالية جداً من موارد النفط المالية، وعموم الدخل القومي، بسبب ارتفاع استيرادات العراق السنوية من السلع الاستهلاكية والكمالية وتنشيط النزعة الاستهلاكية لدى الفئات الغنية والميسورة.
5)   وهو إضعاف للقدرة على التثمير الإنتاجي في الصناعة والزراعة والسياحة والخدمات الإنتاجية وتقليص القدرة التراكمية الضرورية للرأسمال لإغناء وتعظيم الثروة الاجتماعية.
6)   وهذا يعني إبقاء العراق خاضعاً وتابعاً لتلك الدول التي تصدر له سلعها وتلك التي تستورد منه النفط الخام.
7)    وتهدد مثل هذه السياسية القدرة على توفير الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي في آن واحد. وهي المعضلة التي واجهت العراق أثناء الحصار الاقتصادي الدولي استيرادا وتصديراً.
8)   وعلينا أن نشير بأن مثل هذه السياسة تقود إلى المزيد من الفقراء في البلاد إلى المزيد من اتساع وتعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء والمزيد من التناقضات والصراعات والكثير من الفساد. إنها السياسة التي تنصح بها المؤسسات الرأسمالية الدولية الكبرى: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية!!
وكملاحظة أخيرة يمكن أن نرى كيف أن الدول الرأسمالية المتقدمة بدأت تمارس سياسة الحمائية الجمركية وتفرض ضرائب عالية على استيراداتها، وليس الحرب التجارية الجارية بين الولايات المتحدة والصين، وبين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، لاسيما ألمانيا، سوى تأكيد جديد بأن سياسة الحمائية الجمركية لم يعف عليها الزمن، بل مهمة جداً بالنسبة للدول النامية التي تسعى إلى تنمية وتطوير اقتصاداتها الوطنية وحياة مجتمعاتها، وهي في سباق ما يزال خاسراً مع الزمن!               

97
كاظم حبيب
التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسية بالعراق إلى أين؟
لا يخلو مجتمع بشري من تناقضات اجتماعية وصراعات طبقية وسياسية ناشئة عن طبيعة علاقات الإنتاج السائدة بالبلاد وعن مستوى تطور القوى المنتجة والوعي الاجتماعي، أي بالارتباط مع طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم. وحين تبرز مثل هذه التناقضات يفترض في السلطات الثلاث والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وعموم الناس في أي دولة من الدول ان تتحرى عن طبيعة تلك التناقضات والعوامل آلتي تسببت بنشوئها وسبل معالجتها وطرح الحلول لها في محاولة للتعرف على أفضل احتمالات حلها. لا شك في ان نكران وجود تلك التناقضات أو التغاضي عنها والابتعاد عن معالجتها لا يعني بأي حال غيابها، بل يعني دون أدنى ريب السماح لها بالتراكم والتفاقم ونشوء مشكلات جديدة ناجمة عنها وتحولها تدريجا إلى صراعات اقتصادية واجتماعية، التي يمكن ان تتحول، في حالة الاستمرار في إنكارها او تفسيرها بعوامل غير واقعية وغير حقيقية أو مواجهتها بسبل غير حضارية من قبل السلطة السياسية، إلى صراعات سياسية يمكن ان تتخذ ابعاداً اخرى بما في ذلك حصول هبات او وثبات أو انتفاضات او ثورات مدنية أو عسكرية، عندها لا يمكن معرفة وجهة تطورها ومدى قدرة القوى والأحزاب السياسية على السيطرة على عواقبها أو التأثير بوجهتها. ان هذه العملية ذات المضمون الاجتماعي والاقتصادي خاضعة لطبيعة وحركة وفعل القوانين الاقتصادي الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي التي تخضع لسبل التعامل معها، إذ إن التعامل غير الواعي معها يوفر الأرضية الصالحة والشروط الموضوعية لحركتها وفعلها باتجاه معين. 
يقدم تاريخ شعوب العالم نماذج هائلة على امتداد تاريخ البشرية على هذه التحولات الاجتماعية والسياسية. والعراق القديم والحديث والمعاصر، وكذلك دول منطقة الشرق الأوسط، تجارب غنية على هذه العملية. ولكن الغريب حقاً ان البلدان المختلفة، حكاماً وشعوباً، وخاصة النخب الحاكمة والاستبدادية، ذات ذاكرة ضعيفة لم تتعلم ولا تريد ان تتعلم من تجارب شعبها المنصرمة او تجارب الشعوب الأخرى وتصر على خوض تجربتها الجديدة الخاصة التي يمكن ان تكون مدمرة لها وقاسية على شعوبها. ومن النماذج المثيرة، إذا استثنينا الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية المعروفة في هذا المجال، نشير إلى دولة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى التي كانت تؤكد ان مجتمعاتها لم تعرف التناقضات عموماً والتناقضات التناحرية، التي تنشأ عن طبيعة النظام الاجتماعي، خصوصاً، قادت شعوبها ونظمها السياسية الاجتماعية، بسبب إنكارها لمثل هذه التناقضات، التي كانت موجودة حقاً وفاعلة فعلاً، إلى تراكم المشكلات وتحولها إلى صراعات لم تعد قابلة للحل وقادت إلى انهيار تلك النظم السياسية الاجتماعية من الداخل، إضافة إلى فعل العامل الخارجي الذي ساعد على حصول  تلك الانهيارات الزلزالية.
العراق "الجديد!"، بما في ذلك إقليم كردستان العراق، يعيش تناقضات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية متفاقمة ومتراكمة ومتعقدة لأسباب ترتبط بطبيعة النظام السياسي الطائفي والأثني القائم على المحاصصة المذلة والظالمة لعموم الشعب وسياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية غير العقلانية والسلوك غير السوي للنخب الحاكمة واللاأخلاقي الذي يتسم بالفساد والوعود الكاذبة، وكأن فرق " الشطار!!" في فترة تدهور الدولة العباسية قد نهضت من جديد مرتدية لبوس المليشيات الطائفية المسلحة الإرهابية (أو) والتكفيرية بمختلف أشكال ظهورها وروعت المجتمع وأغرقت البلاد بالدم والدموع. فالفساد السائد وغياب العدالة الاجتماعية كلية ومصادرة حقوق الأنسان وحقوق اتباع الديانات والمذاهب وانعدام ثقة المجتمع بالنخب الحاكمة دون استثناء ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي غير الإنساني والخطير قاد ويقود البلاد إلى النتائج والعواقب التالية:
1. تصاعد في المد الشعبي المناهض للطائفية والتحاق قوى جديدة ونظيفة بحركة المظاهرات السلمية وتحولها إلى حركة ذات ديناميكية خاصة بها لا يمكن للحكم الراهن الصمود بوجهها ولن ينفع خروج "مارد!!!" إبراهيم الجعفري من قمقمه المطمور حينذاك!
2. استمرار نزوح الكثير من العائلات وخاصة الشبيبة من العراق صوب الخارج طلبا للأمن والبقاء على قيد الحياة والعيش بكرامة إنسانية. ويشكل هذا النزوح خسارة هائلة لا تعوض للعراق المستباح!
3. انخراط شبيبة اخرى ضائعة بالقوى الإرهابية بسبب عجزها عن إعالة عائلاتها بسبب الفقر المنتشر بالبلاد، وبالتالي فالوضع يقدم وقوداً جديدة للتنظيمات الإرهابية.
4. انخراط المزيد من الشبيبة بقوى الجريمة المنظمة التي تعيش وتنمو في مثل هذا الأوضاع الفاسدة بالعراق، خاصة وإن للعديد منها روابط وشراكة مع بعض النخب الحاكمة آلتي توفر الغطاء الواقي لنشاطاتها.
5. تنامي شبكة العاملين في الدعارة واتساع قاعدة المنخرطين بها من النساء والرجال لأسباب ترتبط بالفقر والخراب الأخلاقي الذي تسببت به النخب الحاكمة ونظامها السياسي الطائفي.
إن مجيء ا لعبادي على رأس السلطة السياسية وتحت إمرة رئيسه في الحزب نوري المالكي، وتحت إمرة رئيسه في التحالف الوطني ابراهيم الجعفري حينذاك، وذهابه، ثم مجيء عادل عبد المهدي، بتأييد قوى الإسلام السياسية وأحزابها الفاسدة، لا يعني حصول أي تغيير فعلي في النظام الطائفي والفساد، بل تكريسا لهما من خلال إجراءات ترقيعية لا يمكن القبول بها لأنها تريد استغفال الشعب وكادحيه لا غير. ومن المؤسف ان ينطلي ذلك على جمهرة غير قليلة من الناس ومن القوى السياسية، رغم وجود بعض الصراعات داخل النخب الحاكمة في سبل عبور أزمة النظام الطائفي المحتدمة حالياً. إن الأزمة الراهنة متفاقمة بفعل ما يحصل في البلد الجار، إيران وخلافاته المحتدمة مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، وتدخل قادة النظام الإيراني الفظ في الشؤون الداخلية للعراق، الذي فقد سيادته واستقلاله عملياً.
إن الحل السلمي والديمقراطي لمشكلات البلاد يكمن في مدى قدرة القوى الدمقراطية والتقديمية وكل الحريصين على إقامة دولة ديمقراطية دستورية وبرلمانية ومجتمع مدني ديمقراطي منفتح على الحضارة العالمية ومكافحة الطائفية والفساد السائدين على تعبئة الأوساط الشعبية الواسعة المتضررة جداً من طبيعة وسياسات النظام السياسي القائم ومن الجرائم المريعة المرتكبة بحق الشعب منذ وصول هذه النخب الحاكمة إلى قيادة الدولة والتحكم بسلطاتها الثلاث وإفسادها، لتناضل بحرص ومسؤولية وديمومة للخلاص من هذه الأوضاع البائسة.



98
كاظم حبيب
هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني للعهد الملكي في العراق؟
الحلقة السابعة والأخيرة
فترة الانتكاسة والسقوط للعهد الجمهوري الأول
الفترة الثانية: فترة الانتكاسة والإجهاز على الجمهورية الأولى
بدأ الوضع الداخلي يزداد تعقيداً وتشابكاً. فما أن بدأ الجيش عملياته العسكرية ضد قوات الپيشمرگة الكردستانية في خريف عام 1961، وما أن أعلنت القيادة الكردية "ثورة أيلول" من نفس العام، ورفع الحزب الشيوعي العراقي شعار "السلم في كردستان"، حتى بدأت حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشيوعيين وأعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد والألوية الكردستانية وإصدار أحكام سريعة وقاسية بحق المعتقلين وزجهم في السجون، فنشأ توتر ملحوظ وضار بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم. وكانت أجهزة الأمن والقضاء مستعدة لهذا الغرض لأنها لم يصبها التغيير المنشود وتعاملت بشراسة ربما أكثر مما كان يسعى إليه قاسم. كما بدأت الجماعات الإسلامية الشيعية تتجمع تحت واجهة الحزب الفاطمي وتتحرك ضد حكومة قاسم وتشديد التهم ضد الشيوعيين. وفي الوقت ذاته رفع البعثيون والقوميون من هجومهم الشرس على الحكم والقوى الديمقراطية اليسارية والحزب الشيوعي بدعم مكثف وشامل من جانب الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر. وتمادى كبار ملاك الأراضي الزراعية في الريف العراقي في تصديهم لتنفيذ بنود قانون الإصلاح الزراعي بدعم مباشر من الجهاز الإداري في القطاع الزراعي وتعطيله واتهام الفلاحين بالتعرض لهم، مما أدى إلى حصول توتر في الريف واتهام الحزب الشيوعي بالوقوف وراء ذلك أيضاً، لاسيما تنامي شعور لدى الفلاحين بابتعاد حكومة الثورة عن مساندتهم وحل مشكلاتهم المتفاقمة وعواقبها السلبية على الإنتاج الزراعي وعلى حياتهم. كل هذا أشر تحولاً ملموساً عن الحياة الديمقراطية التي برزت في أعقاب ثورة تموز حتى بداية عام 1960. فما هي العوامل الكامنة وراء هذا التراجع في مسيرة ثورة 14 تموز 1958؟
 إن المتتبع لأحداث تلك الفترة يمكنه أن يستنتج ما يلي:
أدرك عبد الكريم قاسم شدة الأزمة الداخلية المتفاقمة، ولكنه لم يرَ إن سببها كامن في سياساته وممارساته، بل عزاها لغيره وللأحزاب السياسية العراقية. لهذا لم يطرأ على باله تغيير دفة السياسة لصالح الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني والبدء بوضع دستور دائم والتهيئة لانتخابات برلمانية ديمقراطية لتسليم الحكم للقوى المدنية وإقامة الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني وعودة القوات المسلحة إلى ثكناتها. بل راح قاسم يفجر الصراعات الخارجية التي تزيد من حدة الأوضاع الداخلية والخارجية، بأمل امتصاص الاحتقان الداخلي. فعمد إلى المطالبة بالكويت باعتبارها جزءاً من ولاية البصرة منذ العهد العثماني وقبل ذاك أيضاً، وهي حقيقة من حيث المبدأ قبل ترسيم الحدود من جانب الاستعمار البريطاني. بهذه المطالبة هيج ضده بريطانيا ودول الخليج والسعودية مرة واحدة، فبدأ العمل المكثف لتوفير الحلفاء في الداخل للانقضاض على الحكم الوطني. ثم بدأ معركة جديدة مع شركات النفط الأجنبية وألزمها على التفاوض لاستعادة بعض حقوق العراق في نفطه، لاسيما موضوع "تنفيق الريع" وما إلى ذلك. وبهذا حرك شركات النفط الاحتكارية وكل الدول الرأسمالية التي تقف مع هذه الشركات ضده. كما لم تكن الدعوة إلى تشكيل الأوبك موقع ارتياح من قبل شركات النفط العالمية ولا الدول الرأسمالية. ولا شك في أن وقوف الحكومة العراقية إلى جانب الحياد الإيجابي والتحرر من حبائل الحرب الباردة والعمل مع دول عدم الانحياز، قد حركت العالم الغربي ضد العراق واُعتبرت سياسات قاسم كلها موجهة ضدها ومساندة للاتحاد السوفييتي وحلفاءه، وأنها كلها ناجمة عن وجود ودور للشيوعيين في البلاد وتأثير الحزب الشيوعي على قاسم وحكومته!!
في ذات الفترة أجرى قاسم تغييرات واسعة في قيادات الفرق العسكرية العراقية باتجاه إبعاد الديمقراطيين أو الذين شعر بأنهم مع الحزب الشيوعي العراقي، وتم إبعادهم إلى مواقع بعيدة عن العاصمة بغداد، ونسَّب مكانهم عناصر قومية وبعثية أو من الضباط القدامى من العهد الملكي الذين لا يكنون الود لحكومة قاسم. وقدم قاسم بهذه التنقلات أكبر خدمة ممكنة غير مقصودة لتلك القوى التي كانت تتآمر عسكرياً ضده وضد الجمهورية الأولى.
رفض قاسم بإصرار عجيب، رغم حديثه عن تشكيل لجنة لوضع دستور دائم وإنهاء فترة الانتقال، إلى تحديد فترة الانتقال وإنجاز ما هو ضروري، إذ إن الواقع الفعلي كان يشير إلى خمس مسائل حاسمة:
1)   إنه لا يريد التخلي عن السلطة مع اشتداد النزعة الفردية في حكم البلاد وفي اتخاذ القرارات، وعدم عودته للحكومة ولا حتى استشارتها فيما يتخذه من إجراءات.
2)   وهو غير راغب بوضع دستور دائم في الوقت الحاضر ولا يميل إلى إجراء انتخابات برلمانية أو حياة ديمقراطية دستورية.
3)   وأنه مصر على بقاء العسكر في السلطة، وأن يبقى هو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة في آن واحد، كما أضعف دور مجلس السيادة الثلاثي كلية.   
4)   وأنه قد حقق تفوقه على القوى الأخرى بتأييد الشعب له، باعتباره الزعيم الأوحد للبلاد. وبهذا بدأت محاولاته التخلص من دور وتأثير الحزب الشيوعي على الجماهير من جهة، ودور القوميين والبعثيين من خلال ضرب بعضهم أو إعادة بعضهم لمواقع المسؤولة من جهة أخرى، لإرضاء بعض الدول العربية.
5)   وأن تكون المعارك الخارجية التي أثارها مساعدة له في تخفيف الأجواء الداخلية وإشغال الناس بقضايا وطنية مثل الكويت ومفاوضات النفط.
مع هذا التراجع في سياسة قاسم واعتقاله المزيد من الشيوعيين والديمقراطيين وإبعاد الضباط الشيوعيين والديمقراطيين عن مواقع المسؤولية في القوات المسلحة، برز صراع ملموس في قيادة الحزب الشيوعي العراقي واللجنة العسكرية التابعة للحزب، دار حول الموقف من دور عبد الكريم قاسم وحكومته. كان الرأي الأول يميل إلى إجراء تغيير في العراق اعتماداً على قدرات الحزب والقوى الديمقراطية القريبة منه في القوات المسلحة، في حين رفض الرأي الآخر ذلك وأكد ضرورة العمل مع قاسم ومساعدته في تجاوز العثرات الراهنة في سياساته. تغلب الرأي الثاني في الحزب، كما وجد التأييد من جانب الاتحاد السوفييتي، الذي رأى في حكومة عبد الكريم قاسم وفي العراق دولة متحررة وصديقة يستوجب دعمها. ولا يعرف حتى الآن ما إذا كان فحوى هذا الصراع قد وصل إلى آذان عبد الكريم قاسم، فضلاً عن الشعار الخاطئالذي رفعته الجماهير "الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم"، فانتفض ضد الحزب وقرر معاقبته بالطريقة التي أدت إلى عواقب وخيمة عليه وعلى الحزب الشيوعي وعلى الشعب العراقي كله، رغم أن قرار قيادة الحزب الشيوعي النهائي كان لصالح العمل مع قاسم ودعمه.
لقد كانت تحركات المتآمرين صارخة ومفضوحة، يسمعها ويتلمسها كل إنسان يمتلك حساً سليماً ورؤيةً سياسية واقعية وناضجة. وفي حينها تلقى الحزب الشيوعي العراقي معلومات كثيرة ودقيقة تشير إلى استعدادات قوى التآمر، بُلّغَ بها عبد الكريم قاسم أكثر من مرة. لم يأبه بها واعتبرها، كما يبدو، مناكدة من الحزب الشيوعي ضد البعثيين والقوميين! وكان يؤكد باستمرار بأن الجيش والشعب معه ولن يخشى أحدا. فكانت الطامة الكبرى، وكان الانقلاب الفاشي الدموي الذي قاده حزب البعث وأشرفت عليه وكالة المخابرات المركزية ووفرت له المعلومات لتنفيذ مجزرة رهيبة ضد قادة الثورة والحزب الشيوعي العراقي، وضد القوى الديمقراطية وحركة التحرر الوطني في العراق.
يجري الحديث عن نزاهة ووطنية قاسم وعن دوره في الخلاص من النظام الملكي وإصداره التشريعات الديمقراطية المهمة. هذا الكلام صحيح جداً وتماماً، ولا يشك فيه حتى أعداء قاسم. ولكن النزاهة والوطنية وحب الفقراء ومأثرة قيادة الثورة سمات طيبة، غير إنها ليست كافية لوحدها لقيادة البلاد وحماية المكاسب ومصالح الشعب، بل لا بد لها أن تقترن بوعي عميق وقناعة تامة بالنظام السياسي الديمقراطي والحياة الحرة والدستورية والبرلمانية، والمجتمع المدني الديمقراطي والعلماني، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة والالتزام بدور القوات المسلحة كمؤسسة في حماية حدود الوطن وليس حكم البلاد أو التدخل في شؤون الحكم. يفترض في الحاكم الديمقراطي أن يعي مسؤوليته إزاء الشعب والوطن، وأن يتصرف بحكمة وعقلانية إزاء مصائر البلاد. لم يتمكن قاسم، كما أرى، وعي الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة به والتي لم تكن إلى جانبه، بل كانت كلها تعمل بسرعة وكثافة ضده. لم تكن تلك المتطلبات الديمقراطية متوفرة في قاسم بفعل تربيته العسكرية وحبه للسلطة وقناعته بانه الشخص الأفضل في خدمة الشعب وحماية الوطن والأكثر إخلاصاً، وأن الشعب والجيش معه ولن يخذلاه!
لم يكن عبد الكريم قاسم وحده المسؤول عما حصل في العراق، لكنه كان المسؤول الأول، بل تتحملها معه القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية واليسارية التي لم يكن وعيها ونشاطها بالمستوى المطلوب، بما يسهم في تجنيب المجتمع ما حصل له في انقلاب شباط/فباير 1963 وما بعده. ولكن المسؤولية الكبرى والأساسية في كل ما حصل للشعب والوطن تتحملها تلك القوى التي تآمرت على العراق والحكم الجمهوري الأول وعلى المكاسب الوطنية والديمقراطية التي تحققت للشعب خلال فترة قصيرة من عمر الجمهورية، فضلاً عن القوى العربية والإقليمية والدولية وشركات النفط الاحتكارية التي شاركت القوى الداخلية في عدائها للثورة ومكاسبها ولعبد الكريم قاسم بالذات. لقد لعبت الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية ودول حلف بغداد والدول العربية، لاسيما، مصر دوراً قذراً وعدوانياً مباشراً ضد الشعب العراقي والجمهورية الأولى وضد قائد ثورة تموز 1958.
إن ما حصل في 8 شباط/فبراير 1963 حتى سقوط نظام التحالف البعثي-القومي-الرجعي-الأمريكي من مجازر دموية ضد قادة الثورة وضد قادة وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية ومناصري قاسم وضد المجتمع عموماً، فضلاً عن جريمة قطار الموت وإعدام المناضلين الشجعان حسن سريع ورفاقه، وزج الآلاف في السجون والمعتقلات وتنفيذ عمليات التعذيب في قصر الخزي والعار، قصر النهاية المشؤوم، لكفيل بفضح الأهداف الإجرامية والخيانية الوطنية لقادة الانقلاب.
   

99
كاظم حبيب
هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني للعهد الملكي في العراق؟
الحلقة السادسة
انتفاضة الجيش وثورة الشعب في 14 تموز 1958
لا يمكن لأي حركة سياسية أو عسكرية أن تنجح في قلب نظام حكم في أي بلد كان وتتسلَّم السلطة، ما لم تكن شروط ومستلزمات تلك العملية، الموضوعية منها والذاتية، ناضجة ومتوفرة. فمن تابع فترة نظام الحكم الملكي في العراق في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، يستطيع أن يقدر بأن الصراع بين المجتمع وقواه السياسية من جهة، والفئات الحاكمة وسلطتها السياسية من جهة أخرى، قد بدأ بالتفاقم المتسارع، وإن عوامل التفكك والانحلال بدأت تنخر بالدولة الملكية وتؤهلها للتغيير. ولم تكن الوحدات العسكرية التي قادها عبد الكريم قاسم في الرابع عشر من تموز 1958 سوى الأداة التنفيذية لفعل قوانين التطور الاجتماعي والتحولات التاريخية الذي تجلى في المد الثوري العارم الذي شهدته بغداد العاصمة وبقية المدن والقرى العراقية، كما شهده العالم في صبيحة الانتفاضة العسكرية المظفرة.
أهداف حركة الضباط الأحرار
حدَّدت حركة الضباط الأحرار أهدافها بما يلي: 1) إلغاء النظام الملكي وإقامة الجمهورية؛ 2)الخروج من الاتحاد الهاشمي مع الأردن؛ 3) الخروج من منطقة الإسترليني؛ 4) نبذ الأحلاف العسكرية والخروج من حلف بغداد والالتزام بالحياد ودول عدم الانحياز؛ 5) إلغاء الإقطاع وتشريع قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين؛ 6) إقامة أفضل الروابط مع الدول العربية، وخاصة مع الجمهورية العربية المتحدة؛ 7) العمل عل تحرير فلسطين؛ 8) إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع جميع البلدان على قدم المساواة؛ 9) العمل على تأمين حقوق الشعب العراقي بثروته النفطية وتامين دخل أكبر لتأمين تنفيذ مشاريعه التنموية؛ 10) العمل على النهوض بالبلاد من حالة التخلف في مختلف المجالات. (قارن: حامد الحمداني، ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاساتها واغتيالها، فيشو ميديا-السويد، 2006، ص 172/173).   
أهداف جبهة الاتحاد الوطني
حددت اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني أهدافها بما يلي: "1) إسقاط حكومة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي؛ 2) الخروج من حلف بغداد، والتزام الحياد الإيجابي؛ 3) إطلاق الحريات الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلغاء كل ما يتعارض معها من مراسيم وتشريعات شاذة؛ 4) إلغاء مرسوم الإدارة العرفية، وحل المجالس العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم وإلغاء مرسوم إسقاط الجنسية عن المواطنين؛ 5) تعزيز الروابط مع البلدان العربية المتحررة." (راجع: المصدر السابق نفسه).
كانت هذه الأهداف بمجملها تعبر عن وعي بواقع العراق وتحمل مسؤولية تغيير هذا الواقع بما يعيد التناغم والانسجام بين النظام السياسي وسياساته وإرادة ومصالح الشعب في الداخل والخارج. ولم تجسد تطرفاً أو الانتقام من أحد، سواء أكان من العائلة المالكة، أم من النخبة السياسية التي حكمت العراق طوال 37 عاما. وهنا تستوجب الإشارة إلى استحالة السيطرة على ردود أفعال الناس إزاء ما عانوه من الحكم الملكي، بعد انتصار الثورة, وبهذا الصدد يمكن إيراد أمثلة من دول كثيرة حصلت فيها انتهاكات كبيرة، كان ينبغي لها ألَّا تحصل، كما في ثورة 14 تموز في فرنسا، أو ما حصل في العراق بالنسبة لشخصيات ثلاث ليس بقتلهم فقط، بل التمثيل بجثثهم وسحلها وتعليقها على أعمدة في شوارع بغداد أيضا، وهم عبد الإله بن علي، ونوري السعيد، وصباح نوري السعيد، إضافة إلى قتل الملك الشاب فيصل الثاني، الذي كان لتوه قد تسلم العرش، وجميع أفراد العائلة الهاشمية المالكة الذين وجدوا في قصر الرحاب حينذاك. وهي جريمة بشعة نفذها النقيب عبد الستار العبوسي دون قرار صادر عن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، أو عن لجنة الضباط الأحرار، وانتشر خبر مفاده أن عبد السلام عارف هو من أعطى الأمر بقتلهم!
مسيرة ثورة 14 تموز 1958   
مرَّت ثورة تموز/يوليو 1958 بفترتين هما:
الفترة الأولى: النهوض والمنجزات وبداية الصراعات والمصاعب
لم تحصل أعمال شغب أو نهب أو سرقات للبيوت والمحلات التجارية، ولم تقع حوادث أمنية، ما عدا الجريمة التي أشرنا إليها، رغم خروج الملايين إلى شوارع البلاد، عبرت فيه عن نضجها العام ووعيها السياسي وحرصها على ممتلكات الدولة والمجتمع. وتجدر هنا المقارنة بين أيام الثورة الأولى عام 1958، وبين ما حصل في بغداد والمدن الأخرى بعد احتلال العراق عام 2003. إذ سمحت القوات الأمريكية التي احتلت بغداد بوقوع عمليات نهب وسلب لدوائر الدولة وبيوت المسؤولين والكثير من المحلات التجارية والبنوك، إضافة إلى الاستيلاء على الكثير منها. شارك في ذلك الكثير من جنود وضباط الاحتلال، لاسيما في نهبهم لثروتنا الوطنية من المتاحف العراقية والقصور الرئاسية والبنوك. إن هذه الأعمال المشينة عبَّر عن حالة الجماهير بعد 35 عاماً أو 50 من هيمنة القوى البعثية والقومية والاستبداد والظلم الذي عانت منه تحت حكم حزب البعث، إضافة إلى الحروب والمجاعات التي تسبب بها وعمقها وزاد فيها الحصار الاقتصادي الدولي.
خلال هذه الفترة تم إعلان الدستور المؤقت بمضامين ديمقراطية وتأكيد شراكة العرب والكرد في هذا الوطن، وحرية أتباع الديانات والمذاهب في ممارسة دياناتهم وطقوسهم، وتشكيل مجلس الرئاسة من ثلاث شخصيات سياسية تجمع بين المدنيين والعسكريين، وبين الشيعة والسنة وبين العرب والكرد في أن واحد، والخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، وعقد اتفاقية تصنيع البلاد مع الاتحاد السوفييتي وإصدار قوانين العمل والعمال والإصلاح الزراعي والأحوال المدنية وتوسيع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الاشتراكية وغيرها، والدعوة إلى إقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية والمجاورة، والانضمام لدول عدم الانحياز، ومبادرة تشكيل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وقرار استعادة 99،5% من الأراضي غير المستغلة التي كانت بحوزة شركات النفط الأجنبية، وتوزيع الأراضي السكنية على العائلات الفقيرة، لاسيما في مدينة الثورة، وتأسيس جامعة بغداد والتوسع في إرسال البعثات والزمالات الدراسية ومكافحة الأمية...الخ.
واجهت هذه الإجراءات ردود فعل متباينة على المستويات الداخلية والعربية والدولية. فعلى المستوى الداخلي وقفت الغالبية العظمى من المجتمع إلى جانب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والدولية التي مارستها حكومة عبد الكريم قاسم وأيدتها بحرارة، لأنها كانت تتطلع لها وتحتاجها، في حين كانت مجموعة صغيرة من الفئات التي تضررت بتلك السياسات، ممن أشير إليهم سابقاً. كما برزت صراعات سياسية جديدة في نهاية هذه الفترة بين مجموعتين سياسيتين مختلفتين من جهة، وحكومة الثورة من جهة أخرى، ثم تفاقمت في الفترة الثانية، وهما الحزب الديمقراطي الكردي (الكردستاني)، بسبب الموقف من القضية الكردية وتباين الرأي بينهما، ومن ثم المؤسسات الدينية السنية والمرجعيات الدينية الشيعية بسبب قانون الأحوال المدنية وحقوق المرأة الذي أقرَّ بعضها القانون، ومسائل أخرى تمس التحولات الاجتماعية التي وقفت القوى الدينية كلها ضدها والادعاء بشيوعية قاسم!!
وعلى المستوى العربي اتخذت الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر موقفاً مناهضاً لحكومة قاسم، لأنها لم ترفع شعار الوحدة معها، الشعار الذي طرحته القوى القومية والبعثية، وأدى إلى انشقاق الشارع العراقي إلى مجموعتين، إحداهما ايدت الوحدة وأخرى رفعت شعار الاتحاد الفيدرالي لتجاوز شعار الوحدة، رغم إن الوضع لم يكن مناسباً للشعارين. وتسبب هذا الصراع إلى نشوب خلاف جديد مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي طرح السؤال التالي: كيف سيكون وضع الكرد وكردستان في حالتي الوحدة أو الاتحاد؟
لم تكتف الجمهورية العربية المتحدة بطرح هذا الشعار، بل نظمت تحالفا ضد الثورة ونهجها وموَّلت القوى القومية والبعثية وكل المناهضين للثورة بالمال والسلاح والعتاد وسخَّرت الإعلام المصري والسوري وأسست إذاعة خاصة لتبث من دمشق باسم العراق. لم يمر على الثورة عامها الأول حتى نفذ أول تمرد وتآمر على جمهورية 14 تموز من جانب القوميين والبعثيين ومن ساندهم من القوى المتضررة من الثورة. وحصل هذا التآمر بعلم وتأييد تامين من عبد الناصر ومكتب المخابرات المركزية الأمريكي، حين تحرك العقيد عبد الوهاب الشواب ونفذ تمرداً فاشلاً في الموصل. وقد أدى إلى توترات إضافية شديدة في أوضاع البلاد السياسية، وإلى نزوح كبير للعائلات المسيحية وعائلات شيوعية بسبب حملة إرهابية واغتيالات مكثفة ضدهم.
لم تستطع الدول الرأسمالية وشركات النفط الاحتكارية قبول الثورة وعواقبها على وجودها العسكري ومصالحها الاقتصادية والسياسية في العراق، بما اتخذته حكومة الثورة من اجراءات عرَّضت الكثير من مصالحها ومواقعها إلى مخاطر جمة لا في العراق فحسب، بل في منطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط، مما دفعها إلى الدخول في عملية تآمر واضحة ضد الوضع الجديد والسعي لتشويهه في الصحافة والإعلام الدوليين وإثارة الإشكاليات الداخلية وتمويل القوى المتآمرة.
لم يكن الوعي السياسي للأحزاب السياسية العراقية كلها دون استثناء، رغم وجود تباين فيما بينها، ولجوء بعضها القوى القومية والبعثية إلى الاغتيالات والتآمر، في حين أيدت أخرى نظام الحكم الجديد، كما لم يكن قاسم والحكومة على مستوى المسؤولية الكبيرة. وكانت الحكمة القديمة تقول: القيام بالثورة أسهل بكثير من الاحتفاظ بزخمها وتنفيذ سياساتها وتطويرها وحمايتها. في هذه الفترة بالذات، لاسيما بعد محاولة الاعتداء على الزعيم قاسم من جانب قوى حزب البعث، برزت بشكل واضح أولى علامات الانفراد بالقرارات والإجراءات والاستفادة من صراع القوى والأحزاب السياسية العراقية لدى قاسم، وسعيه لتعزيز دوره والتخلي عن الوجهة الأساسية التي كان على الحكم السير صوبها، أي إرساء أسس الحياة الديمقراطية واعتماد دستور ديمقراطي متقدم ودائم وإجراء انتخابات نيابية، أي البدء بتسليم السلطة إلى المدنيين وعودة القوات المسلحة إلى معسكراتها لحماية حدود البلاد.
لقد حصلت صراعات حادة بين القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية من جهة، والقوى القومية والبعثية ومن ساندها من قوى النظام السابق من جهة ثانية، واستقطب الوضع حول وجهة تطور البلاد وتركز على شخصين هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف على التوالي. ورفعت الجماهير الواسعة، التي ملأت شوارع العاصمة والمدن الأخرى، شعارات منها: عاش الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم، والحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم، والاتحاد الفيدرالي، ولم يكن لقيادة الحزب الشيوعي دور في ذلك، ولكنها لم تقف ضدها. في حين برَّزَ البعثيون والقوميون وقوى رجعية عبد السلام محمد عارف ورفعوا شعار الوحدة وضد قاسم والشيوعيين وكل الديمقراطيين. وكان الوضع يزداد تأزماً. فتوجه قاسم بالقمع ضد القوميين والبعثيين بحدود ضيقة جداً وأعدم شخصيات عسكرية منهم، ثم غير الدفة فتوجه ضد الشيوعيين والديمقراطيين، لاسيما بعد وقوع الصراعات الدموية في الموصل وكركوك وسقوط قتلى وجرحى، ثم البدء بعمليات اغتيال للشيوعيين والديمقراطيين في مختلف مدن العراق من جانب قوى البعث والقوميين، إضافة إلى قيام الحكم باعتقال إعداد غفيرة من الشيوعين وزجهم في السجون بسبب رفعهم شعار "السلم في كردستان"، بعد أن بدأت المعارك بين الجيش العراقي والقوات المسلحة الكردية في أيلول عام 1961.
وفي الفترة الأولى، ومن أجل حماية مكاسب الثورة، اعلنَ قاسم قرار تشكيل المقاومة الشعبية رسمياً، وكان الشيوعيون واليساريون والديمقراطيون المستقلون قوامها الأساس. لعبت هذه المنظمة شبه العسكرية تحت قياد ضابط حكومي معين من قبل رئيس الحكومة دوراً في مواجهة بعض الأعمال المعادية والكشف عن بعض مؤامراتها، ولكن المعلومات الحيادية المتوفرة تشير إلى ارتكاب بعض الأخطاء من قبل بعض الشباب الأعضاء فيها وإساءة تصرف في هذه المدينة أو تلك. وقد شن المعادون للثورة حملة شعواء موجهة ضد المقاومة الشعبية، مما أدى إلى إعلان حلها وتعرض أفرادها إلى حملة ظالمة من جانب القوى المعادية للثورة.
أصدرت حكومة الثورة قراراً بتشكيل محكمة الشعب لمحاكمة النخبة القيادية الحاكمة في العهد الملكي، وفيما بعد من اتهم بالتآمر في أحداث الموصل وكركوك. وإذا كانت ضرورية ومعبئة في البداية، فإنها تحولت بمرور الوقت إلى منبر للخطابة والدعاية والسخرية من المتهمين. وأصبحت المحكمة غير متناغمة مع أصول المحاكمات الشرعية وحقوق الإنسان وحقوق المتهمين مهما كانت التهم الثقيلة الموجهة لهم، إلِّا إنها كانت تحاكي مزاج غالبة الناس ومستوى وعيهم ومدى وإدراكهم لحقوق الإنسان. وهي الأخرى تعرضت مع رئيسها فاضل عباس المهداوي إلى حملة كبيرة أدت في النهاية إلى إنهاء عملها.
انتهت الحلقة السادسة وتليها الحلقة السابعة.

100
 
نظرات في كتاب "مسيحيو العراق.. أصالة.. انتماء.. مواطنة" للدكتور كاظم حبيب
اسم المؤلف: د. كاظم حبيب
دار النشر: دار نينوى، دمشق
سنة الإصدار: 2018
يتضمن الكتاب ثلاثة أجزاء و17 فصلاً ومجموعة من المباحث في كل فصل. كما يتضمن 30 ملحقاً، إضافة إلى مجموعة من الصور وفهرس بالأسماء، ويقع الكتاب في 1072 صفحة.
 
يعالج الكتاب بمجمله واقع العراقيين المسيحيين منذ دخول المسيحية إلى وادي الرافدين (ميزوبوتاميا) في القرن الأول الميلادي حتى العام 2016/2017.
يتوزع الجزء الأول على فصلين: يبحث الفصل الأول في البوابات التي دخلت المسيحية منها إلى العراق، ومنها الرسل الأوائل، ودورهم الريادي في نشر المسيحية في هذه المنطقة من العالم وتبني المسيحية على نطاق واسع من سكان العراق ومعاناتهم في مواجهة الديانة الزرادشتية، قبل دخول الإسلام إلى العراق. ويشخص الدور الثقافي للكنيسة الشرقية في مدن ومدارس عديدة منها الرها ونصيبين وحدياب والحيرة في نشر التعاليم واللغة والآداب السريانية.
وفي الفصل الثاني يبحث في الصراعات التي نشبت حينذاك بين الكنيستين الغربية والشرقية وعواقبها على جموع المسيحيين في المنطقة. وكذلك الانشقاقات التي حصلت حينذاك ونشوء الطوائف المتصارعة وعواقبها على المسيحيين. إن الاستعراض المكثف والسريع للدين المسيحي في هذه المدن القديمة في بلاد ما بين النهرين كان الهدف منه التحري عن الفترات الزمنية التي وصل خلالها الدين المسيحي إليها والشخصيات أو الجهات الدينية أو الأسرى الذين أمنوا بالدين المسيحي ونشروه في هذه الديار. ويتبين من الدراسة أن الدين المسيحي لم ينقل دفعة واحدة إلى كل أنحاء بلاد ما بين النهرين، بل تم في فترات متباينة وبوسائل تبشيرية عديدة. وإذا كان وصول الرسل الأوائل قد تم في القرن الأول الميلادي، فأن القرون اللاحقة، وإلى حين مجيء المسلمين إلى هذه البلاد، في الثلث الأخير من القرن السابع الميلادي، شهدت وجوداً وقبولاً واتساعاً للدين المسيحي في أغلب مدن وارياف بلاد ما بين النهرين. وأن الكثير من هذه المدن في الشمال أو الجنوب أو الوسط قد أقيمت فيها الكنائس والأديرة المسيحية، والكثير منها قد اندثر ومنها ما يزال دون تنقيب. وما نقب وعثر عليه لا توجد عناية فعلية به حتى الآن. في حين تشكل هذه الكنائس والأديرة ثروة حضارية وتراثاً عراقياً مهماً وأصيلاً يشترك فيه مسيحيو العراق بمختلف طوائفهم، كما يهم المجتمع العراقي بأسره. ويمكن أن يشكل مزاراً لمسيحيي العالم.
أما الجزء الثاني فيتوزع على فصلين أيضاً. يبحث الفصل الثالث منه وبتوسع في موقف القرآن ونبي المسلمين محمد والخلفاء الراشدين من الدين المسيحي والمسيحيين. كما يبحث في المشاكل التي برزت ومواقف التمييز الديني إزاء المسيحيين، رغم العهود التي قطعت لهم، ومن ثم إجراء عمر بن الخطاب المخالف لتلك العهود في تهجير مسيحيي نجران إلى العراق، وعواقب ذلك وتأثيراته حينذاك وفي الفترات اللاحقة، وهي معززة بالوثائق.
أما الفصل الرابع بمباحثه الأربعة فيعالج بالوقائع والتحليل موقف الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية من المسيحية والمسيحيين والمشكلات التي واجهتهم رغم دورهم الثقافي والإنساني المميز خلال تلك العهود والعوامل الكامنة وراء تلك المواقف والفوارق النسبية المهمة بين تلك العهود في الموقف من المسيحية والمسيحيين وأسباب ذلك. إضافة إلى العواقب السلبية لمواقف التمييز والتهميش والإقصاء على الإنسان المسيحي ودوره في المجتمع. فرغم اعتراف الإسلام بالمسيح والديانة المسيحية، إلا إن الموقف ينطلق من اعتبار الدين الإسلامي هو أخر الأديان السماوية وعلى أتباع جميع الديانات الأخرى أن يدخلوا في الدين الإسلامي، وهو ما يشكل جوهر الصراع الذي ينشب بين أتباع الديانات ويتناقض مع القول الوارد في القرآن "لكم دينكم ولي دين"! وفي هذا القسم استشهادات كثيرة على صور التمييز والإساءة ولاسيما من جانب الخلفاء والحكام.
أما الجزء الثالث فيبحث في أوضاع العراقيين المسيحيين والمسيحيات في أعقاب الحرب العالمية الأولى والدولة الملكية العراقية الحديثة التي تأسست في العام 1921 والجمهوريات اللاحقة منذ العام 1958. ويتضمن هذا الجزء 13 فصلاً.
الفصل الخامس يبحث في تطور الواقع السكاني للمسيحيين وأوضاعهم في أعقاب سقوط الدولة العثمانية وفي ظل الدولة الملكية وموقف الدولة الجديدة من المسيحيين وصور التمييز التي ظهرت ضدهم في هذه الفترة. كما يضع الكتاب القراء والقارئات أمام المجزرة التي نظمت ونفذت ضد السكان الآشوريين من النساء والرجال في سهل سُمّيل وكذلك في مجزرة ديرابون وعواقبها على المجتمع المسيحي عموماً، وعلى مناطق سكناهم والعوامل الفعلية، ولاسيما غياب الديمقراطية والحكم الرشيد، والشوفينية والتمييز الديني، الكامنة وراء ما حصل للمسيحيين بطوائفهم العديدة. وفي هذا الجزء إدانة صارمة وشديدة لتلك الجرائم والأسباب التي أدت إليها، والموقف الخاطئة والسيئة للقوى والأحزاب والعرب والكرد منها.
أما الفصول 6، 7، و8 فتبحث بالتفصيل في أوضاع المسيحيين في الجمهوريات الأربعة اللاحقة وما تعرضوا له من اضطهاد ونزوح وتهجير قسري وتحت ضغط الواقع القائم حينذاك، ولاسيما في الفترة 1959 والفترات اللاحقة، إضافة إلى المجزرة البشعة التي نظمت ضد الكلدان المسيحيين في صوريا عام 1969 وأسبابها وما نجم عنها. وتتضمن أسماء الشهداء في هذه المجزرة والمجازر التي سبقتها، وأسماء الجرحى على وفق ما توفرت للباحث.
أما الفصل التاسع فيبحث في الجمهورية الخامسة، جمهورية النظام السياسي الطائفي، وما اقترن بوجود هذا النظام من استبداد ديني وتمييز واضطهاد وملاحقة وتشريد وقتل وحرق الكنائس وتفجيرها وقتل القساوسة والمطارنة من جانب المليشيات الطائفية المسلحة، السنية منها والشيعية، المحلية منها والعربية ومن شذاذ الآفاق، في الوسط والجنوب والشمال، وكذلك التغيير الديموغرافي لمناطق العائلات المسيحية في نينوى وإقليم كردستان العراق. ويورد الكاتب نماذج عما حصل وشهادات نساء ورجال مسيحيين تعرضوا لتلك الجرائم البشعة. وكذلك ما حصل للإيزيديين وغيرهم، من إبادة جماعية على ايدي الدواعش المجرمين، بعد أن سُلمت الموصل دون دفاع عنها من قبل النظام الطائفي والسكوت الدولي عن ذلك طويلاً. وفي هذا يقدم الكاتب الكثير من الوقائع والأرقام والشهادات حول ما حصل للعائلات المسيحية بالعراق.
الفصل العاشر يبحث بشكل خاص في اضطهاد المسيحيين في كل الإمبراطوريات تحت لواء الإسلام والدولة العراقية خلال القرون والعقود المنصرمة وبتفاصيل مذهلة.
الفصل الحادي عشر يتطرق بشكل خاص إلى العراقيين المسيحيين الأرمن منذ بدء وجودهم، ولاسيما بعد الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها في العام 1914-1915 في تركيا، والكوارث الي حلت بهم، ودورهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالعراق، وموقف الأتراك الراهن من تلك المجازر البشعة التي شكل ضحاياها جبلاً يقدر عددهم بأكثر من مليون ضحية.
الفصل الثاني عشر يتطرق في مباحثه الخمسة بالتفصيل وبالشواهد والتحليل إلى العوامل الكامنة وراء التمييز القومي والديني اللذين تعرض لهما مسيحيو العراق، والتغيير الديموغرافي الذي تعرضت له مناطق سكناهم التاريخية والراهنة بالعراق، وتفاصيل عن المؤتمر الذي عقد في برطلة وعنكاوة في مناهضة التغيير الديموغرافي وشجبه والمطالبة باستعادة المسيحيين لمناطق سكناهم. وكان الكاتب رئيساً لهذا المؤتمر ولجنته التحضيرية.
يتطرق الفصل الثالث عشر إلى واقع وعواقب تلك السياسات على وجود المسيحيين بالعراق والهجرة الكبيرة التي حصلت في فترات مختلفة ولاسيما في العام 2014-2016 وآثارها السلبية على مسيحيي العراق أولاً، وعلى المجتمع العراقي بشكل عام. وتشير الأرقام المتوفرة إلى أن مسيحيي العراق قد تقلص عددهم من مليون وربع المليون نسمة إلى حدود 300 ألف نسمة حالياً، ولا تزال الهجرة لم تتوقف، ولاسيما بعد النزوح العام عن الموصل وسهل نينوى في أعقاب اجتياح داعش للمنطقة. ويضع الكتاب شهادات وأرقاماً وإحصائيات مهمة تكشف عن الواقع المرَ للعائلات المسيحية في هذه الفترة العصيبة من تاريخ العراق ومسؤولية النظام السياسي الطائفي والقوى والأحزاب الإسلامية السياسية عن كل ذلك. 
اما الفصلان 14 و15 فيبحثان في دور المسيحيين الريادي والطليعي في مجالات الثقافة، والفنون، واللغة، والأدب والشعر العربي والسرياني، والقصة، والمسرح، والطباعة والصحافة، والطب.. الخ، إضافة إلى دورهم الاقتصادي، الصناعي والزراعي وفي قطاع البنوك والتجارة والتأمين. كما يتضمن الكتاب أسماء وادوار أعلام المسيحيين الكبار والرواد في هذه المجالات، وكذلك العدد الكبير ومن الوزن الثقيل لمثقفي ومثقفات العراقيين المسيحيين في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية العراقية. ويتحدث بتوسع عن بعض الأسماء المهمة الحديثة في دورها الثقافي والإعلام والروائي بالعراق.
يبحث الفصل السادس عشر في عواقب الحرب الأخيرة في نينوى والاحتلال والإرهاب على المجتمع العراقي، ولاسيما على مسيحيي العراق من حيث النزوح والمشكلات الناشئة عنها وسبل العيش اللاحق للمسيحيين بالعراق وسبل معالجتها.
الفصل السابع عشر يتطرق إلى آفاق معالجة أوضاع المسيحيين بعد تحرير الموصل وعموم نينوى، وما يفترض أن يحصل، على وفق مطالب المسيحيين، في الموقف من سهل نينوى (محافظة) أو غير ذلك، والمشكلات المعقدة الأخرى المرتبطة بفترة ما بعد التحرير من النواحي الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية.
وباختصار شديد يضع الكتاب أمام القارئة والقارئ بالعربية لوحة بانورامية مكثفة عن حياة ودور ومكانة المسيحيين الطليعي في الثقافة والاقتصاد والحياة الاجتماعية في وادي الرافدين منذ القرن الأول للميلاد حتى السنوات الأخيرة من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من جانب، والمآسي والكوارث التي تعرضوا لها بسبب الفكر الشوفيني والتمييز الديني من جانب آخر، وبسبب غياب الحياة الديمقراطية وهيمنة الاستبداد والقسوة والعنف والفساد في حياة المجتمع من جانب النظم السياسية الحاكمة والفئات الاجتماعية المهيمنة على الاقتصاد ودست الحكم من جانب ثالث. ويحاول ان يطرح الحلول الممكنة والضرورية في هذا الصدد.
لقد وقعت مأساة كبيرة في العام 1949-1951/1952 حين تم تهجير 130 ألف يهودي عراقي إلى إسرائيل، بتعاون تم بين أربع دول هي: بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل والعراق، وكان أغلبهم لا يرغب بالهجرة ويرى العراق وطنه ووطن أجداده. واليوم نحن نواجه حالة مماثلة، وأن كانت من طراز آخر وزمان آخر، ولكن الحقيقة الماثلة تؤكد إن قوى الإسلام السياسي بالعراق والمنطقة لا تريد للمسيحيين أن يبقوا بالعراق والمنطقة، واستمرار النظام الطائفي السياسي بالعراق يهدد باحتمال ذلك، في حين إن العراق وطنهم ووطن أجدادهم وفيه تراثهم الحضاري المديد. ومن هنا يفترض خوض النضال لإبقاء هذه اللوحة الملونة العراقية زاهية بالشعب المسيحي، بالكلدان والسريان والآشوريين والأرمن، وببقية اتباع الديانات. وهذا يتطلب عملاً نضالياً وتنويرياً مشتركاً وطويل الأمد، داخلياً وعربياً ودولياً، لكي نتجنب ما حصل ليهود العراق أو ما يمكن أن يحصل أيضاً للصابئة المندائيين أو حتى للإيزيديين. 
تشكل الملاحق جزءاً مهماً وأساسياً من الكتاب لما فيه من وثائق تاريخية، (قسم منها حذفه الرقيب السوري، كما حذف بعض النصوص من البحث ذاته أيضاً، ولم يتأثر مضمون الكتاب بهذا الحذف التعسفي وغير المسؤول)، وبعض المقالات والإحصائيات كشواهد على ما تعرض له المسيحيون، إضافة إلى أسماء شهداء المسيحيين خلال الفترة الواقعة بين 1933 حتى العام 2016/2017 وما تيسر للكاتب جمعه عبر التعاون النبيل مع أخوة مسيحيين ومنظمات مجتمع مدني مهتمة بشؤون المسيحيين بالعراق. ويتضمن الكتاب فهرس بالأسماء الواردة في الكتاب، ونبذة عن حياة الكاتب.
اعتمد الكاتب واستفاد في إنجاز الكتاب على مجموعة كبيرة من الكتب التاريخية الباحثة في الشأن المسيحي العراقي، سواء أكانت من باحثين وكتاب عرب أم أجانب، وسواء أكانوا من الآباء والكتاب المسيحيين أم من الكتاب والباحثين العلمانيين. كما استفاد من الكثير من الدراسات والمقالات القديمة والحديثة المنشورة في المجلات والصحف أو في المواقع الإلكترونية. وكذلك أجرى لقاءات مكثفة وعديدة ومفيدة جداً مع باحثين قساوسة ومطارنة من عنكاوة والموصل والقوش ودهوك ومع لغويين وباحثين مسيحيين. ويتضمن الكتاب فهرس بأهم وأبرز المصادر، إضافة إلى الهوامش.
نبذة عن الكاتب كاظم حبيب
من مواليد كربلاء 16/4/1935، حامل شهادات بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه PhD، ودكتوراه علوم DSc، أستاذ جامعي سابق، باحث علمي وكاتب وناشر وناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وعن أتباع الديانات والمذاهب في العراق، إضافة إلى كونه سياسي عراقي يعيش حالياً في المهجر. عضو في عدد من منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية.
أصدر حتى الآن ما يزيد عن 30 كتاباً وعشرات الدراسات والأبحاث وبين 2500 - 3000 مقالاً في حقول الاقتصاد والسياسة والمجتمع والبلدان النامية وقضايا حقوق الإنسان والمجتمع المدني وعن العنصرية والتمييز الديني والمذهبي. وأبرز كتبه "لمحات من عراق القرن العشرين"، ويقع في أحد عشر مجلداً، وكتاب عن "يهود العراق والمواطنة المنتزعة"، وكتاب عن "الإيزيدية ديانة عراقية شرق أوسطية قديمة"، والكتاب الأخير هو "مسيحو العراق.. أصالة.. انتماء.. مواطنة، إضافة إلى كتب: العولمة من منظور مختلف بجزأين، والفاشية التابعة في العراق، والتخطيط الاقتصادي، والاقتصاد الزراعي في العراق....

101
هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني للعهد الملكي في العراق؟
الحلقة الثالثة
أخفاقات العهد الملكي ونضوج مستلزمات إسقاطه
كاظم حبيب

اقترن تشكيل الدولة العراقية بسبعة حقائق موضوعية هي:
1) خضوع العراق للهيمنة البريطانية وتحت انتدابها المباشر وإشرافها الكامل على سياساته الداخلية والخارجية، حتى بعد إلغاء الانتداب ودخول العراق عضواً في عصبة الأمم في عام 1932، لما فيه مصلحة بريطانيا إلى أبعد الحدود الممكنة. وقد استمرت هذه الحالة حتى سقوط هذا النظام الملكي عام 1958. وتشير الكثير من المصادر إلى أن انتحار عبد المحسن السعدون، رئيس مجلس وزراء العراق عام 1929، جاء بسبب التدخل الفظ لبريطانيا في الشؤون العراقية الداخلية ورفضها تحقيق مطالب الشعب العادلة والذي قال في رسالة لابنه، "الشعب يريد والإنجليز لا يوافقون". (قارن: بدر خالد البدر/مع قافلة الحياة، 1987، الكويت).   
2) تولي ضباط عراقيون من ذوي التربية العسكرية والسياسية العثمانية، ومن جماعات مدنية خضع بعضهم الكثير لإرادة بريطانيا، كما في سلوك رئيس أول حكومة في عهد الاحتلال المباشر عبد الرحمن النقيب وبعض أفراد طاقمه، قيادة الدولة العراقية منذ تأسيسها وطبعوا البلاد بذهنيتهم العسكرية وتربيتهم العثمانية والروح القومية المتزمتة.
3) تم اختيار الأمير فيصل ملكاً على العراق، وهو أبن الجزيرة العربية، بدلاً من شخصية عراقية، وكان هناك أكثر من مرشح، ولكن الأمير فيصل كان صديقاً لدوداً لبريطانيا وللشخصية المميزة واللاعبة الكبيرة في السياسة العراقية مس گيرترود بيل، بعد أن عجز الفرنسيون تنصيبه ملكاً على سوريا وأجبر على مغادرتها. 
4) وكانت النخبة السياسية العراقية خلال فترة التأسيس خاضعة للابتزاز البريطاني، بسبب رغبتها في تأمين إلحاق ولاية الموصل بالعراق لدور بريطانيا في اتخاذ مثل هذا القرار في مجلس عصبة الأمم، لاسيما إصرار تركيا على التمسك بها.
5) وكان المجتمع العراقي الخارج لتوه من الظلمات إلى نور الحضارة الحديثة ما يزال يعيش فترة التخلف والأمية والجهل والمرض، كما كانت النسبة العظمى من الشعب تعيش حالة البداوة والفلاحة، إضافة إلى الفقر والفاقة العامة. وكان المجتمع العراقي يتكون قومياً من العرب والكرد والكلدان والسريان والتركمان والفرس، ومن أديان ومذاهب عديدة. ومن هنا جاءت شكوى فيصل الأول الذي صعق لتفكك المجتمع وصراعاته، بسبب سياسات تركيا وإيران وصراعاتها في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية قبل ذاك، إضافة إلى التخلف والجهل.   
6) وكانت العلاقات الإنتاجية السائدة فيه تتراوح بين الأبوية وشبه الإقطاعية بحكم العلاقة بين البدو والفلاحين من جهة، وشيوخ العشائر وكبار الملاكين من جهة أخرى، وصدور نظام العشائر الأول في فترة الاحتلال البريطاني عام 1916، إضافة إلى وقوف المؤسسات والمرجعيات الدينية إلى جانب شيوخ العشائر وكبار الملاكين والعائلات الميسورة.
7) الضغوط البريطانية المشتدة قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية من أجل ضمان مصالحها وتكريس وجودها وهيمنتها بأقصى وأطول فترة ممكنة، أدى إلى بروز مقاومة وطنية متنامية ضد الهيمنة وتكريس تلك المصالح والوجود الأجنبي.
من يطلع على تفاصيل الامتياز النفطي الممنوح للشركات الأجنبية عام 1924، أو على نصوص معاهدة 1930 وملاحقها السرية، لاسيما المالية والإدارية والعدلية والعسكرية، يدرك فحوى الاستعمار وعدم الإنصاف وطبيعة الصراعات التي نشبت حينذاك بين أطراف عراقية متشابكة فيما بينها ولا يمكن وضعها في بداية الأمر في قطبين مختلفين، إذ إن الاختلاف والاستقطاب بدأ يتبلور ويتفاقم بين قوى حاكمة وأخرى معارضة في الثلاثينيات وما بعده من القرن الفائت. وفي عام 1925 أقر دستور ديمقراطي متقدم كثيراً جداً قياساً لواقع المجتمع العراقي وبنيته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية المتخلفة، وكان مكسباً مهماً، رغم الخلل في اعتبار الإسلام دين الدولة، في حين إن الدولة لا دين ولا مذهب لها باعتبارها شخصية معنوية، بل الدين للناس وهم يؤمنون بديانات ومذاهب عديدة. ورغم إن الملك مصون غير مسؤول، والفصل بين السلطات الثلاث، فقد مُنح الملك حق تسمية رئيس الوزراء، وحل مجلس الوزراء، وحل مجلس النواب، والمصادقة على القوانين والقرارات.. التي شكلت خللاً في مضمون الدستور الديمقراطي وفتحت باباً واسعة لهيمنة الملك والسلطة التنفيذية على السلطات الثلاث والتي برزت في الفترة الثانية من العهد الملكي.   
برز أول إخفاق صاحب سياسات الحكومات العراقية في موقف النخبة الحاكمة السلبي من تنفيذ مطالب الشعب الكردي التي وردت كحقوق مشروعة وعادلة تضمُن تنفيذها الدولة العراقية على وفق اتفاق بشأنها قبل إلحاق ولاية الموصل بالعراق بين عصبة الأمم والملك فيصل الأول والحكومة في عام 1925/1926. علماً بأن عصبة الأمم هي الأخرى قد ابتلعت الموقف الذي ورد في معاهدة سيفر بحق الكرد في إقامة حكم ذاتي ليتطور إلى دولة مستقلة يمكن لكردستان الجنوبية أن تلتحق بها. وقد تسبب كل ذلك في نشوء تحركات وعمليات مختلفة تطالب بالحقوق المشروعة من جانب الكرد قادت إلى قتال وسقوط ضحايا كثيرة. ونجم موقف النخبة الحاكمة العراقية من التربية القومية العثمانية التي تعلمت بها وتثقفت عليها، والقائمة على كره الكرد واعتبارهم "ترك الجبال"، وليسوا شعباً بذاته له حقوق مشروعة، كما له واجبات كباقي شعوب العالم.
ثم برز الإخفاق الثاني في عام 1933 في نفاد صبر الحكومة العراقية في مواجهة مطالب الآشوريين العديدة والصعبة التحقيق، الذين استوطنوا العراق بعد خروجهم من تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى، واستخدام السلاح في موقع ديرابون أولاً، وفي سهل سميل ثانياً وحصول مجزرة بشرية ضدهم، كان يمكن تجنبها بالصبر والأناة والحكمة الضرورية.
وفي عام 1935/1936 انطلقت حركات فلاحية في الفرات الأوسط والأدنى مناهضة لسياسة الحكومة لأربعة أسباب جوهرية: قانون تسوية حقوق ملكية الأراضي الجائر بحق الفلاحين، ورفض الفلاحين الضريبة الاستهلاكية على الإنتاج الزراعي، إذ كانت ثقيلة على الفلاحين دون الملاكين والسراكيل، وضد التجنيد الإجباري للشبيبة الفلاحية، إذ كان الفلاحيون يستخدمون أبناؤهم في الزراعة، إضافة إلى تفاقم تهريب السلع إلى دول الجوار التي كانت ترفع من أسعار المتبقي منها في الداخل وترهق الفلاحين. (قارن: م.م ومیض سرحان ذیاب الربیعي، حركة العشائر في الفرات الاوسط والادنى، 1935-1936، معھد الإدارة في الرصافة/ هيئة التعليم التقني). وقد واجهت الحكومة هذه الحركات بالعنف واستخدام السلاح وأرسلت الجيش العراقي لضرب وقصف مواقع الفلاحين، إذ اعتبرتها الحكومة تمرداً يجب فظه بالقوة العسكرية. وكان الموقف مناهضاً للفلاحين ولصالح كبار الملاكين وكانت له عواقب وتبعات سلبية على المجتمع والعلاقة مع الدولة.
لقد أدت سياسات الحكومات المتعاقبة، الداخلية ومواقفها لصالح السياسات البريطانية، إلى بروز قوى وأحزاب سياسية معارضة لقوى حاكمة تتبادل تشكيل الحكومات فيما. وظهرت اتجاهات قومية يمينية مناهضة ليهود العراق، إذ فصل المئات من الموظفين اليهود من بعض الوزارات وإحلال مسلمين مكانهم في فترة وزارة أرشد العمري في عام 1934/1935، كما استمر تنامي عدد العاطلين عن العمل وعدم تنفيذ مشاريع موعودة، إضافة إلى بروز اتجاه قومي يميني شوفيني في الشارع العراقي، لاسيما في نهج نادي المثنى بن حارث الشيباني القومي اليميني وفي الموقف من يهود العراق، وتنامي التعاون بين النادي وأعضاءه ومؤيديه مع الدولة الألمانية النازية المناهضة لليهود والشيوعيين ومشاركة فعالة من قنصل ألمانيا في العراق الدكتور فرتس گروبه.
تبلورت وبرزت اتجاهات المعارضة السياسية في انقلاب عسكري عام 1936 مناهض للهيمنة البريطانية وسياسات الحكومة من مواقع الوسط واليسار، وبعض قوى اليمين أيضا، بقيادة بكر صدقي العسكري، الذي اغتيل عام 1937 وأعلن بموته فشل الانقلاب.
وفي عام 1938 أصدرت الحكومة العراقية ذيل قانون العقوبات البغدادي رقم (51) لسنة 1938، حيث نصت الفقرة الاولى من المادة الاولى" يعاقب بالإشغال أو الحبس مدة لا تزيد على سبع سنين أو الغرامة، أو كليهما، كل من حبذ أو روج بإحدى وسائل النشر المنصوص عليها في المادة 77 من هذا القانون أياً من المذاهب الاشتراكية أو البلشفية أو الفوضوية أو الإباحية". كما نص على الحكم بالإعدام على كل عسكري ينتمي للحزب الشيوعي العراقي. وهي نصوص مخالفة لبنود ومضامين الدستور العراقي التي تمنح الإنسان حرية العقيدة والفكر وحرية الرأي، وقد نص هذا القانون تحت ضغط مباشر من بريطانيا خشية تنامي الفكر اليساري.
اشتد الخلاف بين الحكومات العراقية المتعاقبة وقوى المعارضة وتبلور في انقلاب جديد قاده أربعة من الضباط العسكريين القوميين العرب ومن سياسيين من أمثال يونس السبعاوي ورشيد عالي الگيلاني والحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، و"حزب الشعب" القومي السري حينذاك. وتم هذا الانقلاب بدعم فعلي من المانيا الهتلرية ومن قوى مناهضة للهيمنة البريطانية. وقد حظي بتأييد واسع من جميع الأحزاب السياسية العراقية المعارضة. وقد جوبه بقوة وبطش من جانب القوات المسلحة البريطانية وانتهى بفشله وهروب قادة الانقلاب المدنيين والعسكريين إلى خارج العراق. وحين أُعيد العسكريون إلى العراق، حوكموا بسرعة وأعدموا. لقد كانت هذه أول أحكام بالإعدام على عناصر من قوى سياسية في العرق، مما أوجد شرخاً جديداً في العملية السياسية. كما أعدم في عام 1946 أربعة ضباط كرد عراقيين بسبب مشاركتهم في قوات جمهورية مهاباد الكردية التي أسست في عام 1946 في كردستان إيران، وبعد أن سلموا أنفسهم ووعدوا بإعفائهم من الإعدام. وكان الشرخ مع الحركة الكردية أعمق وأوسع وتبخرت ثقتهم بالحكم.
إن نشوء أوضاع ديمقراطية وحريات بسيطة في أعقاب سقوط دول المحور في الحرب العالمية الثانية في العراق دفع جمهرة من المثقفين والنشطاء السياسيين إلى تقديم طلبات تأسيس أحزاب سياسية وجمعيات مدنية، وقد منحت بعض الأحزاب السياسية، مثل الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، والاتحاد الوطني، وحزب الشعب، (راجع: محمد حمدي الجعفري، بريطانيا والعراق، حقبة من الصراع 1914-1958، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2000، ص 145)، في حين حرم حزب التحرر الوطني من العمل الشرعي، وهو قريب من الفكر اليساري والحزب الشيوعي. كما منحت عصبة مكافحة الصهيونية إجازة العمل العلني، ثم سحبت بذرائع واهية ونذير شؤم ضد يهود العراق. (راجع: حسين مروّة، ثورة العراق، دار الفكر الجديد1958، ص 33).
إن الخشية من حصول مدّْ ثوري يساري في البلاد توجهت الحكومة لتقليص الحريات العامة والحياة الديمقراطية البسيطة فعمدت إلى توجيه أول ضربة قاسية لمظاهرة 28 حزيران في بغداد حيث سقط فيها أول شهيد عراقي شيوعي هو شاؤول طويق، ثم تلتها حوادث مروعة أخرى منها: ضرب إضراب عمال النفط في كركوك بالحديد والنار وحصلت مجزرة كاورباغي في تموز 1946 راح ضحيتها 16 عاملاً و30 من العمال الجرحى، ثم وقعت مذابح أخرى مماثلة في قاعدة الحبانية وميناء البصرة وعمال سكك الحديد. وفي هذه الأجواء عمدت النخبة الحاكمة إلى بدء مفاوضات مع الحكومة البريطانية لاستبدال معاهدة 1930 بمعاهدة جديدة بسبب رفض الشعب للأولى، ولكن الشعب كان يرفض مثل تلك لمعاهدات. فوقع صالح جبر معاهدة بورتسموث في 15 كانون الثاني 1948، مما أدى إلى نهوض مظاهرات عارمة في كل أنحاء العراق، فكانت وثبة كانون التي سقط فيها شهداء واعتقال عدد كبير من المتظاهرين وتقديمهم للمحاكمة وصدور أحكام قاسية بحقهم من جهة، ولكنها استطاعت إلغاء هذه المعاهدة وسقوط وزارة صالح جبر من جهة أخرى. وفي ذات الوقت حصل جزر شديد في الحركة الديمقراطية العراقية، مما شجع الحكومة وبدفع مكثف من بريطانيا إلى إعدام خمسة من قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين اعتقلوا خلال الفترة 1947-1949، وهم أعضاء ثلاث من أعضاء المكتب السياسي يوسف سلمان يوسف وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي، إضافة إلى إعدام عضوين في اللجنة المركزية هما ساسون دلال ويهودا صديق يهودا.       
مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي تبلور صراع جديد على الصعيد العالمي بين الاتحاد السوفييتي ومجموعة من الديمقراطيات الشعبية في أوروبا وفي الصين، وبين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. وأصبح العراق جزءاً من الحرب الباردة التي تفاقمت سنة بعد أخرى بين المعسكرين ووقف إلى جانب المعسكر الغربي. ومن هنا بدأت محاولات جادة لجعل العراق عضواً في أحلاف عسكرية تقودها بريطانيا أو الولايات المتحدة تحت عنوان "الدفاع المشترك"، في حين كانت القوى السياسية المعارضة تقف ضد توريط العراق في هذه الأحلاف وإلى جانب الحياد الإيجابي الذي بدأ يتبلور من دول نامية في القارات الثلاث. كما واجه المجتمع مشكلات عديدة كالبطالة والفقر وغياب الحريات وامتلاء السجون بالمعتقلين السياسيين والتعذيب الشرس في مديرية التحقيقات الجنائية والشعب الأمنية في مدن الألوية. لهذا تجلت مطالب الشعب والمتظاهرين في عام 1952 بعدد من المطالب الملحة منها: إلغاء معاهدة 1930، تشكيل حكومة ديمقراطية، وتعديل قانون الانتخابات، وإلغاء الأحكام العرفية، وإعادة حرية التنظيم السياسي والنقابي.. إلخ. ولما يئست القوى السياسية من اتخاذ أي إجراء سليم، ولم تنفع اعتصامات وإضرابات طلبة الكليات في بغداد والمظاهرات التي امتدت إلى سائر أنحاء العراق في لجم الحكومة عن إجراءاتها غير الديمقراطية طيلة الفترة الواقعة بين بداية المظاهرات وتشكيل الوزارة الجديدة بعد استقالة مصطفى العمري وتسليم السلطة لرئيس أركان الجيش الفريق الأول نور الدين محمود. كما لم تستطع الحكومة إيقاف المظاهرات مما جعلها تعمد إلى إعلان الأحكام العرفية ومنع التجول في البلاد وإنزال قوات الشرطة والشرطة السياسة وقوات الجيش إلى الشوارع واستخدام العنف ضد المتظاهرين، مما أدى إلى سقوط ضحايا قتلى وجرحى. وفي مواجهة هذه الانتفاضة استخدمت القوات المسلحة الرصاص الحي وثم ولأول مرة الغاز المسيل للدموع وإلى شن حملة اعتقالات واسعة بين صفوف المتظاهرين أو اعتقالهم ليلاً ومن بيوتهم، مما أدى إلى أن يكون يوم 23 تشرين الثاني اليوم الأخير في انتفاضة تشرين الثاني 1952. ومن الجدير بالذكر إن أحد الساخرين أرسل برقية إلى رئيس الوزراء الجديد قال فيه "تسعيركم الشلغم أثلج صدورنا!"، لأن رئيس الوزراء كان قد أصدر بعض الإجراءات بأمل تهدئة الأوضاع.
 
التتمة في الحلقة الرابعة: عن أخفاقات العهد الملكي ونضوج عوامل ومستلزمات الثورة.   

102
هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني للعهد الملكي؟
كاظم حبيب

الحلقة الثانية
منجزات العهد الملكي في العراق

تخلص العراق من ظلمتي النظام الاستعماري العثماني القديم والبالي، ظلمة التخلف والجهالة، وظلمة الفقر والقهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الظلمة المعرقلة لكل نمو وتقدم وتطور، مع نهاية الحرب العالمية الأولى ووقوعه تحت الاحتلال الاستعماري البريطاني. مع بدء الاحتلال بذلت بريطانيا الجهود الكبيرة لجعل العراق جزءاً من التاج البريطاني ومشابها لوضع الهند، ولكنها فشلت في ذلك تحت ضغط الحركات الشعبية الثورية في سائر أنحاء العراق، ابتداءً من انتفاضة نجم البقال في النجف وثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية في عام 1919، وأخيراً ثورة العشرين في عام 1920، وأجُبرت الدولة البريطانية على صرف النظر عن مشروعها الأول والإقرار بمطلب تأسيس الدولة العراقية الملكية في عام 1921، مع وضعها تحت الانتداب البريطاني بقرار من مجلس عصبة الأمم.
مع تشكيل الدولة الجديدة وانتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق الحديث. إذ رغم علاقاته الحميمة مع بريطانيا، أبدى الملك فيصل الأول مسؤولية كبيرة إزاء المجتمع العراقي وتوجهاً علمانياً وعقلانياً في وضع أسس الدولة العراقية، مع السماح لبريطانيا بتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية ووجودها المديد في البلاد عبر اتفاقيات ثنائية ملزمة. فتم منح شركات النفط الاحتكارية امتياز النفط لعقود عدة في عام 1924 مع حصة ضئيلة قدرها أربع شلنات ذهب عن كل برميل نفط خام يصدر إلى الخارج، ثم البدء مباشرة بمباحثات لوضع معاهدة تضمن الوجود العسكري المديد للقوات البريطانية في البلاد والتي وقع عليها في عام 1930، كما أُقر الدستور العراقي الديمقراطي في عام 1925، رغم تضمينه مادة تقول بأن "الإسلام دين الدولة الرسمي"، إذ أن الدولة لا دين لها، بل الدين للناس لا غير. وفي عام 1926 ألُحقت ولاية الموصل بأقضيتها العربية والكردية بالدولة العراقية مع تقديم التزامات من جانب الملك فيصل والحكومة العراقية بمنح الكرد بعضاً من حقوقهم المشروعة والمهمة، ولكنها لم تقترن بضمانات فعلية.
جرت في هذه الفترة انتخابات المجلس النيابي وتعيين أعضاء مجلس الأعيان، حيث كانت تجري فيه نقاشات حرة نسبياً، رغم أن الحكومة، ومعها بريطانيا، كان لها اليد الطولى في التأثير على جو الانتخابات والمرشحين وأعضاء المجلس. وكانت جريدة الوقائع العراقية الرسمية تنشر تفاصيل جلسات مجلس النواب ومناقشات النواب في مختلف المسائل المطروحة للنقاش والإقرار ويطلع عليها من يريد. وكانت بداية فعلية لبناء مجتمع مدني في بلد كانت أكثريته بدوية وفلاحية ويعم الجهل والأمية والفقر في البلاد. وفي هذه الفترة بالذات برزت صراعات متعددة الاتجاهات، وتتفاقم سنة بعد أخرى، وهي:
1)   صراع حول دور بريطانيا في السياسات الداخلية والخارجية، إذ كان هناك من رفض هذا الدور ومن أيده ودافع عنه، والذي تجلى فيما بعد بانقسام النخبة السياسية إلى قوى معارضة، أخرى تمسك بزمام الحكم. 
2)   صراع بين البداوة والحضر والتي كتب عنها الدكتور علي الوردي في العديد من مؤلفاته الاجتماعية المهمة، كما نجدها في كتب الدكاترة شاكر مصطفى سليم وإبراهيم الحديري وفالح عبد الجبار.
3)   صراع حول المرأة وتعليمها ودورها في المجتمع وما أطلق عليه بـ "السفور" أي نزع المرأة عباءتها"، وتجلى في الصحافة العراقية، حيث انبرت هيئة تحرير جريدة "الصحيفة" في تكثيف الكتابة عن أهمية وضرورة تحرير المرأة من أغلالها وقيود المجتمع البالية، وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي واحداً من أبرز مؤيدي حرية المرأة.     
بعد مصادقة الحكومة العراقية على معاهدة 1930 وملاحقها العديدة التي واجهت معارضة شديدة من القوى السياسية العراقية والتي قال عنها الشاعر معروف الرصافي (ت 1945): "والعهد بين الإنجليز وبيننا... كالعهد بين الشاة والغربال" (الرسالة العراقية، انظر رشيد الخيون، نوري السعيد وبريطانيا).
وافقت بريطانيا على تقديم طلب بإنهاء حالة الانتداب البريطاني على العراق، حيث تم فعلاً في عام 1932، وبالتالي أصبح العراق من حيث المبدأ مستقلاً عن بريطانيا، ولكن لم يتخلص من وجودها ومستشاريها في كافة الوزارات العراقية وتدخلها في الكثير من الشؤون العراقية. وقد وصف الشاعر محمد باقر الشبيبي (ت1960) الوضع حينذاك بقوله:
قالوا استقلت في البلاد حكومة        فعجبت إن قالوا ولم يتأكدوا
أحكومة والاستشارة ربها             وحكومة فيها المشاور يعبد
المستشار هو الذي شرب الطلا     فعلام يا هذا الوزير تعربد؟
ورغم ذلك تمتع العراق خلال هذه الفترة القصيرة بأجواء من الحرية والديمقراطية العامة والنسبية التي تناغمت مع حالة المجتمع الخارج لتوه من ظلمات الدولة العثمانية ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي العام. وقد تمتع بهذه الحريات أتباع مختلف الديانات والمذاهب، كما أمكن تأسيس بعض الأحزاب والجمعيات وتوفرت حرية عقد الاجتماعات وتنظيم المظاهرات.
وقبل وفاة الملك فيصل الأول وقعت بعض الأحداث المرعبة، كما في معركة ديرابون على الحدود العراقية السورية أو مذبحة سهل سميل حيث قتل الكثير من الآشوريين، وكان بالإمكان تفاديها، على وفق تقدير الملك فيصل الأول أيضا. وقد اشتكى الملك فيصل الأول من تفكك وتخلف المجتمع العراقي، وسعيه الجاد لبناء دولة حديثة و"أمة" عراقية من قوميات مختلفة ومجتمع مدني في مادة له وجهها للشعب العراقي قبل وفاته.
توفي الملك فيصل الأول في عام 1933 وتسلم غازي الأول العرش بعد وفاة والده في عام 1933 وتوّج ملكاً على العراق. في عهده برزت جملة من الإشكاليات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالوضع السياسي، لاسيما وأن حياة التخلف والجهل والأمية والفقر والبطالة قد سادت البلاد ولم تعالج خلال الفترة القصيرة المنصرمة. كما برز تيار قومي يميني في الحكم توجه ضد يهود العراق وإزاحتهم من وظائف الدولة في العام 1935، إضافة إلى توجه ملموس صوب النازية الألمانية والدولة الهتلرية من قبل قوى "نادي المثنى بن حارث الشيباني" الذي تأسس في العام 1935.  وقبل ذاك أقرت قوانين الخبير البريطاني في شؤون الأرض ارنست داوسن الجائرة في عامي 1932/1933 والتي أطلق عليها بـ “قوانين تسوية حقوق ملكية الأراضي” ثم استكملت بقوانين مجحفة أخرى في عام 1938، ثم صدرت قوانين وتعديلات أخرى في عامي 1951  و1952، حول بيع الأراضي الأميرية التابعة للدولة والتي كُرَّست، بموجب جميع تلك التشريعات، علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية الاستغلالية في الريف العراقي، حيث تم انتزاع الأراضي من أيدي الفلاحين الفقراء وصغار المنتجين ووضعت في أيدي شيوخ العشائر والمتعاقدين السابقين مع الحكم العثماني وتجار المدن والعائلات الميسورة. وعليه كرست سيطرة كبار الملاكين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على الريف والفلاحين والإنتاج الزراعي والريع الزراعي. فتفاقمت مشكلة الأرض والزراعة والفلاحين، كما تصاعدت رغبة التصنيع بعد بدء تصدير النفط في نفس العام، رغم قلة التصدير حينذاك وحصة العراق الضئيلة من إيراداته.
تبلورت في الثلاثينيات من القرن العشرين أحزاب جديدة منها الحزب الوطني (1929/1930)، وجماعة الأهالي والإصلاح الشعبي (1933/1934) والحزب الشيوعي العراقي (1934)، ونادي المثنى بن حارث الشيباني القومي (1935). وخلال هذه الفترة بالذات وفي أعقاب عقد معاهدة 1930 انشطرت القوى السياسية في البلاد إلى مجموعتين، رغم التداخل بينهما، قوى الحكومة وقوى المعارضة السياسية، خاصة بعد أن وقعت أحداث مناهضة لسياسة الحكومة في عامي 1935/1936 في الفرات الأوسط وفي كردستان العراق.
في عام 1936 حصل انقلاب بقيادة بكر صدقي العسكري-حكمت سليمان، وبتأييد من جماعة الأهالي والحزب الوطني، الذي كان قد التحق بالأهالي. وكان أول انقلاب عسكري في الدولة الحديثة. لم يستمر حكم الانقلابيين طويلا، حيث قتل قائد الانقلاب عام 1937 في مطار الموصل فسقطت بموته الحكومة. ولكن هذا الانقلاب أقلق القوات البريطانية كثيراً، لاسيما وإن نظام الانتداب لم يعد قائماً وأصبح العراق دولة مستقلة من الناحية الرسمية، كما نشأت بدايات أجواء غير ديمقراطية في نظام الحكم وإزاء المجتمع بضغط متزايد من بريطانيا. وحصلت خلال الفترة 1936-1940 سلسلة من التشكيلات الوزارية المتعاقبة إذ كانت تحل بعد سنة أو أقل لتشكل حكومة جديدة. وكان هذا أحد الأسباب التي تذرعت به الحكومات المتعاقبة لتشير إلى إنها عجزت عن تحقيق البرامج الاقتصادية الثلاثية التي كانت تضعها والتي أوقفتها مع بدء الحرب العالمة الثانية. خلال هذه الفترة تنامي عدد العاطلين عن العمل وعدد الفقراء وتفاقمت أوضاع الفلاحين المعيشية، كما ازداد التجاوز على الحريات العامة بإصدار قوانين لا تنسجم مع مواد ومضامين الدستور، وكذلك تفاقمت تجاوزات دائرة التحقيقات الجنائية وشُعبها الخاصة في الألوية، إضافة إلى تصاعد تأثير ألمانيا النازية على القوميين العراقيين ومناهضة الوجود البريطاني في البلاد. قادت مجمل هذه الأوضاع إلى انقلاب عسكري قومي قاده الضباط الأربعة زائداً يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني ومحمد أمين الحسيني (مفتي القدس) وحزب الشعب القومي السري في الأول من أيار/مايس 1941. بعد مرور شهر سقط الانقلاب تحت ضربات القوات البريطانية التي اشتبكت بمعارك ضارية مع قوات الجيش العراقي وانتصرت عليها. علماً بأن هذا الانقلاب القومي قد حاز على تأييد غالبية القوى السياسية بما فيها قوى اليمين واليسار، ومنها الحزب الشيوعي العراق. وبعد سقوط حكومة الانقلاب مباشرة، أي في يومي 1 و2/حزيران/يونيو 1941 وقعت عمليات قتل للمواطنين والمواطنات اليهود وسلب ونهب لدورهم ودكاكينهم، أطلق عليها "فاجعة الفرهود". لقد شارك في هذه المجزرة، التي قتل فيها 144 مواطنة ومواطنا من يهود العراق، جمهرة من المناهضين لليهود وافراد من الجيش العراقي المهزوم ومجموعة من فدائيي يونس السبعاوي وكثرة من سكان أطراف بغداد. بعد هذه الأحداث تصاعد بشكل كبير دور وتأثير وتدخل بريطانيا في السياسات العراقية الداخلية والخارجية. وهي التي عمقت الخلاف بين قوى الحكومة وقوى المعارضة لا بسبب دور بريطانيا فحسب، بل وفي توجهات السياسة الداخلية.
في اعقاب الحرب العالمية الثانية وفي الأجواء الديمقراطية التي سادت العالم بعد انكسار القوى النازية والفاشية والعسكرية (دول المحور الثلاث، ألمانيا وإيطاليا واليابان) انتعشت الحياة السياسية في العراق، فتأسست بعض الأحزاب والجمعيات ومنعت أخرى وصدرت الصحف والمجلات وتنامت الحركات المطالبة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتغيير شروط امتيازات النفط الممنوحة للشركات الأجنبية (شركة نفط العراق) وفي النصف الثاني من العقد الرابع تم تأسيس (شركتي نفط البصرة والموصل)، واتسعت المعارضة السياسية لمعاهدة 1930.
في عام 1947 بدأت مفاوضات مع بريطانيا لوضع اتفاقية جديدة لتحل محل معاهدة 1948 وقد تم التوقيع عليها في عام 1948 في مدينة بورتسموث من قبل صالح جبر رئيس الوزراء والتي تسببت في حصول وثبة كانون عام 1948 واستطاعت إلغاء الاتفاقية، ولكن الحركة الوطنية أصيبت بالتراجع وعاشت جزراً موجعاً حيث تفاقم القمع في البلاد وازدادت السجون وعدد السجناء.
في عام 1952 وافقت شركات النفط الأجنبية على مبدأ المناصفة في إيرادات صادرات النفط العراقي، ابتداءً من عام 1950/1951، وبالتالي توفرت للعراق إمكانيات مالية أفضل، فشكلت الحكومة مجلس ووزارة الإعمار فأقدما خلال الفترة بين 1952-1958 إلى وضع برامج اقتصادية مهمة وواسعة، ولكن أغلب تلك المشاريع لم يرَ النور، بسبب كثرة التبدلات في التشكيلات الوزارية والوضع السياسي الملتهب وعجز الحكومة عن تأمين الحياة الديمقراطية. ومع ذلك أقيم عدد من المنشآت الصناعية الخفيفة والاستهلاكية في أنحاء مختلفة من البلاد. كما توفرت إمكانيات أفضل للزراعة حيث ارتفع عدد المضخات المائي المستخدمة على ضفاف الأنهر، وبعض المكائن الزراعية، ولكن بقى العمل اليدوي الفلاحي هو السائد في الزراعة العراقية والأساليب القديمة البالية. 
في عامي 1952 و1956 حصلت انتفاضتين ضد السياسات الداخلية والخارجية في الأولى، وضد موقف الحكومة العراقية من تأميم قناة السويس ومن العدوان الثلاثي على مصر تحديداً. حيث استخدم نظام الحكم الحديد والنار ضد المتظاهرين فسقط بعض الشهداء في الانتفاضتين. في عام 1957 أقيم الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن وشكلت في العام 1958 أول حكومة مشتركة لهذا الاتحاد دون ان يُسأل الشعب العراقي ويؤخذ رأيه بذلك!
والخلاصة، يمكن تقسيم العهد الملكي إلى فترتين: تمتد الأولى من عام 1921 وتنتهي يعد عام 1933، حيث لعب الملك فيصل الأول دوراً مهماً في التأثير على سياسات الحكومة العراقية ومنع تدهور الحريات العامة. ومن أبرز منجزات العهد الملكي في هذه الفترة هو الاتفاق على إلحاق الموصل بالعراق بدلاً من جعلها جزءاً من الدولة التركية الجديدة، والبدء ببناء المجتمع المدني وفسح المجال أمام الحريات العامة والبدء بنشر التعليم الحديث وبناء المدارس للأولاد والبنات، إذ توفرت فرص لا بأس بها لدخول أبناء وبنات العائلات المتوسطة والضعيفة فيها وبدء تقلص عدد البدو لصالح الريف والزراعة والتوطن. أما في الفترة الثانية فقد بدأ التراجع التدريجي عن الحريات العامة وتنامى التشدد وتبلور في بروز معارضة سياسية منذ عام 1932/1933، لاسيما بعد وقوع الانقلابين العسكريين، واستمر حتى سقوط النظام الملكي. وفي هذه الفترة يمكن القول باحتدام الصراعات السابقة وتبلورها أكثر فأكثر. ومع ذلك فقد اتسع التعليم ونشأت صناعة وطنية خفيفة في القطاعين العام والخاص إضافة إلى قطاع مختلط، كما تم تأسيس المزيد من المدارس والكليات والمعاهد التربوية والمهنية وإرسال البعثات إلى الخارج للدراسة. وتقلص سكان البادية لصالح سكان الريف، وكذلك انتقال الكثير من سكان الريف إلى المدن وزيادة الولادات وتقلص وفيات الأطفال، بحيث حصل في نهاية هذه الفترة تغيراً ملموساً في ميزان القوى السكانية لصالح الحضر. لم تكن في بداية هذا العهد أجواء مناهضة لأتباع الديانات الأخرى والمذاهب أو ضد الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى، لاسيما في عهد الملك فيصل الأول، في حين برزت ظاهرة التمييز في الفترة الثانية.
لقد أشرنا في هذه الحلقة إلى أهم وابرز منجزات العهد المكي وجوانه الإيجابية، وستتضمن الحلقة الثالثة الجوانب السلبية أو الإخفاقات الفعلية لنظام الحكم الملكي والتي قادت إلى بروز الشروط الموضوعية والذاتية لحركة الضباط الأحرار في الانقضاض على الحكم عسكرياً وإسقاطه، وخروج الشعب كله ليعلن ثورته في صبيحة اليوم ذاته في 14 تموز 1958.     

103
هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني للعهد الملكي؟
كاظم حبيب

الحلقة الأولى
المدخل، التباين في وجهات نظر المناهضين لثورة تموز 1958

من يتابع مواقع الاتصال الاجتماعي، لاسيما الفيسبوك، سيجد أمامه مجموعة من التعليقات السياسية النقدية التي تعتبر العهد الملكي وكأنه كان مدنياً حراً وديمقراطياً، حيث تمتع الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية بالحياة الحرة والكريمة، وأن النظام الملكي قد حقق لهذا الشعب الكثير من الحقوق والمصالح الأساسية والحيوية. وعلى أساس هذا التصور يرى هذا البعض غير القليل بأن إسقاطه عبر انقلاب عسكري أو انتفاضة عسكرية كان عملاً غير مبرر وغير سليم وأساء للشعب. وإن معاناة الشعب طيلة العقود المنصرمة وما تعرض له من كوارث ومآسي ومحن كانت كلها بسبب لذلك الانقلاب. وبالتالي شنت حملة ظالمة وهستيرية ضد منجزات ثورة تموز في سنواتها الأولى. لاسيما وأن البعض منهم يريد أن يتجاوز تلك القوى الداخلية والخارجية التي تآمرت على منجزات الثورة ونظمت وقادت ونفذت انقلاب شباط الدموي عام 1963 وما تبعه من انقلابات عسكرية دكتاتورية وحروب داخلية وخارجية وإبادة جماعية واحتلال وحصار دولي واجتياح وغزو وسبي واغتصاب وبيع النساء في سوق النخاسة "الإسلامي"!! 
أقدر بأن الناس الذين يتحدثون بهذه الوجهة لا يلتقون في منطلق واحدة أو رؤية واحدة ولا هدف واحد، بل هناك تمايز كبير واحياناً تقاطع بينهم استناداً إلى عوامل كامنة وراء تلك المنطلقات والرؤى. ومن هنا تنشأ الحاجة لمتابعة ومناقشة مثل هذه الرؤى المتباينة بكل هدوء وموضوعية، لكي نتبين ما فيها من صواب أو خطأ، لاسيما وان هناك جمهرة ممن يحمل مثل هذه الرؤى هم من الشبيبة التي يفترض طرح الحقائق والوقائع أمام أبصارهم وبصائرهم، لاسيما من أولئك الذين عاشوا مرحلة الثورة والمراحل اللاحقة ولا زالوا على قيد الحياة، ومنهم الكاتب نفسه.
لا يجوز لمن يبحث في تلك الفترة أن يرمي تلك الأفكار والآراء والانتقادات، وهي متباينة حقاً في منطلقاتها وتفاصيلها وغاياتها، في سلة واحدة، وكأن ليس هناك من تفاوت كبير وكبير جداً أحياناً بين من يتحدث بها. لهذا فنحن بحاجة إلى حوارات هادئة ونقاشات فكرية وسياسية موضوعية، جدية ومسؤولة، ازاء هذا الاستنتاج السياسي والاجتماعي.
الأسئلة التي تواجه من يكتب بهذا الموضوع كثيرة منها: من هم الذين أطلقوا هذا الاستنتاج السياسي أولاً، وما زالوا يرددونه؟ وما هي العوامل التي تدفع بهم إلى طرح مثل هذا الاستنتاج ثانياً؟ وما هي اهدافهم الفعلية ثالثاً؟ وهل كل ما ادَّعوا به خاطئ أم أن فيه ما يدعوا إلى التفكير والتمييز بين بعض منطلقات القائلين به رابعاً؟ وأخيراً، كيف يمكن خوض المواجهة الفكرية والسياسية مع تلك المجموعات المتباينة القائلة بهذا الاستنتاج السياسي والتمييز العقلاني فيما بينها؟ كما يفترض أن نميز بحرص ومسؤولية عن فترتي حكم عبد الكريم قاسم، الفترة الأولى التي تمتد حتى اعام 1960/1961، والفترة الثانية التي تمتد بين 1961-1963 حيث وقع الانقلاب الدموي الذي قاده تحالف سياسي-اجتماعي-اقتصادي رجعي من قوى داخلية وخارجية، ومدى مسؤولية عبد الكريم قاسم في ذلك.   
أعبر هنا عن قناعاتي الشخصية المستمدة لا من أيديولوجية معينة، بل من معايشتي الفعلية لواقع العراق حينذاك وقناعتي التامة حول مسائل مهمة مثل: كيف كنت أرى مجرى الأمور حينذاك؟ وما هي المشكلات التي كانت تحرك الناس لمعارضة النظام الملكي والتصدي للأوضاع البائسة التي كانت تعيش تحت وطأتها؟ وهل يختلف تقييمها اليوم عن الفترة التي سادت فها تلك الأوضاع؟
لقد كنت ومازلت أبذل الجهود لكي أكون موضوعياً وصادقاً مع نفسي ومع من يتابع قراءة المقالات والكتب التي انجزتها ونشرتها، وكذلك مع الأجيال القادمة، التي لها الحق في التعرف على الوقائع التاريخية بصدق ومسؤولية، وأرجو أن أوفق في هذا المسعى. وأشير هنا بأن ليس من حق أحدٍ أياً كان أن يدعي الصواب فيي كل ما يكتب، ولكن أؤكد بأن ما أكتبه وأسجله يعبر عن قناعتي الشخصية، القابلة للصواب والخطأ.
من هم الذين يجدون العهد الملكي دولة ديمقراطية حرَّةً؟
عبر قراءاتي لآراء ومداخلات جمهرة من الناس الذين تبنوا الرأي القائل بـ "خطأ إسقاط النظام الملكي"، تبلورت لديَّ المجموعات التالية:
1)   مجموعة من الشبيبة التي لم تتعرف على النظام الملكي، ولكنها تعيش مأساة النظام الحالي، وكذلك تلك التي عرفت مأساة وكوارث وحروب النظام البعثي التوسعية، وسَمَعتْ من جهات بعينها رأيها في النظام الملكي وحسناته، وابتعدت كلية عن ذكر سوءاته، التي كانت سبب الإطاحة به.
2)   مجموعة من الناس التي عاشت مرحلة النظام الملكي وعرفت سوءاته، ولكنها عند مقارنة ما حصل فيما بعد، ولاسيما بعد انقلاب شباط/فبراير 1963، تجد إنه كان أفضل بكثير من العيش في ظل نظام البعث أو في ظل النظام الطائفي والفاسد الحالي.
3)   مجموعة لبرالية فكرا ًوسياسة تؤيد النظام الملكي وتكتشف بعض سيئاته، ولكنه كان البداية للتطور المدني التي قطعها ضد النظام الجمهوري اساساً من جهة، وهي في الغالب الأعم ذات منحى يميني وضد القوى اليسارية، ولاسيما ضد الحزب الشيوعي العراقي، وتوجه نيرانها ضدهم وكأنهم وحدهم كانوا وراء إسقاط النظام الملكي أو الخراب الذي حصل فيما بعد.
4)   مجموعة من الناس من عائلات محافظة وميسورة تضررت من منجزات ثورة الرابع عشر من تموز 1958، منهم مثلاً كبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقارات وكبار التجار الكومبرادور والمؤسسات والمرجعيات الدينية ... الخ، وهؤلاء جميعاً يحنون للماضي ويكرهون الثورة التي أطاحت بحكمهم الملكي وامتيازاتهم ومصالحهم حينذاك. علماً بأن هؤلاء قد استعادوا جل، بل وأكثر مما صادرته ثورة تموز 1958 من الأراضي التي كانت بحوزتهم أو السلطة التي أخذت منهم وزادوا عليها نهباً وسلباً للمال العام.
من هنا يمكن أن نتبين بأن العوامل المحركة للمجموعة الأولى هي غير العوامل المحركة للمجموعة الثانية ولا للثالثة ولا للرابعة ولا للخامسة، في حنينها للنظام الملكي أو في تقريعها للقوى التي قامت بثورة تموز 1958، أو تلك التي ساندتها وأيدت مجموعة من السياسات الديمقراطية التي مارستها حكومة الثورة، لاسيما في الفترة الأولى من قيامها. أما في الحلقة الثانية فسيكون البحث في المسألة الثانية.




104
كاظم حبيب
من يقف وراء محاولة اغتيال الدكتور محمد علي زيني؟
السيد الدكتور محمد علي زيني شخصية وطنية وديمقراطية عراقية اختص في موضوع النفط. نشر كتابين أحدهما حول الاقتصاد العراقي، حيث عمل على كشف سياسات النظم القومية والبعثية الشوفينية والعدوانية ونهجها الاقتصادي عموما وفي اقتصاد النفط خصوصا والعواقب الوخيمة لاستمرار الطابع الريعي النفطي لهذا الاقتصاد. صدر هذا الكتاب بعد إسقاط الدكتاتورية، ثم جَدَدَ نشره بإضافات مهمة في العام 2010. كما كشف عن السياسات الاقتصادية الخاطئة للنظام السياسي الطائفي في العراق. وفي الكتاب الثاني للدكتور محمد علي زيني، الذي صدر في العام 2017 تحت عنوان "نهضة أوروبا وسبات العرب"، تحدث عن النهوض الأوروبي حضارياً وعن الارتداد الحضاري للعرب عموما والعراق خصوصاً، عن التقدم الاقتصادي والاجتماعي الأوروبي وعن التخلف الشامل للعرب، وكشف عن العورات الكبيرة في النظم العربية، إلا أنه ركز على وكنه العراق، فكشف فيه عورات النظام السياسي الطائفي الفاحشة والمريبة، إذ كان واضحا وجريئا في رفع الستر عن سلوك وتصرفات المسؤولين في الأحزاب الإسلامية السياسية وما فعلته في العراق المستباح من قبلها، وعما جرى في العراق خلال الفترة التي اعقبت إسقاط الدكتاتورية وتحت الاحتلال الأمريكي وقيام النظام السياسي الطائفي المحاصصي.
رشح الدكتور محمد علي زيني في انتخابات مجلس النواب للفوز بعضوية المجلس. ولكنه فشل في الفوز بالمقعد وكانت خسارته تندرج تحت عوامل ثلاثة هي: 1) قلة معرفة المجتمع العراقي به وبكتاباته بسبب وجوده في الخارج لسنوات طويلة، 2) عدم تقديمه الهدايا أو توزيعه الأموال على الناخبين كما فعلت وتفعل غالبية الأحزاب الإسلامية السياسية والقومية، و3) حصول تزوير واسع النطاق لصالح الفاسدين من المرشحين وضد الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين من أمثال الدكتور زيني. ولكنه حين رشح في دورة انتخابية لاحقة، فاز فيها، رغم عدم توزيعه الأموال ورغم وجود تزوير وتزييف إرادة الناخبين، بل قام بنفسه بحملة دعاية لصالحه، عندها فاز في الانتخابات وأصبح زيني عضواً في مجلس النواب العراقي في الدورة الجارية، هذا المجلس الذي يتسم بالطائفية ومحاصصاتها المقيتة والمذلة للشعب العراقي برمته. وأصبح رئيسا لمجلس النواب في افتتاح الجلسة الأولى بسبب كونه العضو النيابي الأكبر سناً إلى أن تم انتخاب الرئيس الجديد للمجلس، وقيل إن الرئيس الجديد قد اشترى كرسي رئاسة المجلس بثلاثين (٣٠) مليون دولار أمريكي، والله أعلم وكذلك الراسخون في علم اللاهوت!!!
في كتابه الثاني تحدث الدكتور زيني في فقرة خاصة عن " الحالة العراقية"، عن أوضاع البلد وشعبه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وعن قيام النظام السياسي الطائفي المحاصصي، حيث حصل في ظل هذا النظام وتحت قيادة التحالف الإسلامي السياسي وبقيادة حزب الدعوة الإسلامية ورئيس هذا الحزب اجتياح وغزو همجي مرعب لمدينة الموصل، ومن ثم لعموم محافظة نينوى، وقبل ذاك كانت قد تمت الهيمنة، وإلى حدود بعيدة للقاعدة ومن ثم داعش، على محافظات الأنبار وصلاح الدين والكثير من مناطق محافظة ديالى، إضافة إلى منطقة الحويجة التابعة لمحافظة كركوك. فقد كتب الزميل الدكتور زيني مشيراً إلى كل ذلك بما يلي:
"لم تقتصر سياسة المتحاصصين على سرقة البلاد فقط وإنما تعدّت ذلك إلى خيانة البلاد. ففي حزيران 2014 دخلت الموصل بضع مئات من قوات مسلحة تسليحاً خفيفاً لتنظيم إسلامي أكثر تطرفاً من القاعدة اسمه "داعش". فانسحبت أمامه قوات الخونة بأوامر من الخونة، تاركة لداعش كل ما "لذَّ وطاب" من أسلحة الجيش العراقي المتطورة، ثقيلة وخفيفة، أمريكية المنشأ، قيمتها تجاوزت ٢٥ مليار دولار. وانطلقت جنوباً هذه القوات التي تدّعي زوراً بكونها إسلامية، لتنشر الدمار على "بركة الله" أينما حلّـت أو مرَّت ولتقتل وتذبح وتستبيح وتنهب وتغتصب، باسم الله أيضا. وتم لها بسهولة وبمساعدة الخونة أيضاً، فتح محافظة صلاح الدين ومحافظة الأنبار وجزءاً من محافظة ديالى." ثم واصل الدكتور محمد علي زيني فكتب: “وقد غنمت "القوات الإسلامية " خلال فتوحاتها "لأقاليم الكفار" غنائم لا تُحصى. فبإضافة إلى استيلائها على أسلحة الجيش العراقي بتسهيلات الخونة، نهبت "القوات الإسلامية", بعد ان تيسر لها "النصر المبين"، ما وجدته من ذهب وعُملات في خزينة البنك المركزي فرع الموصل، وقتلت الآلاف من الرجال ضحايا الغدر، من بينهم "شهداء سبايكر" وكان عددهم نحو 1700 متطوع شاب من سكان وسط وجنوب العراق. كما قامت هذه القوات، وهي قوات داعش، بسبي الآلاف من النساء والأطفال العراقيين." (المصدر: محمد علي زيني، نهضة أوروبا وسبات العرب: الإنسان هو الثروة، دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، 2017، ص 379).
في هذا الكتاب طرح الزميل زيني أيضاً مجموعة من الأسئلة عن واقع العراق والنزوح الداخلي وعواقبه وعن الهجرة القسرية نحو الخارج والبؤس والفاقة وغياب مبدأ المواطنة عن هذا النظام السياسي الطائفي الفاسد والدولة الهشة ليجيب عنها بقوله: "تلك هي أسئلة جوابها واحد، وهو معروف لدى الشعب العراقي: إنها المحاصصة حين جاءت المعارضة العراقية من الخارج وهي حبلى بها. وعندها ولدتها في العراق، خرج الوليد بصفات وتوجهات عدة كلها سيئة وكريهة مؤذية تعّف عنها الإنسانية والوطنية والأخلاق القويمة، وهي بطبيعتها في صراع دائم مع ما يفرضه العقل ويستدعيه المنطق. إن من بين تلك الصفات تأتي الطائفية والأثنية الشوفينية والجهل والأنانية والكراهية والخيانة والفساد.". وفي نفس الصفحة يكتب زيني ما يلي: "لقد ابتلى العراق في هذه السنين السوداء بنوعين من الفساد مالي وإداري" ثم يشرح طبيعة ومخاطر هذين النوعين من الفساد الذي تميزت به حكومة نوري المالكي والموارد المالية التي فرُط بها والتي اختفت.... إلخ. (راجع المصدر السابق ذاته، ص 473).
إن هذه النصوص الواضحة والموضوعية والجريئة التي سلطت الأضواء الكاشفة على المسؤول الأول في السلطة التنفيذية العراقية وفي القوات المسلحة العراقية في الفترة بين 2006-2014 عن سيادة الطائفية والإرهاب والفساد، والتي تواصلت لتقع الكارثة الكبرى ليحصل الاجتياح والغزو والإبادة الجماعية ضد اجزاء عزيزة من بنات وأبناء الشعب العراقي من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان من أهالي مدينة الموصل وعموم محافظة نينوى في حزيران/يونيو 2014 ومسؤوليته المباشرة وبطانته عما حصل هناك والتي ماتزال ذات العائلات تعاني منها، تلك التي تعرضت لتلك الكوارث والمآسي أثناء الاجتياح والغزو. ومثل هذا التشخيص الدقيق والسليم والمباشر، لاسيما اتهام المسؤول الأول وبطانته بالخيانة، يضع قائله، كما يبدو، والمتهم بمسؤولية ما حصل، وهو لا يزال يحتل موقعا في أعلى المناصب الحكومية في الدولة العراقية الطائفية، ولا يزال يلعب الدور الفعلي في قوات الحشد الشعبي وبعض الميليشيات الطائفية المسلحة، أن يكون هدفاً مباشر اً لنيران أتباع الحاكم الذي كان مستبد بأمره المسلحين الأوباش. لقد كان على محمد علي زيني أن يدرك هذه الحقيقة، وأن يعي ما جرى ويجري في العراق حين يتحدث بصراحة ودقة إزاء مسؤولين من هذا الطراز الحاكم في العراق، وبالتالي فلم يكن مستغربا ان يتعرض وهو في طريقه من كربلاء إلى بغداد إلى نيران اتباع من وجه له الاتهام بالخيانة ولما حصل في الموصل وعموم محفظة نينوى، وكذلك في محافظات صلاح الدين والأنبار وديالى. وقد كان الزميل زيني قد أسرّ بعض صحبه في بريطانيا إلى احتمال كبير في ان يتعرض لمحاولة اغتيال بعد ان صدر كتابه الذي اقتطفت منه المقاطع المثبتة في أعلاه وقبل ان يصبح عضواً في مجلس النواب العراقي.
في خبر مختصر نشره الدكتور محمد زيني في صفحته على الفيسبوك قال فيه ان عربته المصفحة قد تعرضت إلى هجوم أشخاص أمطروا عربته المصفحة من ثلاث عربات عسكرية بنيران كثيفة وبأسلحة رشاشة ثم ولَّوا الأدبار بعد ان جوبهوا بدفاع حرس الدكتور زيني. وكانت قناعة من هم بالعربة المهاجمة ان من هم في العربة المصفحة قد قُتلوا أو جُرحوا. ولكن لم يصب الدكتور محمد علي زيني ولا مرافقيه بأية جروح في حين اصيبت العربة ببعض الأضرار.
نهنئ الزميل الدكتور محمد علي زيني وصحبه على سلامة النجاة من الاعتداء الغاشم ونرجو له ولهم الصحة والسلامة وان يواصل الزميل زيني دوره في الكشف الجريء عمن تسبب أو ساهم في كوارث ومآسي العراق خلال الفترة التي اعقبت إسقاط دكتاتورية البعث الغاشمة حتى الآن.
يجري الحديث من جانب بعض الأوساط السياسية إلى ان العراق أصبح آمنا وديمقراطيا. والحقيقة الناصعة تقول غير ذلك، تقول بأن العراق ليس آمناً ولا ديمقراطياً بأي حال من الأحوال. وقول هذا البعض يذكرني بجواب شعلان أبو الچون، أحد قادة ثورة العشرين (1920) في العراق حين ردَّ على القائد العسكري البريطاني الذي ادّعى بأن أصبح للعراق حكومة وطنية، قائلاً: أي يا محفوظ حكومة وطنية لكنها ترطن. ومعنى الرطانة باللغة معروفة للجميع. ووضعنا الآن في العراق هي أن الدولة كلها ترطن رطانة شديدة.
اتمنى على الزميل الدكتور محمد علي زيني وزملاء ومناضلين آخرين ان ينتبهوا لما يمكن ان يحصل لهم في بلد لا أمن ولا سلامة فيه. فالشهداء الذين سقطوا على أيدي المسلحين القتلة الأوباش من الجلاوزة ليسوا بقلة، منهم على سبيل المثال لا الحصر كامل عبد الله شياع وهادي المهدي والدكتور علاء مشذوب!!

105
كاظم حبيب
لتبقى ذكراك عطرة صديقي ورفيقي العزيز أبا دنيا (حكمت تاج الدين)
الموت لا يوجع الموتى،
الموت يوجع الأحياء...!
محمود درويش
مساء يوم السبت المصادف 29 حزيران/يونيو 2019 أغمض عينية وتوقف قلبه عن الخفقان رفيق النضال المديد الوطني والشيوعي المخلص لشعب ووطنه وحزبه والمبادئ التي اعتنقها منذ فترة مبكرة من شبابه، أبن الحلة الفيحاء، أبن بابل وتراثها المجيد، الصديق الطيب حكمت تاج الدين (أبو دنيا). أغمض عينيه إلى الأبد بعد معاناة طويلة ومريرة مع مرض السرطان الذي انتشر في جسده النحيل، وبعد معاناة شديدة من الوحدة المضنية، وكانت آخر كلمات نطق بها وبصوت حزين وصرخة صادرة من الأعماق.. يمه يمه.. بويه! ولمدة يومين كانت بجواره السيدة برجيتا جباوي زوجة خاله الدكتور الفقيد حسن جباوي، التي حضرت من مدينة أخرى وسهرت في المستشفى بجواره وأبدت عناية كبيرة به وحزنت كثيراً لموته.
خلال العقود الثلاثة المنصرمة تعرض حكمت في مرتين متتاليتين للموت بسبب أمراض الكبد، ولكنه نجا منهما بأعجوبة، ولكن داء السرطان، الذي لم يشخص من الطبيب المعالج في البداية بشكل صحيح، تأخر علاجه، وانتشر الداء في جسده ولم يمهله طويلاً. لم يتسن له كتابة وصيته، رغم مطالبة أصدقاء له بأن عليه أن يكتب وصيته. لم يكن مقتنعاً بأنه سيموت، وأنه سينجو كما نجا في المرتين السابقتين، ولهذا طلب وألح بعدم الاستعجال بمجيء أخيه السيد سعد تاج الدين من قطر، وحين وصل كان قد فات الأوان..!
كان حكمت تاج الدين شيوعياً طيباً محباً لحزبه ورفاقه، متواضعاً كريم النفس. درس علم النفس ولم يمارسه. عمل بصمت وحيوية أثناء شبابه، وحمل جريدة الحزب ومجلة الثقافة الجديدة لتوزيعها على الرفاق والأصدقاء مقابل تبرع أو ثمن المجلة. قام بتوزيع مجلة الثقافة الجديدة، التي كانت تصله من بغداد شهرياً، حتى قبل وفاته بأسبوعين وقبل دخوله المستشفى، ثم وفاته، وكان يتسلم سعرها أو مع تبرع بسيط. وآخر ثلاثة أعداد سلمهما لي وتبرع بالاثنتين للدكتور حامد فضل الله من السودان والدكتور غالب العاني. كم تمنى في أيامه الأخيرة أن يجد من يأخذ مهمة توزيع المجلة على عاتقه بعد أن أصيب بساقه اليمنى التي أعاقته عن السير!
كان حكمت من محبي الحياة والتعلق الشديد بها، ولم يقتنع بأنه سيموت، رغم عدم خشيته من الموت بل من الآلام المحتملة. كان من محبي الكتب وهواة جمعها، ولكن غير قاريْ لها إلا لماما، وربما لم يجد الوقت لقراءة أي منها! كما كان من هواة جمع الطوابع النادرة والعملات النادرة أيضاً حتى نمت لديه ثروة كبيرة من العمل الذهبية النادرة، بعضها من فترة الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وبعضها من العملات الذهبية التي تصدر في ألمانيا أو في بلدان أوروبية لأخرى وغيرها. كان من جامعي الأقلام الجافة، إضافة إلى إقلام الحبر النادرة والغالية الثمن وكذلك بعض الساعات. وقبل وفاته بأسبوعين اشترى كمية من العملات الذهبية كما أخبرني، ولا أدري إن كان قد دفع ثمنها أو وصلته اصلاً. عبر هذه الهوايات كان يجسد حبه لهذه المقتنيات وحبه للحياة، إذ لم يفكر في الموت، ولكنه، وكما أشار لي مراراً، لم يجد الحب في حياته، كما برز، فأحب هذه المقتنيات، وحين أحب فتاة في جامايكا كان يسافر لها مرتين في السنة، وأخر سفرة قال لي بأنه سيسافر ثلاث مرات في السنة، ولم يمهله المرض ليسافر ولو لمرة أخيرة إلى صديقته الجميلة التي وجد عندها الحب الذي افتقده طويلاً. كان يحمل لها الهدايا الجميلة ويقضي عندها ثلاثة أسابيع في كل سفرة، كانت زاده لأشهر أخرى كي يغادر إلى جامايكا ثانية. حتى بعد أن عجز عن الكلام، بدأ بالكتابة لها ليعبر لها عن وحدته ورغبته في رؤيتها.
كان حكمت متزوجاً. أنجبت زوجته منه أبناً وبنت. مات الأبن قبل سنوات ولم يكن قد رآه بعد طلاق مبكر جداً، ولم ير انته أيضاً ولا يعرف مكانها وهي من القسم الشرقي من ألمانيا، إذ تزوج في حينها من امرأة ألمانية حين كان يدرس علم النفس في ألمانيا الديمقراطية. وإذ لم يكتب أي وصية، كما يبدو حتى الآن، فأن وريثته الشرعية ستكون ابنته الوحيدة التي ربما دنيا!   
كان من محبي حضور الحفلات والاجتماعات العامة، لاسيما احتفالات 14 تموز وتأسيس الحزب الشيوعي، أو يوم المرأة العالمي ورابطة المرأة العراقية، ومؤتمرات حقوق الإنسان، وكان سخياً في بعض تبرعاته. عجز في الأسابيع الأخيرة عن حضور الاجتماعات العامة بسبب المرض والإصابة في ساقه. ولكن حين أخبرناه، الدكتور غالب وأنا، بأننا سنقوم بزيارة صديقنا العزيز، صدق العمر الدكتور راجح عبد الصاحب البدراوي، في واحد من دور رعاية كبار السن المرضى، قرر أن يأتي معنا، كان ذلك قبل أسبوعين فقط من وفاته. حزن لوضع الدكتور راجح، رغم أنه بالذات كان في وضع صحي ميؤوس منه!
أقام رفاقه في منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ألمانيا حفل تأبين بتاريخ 06/07/2019 في برلين حضره جمع كبير من رفاق وأصدقاء ومحبي حكمت تاج الدين، حيث قُدم عرض لصور من أرشيف الرفيق سامي كاظم (أبو عادل) عن حكمت، كما ألقيت في الحفل التأبيني كلمات منها: كلمة منظمة الحزب الشيوعي العراقي (أبو عادل) والحزب الشيوعي الكردستاني (معروف محمد أمين) وكاظم حبيب وفرياد فاضل عمر وناجح العبيدي وكلمة منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في ألمانيا (أومرك) باعتباره عضوا فيها (الدكتور غالب العاني).
العزاء لعائلة الفقيد في الحلة والذكر الطيب لفقيدنا الصديق حكمت تاج الدين أبي دنيا.             
       


 











 

106
كاظم حبيب
دولة وسلطات الإسلام السياسي وعواقبها الشريرة في العراق
من تعرف على دولة الإسلام السياسي بسلطاتها الثلاث في إيران يدرك حجم وتنوع العواقب الوخيمة والمريرة التي تعرض لها الشعب الإيراني بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفلسفية أو الفكرية منذ عام 1979، بعد أن سيطرَ الإسلاميون السياسيون الطائفيون والمتطرفون على السلطة الفعلية في البلاد وسرقوا الثورة الشعبية الديمقراطية ضد نظام الشاه وجلاوزته وأجهزته الأمنية حتى الوقت الحاضر 2019. كما يمكن أن يدرك بأن أي تغيير إيجابي في إيران لا يمكن أن يحصل لصالح الشعب الإيراني، إن استمرت هذه الدولة الطامحة إلى الهيمنة على الدول المجاورة بسياساتها التوسعية وتصدير ثورتها البائسة، ومن ثم التحول إلى دولة كبرى لها أشباه مستعمرات في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي. فهي دولة غير قادرة على تصور وجود دولة عراقية مستقلة، لأنها كانت يوماً إمبراطورية فارسية تحتل بلاد وادي الرافدين. وبالتالي فأن أي تغيير منشود في إيران يتطلب تغييراً في ميزان القوى لصالح القوى المناوئة للقوى المهيمنة على الدولة بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى الأجهزة العسكرية، الجيش والشرطة والأمن والحرس الثوري وجيش القدس والبسيج .. إلخ، يتطلب تغييراً جذرياً للواقع الإيراني الراهن وإقامة دولة وطنية ديمقراطية علمانية حديثة، وبناء مجتمع مدني ديمقراطي علماني حديث. إن هذا القول لا ينبع من تصور ذاتي ورغبة ذاتية، بل بقدر ما هو حقيقة تتطلع لها غالبية الشعب الإيراني. لقد تسنى لي زيارة إيران مرات عديدة وقضيت فترات غير قصيرة نسبياً فيها وأجريت لقاءات مع أوساط كثيرة وتعرفت على قوى السوق والشارع، ومن خلالها تعرفت بشكل أكثر موضوعية على طبيعة هذه الدولة بسلطاتها الثلاث وسياساتها وسلوكياتها مع المجتمع وتخلفها الفكري والسياسي وممارسات حكامها المعممين أولاً، والفساد غير المحدود للغالبية العظمى منهم من النواحي المالية والإدارية والأنسانية أو الأخلاقية ثانياً، إضافة إلى دورهم الكبير والموثق لدى أجهزة الأمن الإيرانية وفي مخابرات الدول الكبرى في نشر المخدرات والكحوليات والتشجيع على تعاطيها واستخدام منظمات مافيوية إيرانية-أفغانية-أجنبية، إضافة إلى العهر المتنوع وبيع أعضاء الإنسان، لاسيما أطفال وشباب العائلات الفقيرة.  ومما يزيد في الطين بلة مصادرتهم للحريات الفردية بشكل منقطع النظير وتسليط الضغط اليومي على سلوكيات الأفراد، ولاسيما النساء في المجتمع، ودخول أجهزة الأمن وعيونهم الشرهة إلى بيوتهم، بل وحتى غرف نومهم، مما يثير غضب المجتمع المتحرر من قيود دولة ولاية الفقيه المتخلفة. في إحدى سفراتي في طهرات استقلت الحافلة من منطقة البازار الكبير، سمعت شخصين يتحدثان بصوت مسموع قال احدهما باللغة الإيراني: "زندیگه ما مرگ تدریجی"« والتی تعنی "حیاتنا موت بطيء". أثناء سفرتي مع الرفيق ابو سرباس إلى همدان للحصول على فيزا إلى تركيا، استفسرنا من أحد المارة عن موقع القنصلية التركية: قال ما معناه: "سيروا بهذا الشارع غى نهايته ستجون أمامكم ساحة وبوسطها مسلة وعليها الكثير من القردة (وبالإيراني ميمون)، عندها اذهبو باتجاه اليسار ستجدون القنصلية ليست بعيدة من هناك". وحين وصلنا الساحة لم نجد سوى صور للقادة الإيرانيين المعممين معلقة على المسلة!!!     
إن ما رأيته في إيران خلال مجموعة من السفرات في أوقات مختلفة ولمدن عديدة، منها طهران وقم وأرومية (الرضائية) وهمدان ومشهد وزاهدان وغيرها، أعطتني الصورة التي يمكن أن يكون عليها العراق إذا ما أقيم عليها نظام مماثل للنظام الإيراني الطائفي البشع، حتى قبل سقوط الدكتاتورية في العراق، إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية وإيران قد تساومتا على من يشكل الحكومة الجديدة في العراق من خلال التفاوض وعبر وسطاء من اجل قبول قوى الإسلام السياسي وبقية قوى التحالف الأعضاء في المؤتمر الوطني العراقي حينذاك بشن التحالف الدولي، المشكل خارج الشرعية الدولية، الحرب ضد العراق. وقد رسمتُ اللوحة المحتملة في أكثر من مقال لي خلال فترة السنوات المنصرمة ابتداء من عام 2002 حتى الوقت الحاضر.
وها هو الشعب العراقي يعيش سنوات مريرة، بعد سنوات الحرب والحصار والدمار والجوع الصدَّامي، تحت وطأة الصراع على السلطة، وعلى النفوذ والمال الحرام، في ظل نظام سياسي طائفي محاصصي مقيت امتهن الهوية الوطنية للشعب العراقي وأذلها بكل السبل المتوفرة لديه، وامتهن كل ما هو خيَّر وشريف في العراق، وخلق كل مستلزمات العيش الجحيمي في ظل أوسع وأشمل أشكال الفساد المالي والإداري والأخلاقي، والإرهاب والخراب والرثاثة والنزوح والهجرة التي لم يشهد الشعب العراقي مثيلاً لها خلال العقود المنصرمة، رغم كل فواجع وحروب وكوارث واستبداد وقهر النظام الشمولي للبعث وصدام حسين.     
وإلى القراء الكرام بعض الأرقام المهمة:
** تصدر العراق مجدداً "المرتبة الأولى لجهة الفساد بين دول العالم، فيما وردت 6 بلدان عربية ضمن قائمة تضم 12 دولة، هي الأكثر فساداً في العالم من مجموع 180 دولة في العام 2018."، (نصير الحسون، العراق يتصدر لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم، جريدة الحياة، 21 أذار/مارس 2018). ويشمل هذا الفساد جميع الفئات الحاكمة تقريباً، إنها القطط السمان التي تحتل أعلى المناصب في الدولة العراقية وفي قيادة الأحزاب الإسلامية السياسية. ولا يقتصر هذا الفساد على سرقة المال العام فحسب، بل ويشمل نهب العقارات ودور الدولة ومزاد الدولار اليومي وتزوير الشهادات الصادرة عن الدوائر والمدارس الدينية في حوزة قم وغيرها وعن الكليات والجامعات الإيرانية على نحو خاص، إضافة إلى تزوير أوراق ملكيات دور وعقارات العائلات والأفراد التي أجبرت على النزوح أو الهجرة إلى خارج العراق بسبب التهديد بالقتل وغيره.
** وتشكل رواتب الموظفين موقعاً أساسياً في باب نهب أموال الدولة، حيث نشرت أخيراً قوائم بأسماء من يتسلمون 13 رابتاً شهرياً و12 راتباً شهرياً و11، و10، و9 و8 و7.. إلخ، أو ميليشيات وأحزاب إسلامية وغير إسلامية تتسلم رواتب أسماء عشرات الآلاف من الفضائيين المسجلين في قوائم، ولكنهم أشباح لا غير، وهي مبالغ كبيرة جداً تفوق تصور الإنسان السوي. (راجع الفيديو مع مشعان الجوري، أو تقارير أخرى). فقد جاء بهذا الصدد ما يلي: "قدر نائب الرئيس العراقي إياد علاوي، رئيس ائتلاف الوطنية، عدد «الجيش الفضائي» في العراق بنحو ربع مليون جندي «فضائي»، وقال في تصريحات صحافية ببغداد أول من أمس إن «أموال العراق ضاعت بسبب المفسدين»، مرجّحا أن «يصل عدد الفضائيين في الأجهزة الأمنية إلى ربع مليون، وليس 50 ألفا كما أعلن رئيس الحكومة، حيدر العبادي». (راجع: «الفضائيون» في العراق يتراوحون بين جنود ومتقاعدين.. وكلفوا الدولة مليارات الدولارات، الشرق الأوسط).
** ومنذ العام 2004 بدأت المخدرات تدخل الأراضي العراقية من أفغانستان وإيران لا لتخرج منه إلى دول الخلج ومنها إلى الدول الأخرى، كما كان يحصل في الغالب الأعم في فترة حكم البعث الدكتاتوري، فحسب، بل تبقى كميات كبيرة ومتزايدة يوماً بعد أخر وشهراً بعد آخر وسنة بعد أخرى في العراق لتباع وتستهلك من بنات وأبناء الشعب العراقي من مختلف الأعمار، لاسيما من الشبيبة وكذلك الصبية. وقد أورد الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح أرقاماً مذهلة في المؤتمر العلمي وكذلك الندوة، وكلاهما أقيما في بغداد وأدارهما الأستاذ ذاته وقدم فيهما محاضرتين، إذ كتب يقول: "عقدت منظمة الجوهرة للتعليم والخدمات العامة مؤتمرا علميا تحت شعار (من اجل مجتمع خال من المخدرات). وفي عصر اليوم ذاته (السبت 22حزيران 2019) اقام الاتحاد العربي للأعلام الإلكتروني بالتعاون مع تجمع عقول ندوة علمية في ملتقى رضا علوان الثقافي بعنوان (المخدرات: حجمها، أسبابها، مخاطرها، والحلول)". وقد بين الأستاذ صالح الأضرار الفادحة التي تصيب الشبيبة والصبية بسبب تعاطيهم تلك المخدرات وبشكل خاص أقراص الحبوب ذات التأثير التدميري على عقل الإنسان ووضعه النفسي وصحته العامة، كما أشار إلى العوامل التي تتسبب في نشوء هذا الواقع وعواقبه على أجيال العراق من الصبية والشبيبة. وعلينا أن نعرف بأن من يمارس هذه المهنة، مهنة تجارة المخدرات، هم ليسوا بعيدين عن أولئك الذين يمسكون زمام الأمور في العراق، إذ ليس غيرهم بقادرٍ على إمرار هذه الكميات الهائلة من المخدرات عبر حدود العراق المفتوحة عبر البصرة وكردستان، سواء تلك التي تبقى في العراق أم التي يعاد تصديرها إلى الخارج. ويحمل عنوان مقال الأستاذ قاسم مغزىً بالغ الأهمية معبراً عن حقيقة وضع الحكم في العراق: "في العراق .. المجتمع يتعاطى المخدرات والدولة تتعاطى السرقات"، (أ. د. قاسم حسين صالح، في العراق .. المجتمع يتعاطى المخدرات والدولة تتعاطى السرقات، الحوار المتمدن-العدد: 6277-2019/7/1)، وأضيف إليها، وتحقق الأرباح من خلال السكوت على تهريب المخدرات أو المشاركة للبعض منهم فيها. إن مشكلة تجارة وتعاطي المخدات ليست أخلاقية، بل هي بالأساس سياسية واقتصادية واجتماعية، إنها الرغبة في تدمير الشباب وحسهم السياسي الوطني ودفعهم بعيداً عن واقع الحياة العراقية والعيش في حياة مضببة ومليئة بالعقد والتي تقود في الكثير من الحالات إلى الانتحار أو العيش في عزلة هائمة أو إلى ارتكاب الجرائم بهدف الحصول على المخدرات والاستعداد لبيع الذات من أجل ذلك. وأخيرا نشر الدكتور قاسم حسين صالح يؤكد ما يلي:  "المرجعية تؤكد في خطبة الجمعة (أمس).. اتهامنا بوجود مسؤولين يحمون تجار المخدرات الذي أعلناه بمؤتمر مكافحة المخدرات قبل ايام، وفي الندوة العلمية التي اقمناها بملتقى رضا علوان عن المخدرات قبل اسبوع.. واعلنا بالصريح عن وجود احزاب وميليشيات ترعى تجار المخدرات بشراكة مالية.. والموثق بمقالتين لنا في جريدتي المدى والزمان".  (من رسالة معممة بتاريخ06/07/2019 ).
** لقد سقط للعراق مئات ألوف القتلى والجرحى والمعوقين خلال فترة حكم البعث الفاشي بسبب سياساته الشمولية المطلقة والعدوانية، وبسبب الحروب الداخلية والخارجية التي تسبب بها أو أعلنت ضده، وبسبب الحصار الاقتصادي الذي شارك في موت المزيد والمزيد من الأطفال والعجزة والمقعدين وكبار السن. وبعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة تسبب الاحتلال الأمريكي والنظام السياسي الطائفي الذي أقيم على أنقاض النظام الشوفيني السابق، وسياساته الطائفية المقيتة والتمييز الديني والمذهبي والشوفينية والاتجاهات النيولبرالية البائسة و"الإسلامية" الفاسدة إلى سقوط مئات ألوف الضحايا خلال الأعوام الـ 17 المنصرمة، إضافة إلى الجرحى والمعوقين وإلى إبادة جماعية ضد الإيزيديين ووإلى استباحات ضدهم وضد المسيحيين والتركمان الشبك واغتصابات وقتل ونهب وسلب لا مثيل له من قبل عصابات الدواعش في فترة حكم الطاغية الأرعن والطائفي المقيت والعدواني بامتياز والخادم المطيع للمرشد الإيراني الأعلى رئيس الحكومة الأسبق للفترة 2006-2014 ونائبا لرئيس الجمهورية حالياً. وبذلك رفع عدد اليتامى وعدد الأرامل وعدد المعوقين في العراق، إضافة إلى تزايد عدد المصابين بالأمراض السرطانية وغيرها في جنوب ووسط العراق بشكل خاص. إن من يدعي بأن هذا النظام يمكن إصلاحه يغالط نفسه، إذ إن النظام السياسي الراهن يعتمد على خمسة قوائم: الطائفية والتمييز الديني، التحالف بين المرجعيات الدينية والأحزاب الإسلامية السياسية، الفساد المالي والإداري والأخلاقي، المليشيات الطائفية المسلحة وتغلغلها في جميع صنوف القوات المسلحة العراقية (الجيش والأمن والشرطة)، والوجود الإيراني الكثيف والمتنوع والمتعدد الجوانب في العراق.
ابتلى الشعب العراق بحكومة لا تعرف معنى للشعب، بل لما يدخل في جيوب النخبة الحاكمة من أموال. فلا التنمية ولا الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والمواصلات في البلاد بخير، بل في أسوأ أحوال الشعب بالنسبة للكهرباء لاسيما في فصل الصيف. والوحيد المستفيد من الكهرباء هم سكنة المنطقة الخضراء وما جاورها من بيوت المسؤولين. واليوم تحدث أستاذ جامعي عن أزمة السكن فأشار إلى ارتفاع هائل في إيجارات البيوت والشقق بحيث لا يستطيع الإنسان الاعتيادي أن يحصل على دار يعيش فيها، مما يدفع بهم إلى بناء أكواخ أو بيوت من طين في مناطق عشوائية. فسماسرة البيوت والعقارات هم من الحكام المتنفذين وأعوانهم وحواشيهم. والغريب أن حجم المظاهرات والاحتجاجات ما زال محدوداً رغم اتساعه النسبي، إذ من غير المعقول ألَّا يجد الإنسان ما يحتاجه وزاد فقر الكثير من العائلات، حتى بدأت الحكومة تخصص أموالاً خاصة للفقراء في كربلاء مثلاً، لأنها تلتهم الأموال التي يفترض أن تكون لهم، إنها المهزلة المضاعفة في بلد غني كالعراق.       
إنها المأساة والمهزلة التي كان يعيش تحت وطأتها العراق منذ العام 1963 حتى العام 2003، ولكنها تفاقمت أكثر فأكثر خلال العقدين الأخيرين، لاسيما في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الغاشمة والاحتلال وإقامة النظام السياسي الطائفي المقيت في البلاد واجتاح الموصل وعموم نينوى. ليس الترقيع بنافع في بلد أصبح الشق أكبر بأضعاف المرات من الرقعة الراهنة. والحل هو التغيير الجذري الذي يفترض أن تعمل عليه القوى الديمقراطية اليسارية واللبرالية العلمانية والشخصيات المؤمنة والملتزمة بدولة ديمقراطية مدنية علمانية بهدف أن تنشط حركة الشعب لتبني شعارات التغيير الجذري الفعلي، وايس الإصلاح الذي لا يمكن ولن يأتي ممن ينبغي قلعه، لأنه ضد أي إصلاح فعلي في البلاد. وهنا ليس المقصود شخصاً واحداً، بل النخبة البائسة التي حكمت العراق منذ 2003/2004 حتى الوقت الحاضر.   
   
     


107
كاظم حبيب
الحشد الشعبي والصراع الأمريكي – الإيراني في الساحة السياسية العراقية
يحتدم الصراع الأمريكي-الإيراني يوماً بعد آخر ويشتد خطر اندلاع حرب مدمرة أقسى وأشد من تينك الحربين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة في العراق في عامي 1991 و2003، دون أن تدفع بقواتها البرية إلى الأراضي الإيرانية، أي إنها ستكون بالأساس حرباً جوية تطال أكثر المواقع العسكرية الإيرانية أهمية، إضافة إلى مراكز ومؤسسات النشاط النووي الإيراني والمؤسسات الصناعية الحربية الإيرانية والكثير من مرافق الخدمات الأساسية للقوات المسلحة وللسكان، لاسيما أجهزة الحاسبات الإلكترونية والكهرباء. وسوف لن تصمت إيران، فقواتها العسكرية وحلفاء لها في عدد من دول الشرق الأوسط يمكن أن تتحرك ضد القواعد والقوات العسكرية والمصالح الأمريكية في المنطقة، وسيكون العراق جزءاً من منطقة المعارك الحربية التي ستطاله الحرب إن نشبت فعلاً.
لن تكون الحرب القادمة مجرد نزهة صيفية قصيرة للقوات الأمريكية، كما صورها دونالد ترامپ، أو كما يستهين بها بنيامين نتنياهو، ولا كما يحاول قادة إيران الادعاء بأنهم سيلحقون أفدح الأضرار بالمصالح الأمريكية في المنطقة، كما ادعا ذلك صدام حسين في الحربين التي خسرهما، وكان باستمرار يعطي الانطباع وكأنه المنتصر فيهما. الحرب ليست لعبة أطفال، ومن يبدأ بها لا يمكن أن يتنبأ متى تنتهي، والحرب غالباً ما تلد أخرى، ولكنها في كل الأحوال تترك اثاراً مدمرة ولسنوات طويلة لاحقة.
لقد عاش الشعب العراقي حروباً عدة خلال ثلاثة عقود وأدرك بعمق ومسؤولية معنى أن يتعرض شعب ما لحروب متتالية تستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة، بما فيها المحرمة دولياً وذات الفتك الجماعي والتدمير الشامل. وهذا الشعب لا يزال يعاني من عواقب تلك الحروب ونظامه السياسي الراهن هو واحدة من تلك العواقب والكوارث والمآسي والمحن التي نجمت عن تلك الحروب المريرة. ولهذا فالشعب العراقي بكل قومياته ضد اندلاع حرب جديدة في المنطقة، ضد اندلاع حرب أمريكية – إيرانية لا تدمر إيران فحسب، بل يمكن أن تشعل المنطقة بأسرها وتشمل العراق ودول الخليج كلها، ويمكن أن تصل إلى إسرائيل أيضاً بفعل موقفها المحرك أصلاً والمنشط والمشجع لخوض الحرب ضد إيران، لاسيما أن لإيران حلفاء في لبنان وفي غزة والعراق والخلج.
ولكن إذا كان الشعب العراق عموماً ضد الحرب المحتملة، فأن قوى سياسية موجودة في العراق تقف إلى جانب إيران وتحاول دفع الحكومة العراقية إلى الوقوف إلى جانب إيران والتي لا تعني سوى الوقوع ضحية الحرب الأمريكية - الإيرانية وتلقي ضربات مدمرة ليس لنا فيها لا ناقة ولا جمل. فالميليشيات الشيعية المسلحة التابعة لأحزاب إسلامية سياسية، وأغلبها تابع لإيران مباشرة، تعلن صراحة بأنها ستقف ضد الولايات المتحدة وأنها ستضرب المصالح الأمريكية والقوات الأمريكية الموجودة على الأراضي العراقية، وهي بذلك تضع نفسها والشعب العراقي هدفاً لضربات جوية أمريكية مدمرة. ولم يكن هذا التهديد جزافاً بل نفذت بعض الضربات القريبة من مواقع الوجود الأمريكي في العراق لتعلن أنها جادة فيما تهدد!!!
إن هذا الواقع، لاسيما التصريحات غير المسؤولة والصبيانية لكبار مسؤولي الميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي، المتشابك بقوة مع تلك الميليشيات ومع إيران من جهة، ومع الجيش العراقي من جهة أخرى، وعدم وضوح الرؤية في مدى التزام قوات الحشد الشعبي بقرارات الحكومة، دفع رئيس مجلس الوزراء الحالي إلى اتخاذ خطوة أولية مهمة هي:
"1) إغلاق كافة المقار التي تحمل اسم أي من فصائل الحشد الشعبي.
2) على الفصائل المسلحة أن تختار بين الانضمام للقوات المسلحة والخضوع لقرارات القوات المسلحة العراقية، أو الانخراط في العمل السياسي وفق قوانين الأحزاب السياسية.
3) يمنع وجود أي فصيل يعمل سراً أو علناً خارج هذه التعليمات". (قارن: رئيس الوزراء العراقي يأمر بإغلاق جميع مقار الحشد الشعبي، موقع تلفزيون الحرة، 1 تموز/يوليو 2019).
إن هذا الإجراء المهم يستوجب استكماله إجراء أخر هو سحب الأسلحة التي كانت وماتزال في أيدي هذه الميليشيات المسلحة أو الأشخاص غير المسموح لهم بحمل السلاح وتسليم مخازن سلاحها الموزعة في أنحاء مختلفة من العراق وبكميات كبيرة إلى القوات المسلحة العراقية، إضافة إلى منع أي اتصال بين القوات المسلحة العراقية، بما فيها قوات الحشد، التي يفترض أن تلتحق بالقوات المسلحة العراقية، والقوات الأجنبية، سواء أكانت إيران، أم السعودية، أم بقية دول الخليج، أم حزب الله في لبنان، أم الولايات المتحدة الأمريكية أم إسرائيل.
إن هذا القرار المهم من جانب رئيس الوزراء يستوجب اتخاذ وتنفيذ عدة إجراءات أساسية وضرورية لصالح التطبيق الناجح له، منها:
أولاً: العمل على تنفيذ فعلي لهذا القرار بجوانبه الثلاثة حتى نهاية شهر تموز، يوليو الحالي 2019.
ثانياً: منع انتقال منتسبي الحشد الشعبي إلى جهاز الأمن العراقي، لأن قادتهم في الغالب الأعم إما من حملة الجنسية الإيرانية أو شهادات مزورة إيرانية، إضافة إلى ولائهم المطلق للمرشد الأعلى، كما عبر عن ذلك هادي العامري بشحمة لسانه مثلاً أو قيس الخزعلي أو قائد النجباء.. إلخ، وكذلك الكثير من منتسبي هذا الحشد هم من أعضاء المليشيات الطائفية المسلحة السابقة، وليسوا من الذين تطوعوا تلبية لدعوة المرجعية الشيعية في النجف لـ"جهاد الكفاية" في حينها.   
ثالثاً: تشكيل لجنة مستقلة من منظمات مجتمع مدني ونواب مستقلين للرقابة وقضاة نزيهين للإشراف على متابعة عمليات تنفيذ هذا القرار على أفضل وجه ممكن وتقديم تقارير دورية عن كيفية تنفيذه.
رابعاً: نشر التقارير الدورية في الصحافة العراقية والإعلام الحكومي لاطلاع الشعب عن مدى تنفيذ هذا القرار وإجراءاته من جانب السلطة التنفيذية، لاسيما وزارة الدفاع، بعيداً عن تأثير مدير مكتب رئيس الوزراء الجديد المدعو محمد عبد الرضا الهاشمي والملقب بـ "أبي جها الهاشمي" العضو السابق في البعث والتائب في إيران والملتحق بمنظمة بدر في إيران، والموالي لولاية الفقيه الإيراني ومن الأتباع المطيعين للجنرال الإيراني قاسم سليماني. (قارن: غالب الشابندر، غالب الشابندر يفضح رئيس الوزراء العراقي، فيديو قناة المحمرة Almohammra TV ).
إن مثل هذه الخطوات ستمنع أي تحرك من قوى معينة في العراق لتقديم أي نوع من أنواع الدعم للقوات والحكومة الإيرانية أو الأمريكية، وعدم التدخل في شؤون إيران الداخلية، ومنع أي نوع من أنواع التحرش بالقوات الأمريكية أو مصالحها في العراق ما دامت تلك القوات والمصالح موجودة بموافقة الحكومة العراقية. إنها السبيل السليم لتفادي الانجرار وراء الصراع الأمريكي – الإيراني والسقوط في بؤرته المدمرة وربما الحرب المحتملة.
 

108
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الثانية والعشرون والأخيرة
بعض القضايا الفكرية في الماركسية
طرح الزميل الدكتور فالح مهدي بعض الملاحظات الفكرية المهمة حول بعض المسائل النظرية في الماركسية والتي شُوهت من خلال عرض أو تفسير ستالين أو السوفييت عموماً لها، ثم تبني الأحزاب الشيوعية لتلك الطروحات وترويجها عالمياً. منها على سبيل المثال لا الحصر موضوع المراحل الخمس أو الأنماط الخمسة في العلاقات الإنتاجية التي يشار لها وكأن هناك إلزامية التحول من نمط إلى أخرى في حركة التطور الاجتماعي في كل بلد من بلدان العالم. سأناقش هنا مسألتين هما:
1)   الأنماط الخمسة في الإنتاج (أساليب الإنتاج)
وبالضد من هذه الموضوعة كتب الدكتور فالح مهدي ما يلي: "... صاغ كارل ماركس مع فريدريك انجلز مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي. ماركس مع قدراته الهائلة، إنما كان واقعاً تحت سحر المركزية الأوربية ومولع بتحقيب تاريخ البشرية إلى خمس مراحل (المشاعية البدائية، الرق، الإقطاع، الرأسمالية وسينتهي بولادة الشيوعية)! هذا التقسيم اعتباطي فليست هناك مرحلة عبودية. العبودية رافقت تاريخ البشرية الاجتماعي والاقتصادي ولم تزل، من المؤكد إن القوانين الحديثة وبدءاً من القرن الثامن ألغت الرق، بيد إن الرق يأخذ ألواناً وأشكالاً كثيرة فهو لا زال حياً يرزق بيننا." (مهدي، الكتاب، ص 229).
يطرح الدكتور فالح مهدي في هذا المقطع القصير فكرتين: الأولى حول المراحل الخمس في تطور البشرية، والثانية حول نمط الإنتاج الآسيوي. سأحاول مناقشة هاتين المسألتين في هذه الحلقة المستقلة. مع تحفظي على كلمة مولع بتحقيب تاريخ البشرية، لأني أعتقد بأن باحثاً مثل ماركس لا يمكن أن يكون الولع هو المحرك لدراسة تاريخ البشرية والوصول إلى استنتاج مادي تاريخي بهذا العمق بسبب الولع.   
في الكراس الذي كتبه وأصدره جوزيف ستالين عام 1928 تحت عنوان "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية"، جاء فيه بهذا الصدد ما يلي: ".. ان تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شيء تاريخ تطور الإنتاج، تاريخ أساليب الإنتاج التي خلف أحدها الاخر في مجرى القرون، تاريخ تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج بين الناس. وعليه، فان تاريخ التطور الاجتماعي هو في نفس الوقت تاريخ منتجي القيم المادية أنفسهم، تاريخ الجماهير الكادحة الذين هم القوة الرئيسة في عملية الانتاج والذين ينجزون انتاج القيم المادية الضرورية لوجود المجتمع. بالانسجام مع تغير وتطور قوى إنتاج المجتمع في مسار التاريخ، تغيرت وتطورت ايضا علاقات انتاجهم، علاقاتهم الانتاجية." ثم يواصل فيذكر: "عرفت خمسة انواع من علاقات الانتاج في التاريخ: المشاعية البدائية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية والاشتراكية." (جوزيف ستالين، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، 1928، ترجمة حسقيل قوجمان، 2018، الحوار المتمدن).
هنا يمكن أن يفهم القراء والقارئات وكأن المجتمعات البشرية أينما تكون ينبغي لها أن تمر بهذه المراحل الخمس من أنماط الإنتاج، أو أساليب الإنتاج ابتداءً من المشاعية البدائية ومروراً بالعبودية (الرق) والإقطاعية والرأسمالية وتنتهي بالاشتراكية كمرحلة أولى والشيوعية كمرحلة ثانية. أقول هنا يمكن أن يفهم بهذا الصورة لأن ستالين عرض المسألة كما يلي: "تاريخ أساليب الإنتاج التي خلف أحدها الاخر في مجرى القرون" يفهم منها وكأن أحدها ينتهي ليبدأ الآخر من أساليب الإنتاج، ومثل هذا الفهم على خاطئ، إذ إن التغير لا يحصل في كل بلد من البلدان بالتتابع أو التوالي، بل يمكن ألَّا نجد هذا النمط أو ذاك من أنماط الإنتاج غير موجود في هذا البلد أو ذاك، أو وجود أنماط متعددة في آن واحد على صعيد المجتمعات البشرية في البلدان المختلفة. وهنا "استلهم!" جمهرة من العلماء السوفييت هذا الفهم الخاطئ وكرسوه بما يفهم منه إنها المراحل الخمس التي لا بد ان تمر بها الشعوب كافة وإلزاماً.
هذا الطرح غير وارد وبالتالي الاعتراض عليه سليم، إذ ليس بالضرورة أن تمر كل المجتمعات بهذه المراحل، ولكن مثل هذه المراحل موجودة في تاريخ البشرية ويمكن أن تسير جنباً إلى جنب أو ألَّا يوجد بعضها في بعض المجتمعات ووجد بعضها الآخر في مجتمعات أخرى. أي إن البشرية بمجملها وليس بالضرورة كل أجزاء البشرية تتعرف على هذه الأنماط الخمسة بالتتابع وفي جميع المجتمعات. وفي هذا كان كارل ماركس محقاً فيما طرحه بصدد الأنماط الخمسة وتطورها تاريخيا. كتب الزميل الفقيد الدكتور فالح عبد الجبار في مقالة له تحت عنوان "تأملات في الماركسية" بهذا الصدد بصواب ما يلي:
"لقد كان ماركس على غرار هيغل يرى إن التاريخ البشري، كتاريخ واحد، تشترك فيه كل الحضارات، والشعوب، وأن هذا التاريخ ينطوي على أنماط تقسيم عمل: مشاعية، وعبودية، وإقطاعية، ورأسمالية، وأيضاً شرقية (نمط الإنتاج الآسيوي القديم). هذا التنميط العمومي (المختلف عن نظرية المراحل الخمسة) يراد به قول ما يلي:
-   وجود تطور ارتقائي في التاريخ البشري.
-   إن هذا التطور هو عملية عالمية واحدة.
-   إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو ثمرة التطور السابق.
-   إن هذا النمط الأخير ظاهرة جديدة وليس قديمة قدم الإنسان.
ثم يختم قوله: أرادت نظرية ماركس أن تؤكد على فكرة التطور والتناقض، وعلى الطابع المادي للتطور، الذي لم يكن مدروساً من قبل". (راجع: فالح عبد الجبار، تأملات في الماركسية، الثقافة الجديدة، العدد 404 و405، أذار 2019) ص، 18).  الرفض هنا لصيغة المراحل الخمسة المتتابعة لكل مجتمع من المجتمعات وليس في رفض وجود مثل هذه الأنماط الخمسة في تاريخ البشرية وحضارتها.
2)   نمط الإنتاج الآسيوي 
كتب الدكتور فالح مهدي بصدد نمط الإنتاج الآسيوي ما يلي: "- قامت تلك النظرية على مفهوم الري والقنوات المائية في بلدان الشرق التي فيها أنهار، كبلاد الرافدين، مصر، الهند، الصين. أي كانت مهمة السلطات الأولى هو حفر القنوات وتنظيم المياه."، ثم يشير في موقع آخر من نفس الصفحة إلى ما يلي: "لقد تحول موضوع الاستبداد الشرقي عبر نمط الإنتاج الآسيوي إلى شتيمة لكل الشرق يراد منها أن الشعوب القاطنة في مجتمعات آسيوية وأفريقية غير قادرة على التطور.... يكفي أن ننظر إلى الأدب السياسي لنظام الحكم في بابل، فسنجد دون أية صعوبة، من أن قانون حمورابي خلى كلياً إلى ما يشير إلى وجود هذا النمط". (راجع: فالح مهدي، مقالة في السفالة: نقد حاضر العراق، دار سطور، بغداد 2019، ص 229/230).       
على ماذا اعتمد كارل ماركس في استنتاجه حول نمط الإنتاج الآسيوي؟ لقد اعتمد على دراسات سابقة أو مزامنة له حول واقع عدد من الدول الشرقية في آسيا من جهة، وعلى ثلاث مؤشرات أشار إليها بصواب الزميل والباحث الماركسي الأستاذ عبد الحسين سلمان من جهة أخرى، وهي:
•   "غياب الملكية الفردية للأرض أو دور الدولة المركزية في تنفيذ المشروعات الكبرى للري خاصة بما يمنح رأس الدولة الحق النظري أو الشرعي في ملكية الأرض وبذلك يستولي جهاز الدولة علي فائض العمل لتصبح الدولة بموظفيها هي الطبقة الرئيسية والحاكمة بأمرها (الطاغية في الوقت نفسه).
•   الفلاحون أعضاء المشتركات الفردية القائمة بالإنتاج.. عبيد الدولة صاحب الأرض لا عبيد فرد ما.
•   يقترن الاقتصاد الطبيعي لهذه لمشتركات المكتفية ذاتياً باحتلال الحرف المنزلية والعمليات الصناعية المكانة الثانوية بالنسبة للزراعة، ويحول الإنتاج المشترك دون تطور التجارة والتبادل بين القرى بحيث يمنعه عن أن يصبح عنصراً حيوياً وتحريكاً اقتصادياً لتحيا المشتركات القروية حياة بنائية راكدة". (راجع: عبد الحسين سلمان، المفهوم الماركسي لنمط الإنتاج الآسيوي، الحوار المتمدن- العدد: 4589 – 2014 / 9 / 30).   
وفي تحليل آخر نشر في جريدة المدى أشار كاتب، دون أن يذكر اسمه، إلى ما يلي بشأن نمط الإنتاج الآسيوي: "- وجود مجتمعات زراعية رعوية كبيرة بملامح قبلية في أقطار واسعة تخترقها انهار كبيرة وذات مناخ جاف عموما. - نشوء مشاريع ري كبرى يترتب عنها تحميل الدولة أعمال إصلاح وإدامة الأنهار وقنوات الري والأراضي الزراعية. -  غياب الملكية الخاصة للأرض لصالح تملك الدولة للأرض كلياً، وغياب طبقة نبلاء وراثية نظرا لعدم وجود ضمان للملكية يمكن ان يؤسسها، وعدم انفصال الزراعة عن سبل الإنتاج الاخرى."  (راجع: مشكلة مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي 1، جريدة المدى، في 18/01/2015).
على وفق دراستي لمقولة نمط الإنتاج الآسيوي والكتب التي تسنى لي قراءتها أثناء تدريسي لأنماط الإنتاج والنمط الآسيوي في الإنتاج في الجامعة أجد بأن ليس هناك نمط إنتاج آسيوي واحد كما تم شرحه باختصار شديد وبشكل عابر من قبل ماركس وانجلز، بالاعتماد على دراسات قديمة وغير مكتملة، اتفق مع ما توصل إليه الفقيد الدكتور سمير أمين بأن ليس هناك نمط إنتاج آسيوي بذاته، بل هناك أنماط إنتاجية في هاتين القارتين آسيا وافريقيا. إن هذه الأنماط تحد من قدرة المجتمع على التطور والانطلاق صوب التغيير المنشود في القوى المنتجة على نحو خاص. ومن هنا اتفق مع ما توصل إليه الدكتور فالح مهدي بهذا الصدد من جهة، ومع حقيقة إعاقة أنماط الإنتاج في الدول الآسيوية والأفريقية على التقدم والتغيير من جهة أخرى. وتأكيد ذلك يرد في الفكرة الصائبة التي توصل إليها الدكتور مهدي ومفادها: إن العراق في ظل الإمبراطورية العثمانية كان قد أخرج من التاريخ، إذ كتب ما يلي: " لقد مَّر العراق بعد سقوط بغداد في عام 1258 بسلسلة لا تعد ولا تحصى من المآسي التي أخرجته من التاريخ. لذا يُعد الاحتلال البريطاني للعراق، في تقديري، بداية دخول هذا البلد في حركة التاريخ وحيويته. الاحتلال البريطاني يمثل موضوعياً إعادة ولادة هذا البلد!". (مهدي، الكتاب، ص 128). ويصح هذا القول على الهند أيضاً، التي خضعت للاحتلال البريطاني منذ أن نصب أول حاكم انكليزي عليها في العام 1774 ومن ثم فرض الاحتلال المباشر للهند رسمياً في العام 1875 ومن ثم تحت التاج البريطاني منذ العام 1876.     

109
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الحادية والعشرون
الأسباب الفعلية وراء الحرب الأمريكية لإسقاط دكتاتورية البعث عام 2003 في العراق
طرح الدكتور فالح مهدي في كتابه الموسوم "مقالة في السفالة: نقد حاضر العراق" وجهة نظر صائبة، حين أكد إن وهماً كبيراً هيمن على المجتمع العراقي مفاده أن الولايات المتحدة جاءت بحربها الدولية خارج إطار الشرعية الدولية لتحرر الشعب العراقي من ربقة النظام العبودي والاستبدادي الذي أقامه نظام صدام حسين. ثم أشار إلى العواقب التي نجمت عن ذلك في المجتمع العراقي. (راجع: فالح مهدي، مقالة في السفالة، نقد حاضر العراق: دار سطور، بغداد 2019، ص 173). وهنا بودي أن أشارك الزميل رأيه وأتوسع في الإجابة عن السؤال التالي: ما هي الأسباب الحقيقية والفعلية التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى شن حرب دولية ضد النظام العراقي حتى دون العودة إلى الأطر الدولية الشرعية، الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، واعتماد الأكاذيب ونشر المعلومات المزيفة والتزوير من أجل إقناع الشعب الأمريكي بأن الحرب ضد النظام العراقي ضرورية لإنها السبيل الوحيد للخلاص من أسلحة الدمار الشامل في العراق وحماية أمن الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل؟ لم يكن الأسلوب الذي استخدمه جورج دبليو بوش لإقناع الشعب الأمريكي بعيداً عن قول غوبلز "اكذبوا ثم اكذبوا ثم اكذبوا، لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس", وقد تحقق ذلك وابتلع الشعب الأمريكي الطعم، وشعوب ودول أخرى أيضاً، فوقعت الحرب بكذبة كبيرة بسبق إصرار.
أهمية الإجابة عن هذا السؤال تكمن في ضرورة حصول وضوح رؤية صادقة ومدققة لما حصل في العراق بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية وعجز الشعب العراقي عن مواجهة الوضع الجديد ودفع الوضع بالاتجاه الذي يخدم حقوقه ومصالحه التي داست عليها النظم السياسية المتتالية طيلة العقود الخمسة المنصرمة وزاد عليها الاحتلال الدولي بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
لقد خاضت الولايات المتحدة الأمريكية على مدى نيف وعقد من السنين حربين تدميريتين وحرب تجويع إضافية عبر فرض قرار الحصار الدولي الإجرامي ضد الشعب العراقي، ولم يكن في حقيقة الأمر ضد النظام الدكتاتوري، إذ لم يكن النظام البعثي هو المستهدف في الحرب الأولى، بل الشعب، أما في الحرب الثانية فكان الشعب والنظام الدكتاتوري هما المستهدفان معاً. وبيقين تام أؤكد بأن الحربين لم تكونا ضروريتان لتحرير الكويت في الحرب الأولى (1991) ولا الحرب الثانية لتدمير أسلحة الدمار الشامل (2003)، إذ لم تكن هناك أسلحة دمار شامل،بل كانت هناك أهداف مشتركة في الحربين كانت تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها، منها أهداف قديمة ومنها أهداف جديدة، يمكن الإشارة المكثفة إليها، علماً بأن هذه الأهداف قد طرحتها بتفصيل واسع في مقالات ودراسات ومحاضرات نشرتها وقدمتها في برلين ولندن وباللغتين العربية والألمانية وعبر ندوات عراقية أو لقاءات تلفزيونية في ألمانيا خلال الفترة الواقعة بين 1990-2003 وما بعدها.
منذ إنشاء مجلس عصبة الأمم برز الاهتمام الكبير للولايات المتحدة في العراق لثلاثة عوامل جوهرية في حينها، وهي الموقع الاستراتيجي السياسي والعسكري للعراق أولاً، والأرض التي تحمل الذهب الأسود، النفط الخام والغاز ثانياً، وسوق العراق الواعدة لاستثمار رؤوس الأموال الأمريكية وتصريف السلع المصنعة ثالثا. ولكنها لم تحظ بما ترغب، إذ كانت بريطانيا هي السباقة في الهيمنة على العراق وعلى نفطه وتوزيعه، بل تحقق للولايات المتحدة حصة من النفط وجزءاً من أهدافها. وقد ازداد اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية في العراق في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبرزت في العديد من الزيارات ومحاولات ربط العراق بعموم مشاريعها في منطقة الشرق الأوسط، ومنها مشروع النقطة الرابعة ومشروع الشرق الأوسط لأيزنهاور وجون فوستر دالاس، وحلف بغداد (السنتو). ولكنها لم تحظ بالكثير من ذلك. ثم جاء الانقلاب البعثي-القومي-الأمريكي في عام 1963، حيث أطلق عليه "جاء البعثيون بقطار أمريكي" لاحتلال بغداد وتصفية النظام الوطني والإجهاز على الحركة الديمقراطية وعلى الحزب الشيوعي العراقي، حيث تمكنت الولايات المتحدة تحقيق مجموعة من الأهداف دفعة واحدة، لاسيما زيادة نفوذ ودور وكالة المخابرات المركزية في العراق.
ولكيلا أطيل على القارئات والقراء الكرام أعود لأشير إلى أهداف الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في العراق، وهي:
أولاً: فرض الهيمنة السياسية والعسكرية الفعلية على العراق وربطه باتفاقيات تجسد مصالح الولايات المتحدة فيه وفي منطقتي الخليج والشرق الأوط.
ثانياً: فرض الهيمنة الفعلية على قطاع النفط الخام والتحكم بإنتاجه وتسويقه بما يسهم في تعزيز اقتصاد إسرائيل ووصول نفط العراق إليها وبكل السبل المتوفرة، وإذ كنت أؤكد في محاضراتي ولقاءاتي وكتاباتي على موضوع وأهمية النفط في حرب الخليج الثانية والثالثة، فأن العديد من الكتاب رفضوا هذه الموقف بإصرار مخل وغير مفهوم وأحياناً مريب. والآن لنقرأ ما كتبه غاري فوغلر (ضابط سابق في جيش الولايات المتحدة ومن خريجي أكاديمية ويست بوينت العسكرية، وشغل أيضاً مناصب إدارية في إكسون وموبل أويل كورب لأكثر من 20 عاماً ومؤلف كتاب العراق والسياسات النفطية: وجهة نظر مطلع. نشرته جامعن كنساس عام 2017)، في دراسته الموسومة: "خطوط أنابيب النفط ودورها في غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق": "إن العديد ممن تطوعوا عام 2003 ظنوا إن أسلحة الدمار الشامل كانت سبب الحرب مع العراق، لكن لا بد للتاريخ أن يذكر على نحو لا لبس فيه أن هناك وراء حرب العراق أجندة لتوفير نفط العراق لإسرائيل. كانت تكاليف تلك الحرب هائلة: أكثر من (4500) أميركي (عسكري ومدني) قتلوا (33000) أصيبوا بجروح خطيرة، وأنفقت أكثر من ترليوني دولار من الأموال الأميركية. وتكبد العراق خسائر جسيمة أيضاً فعدد العراقيين الذين قتلوا أو جرحوا تتضاءل أمامه أرقامنا." (راجع: غاري فوغلر، خطوط أنابيب النفط ودورها في غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق، ترجمة مصلح النقدي، نشرت الدراسة في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، تحت باب أوراق السياسة النفطية، بتاريخ 20/06/2019)   
 ثالثاً: إضعاف شديد للقوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية واللبرالية العلمانية في العراق لصالح القوى اليمينية والشوفينية والدينية والطائفية المتطرفة.
رابعاً: تركيع الشعب العراقي الذي أبدى مناهضته الدائمة للسياسات والأحلاف الغربية، لاسيما الأمريكية منها. وقد عبر عن ذلك قائد عمليات عاصفة الصحراء عام 1991 حين قال جئنا لنعاقب العشب العراقي على تأييده لنظام صدام حسين في إسقاط صواريخه على إسرائيل، كما إن العراق لم ينه حتى الآن حالة الحرب التي بدأت عام 1948 مع إسرائيل. 
خامساً: تدمير القوات المسلحة العراقية التي اتخذت مساراً توسعياً في العدة والعدد والأحدث من الأسلحة الدفاعية والهجومية، إذ بدا خطأً للإدارة الأمريكية أن العراق يهدد مصالحها ومصالح إسرائيل!!! 
سادساً: السيطرة على النفط الخام والغاز في عموم المنطقة، لاسيما على قرارات استخراجه وتصديره واسعاره من خلال زيادة التأثير على قرارات منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط (أوبك).
سابعاً: اتخاذ التدابير الضرورية، بما فيها تكثيف الوجود العسكري والسياسي والاقتصادي لحماية إسرائيل من أي حرب محتملة في المنطقة، إضافة إلى تعزيز قدرات إسرائيل العسكرية باعتبارها الحليف الأساسي والرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة.   
ثامناً: أن تكون الولايات المتحدة على مقربة من إيران لمراقبة تطور قدراتها العسكرية والاقتصادية ودعم قوى المعارضة فيها، لاسيما في أعقاب ما حصل لسفارتها في طهران وتدهور العلاقات معها، إضافة إلى التصريحات الجوفاء لإيران بإنهاء وجود إسرائيل!
تاسعاً: القرب من حدود روسيا الاتحادية ومراقبة تحركاتها باتجاه الخليج وعموم الشرق الأوسط.
عاشراً: إشاعة الفوضى الخلاقة في المنطقة وتنشيط الصراعات العربية-العربية والعربية مع إيران بهدف إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. لصالحها وصالح إسرائيل.
أحد عشرة: توفير المستلزمات الضرورية والشروط المناسبة لتصفية القضية الفلسطينية وإنها مشروع الدولتين على الأرض الفلسطينية، من خلال التحكم بسياسات الدول العربية القليلة المعارضة والمناهضة لإسرائيل ولو عبر الخطب الجوفاء.
اثنا عشرة: تأمين العراق وعموم المنطقة موقعاً لاستثماراتها الرأسمالية وفي إعادة تعمير ما دمرته الحروب في خضم المنافسة الرأسمالية الدولية المتفاقمة.
وأخيراً، وعلى وفق تصريحات جورج دبليو بوش، فأن الولايات المتحدة الأمريكية لديها رسالة، وكان مهووساً بها، رسالة "نشر الحرية والنموذج الأمريكي في الحياة" في سائر ارجاء العالم وتخليص العالم من احتمال عودة "قوم ياجوج ماجوج" من أرض العراق لغزو إسرائيل. فكل ما تعمله الولايات المتحدة في العالم، هو تحسبا من قوم يأجوج ومأجوج الذي في نظرهم ونبوءاتهم، الواردة في كتاب حزقيال عن قوم يأجوج ماجوج الذي سوف يزيل مملكتهم، وعليه ترى الولايات المتحدة نفسها أنها الدولة التي تقف أمام زحف يأجوج ومأجوج، وتعد العدة الكاملة والترسانة العسكرية المتطورة لهذا السبب. (راجع: يأجوج وماجوج، موقع المنتدى الثقافي، 14/02/2012).
جاء في كتاب حزقيال الإصحاح 38 عن نبوءة على جوج ملك ماجوج ما يلي:
1 وقالَ ليَ الرّبُّ 2: يا ا‏بنَ البشَرِ، إلتفتْ إلى جوجَ، رئيسِ ماشِكَ وتوبالَ‌ في أرضِ ماجوجَ، وتنبَّأْ علَيهِ 3 وقُلْ: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرّبُّ: أنا خصمُكَ يا جوجُ، رئيسُ ماشِكَ وتوبالَ، 4 فأُديرُكَ وأجعَلُ حلَقةً في فَكِّكَ وأُخرِجُكَ أنتَ وجميعَ جيشِكَ، خيلا وفُرسانا لابسينَ الثِّيابَ الفاخرةَ، وكُلُّهُم مُدجَّجونَ بالتُّروسِ والدُّروعِ والسُّيوفِ 5. ومَعهُم أُخرِجُ جنودَ فارسَ وكوشَ وفوطَ‌، وكُلُّهُم مُدجَّجونَ بالدُّروعِ والخُوَذِ، 6 ومعَكَ أنتَ أُخرِجُ جومَرَ وجميعَ جيوشِها، وبَيتَ توجرمةَ‌ مِنْ أقاصي الشِّمالِ وجميعَ جيوشِها، وشعوبا كثيرينَ.
7« فا‏ستعدَّ أنتَ وكُلُّ جنودِكَ المُجتمعينَ إليكَ وكُنْ لهُم قائدا، 8فبَعدَ أيّامٍ كثيرةٍ وفي سنَةٍ مِنَ السِّنينَ أدعوكَ لغزوِ أرضٍ سُكَّانُها نجَوا مِنَ السَّيفِ وجُمِعوا مِنْ بَينِ شُعوبٍ كثيرينَ وعاشوا آمنينَ في جِبالِ إِسرائيلَ الّتي كانَت مُقفِرةً. 9فتَهجُمُ علَيهِم كعاصفةٍ وتكونُ كسحابةٍ تُغطِّي الأرضَ، أنتَ وجميعُ جيوشِكَ وشعوبٌ كثيرونَ معَكَ. (راجع: كتاب حزقيال، الإصحاح 38 و39). 
كما وردت عن يأجوج مأجوج في القرآن أيضاً وعل النحو التالي: "ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)  حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)  قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)  آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)  فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)". (راجع: القرآن، سورة الكهف)
إن من يلقي نظرة فاحصة على أوضاع العراق والعديد من الدول العربية وعموم منطقة الشرق الأوسط سيدرك تماماً مدى صحة التقدير القائل بالنشاط الدؤوب للولايات المتحدة الأمريكية وبكل السبل الممكنة لتحقيق الأهداف الواردة في أعلاه، والتي ينتظر تحقيق ما تبقى منها أيضاً. ليس هناك أبشع من الانتقام الذي تعرض له العراق خلال الفترة الواقعة بين 2003 والوقت الحاضر (2019) ولا يعرف الإنسان إلى متى ستمتد هذه المرحلة المرعبة، حيث أبتلي العراق المعلول بها، على حد قول الدكتور فالح مهدي. لقد ابتلى العراق بالطائفية السياسية المقيتة باعتبارها الهوية الرئيسية المعتمدة بدلاً من هوية المواطنة العراقية الواحدة والموحدة والمشتركة، وبالمحاصصة في توزيع سلطات الدولة ومؤسساتها  وهيئاتها على أساس ديني وطائفي، فالإسلام أولاً والطائفة ثانياً والمواطنة لا مكان لها من الإعراب في هذه الدولة المشوهة والهامشية، حيث يسود التمييز الديني بأقسى صوره مشحوناً بالإرهاب الدموي والاجتياحات والاستباحات المستمرة والإبادة الجماعية والاغتصاب والقتل والتشريد للإيزيديين والتهجير القسري والنهب للمسيحيين والتركمان والشبك والتدمير الواسع النطاق والفساد الشامل والخراب والرثاثة المنتشرة في الدولة والمجتمع، والهيمنة الإيرانية الفعلية على مقاليد الحكم في البلاد زائداً السيطرة الأمريكية، والتدخل الفظ واليومي في شؤون العراق الداخلية والخارجية كافة. لقد توقفت عملية التنمية وتوقف نمو قطاع الدولة والقطاع الخاص الصناعي وتراجع الإنتاج الزراعي وهيمن الاستيراد على الواقع العراقي واشتد الطابع الريعي للاقتصاد العراق، إنها نتائج الحربين الأخيرتين والحصار الاقتصادي، إضافة إلى تركة النظم الاستبدادية الشوفينية والطائفية. إنه الانتقام الأكثر بشاعة من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفكرية والفلسفية في تاريخ العراق الحديث. إنها المرارة التي يتجرعها الشعب العراقي يوميا وفي كل ساعة، إنه السم الزعاف الذي ينبغي الخلاص منه بكل السبل المتوفرة. كما ان الصراع الأمريكي الإيراني يحصل الآن على الأرض العراقية أيضاً ومخاطرها كبيرة على الشعب العراق إذا ما استعلت الحرب بن الطرفين, وهي التي يفترض أن نعل لمنع وقوعها، رغم كرهنا للنظام الإيراني البشع، ولكن خشية على الشعب الإيراني الجار والصديق وعلى شعب العراق.   
             

110
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة العشرون
النظم الدكتاتورية ومثقفو العراق

يقضــي الإنســـان سنواتـه الأولـى فـي تعلم النطـــق،
وتقضي الأنظمة العربية بقية عمره في تعليمه الصمت!"
أحلام مستغانمي
كاتبة وشاعرة جزائرية
كثافة الموضوعات التي تضمنها كتاب الدكتور فالح مهدي "مقالة في السفالة: نقد الحاضر العراقي"، وكثرة الإشكاليات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عالجها فيه، تفتح شهية القارئ والقارئة للمداخلة والتعليق وتبيان وجهة نظر مؤيدة أو مخالفة لهذه المسألة أو تلك. لكن سيجد الإنسان ما يتعلم منه ويستفيد. وقد اطلعت على قراءة نقدية جدية وجيدة ومهمة للسيد الدكتور جواد بشارة حول كتاب د. فالح مهدي تحت عنوان " قراءة في كتاب الدكتور فالح مهدي - مقالة في السفالة نقد الحاضر العراقي"، المنشورة في الحوار المتمدن بعدده 6125 بتاريخ 25/01/2019. هذه الحلقة ستكون الأخيرة في سلسلة الحلقات التي أنجزتها والتي لم تستطع تغطية كل المقالات بالتعليق والملاحظة النقدية، الإيجابية منها والسلبية، الواردة في هذا الكتاب المهم.
من يلقي نظرة فاحصة على مسيرة الدول العربية، كلها دون استثناء، وعلى امتداد المئة عام المنصرمة، دع عنك فترة الانحطاط العثمانية، سيجد نفسه أمام ما يمكن أن يطلق عليه بسلسلة متواصلة من المآسي والكوارث الإنسانية والمهازل البشرية التي عاشت وماتزال تعيش تحت وطأتها شعوب الدول العربية بقومياتهم العديدة وأتباع دياناتهم ومذاهبهم الدينية والفكرية او الفلسفية كلها دون استثناء من جهة، والمعاناة القاسية والشرسة والمدمرة لمواهب وكفاءات وقدرات فئات الشعب عموماً والمثقفة والكفاءات العالية لبنات وأبناء هذه الشعوب المستباحة بشكل خاص من قبل نظم غير ديمقراطية واستبدادية ودكتاتورية مطلقة أو توتاليتارية مرعبة، من قبل حكام سقطوا في مستنقع العفونة وسعوا ومازالوا يسعون إلى جر شعوبهم أو إبقاءها في المستنقع الذي هم فيه. ويحتاج أي باحث إلى عشرات بل مئات الكتب ليضع أمام العالم ما جرى ويجري لهذه الشعوب من قبل حكام جلهم من السفلة الأوباش، ونماذج منهم ماتزال تحكم هذه البلدان. ولهذا سأركز في هذه الحلقة على ما ورد في كتاب الدكتور فالح مهدي عن العراق.
لم يتعرف الشعب العراقي على مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في حياته اليومية عبر القرون والعقود المنصرمة، ولكن جزءاً مهماً وكبيراً من المثقفين والمتعلمين فيه تسنى لهم التعرف على هذه المبادئ وتعلقوا بها وناضلوا من أجلها. ولم يكن عدم التعرف على هذه المبادئ نتيجة عجز في الناس أو إهمال منهم، بل هي حالة ارتبطت بطبيعة الدولة التي ولدوا فيها وعاشوا في ظلها وتحت وطأة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أقيم فيها ونشأ عنها. ورغم أن المتنورين من الشعب قد نهضوا عدة مرات وانتفضوا وسعوا لكسب شعوبهم إلى جانبهم لتحقيق تلك المبادئ، فأنهم لم يوفقوا كثيراً في الوصول إلى ما سعوا إليه، بل كان الفشل هو حليفهم المستمر. وسبب ذلك يكمن في كونهم لم يستطيعوا تغيير واقع الاقتصاد العراقي وطبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة فيه ومستوى تطور القوى المنتجة في ظل تلك العلاقات، وبالتالي كانت تلك العلاقات تعيد إنتاج نفسها وتتحكم بوعي الفرد وغالبية المجتمع. أي إنها كانت تعيد إنتاج العلاقات الإنتاجية البالية ذاتها، تلك التي تساهم في إبقاء الوعي ذاته على حاله دون تغيير كبير، والتغيير الحاصل كان جزئياً ومحدوداً.
فقد شهد المجتمع العراقي في العقود الأخيرة ردة فكرية واجتماعية وثقافية وسياسية عميقة وشاملة ومريرة، تسنى فيها لفئات اجتماعية رثة فكراً وسياسة وممارسة القفز على السلطة وتدمير الدولة وتعذيب من يعيش فيها بشتى السبل. في ظل هذه الأوضاع لعبت الدولة الهشة والعليلة، وماتزال تلعب، دوراً مركزياً ومحورياً في إبقاء تلك العلاقات المتخلفة وتنشط دورها في إعاقة أي تغيير منشود نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتعرقل حركة المجتمع وقدرته صوب تغيير موازين القوى لصالح التغيير الحر والديمقراطي المنشود. هذا هو حال العراق منذ عقود وحتى الآن. كتب الدكتور فالح مهدي: "لقد أتت الانقلابات في البلدان التي يطلق عليها "تقدمية" بأسفل الناس وأكثرهم غباءً، وأصبح شعار "كل شيء من أجل المعركة" إلى "كل شيء من أجل البقاء في الحكم"! لذا وجدت تلك الأنظمة "الوطنية" إن أهم شروط ديمومة الحكم يتمثل في إخصاء المواطن وتحويله إلى إمعة وتابع أو موضوعاً هامداً همه الأول البقاء على قيد الحياة. التجربة البعثية السوداء في العراق (1968-2003) تقدم لنا صورة دقيقة عن عملية الإخصاء تلك، فقد اجتمعت مجموعة من الشروط سمحت بانزلاق تلك السلطة إلى قعر الدونية." (مهدي، الكتاب، ص 222). 
لم يستطع الشعب العراقي على امتداد ما يقرب من قرن كامل تقريباً (1921-2019) التخلص من الطابع الريعي للاقتصاد الوطني ومن نشوء وتطور دولة ريعية نفطية غير ديمقراطية، ومن ثم في مراحل لاحقة، استبدادية وتوتاليتارية شوفينية أو مستبدة تحت غطاء ديني ومذهبي، كما هو حال العراق الآن. إذ امتلكت الدولة العراقية، وماتزال، سلاحين مهمين هما: المال المتأتي من إنتاج وتصدير النفط الخام أولاً، واحتكار العنف والقوة في ممارسة سلطات الدولة الثلاث ثانياً. وقد استخدمت هذين السلاحين على امتداد الفترات السابقة بأساليب وأدوات متنوعة، ولكن الحصيلة كانت وما تزال واحدة، فمن لا يخضع لها بالمال ومن لم تشده إليها بالتبعية المالية والبقاء على قيد الحياة، وجهت وماتزال توجه له سلاح الدولة الآخر، استخدام القوة والعنف بطرق وأساليب شتى. وتركز هذا التعامل بشكل خاص مع مثقفي العراق أولاً، ومع مثقفي الدول العربية، بل ومع مثقفين في دول أسيوية وأفريقية وأوروبية، بل وصل الأمر إلى حد إرشاء حكومات، كما فعل مع حكومتي اسبانيا وفرنسا في فترات معينة، بأمل كسبهم إلى جانب نظام البعث والدفاع عنه والتحريض ضد من لا يقف معه. وهنا كان النظام العراقي البعثي يمارس ما سميّ بـ "مكرمات الرئيس القائد". لقد اعتبر صدام حسين خزينة الدولة العراقية خزينته الخاصة وله الحق في التصرف بها كما يشاء وليس من حق أحد محاسبته عليها. ومن يجرأ على قول كلمة بهذا الصدد، يمكن أن يصاب برصاصة من كاتم صوت ويجده الناس مرميا على قارعة الطريق في بغداد أو في غيرها من مدن العراق. فلم يطبق صدام حسين الحملة الإيمانية لإخضاع العراقيين والعراقيات لإرادته فحسب، بل وتصرف بالمال العام كما كان يتصرف به معاوية بن أبي سفيان أو أبو جعفر المنصور. فالأول قال حين خطب في الجامع: "إنما المال مالنا والفيء فيؤنا فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه" (راجع أميل توما: الحركات الاجتماعية في الإسلام. دار الفارابي. بيروت. 1981. ص 58. راجع ايضاً: أمين، أحمد. فجر الإسلام. لجنة التأليف والنشر والترجمة. القاهرة. 1964. ص 258/259). والثاني أبو جعفر المنصور إذ وقف يوم عرفة خطيبا حدد فيه برنامجه السياسي فقال: "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني". (راجع: إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية- دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، سلسلة عالم المعرفة رقم 183، الكويت 1994، ص 219).
تحت عنوان المثقف العاهر كتب الدكتور فالح مهدي يقول: "إن أحد أسباب الدمار الذي حل لا في العراق فحسب، بل في كل بلدان العالم الريعية، لاسيما الناطقة باللغة العربية، وجود هذا العدد الكبير من المثقفين الذين يبيعون أنفسهم بأسعار زهيدة". ويواصل قوله: المثقف يفترض أن يكون صاحب ضمير ويساهم عبر ثقافته وعمله في الكشف عما يراد له أن يكون طي الكتمان، أو نقد ما ينبغي نقده". (الكتاب، ص 252). الأساس في المسألة هو استعداد الإنسان لبيع نفسه، أما السعر، فسواء أكان بخساً أم عالياً، فلا يغير من حقيقة دوس البائع على ضميره ومصالح شعبه. والمشكلة الثانية هنا علينا أن نتحدث عن الجلاد الذي يجبر جمهرة من المثقفين على بيع ضمائرهم ليس بالمال وحده أو المنصب، بل بالعصا الغليظة، بجعلهم يرون الموت بأم عيونهم أو الاعتداء على شرف عائلاتهم. هذا ما حصل في زمن النظام البعثي وأعرف حوادث كثيرة حصل هذا مع مثقفين لا أريد أن أبرر لهم فعلتهم، بل لأشير إلى إننا يفترض ان نركز في شجبنا وإدانتنا على الجلاد، الحاكم الفاسق والفاسد والظالم.   
ولكن ماذا يجري في الدولة الطائفية المحاصصية في العراق؟ كل المعطيات التي تحت تصرفنا تشير إلى إن حكام الدولة الطائفية الجديدة قد فاقوا حكام الإمبراطوريات "الإسلامية" الثلاث (الأموية والعباسية والعثمانية) ودولة البعث التوتاليتارية في نهب أموال الدولة وحجم النهب والسلب أولاً، وتجاوزا في مكرماتهم لأنفسهم ولغيرهم ممن يريدون بها شراء ذمم الناس وكرامتهم. فهم يتصرفون باعتبارهم أولياء الله في أرضه، يتقاسمون مع أغلب شيوخ الدين من الشيعة والسنة أموال الشعب ويترحمون على الشعب ويتمنون له حياة رائعة يوم الآخرة تعوض له عن حياة العذاب والفقر والفاقة في حياته الراهنة. أنها المأساة والمهزلة في آن واحد. لكي يتستروا على أوضاعهم يقومون ببناء المزيد من الجوامع والمساجد ويوزعون بعض المكرمات أو يمارسون اللطم والبكاء والعويل مع الاطمين على "أهل البيت" والمصيبة التي حلت قبل مئات السنين بالشهيد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وصحبه الكرام. وبصدد هؤلاء الفساق والدجالين يشير الدكتور فالح مهدي بصواب كبير إلى ما يلي: "من يبني قصوراً ومساجدَ على ذلك النحو المفرط، بعيد عن حب الله بل هو الأكثر فسقاً وكفراً" (الكتاب، ص 214). وإذ يتحدث هنا عن صدام ورهطه، لم ينس من يسرق المليارات من الدولارات الأمريكية من خزينة الدولة العراقية ويضعها في حساباته في البنوك الأجنبية ويشتري القصور في الداخل والخارج، والأمثلة كثيرة ترد هنا من النخبة الحاكمة ومن أعضاء قياديين بارزين في الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة. وهنا يشير الدكتور فالح مهدي إلى مفهوم المال السائب فيكتب" على ضوء هذا المبدأ الفقهي، تم نهب موارد الدولة. من جاء إلى السلطة ليس له علاقة بثقافة الدولة وكيفية إدارتها. ثم يمثلون الرثاثة بعينها ... صدام حسين حكم باسم "الأمة العربية"، إنما لم يتمكن ذلك الشعار من إخفاء حكم العشيرة والعائلة، هم استلموا السلطة على طبق أمريكي من ذهب وحكموا بشعار "المظلومية" الشيعية، علماً إن عهد التشيع في العراق قريب العهد، فقدموا مفهوم الطائفة، بدل الوطن، والمسيرات المليونية بدلاً من نشر الثقافة والتعليم". (الكتاب، ص 289).           
من يتابع مواقف المثقفين في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة يستطيع القول بأنهم انقسموا إلى فصيلين، فصيل مع السلطة، وفصيل معارضٌ لها. وهذا الانقسام في صفوف المثقفين يرتبط بعوامل كثيرة لست في معرض البحث فيها، ولكن الثابت حتى الآن أن الكثير من مثقفي السلطة يعتمدون أساليب السلطة ذاتها لإقناع أو إخضاع المثقفين المعارضين للسلطة ليكونوا في صف السلطة غير الديمقراطية والمستبدة، بل ويساهمون في التآمر على المثقفين المعارضين للتخلص منهم. حصل هذا في العهد المظلم في فترة حكم صدام حسين، كما حصل في استشهاد المناضل المدني والمثقف العضوي الشيوعي كامل عبد الله شياع، وهادي المهدي على سبيل المثال لا الحصر في هذا العهد المظلم، عهد الحكم الطائفي المحاصصي الفاسد والمهين للشعب كله.
لقد أصدر صدام حسين قائمة تتضمن 1000 اسم من مثقفي العراق، وكان شخصي المتواضع من بينهم، منع تداول كتبهم وسحبها من المكتبات وأحرقها، كما فعل الهتلريون النازيون بحرق كتب كبار المثقفين الألمان وغير الألمان التي وجدت في دور الكتب الألمانية. لقد تسبب صدام حسين ونظامه بموت أو القتل المباشر لعدد كبير من مثقفي العراق، نذكر منهم الدكتور الطبيب خليل جميل الجواد، والدكتور محمد سلمان حسن، والدكتور محمد صالح سميسم، والدكتور صفاء الحافظ، والدكتور صباح الدرة، وعائدة ياسين وعزيز السيد جاسم، بل والعديد من مثقفي السلطة.
إن النظام السياسي الطائفي المحاصصي القائم حالياً في العراق يعتبر نظاماً معادياً للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أولاً، ويعتبر معادياً فعلياً للثقافة الديمقراطية والتقدمية وللمثقفات والمثقفين الديمقراطيين والحياة الديمقراطية ثانياً. ويسعى المتحكمون به بممارسة كل السبل لنشر ثقافتهم الخاوية والبكائية، ويحرمون المؤسسات والمنظمات المدنية الديمقراطية من إمكانية التقدم والتطور من خلال حبس أموال الدولة عنها وعن دعم نشاطاتها الفكرية والثقافية العامة وفي مختلف مجالات الثقافة والفنون الإبداعية. إنهم يريدون دولة رثة بثقافة وحياة رثة لا تختلف عن رثاثة فكرهم وضحالته وخواء وجدب الحياة الثقافية في عهدهم.
إن كتاب مقالة في السفالة يكشف عورات النظام البعثي من جهة، والنظام السياسي الطائفي من جهة أخرى، ويعري القاعدة أو الأرضية الفكرية التي يستندون إليها ويعتمدونها، إنه الفكر الدائري المغلق الناشئ عن عقل دائري مغلق، والذي يعتبر السبب المباشر، وليس الوحيد، وراء واقع العراق المظلم والمعلول، كما أشار بصواب الكاتب والصحفي المتميز توفيق التميمي في تعليقه على هذا الكتاب. والكاتب يدرك إن هذا العقل الدائري المغلق لا مستقبل له في عالم الحضارة الحديثة، وبالتالي يراهن بصواب على الإنسان العراقي المتحرر من سجن العقل الدائري المغلق، المثقف الواعي والمتمسك بثقافة ديمقراطية ورؤية عقلانية واقعية لمستقبل العراق والعامل من أجل ذلك.
انتهت الحلقة العشرون وتليها الحلقة الحادية والعشرون
08/06/2019
   

111
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة التاسعة عشرة
أكردة الحزب الشيوعي العراقي وهزال القيادة
كتب الأستاذ الدكتور فالح مهدي يقول بأن "أول من انتبه إلى حقيقة، إن معظم قادة الحزب الشيوعي كانوا من الأكراد هو حنا بطاطو حسب علمنا، لقد انتبه ذلك الباحث الشريف من أن مذابح كركوك التي اتهم بها الشيوعيون في بداية الستينيات من القرن المنصرم كانت من صنيعة الأكراد المتطرفين". ثم يواصل قوله فيكتب: "لقد كان من نتائج أكردة الحزب الشيوعي في بداية الستينيات من القرن المنصرم، أن خرج الحزب الشيوعي من شعار الأممية إلى شعار القومية". (مهدي، الكتاب، ص 208/209). 
أبدأ أولاً ببعض التصحيحات التاريخية قبل الخوض بالنقاش. التصحيح الأول، وقعت احداث كركوك في 14 تموز 1959، أي أثناء احتفال المدينة بالذكرى الأولى لثورة تموز 1958، وليس في بداية الستينيات. التصحيح الثاني: يشار إلى أكردة الحزب في فترتين الأولى مع مجيء ثلاثة من الكرد الشيوعيين على رأس الحزب في الفترة بين 1949 حتى العام 1954/1955، والفترة الثانية في أعقاب انقلاب شباط واستشهاد جمهرة كبيرة من القادة الشيوعيين العرب. ليس حنا بطاطو أول من كتب عن ذلك بل أجهزة التحقيقات الجنائية في العهد الملكي، ومن ثم أجهزة أمن البعث، والكاتب حنا بطاطو اعتمد على تقارير أجهزة الأمن التي وضعت كلها تقريباً تحت تصرفه، وقد عالج ليس موضوع الحزب الشيوعي من الناحية الطبقية والاجتماعية والقومية والدينية فحسب، بل عالج بقية الأحزاب السياسية من هذه الزوايا العديدة. ولست معنياً هنا بالأهداف التي كانت وراء مثل هذه التشخيصات والجهة التي مولت هذا البحث الكبير والمهم والذي استفادت منه جهات كثيرة، كما نستفيد منه ايضاً.
عن الفترة الأولى: في عام 1947 جرى اعتقال الغالبية العظمى من أعضاء اللجنة المركزية وكل المكتب السياسي. ومن لم يعتقل في تلك السنة، اعتقل في العام 1948 و1949. وقد قدم مالك سيف ويهودا صديق وغيرهما، الذين خانوا حزبهم، كل المعلومات الضرورية لتوجيه أقسى الضربات للحزب وقيادته وكوادره في العراق، لاسيما في بغداد والوسط والجنوب. ولم يبق في عام 1950 من قادة الحزب المعروفين من يمكن أن يأخذ على عاتقه مسؤولية الحزب. فانبرى لها العديد من الرفاق الكرد الذين استقدموا من كردستان ليمارسوا دورهم في لملمة ما تبقى من الحزب وإعادة بنائه. ولم يكن أي من هؤلاء الرفاق مخولاً من أي مؤتمر أو لجنة مركزية، بل قاموا بمبادرات شخصية واعية، فقادوا الحزب إلى شاطئ السلام. لم يكن هؤلاء الرفاق يمتلكون قدرات فكرية عالية أو تجربة سياسية غنية ومهمة وطويلة، بل كانوا شبابا في العشرينيات من أعمارهم، ولكنهم صمدوا بوجه الإرهاب الدموي وأنقذوا الحزب من التصفية الفعلية، والثلاثة الذين لعبوا هذا الدور المهم هم بهاء الدين نوري وكريم أحمد وحميد عثمان، إضافة إلى المئات من الكوادر والأعضاء الآخرين. والثلاثة هم كرد، إذ كانت القيادات والكوادر الشيوعية العربية ومن كان منهم من اليهود والمسيحيين قد تلقوا ضربات قاسية جداً ووجدوا أنفسهم في السجون. ولم يدفع هؤلاء بالحزب إلى الاتجاه القومي الكردي، بل ساروا على نهج الحزب السابق، ولكنهم تميزوا بالمواقف اليسارية عموماً، ولاسيما بهاء الدين نوري وحميد عثمان. وقد أشرت سابقاً بأن فترة وجود بهاء على رأس التنظيم قد رفع شعاراً طفولياً في الشارع يقول "بس تامر باسم للعرش نشيلة"! ولم يكن في برنامج الحزب هدف إسقاط الملكية حينذاك. كما رفع شعار الاستقلال لكردستان، ولكنه لم يبق طويلاً، إذ سحب مباشرة. لم يكن وجود رفاق شيوعيين أكراد بصورة متتالية على رأس الحزب نتيجة تخطيط متعمد، بل كان بسبب التصفيات التي تعرض لها الحزب وكوادره من القوميات الأخرى، ويفترض أن يفهم هذا الواقع بصواب أولاً، وأن يقيموا جيداً، لأنهم استطاعوا انقاذ الحزب وأوقفوا الاعترافات والانهيارات في صفوفه وواصلوا المسيرة.
عن الفترة الثانية: أشار الدكتور فالح مهدي بصواب إلى الضربة الموجعة والمدمرة التي تعرض لها الحزب الشيوعي في انقلاب شباط المشؤوم. وهذه الضربة الموجعة جداً أدت إلى خسارة الحزب لأغلب قيادييه وكوادره في بغداد والوسط والجنوب وغرب بغداد، ومجموعة من الكرد والكرد الفيلية أيضاً، ولم يبق الكثير منهم، إلا من كان في الخارج أو من كان في كردستان أو استطاع الاختفاء عن أعين أجهزة الحزب والأمن البعثيين والقوميين والإفلات من الموت المحقق. وحين عقد اجتماع اللجنة المركزية في براغ في عام 1964، كان عزيز محمد واحداً من أعضاء المكتب السياسي الناجين أثناء قيادة سلام عادل للحزب. وقد جاء إلى الاجتماع من الداخل وانتخب سكرتيراً أولاً، رغم إصراره على الرفض لقناعته الشخصية بأن هناك من هو أحق منه وأكثر ثقافة، من الناحية النظرية بشكل خاص. ولم يجر انتخابه لأنه كردي بأي حال، إذ لم تكن هذه الظاهرة القومية الراهنة، ولا الانتماء الديني والمذهبي، يلعبان أي دور في حياة الحزب الداخلية وفي الانتخابات ولا في صفوف الشعب العراقي. وحين يلقى الباحث نظرة على قيادة الحزب حينذاك، فلم يشكل الكرد الأكثرية في القيادة، ولكن العمل الحزبي وتراجع عدد الكوادر العربية بسبب الموت أو السجن أو الخروج من الحزب أو الخيانة، ازداد عدد الكوادر الكردية في قيادة وكوادر الحزب، وهو أمر طبيعي بالنسبة للشيوعيين العراقيين وأن يتقدموا في مواقعهم الحزبية. ولم تبرز أي ظاهرة قومية في الحزب كما يشير الدكتور فالح مهدي بقوله ""لقد كان من نتائج أكردة الحزب الشيوعي في بداية الستينات، أن خرج الحزب الشيوعي من شعار الأممية إلى شعار القومية." (الكتاب، ص 209) وبرأيي ومعرفتي بواقع الحزب وكوني من كوارد الحزب المتقدمة حينذاك، وقد سحبت من الخارج إلى الداخل، ومعي العشرات من الكوادر التي كانت في الخارج، للمشاركة مع رفاقي في العام 1964/1965 بصورة سرية، في عمل ونشاط الحزب. لم يتغير شعار الحزب الأممي بشعارات قومية. وأرى أن هناك فهماً خاطئاً للعلاقة بين الأممي والقومي. فالأممي لا يتنكر لقوميته أو لشعبه أو لوطنه، بل يزداد تمسكاً بهما شريطة ألَّا تأتي على حساب قوميات أخرى أو الإساءة لقوميات وشعوب أخرى أو لأوطان أخرى. الأممي فكراً وممارسة يحترم جميع القوميات والشعوب، كما إن من يحترم حريته وحقوق قوميته وشعبه، يحترم حرية وحقوق القوميات والشعوب الأخرى. الأممي لا يفتخر كونه عربياً أو كردياً أو تركياً أو فارسياً...الخ، بل يفتخر بكون إنساناً، وولد في هذا البلد أو ذاك وينتسب لهذه القومية أو تلك وكلها بالصدفة. إنه إنسان ويحترم حريته وكرامته وحرية وكرامة الآخرين.
قبل أن يكون في الحزب الشيوعي العراقي كردياً واحداً رفع الحزب الشيوعي العراقي في عام 1935 استقلال كردستان مثلاً، وحين لم يكن عزيز شريف الماركسي وقبل أن يكون عضواً في الحزب الشيوعي العراقي وقيادياً فيه، رفع شعار حق الشعب الكردي في الاستقلال في كراسه الشهير الذي صدر عام 1950/1951 ومن ثم صدر في العام 1955 باسم نصير، والموسوم: "المسألة الكردية في العراق". يقول عزيز شريف في "عرض المسألة: ظاهرتان للمسألة الكردية في العراق: الظاهرة الأولى تمثل الوجه السلبي للمسألة الكردية أي اثر السياسة الاستعمارية الرجعية التي قضت باستعباد الشعب الكردي وتمزيق أوصاله وابقائه في مستوى من العيش البهيمي. أما الظاهرة الثانية للمسألة الكردية في العراق: فإنها تمثل الوجه الإيجابي لهذه المسألة وهو كفاح الشعب الكردي في سبيل حرياته وفي سبيل تقرير مصيره." ثم يواصل فيقول: "والمسألة الكردية في العراق ليست عراقية صرفة، إنها جزء من مسألة الشعب الكردي في جميع موطنه كردستان وإن مزقته السياسات الاستعمارية والرجعية المحلية الجائرة وإن تعددت لهجاته حتى بدت أحياناً كأنها لغات مختلفة بسبب العزلة". (راجع: عزيز شريف، المسألة الكردية في العراق، الطبع الرابعة، 2004، ص 29). وكما يعرف زميلي الدكتور فالح مهدي أن عزيز شريف ليس كردياً بل عربياً من مدينة عانة.
لقد كان عدم احترام القوميات الأخرى وعدم تمتعها بالحرية التامة والحقوق أحد العوامل البارزة والملموسة في انهيار الاتحاد السوفييتي وتفتته إلى جمهوريات عدة، ولذلك يمكن أن يتعزز العراق ووحدة قومياته لو كانت الحكومات العراقية المتعاقبة قد مارست السياسات الديمقراطية ولو سمحت للشعب الكردي التمتع بحقوقه المشروعة والعادلة، ربما لما طالب بالضرورة بالاستقلال والسيادة الوطنية. نحن، أنت وأنا وغيرنا من العرب، لا نجد شائبة أو غضاضة في وجود 22 دولة عربية، وبعضها قزمية، وبعضها كان جزءاً من العراق، مثل الكويت، ولكن لماذا ننتفض ولا نقبل أو لا نفهم حين يطالب الكرد، وهم شعب يتجاوز عدده ألـ 40 مليون نسمة في أجزاء كردستان الأربعة، بحقهم المشروع في إقامة دولتهم الوطنية المستقلة؟
حين نتحدث عن الطبقة العاملة العالمية، يتجه الأمر صوب التضامن بين الطبقة العاملة في جميع أجزاء المعمورة، "يا عمال العالم التحدوا"، ولكن هذا لا يعني اغتصاب حقوق الطبقة العاملة في بلد ما، أو لا يحق للطبقة العاملة في العراق أن تناضل في سبيل الديمقراطية وفي سبيل الحقوق القومية للعرب والكرد والقوميات الأخرى على وفق الأوضاع الجارية في البلاد.
في هذا الجزء من المقالة في السفالة نوع من خلط الأوراق. فلم يكن للكرد دخل في الاعتراف بإسرائيل عام 1947/1948. وفي حينها كتب شيوعيون عرب من العراق رسالة أرسلت من باريس إلى الرفيق فهد يطلبون منه فيها الاعتراف بإسرائيل بعد اعتراف ستالين بذلك. لم يوافق فهد على ذلك وطلب بحث الموضوع مع الحزب الشيوعي السوري. ويبدو إن الحركة الشيوعية العالمية قد اقرت ما وافق عليه الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن الدولي. ولم يكن مثل هذا الاعتراف في حينها من جانب الشيوعيين صاباً، إذ لم يكن من مهمات الحزب الملحة حينذاك. ويمكن لمن يشاء أن يطلع على موقف الحزب بهذا الصدد والعودة إلى ثلاثة كتب لي هي "فهد والحركة الوطنية"، و"لمحات من عراق القرن العشرين" ويهود العراق والمواطنة المنتزعة.
لم يحول وجود الكرد في قيادة الحزب إلى حزب كردي، كما لم يحولوه إلى حزب قومي عربي بوجود العرب في قيادة الحزب، ولا الكلدان حولوه إلى حزب كلداني بسبب كون الرفيق فهد ولد في عائلة مسيحية كلدانية، بل بقي أميناً للمبادئ التي اعتنقها واقتنع بها. ولكن يمكن الحديث عن إن الكرد الشيوعيين في الحزب قد أثروا، بهذا القدر أو ذاك، في علاقة الحزب مع القوى الكردستانية، كما أرى، وفي فترة معينة، ولاسيما في فترات الصراع بين الحزبين الكرديين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، إذ وجد في قيادة الحزب وكوارده من الكرد من كان يؤيد هذا الحزب أو ذاك، وكان لهذا تأثيره السلبي على الحزب في الثمانينيات، ولاسيما في فترة الأنصار وما حصل في مجزرتي بشت آشان الأولى والثانية واستشهاد عدد كبير من خيرة كوادر الحزب الشيوعية من النساء والرجال ومن مناضليه الشجعان. لو كان الزميل فالح مهدي أشار إلى هذه القضية لأعطيته الحق، ولكن ليس لما أشار إليه ولم يتعمق بدراسة ما يجري الحديث عنه هنا وهناك ومن بعض الأشخاص وبعيداً عن المسؤولية فيما ينشأ عن ذلك من تكهنات غير دقيقة أو غير صحيحة.           
الرفيق عزيز محمد
في مقالته عن قيادات هزيلة تطرق الزميل فالح مهدي للفقيد الرفيق عزيز محمد. لا أستطيع أن أناقشه فيما ذهب إليه واكد هزالة القيادات الحزبية، فهذا تقديره الشخصي، وأن كنت أختلف فيه معه. لقد مر الحزب بفترات عصيبة وخسر الكثير من قيادييه وكوادره المتقدمة والمثقفة والواعية. وجاءت فترات على الحزب قادته مجموعة صغيرة من الشباب قليلة المعرفة والثقافة والوعي والتجربة. ولكن في فترات أخرى كان فيه أناس مثقفون واعون من العمال أيضاً، وليس من الوسط الثقافي فقط. لقد كانت المستويات في القيادة الحزبية ليست واحدة من جهة، وهي خاضعة للمستوى التعليمي والثقافي والفرص التي توفرت للكادر على التعلم والتثقف، وبالتالي كانت القرارات تتخذ في ضوء الأكثرية والأقلية، وفي هذه الحالة يصعب القول بأن هذا القرار اتخذ من قيادة هزيلة وقرار آخر من قيادة متينة. ولكن حين تتخذ سياسات خاطئة ليس بالضرورة أن تكون القيادة هزيلة بل يمكن أن تلعب عوامل أخرى دورها في اتخاذ هذه السياسة أو تلك. وقد حاولت توضيح هذه المسألة في أكثر من موقع في الحلقات المنصرمة. فقد تحدث الزميل فالح مهدي عن الرفيق عزيز محمد بالآتي: "لا شك أنه دمث الأخلاق، وحسن المعشر، إنما لا يتمتع بأي موهبة تسمح له بقيادة الحزب ثلاثين، بل يذكر مهدي السعيد نقلاً عن عضو اللجنة المركزية السابق والمثقف البارز، عامر عبد الله، أنه لم يره أبداً بصحبة كتاب!". فهو من دعا إلى تلك الجبهة البائسة ومن وقع عليها. وكان يفترض به على ضوء مبادئ الشرف ان يطلق النار على نفسه" (الكتاب، ص 203). كم كنت أتمنى على الصديق العزيز ألَّا يكون هذا المقطع وهذه الكلمات الجارحة وما بعدها في كتابه، فالكلمة يا صديقي العزيز مسؤولية! ففيها الكثير من التجني والتجاوز على إنسان لم يكن كما وصفه ولم يكن المسؤول عن الجبهة، ولا عن الموقف من فترة حكم عبد السلام عارف. وبما إنني مطلع على وقائع عمل الحزب والرفاق خلال الفترة موضوع البحث، يمكنني أن أقول بكل وضوح وصراحة، إن من ورط الدكتور فالح مهدي بهذا التقدير والاستنتاج اعتماداً على قول منقول عن الرفيق عامر عبد الله، لم يكن هذا الشخص الناقل ضد عزيز محمد فحسب، بل وضد عامر عبد الله وعموم الحزب. إذ لا يمكن لعامر عبد الله أن يتحدث بهذه اللغة، كما لم أجد من الصواب الاعتماد على كتب تكرست لمعاداة الحزب الشيوعي العراق واعتمادها في تأكيد ما ذهب إليه الكاتب، كما في موضوع طارق إسماعيل، في كتابه "صعود وهبوط الحزب الشيوعي العراقي"، الذي كرس جُل همه للإساءة المتعمدة للحزب الشيوعي العراقي. 
لقد أجرى الصديق إبراهيم أحمد معي مقابلة طويلة وطرح الكثير من الأسئلة، بما فيها أسئلة عن عزيز محمد، وقد أجبت عنها بكل صراحة ووضوح، ونُشرت المقابلة في جريدة الصباح العراقية، كما نَشَرتُ مقالاً عن عزيز محمد أثناء وجوده على قيد الحياة. وموقفي معروف من أن وجوده على رأس الحزب طيلة 27 عاماً لم يكن صحيحاً، وكان الأفضل أن يرفض الترشيح رغم إصرار الرفاق على بقائه على رأس الحزب. ولكن هذه الظاهرة كانت، وربما ما زالت، مرضاً لدى كل الأحزاب الشيوعية في أن الرفيق السكرتير العام يبقى في الرئاسة حتى الموت، وعلينا أن نتذكر بريجنيف الذي كان يسند تحت الأبطين لكي يستطيع الوصول إلى منصة إلقاء الخطب. كما كتبت عن الرفيق الذي جاء من بعده وتمنيت ألَّا يبقى طويلاً على رأس الحزب ليفسح في المجال للكوادر الأخرى أن تتقدم. هذا النقد وارد. ولكن هل كان الرفيق عزيز محمد حقاً لا يقرأ؟ هذا خطأ فادح. طبعاً حين يلتقي القياديون في اجتماعات اللجنة المركزية لا يأتون وهم يحملون كتباً تحت أباطهم، ولم أر أياً منهم بهذا الشكل. ولكني أعرف جيداً، وكنت واحداً ممن يزوده بالكتب وكنت أناقشه في بعضها. وكان الرفيق فخري كريم (أبو نبيل) يزوده بالكثير من الكتب، وكذلك مكتبة أراس في أربيل ومديرها العام الأستاذ بدران حبيب. لقد كان يقرأ الكثير والكثير جداً من الكتب المتنوعة الفكرية والفلسفية والسياسية والأدبية، بما فيها الروايات والشعر، وكان حين يكتب ينحت الكلمات بمهارة، وله خط جميل، ولكنه قليل الكتابة في كل الأحوال. لم يكن راغباً في البقاء طيلة الفترة المنصرمة على رأس الحزب، ولاسيما في السنوات الأخيرة، وكان الأفضل له لو ساعده الرفاق في الانسحاب من سكرتارية اللجنة المركزية ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وهم المسؤولون عن ذلك، وأنا منهم، قبل أن يكون هو المسؤول وحين طرح عليًّ هذا الموضوع لجس النبض، رفضت ذلك في العام 1987.
لم يكن الرفيق عزيز محمد من طرح التعاون مع الاتحاد الاشتراكي في فترة حكم عبد السلام عارف، بل كانت مجموعة أخرى من الرفاق، منهم أنور مصطفى (سلام الناصري) وباقر إبراهيم (أبو خولة) وعامر عبد الله (أبو عبد الله) وغيرهم. ولم يكن زكي خيري من بينهم.
وفي المؤتمر الثاني، وكنت مشاركاً فيه، طرح موضوع طريق التطور اللارأسمالي من ثلاثة رفاق بشكل خاص هم عامر عبد الله ومهدي الحافظ وماجد عبد الرضا، وقد عارضتهم بمطالعة مطولة في الاجتماع، وجاء الرفيق عزيز محمد وهنأني عليها لأن الاجتماع أقر موقفي في عدم الاندفاع إلى التعاون مع البعث واعتبار مسير البعث تتجه صوب طريق التطور اللارأسمالي، بل ممارسة النقد ضد البعث حينذاك، ولهذا السبب تعرض الحزب إلى هجوم شرس من جانب البعث في أعقاب المؤتمر مباشرة.           
لم يكن الفقيد الرفيق عزيز محمد بدون أخطاء أو نواقص، وليس فينا من هو كامل وبدون نواقص، "والحلو ما يكملش"، كما يقول المثل المصري، وللرفيق عزيز محمد نواقص أيضاً كغيره من البشر، ولكن لا بد أن يكون الكاتب منصفاً، وأن يكون مطلعاً جيداً وحذراً من عناصر كانت في الحزب وارتدت عليه ولم تتركه بسلام، بل تحاول الإساءة له وللرفاق الآخرين بكل الصور المتوفرة المشروعة وغير المشروعة. أكرر مرة أخرى ليس فينا من لم يرتكب خطأً، وأن وجُد، فليرمني بحجر.
انتهت الحلقة التاسعة عشرة وتليها الحلقة العشرون وهي الأخيرة.
   
       


112
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الثامنة عشرة
هل الحزب الشيوعي انتهازي، وهل هناك طبقة عاملة وفلاحين في العراق؟
لم تكن الأخطاء الفكرية والسياسية التي وقع فيها الحزب بأي حال من الأحوال تعتبر من حيث المبدأ وتعبر عن مفهوم الانتهازية أو عن ذهنية أو روحية انتهازية أو عن انتهازية اللجنة المركزية ومكتبها السياسي في الفترات المختلفة، بل كان الموقف يعبر عن رؤى فكرية متباينة، عن قناعات خاصة بكل من هؤلاء الرفاق، ولم يكن جميع الرفاق بمستوى فكري وسياسي واحد، ولا برؤية سياسية واحدة، أو قدرة تحليلية واحدة، للأوضاع القائمة. ولا يمكنني أن أجزم بأن لم يكن هنا أو هناك رفيقاً أو آخر تميز بمواقف انتهازية يسعى من خلال توريط الحزب بسياسات معينة للحصول على مكاسب معينة وشخصية، ولكن هذه الحالة، إن وجُدت، فهي حالات فردية محتملة. ولكن في مقدوري أن أجزم بأن الحزب الشيوعي السوفييتي قد لعب في فترات معينة دوراً في التأثير على الحزب وقراراته، ومنها بشكل خاص تحقيق التحالف مع البعث، أو قبل ذاك عدم الانتفاض على عبد الكريم قاسم وسياساته الفردية من جهة، إلا إنه عجز عن إقناع الحزب والتأثير عليه في البقاء في التحالف مع البعث وفي الجبهة، حين حاول ذلك من جهة ثانية، إذ كانت المقاومة شديدة والواقع لا يسمح بذلك بأي حال. من هنا أشير إلى اختلافي مع الدكتور فالح مهدي حين نعت الحزب بأن الحزب الشيوعي العراقي حزبٌ انتهازي أولاً، (الكتاب، ص 202)، بل كان أولئك الذين يعتقدون بضرورة الاستمرار في التحالف مع البعث تدفعهم الخشية باحتمال توجيه ضربة ماحقة للحزب ورفاقه، وهو تفكير قاصر حقاً، وليس انتهازياً، لأن البعث كان قد صمم على هذه الخطوة منذ بدء التحالف مع الحزب الشيوعي العراقي، بأنه سيقوم بذلك في أي وقت من الأوقات، وأن هذا التحالف ليس إلا لعبور وضعِ خاص كان يمر به حزب البعث ونظامه السياسي وحاجته للدعم الدولي، ولاسيما من جانب الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى.
مفهوم الانتهازية
ورد في معجم المعاني بأن الانتهازي هو (الْمُتَّصِفُ بِالانْتِهازِيَّةِ). رَجُلٌ اِنْتِهازِيٌّ :منْ يَسْتَغِلُّ الفُرَصَ لِصالِحِهِ دونَ اعْتِبارِ الغَيْرِ والْمَصْلَحَةِ العامَّةِ .كما ورد ما يلي: "الانتهازية هي السياسة والممارسة الواعية للاستفادة الأنانية من الظروف - مع الاهتمام الضئيل بالمبادئ أو العواقب التي ستعود على الآخرين. وأفعال الشخص الانتهازي هي أفعال نفعية تحركها بشكل أساسي دوافع المصلحة الشخصية. وبهذا المعنى فأن الحزب الانتهازي هو من يعمل من أجل الحصول على مكاسب له على حساب مصالح الشعب والوطن. وفي قناعاتي الشخصية لم تتوفر مثل هذه الحالة في الحزب الشيوعي العراقي حين دخل التحالف مع البعث، بل كانت القناعة بأن الحزب يحاول تجنيب الشعب كوارث إضافية عبر الصراعات التي يمكن أن تنشأ حين يعلن الحزب الشيوعي معارضته للبعث ونظامه السياسي. لقد تحمل الحزب ضحايا كثيرة، وكانت قيادة الحزب كلها معرضة للإبادة، كما حصل في مرات سابقة، وليس كما يقول الدكتور فالح مهدي، أن البعث ساعد على تهريبها. لقد كان هم البعث تصفية القواعد والكوادر أولاً، ثم التوجه صوب ضرب القيادة، إذ كان يدرك بأن البدء بقتل قياديي الحزب يمكن أن تثير ضده ضجة عالمية، كما حصل في العام 1963، ولهذا تجنب ذلك، ولكنه لم يقصر في اعتقال قياديين وكوادر وتعذيبهم ومن ثم قتل بعضهم، وهم من خيرة قياديي وكوادر الحزب. وتحضرني الكثير من الأسماء الذين اعتلقوا في العام 1978 و1979 و1980 ومن استشهد منهم تحت التعذيب أو الاغتيال.
هل في العراق عمال وفلاحون
كتب الدكتور فالح مهدي ما يلي: "لم يبذل الحزب الشيوعي أي جهد لفهم الواقع العراقي والدليل استخدامه الاعتباطي لمصطلحات "عمال وفلاحين"، في بلد لم تولد بعد فيه طبقة عاملة بالمعنى الذي أتى به ماركس!" (الكتاب، ص 193). ولكن الزميل الفاضل لم يحدد عن أي فترة يتحدث، هل يقصد فترة العشرينات أو الثلاثينيات أم الأربعينيات والخمسينات أم الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أم الوقت الحاضر، إذ إنها فترات متباينة بشأن وجود وحجم وجود العمال والفلاحين في العراق، ومدى صواب أو خطأ الحديث عنهما في أدبيات الحزب الشيوعي العراقي. وإزاء عدم التحديد هذا أجد نفسي ملزماً أن أكتب بشكل مكثف ومختصر عن مختلف الفترات وبالأرقام للإجابة عن السؤال التالي: هل الدكتور فالح مهدي على صواب بهذا الصدد؟ وهل ينبغي للطبقة العاملة في العراق على الشاكلة التي وصفها وحدد معالمها كارل ماركس في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا لكي يمكن الحديث عنها كطبقة عاملة والمطالبة بحقوقها؟ أرى بكل تواضع إن الزميل فالح مهدي قد أخطأ بهذا التشخيص المطلق. وتقديري هذا غير ناشئ عن رغبة في معارضة أطروحته، بل من كوني اقتصادي ودَرَستْ الاقتصاد العراقي وبنيته الاقتصادية وتركيبته الاجتماعية، كما دَرَسُّتُ هذه المواد في جامعتي المستنصرية والجزائر، إضافة إلى أبحاثي التي يرد فيها "العمال والفلاحون".  كما اعتمد في قناعتي على الأرقام الواردة في الإحصاء العراقي لفترات مختلفة.
•   اتفق مع الزميل فالح مهدي بأن السيادة في البنية الاجتماعية في العشرينيات من القرن العشرين كانت للفلاحين والبدو، في حين كان العمال قلة في قطاعات التجارة وبعض الخدمات العامة وفي الصناعات الحرفية اليدوية. فالأرقام المتوفرة حسب التوزيع بين الريف والحضر في عام 1919 كان على النحو التالي: الحضر: 688 ألف نسمة في الولايات الثلاث، والريف، بلغ 2،144 ألف نسمة، والمجموع 2,832 ألف نسمة. وتغير في عام 1930 إلى النحو التالي: الحضر: 808 ألف نسمة، والريف 2،480 ألف نسمة، والمجموع 3،288 ألف نسمة في جميع أنحاء العراق. (قارن: حسن، محمد سلمان د. دراسات في الاقتصاد العراقي. دار الطليعة. ط1. بيروت. 1965.      ص 164. – الأنصاري، فاضل د. مشكلة السكان- نموذج القطر العراقي. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي. دمشق. 1980. ص 244. – عيساوي، شارل د. التاريخ الاقتصادي للهلال الخصيب 1800 - 1914. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. ط1. 1990. ص 55).
والسؤال هنا ما هو تعريف العامل؟ العامل هو كل شخص يبيع قوة عمله لقاء أجر، وهو مجبر على بيع قوة عمله لصاحب رأس المال لكي يستطيع أن يعيش وأفراد عائلته، كما أن الرأسمالي لا يستطيع أن يشغَّل رأسماله دون أن يشتري قوة عمل العامل التي تنتج له سلعاً فيها ما دفعه من أجر زائداً قيمة إضافية أو زائدة يحققها العامل من خلال استهلاك قوة عمله بأكثر مما يستوجبه الأجر الذي حصل عليه. هذا التعريف عام ويشمل من يعمل في ورشة صغيرة أو في معمل كبير أولاً، وهو تعبير يتميز عن الحديث عن البروليتاريا التي ترتبط بالتقدم التقني وبالشركات الاحتكارية الكبيرة والتي لا تمتلك أياً من وسائل الإنتاج ومجبرة على بيع قوة عملها لتعيش من أجرها والتي تحقق لتلك الشركات فائض قيمة. المشترك بين العامل والبروليتاري هو بيع قوة عملهما لقاء أجر.
منذ الثلاثينيات نشأت في البلاد بدايات تشكل طبقة عاملة في عدة مجالات مهمة: في عمليات التنقيب عن النفط واستخراجه التابعة لشركة نفط العراق، في ميناء البصرة، في السكك الحديد، في إنتاج الطاقة الكهربائية وفي المنشآت الصناعية الحديثة والجديدة العائدة للقطاع الخاص، إضافة إلى العمال في قطاع النقل والتجارة وخدمات أخرى. فقد بلغ إجمالي عدد العمال في عام 1931 حوالي 71،176 مشتغلاً. (قارن: لانگلي ، كاثلين م. تصنيع العراق. قارن: مصدر سابق. ص 89. و. أحمد، كمال مظهر د. الطبقة العاملة العراقية. مصدر سابق. ص63). 
وفي عام 1938/1939 ارتفع عدد العاملين في المشاريع الصناعية العراقية التابعة للقطاع الخاص إلى 2866 عاملاً، عدا شركات النفط العاملة في العراق والمشاريع الحكومية، ومنها ميناء البصرة والسكك الحديد والكهرباء وغيرها. والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن عامي 1954 و1958 قد شهدا نمواً في عدد المنشآت وعدد العاملين في القطاع الخاص وعلى النحو التالي: 1954: عدد المنشآت (294) منشأة وعدد العاملين (38،632) عاملاً؛ 1958 أرتفع عدد المنشآت إلى (310) منشأة وعدد العاملين إلى 39،533 عاملاً، ما عدا منشآت شركات النفط الأجنبية. (راجع: د. صباح الدرة، تطور القطاع الصناعي الخاص في العراق، رسالة دكتوراه، جامعة الاقتصاد، برلين، 1965، ترجمت ونشرت باللغة العربية من قبل الدكتور صباح الدرة نفسه). ونتيجة لتنفيذ مشاريع الاتفاقية العراقية السوفييتية في القطاع الصناعي والتي وقعها الفقيد الأستاذ إبراهيم كبة في العام 1958/1959، فقد بلغ عدد العاملين فيها 14،362 عاملاً.
وبالارتباط مع إجراءات التأميم وتنامي الإيرادات المالية السنوية المتأتية من زيادة استخراج وتصدير النفط الخام وتوجيه موارد مالية جديدة للقطاع الصناعي، بما في ذلك الصناعات العسكرية، فقد ارتفع عدد العاملين في القطاعين العام والخاص بين عامي 1975 و1979، أي سنة بعد قرار التنمية الانفجارية وسنة قبل بدء الحرب العراقية-الإيرانية، على النحو التالي:
القطاع الخاص: بلغ في عام 1975 (41،000) عاملاً، وارتفع في عام 1979 إلى (45،600) عاملاً.
القطاع العام: بلغ في عام 1975 (93،000) عاملاً وارتفع في عام 1979 إلى (135،700) عاملاً.
أي أن مجموع العاملين في عامي 1975 بلغ 134،600 عاملاً، وارتفع في عام 1979 إلى 181،300 عاملاً، أي بزيادة نسبية قدرها 34،7%.         (Quelle: Al-Durra, Sabah. Zur politischen und oekonomischen Problematik der Entwicklung der einheimischen (privaten) Industrie im Irak. Dissertation. Hochschule fuer Oekonomie. Berlin. 1965. S. 62).
ورغم استمرار العمل بخطة التنمية في السنتين الأولى والثانية من الحرب العراقية-الإيرانية، إلا إنها توقفت لصالح جبهات الحرب والمنتوج الحربي وتراجعت تدريجيا أو دمرت بعض المصانع المدنية، ثم أجهز على الكثير منها في حربي 1991 و2003 وبتعمد وإصرار شديدين، إذ كان يراد للعراق أن يعاد إلى عصر ما قبل التصنيع، عل وفق تصريح جيمس بيكر، وزير خارجية الولايات المتحدة في مفاوضاته مع طارق عزيز في جنيف قبل حرب 1991.
ورغم إن العراق لم يكن بلداً صناعياً، بل زراعياً متخلفاً، ولم يكن يمتلك اقتصاداً متوازناً، بل استخراجياً نفطياً ريعياً وحيد الجانب، فأن العراق قد امتلك منذ الأربعينيات طبقة عاملة ناشئة وحديثة ومهمة. ومن المفيد أن نشير هنا إلى مصطلحين هما الطبقة العاملة بذاتها والطبقة العاملة لذاتها التي بحث فيها كارل ماركس. ويمكن القول بأن الطبقة العاملة في العراق على حداثتها كانت ولفترة غير قصيرة طبقة عاملة بذاتها، وكانت في طريق التحول إلى طبقة عاملة لذاتها تدرك مصالحها وتعرف حلفاءها وتناضل من أجل مصالحها. وقد بدأت هذه الظاهرة في الأربعينيات تقريباً حين بدأ النضال من أجل تشكيل النقابات والانخراط فيها والدفاع عنها، إضافة إلى حجم الإضرابات التي كانت تمارسها ولاسيما في فترة الخمسينيات ومن ثم في السبعينيات من القرن الماضي.
وفي النصف الثاني من الثمانينيات والفترة اللاحقة تلقت الطبقة العاملة ضربات قاسية من خلال تدمير المشاريع الاقتصادية، ولاسيما الصناعية، والبنية التحتية التي كانت مجال عملها وتقلص عددها إلى أبعد الحدود وتحول أفراد الكثير منها إلى أشباه بروليتاريا. كما تقلصت في الفترة ذاتها الطبقة البرجوازية العراقية (المتوسطة) لا في الصناعة فحسب، بل وفي القطاعات الاقتصادية الأخرى.
من هنا اشير إلى إنه من الممكن ان يتحدث الحزب الشيوعي العراق أو أي حزب أو شخص آخر عن وجود طبقة عاملة في العراق وليس عن عمال فقط، وأن يدافع عن مصالح العمال. أما بالنسبة للفلاحين فلا مبرر أن أشير إلى وجودهم الكبير، رغم تقلص عددهم في فترات النزوح صوب المدن، أو تجنيد نسبة كبيرة منهم في حروب النظام الدكتاتوري البعثي. ومن حق الجميع أن يتحدثوا عن الفلاحين وأن يدافعوا عن مصالحهم أيضاً، كما هو حق للحزب الشيوعي العراقي.
انتهت الحلقة الثامنة عشرة وستلها الحلقة التاسعة عشرة.

113
كاظم حبيب
رسالة مفتوحة إلى السيد مقتدى الصدر
السيد مقتدى الصدر المحترم
تحية طيبة
على وفق المعلومات المتوفرة وما نُشر في الصحف حتى الآن فأنتم تعتبرون الراعي والمشرف والموجه الفكري والسياسي لتحالف "سائرون"، وبالتالي خطبكم وتصريحاتكم السياسية تحسب على "تحالف سائرون" وعلى ما أشار إليه برنامج تحالف "سائرون". وهذا الأمر يستوجب من الناحيتين المبدئية والعملية منكم شخصياً ومن كل العاملين في تحالف "سائرون" الالتزام بالأهداف الأساسية المسطرة في برنامج "سائرون". لهذا وجدت نفسي ملزماً بتبيان وجهة نظري حول ما يجري حالياً بشأن موقفكم من الدولة المدنية والقضاء العراقي وتأثير ذلك على مجرى الأمور بالترابط مع برنامج "تحالف سائرون". فأنا أمروءٌ بلغ الرابعة والثمانين وعشت العهود المنصرمة كلها كسياسي مخضرم: أتابع نشاطكم وتصريحاتكم ومواقفكم منذ 2003 حتى الوقت الحاضر، وكتبت الكثير من المقالات بشأنها معارضاً مواقفكم أو مؤيداً للمواقف التي اعتبرتها إيجابية ومطلوبة.
جاء في برنامج "تحالف سائرون": بشأن الدولة المدنية ما يلي:
" 1. إنشاء دولة مدنية تقوم على أساس المواطنة وتؤمّن العدالة الاجتماعية، دولة قوية بمؤسساتها، قادرة على اتخاذ قراراتها المستقلة، بما يعكس هيبتها، وسيادة البلاد الوطنية، والحرص على سلامة أراضيها ووحدتها، وعلى إقامة علاقات عربية وإقليمية ودولية متوازنة مبنية على أساس المصالح المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والاحترام المتبادل لسيادة واستقلال كل دولة". 
ثم جاء في الفقرة 10 من البرنامج ما يلي:
" 10. استقلالية القضاء، وتفعيل دور الادعاء العام".
وبشأن القوات المسلحة ما يلي:
*  يسعى تحالف (سائرون) إلى بناء القوات المسلحة على أساس المهنية والكفاءة والولاء للشعب والوطن، ويعمل على تطوير كفاءة القوات المسلحة، فضلاً عن الحد من مظاهر التسلح خارج إطار الأجهزة الأمنية.
إن هذه الأهداف تشكل جزءاً مهماً مما يسعى إليه الشعب العراقي ويتمنى تحقيقه ويتطلب ممن التزم بتحقيق هذه الأهداف وغيرها الالتزام بها أولاً وقبل كل شيء، أي التزام الراعي والمشرف والموجه لـ "تحالف سائرون" السيد مقتدى الصدر، وقبل غيره من كل القوى العاملة ضمن "تحالف سائرون"، ليقدم النموذج الذي يحتذى به. والسؤال المشروع والعادل هو: هل حصل هذا فعلاً خلال الفترة الأخيرة؟
نحن أمام واقع مخالف لما ورد في برنامج "تحالف سائرون" في الموقف من الالتزام بهذه الأهداف. اليكم ملاحظاتي الشخصية راجياً أن يتسع صدركم للاطلاع عليها وتبيان وجهة نظركم بشأنها.
أولاً: الدولة التي يعيش في ظلها الشعب العراقي هي دولة طائفية سياسية بامتياز ويتجلى ذلك في المحاصصة الطائفية في سلطاتها الثلاث وفي المؤسسات والهيئات المستقلة. وهو ما ورد في البرنامج السعي الجاد للتخلص من الطائفية محاصصاتها المذلة. ولكن الوزارة الحالية ورئيسها، الذي وافقتم على تبنيه وجعله رئيساً لوزراء العراق، هو جزء من المشكلة/ من المحاصصة الطائفية وهكذا الأمر مع أغلب الوزراء، وممارساته تؤكد ذلك. يضاف إلى ذلك ابتعاده التام عما ورد في برنامج "تحالف سائرون" حول "مكافحة الفساد". فهو لم يخطُ خطوة واحدة إلى الأمام في هذا الصدد وفي كل الأمور التي التزم بتنفيذها، وبالتالي فهو في تراجع شديد عن محاربة الفساد في العراق وعن القضايا الأخرى ذات الأهمية الفائقة للشعب العراقي.
ثانياً: إن تحالفكم مع قائمة فتح، التي يرأسها الطائفي بامتياز هادي العامري والذي كان ولا يزال وسيبقى ولاؤه الأول والأخير لإيران ولولاية الفقيه، لمرشد الثورة الإيرانية، السيد علي خامنئي، هو إخلال بمبدأ رفض الطائفية ومحاصصاتها من جهة، ورفض الخضوع لإرادة أجنبية، تقرر لهادي العامري ما ينبغي له فعله في العراق، وليس لما ينفع العراق واستقلاله الوطني وسيادته واستقلال قراراته.
ثالثاً: أنتم تدعون إلى قضاء مستقل، كما هو وارد في "تحالف سائرون". وهذا يعني ضرورة الالتزام بتقديم قضايا المخالفات التي تحصل في قوى التيار الصدري أو في "تحالف سائرون"، سواء أكان فساداً مالياً أم إدارياً، أم إساءة معاملة المجتمع أم التجاوز على الدور والأشخاص، أو قتل أو تهديد أشخاص، إلى القضاء العراقي، وليس التدخل في شأن القضاء واتخاذ قرارات من جانبكم بحق هؤلاء أو طلب اعتذارهم منكم والتوبة عندكم ثم إخلاء سبيلهم. إن هذا مخالف للشرعة الدولية وحقوق الإنسان والدستور العراقي، وهو بالضد من مبدأ "الدولة المدنية" واحترام استقلال القضاء العراقي. كما إنه يعيد العراق إلى أوائل القرن العشرين حيث كانت العشائرية هي السائدة وقانون العشائر هو الفاعل وليس الدستور العراقي. فعلى سبيل المثال نشرت الصحف المحلية والعربية ما حصل من تجاوز على جنابكم من قِبَل شخص في حزب الدعوة مهدداً إياكم بالقتل أو الإساءة لشخصكم. ونشرت الصحف خبر إقامة دعوى ضده ، وقرر القضاء القبض عليه. ولكنكم طلبتم منه أن يأتي إلى مقركم في "الحنانة" ليتوب أمامكم عن فعلته فتعفون عنه. إن هذا مخالف للدستور العراقي وللقوانين المرعية، ثم طالبتم بإطلاق سرحه، أي إيقاف الدعوى ضده، في حين أن هناك حقاً عاماً ينبغي ان يأخذ طريقه لمحاسبة مثل هؤلاء الأشخاص. مثال آخر، ظهر في وسائل الاتصال الاجتماعي فيديو، وصلتني نسخة منه، يشير إلى أشخاص يعتبرون مذنبين من وجهة نظركم، ويمكن أن تكون مخالفاتهم قائمة فعلاً، وهم يزحفون على بطونهم وظهورهم وهم مقيدو الأيدي للتوبة عندكم. أرجو أن يكون هذا الفيديو مزوراً، وإلا فالمصيبة كبيرة إن كان صحيحاً. ويشار إلى أن هناك لجاناً تحقيقية خاصة لدى "التيار الصدري" تقوم بالتحقيق في قضايا "الفساد" ومكافحته، وتتخذ إجراءات عقابية دون تقديم المعنيين للقضاء العراقي. وليس لديكم الحق في ذلك، فمثل هذه القضايا من اختصاص القضاء العراقي وحده دون غيره.             
رابعاً: اشرتم في أحد تصريحاتكم بأنكم تعاقبون المذنبين. وهذا ليس من مهماتكم، فهي من مهمات القضاء العراقي، رغم الاختلالات التي يعاني منها هذا القضاء بسبب التدخل السياسي والانتهازي في شؤونه، وقد حصل ما لا يمكن تصوره فيما نشرته الصحف العراقية والعربية والأجنبية. واليكم ما نُشر أخيراً من قبل السيدين زيد سالم وعلي الحسيني في 17/05/2019     
"ليست المرة الأولى التي يوجه فيها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بإبعاد عناصر مقربة منه عن قيادة تياره، فقد جمّد نهاية العام الماضي عناصر من مليشيا "سرايا السلام" التابعة له، بعد معلومات وصلته متأخرة تفيد بتورطهم في قضايا فساد مالي وعمليات ابتزاز للشركات الأهلية، عدا عن تورط آخرين في المتاجرة بالمشتقات النفطية وتهريب العملة الصعبة إلى إيران. إلا أن موجة الطرد الجديدة التي طاولت قادة بارزين ومقربين من الصدر، تعتبر الأكبر منذ تأسيس التيار الديني بعد عام 2003 وما نتج عنه من مليشيات مسلحة أبرزها جيش المهدي، ولواء اليوم الموعود وسرايا السلام. أبرز تلك القادة هو أبو دعاء العيساوي، معاون الصدر الجهادي، وهو المصطلح الخاص بمساعد مقتدى الصدر لشؤون الفصائل المسلحة التابعة له ، وكذلك عواد العوادي المقرّب من الصدر هو الآخر، فضلاً عن عضو البرلمان السابق، القيادي المعروف بالتيار الصدري جواد الگرعاوي ، إضافة إلى كل من علي هادي أبو جميل، وعماد أبو مريم. وهما من المقربين إلى الصدر ويظهران بشكل مستمر برفقته في لقاءاته داخل العراق. وبعد ساعات قليلة من إعلان الصدر عن أسماء القادة المطرودين، شهدت مدن جنوب العراق أبرزها، كربلاء وبابل وواسط والبصرة والنجف، تظاهرات صاخبة قرب منازل المطرودين من التيار الصدري ومكاتبهم ومصالح تجارية تابعة لهم، غير أن الأعنف كانت في محافظة النجف، والتي أسفرت عن مقتل أربعة من أنصار الصدر وجرح 19 آخرين خلال اقتحام مول تجاري يعود للقيادي المفصول من التيار الصدري جواد الگرعاوي، وذلك بعد سقوط جريحين في محافظة واسط المجاورة بأعمال عنف مماثلة." (راجع زيد سالم، علي الحسيني، مقتدى الصدر يغربل تياره: حملة لطرد "الفاسدين"، موقع العربي الجديد، بغداد في17  مايو 2019).
خامساً: الدولة المدنية تعني دولة ديمقراطية مستقلة، دولة ترفض 1) أن تكون هناك دولة داخلها، أي "دولة داخل دولة"؛ 2) جيش وميليشيات مسلحة خارج إطار قواتها المسلحة، أي "جيش داخل جيش"؛ ج) أن يكون السلاح بيد الدولة ومن خلال قواتها المسلحة، أي نزع أسلحة جميع الميليشيات المسلحة وسلاح الأفراد غير المجاز رسمياً. وبغير ذلك يعني غياب الدولة المدنية الديمقراطية وهو الحاصل حالياً في العراق، منذ 2003 وحتى الآن. والتيار الصدري بالذات لديه ميليشيا مسلحة كبيرة باسم "سرايا السلام"، إضافة إلى وجود مليشيات مثل بدر وعصائب الحق وحزب الله أو النجباء وعشرات أخرى، أغلبها تابع لإيران الدولة والحرس الثوري وجيش القدس والبسيج...الخ. في هذا تسقط مصداقية من يطالب بأن تكون لنا دولة مدنية وأن يكون السلاح بيد الدولة فقط.
سادساً: أعلن مسؤولون في التيار الصدري وسائرون بأنهم سيعاقبون بأقسى العقوبات ويسحقون رؤوس من ينتقد مقتدى الصدر أو العائلة الصدرية!! وهذا أمر غير ممكن وغير مقبول وسيء جداً في دولة مدنية تدعون لها في برنامج "تحالف سائرون". وأنتم أدرى بأن ليس هناك من هو معصوم من البشر عن ارتكاب الأخطاء، صغيرة كانت أم كبيرة. وبالتالي فلا بد هناك من يوجه النقد لمثل هذه الأخطاء على وفق تقدير الناقد، وهو حق مطلق يكلفه الدستور العراقي واللواح الدولية ووثائق وعهود شرعة حقوق الإنسان. كما إن النقد هو الضوء الذي يمكن أن ينير طريق المخطئين ولاسيما في السياسة وأخص بالقول في واقع العراق الراهن، الذي يستوجب ممارسة النقد البناء، بعيداً عن الإساءة الشخصية أو العائلية.   
إن هذه الأوضاع لا تبشر بخير العراق، بل بنشوء مشاكل جديدة وعصية على الحل. لهذا يفترض أن كنتم جادين في رعايتكم لـ "تحالف سائرون" ولما ورد في برنامج "تحالف سائرون" أن تعملوا باتجاه آخر، باتجاه تصحيح هذه المسارات الخاطئة وتقويمها، والتي أشرت إلى بعضها في أعلاه، وإلا فأن سائرون سوف لن تختلف عن أي تحالف آخر قائم في العراق يدعي المدنية والعمل من أجل إقامة الدولة المدنية، في حين أنه بعيد عنها بعد السماء عن الأرض. و"دولة القانون" ورئيسها النموذج الأكثر إساءة للدولة المدنية وللقانون في العراق. 
إن ما طرحته في رسالتي هذه هو تعبير عما يدور في بال الملايين من العراقيات والعراقيين في الداخل والخارج، رغم إنني لست الناطق باسمهم، ولكن الاحتكاك بالناس في الداخل والخارج يؤكد هذه الحقيقة.
ودمتم بسلام،
كاظم حبيب     
في 20/06/2019




114
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة السادسة عشرة
الحزب الشيوعي والموقف من نهج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي
الكثير من الكتب التاريخية ذات المصداقية التي بحثت في تأثير ثورة أكتوبر الاشتراكية على حركة النضال الوطني للشعوب المستعمرة والتابعة في القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أشارت بصواب إلى أن التأثير كان إيجابياً وملهماً بسبب الأهداف التي تضمنها إعلان الثورة حينذاك. كما إن الكتب التي بحثت في تأثير ذلك على منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما على المناطق والشعوب المجاورة لروسيا القيصرية كان أكبر وأسرع وأكثر إلهاماً. فم تخل ثورة شعب مصر عام 1919 وثورة الكرد عام 1919 وثورة العشرين عام 1920 في العراق من التأثير غير المباشر لثورة أكتوبر 1917. إذ كانت قد نشأت صلات بين بعض قادة الحركات السياسية في إيران والعراق ومصر، ومنهم الكرد أيضاً، خاصة وأن هذه الثورة كانت أحد العوامل المهمة في إنهاء الحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا والدولة العثمانية للحرب. في تلك المرحلة دخل الفكر الشيوعي إلى العراق لأول مرة من بوابة إيران، إضافة إلى بوابات مصر وسوريا وألمانيا، حيث كان حسين الرحال، الماركسي الأول في العراق، طالباً في إحدى ثانويات برلين وعاش تجربة الثورة السبارتوكية الشيوعية عام 1918 هناك. وقد تسنى له بعد رجوعه إلى العراق أن يشكل جماعة الصحيفة وأن يؤسس معهم جريدة "الصحيفة"، وأن تتشكل منها أول خلية ماركسية في العراق. في الفترة ذاتها كان هناك نشاط سياسي حيوي في البصرة مارسه يوسف سلمان يوسف، انتقل بعدها بنشاطه إلى الناصرية، حيث بدأ في نهاية العشرينات ينشط في الصحافة ولاسيما مع الحزب الوطني الذي كان يترأسه الشخصية الوطنية محمد جعفر أبو التمن. وفي الوقت ذاته شكل أول خلية ماركسية فيها وأصدر أول بيان باسم شيوعي عراقي. وفي نفس الفترة كانت هناك مجموعة أخرى في بغداد تعمل في الوجهة عينها ومستقلة عن بقية الجماعات، ومنها عاصم فليح وقاسم حسن وزكي خيري وغيرهم في تشكيل خلايا شيوعية في السنوات الأولى من العقد الرابع من القرن الماضي، وفي الوقت الذي كان هناك حراكٌ وطنيٌ ضد الانتداب البريطاني ومن ثم ضد تأثير بريطانيا على السياسة العراقية، حيث وجُد وبرز نشاط الحزب الوطني وجماعة الأهالي وهي البداية لجماعة الإصلاح الشعبي. من جماعة الشيوعيين ببغداد والناصرية تشكل تنظيم جديد أطلق عليه "جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار" في عام 1934، أي كان الاسم ذا طابع وطني عام وليس طبقياً أو شيوعيا مباشراً. في العام 1935 كانت أول محاولة لإقامة العلاقة مع الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الشيوعية الثالثة، تمييزا لها عن الأممية الثانية التي كانت الحركة الأم للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. والأممية الثالثة تأسست عام 1919 بناء على مبادرة لينين لضمان إسناد الثورة البولشفية على الصعيد العالمي وضد محاولات وأدها من قبل 20 دولة خاضت الحرب ضد الدولة السوفييتية الجديدة حينذاك. ألزَم مكتب الأممية الثالثة "جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار" على تغيير اسمها إلى الحزب الشيوعي العراقي، إن كان الشيوعيون يسعون للانتماء إلى الأممية الثالثة، كما ألُزم في حينها الحزب الاشتراكي المصري إلى تغيير اسمه إلى الحزب الشيوعي المصري ليقبل في الأمية الثالثة. (راجع: الأنظمة الداخلية للأممية الشيوعية، شروط الانتماء للأممية الشيوعية الثالثة، وهي (21) شرطاً، المؤتمر الثاني للأممية). تم حل الكومنترن عام 1940 بعد انسحاب الحزب الشيوعي الأمريكي منه، ثم موافقة ستالين على حل الكومنترن، أذ أيد ستالين بكتاب مؤرخ 28 مايو/أيار 1940 يقول فيه: "إنّ حل الكومنترن صالح وموافق، لأنه يسهّل تنظيم الاقتحام المشترك بين جميع الشعوب الراغبة في الحرية الموجّه إلى العدو المشترك: الهتلرية". (أنطون سعادة حل الكومنترن، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 62، في 01/07/1943).
كان يوسف سلمان يوسف (فهد) من المجموعة العربية التي درست في الاتحاد السوفييتي وفي المدرسة الحزبية الخاصة بدول الشرق والتي تتلمذ فيها على الماركسية-اللينينية بصيغتها الستالينية وما كانت تبشر به الحركة الشيوعية العالمية. لقد تبنت الأحزاب الشيوعية في الدول العربية ثلاث مسائل لتكافح من أجلها:
1.   النضال ضد الاستعمار لا من منطلق الاتحاد السوفييتي، بل من منطلق الحركات الوطنية في الدول العربية التي كانت قد بدأت قبل بدء تأثير الاتحاد السوفييتي. وهذا مهم، ويتجلى في خطاب الأحزاب الشيوعية والنظم الداخلية في الدول العربية حينذاك.
2.   النضال من أجل مصالح الشعوب في الدول العربية، منها قضايا التصنيع وتنمية الزراعة وضد البطالة ومن أجل الحريات العامة والنقابات...إلخ، وهو خطاب سليم ايضاً ولم يكن متطرفاً.
3.   الدفاع عن الاتحاد السوفييتي والتبشير بالفكر الشيوعي الأممي، وفق مقاسات الاتحاد السوفييتي ولاسيما ستالين، والذي تجلى اغترابه عن الواقع العربي.
ويمكن أن نتبين ذلك في نضال وممارسات الحزب الشيوعي العراقي بصدد هذه المهمات الثلاث، كما برز البند الثالث من هذه المهمات في كراس فهد الموسوم "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية"، إذ كان بعيداً عن واقع العراق وعن الصراعات التي كانت تدور في الحزب الشيوعي العراقي. 
ورغم حل الكومنترن في العام 1940 إلا إن مركز الحركة الشيوعية ومؤتمراتها الدولية تحول إلى الحزب الشيوعي السوفييتي، وأصبح هو المنار للأحزاب الشيوعية والمركز الفعلي للحركة الشيوعية العالمية بالنسبة لأغلب الأحزاب الشيوعية طيلة الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الاتحاد السوفييتي. لقد كان للحزب الشيوعي السوفييتي تأثير كبير على مواقف الأحزاب الشيوعية الإقليمية والدولية والعمالية، وأحياناً غير قليلة المواقف المحلية أيضاً. لقد كان هذا الموقف أخلالاً فعلياً باستقلالية الأحزاب الشيوعية في الدول المختلفة، ولاسيما تلك التي كانت توافق على القبول بذلك، وكان بالإمكان رفض تلك المواقف، إذ ليس هناك من اتفاق يلزمها بعد حل الكومنترن، ولكن المشكلة كانت تثار ضد هذا الحزب أو ذاك واتهامه بالتحريفية أو غير ذلك عند نشوب أي خلاف أو اختلاف مع الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. وهناك الكثير من الأمثلة ابتداءً من تيتو في يوغسلافيا ومروراً بماو تسي توتغ في الصين الشعبية وانتهاءً بالشيوعية الأوروبية.
المشكلة لم تكن في الحزب الشيوعي السوفييتي من حيث المبدأ، بل بالأحزاب الشيوعية في بلدان العالم التي كانت توافق على ما يقترحه السوفييت من سياسات ومواقف. لم يكن الحزب الشيوعي السوفييتي قادراً على فرض رأيه على أي حزب، بل كان يقدم استشارات في السنوات التي أعقبت المؤتمر الـ 21 للحزب الشيوعي السوفييتي، وكان الموقف التضامني، كما كان يفهم هذا التضامن حينذاك، هو الذي يدفع بقبول رأي السوفييت. وهو خلل لأن الاتحاد السوفييتي دولة كبرى ولها مصالح دولية تفرض عليها سياسات معينة لا تتناغم بالضرورة مع الرأي والمصالح الوطنية لهذا الحزب أو ذاك، فالقراءة السياسية للأحداث والوقائع والمنظور يختلف. من هنا اعتقد بأن النقد الذي يوجه لهذه العلاقة سليم. لم تكن هذه العلاقة قائمة على أساس العمالة، التي أرفضها قطعاً، بل من منطلق الأهداف المشتركة والتضامن والفهم الخاطئ له، فالتضامن لا يعني القبول بالرأي الآخر حصرا، بل لا بد من أن يؤخذ الرأي الوطني أو المحلي أساساً. يمكن هنا أن أورد مثالين لتوضيح الموقف:
المثال الأول: السياسة التي أطلق عليها بخط آب عام 1964.
في حينها توصل العلماء السوفييت، ومعهم قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي والدولة السوفييتية إلى قناعة بوجود إمكانية انتقال الدول النامية بقيادة الفئات "الثورية!" من البرجوازية الصغيرة التي تصل إلى السلطة إلى الاشتراكية عبر الطريق الذي أطلق عليه طريق التطور "اللارأسمالي". وقد أطلق على عدد من الدول في النصف الأول من العقد السابع مثل هذا التشخيص الخاطئ، منها مصر وأثيوبيا والصومال وسوريا والجزائر... الخ. وحين تم إسقاط نظام البعث في بغداد على أيدي شركائه البعثيين من القوميين، تبنت الجماعة القومية الناصرية في العراق "الاشتراكية العربية" اسماً وأسست حزباً مماثلاً لحزب الاتحاد الاشتراكي في مصر، وأممت بعض المشاريع الاقتصادية التابعة للقطاع الخاص المحلي في العراق. وبذلك أساءت للاقتصاد العراقي والقطاع الخاص فعلياً. وفي هذا الإجراء الشكلي غير السليم اعتبر السوفييت أن العراق يسير على طريق مصر وأنه يمكن أن يسير صوب طريق التطور اللارأسمالي. وقد تبنى المؤتمر الدولي الذي عقد في موسكو هذا الخط الجديد للتطور اللارأسمالي، وكان الحزب الشيوعي العراقي مشاركاً في هذا المؤتمر وتبنى معها هذا الخط وتجلى في اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في براغ عام 1964. وكانت هناك مجموعة من قيادة الحزب في بغداد التي أيدت ذلك واقترحت انتساب الشيوعيين للاتحاد الاشتراكي في العراق، كما حصل للحزب الشيوعي في مصر عام 1964، إذ أعلن عن حل نفسه وانتساب الشيوعيين المصريين للاتحاد الاشتراكي. إلا إن خط آب لم يستمر طويلاً فقد انتفض الشيوعيون على هذا الخط اليميني، وأُلزمت قيادة الحزب على تغييره بخط آخر وبسرعة في اجتماع نيسان 1965، الذي أقر العمل الحاسم، أي العمل والتهيئة لانقلاب عسكري ضد الحكم القائم، ثم أقر هذا الخط الجديد في كونفرنس الحزب الثالث عام 1967. لم أكن حاضراً في اجتماع اللجنة المركزية عام 1964، ولكن الكراس الذي صدر عن الرفيقين زكي خير وعزيز الحاج في عام 1965، أشار إلى تفاصيل ومضمون خط آب اليميني. وفي أيلول عام 1967 عمد عزيز الحاج ومجموعة من رفاق منطقة بغداد إلى إعلان الانشقاق عن الحزب وتشكيل التنظيم الذي أطلق عليه "القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي"، رغم إن الحزب كان قد غيرّ نهجه السياسي ولكنهم كانوا يتحدثون بأن الحزب غير جاد في موضوع العمل الحاسم.
نعم كان هناك تأثير سوفيتي أحياناً بشكل مباشر وأحياناً بصورة غير مباشرة على بعض المواقف المهمة للحزب الشيوعي العراقي، ولاسيما تلك التي تمس الأوضاع الدولية والإقليمية، وبعض القضايا المهمة الداخلية، مثل الموقف من نظام حكم عبد السلام محمد عارف، أو فيما بعد، الموقف من حزب البعث العربي الاشتراكي والتحالف معه. 
المثال الثاني: الموقف من الحزب الشيوعي الصيني
نشب خلاف فكري وسياسي بين الحزب الشيوعي السوفييتي بقيادة نيكيتا خروتشوف والحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ حول الموقف من ستالين وعبادة الفرد وإدانة أعمال ستالين في المؤتمر العشرين وفيما بعد. وفي حينها اتخذت الأحزاب الشيوعية والعمالية المرتبطة بالأممية الثالثة، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، موقفاً ضد الصين واعتبرت الحزب الشيوعي الصيني منحرفاً عن الخط الماركسي اللينيني. وقد التزم الحزب الشيوعي العراقي بهذا الخط بسبب الموقف الدولي للحركة الشيوعية العالمية، وليس بسبب قناعات خاصة لدى الحزب الشيوعي العراقي، ونفس الموقف اتخذه الحزب بصدد الشيوعية الأوروبية وإدانتها باعتبارها رؤية تحريفية للماركسية-اللينينية، والتي التزم بها الثلاثي سانتياغو ماريجو ومارشيه وبيرلينغير، قادة الأحزاب الشيوعي في اسبانيا وفرنسا وإيطاليا، الذين أعلنوا تبنيهم مبادئ الشيوعية-الأوروبية في مدريد آذار 1977. في حين لم يكن مناسباً أن يتخذ الحزب الشيوعي العراقي هذا الموقف، بسبب الحق المطلق لكل حزب شيوعي أن يتخذ النهج الذي يراه مناسباً في سياساته الداخلية وإزاء القضايا الإقليمية والدولية.
إن المشكلة الأساسية التي عانت منها الأحزاب الشيوعية والعمالية تكمن في الواقع، وخلال وجود الاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي السوفييتي، في خمس مسائل جوهرية:
1.   إن الحزب الشيوعي السوفييتي قد "روسن" النظرية الماركسية وعلى مقاس الدولة السوفييتية ومصالحها على الصعيد الدولي، وبالتالي فأن استلهام الأحزاب الشيوعية الأخرى من تلك "الروسنة" للماركسية قد أضرت بالأحزاب الشيوعية والعمالية كثيراً.
2.   كما أن وجود مركز للحركة الشيوعية العالمية قبل ذاك (الكومنترن) وتحول المركز عملياً إلى الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، واتكال الأحزاب الشيوعية والعمالية على تحليلاته وتقديراته للأوضاع الدولية والإقليمية وأحياناً كثيرة لقضايا المحلية، قد عطَّل القدرة الفكرية والتحليلية للأحزاب الشيوعية والعمالية، ولاسيما في الدول النامية التي لم تكن قد توفرت لها الفرصة لدراسة وفهم الماركسية باعتبارها نظرية هادية ومنهج للدراسة والتحليل وليست نظرية جامدة أو روسية.
3.   ثم الحق ضرراً باستقلالية الأحزاب الشيوعية والعمالية وقدرتها في رسم سياساتها المستقلة على الصعد الدولية والإقليمية بشكل خاص والمحلية بالدرجة الثانية.                       
4.   وقد أدى هذا بدوره إلى نشوب صراعات داخل كل حزب بسبب التباين في وجهات النظر إزاء مواقف الاتحاد السوفييتي أو اعتبار تبيان وجهات نظر أخرى في هذه الأحزاب مخالفة للحزب الشيوعي السوفييتي وكأنها رؤى انتهازية وتحريفية أو ماوية وتروتسكية ...الخ. وقد تجلى هذا بوضوح في صراعات الحزب الداخلية في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن العشرين وصدور كراس فهد "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية"، والذي لم يكن يعالج إشكاليات فعلية عراقية بقدر ما يعيد ما كتبه ستالين بهذا الصدد ولم يكن يتناغم مع مستوى تطور البلاد والقوى السياسية والحزب الشيوعي العراقي.
5.   وقد برزت في نهاية السبعينيات والثمانينيات كلها أزمة فعلية في الحركة الشيوعية العالمية، قيل إنها أزمة في الفكر الماركسي، في حين إن الأزمة لم تكن في الفكر الماركسي أو النظرية الماركسية أو منهجها العلمي، بل في الفهم والتطبيق الخاطئ للقوانين الاقتصادية الموضوعية، أزمة الفهم والتطبيق الخاطئين للماركسية في الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية والعمالية التي سارت على نهج الاتحاد السوفييتي. فماركس لم يكتب كيف تبنى الاشتراكية، بل حلل النظام الرأسمالي وانتقده وشخص ضرورة تغيير العالم، ولكنه لم يضع وصفة لبناء الاشتراكية، وليس من عبقريته بمكان أن يضع ماركس مثل هذه الوصفة للشعوب لمراحل لاحقة.     
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي والزلزال الذي أحدثه في الحركة الشيوعية والعمالية العالمية وفي عموم اليسار العالمي والعالم قد خف تدريجياً، رغم إن بعض القوى في الأحزاب الشيوعية والعمالية التي لم تهضم حتى الآن أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي والأزمة التي عانت منها الحركة الشيوعية العالمية وليس النظرية الماركسية غير المسؤولة عن التطبيقات السيئة للفكر الماركسي في البلدان الاشتراكية التي كانت قائمة في الواقع. ولكن هناك قوى وأحزاباً شيوعية وعمالية تعلمت من تجاربها الماضية وتسعى لتبرهن على قدرتها في استخدام النظرية الماركسية في تحليل أوضاعها الداخلية والوضع الإقليمي والدولي الذي يحيط بها وبدولها، ولكن ما يزال هناك عجز في المعرفة الواعية للمنهج المادي الديالكتيكي في التحليل، وهو نتاج ضعف المعرفة بهذا المنهج والتطورات التي أدخلها التكنيك الحديث والاكتشافات ..الخ عليه أولاً، ووعي الواقع القائم ومستلزمات فهمه وتحليله في هذا البلد أو ذاك ثانياً، وتشخيص الاستراتيج والتكتيكات الضرورية والقوى التي يستوجب العمل والتحالف معها ثالثاً. وفي هذه المسألة تختلف الرؤى والمواقف والحلول، وليس هذا بأمر غريب.     
انتهت الحلقة السادسة عشرة وستليها الحلقة السابعة عشرة

تعليق على تعليق: هل العيب في الماركسية أم في التطبيق
علق أخ فاضل على مقال لي (الحلقة 16 بعنوان " الحزب الشيوعي والموقف من نهج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي" من نظرات في كتاب "مقالة في السفالة: نقد حاضر العراق" حول عيب التطبيق للفكر الماركسي في الدول الاشتراكية على موقع الحوار المتمدن، ولغرض تعميم الفائدة وإثارة النقاش أنشر تعليقه وتعليقي على تعليقه في موقعي على الفيسبوك.
بقلم متابع، العدد: 795750 - العلة في الماركسية
كيف لا تكون العلة في الماركسية وان جميع الدول الماركسية بلا استثناء فشلت وان الحركة الشيوعية العالمية اضمحلت واحزاب شيوعية كبرى في فرنسا وايطاليا انقرضت, أهذا كله عيب في التطبيق. كلا ان الماركسية فكرة خاطئة وفاشلة وقد تخلى عنها اليسار الغربي منذ عقود ولم تبق الا في الاوساط المتخلفة بحكم عاطفة الانتماء
اعاقت الماركسية لعقود عديدة النضال من اجل الديمقراطية والامر واضح في العراق
كل ذوي الايديولوجيات المغلقة وهي تفشل يبرئون الايديولوجية ويعيبون على التطبيق , فنسمع نفس التبريرات من الماركسيين والقوميين والاسلاميين, فقط ذوي الفكر الحر لا يحتاجون لهذا التبرير لان المجتمع بنظرهم مفتوح للتطور باتجاهات مختلفة ولا توجد غاية نهائية للتطور
القوة الدافعة للتطور الاكتشافات العلمية التكنلوجية ودر المثقفين وليس العمال والفلاحين فهذه قوى بسيطة الوعي
لابد من نبذ الماركسية والتحول ليسار ليبرالي
شكرا للكاتب المحترم وشكرا للحوار المتمدن
انتهى التعليق، والآن تعليقي، كاظم حبيب
أخي الفاضل المتابع، تحية طيبة
نعم أكرر وأؤكد بأن النظرية الماركسية ليست المسؤولة عن الأخطاء التي ارتكبت في الدول الاشتراكية بل السياسات الاقتصادية التي لم تحترم القوانين الاقتصادية الموضوعية أو تجاوزت عليها بشتى الطرق، أو عدم فهم الماركسية ومنهجها المادي الديالكتيكي والتي قادت أيضاً إلى الإخلال بالكثير من الأسس المبدئية، ومنها مبدأ العدالة الاجتماعية، الذي مارسته بحدود معينة في البداية ولكن أصيب بالخلل فيما بعد لصالح البيروقراطية الحزبية والحكومية.
الماركسية نظرية هادية وليست جامدة، وبالتالي يفترض أن نعي بأن المهم في الماركسية هو منهجها المادي الديالكتيكي الذي يفترض الاستفادة منه في دراسة الواقع القائم في كل بلد من البلدان وتحليله بهدف الوصول إلى تحديد الاستراتيجيات والتكتيكات الضرورية في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية...الخ. لم يتخل اليسار الغربي عن الماركسية، بل يسعى لفهمها أكثر وتطوير المنهج المادي ذاته والابتعاد عن الأخطاء التي ارتكبت في الواقع العملي والتخلي عن بعض الطروحات التي لم تكن ملائمة للواقع الراهن. ماركس لم يدرس الاشتراكية، بل درس الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي والنظام الرأسمالي وحللها بعمق عبقري، وبالتالي فالرأسماليون الحاليون يدرسون رأس المال للاستفادة منه لصالحهم. وما على الماركسيين إلا دراسة هذا السفر الجليل والمنهج الذي اتبع في دراسة الرأسمالية لدراسة الواقع الراهن وتحليله والوصول إلى ما ينبغي عمله لصالح المجتمع ولاسيما الفئات الكادحة والمُستغلة والمضطهدة، سواء في الدول الرأسمالية أم في الدول النامية.
الرأسمالية قدمت خدمات كبيرة في مجال العلوم والتقنية والاكتشافات العلمية وهذا صحيح، ولكن النظام الذي أنتجته سخرها لخدمة أصحاب رؤوس الأموال وليس لصالح مجتمعاتهم. وهنا تكمن الكارثة. ان النظام الرأسمالي هو الذي يستغل الإنسان بأبشع ما يمكن. عليك أخي الفاضل الاطلاع على المعلومات التي تحصل في عالمنا. هناك حفنة صغيرة من رأسماليي العالم يحتكرون الجزء الأعظم من الناتج المحلي الإجمالي، من الدخل القومي السنوي على الصعيد العالمي، هناك 85 شخصاً من أغنى مليارديري العالم يملكون ثروة تعادل ما يملكه 4,5 مليار إنسان في العالم، أي أن 85 شخصاً فقط يملكون ما نسبته 60% من مجموع ثروة العالم وهم لا يشكلون نسبة تذكر في إجمالي عدد سكان الأرض.
مرة أخرى أحترم رأيك، ولكن لا اتفق معك بشأن الموقف من الماركسية ومن اللبرالية التي لا تعني سوى الرأسمالية التي تعني استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وشكراً لإثارتك النقاش. مع الود، كاظم حبيب 
 
     



115
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الخامسة عشرة
الحزب الشيوعي العراق
ابتداءً أود أن أشير إلى عددٍ من الملاحظات المهمة قبل الخوض في تفاصيل التعليق على ما كتبه الدكتور فالح مهدي بشأن الحزب الشيوعي العراقي.
1)   في هذه المقالة أعبر عن وجهة نظري الشخصية البحتة، والحزب الشيوعي العراقي هو القادر على مناقشة ما جاء من انتقادات وأحكام قاطعة بشأن الحزب الشيوعي العراقي والموقف منه ومن قادته. وأتمنى عليه أن يفعل ذلك.
2)   في هذه المقالة سأعلق على ما جاء في كتاب "مقالة في السفالة" بشأن الحزب الشيوعي العراقي وفي أكثر من مكان، وعن الصيغة التي جرى التعبير عنها وأهمية ما ورد من نقد، وما هو صحيح أو غلط، كما أرى.
3)   كما سأتناول ما ذكره عن الرفيق الفقيد عزيز محمد من نقد جارح، بسبب ما نقل له عنه، وفي هذا أعبر عن رأيي الشخصي أيضاً.
4)   لست ممن يرفض النقد من أي إنسان يرغب في ممارسته وبالطريقة التي يراها مناسبة، فهذا حق مطلق تضمنه لوائح ومواثيق وعهود حقوق الإنسان، وكذلك الدستور العراقي، رغم العلل والاختلالات التي يحملها هذا الدستور. ولهذا لا اعتراض لي على ممارسة النقد حتى أشده، فأنا أمارسه مع نفسي وإزاء غيري أيضاً، ولكن ما هو مرفوض هو أسلوب التهجم والإساءة، مع عدم اليقين في قضايا معينة ودون إيراد براهين تؤكد ذلك، ونحن بصدد كتاب يصدر عن عالم وأكاديمي محترم، مما يتطلب من القراء والقارئات التفكير والتمعن.
5)   في كتاب "مقالة في السفالة" يتحدث الكاتب فالح مهدي عن العنف لا بصيغة التعذيب الجسدي والنفسي فحسب، بل التعذيب بمعناه الأوسع والأعم والأشمل، بصيغه المختلفة والمتنوعة، ومنها عنف اللغة والكلمات. وهو محق بذلك، ويتجلى في كتاب موسوعة العذاب لعبود الشالجي أو في كتابي الاستبداد والقسوة في العراق. وعند قراءتي النصوص التي كتبها الزميل فالح مهدي عن الحزب الشيوعي العراقي وعن الكتب التي قرأها واقتبس منها والتي وجهت التهم للحزب الشيوعي بالعمالة مثل كتاب طارق إسماعيل نهوض وسقوط الحزب الشيوعي العراقي، تعبر عن عنف اللغة والكلمة والتي رفضها وأدانها الدكتور فالح مهدي نفسه بحق في كتابه الذي أُعلق عليه، وكم كنت أتمنى عليه أن يتجنب هذه اللغة القاسية لتبدوا كتاباته بصدد الحزب أكثر موضوعية وأكثر قبولاً، لأهمية جملة من الانتقادات الصائبة التي تضيع بسبب أسلوب النقد.
6)   كل الأخطاء التي ارتكبها الحزب الشيوعي العراقي في خضم النضال والعمل السياسي، وأينما كان موقعي في الحزب، فأنا مسؤول عنها، ولاسيما حين كنت عضواً في اللجنة المركزية ومكتبها السياسي، إذ من العيب المشين وعدم المصداقية أن أنأى بنفسي عنها، وبغض النظر عن مدى تأييدي أو اعتراضي على هذه الفكرة أو القضية أو الموقف أو عموم السياسة.           
لقد قضيت في الحزب الشيوعي العراقي جل شبابي والكثير من سنوات عمري، وعشت، كمواطن مخضرم، العهود الملكية والعهود الجمهورية الخمسة ومازالت أواصل العيش في العهد الجمهوري الخامس الذي، من سوء حظي أن أعيش كوارثه ومآسيه، والذي استُبيح فيه الوطن والشعب كله، أستُبيح بنظام سياسي طائفي-محاصصي-فاسد وإرهابي من قمة النظام إلى أسفله. تعلمت من الحزب وفيه الكثير، تعلمت منه حب الشعب وحب الوطن والوفاء لهما والدفاع عنهما وعن مصالحهما، تعلمت منه الصدق والوفاء وعزة النفس والكرامة والصمود والتضامن مع الناس الآخرين والشعوب الأخرى. ومنه تعلمت كره العنصرية والفاشية والطائفية والتمييز بكل أشكاله، ولاسيما ضد المرأة، فهي الأم والأخت والزوجة والبنت والعمة والخالة والمواطنة الشريفة والمعين الذي لا ينضب للبرية جمعاء. وفيه تعلمت ضرورة التعلم من الشعب والإصغاء إليه وعدم تجاوز إرادته وعدم التفريط برفاقه في العملية النضالية، رغم القبول بالموت حين يكون لا بد منه أو الاستعداد للموت في سبيل قضية الشعب العادلة والوطن والمبادئ التي يحملها الفرد.
ولكني تعلمت منه ومن الحياة ذاتها أيضاً من أن الحزب، وأي حزب، يمكن أن يرتكب أخطاءً ما دام الحزب يعمل ويناضل، ولكن عليه أن يعترف بها حين يرتكبها وعلى الَّا يكررها ثانية وثالثة، إذ إن الشعب له في ذلك حكمته البسيطة القائلة "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين". ولهذا كنت أحاول ممارسة النقد مع نفسي وفي خلواتي الشخصية، أو مع غيري، وفي عملي اليومي في الحزب أو في الحياة العامة. وتعلمت من دراساتي الخاصة من أن مستوى وعي القيادات بشكل عام هو من مستوى وعي الحزب كله أولاً، وكلاهما من مستوى وعي المجتمع ثانياً، ومن واقع الدولة وطبيعتها ونهجها وسياساتها ومستوى الحرية والديمقراطية السائدة أو الظلم والاضطهاد والقسوة أو الاستبداد التي تمارس في البلاد ثالثاً. ومن قرأ لي في كتابنا المشترك مع الرفيق الفقيد د. زهدي الداوودي، الموسوم "فهد والحركة الوطنية في العراق" والموضوعية التي حاولنا العمل بموجبها وإشارتنا إلى خصائص فهد الإيجابية منها والسلبية، وعن أسلوب تفكيره وعمله الستاليني وعن الرؤية الستالينية في عموم الحزب الشيوعي العراقي في فترة الرفيق فهد وما بعدها ولفترة غير قصيرة، يستطيع أن يقدر بأني لم ولن أتردد عن النقد حين يكون ضرورياً. إن ظاهرة الستالينية لم تقتصر في تأثيرها على الحزب الشيوعي العراقي بل شملت الحركة الشيوعية للأممية الثالثة كلها وفي كل بلدان العالم تقريباً، أو حيثما وجد حزب شيوعي يرتبط بالأممية الثالثة. لقد ابتلت الأحزاب الشيوعية بمرض خبيب هو الستالينية والبيروقراطية والابتعاد عن الديمقراطية بذريعة الديمقراطية الشعبية والتراجع عن العدالة الاجتماعية. وقد شخصت المفكرة المميزة والبارزة والماركسية الألمانية روزا لكسمبورغ في كراسها الذي كتبته في السجن في العام 1919 وقبل اغتيالها والموسوم "الثورة الروسية"، عن مجموعة من تلك العلل التي ابتلت بها كل الأحزاب الشيوعية، ومنها التصور بامتلاك الحق والحقيقة كلها، أو الادعاء بتمثيل الطبقة العاملة، في حين المفروض أن نشير إلى سعينا للتعبير عن مصالح الطبقة العاملة.. إلخ.
في رسالتي التي وجهتها إلى رفاق الحزب الشيوعي العراقي في المؤتمر الثامن للحزب الذي عقد في عام 2006، والتي نشرت على نطاق واسع، وكذلك المقالات التي أكتبها بهذا الصدد، حاولت تشخيص جملة من الظواهر السلبية التي ما يزال بعضها موجوداً حتى اليوم والتي يفترض العمل على التخلص منها من خلال الحزب ذاته وبمساعدة من يمكنهم تقديم النقد المناسب بما يساعد على تحقيق التغيير المنشود. وحين أعود إل هذه الرسالة أجد إنها ماتزال صالحة ف نقدها وفيما طرحته من مقترحات للعمل.
كتب الأستاذ الدكتور فالح مهدي في بداية مقالته عن الحزب الشيوعي العراق ما يلي:
"الحزب الشيوعي العراقي أحد أقدم الأحزاب السياسية في العراق، بل أعرق حزب في الوقت الراهن، لا بل هو الحزب الوحيد الذي يستحق لقب حزب بجدارة. تأسس في عام 1934 وساهم مساهمة فعالة في الحراك الوطني في الفترة الملكية، وأصبح حزب الجماهر، وساهم بإيجاد وعي ثقافي، فهو من كبار المساهمين في نشر الثقافة في بلد لم يخرج من طور الرضاعة، بعد أربعة قرون من الدمار العثماني"، ثم يقول في موقع آخر: "هذا الإطراء لا يعفني أبداً من نقد تلك المسيرة الطويلة، ليس بدافع التجني والتشهير، وليس بدافع الكراهية والضغينة، إنما لوضع الأمور في نصابها، كما أراها وكما يمليها عليَّ ضميري." (مهدي، الكتاب، ص 190/191). ما جاء في الجزء الأول اعتبره تقييماً صادقاً وصائباً لدور الحزب الشيوعي في عملية التنوير الاجتماعي والثقافي والسياسي في البلاد، ولم يبق من تلك الأحزاب التي ظهرت بالثلاثينيات غير الحزب الشيوعي العراقي الذي قاوم طيلة 85 عاماً بالتمام والكمال، وهو قد وجد ليبقى كما أرى. وفي الجزء الثاني مما نقلته عن الصديق الدكتور فالح مهدي، أشير إلى أن ليس هناك من يطلب من أي كاتب ألَّا يكتب نقداً يتجاوز به ضميره بأي حال، بل إن النقد لمثل هذا الحزب العتيد ضروري وملح، إذ في ذلك خدمة للحزب ذاته لكي يرى كيف ينظر الكتاب والنقاد إلى مسيرته السياسية، كما إن النقد يعتبر مشعلاً ينير درب الآخرين إن كان موضوعياً، هادفاً وموثقاً. ووظيفة النقد السياسي والاجتماعي ليست غاية بذاتها، بل هي من حيث المبدأ وسيلة لمساعدة هذا الحزب او ذاك للتخلص من أخطاءه وتجاوزها وعدم تكرارها، وبالتالي فهي ليست للانتقام من هذا الحزب أو الإساءة له، إذ لم نجد في العراق حزباً صمد طيلة تلك الفترات وبقي واقفاً رغم الكثير من الهزات العنيفة والأخطاء الشديدة، وبعضها حتى الآن، واستمر في العمل السياسي، كما حصل مع الحزب الشيوعي العراقي. الملاحظات النقدية التي وجهها الباحث الدكتور فالح مهدي تتوزع على عدة مجالات سأتناولها بالتفصيل تقريباً، وأملي أن أوفق في إعطاء الأجوبة المطلوبة والموضوعية، كما أراها بعد مرور ما يقرب من 66 عاماً على أول انتماء لي للحزب الشيوعي العراقي وأكثر من 70 عاماً في الحركة الطلابية والسياسية العراقية، دون أن يتحمل الحزب الشيوعي العراقي أو أي شخص أخر المسؤولية عن إجاباتي وأرائي. والنقاط هي:
أولاً: الحزب الشيوعي والموقف من نهج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي؛ ثانياً: الحزب الشيوعي ووعي الواقع العراقي على امتداد الفترات المنصرمة؛ ثالثاً: هل الحزب الشيوعي انتهازي، وهل هناك طبقة عاملة وفلاحين في العراق؛ رابعاً: أكردة الحزب الشيوعي العراقي والقيادات الهزيلة وعزيز محمد؛ سأتناول هذه المسائل في عدة حلقات قادمة، لأهميتها وضرورة خوض الحوار الفكري والنقاش السياسي بشأنها لأهميتها للوقت الحاضر وللمستقبل.   
انتهت الحلقة الخامسة عشرة وستليها الحلقة السادسة عشرة.                   

116
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الرابعة عشرة
الريع والدولة الريعية
كتب الزميل فالح مهدي في تفسيره للدولة الريعية ما يلي: "يقصد بالدولة الريعية، ضعف وهزال الأنشطة الاقتصادية، وذلك بالاعتماد على ريع لا جهد فيه كالنفط مثلاً، حيث تستمد السلطة كل أو معظم إيراداتها الوطنية عن طريق تأجير الموارد المحلية لعملاء خارجيين." (مهدي، الكتاب، ص 212). ثم يعتمد على تعريف للزميل الدكتور محمد على زيني في تعريف الريع حيث نقل عنه ما يلي: "الريع عبارة عن دخل غير متعوب فيه، فهو ليس نتاجاً عن جهود تتطلبها العملية الاقتصادية المعتادة، أي ليس ناتج عن عمل، وإنما هو دخل تجود به الطبيعة. وأفضل مثال لهذا النوع من الريع هو الريع النفط الذي يتأتى من استخراج النفط الخام وتصديره." (مهدي، الكتاب، ص 213).
سأتناول هنا، على وفق ما جاء في كتاب الزميل العزيز فالح مهدي، مسألتين بالتعليق، وهما:
أولاً: ريع الأرض أو يسمى أحياناً الريع العقاري
لنبحث الآن في مفهوم الريع استناداً إلى تكوين الدخل القومي بشكل عام. الدخل القومي هو صافي الإنتاج المحلي في بلد معين ولسنة معينة، أي أنه الجزء الثاني من حجم الإنتاج الإجمالي. أي بعد طرح قيمة المندثر والداخل من وسائل الإنتاج في العملية الإنتاجية، أي في السلع المنتجة، نحصل على الدخل القومي. والدخل القومي في سنة واحدة مثلاً يتكون من جزئين أساسيين هما:
الأجور والمداخيل الفردية أولاً، وفائض القيمة ثانياً، والأخير يمكن أن يتوزع بدوره على الربح والفائدة والريع. ولكن هذا الدخل القومي بقسميه الأساسيين هما من نتاج عمل المنتجين، سواء أكان الإنتاج في القطاع الزراعي أم في الصناعة التحويلية أم في الصناعات الاستخراجية، إي استخراج المواد الأولية من باطن الأرض ومن على سطحها. فهنا يلاحظ بأن ريع الأرض الذي ينتج في القطاع الزراعي ما هو إلا نتاج الفلاح المزارع العامل على الأرض الزراعية، إنه المنتج للسلع من مختلف المنتجات والمحاصيل الزراعية. وهذا الريع يكون من حصة مالك الأرض بسبب حيازته للأرض الزراعية، في حين أنه لم يساهم في العملية الإنتاجية ولم يصرف شيئاً من قوة عمله. والريع المنتج في الصناعات الاستخراجية يستولي عليه الحائز على الأرض أو صاحب رأسمال الذي يسترد رأسماله من خلال قيمة المندثر والمستخدم من وسائل الإنتاج في العملية الإنتاجية، ويتسلم الرأسمالي إضافة إلى ذلك الريع الذي أنتجه العامل في الصناعة الاستخراجية باعتباره مستأجراً للأرض أو باعتبار الأرض ضمن حيازته أو أنها ملكاً للدولة، كما هو الحال بالنسبة للأراضي الأميرية في العراق منذ عهد عمر بن الخطاب. هذا الريع هو نتاج عمل الفلاح أو العامل، ولكن يجري الاستيلاء عليه، على وفق القوانين المعمول بها أو على وفق اتفاقيات معقودة، مِن مَنْ لم يشتغل عليها ويستهلك قوة عمله في العملية الإنتاجية. وباختصار ووضوح كبير فالريع هو ذلك الجزء من فائض القيمة الذي يستولي عليه مالك الأرض من جهد الفلاح في الزراعة أو العامل في الصناعات الاستخراجية، أي في استخراج المواد الأولية، أو الربح في الصناعات التحويلية أو الفائدة في المعاملات المصرفية، أي إن الأصل هو استهلاك قوة العمل لإنتاج السلع المادية والثروة الاجتماعية في أي بلد من البلدان. وعلى وفق النظام الرأسمالي يوزع الدخل القومي على الأساس التالي: المُنتج، سواء أكان عاملاً أم فلاحاً، يحصل على أجره أو حصته المتفق عليها؛ صاحب رأس المال والمنظم الذي يتسلم الربح؛ والحائز على الأرض يستولي على الريع. وفي هذا محاولة للتغطية على واقع نتاج العملية الاقتصادية أو هنا الإنتاجية، إذ إنها بالأساس كل هذه المفردات، الربح والفائدة والريع، ليست سوى أجزاء من فائض القيمة الذي ينتجه العامل أو العامل الزراعي أو الفلاح في الزراعة، أو في الصناعات الاستخراجية أو الصناعات التحويلية. كتب ماركس بوضوح كبير إلى أن ريع الأرض هو جزية، يطلبها الحائز على الأرض (كإيجار) عن استعمال الأرض التي بحوزته. إلا إن ريع الأرض (إيجار الأرض) ليس كما يبدو وكأنه ثروة تنشأ دون عمل، بل هو في الحقيقة استقطاع جزء من فائض القيمة الرأسمالي. من المفيد هنا أن أتوسع قليلاً في شرح هذه الفكرة اقتصادياً في ظل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، وهي علاقات قائمة على الاستغلال، سواء أكان ذلك في الزراعة أم الصناعة الاستخراجية. ففي العملية الزراعية يكون التوزيع على النحو التالي:
أ) استقطاع جزء من الحاصل الزراعي لتعويض قيمة وسائل الإنتاج المستخدمة في عملية الإنتاج، أي الرأسمال الميت أو الثابت؛ ب) استقطاع جزء من الحاصل لتعويض قيمة رأس المال المتحرك الموظف في عملية الإنتاج، أي الأجور المدفوعة للعاملين في الزراعة؛ ج) استقطاع جزء من الحاصل على شكل ريع مطلق يكون من حصة الحائز على الأرض الزراعية؛ د) استقطاع جزء من الحاصل على شكل متوسط ربح يتسلمه الرأسمالي الزراعي الحائز على الأرض الزراعية. إضافة إلى ذلك هناك ما يطلق عليه بالريع التفاضلي أ وب وج، ويتحقق بالارتباط مع خصوبة الأرض، وموقع الأرض وقربها أو بعدها عن الأنهار وأسواق تصريف السلع، أو بسبب توظيفات رأسمالية إضافية، على التوالي. وهذا مماثل تقريباً لما يحصل في قطاع الصناعات الاستخراجية. وكمثال على الريع التفاضلي في صناعة استخراج النفط نشير إلى ان الريع التفاضلي فيه يرتبط بمدى قرب المواد الأولية من سطح الأرض وقلة تكاليف استخراج المواد الأولية. فعلى سبيل المثال تكاليف استخراج النفط الخام في العراق، ولاسيما في كركوك، ضئيلة جداً بسبب قرب النفط من سطح الأرض، في حين إن تكاليف إنتاج البرميل الواحد في الولايات المتحدة مرتفعة جداً بالقياس إلى تكاليفه في العراق أو حتى بالنسبة إلى متوسط تكاليف إنتاج البرميل الواحد عالماً، وبذلك يحقق المنتج العراقي ريعاً تفاضلياً (إضافياً) لأنه يعمل على أرض يكون استخراج النفط فيها أقل تكلفة بالقياس إلى متوسط تكاليف إنتاج البرميل الواحد من النفط على الصعيد العالمي، أي أن إنتاج البرميل الواح في العراق يحتاج إلى استثمارات رأسمالية اقل مما يحتاجه إنتاج البرميل الواحد في الولايات المتحدة. والريع التفاضلي بكل أنواعه هو أيضاً نتيجة فائض القيمة المنتج من قبل الفلاح أو العامل في الصناعة الاستخراجية.       
من هنا يبدو لي بأن التفسير الأول للدكتور فالح مهدي يشير إلى تأجير الأرض لعملاء خارجيين ليس دقيقاً. إذ إن العملاء الخارجيين لا يشكلون شرطاً لنشوء الريع، إذ يمكن للرأسماليين المحليين أو الأجانب، أو الدولة ذاتها أن تكون هي المستثمرة لرؤوس الأموال والمستعملة للأرض في الصناعات الاستخراجية، سواء أكان نفطاً أم ذهباً أم فحماً أم أي مواد أولية أخرى من باطن الأرض وبعضها على سطح الأرض، حيث يشتغل العمال في استخراج النفط فيغطون بذلك أجورهم ولكنهم ينتجون قيمة أكبر مما حصلوا عليه من أجر, إن هذه القيمة الزائدة هي فائض القيمة، وهي الريع، كجزء من الفائض الذي يستولي عليه الرأسمالي، سواء أكان فرداً أم شركة، وسواء أكان محلياً أم أجنبياً، أم مختلطاً أم كانت دولة.
أما تعريف الدكتور محمد علي زيني فهو تعريف خاطئ جملة وتفصيلاً، علمياً أو اقتصادياً، إذ إن الريع ليس دخلاً غير متعوب فيه، بل إنه ناتج قوة عمل العامل التي استهلكها في انتاج السلعة أولاً، وهو جزء من فائض القيمة أو القيمة الزائدة التي يسيطر عليه الرأسمالي أو الحائز على الأرض في الزراعة، وهما لم يبذلا فيه جهداً في إنتاجه. نعم إن الثروة موجودة في الطبيعة، في باطن أمنا الأرض، ولكن العامل هو الذي يستخرجها وهو الذي يصرف قوة عمله عليها ويحقق أجراً له، ولكنه ينتج أكثر من أجره، وهو ما يطلق عليه بـ"فائض القيمة" وإن الريعَ يشكل جزءاً منه. 
ثانياً: الدولة الريعية
نعود إلى تعريف الزميل فالح مهدي للدولة الريعية ثانية حيث يقول فيه "يقصد بالدولة الريعية، ضعف وهزال الأنشطة الاقتصادية، وذلك بالاعتماد على ريع لا جهد فيه كالنفط مثلاً، حيث تستمد السلطة كل أو معظم إيراداتها الوطنية عن طريق تأجير الموارد المحلية لعملاء خارجيين." (مهدي، الكتاب، ص 212). في هذا التعريف خطأن هما: اعتماد الدولة على ريع لا جهد فيه أولاً، وإن معظم إيراداتها الوطنية عن طريق تأجير الموارد المحلية لعملاء خارجيين ثانياً، وقد بينا أسباب هذين الخطأين. فما مفهوم الدولة الريعية؟ كتب الدكتور أحمد علوي بصواب، في مقال له عن "الاقتصاد الريعي ومعضلة الديمقراطية"، ما يأتي: "تتناسب العلاقة بين العملية الديمقراطية عكسياً مع ازدياد صادرات النفط، أي أنه كلما ازدادت المداخيل النفطية للدول المنتجة للنفط، تصاب العملية الديمقراطية بالخلل وتتراجع الحريات السياسية. وهذا على عكس ما يجري في البلدان المتطورة. فاستناداً إلى الأبحاث المختلفة، فإن حال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات السياسية في البلدان المتطورة تتناسب طردياً مع زيادة الناتج الإجمالي الداخلي ومع دخل الفرد. وعلى خلاف ما يجري في الدول المتطورة، لا تؤدي الزيادة في مداخيل الدولة أو الدخل الوطني في الدول التابعة والريعية إلى التطور السياسي". ( أحمد علوي (2011). الاقتصاد الريعي ومعضلة الديمقراطية. تعريب عادل حبة. موقع الحوار المتمدن، العدد، (3540)، 8/ تشرين الثاني.  www.ahewar.org). هنا يمنحنا الكاتب فرصة التدقيق في الدولة الريعية، أي الدولة التي يكون ريعها من النفط مثلاً، إذ إن المسألة ترتبط بطبيعة الدولة ومستوى تطور القوى المنتجة فيها والنظام السياسي الديمقراطي. ومن هنا كان الفقد الدكتور فالح عبد الجبار على صواب حين ميز بين أربعة أشكال من ملكية النفط التي تقود إلى صيغ مختلفة في مفهوم الدولة الريعية، وهي "أولاً الملكية الوطنية (كما في العراق، الجزائر، وإيران، مع الاقتصار على عدد قليل) ثانياً، الملكية الأسرية (كما في الخلي، باستثناء الكويت، حيث يتقاضى أفراد الأسرة الملكية الرواتب)، ثالثاً، ملكية رأس المالالأجنبي، رابعاً وأخيراً ملكية الشركة المساهمة كما في الأسكا." (فالح عبد الجبار، كتاب الدولة، اللوياثان الجديد، منشورات الجمل، ط 1، 2017، ص 34)، استناداً إلى كتاب روبرت گوودلاند (Robert Goodland, Examining the social and Environmental Impacts). ورغم هذا التنوع، فأن الحالات الثلاث تنشئ الدولة الريعية غير الديمقراطية والتوتاليتارية، في حين الحالة الرابعة هي الناجية من سيطرة الدولة وخاضعة للشركة المساهمة التي تخضع للقوانين الاقتصادية الرأسمالية.     
الصواب في تعريف الدكتور فالح مهدي يبرز في تأكيده على "هزال الأنشطة الاقتصادية" الإنتاجية في مقابل الدولة المسيطرة على القسم الأعظم من الدخل القومي ومن صادرات البلد المستخرج للموارد الأولية ولاسيما النفط والذهب والماس واليورانيوم وما إلى ذلك من سلع أساسية واستراتيجية، سواء عبر ملكية الدولة ذاتها أم عبر تأجيرها لشركات أجنبية أو محلية او مختلطة، أو مشاركة في الإنتاج. أما ما تفعله هذه الدولة الريعية بهذه الأموال وكيف تمارس سلطاتها الثلاث الحكم في البلاد فالدكتور فالح مهدي على صواب تام. وفي دراسة لي أشرت إلى السمات التي تميز الاقتصاد العراقي باعتباره اقتصاداً ريعياً أولاً، وأثمر بدوره عن دولة ريعية غير ديمقراطية في البداية، ومن ثم تفاقم طابعها اللاديمقراطي لتصبح دولة دكتاتورية مطلقة شمولية أو توتاليتارية، كما في حكم البعث أو في الحكم الطائفي المستبد المحاصصي والفاسد الراهن. والآن ما هي السمات الأساسية التي يتميز بها اقتصاد الدولة الريعية، وبالتالي الدولة الريعية؟ يمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
السمة الأولى: قِدَمْ الطابع الريعي للاقتصاد العراقي
يعد الاقتصاد العراقي وحيد الجانب وريعي بامتياز، إذ اعتمد في السابق وبالأساس على ريع القطاع الزراعي وهيمنة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية، ثم انتقل في أعقاب انتهاء الانتداب البريطاني وبدء استخراج وتصدير النفط الخام، أي منذ العقد الرابع من القرن العشرين حتى يومنا هذا، إلى الاعتماد التدريجي المتنامي على ريع قطاع النفط الخام الاستخراجي المصدر. (كاظم حبيب (2013).  لمحات من عراق القرن العشرين – ط1، (11 مجلد، ابتداءً من المجلد الرابع حتى آخر مجلد).  أربيل: دار أراس للطباعة والنشر. 2013). ومع تراجع دور القطاع الزراعي في تكوين بنية الناتج المحلي الإجمالي وتقلص نسبة الفلاحين إلى مجموع السكان والقوى العاملة سنة بعد أخرى، ارتفع دور النفط الخام المستخرج والمصدّر في تكوين الناتج المحلي الإجمالي. ومن الأربعينيات من القرن الماضي ومن ثم الخمسينيات وبعدها، منذ تأميم مصالح الشركات الأجنبية البترولية في العراق، نما وتفاقم الطابع الريعي للاقتصاد العراقي وللدولة العراقية وسلطاتها الثلاث. فالريعية ليست ظاهرة جديدة، بل ظاهرة متفاقمة بمرور الزمن وبسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي مارستها الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر، والتي أهملت توظيف رؤوس الأموال في القطاعات الصناعية الإنتاجية وفي تنمية وحديث الزراعة، ولاسيما موارد النفط المالية المتأتية من استخراج وتصدير النفط الخام، وفي الصناعات الصغيرة والحرفية، من جهة، ولا في تغيير بنية التعليم في العراق بما يسهم في تنمية سريعة وكبيرة للتعليم المهني والفني ومراكز البحث العلمي والتدريب بما يتناغم وحاجة العراق من جهة ثانية.
السمة الثانية: اقتصاد استهلاكي
إن توفير اقتصاد النفط الخام لمزيد من الموارد المالية سنة بعد أخرى من خلال المزيد من كميات النفط المستخرج والمصدر، دفع وما يزال يدفع باستمرار، كظاهرة عامة ولصيقة، بالنخب الحاكمة إلى الابتعاد عن الجهد المطلوب والضروري لتغيير بنية الاقتصاد الوطني والتخلص من وحدانية الجانب في بنية الإنتاج المحلي؛ أي إبقاء طابع الاقتصاد الوطني استهلاكياً غير إنتاجي، والذي ينعكس بالتالي على بنية المجتمع الطبقية، (كاظم حبيب (2013). آراء حول الطبقة الوسطى في العراق. موقع الحوار المتمدن، العدد (4441)، 2 أيار. متاح في: www.ahewar.org)، أي بدلاً من توجيه الموارد المالية المتأتية من اقتصاد النفط الاستخراجي صوب التنمية الزراعية والتنمية الصناعية التحويلية وتطوير التعليم والبحث العلمي والحياة الثقافية الضرورية المرافقة لهما، تقوم سلطة الدولة الريعية بتوجيه الموارد صوب إشباع حاجات السكان للسلع والخدمات من خلال الاستيراد السلعي من جهة، وإلى التسلح والعسكرة لحماية نظامها السياسي وامتيازاتها ومنافعها المباشرة وغير المباشرة من جهة ثانية.
وسنة بعد أخرى تزداد الحاجة إلى إشباع حاجة الاستهلاك السلعي الأساسي والكمالي بسبب الزيادة السكانية وبسبب توفر زيادة في السيولة النقدية وتحسن في مستوى مداخيل ومستوى حياة ومعيشة فئات معينة من السكان، في حين تبقى فئات أخرى تعاني من الفقر وشظف العيش. ومن هنا تنشأ أمامنا السمة الثالثة.
السمة الثالثة: اقتصاد استيرادي
من يتابع مؤشرات الاستيراد السنوية خلال العقود الستة المنصرمة سيجد إن الاستيراد، وبالرغم من كل الكوارث والحروب، كان ينمو ويزداد سنة بعد أخرى ليستنزف جزءاً مهماً وأساسياً من إيرادات تصدير النفط الخام العراقي. إنها السمة الجوهرية الثالثة المميزة للاقتصاد العراقي والمرافقة له، التي تستكمل السمتين الأولى والثانية إذ يستنزف الاستيراد نسبة عالية من الناتج المحلي الإجمالي السنوي الموجهة لأغراض الاستيراد السلعي السلمي والعسكري. وهذه السمة، وارتباطاً ببقية السمات، هي التي جعلت الاقتصاد العراقي مكشوفاً بالكامل على الخارج من حيث التصدير والاستيراد، والتي عاش مرارتها في فترات مختلفة خلال العقود المنصرمة. أي غياب الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي للمجتمع العراق كما حصل في فترة الحصار الاقتصادي الدولي بين 1991-2003.
السمة الرابعة: اقتصاد تابع
إن السمات الثلاث السابقة مجتمعة حددت بوضوح كبير موقع العراق الضعيف والتبعي والهامشي وغير الديناميكي في التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل، موقع المنتج للمواد الأولية والمصدر لها والحائز على الريع من جهة، والمستورد والمستهلك للسلع المادية من جهة ثانية، والعاجز بسبب طبيعة الدولة وسياسات النخب الحاكمة عن تحقيق التنمية والتثمير الإنتاجي والتشغيل وتغيير بنية الناتج المحلي الإجمالي من جهة ثالثة.
فالعراق يشكل جزءاً عضوياً من النظام الرأسمالي العالمي، ولكنه الجزء المتخلف والتابع والمُستنزَف في موارده الاقتصادية وأمواله، والقائم على علاقات اقتصادية غير متكافئة. فالاقتصاد العراقي يشكل جزءاً من تلك الدوائر المتخلفة التي تدور في فلك المراكز الرأسمالية الدولية، وهذا الواقع المشوه يجعل من عملية إعادة الإنتاج أو مجمل العملية الاقتصادية بالعراق بمراحلها الأربعة (الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك) ضعيفة تعيق تحقيق عملية إعادة إنتاج موسعة وضمان تراكم رأسمالي وإغناء الثروة الاجتماعية من فروع وقطاعات اقتصادية أخرى وزيادة في التشغيل وتحسين في مستوى الدخول والحياة والمعيشة. (قارن: كاظم حبيب، الفاشية التابعة في العراق- ط2 السليمانية، مؤسسة حمدي للطباعة والنشر، 2008).
وقد اشتدت ظواهر التبعية والتخلف والتشوه خلال العقود الأربعة الأخيرة بسبب القفزة الكبيرة في دور العولمة الرأسمالية التي ارتبطت عضوياً بالثورة العلمية والتقنية، ثورة الإنفوميديا، على صعيد الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية، إضافة إلى الآثار المتناقضة، السلبية منها والإيجابية، بعد غياب دول المعسكر الاشتراكي وتراجع الحرب الباردة بين المعسكرين وبوادر العودة إليها مجدداً، ولكن على وفق أرضية وقواعد أخرى، إضافة إلى سياسات النخب الحاكمة التي تبتعد بإصرار عن التنمية المنشودة المغيرة لطبيعة الاقتصاد وبنية المجتمع.
السمة الخامسة: تدهور البنية الطبقية
ولكن ماذا نشأ عن هذا الواقع العراقي أو هذه السمات السلبية المتضافرة في فعلها؟ لو كان العراق قد اتجه صوب التصنيع التحويلي واستخدم موارد النفط المالية والمادية لهذا الغرض لتغيرت بنية المجتمع. ولكن هذا لم يحصل إلا ببطء شديد حيناً وبتشوه كبير في أحيان أخرى.
ونتيجة ذلك برز تحول نسبي تدريجي في بنية المجتمع الطبقية، فازداد عدد العمال، سواء أكانوا من العاملين في اقتصاد النفط الخام أو مشاريع السكك الحديد والطاقة والماء وموانئ تصدير النفط الخام أو مشاريع الصناعة التحويلية التابعة للدولة والقطاع الخاص والمختلط الأخرى، إضافة إلى تنامي دور البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الصناعية والبيروقراطية المتوسطة وفي قطاع التجارة. كما اتسعت قاعدة العاملين في أجهزة الدولة الإدارية بعدة أضعاف وفي فترة قصيرة وكلهم يتسلمون رواتبهم من الدولة ويعتمدون على إيراداتها وتابعين لها! إلا إن التطور النسبي في القطاع الصناعي وابنية التحتية الذي تحقق في فترات مختلفة، بضمنها سنوات العقد الثامن من القرن العشرين وقبل بدء الحرب العراقية- الإيرانية قد انهار تماماً بفعل سياسات النظام البعثي الدكتاتورية والعسكرة والتسلح والقمع والحروب الداخلية والخارجية وتعريب القوميات الأخرى والتهجير القسري، مما قاد إلى تدهور شديد في البنية الطبقية للمجتمع العراقي، والتي لم تساعد السياسات التي أعقبت سقوط الدكتاتورية على تغييرها لصالح المجتمع. لقد تراجعت الفئات الوسطى والبرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة لصالح فئة أشباه البروليتاريا التي تعيش على هامش الاقتصاد العراقي والحياة الثقافية والسياسية.
السمة السادسة: علاقات إنتاج متخلفة
تتجلى السمة المميزة السادسة في طبيعة التشكيلة المتخلفة التي ما تزال سائدة وفاعلة في الاقتصاد والمجتمع بالعراق. فالسمات السابقة تعتبر نتاجاً منطقياً وطبيعياً لاستمرار وجود بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية، والعودة الشديدة لدور العشائر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية من جهة، ولكنها تعدّ السبب في استمرار وجود هذه العلاقات المتخلفة من جهة أخرى، وخاصة في الريف العراقي حيث تنعكس طبيعتها وسلوكية كبار الملاكين وشيوخ العشائر على المجتمع بالمدينة أيضاً، فضلاً عن النمو الضعيف في علاقات الإنتاج الرأسمالية في الزراعة والصناعة وتمركزها في قطاعات النفط الخام والتجارة ووجود مصارف مالية وقطاع تأميني ضعيف ومتخلف.
وتتجلى عواقب استمرار وجود هذه التشكيلة المتخلفة من العلاقات الإنتاجية والانكشاف الشديد على الخارج، في التخلف الكبير في القوى المنتجة المادية والبشرية وتجلياته في المستوى الواطئ لإنتاجية العمل وكفاءة الخدمات الاجتماعية والإنتاجية، وتدهور مستوى التعليم والبحث العلمي النظري والتطبيقي، والنسبة العالية من الجهل والأمية السائدتين في الريف وفي المناطق العشوائية وبين النساء، وانتشار الفكر الطائفي الظلامي في المجتمع بعد عقود من الاستبداد بعقلية شوفينية وأساليب فاشية وقمعية وقهر وحروب وتجويع. يضاف إلى ذلك العواقب الوخيمة التي نجمت عن جريمة الحصار الاقتصادي الدولي (1991- 2003م) التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عبر الأمم المتحدة.، بذريعة وجود سلاح الدمار الشامل لدى النظام السابق. وهنا لا بد من الإشارة إلى دور شيوخ الدين الذي تميز حتى الآن بالرجعية وفي المحافظة على الأساطير والخرافات والطقوس المؤذية للإنسان والمعمقة لروح الإحباط والاتكال على أوهام لتغيير واقعه البائس وليس النضال من أجل تغييرها وانتظار الفرج والرحمة بعد الموت!!
السمة السابعة: الفساد بأنواعه
هي سمة جديدة، يزيد عمرها عن خمسة عقود، لكنها لم تكن بهذا الاتساع والشمولية الحالية، ونعني بها سمة الفساد المالي والإداري. نشأت هذه السمة منذ عقود في العراق وتفاقمت بمرور الزمن وأصبحت نظاماً سائداً تتجلى في واقع الفساد المالي والإداري القائمين، وهما يجسدان اليوم حالة عامة وشاملة وعميقة ومصحوبة بحركة شرسة لتنظيمات مافيوية قوية وواسعة ومتعددة الرؤوس، كالإخطبوط الذي مد أذرعه بعيداً في جسم الدولة والمجتمع ومع الخارج.
لقد نما الفساد المالي خلال الأعوام التي أعقبت سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان 2003م بسرعة كبيرة جداً، وشكل في النظام السياسي الطائفي الحالي، الذي يعتمد الفكر الديني الشمولي وأحزابه الطائفية، نظاماً خاصاً وسائداً في العلاقات المالية والإدارية، نظامَ الفساد القائم يجري التعامل به من جانب الدولة بسلطاتها الثلاث وفي عالم الإعلام والصحافة وفي المجتمع والعلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية، إذ لم يعد الفساد المالي مجرد ظواهر متفرقة، بل هو نظام System معمول به ومتشابك بصورة عضوية مع الفساد الإداري ومع ظاهرة الفساد في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
ولا يجري الحديث بشأن ظاهرة الفساد المالي عن عدة ملايين من الدولارات الأمريكية أو عن مجموعة صغيرة من المتعاملين به، بل يدور الحديث عن عشرات المليارات المفقودة والمسروقة أو التي يجري التعامل بها على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. فالفساد المالي والإداري لا يستنزفان المال العام ويفرطان بأموال الدولة وكفاءاته حسب، بل ويكرسان حالة الإرهاب الراهنة وينميانها ويعمقان من حالة الفوضى والتبعثر والصراع بالبلاد، ويزيدان من حالة التذمر والهيجان المستر في المجتمع.
فالمعلومات المتوفرة تشير إلى إن العراق وبعد مرور 16 عاماً على إسقاط الدكتاتورية يحتل المرتبة الأولى من أصل (180) بلداً في الفساد. (راجع: ناصر الحسون، العراق يتصدر لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم، جريدة الحياة في 21 أذار/مارس 2018).   
إن استمرار هذه الحالة في ظل قوانين جائرة وغير عادلة واستبدادية سابقة من جهة، وابتعاد مستمر ومتفاقم عن الالتزام بالدستور العراقي الجديد وبلائحة حقوق الإنسان من جانب الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والحكومات المحلية من جهة أخرى، تؤشر حالة البلاد الراهنة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية المتردية. والمتضرر الأساسي من هذه الحالة هم بنات وأبناء الفئات الكادحة والفقيرة والمتوسطة وفئة المثقفين وأصحاب الدخول المحدودة بشكل خاص.   
السمة الثامنة: الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي
تتجلى هذه السمة بتفاقم الاستبداد ومصادرة حرية الفرد والجماعة والحريات الديمقراطية العامة والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، إذ تتكرس وتتكثف مستلزمات بقاء واستمرار وإعادة إنتاج علاقات التسلط لتنتج مجتمع الدولة الاستبدادية القمعية الفاسدة والفاشلة التي تتحكم الدولة فيها بموارد مالي متأتية من اقتصاد ريعي نفطي يسهم في تعميق استبداد النظام وفساده.
فالدولة الريعية وسلطتها السياسية مُنتِجة فعلية للاستبداد والعنف والقسوة، ومنتجة للتمييز بمختلف أشكاله المقيتة، وغياب العدالة الاجتماعية وحقوق المرأة وحقوق القوميات، كما إنها منتجة لمختلف أنواع السفالات وأشكال السفلة التي تحدث عنها الدكتور فالح مهدي في كتابه القيم الذي أعلق عليه. وهذه الحقيقة مرتبطة عضوياً بمستوى ومضمون الوعي الفردي والجمعي الاجتماعي والسياسي والثقافي بالبلاد وحجم الأمية والتخلف في القوى المنتجة المادية والبشرية.
إن الدولة العراقية التي كان يراد لها أن تكون دستورية مدنية وديمقراطية وبرلمانية في سنة 1921 على وفق الدستور الملكي وقبل البدء باستخراج وتصدير النفط الخام، تحولت إلى دولة غير ديمقراطية، وأصبحت حتى بعد إلغاء قرار الانتداب واقعة تحت الهيمنة السياسية البريطانية غير المباشرة وهيمنة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية، فتراجعَ فيها الالتزام بحقوق الإنسان وحقوق المواطنة وحقوق القوميات، ونُحّي الدستور جانباً وتم تزييف الحياة البرلمانية. ولم يكن هذا ممكناً لولا التخلف الثقافي والاجتماعي وضعف الوعي العام. وما يعيشه شعب العراق اليوم، ما هو إلَّا نتيجة منطقية للأسس الخاطئة والسلبية والممارسات السياسية غير الديمقراطية التي بني عليها العراق خلال الفترة الواقعة بين 1921-1958، وما قبل ذاك أيضاً.
انتهت الحلقة الرابعة عشرة وتليها الحلقة الخامسة عشرة.

117
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الثانية عشرة
البعث المتوحش في السلطة ثانية 1968
المرحلة الثالثة: فترة تكريس النظام ورسم السياسات الاستراتيجية والتكتيكية 1968-1974
وصل البعث إلى الحكم مرة أخرى في السابع عشر من تموز/يوليو عام 1968 وأعلن عن برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولم يكن في الجوهر يختلف في اتجاهاته الأساسية عن نهج ونشاط البعث العام. ولكن تميز بالوقائع التالية:
• التخلص بالتآمر من حليفه القومي الجديد الذي شاركه الانقلاب على الحكم العارفي من داخل القصر والمخابرات العسكرية، باعتبارهم عملاء لأمريكا وبريطانيا، في وقت كانوا حلفاء لهم أيضاً، وكلهم حلفاء مع بعض؛
• توجيه ضربة انتقامية للقوميين العرب وبشكل شديد الشراسة، فمن تنفيذ أحكام بالإعدام إلى سجن وتعذيب جسدي ونفسي وإهانات لكرامة الإنسان يصعب تصورها، ولكنها لم تكن في كل الأحوال بمستوى ما نفذه البعثيون والقوميون بصورة مشتركة بحق الشيوعيين والديمقراطيين في أعقاب انقلاب شباط/فبراير عام 1963. كما وجهت الضربة لتنظيمات البعث اليسار الذي انشق على حزب البعث العربي الاشتراكي في الفترة التي أعقبت سقوط حكم البعث عام 1963، وزج بالعديد منهم في المعتقلات والسجون وعرضوا للتعذيب كرفاقهم القوميين أيضاً؛
• جرى السكوت في الفترة الأولى عن الشيوعيين، ولكنهم سرعان ما أنزلوا بهم ضربة قاسية في عام 1971، وعرضوا ألاف المعتقلين للتعذيب والانهيار أو الموت أو الصمود بعاهات وأمراض كثيرة في كل المدن العراقية ولاسيما بغداد؛
• واصل البعث الحاكم سياسته العسكرية ضد الشعب الكُردي، إذ استمر في قيادة المعارك ضد قوات الحزب الديمقراطي الكُردستاني محاولاً الاستفادة من الانشقاق في صفوف هذا الحزب لصالحه والتي فشل فيها إلى حدود كبيرة؛
• بعد فترة وجيزة من وجوده في الحكم نظم ونفذ حملة اعتقالات واسعة لعدد ممن تبقى من يهود العراق وقدمهم لمحاكمات شكلية مع عدد من المسلمين العراقيين بتهمة التجسس لإسرائيل، حكمت على 9 من اليهود و4 من المسلمين بالإعدام شنقاً في ساحة باب الشرقي وسط بغداد بتاريخ 27/01/1969 للتشهير بهم وأتوا بالنساء للزغرة وكأنهم في عرس جنائزي؛
• وفي الوقت نفسه سعى الحكم إلى إعطاء بعض المكاسب للجماهير من أجل كسر طوق العزلة عنه وكره الناس له وانعدام الثقة به وبقيادته وإضعاف مقاومة الشيوعيين للتعاون معه، حيث بدأ بعد ضربه للحزب الشيوعي، التوجه لحل المشكلة الكُردية بطريقة تكتيكية جديدة حيث تم التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي لكُردستان العراق في آذار من عام 1970. وضمن هذا السياق والأسلوب الانتهازي برز توجهه لإقامة العلاقات الطيبة مع الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية وإقامة العلاقات الاقتصادية الواسعة معها، ثم قام بإجراء تأميم مصالح شركات النفط في العراق في عام 1972 ووضعها تحت تصرف شركة النفط الوطنية؛
• واستطاع أخيراً، وبدعم من جانب الاتحاد السوفييتي، إلى إقامة التحالف مع الشيوعيين لتوجيه الضربة لقوى حركة التحرر الكُردية والحركة المسلحة التي بدأ بها الملا مصطفى البارزاني في عام 974؛ وبرأي الشخصي كان قرار المشاركة في الجبهة خطأً كبيرأ ارتكبه الحزب، وأنا مع بقية قادة الحزب مسؤولون عن ذلك الخطأ، لا بد من الاعتراف به، لأنه ساعد بشكل مباشر وغير مباشر في توفير فرصة تكريس حكم البعث حينذاك شئنا أم أبينا الاعتراف بذلك.
• وكان حزب البعث يسعى في هذه الفترة إلى تعزيز وتكريس مواقعه في السلطة وفي المجتمع، وتأمين لمرحلة الانفراد الكامل بالسلطة. وكانت تحالفاته الوقتية معبرة عن موقف مبدأي لحزب البعث وقائد مسيرته الأولى، ميشيل عفلق، حين كتب في مقالته المعنونة "موقفنا من الشيوعية "ما يلي: "… فمجرد اشتراكنا في جبهة مع الشيوعيين هو توجيه ضمني من قبلنا للشعب لكي يتشكك في عقيدتنا وفي كونها الحل الوحيد الملائم لحاجاته. ونحن لا يضيرنا أن نتخوف من إتاحة الفرصة للشيوعية كي تكسب عطف الشعب وثقته على حسابنا.. ولا بد من الإشارة هنا صراحة إلى إن الرأي الذي يشجعه بعض الأنصار وبعض الأصدقاء من القناعة باكتمال الشروط والظروف اللازمة لدخولنا مع الشيوعية في جبهة وفي عمل مشترك إنما مصدره تشوش في فهم قضايانا وشعورنا بالنقص أمام النشاط الشيوعي في العالم".\
المرحلة الرابعة: البدء بالتهيئة الفعلية لتنفيذ سياسات البعث الإستراتيجية حتى عام 1979 بدأت المرحلة الجديدة بالمؤتمر القطري الثامن لحزب البعث الذي اتخذ قرارته على مستويين:
أ‌.   المستوى العلني حيث أكد تصورات البعث حول دور الحزب القائد والرائد في الدولة والمجتمع، وعن وجهة الحزب في تحقيق التنمية الانفجارية في العراق وعن النموذج الاقتصادي الذي يسعى إلى إقامته ليكون جاذباً لأنظار الشعوب العربية وتأييدها ..الخ؛
ب‌.   المستوى السري لمجموعة من القرارات التي لم يعلن عنها، رغم خروج بعض المعلومات عن وجهتها، وربما سربها البعث ذاته لتأكيد وجهته وتهيئة الأذهان للتغييرات التي يريد فرضها على المجتمع. وكانت الوجهة تتلخص في سعي البعث لمعالجة تدريجية خلال عدة سنوات لخمس عقد أساسية هي:
1. تصفية المسألة الكُردية وإنهاء الحركة المسلحة في كُردستان العراق؛
2. التخلص تدريجاً من التحالف القائم مع الحزب الشيوعي العراقي، باعتباره عبئاً ثقيلاً على حزب البعث لتحقيق مهماته وطموحاته الاستراتيجية، كما أنه مناهض لفكر البعث في التحالفات السياسية لا مع الحزب الشيوعي فحسب، بل ومع أي قوة سياسية، إذ أن الحزب يسعى إلى السلطة كاملة غير منقوصة. وقد بدأ هذا الحزب في أعقاب انعقاد مؤتمر الحزب الثاني في صيف عام 1976 بقليل بحملة هستيرية متدرجة ومتصاعدة بدءاً بالمحافظات البعيدة والأطراف والريف واقتراباً من المركز في بغداد شملت عشرات الألوف من أصدقاء ومؤيدي وأعضاء وكوادر الحزب الوسطية والمتقدمة، ثم تنفيذ حملة إعدامات بعدد من العسكريين من شيوعيين وغير شيوعيين إلى أن أوصل العلاقة مع الحزب إلى القطيعة الفعلية بعد انسحاب وزيرين شيوعيين من الحكومة واعتبار التحالف جزءاً منن الماضي، انتهى وإلى الأبد مع حزب البعث. وكانت الجريمة بشعة ومريرة وأدت إلى نزوح عدد كبير من الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين ومؤيدي الحزب الشيوعي إلى الخارج أو إلى كُردستان أو بقاء أعداد أخرى في السجون والمعتقلات أو ماتوا تحت التعذيب؛
3. تعزيز قدرات الدولة العراقية البعثية والتوجه صوب عسكرة الاقتصاد والمجتمع وتحديث تسليح وتوسيع عدد أفراد وقدرات الجيش العراق وأجهزة المخابرات والأمن الداخلي والقومي؛
4. تعزيز دور قيادة البعث في السلطة ودور مجلس قيادة الثورة والانفراد الكامل بالسلطة والبدء برسم وتنفيذ الأهداف التوسعية لحزب البعث على النطاقين العربي والإقليمي؛
5. توسيع علاقات التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري مع العالمين الرأسمالي والاشتراكي لضمان الحصول على أقصى ما يمكن به تعزيز الدولة البعثية ودور حزب البعث ومحاولة الاستفادة من ذلك لصالح سياسات البعث الداخلية والعربية والدولية. ووضعت لهذا الغرض ما سميت بالتنمية الانفجارية التي رغبت من خلالها الوصول إلى المستثمرين الأجانب وتعزيز علاقات البعث بهم لضمان تأييدهم لها في تحقيق تلك الأهداف.
6. الهيمنة الكاملة والمطلقة على أجهزة الإعلام والدعاية والثقافة والتربية والتعليم والمناهج الدراسية في مختلف المراحل الدراسية وتوجيهها الوجهة اتي تخدم فكر البعث الانتقائي والشوفيني والطائفي في آن واحد.
• وتركز عمل قيادة حزب البعث في هذه الفترة على اتجاهات أساسية أخرى انطلت بهذا القدر أو ذاك على الشيوعيين، وربما على قوى أخرى أيضاً. وابتداءً من المرحلة الجديدة، أي مع الحصول على موارد النفط الخام وإنزال ضربة شديدة وقاسية بحركة التحرر الكُردية، بدأت قيادة البعث الحزبية برئاسة صدام حسين، بالتخطيط والتنفيذ لاتجاهاتها الفكرية والسياسية الجديدة التي كانت في أجندتها حتى قبل وصولها إلى السلطة، وهي:
• مواصلة العمل لتحقيق ما أطلق عليه في مجلة الحزب الداخلية "الثورة العربية" والتي تتلخص بما يلي: تكوين الدولة البعثية القوية ذات الشروط التالية: دولة قوية بقيادة حزب قائد يمتلك أيديولوجية رائدة وقائدة ووحيدة وينفرد بالسلطة؛ ويمتلك القائد التاريخي، قائد الضرورة التاريخية، وجيش موحد ومسلح أحسن تسليح ومهيأ لتنفيذ المهمات. وبهذا الصدد كتبت الجريدة المذكورة ما يلي:
"لقد حدد الرفيق صدام حسين عناصر قوة الدولة والأمة، حين قال "منذ مئات السنين أيها الأخوة حرم العراق وحرمت الأمة العربية من بعده، الأمة العربية بكاملها أن تتحد الثروة والقيادة المخلصة والمقتدرة والعقيدة الحية، فجاء الوقت بعد مئات السنين لكي تكون لكم عقيدتكم المشرفة وأن يكون لكم حزبكم العظيم وعقيدته قيادة منكم وأن تكون لكم قيادة منكم عراقية وعربية صميمية، هذه هي أيها الأخوة العراقيون في كل مكان بهذه الكلمات الثلاثة الموجزة، العقيدة الحية الصميمية، تنظيم قوي وقيادة مخلصة من ذات البلد، وثروة حقيقية". (راجع: الثورة العربية، مجلة حزب البعث الداخلية، العدد 4، نيسان 1980، بغداد).
• وجه البعث في هذه الفترة والفترة التي تلتها مبالغ مالية طائلة جداً لتحقيق ما يلي: أ) ضمان التسلح الواسع وإقامة ترسانة ضخمة من أحدث الأسلحة التي يمكن الحصول عليها من مختلف بلدان العالم، وتجهيز الجيش بأحدث التقنيات العسكرية وتأسيس كلية البكر للدراسات العسكرية؛ ب) التوسع في إقامة مصانع حديثة ومتقدمة لإنتاج السلاح والعتاد في العراق وبالتعاون مع الدول الاشتراكية والرأسمالية، وكذلك مع بعض دول العربية وبلدان العالم الثالث، أي تلك التي تقف على عتبة التحول، ومنها بعض دول أمريكا اللاتينية والدول الأوروبية، إضافة إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية؛ ج) البدء بالتفكير بإنتاج أسلحة الدمار الشامل وخاصة القنبلة الذرية، إضافة إلى الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وتخصيص مبالغ لا حدود لها لهذا الغرض؛ د) إقامة معاهد ومختبرات خاصة للبحوث والدراسات في مجال التقنيات العسكرية وفنون الحروب الحديثة؛ ه) توسيع الجيش والجيش الشعبي وإقامة التدريبات العسكرية للضباط وضباط الصف في الداخل والخارج، وإرسال البعثات العسكرية التدريبية والدراسية إلى مختلف بلدان العالم الرأسمالي والبلدان الاشتراكية. وقد بلغ إجمال الموارد التي وجهت لغرض التسلح 200.5 مليار دولار أمريكي أو بمتوسط سنوي قدره 13.4 مليار دولار خلال الفترة الواقعة بين 1976-1990. (المصدر: التقارير السنوية لمعهد ستوكهولم لبحوث السلام للفترة 1981-1991 SIPRI: Yearbook 1997. Armaments"
وتشير دراسات معهد ستوكهولم لدراسات السلام والتسلح ونزع السلاح في العالم إلى أن العراق قد صرف مبلغا قدره 50 مليار دولار أمريكي لأغراض إنتاج الأسلحة الكيميائية والجرثومية والأسلحة النووية. فإذا أضيف هذا الرقم إلى الرقم الأول الخاص بإجمالي مصروفات العراق العسكرية فسيرتفع المبلغ إلى 250.6 مليار دولار تقريبا. وشكل هذا المبلغ ما يقرب من 39،2 % من الناتج المحلي الإجمالي للعراق خلال الفترة 1976-1990 حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي لهذه السنوات مجتمعة حوالي 640.1 مليار دولار أمريكي وفق الأسعار الجارية. وهذا يعني أن متوسط الصرف السنوي بلغ 16.9 مليار دولار سنويا من متوسط سنوي للناتج المحلي الإجمالي لذات الفترة مقداره 42،7 مليار دولار تقريبا بالأسعار الجارية، أو ما يعادل 39،6% تقريبا. ويستطيع المرء أن يقدر مدى التطور الذي كان في مقدور العراق تحقيقه لو وجه النظام تلك المبالغ الكبيرة لصالح التنمية الاقتصادية والبشرية، ومدى نمو الثروة الوطنية بدلا من حصول ذلك الدمار الهائل الذي يعاني منه العراق بسبب تلك السياسات العدوانية المعادية للشعب ومصالحه الأساسية التي مارستها السلطة في العراق، إضافة إلى الديون الثقيلة التي تراكمت بذمة البلاد والتعويضات التي يراد استقطاعها من موارده السنوية والتي يمكن ان تستنزف جزءا مهما من احتياطي النفط العراقي والتي قدرها البعض بحدود 40 % ولسنوات طويلة. وكانت تلك السياسة عدوانية وتوسعية موجهة ضد الشعوب المجاورة ومصالح شعوب المنطقة بأسرها. وجدير بالإشارة إلى أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا ويوغسلافيا وغيرها من الدول الأوربية، إضافة إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، قد جنت كلها أرباحا قصوى من عقد وتنفيذ صفقات السلاح ومن اتجاهات التنمية الاقتصادية في العراق ومن سياساته العدوانية في المنطقة.
• إجراء تغيير في قيادة البعث لصالح صدام حسين، خاصة بعد أن نفذ ب 23 قيادياً من القيادة القطرية لحزب البعث ومجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء والكوادر المتقدمة الإعدام الجماعي بمشاركة أعضاء وكوادر الحزب في تنفيذ هذه الجريمة البشعة باعتبار أن هؤلاء كانوا يريدون السيطرة على السلطة لصالح أحمد حسن البكر. وبعد الانتهاء من المجزرة في عام 1979، قرر التخلص من أحمد حسن البكر الذي تنازل إلى "بطل الأمة" صدام حسين، ثم قضى نحبه مسموماً، كما يشاع في بغداد. وبالتالي، خلا الجو لصدام حسين في أن يبدأ المرحلة الجديدة بالهيمنة الكاملة على السلطة السياسية وعلى قيادة الحزب ومجلس قيادة الثورة دون منازع.
المرحلة الخامسة: الهجوم التوسعي وممارسة فعالة للسياسات العنصرية والعدوانية التوسعية وشن الحرب ابتداءً من عام 1979 حتى الوقت الحاضر
تمكن صدام حسين في عام 1979 أن ينتهي من عدد من المعوقات في طريق فرض دكتاتوريته الفردية المطلقة على البلاد وفرض نظامه الشمولي على المجتمع. ومن أبرز تلك المسائل نشير إلى ما يلي:
1.   التخلص من التحالف البعثي - الشيوعي لصالح انفراد حزب البعث بالسلطة، رغم أنه كان منفرداً حتى حين كان متحالفاً مع الحزب الشيوعي العراقي؛
2.   التخلص من المنافسين له في حزب البعث أو الذين برزت على تصرفاتهم عدم الارتياح من صدام حسين، وبالتالي تركيع وإخافة بقية القيادة بحيث تحول أغلبهم إلى جرذان مفزوعة من القط الذي يترقب أي تصرف منهم ليقودهم إلى المقصلة، إلى وجبة شهية للقائد؛
3.   التخلص من دور حزب البعث ودمج صورة صدام حسين مع الحزب البعث، بحيث أصبح أحدهما الآخر، ثم غاب الثاني ليبقى صدام حسين وحده في الساحة السياسية، إذ لم تعد هناك حاجة أو ضرورة للحزب، إلا بقدر ما تريده منه أوامر القائد المتفرد والضرورة ليقوم بتنفيذها صاغراً، وبعدها أصبح صدام حسين رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس الوزراء، وأمين عام القيادتين القومية والقطرية، والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس التخطيط …الخ، وأمسك بيديه منفرداً كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافة إلى سلطتي المال والإعلام؛
4.   التخلص قبل ذلك من قيادة الحركة الكُردية التاريخية، الملا مصطفى البارزاني، ولكنه عجز عن التخلص من الشعب الكُردي، وبالتالي من حركة التحرر الكُردية، إذ بدأت بعد فترة وجيزة تماماً من توجيه الضربة في عام 1975، إلى إعادة تنظيم الصفوف بتياراتها المختلفة ابتداءً من عام 1976 والعودة إلى المقاومة المسلحة في كُردستان العراق؛
5.   في 22 أيلول/سبتمبر من عام 1980 أعلن مجلس قيادة الثورة في العراق الحرب على إيران، وهي الحرب التي دامت ما يقرب من 8 سنوات عجاف مليئة بالدم والدموع والخسائر الفادحة بشرياً ومادياً وحضارياً. واستثمر صدام حسين حالة الحرب ليستكمل بناء دولته الإرهابية والقمعية في العراق مع سكوت مطبق من العالم كله دون استثناء.
6. وقبل الحرب وبعد بدئها مباشرة نفذ النظام عمليات تطهير عرقي بشكل واسع ومكشوف ضد ثلاث مجموعات شعبية أساسية في المجتمع العراقي، وهم أولاً) وقبل كل شيء ضد المواطنين الكرد في كُردستان العراق، ثم ثانياً) ضد المواطنين الكرد الفيلية في بغداد والكوت ومندلي وخانقين وغيرها من المدن التي يوجد فيها كرد فيليون، وثالثاً) ضد المواطنين العرب في الوسط والجنوب "بذريعة فاشية وعنصرية حقيرة إذ اعتبرهم "شيعة بتبعية فارسية"، وأنهم "يؤيدون" الجمهورية الإسلامية التي نشأت على أنقاض الدولة الشاهنشاهية الإيرانية في عام 1979. وعمد النظام إلى تنفيذ عملية تهجير واسعة لسنوات عدة لكرد كُردستان العراق إلى مناطق الوسط والجنوب. فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً يقضي بتشكيل لجنة تنفيذية في 20/10/1981 للإشراف على بناء المجمعات والوحدات السكنية في المحافظات الوسطى والجنوبية (بغداد - ديالي - صلاح الدين التي سيعين فيها "العاطلون من منطقة الحكم الذاتي. كما قرر البدء ببناء 20 ألف وحدة سكنية في المحافظات التالية لنقل السكان الأكراد إليها، وهي القادسية، المثنى، ذي قار والأنبار. وهذا يعني أن هذه المرحلة كانت تهدف إلى نقل ما يزيد على مئة ألف إنسان كُردي إلى مناطق الوسط والجنوب في حملة لتغيير الطبيعة الديموغرافية للمنطقة وتعريب السكان الأكراد.
6.   وخلال سنوات الحرب العراقية-الإيرانية استعاد واستعان صدام حسين بالعلاقات العشائرية القديمة في العراق محاولاً إحيائها من جديد ومنحها دفعة جديدة لتناصره في صراعه الداخلي وتساعده في تجنيد السكان في حربه العدوانية وإثارة النخوة البدائية في نفوس السكان من منطلق "ناصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". ويمكن الادعاء بأن العراق اليوم يعيش حالة من التمزق العشائري والإقليمي والديني والطائفي، إضافة إلى الإشكاليات القومية التي أججها النظام بسياساته العدوانية والعنصرية ضد الشعب الكُردي والأقليات القومية والدينية. كما يبذل اليوم جهوداً غير قليلة للعب على وتر الدين والإسلام ليجد لنفسه مخرجاً من الوضع الذي زج نفسه فيه من خلال استدرار عطف وتأييد الشعوب الإسلامية التي لا تعرف تماماً أساليب الإرهاب الدموي والقمع والاستبداد والعنصرية التي يسلطها النظام على رقاب الشعب العراقي.
لقد مارس البعث في فترة حكمه أساليب وأدوات مختلفة قديمة وحديثة، سواء أكان في المجالات الاجتماعية أم التقنية بما يخدم أهدافه وأغراضه المكشوفة، بما في ذلك استخدام الحروب الداخلية والخارجية والتي برهنت الحياة على عنصريته وعدوانيته وسفالته الفكرية والسياسية ورثاثته الاجتماعية.   
يمكنني أن اختم هذه الحلقة بما أشار إليه الدكتور فالح مهدي بصواب كبير ما كتبه الفقيد الدكتور فالح عبد الجبارة ملخصاً التكوين المهلهل لحزب البعث وحكمه في العراق:
جاءت بذور نظام البعث التوتاليتاري، في أصلها من تضافر عمل عدة جماعات ومؤسسات متفرعة ومتفرقة: الزمر العسكرية المتآمرة، النخب القرابية (من قبيلة ألبو ناصر)، والنشطاء الحزبيون الأيديولوجيون. وهي تمثل مؤسسات مختلف: الجيش، العشيرة التقليدية، والحزب الجماهيري الحضري الحديث. فأن لكل مؤسسة/جماعة خطابها الخاص بعناصره المتنوعة: العسكر هو الوصي على الأمة وحاميها، حامل الوعد بتحرير فلسطين. أيديولوجية القرابة: موئل الثقة ونقاء النسب العربي؟ والأيديولوجية العروبية الحديثة حال الوعد بالتحرر...". (راجع: فالح عبد الجبار، كتاب الدولة: اللوياثان، دار الجمل 2017، ص 179)، وهذه التشكيلة لا تختلف كثيراً أو تعبيرا عن لملومية المجتمع العراقي التي تحدث عنها فالح عبد الجبار وايدها الدكتور فالح مهدي.                 
 انتهت الحلقة الثانية عشرة وتليها الحلقة الثالثة عشرة   


118
كاظم حبيب
شجب واحتجاج ضد
الدكتاتور التركي وسلطانها الجديد لقصفه قرى كردستانية عراقية
لم تعد أوامر الدكتاتور التركي وسلطانها العثماني الجديد بقصف قرى ومناطق في إقليم كردستان العراق تثير الحكومة الاتحادية أو حكومة إقليم كردستان، فالأمر أصبح اعتيادياً، فالقصف أحياناً يومي وبذريعة بائسة حقاً، وجود فصائل مسلحة من حزب العمال الكردستاني (پ ك ك) على الأراضي الكردستانية العراقية. ففي صبيحة هذا اليوم قصفت الطائرات الحربية التركية الطريق الرابط بين مصيف سولاف ومركز مدينة العمادية فدمرت بانزينخانة مهجورة، تسبب القصف في إلحاق أضرار بمحل لبيع الورود. ثم أغارت الطائرات ثانية على قريتين متقاربتين هما ميرستكي وسركل وأحدثت الغارة أضراراً مادية كبيرة في هذه القرى، كما تضرر خط الكهرباء ومحطة ماء في العمادية. ولم تقع خسائر مادية. (راجع: أمين يونس، خبر عاجل عن قصف تركي لقرى كردستانية 13/06/2019). وقد كان القصف الأول لا يبعد كثيراً عن مقر للحزب الديمقراطي الكردستاني في المنطقة. وقد أصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني في المنطقة بياناً بهذا الخصوص.
إننا في الوقت الذي نشجب هذا العمل الجبان والعدواني على الشعب الكردي والأراضي الكردستانية في العراق ونحتج ضد الحكومة التركية التي ماتزال تواصل عدوانها واحتلالها لجزء من الأراضي العراقية بقواتها المسلحة التي تدنس أرض العراق، نطالبها بالانسحاب الفوري والكف عن مواصلة العدوان العسكري البري والجوي ضد المواطنات والمواطنين العزل، ونطالب الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان بتقديم احتجاج شديد اللهجة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ضد الأعمال البربرية للحكومة التركية وسلطانها الدكتاتور الشوفيني المتطرف والأهوج رجب طيب أردوغان ومطالبتهم بوقف عدوانهم وتعويض المتضررين ومحاسبة الفاعلين. كما نطالب الرأي العام العالمي التضامن مع الشعب الكردي في العراق في رفضه لهذا العدوان الجديد والإصرار على انسحاب القوات والجندرمة التركية من الأراضي العراقية في إقليم كردستان.
لتندحر إرادة الشر والعدوان التي تمارسها الحكومة التركية.
كاظم حبيب
13/06/2019


.

119
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الحادية عشرة
البعثية أو التوحش البعثي (1968-2003)
يتناول الباحث العلمي المتميز الدكتور فالح مهدي هذه المرحلة الممتدة بين 1968-2003 بوضوح رؤية ودقة عالية في تشخيصه طبيعة حزب البعث وبنيته وأهدافه الأساسية في العراق، وعلى الصعيد العربي عموماً. وإذ هو يحدد التوحش البعث مع العام 1968-2003، إلا إنه في الواقع بدأ بانقلاب شباط عام 1963، إذ ما جرى في خضم هذا الانقلاب وما بعده جسد مرحلة مديدة تمتد إلى 2003، بل إلى غنها ماتزال مستمرة حتى الآن من حيث الاستبداد والعنف السادي المرضي، وإن ما يجري الآن يعبر عن أشد وأقسى وأمرّ أنواع السفالة التي مورست في السياسة والاقتصاد والمجتمع. يبدا الزميل فالح مهدي هذا المقال من الكتاب بقوله النابت:
"تمثل هذه المرحلة البداية الفعلية لدمار العراق في العصر الراهن، أي بعد أن أصبح العراق دولة معترف بها عالمياً. سأطلق على هذه المرحلة (البعثنة) فهي كالعثمنة ساهمت في دمار العراق. في تقديري إن انقلاب شباط الدموي والفاشي والمبرمج مع وكالة الاستخبارات الأمريكية في عام 1963، مثَّل البداية النزقة التي لم تستمر أكثر من تسعة أشهر، إنما التصفيات البربرية بحق الشيوعيين والقوى المناصرة لهم، مثلت منهجاً لجأت إليه وكالة الاستخبارات الأمريكية لتصفية الشيوعيين في أفريقيا وأمريكا اللاتينية لاحقاً." (مهدي، الكتاب، ص 140). في هذا المقطع المكثف يكشف الباحث ثلاث مسائل جوهرية في انقلاب شباط الدموي، والتي يستكملها فيما بعد بأفكار مهمة أخرى عن كامل المرحلة الممتدة من 1963حتى العام 2003، وهي:
** إن هذا الانقلاب أعاد العراق إلى مرحلة ما قبل التمدن في العراق بسبب الأساليب الهمجية والأدوات والطرق التي مارست في مواجهة الرأي الآخر أو المخالفين للبعث؛
** وأن هذا الانقلاب جاء بالتعاون والمساندة والتخطيط المشترك بين حزب البعث والقوى المساندة لها من قوميين يمينيين متطرفين من جهة ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي كانت قد وضعت قوائم كاملة عن الشيوعيين وعناوين دورهم، إضافة إلى أسماء الضباط والعناصر المدنية التي كانت تؤيد الزعيم من غير الشيوعيين، وكذلك العناصر والشخصيات الديمقراطية بهدف إبادة الشيوعيين أولاً وقبل كل شيء وكذلك من هم ضد البعث. وبهذا فهو يقول بأن حزب وحكم البعث في عام 1963 كانت اليد الفعلية للمخابرات المركزية الأمريكية في العراق لتصفية من تريد الوكالة تصفيتهم، وبالدرجة الأولى تصفية الشيوعيين والديمقراطيين وأنصار عبد الكريم قاسم.
** العمل على بعثنة الدولة فكراً وممارسة. ولم يكن فكر البعث سوى الفكر القومي اليميني المتطرف والمماثل من حيث الجوهر لفلسفة الفريد روزنبيرغ (1893-1946م)، فيلسوف النازية الألمانية ومنظرها السياسي في الموقف من القوميات والشعوب الأخرى انطلاقا من تفوق الجنس الآري، وفي الموقف من الحكم الفاشي وأساليب ممارسته ومن الحروب، ومن ثم حول موقع ألمانيا في العالم.
ويستكمل الزميل فالح مهدي هذه اللوحة غير البهيجة برأي سديد حول أساليب الحكم وشخصية صدام حسين المشوهة، إذ كتب: إننا أمام إحدى مآسي شكسبير ولاسيما ريتشارد الثالث، ذلك الإنسان القميء الذي تملكته شهوة السلطة والحكم مهما كان الثمن، فقام بقتل كل من اعترض طريقه. لقد صور شكسبير إن الاستيلاء على السلطة بالقوة وسيادة مفاهيم الاغتيالات ينطوي ومن لحظة بناءه على جرح قاتل، ذلك إن هذا الصنف من الحكم ليس له أسس فيتساقط بمرور الزمن." (الكتاب، ص 143).
في مقال لي تحت عنوان "هل المأساة والمهزلة اجتمعتا في شخص واحد في العراق؟" نشر في الحوار المتمدن في عام 2008 كتبت فيه ما يلي:
"عرف التاريخ الكثير من الشخصيات التي اعتبرت مأساة حقيقية على مجتمعاتها، إذ كبَّدت تلك الشعوب الكثير من الدماء والدموع وحملتهم الكثير من العداء إزاء الشعوب الأخرى، وعرضتهم إلى شتى أنواع الكوارث والمآسي. كان هذا قد حصل حين ظهر نابليون الأول في فرنسا وتحول خلال فترة وجيزة إلى دكتاتور أهوج نظم وقاد الحروب للاستيلاء على أوروبا والعالم وانتهى إلى منفاه ومنها إلى مزبلة التاريخ. وحين ظهر نابليون الثالث في فرنسا أيضاً كان نسخة مشوهة وبائسة لنابليون الأول، وكان ملهاة أو مهزلة في الحكم بكل معنى الكلمة. وتاريخ العراق مليء بمثل هذه المآسي والمهازل. فحين ظهر الحجاج بن يوسف الثقفي وعين والياً على أهل العراق اعتبر مأساة حقيقية لأهل العراق، إذ قتل الكثير منهم وحبس الكثير تحت أشعة شمس العراق المحرقة، فنزيف الدم لم يتوقف، وسيل الدموع لم ينقطع وتمنى الناس أن يذهب دون رجعة. فهو القائل بحق أهل العراق " أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وأني لصاحبها ..." ونفذ قوله. وحين ظهر صدام حسين، صرخت امرأة من أهل العراق بأعلى صوتها وبعد أن رفعت رأسها نحو السماء مستغيثة: "لماذا عدت يا حجاج "! ولكن الحجاج الجديد كان صدام حسين لا غيره. لم تكن عودة حجاج العراق بشخص صدام حسين مأساة فحسب، بل ومهزلة أيضاً. وأي مهزلة تلك حين نضع أمام أعيننا لوحتين، وهما: لوحة وهو يحمل سيفه ويهزه في الهواء أو يحمل بندقيته بيد واحدة ويطلق منها النار، وبين اللوحة الثانية حين اكتشفه الأمريكيون، وهم الذين جلبهم بسلوكه الفاشي والعدواني إلى العراق، أمره وهو مختبئ تحت الأرض وفي حفرة وبتلك اللحية الشعثاء وبجواره مسدسه الذي لم يستخدمه حينذاك، بل كان أحد أسلحته في قتل الناس العراقيين من نساء ورجال. ثم انتهى أمر هذا الدكتور-الذي جسد في سلوكه وافعاله المأساة والمهزلة في العراق- ليستقر في حفرة أخرى هي القبر ويحط كأي دكتاتور أهوج في مزبلة التاريخ. وما أن انتهى العراق من صاحب هذه المأساة والمهزلة حتى ظهر نظير له، شخص آخر ليحتل هذا الموقع ويلعب نفس الدور، ظهر ليشكل في العراق مأساة جديدة ومهزلة جديدة في آن واحد، وكأن العراق مبتلى بالمآسي والمهازل لا تتركه واحدة إلا لتستتلي أخرى ... وهلمجرا، إنه الواقع الاجتماعي الذي يعيد إنتاج هذه المآسي والمهازل." (راجع: كاظم حبيب، هل المأساة والمهزلة اجتمعتا في شخص واحد في العراق؟"، الحوار المتمدن 17/08/2008).
يقدم الكاتب مقالات مهمة في تحليل شخصية صدام حسين ويعتمد في ذلك على مجموعة من الباحثين العراقيين ولاسيما زهير الجزائري ومجيد خدوري وفالح عبد الجبار وغيرهم، وهي ذات أهمية فائقة. ولكني هنا أحاول أن اتطرق إلى الفكر الذي يقف وراء ظهور مثل هذه الشخصيات التي لعبت دوراً تدميرياً في الفكر والممارسة الاجتماعية في العراق طيلة خمسة عقود والتي يمكن أن يعود بها التاريخ ثانية لتعيد صياغة المآسي والمهازل من جديد لاسيما ونحن اليوم نعيش فكراً مماثلاً ومن زاوية أخرى، فكراً دائرياً إسلامياً مغلقاً يمارس الآن قولاً وفعلاً "المآسي والمهازل في العراق" في عراق ما بعد 2003. في هذه الحلقة أحاول أن أسلط الضوء على المصطلح الذي أطلقه زميلي الفاضل (البعثنة) لأهميته فيما حصل في العراق طيلة 50 عاماً، وبتعبير أدق منذ تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، إنه التفسير العقلاني لمفهوم "البعثنة" الذي مارسه البعث في العراق وحين كان في سوريا أو في أي دولة يمكن أن يصل فيها إلى السلطة.
إن معالجة موضوع من نوع "البعثنة" تتطلب معالجة هذا الموضوع التعرف على المراحل التي مر بها تطور ذهنية وسياسات وممارسات حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق منذ تأسيسه حتى الوقت الحاضر. وسنعالج هذه النقطة بكثافة شديدة فيما يخص العراق وحده والجناح العفلقي-الصدامي في حزب البعث العربي الاشتراكي فقط. وعليه يمكن تقسيم فترة النصف قرن المنصرمة منذ نشوئه في العراق إلى خمسة مراحل، وهي:
1.   المرحلة الأولى: فترة التأسيس 1951/1952 - 1958؛
2.   المرحلة الثانية: فترة التميز والتهيؤ والانقضاض على السلطة 1959-1968؛
3.   المرحلة الثالثة: فترة تكريس النظام ورسم السياسات الاستراتيجية والتكتيكية 1968-1974/1975؛
4.   المرحلة الرابعة: مرحلة البدء بالتهيئة الفعلية لتنفيذ السياسات الاستراتيجية 1975-1979؛
5.   المرحلة الخامسة: مرحلة الهجوم التوسعي وممارسة فعالة للسياسات العنصرية على الصعيد الداخلي، والسياسة التوسعية والعدوانية وشن الحروب على الصعيد الإقليمي ابتداءً من 1979 حتى الوقت الحاضر، وستستمر هذه السياسات ما دام النظام الراهن قائماً في العراق.
المرحلة الأولى: : فترة التأسيس 1951/1952 – 1958.
تبلورت الأفكار القومية في الصراع ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي في المشرق العربي، في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، وتنامت في الأربعينات وفي ظل الاحتلال والصراع من أجل انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية، وكذلك حول القضية الفلسطينية ووعد بلفور بإقامة دولة عبرية على أرض فلسطين في عام 1917. وفي هذه الفترة برزت مجموعات فكرية وسياسية قومية في مواقع عديدة في بعض الأقطار العربية وبشكل خاص في سوريا ولبنان والعراق. وكانت الجامعة الأمريكية في بيروت إحدى تلك المواقع حيث كان الطلاب العرب من مختلف الأقطار العربية يلتقون للدراسة فيها. وفي داخل الأحزاب والقوى القومية تبلور تدريجاً الاتجاه القومي البعثي وتشكل حزب البعث العربي الاشتراكي من حزب البعث ومن حزب العمل العربي في سوريا في عام 1947. ونقل الطلبة العراقيون الدارسون في لبنان وسوريا وكذلك بعض المعلمين العرب العاملين في العراق أفكار واتجاهات البعث القومية إلى العراق. حيث تشكلت كتلاً صغيرة في الكليات العراقية، ووجدت لها مواقع في داخل حزب الاستقلال. وفي نهاية عام 1951 وبداية عام 1952 تشكل حزب البعث العربي الاشتراكي لأول مرة في العراق، باعتباره فرعاً قطرياً آخر للحزب القائم في سوريا. واعتمد الحزب الجديد في تكوينه على عناصر منحدرة من أصول برجوازية صغيرة وبرجوازية بيروقراطية ومن أبناء ذوي المهن الحرة كالمحامين والأطباء والقوات المسلحة. ولم يكن يخلو الحزب من بعض أبناء شيوخ العشائر وكبار الملاكين، إضافة إلى احتوائه على عناصر منحدرة من أصل شبه بروليتاري. وإذا كان حزب البعث عند تأسيسه الأول قومياً يمينياً بشكل عام، فأنه لم يكن في تلك الفترة حزباً طائفياً أو عشائرياً. إذ كانت في عضويته عناصر من كربلاء والنجف والحلة أو بغداد، وعناصر أخرى من لواء الدليم (الأنبار لاحقاً) وديالى مثلاً، كما برز فيما بعد في صفوفه بعض الأكراد المستعربين، الذين قطعوا صلتهم بالقومية الكُردية وتبنوا نهائياً القومية العربية، وهم قلة قليلة جداً، ومن بينهم على صالح السعدي على سبيل المثال لا الحصر. وتبنى هذا الحزب النضال الوطني والقومي، أي الكفاح ضد الهيمنة البريطانية على العراق ورفض المعاهدات الموقعة مع بريطانيا وتبنى الاتجاهات الأساسية لتي ظهرت في حركة القوميين العرب في نادي المثنى في الثلاثينات أو حزب الشعب السري الذي ترأسه مفتي الديار الفلسطينية في العراق حينذاك. ومنذ بداية تكوين هذا الحزب في سوريا أشار المؤسس الأول له إلى أن جاء تأسيس الحزب ليناهض الشيوعية والأممية في الدول العربية. وهكذا كان نهج هذا الحزب منذ البدء في العراق أيضاً. فقد كتب ميشيل عفلق يقول: "إن خلافنا مع الشيوعيين خلاف مبدأي وأساسي"، ثم يواصل قوله" "إن ظهور حركتنا العربية الانقلابية بأفكارها ومبادئها وسياساتها وأسلوبها النضالي الشعبي قد جاء تعبيراً عميقاً عن انعدام مبررات الجدية الإيجابية لقيام شيوعية وحزب شيوعي في بلاد العرب … وينتج عن ذلك أننا في أساس موقفنا السياسي، لا نقبل التعايش مع الشيوعية". ثم يواصل قوله في مكان آخر: "يجب أن نعتبر أنفسنا مسؤولين ليس فقط عن المستقبل القريب فحسب، بل وعن المستقبل البعيد أيضاً، وألا نسمح للشيوعية أن تصبح في يوم من الأيام منافسة جدية لحركتنا عند جمهور شعبنا". والأخطر من ذلك ما يقوله ميشيل عفلق لاحقاً، إذ ورد ما يلي: "إن مكتب البعث العربي الذي لم يفتر منذ سنين عن مكافحة الخطر الشيوعي وتحذير الشعب العربي منه بالنشرات والاجتماعات يرى من واجبه أن يهيب بعرب سوريا مرة أخرى أن ينتبهوا إلى هذا الشكل الجديد من الاستعمار فيجمعوا كلمتهم للقضاء على هذا الخطر قبل أن يفوت الوقت ويتمكن الحزب الشيوعي من تسميم الروح العربية وتقطيع أوصال الكيان العربي". ويستكمل المؤسس الأول لحزب البعث هذه الفكرة في فترة لاحقة، في عام 1963 فيقول: إن الأحزاب الشيوعية ستمنع وتقمع بأقصى ما يكون من الشدة في كل بلد عربي يصل إليه حزب البعث إلى الحكم". وتبدو لي في هذا المقتطفات ثلاث مسائل جوهرية تحتاج إلى إمعان النظر في مضمونها واتجاهات تأثيرها والقوى التي تخاطبها على الصعيد الدولي، وهي: أ) نشأت الحركة البعثية في الوطن العربي لتقاوم أساساً الشيوعية فيه؛ 2) وترى الحركة بأن هناك خطراً شيوعياً يهدد الروح العربية والتراث والتقاليد العربية؛ 3) وأن السوفييت يشكلون خطراً استعمارياً جديداً على العالم العربي، وأن الحركة تلتزم أمام "الغرب الروحي" على مقاومة الشيوعية حتى النهاية حيثما وصلت إلى الحكم في الأقطار العربية. وهذه النقاط الملموسة التي نجدها مركزة في النصوص السابقة هي التي تسمح بالتفكير المباشر عن طبيعة العلاقة القائمة بين الانقلابات الناجحة التي قام بها البعث العفلقي في بعض الأقطار العربية، وبين هذا الالتزام المباشر على مكافحة الشيوعية دون هوادة باعتبارها الخطر الأساسي على الروح والتقاليد العربية، وبين واقع قدرات البعث الذاتية الضعيفة في الوصول إلى السلطة، وبين الدعم الدولي الذي تحقق لهم بفعل ذلك الالتزام للوصول إلى السلطة. وكان هذا يعني عملياً موقفا مناهضاً من منطلقات قومية شوفينية ابتداءً ضد القوى الشيوعية والماركسية أولاً، وضد الجماعات أو القوميات غير العربية التي تطالب بحقوقها القومية المشروعة ثانياً. فالمعلومات المتوفرة لدينا من خلال منشورات البعث ذاته تؤكد إلى أن هذا الحزب يدعو بشكل صريح ومجاهر به إلى "صهر" تلك القوميات والأقليات القومية" غير العربية في "البوتقة" العربية. ويتجلى هذا الموقف في المادة الخامسة عشر من دستور حزب البعث التي تنص على ما يلي: "الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة وتكافح كافة العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية". ولكن ماذا يعني ذلك، وإلى ماذا يهدف هذا النص الدستوري لحزب البعث العربي الاشتراكي؟ أنه يعني وبلا لف أو دوران، إلى ما يلي:
أ‌)   يسعى حزب البعث إلى إقامة الدولة العربية في كل "الوطن العربي"، باعتبارها أرضاً عربية ويعيش عليها الناس العرب لا غير؛ ب. يرفض الاعتراف بوجود قوميات أو أقليات قومية في الدول العربية كافة، وبالتالي يفرض عليها الانصهار بالقومية العربية أو الأمة العربية الواحدة من المحيط ومروراً بالنيل والفرات فشط العرب أو الخليج. ج) وبالتالي، ومن باب تحصيل حاصل يرفض الاعتراف بالحقوق القومية العادلة للشعوب والقوميات الأخرى، ومنهم الشعب الكُردي والأمازيغ في المغرب والجنوبيين في السودان وغيرهم في مختلف الأقطار العربية. د) العمل على تعريب كل الناس غير الناطقين بالعربية والقاطنين في "الأرض العربية" شاء هؤلاء الناس أم أبوا. ه) وأن حزب البعث يكافح كافة العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية عند الشعوب والأقوام الأخرى، ولكنه يحافظ عملياً على عصبيته القومية والعرقية.. إلخ، إزاء الآخرين.
يقول قادة حزب البعث العربي الاشتراكي في معرض تحليلهم للموقف من القوميات والأقليات القومية في العالم العربي ما يلي: "العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية، أو تطلع للحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية. إن هذا التحديد يعني شمول الهوية العربية لكل الأفراد والمجموعات التي ينطبق عليها هذه الشروط دون اشتراط العامل العنصري، وهو يفسح المجال واسعاً لتعميق امتزاج الأقليات والأقوام الصغيرة في الأمة العربية". ولكي يقطع هؤلاء القادة الشك باليقين يتحدثون عن "الأرض العربية" فيرد عندهم ما يلي: "… فالأرض التي تعيش عليها هذه القوميات كانت جزءاً من الدول العربية التي نشأت منذ ألاف السنين والتي كان أخرها الدولة العباسية الكبرى، وهذه الأرض هي في الوقت نفسه، موطن هذه الأقليات لم تأت عن طريق القهر والاستعمار والاستلاب، وإنما أتت نتيجة الواقع التاريخي الممتد عبر ألاف السنين ولم يكن حول تلك الحقبة التاريخية الطويلة أي جدال أو نزاع".
يبدو أن هؤلاء القادة نسوا المقاومة التي أبدتها شعوب هذه المنطقة للفتح العربي الإسلامي لهذه المناطق، والقتلى الذين سقطوا على سفوح جبال وسهول كُردستان على امتداد القرون السابقة حتى الوقت الحاضر، وأن مصادرة حق هؤلاء الناس لا يمكن أن يتم بمجرد تأكيد قوميين عرب متطرفين بعدم أحقية الشعوب الأخرى بأرضهم وإقامة وطن مستقل لهم أو حقهم في تقرير المصير. وينبغي أن نجد في هذا الموقف ما بنيت لاحقاً من مواقف سياسية وعسكرية ضد الشعب الكُردي مثلاً في العراق، والتي سنأتي عليها لاحقاً.
ورغم أن حزب البعث نشأ ببعض المواصفات العلمانية، وأن كثرة من المسيحيين كانوا أعضاء في هذا الحزب في سوريا، وكذا البعض منهم فيما بعد في العراق، إلا أن الحزب ربط اتجاهه القومي العربي بالاتجاه الديني الإسلامي، وبالتالي أضاف إشكالية أخرى غير الاتجاه القومي والفكري المناهض للأممية والقوميات الأخرى، هي مناهضته عملياً للديانات الأخرى، وأن جاءت بصورة غير مكشوفة أو مبطنة بمواقف تدعو للحضارة الإسلامية العربية لا غير وتضع القيود والحواجز بين القومية والأديان الأخرى، وكان أكبر تتويج لهذا الاتجاه هو إعلان الحكم في العراق عن تحول ميشيل عفلق عن دينه المسيحي الذي ولد عليه إلى الدين الإسلامي بعد موته وأثناء إجراء ممارسات الدفن. كما إن حزب البعث قد تبنى شاء أم أبى المذهب السني في الإسلام وبشكل مشوه حين اعتبر شيعة العراق شعوبيين من جهة، وانتفض على القيادة التي كانت في اغلبيتها شيعية في عام 1963 ليجعل من قيادة حزب البعث القطرية في العراق كلها سنية وكذلك مجس قيادة الثورة تقريباً،
وكان حزب البعث يتبنى منذ البدء العنف في نشاطه العام المناهض للقوى الأخرى أو للسلطة السياسية التي يعارضها.
وخلال فترة التأسيس استطاع حزب البعث أن يجد قواعد له في بغداد وعدد من مدن الوسط والجنوب واستفاد من تصاعد تأثير التيار القومي بعد انتصار الناصرية في مصر وبدء معارك تأميم قناة السويس وإقامة السد العالي وما إلى ذلك من توسيع قاعدته الحزبية وتأثيره في بعض الأوساط الطلابية والشبابية، وخاصة مع وبعد انتفاضة الشعب العراقي تأييداً لمصر في عام 1956، وتوجه الحكومة العراقية إلى اعتقال بعض نشطاء الحزب وزجهم في المواقف أو الحكم على بعضهم بالسجن. وساعدت تلك الانتفاضة على إدراك واقتناع القوى السياسية العراقية بضرورة تعاونها من أجل الإطاحة بالحكم الملكي والتخلص من الحكومات التابعة في سياساتها وقراراتها للحكومة البريطانية وسفارتها في بغداد، مما خلق مناخاً مناسباً لقيام جبهة الاتحاد الوطني في عام 1957، حيث أصبح حزب البعث العربي الاشتراكي عضواً فيها إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال، إضافة إلى التعاون غير المباشر مع الحزب الديمقراطي الكُردستاني عبر علاقته بالحزب الشيوعي العراقي. وأمكن تحقيق التعاون بين حركة الضباط الأحرار وجبهة الاتحاد الوطني. ونتيجة لتلك الجهود نجحت انتفاضة الجيش بإسقاط الحكم الملكي وإقامة الجمهورية العراقية الجديدة وتشكيل حكومة الثورة التي أصبح حزب البعث ممثلاً فيها أيضاً.
المرحلة الثانية: فترة التميز والتهيؤ والانقضاض على السلطة 1959-1968
ساهم حزب البعث في الحكومة الأولى التي تشكلت برئاسة اللواء الركن عبد الكريم قاسم، رئيس حركة الضباط الأحرار. ومنذ بداية الثورة ظهر الخلاف بين القوميين وبقية القوى السياسية، أي بين حزب البعث وحزب الاستقلال من جهة، والشيوعيين والديمقراطيين من جهة أخرى. واتخذ مواقف واضحة في عدد من المسائل، ومنها موضوع الوحدة العربية مع مصر وسوريا أو إقامة اتحاد فيدرالي معهما. ولم يقتصر على هذه القضية، رغم أنها كانت السبب في تفكك التحالف الجبهوي الذي رافق وساند الانتفاضة العسكرية وحولها إلى ثورة شعبية، بل شمل مسائل عديدة أخرى. وبدأ حزب البعث، وبالتعاون مع بقية القوى القومية العربية في العراق وبدعم مصري وسوري واسع، إضافة إلى دعم خارجي، بسبب مواقف عبد الكريم قاسم من شركات النفط الأجنبية واستعادته لحقوق العراق في الأراضي التي وضعت تحت تصرفها للتنقيب فيها عن النفط وجمدت عملياً تلك العمليات، إلى العمل المشترك من أجل إشاعة الفوضى في البلاد وتنظيم الإضرابات وعمليات الاغتيال لأعضاء من الحزب الشيوعي العراقي أو من مؤيدي سياسة عبد الكريم قاسم، ثم محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ذاته في عام 1959، التي شارك فيها صدام حسين أيضاً، وأخيراً محاولات الانقلاب على قاسم. ووقف الإقطاعيون الذين تضررت مصالحهم بقانون الإصلاح الزراعي، والكومپرادور التجاري وقوى التعاون مع الغرب تحديداً، بسبب انفتاح عبد الكريم قاسم على الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان المنظومة الاشتراكية، إلى جانب تلك المؤامرات ومولوها بالمال والأفراد والسلاح. وزاد في الطين بلة سياسات عبد الكريم قاسم الفردية في اتخاذ القرارات، وتراجع في الحريات الفردية والديمقراطية وكذلك سياسة الحزب الشيوعي التي تميزت بالعنف أيضاً في موجهة القوميين وغيرهم وفي طرح شعارات لم تكن ضرورية، بما فيها الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيمي أو حتى شعار الاتحاد الفيدرالي الذي يلم يكن مناسباً للمرحلة اصلاً. ثم جاء الطلاق بين عبد الكريم والحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني والحرب في كُردستان، الذي ساند القوى القومية في نشاطها ضد عبد الكُريم قاسم، مما عجل بنجاح المؤامرات وسقوط حكومة عبد الكريم تحت ضربات القوى القومية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وبالتعاون الوثيق مع الضباط القوميين وعلى رأسهم عبد السلام عارف. وصل البعث، ومعه القوى القومية الأخرى، إلى السلطة ولكنه حصل على المركز الأول في السلطة والتمثيل في مجلس قيادة الثورة. وتميزت سياسته بإجراءات عمقت الاتجاهات اليمينية والشوفينية والعنف التي أشرنا إليها سابقاً في فكر وممارسات البعث، إذ عمل حزب البعث على:
• إقامة نظام حكم الحزب الواحد في البلاد، حزب البعث العربي الاشتراكي، رغم وجود قوميين في مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء، إذ بدأ البعثيون يخططون لإزاحتهم تماماً واحتكار الحكم لهم.
تنظيم المجزرة البشعة ضد أبرز قادة الحكم في العراق، ومنهم عبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر وجلال ألأوقاتي وماجد مصطفى وغيرهم، ثم أنزل الضربات الدامية بالحزب الشيوعي العراقي وبقادته سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وبمئات آخرين من قياديي وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي، كما زج بالألوف منهم في السجون والمعتقلات ومارس أبشع أشكال التعذيب بحق المعتقلين. ومارس نفس أساليب التعذيب الوحشي بحق عدد كبير من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي والمستقلين من السياسيين وأعضاء حركة أنصار السلام والشبيبة وأفراد المقاومة الشعبية واتحاد الطلبة العام. وتمت في هذه الفترة مأساة قطار الموت، هذا القطار الذي ضم عددا كبيراً بلغ 450 ضابطاً شيوعياً وديمقراطياً ومستقلاً غادر بغداد قاصداً سجن نقرة السلمان في جنوب العراق، في شهر تموز/يوليو شديد الحرارة، تم فيه إغلاق أبواب عربات الشحن المليئة بهؤلاء الضباط بشكل محكم، ولم يزود المعتقلون بالماء والغذاء، إذ تكدس هذا العدد الكبير في عدد قليل من عربات شحن البضائع أدت إلى صعوبة التنفس ووقع حالات شبه اختناق، مما أدى إلى مآسي كبيرة بما فيها وفاة أحد الضباط.
• ولم تستمر الهدنة مع الحركة الكُردية، إذ سرعان ما بدأ التحالف البعثي - القومي بممارسة سياسته العدوانية ضد الشعب الكُردي والإرهاب والحرب ضده ابتداءً من العاشر من حزيران/يونيو 1963؛
• وخلال تلك الفترة الوجيزة التي بقي البعث فيها على رأس السلطة، حاول تكريس السياسات التربوية بالاتجاهات اليمينية والشوفينية وفرض الاستبداد والهيمنة الكاملة على الدولة والمجتمع والمنظمات المهنية وبث الرعب في صفوف الجماهير من خلال أوامر بالقتل بصورة مباشرة، كما في بيان الحاكم العسكري رقم 13 لعام 1963 الخاص بقتل الشيوعيين دون محاكمة؛
• واتخذ البعث إجراءات رجعية في مجال الأحوال المدنية، إذ ألغي القانون التقدمي الذي وضعته حكومة عبد الكريم قاسم، الذي تضمن بعض المواد التي تنصف المرأة وتسعى إلى تحريرها النسبي ومساواتها بالرجل كمنع الزواج المتعدد النساء والمساواة في توزيع الإرث بين الإناث والذكور من الورثة؛
• وبرز لأول مرة بشكل حاد مظهر الانقسام في صفوف البعثيين على أساس طائفي، أي بين الشيعة والسنة ، رغم أن بوادر ذلك برزت في فترة حكم قاسم وبصدد الموقف من جملة من الممارسات التي نظمها البعث في العرق حينذاك. وكما تشير دراسة الأستاذ حنا بطاطو، فأن المجلس الوطني لقيادة الثورة قد ضم في عضويته 5 من العرب الشيعة و12 من العرب السنة وكُردياً واحداً مستعرباً هو على صالح السعدي، أي بنسب 27،5 %، و66،7 % و5،5 % على التوالي.
• ولم يكن هذا الشكل الوحيد من مظاهر التخلف والارتداد عما حققته ثورة 14 تموز/يوليو عام 1958، الذي برز في سياسة البعث الجديدة، ونعني بها محاولة الاعتماد على العشائرية في العلاقات الحزبية والسياسية، كما صدرت قرارات عطلت عملياً تنفيذ الإصلاح الزراعي لصالح الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية.
• كانت التجربة الأولى لحزب البعث في السلطة تشير إلى تعمق اتجاهاته اليمينية المتطرفة في الحكم، سواء بممارسة العنف والقوة ضد المخالفين له بالرأي أو ممارسة السياسات الشوفينية ضد القوميات والأقليات القومية الأخرى، إذ عانى الأكراد الفيلية لا من الاعتقال والتعذيب والسجن والقتل في السجون فحسب، بل وإلى المطاردة مما دفع الكثيرين منهم إلى الهرب من طغيان النظام واللجوء إلى البلدان الأخرى.
وبسبب كل ذلك حصد البعثيون كراهية الغالبية العظمى من المجتمع وهيأ الأجواء المناسبة لمحاولات انتفاضية وانقلابية ضد النظام، ومنها محاولة الانتفاضة على حكم البعث التي قام بها الشيوعي العسكري حسن سريع ومجموعته في معسكر الرشيد في الثالث من تموز/ يوليو 1963 ولتحرير 450 ضباطاً كان معتقلاً لإنقاذهم من الموت، والتي قضي عليها من قبل الحرس القومي وقوى البعث بالحديد والنار وأحكام الإعدام بحق قادة الحركة. وكان الصراع على السلطة بين أجنحة البعث من جهة، وبين البعث والقوى القومية من جهة أخرى قد اشتد وقاد إلى إضعاف مواقع البعث في الحكم لصالح الانقلابين الجدد. وأصبح الظرف مناسباً تماماً للقوى القومية الناصرية، وعلى رأسهم عبد السلام عارف وطاهر يحي وصبحي عبد الحميد وعبد الغني الراوي وغيرهم، لتوجيه الضربة لقيادة وحكم البعث والقيام بحركة انقلابية ناجحة في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1963 وتسلم السلطة، واعتقال الكثير من البعثيين وهزيمة البعض الآخر وحل الحرس القومي الذي أرتكب وحكومة البعث والقوميين الذين شاركوهم في انقلاب شباط الكثير من الجرائم بحق الشعب العراقي حينذاك. وبدأ القوميون اليمينيون المتطرفون من أمثال عبد السلام محمد عارف وعبد الغني الراوي وغيرهما، يبدون وكأنهم من الأبطال المنقذين للشعب العراقي من دنس وجرائم البعث، في حين كانوا شركاؤهم في كل شيء، ولكن الصراع على السلطة والموقف من عبد الناصر هو الذي أدى إلى انقسامهم وإلى قفزهم السهل على السلطة.
وخلال الفترة الواقعة بين 1963 و1968 بدأ البعث المطرود من الحكم يعمل على إعادة تنظيم صفوفه وحشد قواه في الجيش ومناصريه في القصر الجمهوري للانقضاض على الحكم ثانية. وتمكن فعلاً من تحقيق هذه القفزة في السابع عشر من تموز عام 1968، خاصة وأن الحكم العارفي، أي حكم الأخوين العارفين عبد السلام وعبد الرحمن، لم يستطيعا العمل باتجاه يسهم في تحقيق الديمقراطية في البلاد، بل مارسا السياسات الفردية الاستبدادية وسكتا عن الفساد الحكومي الذي ساد البلاد والهيمنة على موارد البلاد ونهب قطاع الدولة من الباطن وعنجهية عالية واستمرا على التوالي في السكوت على إرهاب نظام الحكم ضد قوى المعارضة، رغم تخفيفه النسبي بالقياس إلى فترة حكم البعث الأولى. كما عاد القوميون إلى شن الحرب ضد الشعب الكُردي ومارسوا أساليب التهجير ذاتها، مما خلق التربة المناسبة لإسقاط حكم القوميين العرب في العراق، ومجيء البعث ثانية إلى السلطة.                                         
انتهت الحلقة الحادية عشرة وتليهاالحلقة الثانية عشرة (التتمة لموضوع الحلقة 11)


120
كاظم حبيب
دولة من گرگري وانفلات أمني وقضائي في العراق
نحن أمام ظاهر جديدة وغريبة عن المجتمع البشري المتحضر برز في السنوات الأخيرة في المجتمع وعموم الدولة في العراق، هذه الدولة الهشة وهذه السلطة الفاسدة وهذا المجتمع الذي يعاني من علل كثيرة حتى بات قول الشاعر العراقي عن العهد الملكي يصح في عهد الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ان سلطت الولايات المتحدة الأمريكية وإيران نظاماً سياسياً طائفياً فاسداً وعدوانياً في آن. قال الشاعر
أي طرطرا تطرطري تقدمي تأخري     وزارة من گرگري يرأسها العمري
والمقصود هنا أرشد العمري، ولكنك اليوم تستطيع أن تضع الأسماء التالية التي مارست الحكم منذ العام 2005 حتى الآن، وهم الجعفري، المالكي، العبادي والمنتفگي، بل كانت وزارة العمري أفضل من الوزارات التي ترأسها هؤلاء بأضعاف المرات لأنها لم تكن فاسدة ولا إرهابية.
هل سمعتم أيها العراقيون والعراقيات الكرام أن رجلاً معمماً يدعى واثق البطاط يهدد ضابط شرطة عراقي بقتله وسحله وتحويل جمجمته إلى منتفضة سجاير. اليكم ما سجله البطاط في مقطع فيديو نشره على مواقع التواصل الاجتماعي بصدد تهديد الضابط بـ”اقتلاع عينيه” و”سحله” و”تحويل جمجمته إلى نفاضة سجائر” والانتقام من عائلته وعوائل رؤسائه والمجموعة الأمنية التي قادها.وقال البطاط في ذات الشريط “إن جميع عمائم العالم الإسلامي أهينت”، وإنّه “إن لم يكن في البصرة رجال، ففي باقي المحافظات رجال”، لتنفيذ الوعيد. واغتيل الضابط العقيد في الشرطة العراقية عبد الحسين التميمي في البصرة بعد هذا التصريح مباشرة. فماذا عملت الحكومة العراقية المقدامة أمام تحد السلطة التنفيذية ومجلس النواب والقضاء العراقي.
لم يكتف بذلك بل هدد واثق البطاط النائب عباس البياتي، هذا الأهبل والأخطل، بالقتل بالرصاص والبنادق ما لم يعتذر لأنه شبه الأحزاب الإسلامية الخمسة المعروفة بفسادها بأهل الكساء، وهم النبي محمد وفاطمة الزهراء وعلي ابن أبي طالب والحسن والحسين، في محاولة منه لجعلهم بقدسية هؤلاء الخمسة المقدسين عند الشيعة الجعفرية وليسوقهم سياسياً، كما ثرثر مرة بانهم سيستنسخون مالكي جديد من خلايا الملاكي اصطناعيا بسبب عبقرية المالكي إن مات الملاكي. كل هذا يحصل ويقال إن في العراق دولة ودستور ومجلس نواب وقضاء عراقي. أفلا يصح اليوم وأكثر من أي وقت مضى قول الشاعر الكبير معروف الرصافي:
علم ودستور ومجلس أمة       كل عن المعنى الصحيح محرف

ثم هل شاهد الشعب العراقي الفيديو الذي عرض مجموعة بشرية تزحف على بطنها وظهرها لتعتذر من مقتدى الصدر وتطلب التوبة منه لأنها أخطأت، وربما سرقت مالاً أو نهبت داراً أو قتلت شخصاً دون أن يقول القضاء العراقي أو السلطة العراقية أو مجلس النواب أو أي شخص عاقل في العراق شيئاً بهذا الخصوص. هل البطاط أو الصدر هم القضاء ويصدرون الأوامر كما يشاؤون أم لس هناك قضاءاً عراقياً ومحاكم ومدعين عامين يمارسون عملهم في مواجهة مثل هذه القضايا.
لقد سقط العراق في حمى الفوضى منذ سنوات ويماً بعد آخر تعمق ذلك. قبل فترة جرى اعتداء على مقرين للحزب الشيوعي العراقي في مدينتي الناصرية والشطرة، ولم يحصل أي شيء وعفا الله والحزب الشيوعي عما سلف. وقبل أسبوع جرى اعتداء جديد على مقر الحزب الشيوعي بالبصرة برمي رمانة يدوية تفجرت في المقر في منتصف الليل فأحدثت أضرارً ولم تصب أحداً، وهو تحذير ما يمكن أن يأتي من هؤلاء الأوباش. ولم تفعل الحكومة لا أجهزة الأمن ولا الادعاء العام والسلطة التنفيذية في البصرة والحكومة الاتحادية ولا الحزب الشيوعي العراقي، فماذا جرى للعراقيات والعراقيين، ماذا حصل لهم بحيث لم يعودوا ينتبهوا لما يجري لهم يومياً وكأنهم نيامى. إنها المأساة والمهزلة في عراق اليوم.
إن سكتنا عن هذه الأفعال سابقاً وإن سكتنا اليوم عن هذه الجرائم والتهديد بالقتل أو التعذيب أو أي عقوبة غير قانونية أخرى، سيكون يوم غد وبعد غدٍ أسوأ واسوأ. علينا جميعاً أن نعي ذلك وأن ندرك بأن المليشيات الطائفية المسلحة تشكل خطراً كبيراً على العراق وشعبه أياً كان صاحبها، فهي خارج الإطار الدستوري وتمارس أفعالاً خارج القانون العراقي. ويبدو أن الحكومة لا تختلف عنها وتسكت عن تلك الممارسات لتبقى في السلطة دون أي إصلاح أو تغيير ادعت تحقيقه.     

121
بيان
إدانة جرائم المجلس العسكري في السودان ودعم قوى إعلان الحرية والتغيير

منذ الوهلة الأولى الشكوك الواقعية لدى ثوار السودان تحوم خول طبيعة ونوايا المجلس العسكري السوداني الذي نفذ انقلاباً داخلياً ضد قائد النظام الظلامي المشير عمر البشير، ولكنهم حاولوا التعامل بعقلانية مع هذا المجلس بهدف الوصول إلى تسليم السلطة كاملة غير منقوصة للمدنيين الثوار لبناء الدولة السودانية الديمقراطية الجديدة. ولم تستمر عملية المماطلة والتسويف طويلاً حتى كشف المجلس العسكري عن نواياه الشريرة فاستباح في سويعات فقط دماء 198 ثائراً سودانياً وأكثر من 500 جريح ومعوق بعد أن زار قادة هذا المجلس العسكري دولاً عربية، وهي المملكة السعودية ودولة الإمارات ومصر، متآمرة على قوى الثورة، وعلى قوى إعلان الحرية والتغيير، وعلى استقلال وسيادة السودان وحياته الديمقراطية التي يسعى لإقامتها.
نحن الموقعين أدناه في الوقت الذي نعلن فيه عن شجبنا الشديد واحتجاجنا الصارخ على الجريمة البشعة التي ارتكبتها الوحدات العسكرية التابعة للمجلس العسكري وبأوامر صادرة عنه، نطالب في الوقت ذاته بإجراء تحقيق دولي فوري من جانب مجلس الأمن الدولي وبتكليف محكمة حقوق الإنسان في لاهاي بهذه الجريمة النكراء لإجراء محاكمة عادلة وإعلان نتائجها على الملأ ومحاسبة الفاعلين.
كما نعلن عن تأييدنا الحار لقوى الحرية والتغيير التي تناضل اليوم مع الشعب السوداني لإنقاذ البلاد من الحكم العسكري الذي استمر طوال ثلاثين عاماً عانى فيها الشعب الأمرين على أيدي الطغمة الحاكمة الفاسدة والإرهابية والتي يتربع الكثير منهم في المجلس العسكري الراهن.
إننا إذ نساند بكل قوة نضال الشعب السوداني السلمي من أجل تحقيق الديمقراطية والحرية والمساوة وحقوق الانسان وكرامته، حسب الإعلان العالمي لحقوق الانسان والمواثيق الدولية، نهيب بشعوب العالم والهيئة العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الوقوف الصريح والجاد ضد قوى الانقلاب العسكري وعدم الاعتراف بالمجلس العسكري وعدم التعاون معه بأية ذريعة كانت، إضافة إلى تحريم تصدير السلاح له التي يستخدمها لقتل أبناء وبنات الشعب السوداني. إننا إذ نعلن عن أسفنا لعدم توصل مجلس الأمن الدولي إلى قرار يدين المجلس العسكري للجريمة البشعة التي ارتكبها وعدم خضوعه لإرادة الشعب السوداني، نطالب الأمم المتحدة ومجلس الأمن بمواصلة التشاور لدعم قرار مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الاِفريقي بتعليق عضوية السودان ونحيي قرار الاتحاد الأوروبي بانضمامه الى الاتحاد الأفريقي في الدعوة إلى وضع حد فوري للعنف وأجراء تحقيق موثوق في الأحداث الاِجرامية التي صاحبت فض الاعتصام، وإلى تسليم السلطة للمدنيين. إننا إذ نؤيد جهود الرئيس الأثيوبي للوساطة، إذ إنا يجب أن تصب في تسليم السلطة إلى قوى الحرية والتغيير الممثلة لكل قوى المعارضة السودانية الباسلة. إن وحدة قوى المعارضة الديمقراطية وتضمنها هي السبيل الوحيد للانتصار.
إننا نساند قوى المعارضة السودانية المتمثلة بقوى إعلان الحرية والتغيير في نضالها السلمي من أجل انتصار الثورة السلمية وإرساء الحكم الديمقراطي والمجتمع المدني الديمقراطي بتشكيل حكومة مدنية لوضع دستور جديد يضمن استقرار السلم والأمن لكل المواطنين وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية للشعب السوداني.
الموقعون 
د. كاظم حبيب            باحث علمي
د. الناصر دريد             أستاذ جامعي
أ. نهاد القاضي            مهندس أستشاري
أ. يحيى علوان            كاتب وإعلامي    
د. مهند أحمد البراك             طبيب وكاتب
حمزة عبد             ناشط اجتماعي
أ. ضياء الشكرجي          مهندس وكاتب وناشر
أ. مثنى صلاح الدين محمود      إحصائي ومترجم
أ. ناصر خزعل البدري         فنان ومصور سينمائي
د. غالب العاني             طبيب وعامل في مجال حقوق الإنسان
أ. حكمت تاج الدين         علم النفس وناشط في مجال حقوق الإنسان

122
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة العاشرة
هل ما حصل في 14 تموز 1958 انقلاباً عسكرياً أم ثورة شعبية؟
أولئك الذين هم في ثورة الغضب يفقدون كل سلطان على أنفسهم.
ارسطو (384 ق.م - 322 ق.م)
يرى الزميل الدكتور فالح مهدي بأن ما حصل في 14 تموز من عام 1958 هو انقلاب عسكري. وأكد في فقرة لاحقة مباشرة وفي تشخيص دقيق للحالة العراقية حينذاك صبيحة الانفجار، إذ كتب ما يلي "عَبّرت الرمزية والبربرية التي أدت إلى إبادة العائلة المالكة والتمثيل بجثة ولي العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد عن الحالة المرضية المأزومة التي كان عليها العراق في تلك الفترة."، ثم يواصل فيكتب "السياسة فن الحوار والمساومات، النهاية الدموية لرموز ذلك النظام تؤكد من أن العراق لم يدخل عالم السياسة." (الكتاب، ص 133). هذا المقطع المكثف يعطي القارئ والقارئة الخيوط الأساسية للإمساك بواقع العراق حينذاك، وهو التفسير المنطقي لما حصل في صبيحة 14 تموز والعوامل الكامنة وراء ما وقع في عراق مأزوم ولم يدخل بعدُ عالم السياسة وإن الأساليب المستخدمة من الناس في الشارع ذات فعل بربري. من درس تاريخ العراق الأموي والعباسي والعثماني مثلاً يمكنه أن يقدم آلاف الأمثلة على مثل ما حصل في صبيحة الرابع عشر من تموز 1958. وأورد هذا ليس تبريراً لما حصل بل الإشارة على حقيقة وجود مثل هذا التراث الغادر في تاريخ العراقي، إ يكفي قراءة كتاب موسوعة العذاب للكاتب عبود الشالجي، أو ما أوردته في كتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة في العراق من نماذج لما جرى للقرامطة في العراق العباسي ليؤكد هذا التمثيل الهمجي بجثث القتلى أو أساليب التعذيب حتى الموت والتمثيل بالجثث بعد ذلك. إنها السادية المرضية، إنها الهمجية بأفظع معانيها.
أنا لست من علماء علم النفس، ولكن اعتقد بأن الدراسات القيمة التي يقدمها علماء علم النفس في العراق وفي الخارج، وكذلك دراسات الزميل فالح مهدي التي فها نزوع نحو الفلسفة وعلم النفس، يمكنها أن تنير العوامل الكامنة وراء وقوع مثل هذه الحالات اللاإنسانية في المجتمعات المماثلة للمجتمع العراقي. ويمكن إيراد الكثير من الأحداث التي مرت بها أوروبا في صراعها ضد الإقطاعيات وضد النظام الإقطاعي وإقامة المجتمع البرجوازي انتصاراً للرأسمالية التي تميزت بالعنف الشديد والقسوة البالغة، ومنها حرق النساء بتهمة مماسة السحر وكونهن ساحرات تعلمن السحر من الشياطين!   
على مدى الفترة الواقعة بين 1921 و1958 لم تستطع حكومات النظام الملكي أن تبني مجتمعاً مدنياً ديمقراطيا، رغم بروز عناصر أو لبنات من مكونات المجتمع المدني، ولكنها كانت في لحظات حرجة تتبخر تلك العناصر دفعة واحدة لتقع مثل تلك الجرائم البشعة. لقد كنت حاضراً صبيحة الرابع عشر من تموز في بغداد وأمام وزارة الدفاع وبحدود الظهيرة شاهدت جثة ولي العهد عبد الإله مقطوعة الرأس واليدين والرجلين، ولكن الجثة لم تنجو حتى وهي في تلك الحالة من الركلات والضربات بالعصي. إنها لوحة عار بشعة يصعب تصورها، ولكنها كانت واقعاً قائماً. وأكثر من ذلك، فقد فوجئت بامرأة عجوز تحمل سكيناً صغيراً بيدها لا يتجاوز طوله عشرة سنتمترات تغرس السكين في صدر جثة ولي العهد وتصرخ بغضب وحرقة "هذا انتقام لأبني أيها المجرم!". لم تكن هذه الحالة فريدة، ولكنها كانت تعبر عن كراهية وحقد دفينين، لقد كانت الصورة بشعة ومقززة، وكانت نظرات المرأة العجوز نارية يتطاير منها الشرر، كما كانت الدموع تملأ عينيها، ابتعدت بسرعة عن المكان لأن المنظر كاناً مأساوياً ومحزناً ومقززاً.
إن الأوضاع التي سادت العراق خلال الفترة الواقعة بين 1948 و1958 كانت ثقيلة على الناس، ولاسيما على الفلاحين الفقراء والمعوزين وعلى الكسبة والعمال، وعلى الكثير من الخريجين والمثقفين وعلى الأحزاب السياسية. وقد وقعت الكثير من الأحداث في هذه الفترة بما فيها الإضرابات والانتفاضات دون أن تقوم الحكومة بما يوقف هذه التحركات بطريقة سلمية وعقلانية، بل واجهتها بالحديد والنار. وبدلاً من تلتقي بالمثقفين وتبحث معهم الأوضاع، اعتقلت المئات منهم، وهم من خير مثقفي العراق، كانوا أساتذة جامعة وكتاب وشعراء ومسرحيون وروائيون وصحفيون ومحامون ومهندسون وصيادلة وطلبة جامعة وزجتهم جميعاً بمعسكر السعدية. وقد بلغ عددهم حوالي المائة مثقف. (راجع: حكمت محمد فرحان، ذكريات عن نضالات الشيوعيين، دورة الضباط الاحتياط للمفصولين السياسيين في السعدية عام 1955، موقع صوت اليسار العراقي). كما ساق النظام الملكي ما يقرب من 150 من طلبة الثانوية وإعداد المعلمين وزجتهم في معسكر الشعيبة في عام 1955 أيضاً، وكنت واحداً منهم. (راجع/ د. إقبال محمد علي، ذكريات عن نضالات الشيوعيين، معسكر السعدية ومعسكر الشعيبة، الموقع السابق نفسه). وفتح النظام معسكراً أخر لطلبة الثانوية المجندين قسراً في قلعة حامية راوندوز العسكرية في ذات الفترة الزمنية. (راجع: جبهة الإتحاد الوطني 1957 وموقفها من طلاب معسكر راوندوز، جريدة الزمان بتاريخ 09/04/2014).
لم تنفع الوساطات التي برزت حينذاك والزيارات التي تمت من بعض أبرز وجوه المعارضة للبلاط الملكي لمعالجة الأوضاع السياسة والاقتصادية والاجتماعية في العراق والموقف من أجهزة التحقيقات الجنائية التي غاصت في إرهابها لقوى المعارضة، ولم تنفع في إقناع الحكم على التعامل السياسي بروح المرونة والمساومة المفيدة لتهدئة الأوضاع وعدم الانجرار وراء طلبات الغرب في التورط بالأحلاف العسكرية والتي كانت كل الأحزاب السياسية ضدها، عدا الحزبين الحكوميين اللذين كانا يتبادلان الحكم في العراق، حزب سني برئاسة نوري السعد ويضم شيعة (الحزب الدستوري)، وحزب شيعي برئاسة صالح جبر ويضم سنة (حزب الأمة الاشتراكي).
هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي السيء قد اقترن بتفاقم التحركات السياسية في المجتمع مما دفع بأجزاء من القوات المسلحة العراقية، وأفرادها الذين يشكلون منطقياً جزءاً من الشعب العراقي، إلى التأثر بالأحداث الجارية وإلى التفكير بعمل عسكري مناهض للحكم، علماً بأن القوات المسلحة العراقية كانت قد خاضت في تجربتين سابقتين فاشلتين 1936 و1941. من جانب آخر بدأت الأحزاب والقوى السياسية، ولاسيما بعد انتفاضة 1956 المساندة لمصر وضربها بقسوة وإعدام بعض المشاركين فيها، ولاسيما في قضاء الحي في الكوت (عطا الدباس وعلي الشيخ حمود)، إلى الحوار المتبادل، ومنها المعتدلة وذلك الحزب الذي أطلق عليه الزميل الدكتور فالح مهدي بحق ناضج، التفكير بطريقة للتخلص من هذا الوضع. فكان اللقاء السياسي بين قيادة تنظيم الضباط الأحرار واللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني، بين القوى التي اجتمعت لإسقاط الوضع القائم. لم يجد هؤلاء طريقاً غير طريق الانتفاض على الحكم، ولكن كيف؟
في عام 1954 أجريت انتخابات عامة حاز تحالف سياسي أقيم بين عدد من القوى والشخصيات السياسية المعارضة لنظام الحكم على 11 أو 12 مقعداً فقط لعضوية مجلس النواب من مجموع 144 نائباً، أي بنسبة قدرها 8،2%. ولكن نوري السعيد لم يتحمل هؤلاء النواب على قلتهم، فسارع إلى طلب إلغاء مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة، رغم الكثير من المعارضات، بل حتى الوصي عبد الإله قاوم ذلك، ولكنه لم ينجح أمام إصرار نوري السعيد وتأييد السفارة البريطانية له. وكان الهدف هو التخلص من هؤلاء القلة أولاً، وضمان التأييد المطلق له في مجلس النواب عند سن تشريعات جديدة أو اتخاذ إجراءات جديدة. (راجع: د. فاضل محمد رضا، انتخابات 1954، وكيف اجهضت السلطة فوز الجبهة الوطنية بحل المجلس النيابي/ ملاحق جريدة المدى، نشر في 09.08.2015). وفعلا تم حل المجلس النيابي، وأجريت انتخابات جديدة حصلت الأحزاب المؤيدة لنوري السعيد وصالح جبر والبلاط على جميع أعضاء المجلس تقريباً بعدها أصدر المراسيم السيئة الصيت التي أُطلق عليها مراسيم "وما شاكل ذلك" في حينها، والتي أسقط فيها الجنسية العراقية عن عشرة مناضلين بارزين ومعارضين للنظام، كما اعتقل بعض أوجه المعارضة البارزة. من هنا أدركت الأحزاب السياسية الوطنية والقومية واليسارية أن ليس هناك أي رغبة لدى الحكومة للحوار والمساومة، بل كان رد الفعل إعلان الأحكام العرفية وسن تشريعات جديدة ظالمة والقيام بحملة اعتقالات لرموز المعارضة.
هكذا كان الوضع عندما حصل لقاء بين منظمة الضباط الأحرار واللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني التي تأسست عام 1957. وفي عضويتها الأحزاب الأربعة التالية: الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي، كما تقرر إقامة علاقة للجنة العليا مع الحزب الديمقراطي الكردي (الكردستاني لاحقاً) عبر الحزب الشيوعي العراقي، بسبب رفض الحزبين القوميين (الاستقلال والبعث) أن يكون الحزب الكردي ضمن قوام اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني. وتم الاتفاق على التعاون للإطاحة بالنظام السياسي القائم والاستفادة من القوات المسلحة إن أمكن ذلك.
إن ما حصل في صبيحة اليوم الرابع عشر من تموز/يوليو كان تحركاً لوحدات عسكرية عراقية سيطرت على مواقع أساسية في بغداد وأعلنت إسقاط النظام القائم وإقامة الجمهورية العراقية، واكد البيان الأول عن سعي الثوار إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الوطنية والديمقراطية العامة. لم يكن هذا التحرك سوى حركة انقلابية عسكرية ضد النظام القائم، ولو لم تنجح هذه المحاولة لاعتقل الضباط والجنود المشاركين وأعدم الكثير منهم لمخالفتهم القوانين العسكرية. ولكن هذا التحرك العسكري المنسق مع اللجنة العليا المدنية، قد أسند، حال الإعلان عنه من إذاعة بغداد، بانطلاقة جماهيرية عارمة حقاً، محولة إياها إلى فعل ثوري واسع منفلت من عقاله وليس هناك من يستطيع السيطرة على أفعال الناس أو الضباط. كما إن هذا الحراك قد شل إمكانية من كان ضد الانقلاب على التحرك لإفشاله. هنا علينا أن نعي فعل القوانين المحركة للمجتمع. لا يمكن لأي حركة من هذا النوع ان تنجح ما لم تكن المستلزمات الموضوعية والذاتية قد التقت ببعضها لتحقق التغيير المنشود في تلك اللحظة الحرجة من تاريخ العراق السياسي. 
إن ما حصل من قتل لأفراد من العائلة المالكة ولنوي السعيد وابنه صباح نوري اسعيد لم يكن من ضمن مخطط الضباط الأحرار ولا من إرادة ورغبة اللجنة العليا. وهو فعل إجرامي مدان بكل المقاييس والمعايير. لقد كان قتل الشخصيات الأربعة البارزة والمعروفة في النظام الملكي العراقي والتمثيل الوحشي بجثثهم عملية انتقام ثأرية بدوية وعشائرية، بعيدة عن القانون وعن الحضارة الحديثة. ومن قام به كان سادياً ومجرماً. من قرأ للفيلسوف سقراط، يمكنه أن يقتنع بما قاله، إذ كتب بدقة ووضوح كبيرين: "أولئك الذين هم في ثورة الغضب يفقدون كل سلطان على أنفسهم". لم يكن جميع الناس مع تلك الصورة من الانتقام العبثية ودون محاكمات عادلة، لهذا كان للثورة وجه آخر أكثر حلماً وأكثر وعياً نسبياً. فقد سعت الجماهير الواسعة بشكل عفوي أولاً وأساساً، ومن ثم تحت فعل وتأثير أحزابها السياسية ثانياً، إلى تحويل هذا الفعل العسكري المحدود إلى ثورة سياسية واجتماعية، ولهذا أُطلق عليها ثورة 14 تموز 1958، وفها نوع من التيمم بتاريخ الثورة الفرنسية. ولكن هذه الثورة التي مارست مجموعة مهمة من السياسات واتخذت مجموعة أخرى من الإجراءات لم تستطيع المواصلة ولم تتحول إلى عملية ثورية تُجري تغييرا جذرياً وحقيقياً في علاقات الإنتاج وفي العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وفي الوعي الاجتماعي، ولأنها لم تمتلك الوقت للبدء بما يسهم في توفير مستلزمات التغيير، إذ شرعت الأحزاب السياسية الأساسية في الجبهة على خوض صراعاتها بسبب عدم نضجها ووعيها للواقع الجديد ومستلزماته من جهة، كما إن فردية الزعيم عبد الكريم قاسم قد هيمنت على الحكم بتأييد واسع من الشعب، الذي سُحر في غالبيته بشخصية عبد الكريم، كما تكالبت النظم القومية والرجعية في العالم العربي على الوضع في العراق لتزيد من حمى الصراع بين قواه السياسية، إضافة إلى دور الخارج الكبير في هذا المجال، لينتهي الوضع إلى انقلاب عسكري دموي فاشي الأساليب والنزعة في 8 شباط/فبراير 1963 بتأييد كامل وشامل من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وشركات النفط الأجنبية التي حاول عبد الكريم قاسم قطع بعض مصالحها من قص أجنحتها وتقليم أضافرها في العراق حين أصدر القانون رقم 80 لسنة 1961. بعدها تراجعت كل تلك الإجراءات والقوانين التي صدرت في أعقاب الثورة مباشرة، وتفاقم التراجع بعد 1963. لقد اتخذت حكومة عبد الكريم قاسم مجموعة من الإجراءات والقوانين منها: الخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، إصدار قانون الأحوال الشخصية، قانون الإصلاح الزراعي، وقانون العمل والعمال وبدأت بمشاريع صناعية مهمة... إلخ، ولكن كانت هناك في الوقت ذاته تجاوزات كبيرة حصلت في مجرى عمل محكمة الشعب وابتعادها عن الأسس العقلانية والنظامية في أصول المحاكمات الجزائية والجنائية. كما إن الحكم قد تحول إلى حكم فردي وإلى عدم وضع دستور دائم، أو تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، أو إجراء انتخابات مجلس نيابي حر وديمقراطي.. الخ. من هنا يمكن القول بأن الثورة قد فقدت جوهرها الأساس، أي تحقيقها للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية المطلوبة في تلك المرحلة من الحياة السياسية العراقية. ومن هنا فليس هناك ما يغير من حقيقة الواقع إن أرادت الأقلية أن تشير إلى الفعل العسكري الأول بأنه انقلاباً عسكرياً أو أن تشير الأكثرية إلى إن الجماهير قد حولت ذلك الفعل العسكري إلى ثورة شعبية عارمة، فأنها في المحصلة النهائية لم تنجح في الوصول إلى التغيير المنشود حينذاك، تحت ثقف وفعل وتشابك عوامل داخلية وإقليمية ودولية كثيرة.
انتهت الحلقة العشرة وتليها الحلقة الحادية عشرة.         


                 



123
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة التاسعة
عقد الخمسينيات من القرن الماضي في العراق وصراعاته وأسبابها
"إنه لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر.. لا بد لك أن تفهم ما في القاع.. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً.. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور".
                                        من مقدمة أبن خلدون
          ولي الدين عبد الرحمن ابن محمد ابن خلدون الحضرمي (1332-1406م) 
يرى الدكتور فالح مهدي بأن "فترة الخمسينيات من القرن الماضي كانت منذرة بعواصف ستصيب هذا البلد إصابات قاتلة، فقد اشتد الصراع بين الغرب متمثلاً بالولايات المتحدة والمعسكر الاشتراكي متمثلاً بالاتحاد السوفييتي وقد عبر عن ذلك الصراع بالحرب الباردة التي كانت تتم عبر أطراف أخرى. لrد دخل الحزب الشيوعي العراقي في أتون تلك الحرب المستعرة بين الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة والشرق متمثلاً بالاتحاد السوفييتي. سأتكلم لاحقاً عن الحزب الشيوعي وعدم نضجه."، ثم يشير وفي نفس المقطع إلى "إن البنية الاجتماعية والثقافية للعراق لم تكن تسمح بقيام ديمقراطية في هذا البلد". ثم يعتقد بأن "الحزب الوحيد الذي يمثل نضوجاً وفهماً عقلانياً للشأن السياسي لا يخلو من مثالية تمثل بالحزب الوطني الديمقراطي"، في حين رأي بأن وجود عبد الناصر وحماسه الأرعن لمفهوم الوحدة أدى إلى حدوث كوارث في العراق..." (الكتاب، ص 132). هنا نلتقي بمجموعة من الأفكار المهمة للصديق الدكتور فالح مهدي التي أحترمها، ولكني أختلف في بعضها، وسأبين أسباب هذا الاختلاف، والاختلاف لا يفسد للود قضية. إن أهمية الأفكار المطروحة هي التي تستوجب النقاش، سواء أكان الموقف معها أو ضدها؟ ولو لم تكن كذلك لما اعير لها اهتمام. أشير هنا إلى بعضها الأهم:
1.   إن عواصف الحرب الباردة قد شملت العراق وأن أطرافاً فيه كانت تلعب دورها، ولاسيما الطرف الشرقي، وأن الحزب الشيوعي كان امتداد السياسة السوفييتية في هذا الصراع.
2.   إن الحزب الشيوعي العراق لم يكن ناضجاً، في حين كان الحزب الوطني الديمقراطي ناضجاً ومتفهما للوضع ولكن لا يخلو من مثالية.
3.   وأن البنية الاجتماعية والثقافية للعراق لم تكن تسمح بقيام ديمقراطية في هذا البلد.
4.   ثم الدور الأرعن لعبد الناصر في العراق، وكل هذا في عقد الخمسينيات، أي قبل ثورة تموز 1958 وبعد الثورة.
والملاحظة المهمة التي ترد على هذه المقطع الذي حمل إلينا هذه الأفكار هي أن الدكتور فالح مهدي لم يشر ولو بكلمة واحدة عن العوامل الداخلية التي كانت تتفاعل لتجعل من هذه الفترة محملة بالعواصف المحلية، إضافة إلى عواصف الحرب الباردة الخارجية. 
1. إن عواصف الحرب الباردة قد شملت العراق وأن أطرافاً فيه كانت تلعب دورها ولاسيما الطرف الشرقي، وأن الحزب الشيوعي كان امتداد السياسة السوفييتية في هذا الصراع.
نعم، من الخطأ بمكان إنكار إن الحرب الباردة في الخمسينيات، وحتى بعدها، كان لها الأثر البارز في الصراع الجاري في العراق، وأن الحزب الشيوعي العراق، ومعه بقية القوى السياسية، ومنها الحزب الوطني الديمقراطي بل وحزب الاستقلال، كانا معاً إلى جانب ما أطلق عليه بالحياد الإيجابي ومؤتمر باندونغ، والذي كان يعني الوقوف على الحياد في الصراع الدولي بين الشرق والغرب، ولكن في جوهره كان إلى جانب الاتحاد السوفييتي عملياً لأن الدول الغربية هي التي كانت تقيم الأحلاف والقواعد العسكرية في الدول الشرق أوسطية وغيرها. ولكن الزميل العزيز لم يشر إلى ما كان يفعله الطرف الآخر في هذه العملية رغم ذكر اسم الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة. كتبت عن ذلك في حلقة سابقة. لقد سعى الغرب بكل السبل المتوفرة جرَّ العراق، وعبر سياسات النظام السياسي الملك ونوري السعيد، إلى أتون الحرب الباردة إلى جانب الغرب من خلال ما أكرره هنا ثانية وهي النقطة الرابعة والأحلاف العسكرية واتفاقية الشرق الأوسط وحلف بغداد، بمشاركة كل من بريطانيا وتركيا وباكستان وإيران والعراق، إضافة إلى دور الولايات المتحدة في حلف السنتو. وضد هذا التوجه تبلور نشاط المعارضة ضد هذه الأحلاف العسكرية. كما إنها نشَّطت الصراعات بإصدار مجموعة من المراسيم السياسية التي أدت إلى إغلاق الصحف والأحزاب، بما فيها الحزب الناضج الوطني الديمقراطي، واعتقال بعض رموز هذه القوى وأسقطت الجنسية عن عشر شخصيات وطنية عراقية، وحلت البرلمان وأجرت انتخابات جديدة ثم تزويرها ...وهلمجرا. هذا من جهة، والقوى التي كانت تقف إلى جانب هذا الاتجاه تمثلت في الحزب الدستوري لنوري السعيد وحزب الأمة الاشتراكي لصالح جبر، وقوى كبار الملاكين وكبار التجار الكومبرادور وشيوخ العشائر من جهة ثانية. كم كان بودي أن يعالج الزميل الجانبين لتبدو دراسته أكثر تماسكاً وأكثر لإقناعاً. لم يكن الصراع الدولي وحده السبب في الواقع العاصف في العراق، بل كانت هناك جملة من الأسباب الداخلية، يمكنني أن أشير إلى بعضها لأني عشتها ولم أكن صغيراً بالعمر بل كنت شاباً في العشرينيات. كانت هناك بطالة واسعة ولاسيما بين الخريجين، وكانت هناك هجرة واسعة من الريف إلى المدن وتكوين مدن طينية طرفية بائسة وأغلب النازحين تحولوا إلى أشباه بروليتاريا رثة ويعيشون على هامش الحيا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لقد هربوا من الظلم والديون التي تراكمت برقبتهم لصالح كبار الملاكين، وكان هناك حرمان وفقر واسعين تحت خط الفقر الدولي العام. وكانت الفجوة بين سكان الريف والمدن في اتساع رغم أن المدن لم تكن في أحسن حال، ولاسيما مدن الجنوب والمدن الكردستانية العراقية. هذه كلها كانت تشحن الوضع الاجتماعي والسياسي إلى جانب فعل الوضع العربي وما كان يجرى في فلسطين. لهذا فالوضع الداخلي لم يكن هادئاً، بل هو الأساس في تحرك العواصف الداخلية، مضافاً إليها الوضع العربي والحرب الباردة على الصعيد الدولي. أورد لهنا مثالاً حياً من دولة الاتحاد السوفييتي لكي أدلل على إن الوضع الداخلي هو الأساس في كل العواصف والانهيارات. حتى الآن تعتقد جمهرة من الشيوعيين في العالم، وليس في العراق وحده، بأن هذه الدولة الكبرى قد سقطت بعد مرور 74 عاماً على قيامها بفعل التآمر الإمبريالي الخارجي وليس بفعل التناقضات والصراعات الداخلية. اعتقد جازماً، ويمكن إيراد الأدلة الكافية على ذلك، بأن الاتحاد السوفييتي قد نُخِرَ من الداخل، قد نُخِرَ بسبب مجموعة من العوامل التي يمكن بلورة أهمها في النقاط التالية:
أ‌.   حصول انفصال فعلي طويل الأمد وطلاق بين الفكر الماركسي وما كان يجري فعلياً على أرض الاتحاد السوفييتي، سواء أكان بالنسبة للعلاقة بين القوميات أم بالنسبة للعدالة الاجتماعية أم توزيع واستخدام الثروة...الخ.
ب‌.   هيمنة البيروقراطية الكاملة على حياة وعمل ونشاط الحزب والدولة في جميع أرجاء الاتحاد السوفييتي.
ت‌.   انتشار الفساد المالي والإداري في كيان الحزب والدولة والمجتمع وعلى نطاق واسع بحيث أصبحت رائحته تزكم الأنوف، تحول إلى نظام (system) معمول به دون إمكانية تجاوزه.
ث‌.   تراجع هائل في مجال التضامن وإسناد حركات التحرر الوطني، قم تفاقم التعاون مع النظم المستبدة والرجعية، كما في حالة التعاون الواسع النطاق مع العراق في فترة حكم صدام حسين، على سبيل المثال لا الحصر.
ج‌.   فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وخراب الوضع الاقتصادي بسبب هيمنة البيروقراطية الحزبية والحكومية على النشاط الاقتصادي والابتعاد كلية عن احترام القوانين الاقتصادية واقتصاد السوق، مما أدى إلى اختلالات شديدة في مجمل عملية إعادة الإنتاج الموسعة في الاقتصاد السوفييتي. لقد كان حديث قادة الحزب والدولة يجري عن قرب بناء الشيوعية، في حين كان الشعب السوفييتي يعاني من أزمات حادة في الحصول السلع الاستهلاكية اليومية والضرورية جداً... الخ.
ح‌.   توجيه استثمارات هائلة نحو تطوير الأسلحة التقليدية وذات التدمير الشامل والدخول في سباق تسلح لا مثيل له على الصعيد العالمي، وبيع الكثير من السلاح إلى الدول النامية وتراكم الديون عليها على حساب خزينة الدولة السوفييتية وعلى حساب الاقتصاد المدني وعلى حساب دافع الضرائب والمنتج السوفييتي وعجز حقيقي عن إشباع حاجات الاستهلاك المحلي للسلع المختلفة.
خ‌.   وأخيراً وليس أخرا تفاقم دور أجهزة الأمن والاستخبارات في حياة الفرد والمجتمع، وغياب الثقة المتبادلة بين الحزب والدولة من جهة، والمجتمع السوفييتي من جهة أخرى، ومصادرة الكثير من الحريات والحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين السوفييت، وهي الحالة الأكثر إضراراً بالحزب والدولة في الاتحاد السوفييتي. يضاف إلى كل ذلك غياب الحق والحرية في إقامة الأحزاب والتنظيمات الاجتماعية غير الخاضعة للحزب الشيوعي السوفييتي، مما جعل الدولة والمجتمع أسرى بيروقراطية واستبداد الحزب الواحد.
هذه وغيرها كانت السبب وراء انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي كلها عوامل داخلية، أما العامل الخارجي فله دور مهم، ولكنه ثانوي ومساعد في هذا المجال، ومنها الحرب الباردة وسباق التسلح.. إلخ. لا يمكن لأي عامل خارجي أن يسقط دولة إلا إذا حصل تدخل عسكري واجتياح أو غزو خارجي، كما حصل في العراق في العام 2003 على سبيل المثال لا الحصر، ولكن مثل هذا التدخل لن يجلب استقراراً في الأوضاع، وها هو الشعب يعيش عواقب ذلك التدخل والغزو الخارجي، حيث اسُتبدِلَ الاستبداد الشوفيني البعثي المقيت بالاستبداد الديني المذهبي البغيض.             
2. إن الحزب الشيوعي العراق لم يكن ناضجاً في حين كان الحزب الوطني الديمقراطي ناضجاً ومتفهما للوضع ولكن لا يخلو من مثالية.
من الناحية الاجتماعية والرؤية الفلسفية يمكن القول بأن نضوج الأحزاب والفرد والمجتمع مرتبط عضوياً بواقع الأحوال في هذا البلد أو ذاك. أي بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة وطبيعة ومستوى تطور القوى المنتجة ومستوى تطور الوعي الفردي والجمعي في البلاد. كما أن مستوى قادة وعضوية الأحزاب يمكن أن تختلف كثيراً أو قليلاً عن المستوى العام للمجتمع، لأن الأوضاع الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى السياسية، هي التي تحدد عموماً مستوى النضوح في الأحزاب وقياداتها وعضويتها والمؤيدين لها وعموم المجتمع. ولهذا عندما تقول بأن الحزب الشيوعي لم يكن ناضجاً، لا أستطيع أن أعارضك به إلا بالقدر الذي يفترض أن تتفق به معي بأن كل القوى السياسية الأخرى بما فيها الأحزاب الحاكمة لم تكن ناضجة، وإلا لما مارست تلك السياسات التي تدفع باتجاه التحالفات الدولية العسكرية أو تمارس سياسات اقتصادية لا تخدم المجتمع كله بل فئات منه. النضوج مسألة نسبية، وبالتالي، فنضوج الشيوعيين من نضوج المجتمع ودرجة أفضل من النضج العام. لأنهم كانوا يقرأون ومن يقرأ بعناية يتطور، وكانت الماركسية تنير طريقهم، كما أنارت طريقك في دراساتك دون أن تكون بحاجة إلى الانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك، ودراساتك السابقة والراهنة تشير إلى إنها تستخدم المنهج العلمي المادي الجدلي.
في قناعتي الشخصية بأن الباحث أو الباحثة، حين يقوما بتحليل أوضاع معينة في فترات سابقة، يفترض فيهما، كما أرى، أن يستعيدا الظروف التي كان يعمل بها هؤلاء الناس والأجواء المحيطة والظروف الاجتماعية والثقافية الضاغطة والعوامل الدينية الفاعلة...الخ. ليخرجا بنتائج يمكن أن تكون الأكثر قرباً إلى الواقع، وبممارسة منهج التقريب المتتالي   iterationsprozess ليمكن الوصول إلى أحسن النتائج في التحليل العلمي المنشود. نعم كانت هناك شعارات يسارية متطرفة وليس بالضرورة كلها من الحزب الشيوعي، بل الجماهير ذاتها كانت المحرك الفعل، بوعي أو دون وعي، لردود فعل سرعة ونافورية يصعب تداركها، لا تُبرر، ولكن لا بد من رؤية العوامل التي كانت تقود إلى ردود الأفعال المتطرفة. هنا يمكن أن يجد الإنسان تفسيراً لما كان يحصل وليس تبريراً. أود هنا أن أورد تجربة عشتها شخصياً: في عام 1959 عدت من بيروت إلى بغداد لأغادر بعدها إلى المانيا للدراسة. زرت مديني الحبيبة كربلاء لثلاثة أيام. في اليوم الثاني كنت على موعد مع رفيق عزيز لي قضينا سنوات في السجون والمعتقلات قبل ثورة تموز 1958 هو الرفيق جاسم الحلوائي (أبو شروق). كنت نسير فش شارع في محلة العباسية وقرب نادي الطلبة الابق وقرب من مستوصف الطلبة وأمام دائرة البريد حين سمعنا أصوات مظاهرة تنادي والحبال مدودة بطالبون بقتل وسحل مدير إدارة العمل الحكومية في بغداد، وهو أحد معارفي وصديق أيضاً). سألت الرفيق أبو شروق هل هذا من عملنا، فأجاب فوراً وقطعا، لسنا لنا به يد، وكان الرفيق مشرفاً على منظمة الحزب في كربلاء حينذاك. قلت له لنذهب ونطفئ النار بل أن تتعل. اقتربت من المظاهرة وارتقيت دكة قريبة من تجمعهم وناديت بصوت مرتفع إن هذا العمل جنوني ومرفوض وعلى العمال، وكانوا عمال إنتاج الطابوق والجص، أن يتحاورا مع إدارة العمل وليس إلى قتله. وقلت لهم بأن الحزب الشيوعي يرفض هذه الأساليب. ومن انتهيت من الكلمة حتى تلقيت ضربة شديدة من شخص يحمل مگواراً ( عصا غليظة ذات رأس قيري صلب أو حديدي) بيده فجر الدم من رأسي وبسرعة فائقة. لم أتمالك نفسي وخشيت من ضربات لاحقة والدم يثير الناس، فهجمت دون وعي مني على الخص وانتزعت منه المگوار وبدأت أدور به على نفسي لأبعد التجمع عني دون أن أحاول إصابة أحد، وقد نجحت فعلاً وتفرق التجمع بعد ذاك، وتمكنت من الذهاب إلى المستوصف لمعالجة الإصابة. لقد قيل إن عناصر من قوى أخرى دفعتهم إلى ذلك وطلبوا مني إقامة الدعوى ضدهم فرفضت، ولكن النتيجة كانت أن ابتعد الموت من إنسان لم يكن بيده غير تطبيق قانون العمل والعمال. ولو كان قد حصل ذلك لكان الحزب الشيوعي العراقي أول المتهمين بذلك. إن الرفيق جاسم الحلوائي يعيش اليوم بصحة جيدة في الدنمارك وهو شاهد على ما أقول.       
تقول أخي الفاضل، بأن الحزب الوطني الديمقراطي تميز بالنضوج والتفهم. هذا صحيح إذ كان يميل إلى الإصلاحية في تغيير الأوضاع، ومع ذلك وجدته لا يخلو من الرومانسية. وأعتقد إن الرومانسية أو المثالية أو الحلم لا يجوز أغفالها في الحركات السياسية، وإلا لما عاد هناك حلم وأمل يدفع إلى العمل والنضال لتحقيق التغيير المنشود. لقد شارك الحزب الوطني الديمقراطي في كل التحركات الفكرية والسياسية في الخمسينيات. وقد التقيت بالأستاذ كامل الجادرجي في مقر جريدته الأهالي على رأس وفد من كربلاء حول بعض المسائل المهمة ومنها الأحلاف العسكرية وموضوع السلام. وكان رجلاً معتدلاً وعقلانياً واتفق على صواب مطالبنا. وكان ممثلاً في اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني التي شاركت في إسقاط النظام الملكي والتي تأسست عام 1957. لم تترك الحكومات الملكية المتعاقبة أي قوة سياسية عاقلة لا تعارضها، وتخندقت في أحزابها السياسية وأقامت سوراً بينها وبين الناس بمراسيمها الخانقة للحريات العامة وبجهاز التحقيقات الجنائية والشرطة السرية والسجون. لم يسع حكام النظام الملكي إلى المساومة مع الأحزاب المدنية، دع عنك اليسارية والحزب الشيوعي العراقي أو القوى القومية. ولهذا لم تجد تلك القوى باباً آخر غير التحالف ضد النظام الملكي. لم يكن الأستاذ الفاضل كامل الجادرجي شخصية ثورية، بل كان إصلاحياً، اشتراكياً ديمقراطياً، ولم يناضل ضد الملكية، بل قدم النصح لها، ولكن الرغبة في الحكم وعدم التنازل والمساومة قد أدى إلى تعميق الصراع وتفجيره والانتقال به إلى مرحلة التآمر والانقلاب العسكري بما يسنده الجمهور. تشير دراسات معاهد علمية تبحث في حل النزاعات، وقد عملت عدة سنوات في معهد من هذا النوع ببرلين، إلى إن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية حين لا تعالج وتتفاقم، يمكنها أن تتحول إلى نزاعات سياسية، وحين تشتد يمكن أن تأخذ أشكالاً متطورة من النزاع السياسي بما في ذلك النزاعات الدموية أو الحروب، وسواء أكانت تلك المشكلات في داخل دولة واحدة أم بين الدول. 
أتمنى أن تفكر في هذا الموضوع. لا اسعى إلى تغير ما تراه، بل أرنو إلى التفكير فيما أطرحه وقد بلغت الرابعة والثماني من عمري ولا يمكنني إلا أن أنقل الواقع الذي عشته كما هو، ومن زاوية رؤيتي طبعاً، وليس محاولة لتشنيع الوضع.
3. أن البنية الاجتماعية والثقافية للعراق لم تكن تسمح بقيام ديمقراطية في هذا البلد.
لقد أطلق سراحي من سجن بعقوبة ومن ثم من الإبعاد في الشهر 7/6/1958 وعشت ثورة تموز 1958 في بغداد. غادرت العراق للدراسة في الشهر الثامن من نفس العام. في عام 1959 كنت في بيروت ونشرت مقالاً في جريدة الأخبار اللبنانية وباسمي الكامل وتحت عنوان" هل تصلح الديمقراطية للعراق" رداً على مقال للدكتور سعدون حمادي، الذي كان في قيادة حزب البعث ورئيس تحرير جريدة الجمهورية، والذي كتب مقالاً أدعى فيه بأن الشعب العراقي والوضع في العراق لا يصلحان للديمقراطية. وها أنا أمام قول مماثل عن فترة الخمسينيات، ولكن شخصية أخرى تختلف فكراً وممارسة عن شخصية وفكر وممارسة سعدون حمادي، شخصية علمية وموضوعية هو الدكتور فالح مهدي، يحمل رأيا أحترمه وأختلف به معه. أناقش هذا بعد مرور ستة عقود بالتمام والكمال، ولكن عن نفس الفترة والتي يمكن أن تصلح لهذه الفترة أيضاً التي أصبح العراق فيها يعيش حالة ردة فكرية واجتماعية ومدنية عميقة جداً وشاملة تقريباً.       
الديمقراطية ليست صبغة يمكن أن نلون بها واجهة معينة، بل هي عملية سيرورة وصيرورة اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية متشابكة، إنها عملية حضارية يضاف لها اليوم بيئية وحقوقية أيضاً، ما لم نبدأ بها لن نصل إليها. إنها ليست عملية ميكانيكية أو اوتوماتيكية بأي حال. والشعوب كلها لم تكن يوماً ناضجة للديمقراطية، ولكن عمليات التغيير الاقتصادي وتغيير البنية الاجتماعية هما اللتان توفران مستلزمات التغيير في الوعي وفي إدراك الضرورة، أي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. في الخمسينيات كان نوري السعيد يؤكد ذلك، وفي أوائل القرن الحادي والعشرين ادعى محمد حسني مبارك، رئيس مصر السابق ذلك أيضاً عن المجتمع المصري، وهكذا يتحدث حكام أغلب الدول النامية ويؤكدون بإن الوضع الاجتماعي والثقافي في مجتمعاتهم لا يسمح بممارسة الديمقراطية. ولكن لا بد من أن تكون هناك بداية بالممكن من الديمقراطية والحريات العامة التي يفترض أن تقترن بسياسات وإجراءات اقتصادية واجتماعية لكي يمكن من خلالهما تطوير الوعي العام ووعي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. بغير ذلك لا يمكن أن نصل إلى إقامة دولة ديمقراطية علمانية حديثة ولا إلى مجتمع مدني ديمقراطي حديث.     
5.   الدور الأرعن لعبد الناصر في العراق، وكل هذا في عقد الخمسينيات، أي قبل ثورة تموز 1958 وبعد الثورة.
  يؤكد الزميل الدكتور فالح مهدي بأن سياسات عبد الناصر في عقد الخمسينيات وما بعدها قد تميزت بالرعونة، وأضيف عليها، والإخفاق. أشعر بأن هذا الحكم يتسم بالصواب من جهة، ولا يعبر عن كل الحقيقة من جهة ثانية. عبد الناصر لم يكن رجلاً ثورياً، ولكنه كضابط مصري هزته خيانة الحكام العرب لجيوشها ومنها جيش مصر في الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1948، وبعد التقسيم مباشرة، بما في ذلك الأسلحة الفاسدة، وهي التي قادت إلى تجمع ضباط قاموا بانقلاب عسكري سعوا إلى تحويله إلى ثورة اجتماعية ولم ينجحوا في ذلك. وهذه الحالة حصلت في العراق حيث كان عبد الكريم قاسم أيضاً ضمن القوات العراقية التي قاتلت ضد إسرائيل. وتعرفوا عن قرب على حقيقة دور الحكومات العربية في الصراع العربي – الإسرائيلي. فبدأوا يعملون على تنظيم انقلاب عسكري ضد النظام الملكي في العراق، كما في مصر. وعلينا أن نتذكر الانقلابات المتلاحقة في أوائل الخمسينيات في سوريا أيضاً.
تعامل الضباط المصريون بلياقة صارمة وسليمة مع الملك فاروق، إذ أبعدوه وعائلته إلى إيطاليا ولم يقتلوه ولم يمسوه بأذى. موقف حضاري. سأعود إلى ما حصل في العراق، فلم يكن فاروق متهماً بخيانة فلسطين بل سياسات الحكومة المصرية، وهذا مهم في الموقف من الملك فاروق. لقد توجه عبد الناصر صوب إقامة علاقات اعتيادية مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى، والتي لم ترتح لها الدول الغربية، فامتنعوا عن مسألتين: تزويد مصر بالحبوب من الولايات المتحدة، أي تجويع المصريين، من جهة، وعدم المشاركة في إنجاز مشروع السد العالي من جهة ثانية. وكان هذا الموقف في خضم الحرب الباردة موقفاً غير سليم من الغرب، فاندفع عبد الناصر بروح شبابية وعلى رأس السلطة باتخاذ إجراءات أكثر راديكالية، منها تأميم قناة السويس وانتشر الشعار والأغنية القائلة "قالو السد العالي زال قلنا أممنا القنال يا جمال". إنه رد فعل لم يكن مناهضاً للغرب، كما أنه وقف ضد مشروع حلف بغداد وشارك بفعالية وحيوية مع سوكارنوا وغيره في موضوع الحياد الإيجابي ومؤتمر باندونغ. هذا الموقف الغربي هو الذي هيج الشارع العربي، والعرب يهتاجون لأي صغيرة وكبيرة كما تشير الأحداث الكثيرة المنصرمة كالدينية والمذهبية والقومية، وقد أشار إليها الدكتور فالح مهدي نفسه إلى مثل هذا الهيجان المنفلت. ولنتذكر الموقف من الكاتب البريطاني سلمان رشدي وكتابه الموسوم "آيات شيطانية" مثلاً.
إن هذا الوضع هو الذي قاد إلى أن يشعر عبد الناصر بالقوة والغرور وتصعيد الأحداث، ثم كان الانقلاب العسكري أو الانتفاضة العسكرية للضباط الأحرار في العراق التي تم التنسيق فيها مع الأحزاب المؤتلفة في اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني والتي دعمتها حركة جماهيرية واسعة دفعت باتجاه حركة ثورية وثورة لم تنتصر في المحصلة النهائية. وهنا لعب عبد الناصر والحركة القومية في العراق والدول العربية وليس سوريا، والأردن وغيرها/ دوراً تخريبياً مدمراً قاد إلى وأد ثورة 14 تموز 1958، وتميز جميع قادة مصر العربية وسوريا والقوى القومية والبعثية حينذاك بالرعونة الفعلية الموجهة لإقامة وحدة عربية لم تنضج ظروفها الذاتية والموضوعية لا حينذاك ولا الآن. وقد راجت تلك الأغنية في مصر حول الوحدة المصرية السورية والسعي للوحدة الثلاثية مع العراق والتي تقول:
وحدة ما يغلبها غلاب تباركها وحدة احباب
توصلنا من الباب للباب ولا حايل ما بين الاتنين
ولا مانع ما بين الاتنين ولا حاجز ما بين الاتنين
انا واقف فوق الاهرام وقدامى بساتين الشام
ثم تنتقل لتقول الأغنية:
اراضينا من هذا الجيل يرويها بردى والنيل
وفى قلبي من شوقي غليل ما يرويني غير النهرين
ما يرضيني غير النهرين ما يكفيني غير النهرين
ولست راغباً في التعمق بهذا البحث وما فعلته البرجوازية المصرية في سوريا، مما دفع عبد الناصر إلى اتخاذ الإجراء العقابي بتأميم الكثير جداً من المشاريع الاقتصادية للبرجوازية المصرية كانتقام منها والتي شرحتها بالتفصيل في اطروحتي للدكتوراه عام 1967 التي كانت تحت عنوان " طبيعة إجراءات التأميم في جمهورية مصر العربية" والتي بحثت في تلك الإجراءات ابتداءً من عام 1961 حتى نهاية عام 1964، والتي لعبت دوراً بيراً في إعاقة تطور مصر الاقتصادي كثيراً. وقد سعى القوميون الناصريون العرب في العراق إلى اتخاذ إجراءات تأميم مماثلة في عام 1964 شملت مشاريع صناعية وتجارية وبنوك لم يتجاوز الرأسمال المؤمم فيها عن 28 مليون دينار عراقي أساءت للقطاع الخاص والتطور الاقتصادي في العراق كثيراً ولم تحقق أي مكسب مناسب لقطاع الدولة أو للاقتصاد والشعب في العراق.   
انتهت الحلقة التاسعة وتليها الحلقة العاشرة               

124
كاظم حبيب
المرتزقة الأوباش يقتلون 30 سودانياً ويصيبون 400 آخرين بجراح
ما أن عاد حميدتي والبرهان من عند أسياد المجلس العسكري المؤقت في السعودية والإمارات ومصر، ما أن تسلموا الأوامر والنقود القذرة من السعودية والإمارات ليدفعوا بها رواتب المرتزقة ويملئوا بها جيوبهم، حتى أصدروا الأوامر لقوات الدعم السريع، المرتزقة بامتياز واللملوم من شذاذ الآفاق، ليوجهوا نيران بنادق القناصة من على سطوح البنايات وفي الشوارع إلى صدور وظهور الشباب السوداني الثائر، فقتلوا اكثر من 30 ثائراً وأكثر من 400 جريحا في سويعات قليلة، لم يجرأ حتى الدكتاتور المجرم، المعتقل برعاية وحماية المجلس العسكري، عمر البشير على ارتكاب مثل هذه الجريمة البشعة إلا بعدة شهور. لقد كشف هؤلاء القتلة الذين قاموا بانقلاب عسكري ضد البشير عن عقولهم الضالة وأهدافهم الدنيئة لينقذوا نظام العهر السياسي والفساد والخيانة من الانهيار التام تحت صرخات الشعب المدوية "أرحلوا.. ثم ارحلوا ثم ارحلوا أنتم وسيدكم البشير" ومن يقف معكم من وراء الحدود. لم تكن الفترة المنصرمة سوى المماطلة والتسويف لكسب الوقت من أجل تهيئة أوضاعهم للانقضاض على الشعب الثائر، على طلائعه المقدامة بذريعة ملاحقة بعض المنفلتين، في حين أن المنفلت من عقاله هو المجلس العسكري ومن وافق على توجيه الرصاص الحي إلى صدور أبناء وبنات الشعب الأبرار.
خسئتم أيها الجبناء بتآمركم على ثورة الشعب لقاء السحت الحرام، وباع بعضكم شرفه العسكري من أجل البقاء في المنصب البائس، في حين ستنزل عليكم جميعاً لعنة الشعب السوداني المقدام، الذي قدم التضحيات من أجل الخلاص من حكم العسكر الذي دام 30 عاماً ولم يحصد منه سوى الدم والدموع، سوى البؤس والفاقة ودمار الاقتصاد السوداني والحروب والموت في كل بقعة من أرض السودان. لقد كنتم السبب وراء انفصال الجنوب لأنهم ما كانوا يريدون الانفصال لولا إصراركم على تطبيق الشريعة الإسلامية على كل السودان، ولولا إصراركم على عدم منحهم حقوقهم المشروعة والعادلة ضمن الدولة السودانية الواحدة.
خسئتم أيها الجبناء برفضكم التفاوض، ثم وأنتم تقتلون الثوار بالرصاص الحي وتدعون في الوقت ذاته للتفاوض، وكأن السودانيين لا يعون لعبتكم القذرة ومحاولة ضحككم على ذقون دول العالم الذي احتج منذ اللحظة الأولى ضد جريمة يوم 03/06/2019، التي ستبقى لطخة عار في جبين من وافق على إصدار قرار القتل الجماعي في هذا اليوم العصيب.
لقد كان قرارا قيادة "قوى الحرية والتغيير" صائباً حين دعت إلى تطوير الحركة الجماهيرية والدعوة إلى العصيان المدني في كل أرجاء الجمهورية بعد أن نجح الإضراب العام الذي دعت له، إنه الأسلوب الناجح الذي سيكسر أنوف أولئك القابعين في المجلس العسكري ويصدرون الأوامر التهديدية والقتل. لقد أزهقتم أرواح الناس وقتلتم الكثير من البشر ورميتم بالكثير من الجثث في نهر النيل، إضافة لمن نقل إلى الطب العدلي، لقد سال دم الثوار في الشوارع ولن يهدأ هذا الدم ما لم يتسلم الثوار السلطة ويسقطوا المجلس العسكري. إن قرار مقاطعة المفاوضات مع مجلس القتلة صائب ولا بد من تقديم من أصدروا الأوامر إلى المحاكم لينالوا جزاء غدرهم بالشعب وبقضية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في السودان. إن فتح التحقيق من قبل النيابة العامة سيظهر بجلاء من أصدر الأوامر بإطلاق الرصاص الحي ضد الثوار لفض الاعتصام. وعلى إثر ذلك دعا تجمع المهنيين السودانيين، أمس الاثنين، عقب فض ميدان الاعتصام، إلى إعلان العصيان المدني الشامل لإسقاط المجلس العسكري الغادر والقاتل واستكمال الثورة.
إن المرحلة الراهنة تتطلب المزيد من وحدة قوى الحرية والتغيير، المزيد من التضامن والتكاتف، وكما قال شاعر عراقي:
وإذا تكاتفت الأكف فأي كف يقطعون
وإذا تعانقت الشعوب فأي درب يسلكون   
لتنتصر إرادة الشعب السوداني، ولتندحر إرادة المجلس العسكري المتآمر على ثورة شعب السودان           

125
كاظم حبيب
عادت حليمة إلى عادتها القديمة وبئس العودة!
اعتداء جديد على مقر الحزب الشيوعي العراقي في البصرة
في جنح الظلام تحركت الخفافيش لتمارس المزيد من العبث بأمن البصرة المستباحة باللصوص والقتلة من أبناء البلاد ومن الجارة إيران. لم يكتفوا بما فعلوه في وضح النهار في الناصرية والشطرة، حيث كشفوا عن وجههم الكالحة والغبرة، فراحوا يمارسون ذلك في الليل بأمل أن يضيع أثرهم، ولكن سيماء أعمالهم بوجوههم لا يخطئهم الشعب. لقد قذفوا برمانة قاتلة على مقر الحزب الشيوعي العراقي في مدينة البصرة، لم يصيبوا أحداً ولكنهم دمروا اثاثاً، وهم بذلك يسعون إلى جس النبض بأمل أن يمارسوا أفعالاً قذرة أخرى لاحقاً. فالدولة العراقية البائسة والهامشية تسكت عن ذلك ولا تواصل التحقيق أو لا تنتهي منه وإذا ما انتهت إلى موقف يجد طريقه على الإدراج المغلقة ويكتب عليه، ليس للتنفيذ أو الفاعل مجهول ... وهلمجرا. إن مسؤولية ما يحصل يتحمله المسؤولون في البصرة، كما قبل ذاك في الناصرية والشطرة، وتتحمله أجهزة الأمن العراقية المعروفة باختراقها من قبل المليشيات الطائفية المسلحة وجماعة الحشد الشعبي من أتباع المليشيات الطائفية المسلحة.
لقد يواصل الحزب الشيوعي الحملة الضرورية في جميع وسائل الإعلام بعد تعرض مقريه في الناصرية والشطرة بما يكفي من احتجاج، بل دعا كما يشير بعض الرفاق إلى التهدئة وعدم الانجرار للحملة في وسائل الاتصال الإلكترونية. وهذا خطأ جسيم إن صح ذلك. إذ إن مثل هذا الموقف هو الذي يشجع قوى الإرهاب على مواصلة أفعالها الدنيئة ضد مقرات الحزب الشيوعي العراقي.  أملي أن لا تتوقف الحملة هذه المرة كما في المرة السابقة، بل لا بد من المطالبة بالتحقيق ومعرفة الجناة وتقديمهم للمحاسبة القضائية، إذ بدون ذلك سيتشجع هؤلاء ويمارسوا انتهاكات جديدة ضد الحزب الشيوعي العراقي ومقراته وفاقه ومناصريه.
إنها جريمة جديدة لا يجوز السكوت عنها وتوجيه الاتهام للقوى الحاكمة أولاً وقبل كل شيء لأنها المسؤول عن حماية المجتمع وقواه وأحزابه السياسية ومنظمات المجتمع المدني. والحكومة هي التي لا تقوم بواجباتها الأمنية، وتمارس الصمت، والصمت يعني الرضى بما يقوم بهؤلاء الأوباش ضد الحزب الشيوعي العراقي.     

126
كاظم حبيب
نظرات في كتاب: "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة السابعة
العراق المعلول ونظام الحكم الملكي
في القسم الأول من كتاب الأستاذ الدكتور فالح مهدي "مقالة في السفالة" وتحت باب العنف يجد الباحث الكثير من العناوين التي حملت أفكاراً مهمة وجريئة تستحق المناقشة. وقد تسنى لي طرح بعض ما جاء في هذا القسم من عناوين والتعليق عليها، ولكن يصعب تناولها كلها، وأتمنى على غيري من الكتاب تناولها لأهميتها في وضع العراق الراهن الذي يتميز بالسفالة الفعلية وفي مختلف وقائع الحياة في العراق. وابتداءً من الحلقة السابعة سأتناول بعض عناوين القسم الثاني من هذا الكتاب والموسوم "العراق المعلول" وأمل أن أتناول بعض أفكار القسم الثالث الموسوم: لماذا وصلنا إلى هنا؟ ملاحظات وانطباعات.
يبدأ الدكتور في هذا القسم بإعطاء فكرة عن واقع العراق الجغرافي وتنوع مناطقه ودور الصحراء في تكوين المجتمع وتشكيلته الاجتماعية، ولاسيما واقع البداوة ومن ثم الفلاحة خلال الفترة التي سقط العراق تحت الاحتلال والحكم المغولي منذ العام 1258، ومن ثم الاحتلال والحكم العثماني البغيض حتى خسارة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى لمستعمراتها في الشرق الأوسط، ومنها العراق. قبل وخلال القرون الأربعة من الاحتلال العثماني لبلاد ما بين النهرين، لوادي الرافدين المعطاء، خسر العراق كل ما تحقق له في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، الثالث والرابع الهجريين من تطور حضاري وثقافي كبيرين. يكتب د. مهدي عن هذه الفترة: "إن المرحلة الممتدة من 1258 وإلى 1914 مثلت الموت السريري لهذا البلد والذي كان في القرون الوسطى وعبر مدينة بغداد يمثل أرقى ما توصل إليه الإنسان من رقي" (الكتاب، ص 120). (من المفيد هنا الاطلاع على الحضارة العباسية في عدد كبير من الكتب منها: كتاب الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري الموسوم "تاريخ العراق في الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/ ط 3، 1995)، وكتاب أحمد فريد رفاعي، عصر المأمون، جز1 و2، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997، وكتابي الدكتور شوقي ضيف الموسوم العصر العباسي الأول والعصر العباسي الثاني، ومئات الكتب الأخرى). لم يكن في مقدور المغول مهاجمة العراق واجتياحه واحتلاله لولا التدهور الكبير الذي حصل في داخل الإمبراطورية العباسية حينذاك، ولاسيما تدهور العلاقة بين الخليفة والرعية، وكذلك في تفكك المجتمع العباسي في قلب وعاصمة الدولة العباسية بغداد. ولكن العراق في ظل الاحتلال المغولي والدويلات القزمية التي نشأت ومن ثم الاحتلال العثماني غاص العراق، ولاسيما في الفترات الأخيرة من الحكم العثماني، في أعماق مستنقع التخلف الاجتماعي والجهل والأمية والفاقة والاستغلال الأكثر بشاعة للفلاحين الكادحين، والسلوك المتوحش للجندرمة العثمانية، إضافة إلى إثارة الحروب ضد القوميات الأخرى في الدولة العثمانية. لقد بلغ التخلف مداه العميق في كل مناحي الحياة بما في ذلك تخلف اللغة العربية وانحطاط الأدب والثقافة والفنون عموماً. وكان العراق عرضة فعلية لحمى العثمنة العنصرية والهيمنة العثمانية البغيضة لقرون خلت. كتب الدكتور فالح مهدي بصواب ما يلي: "العثمنة ألغت هذا البلد الذي كان له تاريخ مجيد ثقافياً وأصبحت بغداد والبصرة المدينتان اللتان وردتا في ألف ليلة وليلة من ضمن الماضي الذي مضى، فيذكرا كما تذكر أثينا أرسطو الإسكندر، وطروادة التي وردت في ملحمة هوميروس في الإلياذة". ((مهدي، الكتاب، ص 122). جاء في كتابي الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين، المجلد الثالث، ما يلي: " لم تتسم سياسة الدولة العثمانية بالطبيعة القرقوشية والخرافية والانفلات والظلم والبطش ونهب المجتمع وإفقار البلاد وتخلف البنية التحتية والخدمات حسب، بل اتسمت أيضا بعنصرية متوحشة وتعصب ديني شرس ومسعى مستمر لعملية تتريك قسرية للمجتمعين العربي والكُردي وفي آن واحد"، والتي شملت بقية القوميات أيضاً. (كاظم حبيب، لمحات من عراق القرن العشرين، المجلد الثالث، بداية الاحتلال البريطاني للعراق ونهاية الانتداب 1914 – 1932، العراق الملكي، الجزء الأول"، دار أرس، أربيل 2013، ص 6). ومن هنا يرى الدكتور مهدي بصواب إن نهاية الحرب العالمية الأولى واحتلال العراق من قبل القوات البريطانية فتحت نافذة لدخول رياح التغيير والحضارة الغربية على العراق. لقد كان العهد العثماني يلتهم الأخضر واليابس المنتج في العراق دون أن يشارك في بناء هذا البلد ليحقق المزيد من الربح له وتحسين أوضاع الناس، وهو استعمار قديم شرس يجسد مضمون الرؤية الإقطاعية في التهام كل الريع المتحقق في الزراعة دون المساهمة في تحقيق أي تراكم فعلي في الثروة الاجتماعية، وهذا بخلاف الاستعمار الحديث حينذاك، الذي يجد ضرورة في سبيل تحقيق مصالحه الاقتصادية أن يقوم بالتعمير ومد خطوط سكك الحديد والكهرباء والماء...إلخ. وقد كان ماركس قد انتبه لهذا الواقع وأشار إليها في تحليله للدور المزدوج لبريطانيا في الهند. إذ لا يمكن لبريطانيا أن تحقق استخراج النفط وتصديره وتحقيق أرباح هائلة منه، إضافة إلى عمليات تصنيعه وتصديره، دون أن تقيم انابيب نقل النفط والسكك الحديد والشوارع أو دون تعليم وتدريب العمال وتوفير سكن وخدمات أخرى...الخ. إنها عملية ذات جانبين متلازمين في مصلحة بريطانيا وفي مصلحة المجتمع، ولكنها تبقى نسبية ومقننة بالنسبة للجانب الثاني.
وهنا بودي أن أشير إلى مسألة أخرى لم يتطرق لها الدكتور فالح مهدي في هذا الكتاب، وأعني بها ثورة العشرين، التي كتب عنها د. محمد سلمان حسين ود. على الوردي وصدرت عنها عشرات الكتب، طرحتها في كتاباتي عن ثورة العشرين في العراق. وبتقديري إن هذه الثورة لم تكن ثورة وطنية ضد المستعمر البريطاني بشكل مجرد عن أي سبب أخر، بل إن قادة هذه الثورة من رجال الدين وشيوخ العشائر وبعض كبار الملاكين قد استهدفوا التصدي لرياح التغيير القادمة من الغرب الاستعماري من الغرب البريطاني الكافر، على الموقع الدينية والاجتماعية للقوى الدينية ولشيوخ العشائر وكبار ملاكي الأراضي الزراعية، وعلى العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في الريف العراقي، وعلى العلاقة الحميمة والمالية بين المرجعيات الدينية الشيعية وكبار ملاكي الأراضي الزراعية، كما أنهم حاولوا مهاجمة بريطانيا كدولة مستعمرة من الجانب الديني بشكل خاص، إذ جرى التركيز على إنها دولة كافرة، لأن سكانها يدينون بالديانة المسيحية دون أي اعتبار واحترام للمسيحيات والمسيحيين في العراق الذين يتبعون الديانة المسيحية بطوائفها العديدة أيضا.
كتب الدكتور مهدي بصواب عن الاحتلال البريطاني للعراق ما يلي: "... يُعد الاحتلال البريطاني للعراق في تقديري بداية دخول هذا البلد في حركة التاريخ وحيويته. الاحتلال البريطاني يمثل موضوعياً إعادة ولادة هذا البلد!". (الكتاب، ص 128). ثم يشير إلى مجموعة من الإصلاحات التي نفذها المستعمر البريطاني خلال فترة الانتداب (1918-1932) في العراق منها "في مجال العمران وبناء السدود والجسور، والمدارس والمستشفيات الخ، بما لم تقم به الإمبراطورية العثمانية خلال أربعة قرون". (الكتاب، ص 128). هذه الإشارة صحيحة ويمكن إضافة مسائل أخرى مهمة مثل وضع الدستور الديمقراطي العراقي الذي اقر عام 1925، وبداية تكوين نوادي ومنظمات المجتمع المدني في البصرة وبغداد والموصل والتي تأسست حينذاك بفعل وجود الجنود البريطانيين، ثم إدخال الكتب والمجلات إلى العراق عبر مكتبة مكنزي، وهي واحدة من أهم المسائل الحضارية التي دخلت مجتمعاً بالكاد قد دخل حضارة القرن العشرين. فقد كتبت كـتـبـت جـرتـرود بـيـل Gertrude Bell التي كـانـت تـعـمـل في سـكـرتـاريـة الـمـنـدوب الـسّـامي في بـغـداد، في 7 تـشـريـن الـثّـاني مـن عـام 1923 إلى زوجـة أبـيـهـا: "لـديـنـا هـنـا رجـل شـديـد الـهـمّـة اسـمـه مـكـنـزي Mackenzie أنـشـأ مـكـتـبـة مـمـتـازة ومـزدهـرة. وقـد كـان كـتـبـيـاً قـبـل الـحـرب ويـعـرف كـلّ شيء عـن الـكـتـب. ومـكـتـبـتـه مـن بـيـن أكـثـر مـا يـثـيـر الإعـجـاب في بـغـداد، ويـشـتـري الـكـلّ كـتـبـهـم فـيـهـا." (راجع: الدكتور صباح الناصري، مـكـتـبـة مـكـنـزي في بـغـداد، موقع مدونة الدكتور صباح الناصري، 29/05/2019). وعلى وفق المعلومات المتوفرة فقد أنشأ كينيث مكنزي (1880-1928م) هذه المكتبة في عام 1919 في القشلة ومن ثم توسعت بعد ذلك وكانت كتبها كلها بالإنكليزية. ، ولكنها ذات جانب واحد، أي حصول إصلاحات مارستها الإدارة البريطانية في العراق، ولكن الدكتور فالح مهدي لم يشر إلى الجانب الآخر، السلبي، من الاحتلال البريطاني للعراق. إن الإقرار السليم بهذا الجانب لا بد للباحث ان يطرح الجانب الثاني من الوجود الاستعماري في العراق. إذ إن هذا الجانب الإيجابي والمهم هو الذي كان يتميز به الاستعمار الأوروبي حينذاك عن الاستعمار العثماني القديم والبالي أولاً، كما أن الاستعمار البريطاني الحديث قائم على العلاقات الإنتاجية الرأسمالية التي تختلف كلية عن طبيعة العلاقات التي كانت تسود في الإمبراطورية العثمانية وفي مستعمرتها العراق ثانياً، وبالتالي فالرأسمالي لا بد له أن يستثمر رؤوس أمواله في مشاريع اقتصادية ليحقق منها أرباحه ثالثاً.
لم تكن البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي ولا مستوى الدخل للفرد الواحد ولا مستوى التطور الاقتصادي والوعي الاجتماعي حينذاك تسمح للبريطانيين أن ينجحوا في توظيف رؤوس أموالهم ويحققوا الأرباح الضرورية لهم دون أن يتخذوا مجموعة من الإجراءات الإصلاحية. إذ كان أمامهم العراق، بلد متخلف وعدد سكانه قليل لا يزيد عن 2،8 مليون نسمة قياساً لمساحته الكبيرة، وسوق ضعيف لتصريف السلع، إضافة إلى وجود النفط الخام، المادة الأولية الأساسية لإنتاج الطاقة والتي تدخل في إنتاج الكثير من السلع الصناعية الأخرى وذات الأهمية الفائقة في المنافسة الرأسمالية وفي الحروب. فكان لا بد من التحرك على العراق من جوانب عدة، فكانت الإصلاحات التي تحدث عنها الدكتور فالح مهدي. ولو تابعنا الطريقة التي تعاملت بها بريطانيا لأدركنا بان مصلحتها كانت السبب الأساسي وراء ما فعلته من إصلاحات. فلم يُقر الدستور العراقي إلا بعد أن وافقت الحكومة العراقية على منح امتياز النفط الخام ولمدة 75 سنة للكارتيل النفطي العالمي حينذاك، وبنصوص الاتفاقية التي أعدتها بريطانيا ولصالحها، وإقرار مبدئي للمعاهدة العسكرية والمالية التي بدأ البحث بها في العام 1924 وانتهى التوقيع عليها في العام 1930 حول الوجود العسكري البريطاني في العراق، إضافة إلى احتكار السوق العراقي للسلع البريطانية. من هنا بودي أن أشير إلى أن ما قامت به بريطانيا ليس حباً في سواد عيون العراقيات والعراقيين، بل بهدف الحصول على أرباح عالية من استخراج وتصدير النفط الخام ومن الأيدي العاملة الرخيصة ومن احتكار السوق العراقي لسلعها المستوردة من بريطانيا وضمان وجودها في العراق مئة عام أساساً. كما علينا أن نتبين مسألة أخرى سعت إليها بريطانيا في العراق. إنها سعت لوضع من هم معها مائة في المائة. ابتداءً من عبد الرحمن الگيلاني ومروراً بالأمير فيصل الأول وبالمجموعة العسكرية التي تربت في المدارس العسكرية العثمانية وتعلمت على عقيدتها ومارست تلك العقيدة في العراق أيضاً وبروح قومية ومذهبية تعصبية. لم يكن عبد الرحمن الگيلاني وحده خادماً مطيعاً لبريطانيا بل آخرين ايضاً من ساسة العراق الذين كانوا ضباطاً عثمانيين ضمن قوات الشريف حسين، شريف مكة، في حين حوربت القوى الوطنية التي كانت في الحزب الوطني أمثال محمد جعفر أبو التمن، أو جماعة الأهالي أمثال كامل الجادرجي ومحمد حديد، وهم من الفئات المتوسطة والمثقفة في المجتمع، وجماعة الإصلاح الشعبي وبينهم عبد الفتاح إبراهيم وبقية جماعة الأهالي. ومنذ البدء حدد الدستور البريطاني هوية الدولة خطأً بالدول الإسلامية وفرض المذهب السني عليها، في حين إن الدولة لا دين لها، باعتبارها شخصية معنية، كما لا مذهب لها أيضاً، مما دعا خطأ شيوخ الدين الشيعة إلى دعوة أتباع المذهب الشيعي إلى مقاطعة وظائف الدولة، ولو لفترة.
هكذا وبشكل مكثف جداً كان الوضع في فترة الانتداب البريطاني على العراق. لم تكن تقام حكومة في بغداد ما لم يوافق عليها السفير البريطاني ببغداد، وبتعبير أدق لا بد من موافقة وتأييد وزارة المستعمرات في لندن. وقد كتب الرصافي يقول:
المستشار هو الضي شرب الطلا        فعلام يا هذا الوزير تعربد
أو في قصيدة أخرى
أو علم ودستور ومجلس أمة    كل عن المعنى الصحيح محرف
أكرر هنا رأيي بأن الاستعمار البريطاني قد أدخل العراق، شاء أم أبى، في عصرٍ جديدٍ، وهو مكسب كبير، ولكن لم يحصل هذا لأنه كان يسعى إلى ذلك حباً بالعراقيات والعراقيين، بل لأن مصلحة الرأسمال البريطاني والوجود البريطاني في العراق كانت تتطلب ذلك موضوعياً، في حين لم يكن هذا التفكير موجوداً لدى السلاطين وحكامهم أصلاً، فالرعية واجبها ان تخدم السلطان والخليفة والوالي، وليس العكس. في تناول هذين الجانبين يكون تشخيص دور بريطانيا في العراق اكثر وضوحاً ودقة، كما أرى.
انتهت الحلقة السابعة وتليها الحلقة الثامنة.
 
   
   


             
               


127
كاظم حبيب

عوني كرومي: خسارة فادحة للإنسان والمسرح 


في السابع والعشرين من شهر أيار/مايو 2019 تمر الذكرى السنوية الرابعة عشرة على رحيل الفنان المسرحي الكبير والكاتب العراقي عوني كرومي (1945-2005م) حين توقف نبض الحياة المشع والمشرق في قلب هذا الفنان الذي كرس حياته لفن المسرح. وكانت وفاته المبكرة خسارة فادحة للجالية العراقية والعربية في برلين وألمانيا، وخسارة فادحة لعائلته الفاضلة وللأخت العزيزة أم حيدر وشبيبتهما، كما إنها خسارة فادحة لا تعوض للشعب العراقي.
ولد عوني كرومي في عام 1945 في مدينة الموصل وفي محلة أغلب ساكنيها من اليسار العراقي، وكان أحد مناضلي اليسار البارزين في مجال اختصاصه وأعماله الفنية. تميز بالحيوية والنشاط والتواضع ودماثة الخلق الرفيع، كان إنساناً ثورياً في فكره ومسالماً في سلوكه وعلاقاته مع كل الناس، لا يعرف الحقد والكراهية والتمييز، متمرداً على التقاليد البالية في أعماله الفنية وعلى خشبة المسرح مقتنعاً بأن: "وظيفة المسرح تجعل الانسان يفكر بكينونته كي يمتلك القدرة على الحوار من أجل الوصول الى الحقيقة بالاقتناع ويتخذ موقفا مما يعرف فيتحول الى طاقة إبداعية مفكرة.. منتجة.. " من هنا فأنه وجد في مسرح بريشت ومنهجه وظيفته التنويرية التي تبدأ بعملية التغريب في النص وعلى خشبة المسرح، وكسر الايهام بالواقع عند جمهور المشاهدين كخطوة ضرورة أولى تساعد في ممارسة النقد والتغيير. ويلخص الناقد علوان السلمان دور عوني كرومي المسرحي في دراسته" تأملات على جبين المسرح: "لقد حاول (كرومي) تطبيق أفكاره في الكتابة والاخراج والتمثيل.. فكان يعتبر كل جزء مستقلا بذاته ويمثل لذاته.. لذا كانت تجربته فذة غنية تحاول التوفيق بين الشكل والمضمون الاجتماعي.. وبهذا أصبح من المشاركين في تشكيل رؤية صحيحة لفكرة المسرح وشكله.. على أن تخدم هذه الرؤية في التعبير احتياجات الانسان المعاصر.. فأعماله التي يختارها كانت للإنسان ومن الانسان.. فهي ذاته وقلقه ووجوده وطموحه وما يدور في ذهنه من أسئلة.. ورائعته (غاليلو غاليلي) تقدم خلاصة وعيه ورؤاه.. اذ الصراع بين قوة السلطة وحقيقة العالم ..
وكتب د. عوني كرومي بدوره:" إن حركة التمرد بها بداية، ولكن ليس لها نهاية، تظهر عندما تبرز أسماء المبدعين المدافعين عن حالة التمرد والثورة. لأن التمرد يطمح إلى التغيير وإعادة التكوين ويأخذ شكله من الزمن الذي يظهر فيه والمكان والمجتمع لأن التمرد على الأشكال والمضامين نسبي. ففي بلد ما يعتبر ما هو تمرد على الأشكال في بلد أخر يعتبر هذا الفعل أو الشكل مستهلكاً وتم تجاوزه. لأن المسرحيات الأكثر تمرداً هي التي تُسائل مفاهيم سائدة، وبهذا تثير السخط من المحافظين والتقليديين وتتهم بالانحطاط والابتذال وعدم الفهم... كما إنها تهدد قيم المجتمع السائد لأنها تتصدى للأزمات العميقة وتقترب من المحرمات". (راجع: د. عوني كرومي، كتاب المسرح الحديث والتمرد على التقاليد "هاينر ملر نموذجاً" في كتاب صادر لمجموعة من الكتاب من أصدقاء عوني كرومي.. اختيار ومراجعة الدكتور نزار محمود، إصدار المعهد الثقافي العربي، منظمة غير حكومية، برلين، 2007، ص 8).         
كان د. عوني كرومي صديقاً محباً لأصدقائه ومعارفه يناضل دوما ضد الكراهية والحقد والتمييز ضد الآخر ولاسيما ضد المرأة، ولهذا أحبه الجميع أيضاً ومن مختلف الاتجاهات الفكرية، فيما عدا أولئك الذين حرموه من البقاء في العراق وأجبروه عملياً على مغادرة البلاد إلى عمان ومنها اللجوء إلى ألمانيا والإقامة فيها. وفي ألمانيا قدم أوراقه للحصول على الإقامة في برلين فاستعان في حينها بمنظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية/ ألمانيا (أمراس) لتسريع إنجاز قبوله لاجئاً سياسياً ومنحه الإقامة مع عائلته في ألمانيا. وفي حينها كتبت له تلك الرسالة بكل ممنونية واعتزاز إلى المسؤولين الألمان باعتباري أميناً عاماً لهذه المنظمة حينذاك. وقد أشرت فيها إلى مكانة هذا الفنان الكبير في العراق وإلى أجواء الاضطهاد التي عاشها في ظل حكم البعث الدكتاتوري البغيض، ولاسيما في الفترات الأخيرة وتحت وطأة الحروب والحصار التي عانى منها الشعب العراقي، ومنهم الفنان عوني كرومي. ولم تطل فترة الانتظار فقد منح الإقامة الدائمة في ألمانيا. وكان هذا محل ارتياح جميع العراقيين والعرب، إذ كسب العراقيون والعرب إنساناً مثقفاً ومسرحياً مبدعاً قادراً على تحريك الأجواء الثقافية، ولاسيما المسرحية، في برلين وألمانيا وقد حصل ما توقعوه فعلاً.
في أحد أعوام وجود الدكتور عوني كرومي في برلين زاره الفنان المسرحي الكبير خليل شوقي في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، فالتقينا سوية وتناولنا الحديث عن العراق، وكان همنا المشترك، واقع المسرح العراقي حينذاك والمشكلات التي تواجه من تبقى منهم في العراق وسبل تقديم العون لهم. كان اللقاء وتناول الغداء في مطعم على مقربة من مسرح برتولد بريشت "برلينر إنسامبل" (فرقة برلين)Berliner Ensemble ) وفي الساحة التي هي باسم هذا الفنان الألماني التقدمي الكبير التقطنا بعض الصور التذكارية التي أوصلتها للصديقين الكبيرين اللذين فقدناهما واحداً بعد الآخر وفي الغربة القاحلة نفسياً. كما فقدنا الفنان الرائع والممثل المسرحي المعروف منذر حلمي (أبو سلام) في برلين أيضاً. اعتقد جازماً بأن الهم العراقي وهم المسرح العراقي كانا ضاغطين بقوة هائلة على عقل وقلب هؤلاء الفنانين الكبار في قلوبهم وعقولهم وأعمالهم، ومنهم العزيز الغالي عوني كرومي.
درس عوني كرومي التمثيل والإخراج المسرحي في معهد الفنون الجميلة ببغداد وتخرج فيها عام 1965، ثم واصل دراسته المسرحية في أكاديمية الفنون ببغداد وتخرج فيها عام 1969. حصل على زمالة دراسية في جمهورية المانيا الديمقراطية ودرس في معهد العلوم المسرحية في جامعة هومبولت في برلين وحاز على درجة الماجستير في العلوم المسرحية عام 1972، ثم واصل دراسته في نفس الجامعة وحاز على درجة الدكتوراه دولة في عام 1976. بعدها عاد إلى العراق ليعمل استاذاً في بعض الجامعات العراقية وليساهم في تقديم الكثير من الأعمال الفنية وخاصة على خشبة مسرح الستين كرسي. وقد اعتبر هذا المسرح مختبراً لأعماله المسرحية الحديثة.     
قدم عوني كرومي الكثير من المسرحيات على خشبة المسرح العراقي وفي الدول العربية وألمانيا، ومنها برلين. وكان شعلة وضاءة لم نكن نعتقد أننا سنفقدها بهذه السرعة وبشكل مفاجئ رغم علمنا بما كان يعانيه من علة في القلب. لم يمنح قلبه الراحة ولا عقله الهدوء والسكينة. كان همه الكبير هو العراق الذي حرم من البقاء فيه وتقديم أعماله المسرحية على خشبات مسارحها. حين حاوره عبد الرزاق الربيعي أثناء وجوده في مسقط أجابه عن الموت قائلاً "الموت لا يخيفني ومتى يأتي أهلاً به، لأنني ألعب في الوقت الضائع ويبقى الموت الصدمة الإنسانية التي تهزني لأن موت الآخرين بالصدفة أو بأسباب لا معقولة إن كانت حروباً أو أوبئة أو خلالاً في البيئة أو استعمال أسلحة دمار يقلقني ويهزني ولهذا أمل أن يقوم المسرح بتعرية هذا سأكون دائماً مع الفريق الخاسر في أي حرب لأنه هو الفريق الأكثر دماراً وسأبقى ضد أي منتصر لأن انتصاره ما هو إلا مزيد من تراكم رأس المال وأن وراء كل حرب دوافع اقتصادية قبل أي شيء آخر ولدي قناعة أن البشر يمكن أن يتعايشوا وأدجلة الحروب بأي شكل لا أبررها حتى حروب التحرر الوطني أدينها لأنها تقتل الإنسان فإذا استطعنا أن نقف ضد العنف بجميع اشكاله سنستطيع أن نقف مع إنسانيتنا". (عبد الرزاق الربيعي، حاوره في مسقط، الموت لا يخيفني ومتى يأتي أهلاً به لأنني ألعب في الوقت الضائع، المصدر السابق نفسه، ص 44). 
ويذكر يوسف العاني: كان د. عوني، الذي رفد المسرح بعدد كبير من المسرحيات باللغات العربية والكوردية والالمانية وشكل حضوراً أكاديمياً رفيع المستوى، يبحث عن الاصالة في الابداع مع معرفة شاملة لعلم وفن المسرح ولا سيما مسرح بريشت الذي كان مدرسته الرصينة التي تعلمها ومارسها نظرية وتطبيقا. عوني.. بعد تلك التجربة بقيت اتابعه باعتزاز عبر سنوات ليست قليلة وهو يتنقل من بلد لأخر.. لألتقي به في مهرجانات ومؤتمرات كثيرة حتى لا يكاد مؤتمر او مهرجان يخلو منه وهو ذاك الانسان والفنان المبتسم والضاحك رغم الالم يصافح هذا ويسلم على تلك ليجدد صداقات كانت.. ويفتح صداقات جديدة اخرى. من اجل ان يتسع به عالم المسرح الذي صار فيه رمزا من رموزه الشريفة والامينة".
من أهم المسرحيات التي قدمها الفقيد الغالي: فطور الساعة الثامنة، في منطقة الخطر، كاليكولا، غاليلو غاليلي، كريولان، مأساة تموز، القائل نعم والقائل لا، تداخلات الفرح والحزن، فوق رصيف الرفض، الغائب، حكاية لأطفالنا الأعزاء، كشخة ونفخة، الإنسان الطيب، صراخ الصمت الأخرس، ترنيمة الكرسي الهزاز، بير وشناشيل، المحفظة، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، عند الصلب، في المحطة، الشريط الأخير، المساء الأخير، الطائر الأزرق، أنتيجونا، فاطمة، السيد والعبد.
إن فقدانه المبكر قاد الى برنامج من أعمال مسرحية لم تنجز وكثرة من كتبه المؤلفة لم تنشر.       
لتبقى ذكراه خالدة في قلوب عائلته ومحبيه وكل من عرف وعمل مع هذا الفنان الكبير: عوني كرومي. 
ملاحظة: عرضت المادة على الصديقين قيس الزبيدي ويحيى علوان ساهما بإضافات وملاحظات مهمة، فشكراً لهما.
كاظم حبيب 

128
كاظم حبيب
نظرات في كتاب "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الخامسة
الإبادة الجماعية: الأيديولوجيا، الدين والنظم التي تمارسه
كتب الدكتور فالح مهدي بصواب "عبر التاريخ المكتوب، أي منذ صعود السومريون شهدت الإنسانية عدداً هائلاً من الإبادات الجماعية. لم نقرأ ذلك العنف عند السومريين بالذات ولا عند المصريين القدماء، إنما وجدنا أثاراً جلية في العهد القديم وفي الإسلام، عند القبائل الرحل الأتراك والبدو على سبيل المثال، في العصور الوسطى، في الغرب، الإغريق، الرومان يقدمون لنا وعبر ما تركوه صوراً عن قتل وتدمير ونسف الآخر المختلف عنهم". (الكتاب، ص 35،) ثم يشير في مكان آخر إلى "إن الإبادات الجماعية، والتي هي إحدى ركائز هذا البحث، هي الموضوع الأساسي في كل الإبادات". (الكتاب، ص 28). فماذا تعني الإبادة الجماعية في اللوائح والاتفاقيات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان؟ تشير "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" في المادة الثانية منها إلى أركان الإبادة الجماعية بما يلي: "المــادة الثانية: في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى." أما المادة الثالثة: يعاقب على الأفعال التالية: (أ) الإبادة الجماعية. (ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية. (ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية. (د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية. (هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية." (راجع: موقع اللجنة الدولية للصيب الأحمر، اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها). إن إيراد هذا النص القانوني يمنحنا القدرة على تشخيص حجم الأفعال التي تدخل في نطاق جرائم الإبادة الجماعية من جهة، وحجم الجرائم التي ارتكبت وتقع ضمن مفهوم الإبادة الجماعية في عالمنا القديم والمعاصر من جهة ثانية، والتي تستوجب من الباحثين، كما هو حاصل في كتاب الدكتور فالح مهدي، التحري عن مختلف العوامل الكامنة وراء ممارسة مثل هذه الأفعال الأبشع سفالة في العالم، إذ استخرج وشخص بالتحليل تلك العوامل الفاعلة عبر تاريخ العنف الإجرامي. يصاب الإنسان بالغثيان وهو يقرأ في هذا الكتاب ما نُسب إلى أگاممنون من قول مرعب: "ينسب هومير هذا الكلام إلى أگاممنون، عندما توجه بكلامه إلى مينالاس فيما يتعلق بطروادة "على ألَّا ينجو أحد من قبضتنا، إلى المصير، حتى الأطفال الذين في بطون أمهاتهم، حتى من أراد الهرب. بتكاتفنا سنقوم بإبادة الطرواديين عن بكرة أبيهم، دون علاج، دون إسعاف، ولا قبور تليق بالموتى". (مهدي، الكتاب، ص 35). هذا النوع من العف العدواني هو قمة السفالة عند أي إنسان يمارس ذلك. وفي عالمنا الراهن يعاد إنتاج السافلين وبأعداد كبيرة بسبب استمرار العوامل الفاعلة التي أنتجت للمرة الأولى أوضاعاً سافلة ومعهم سفلة يمارسون ذلك.     
لقد شاركت الكثير من العوامل، وماتزال، في ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولكن أكثرها حضوراً تقترن بالدين والعنف المقدس والأيديولوجيا المتبناة من نظم سياسية أو حتى خارج تلك الأطر، رغم إن الأيديولوجيا كمصطلح لا تعبر بالضرورة وبذاتها عن احتمال ممارسة الإبادة الجماعية بسببها، لأنها ليست سوى مصطلحاً يعبر عن الفكر، والمشكلة تبرز في جانبين هما: 1) مضمون تلك الأيديولوجيا أو الفكر، و2) الحامل والمنفذ لتكل الأيديولوجيا، الذي يمكن أن يكون شخصاً أم جماعة أم حزباً سياسياً أو حكومة أو فئة اجتماعية. وليس بالضرورة أن تكون مضامين الفكر همجية، بل يمكن أن تكون إنسانية، ولكن حاملها سافل همجي النزعةً أو أكثر. ويمكن أن تمارس تلك الجرائم بتظافر الجانبين ومع أكثر من شخص أو حزب أو فئة تمارس ذلك. والدين والأيديولوجيا الشمولية أو الفكر الشمولي عبر عنها الزميل فالح مهدي بدقة حين وضعها في نطاق العقل الدائري، الحيز الدائري أو المغلق عملياً.     
منذ أن خَلَقَ الإنسان الدينَ والعقائد الدينية لأول مرة لم يلعب العنف دوراً مميزاً وملموساً فيها، وحامل الدين تميز بروح التسامح، كما يلاحظ ذلك في الديانة الهندوسية والكثير من الديانات غير التبشيرية. وفي تاريخ العراق القديم كانت التناقضات والصراعات على الأرض وبين البشر تجد تعبيرها في أساطير تتحدث عن صراعات الآلهة في العالم العلوي والعالم السفلي. وحين كانت تحص الحروب في مناطق مختلفة من بلاد ما بين النهرين بسبب الأرض والماء والكلأ، ويتم الاستيلاء والتوسع على ساب الآخرين، كان المحتل الجديد يمكن أن يتخذ من آلهة الشعب المُحتل آلهة له أيضاً كما حصل مع الإله مردوخ. إلا إن هذا الاتجاه في التسامح غاب عن الحروب الت خاضها البابليون في مناطق بعيدة، كما أشرنا إلى ذلك في حلقة سابقة عن الحروب البابلية ضد اليهود في مدن السامرة ويهودا وغيرهما. إلا أن الديانات الإبراهيمية الثلاثة هي التي تميزت بالعنف الذي ارتقى إلى مستوى الإبادات الجماعية. ونجد ذلك في النصوص الدينية الواردة في العهد القديم (التوراة)، وفي المسيحية (عبر الممارسات السلطوية الدينية في القرون الوسطى وفي المناطق المحتلة في أفريقيا وأمريكا وحتى آسيا)، ولكن ليس في النصوص الإنجيلية، وفي القرآن منذ بدء استعمار مناطق خارج الجزيرة العربية حيث ظهر النبي محمد والإسلام، والتي أُطلق عليها بالفتح الإسلامي. وقد أورد الزميل فالح نصوصاً من التوراة تؤكد هذه الوجهة في الديانة اليهودية، كما وارد في الصفحة 37 من الكتاب، إذ يقول: "يحتوي العهد القديم على صفحات دموية تميط اللثام ودون مواربة عن عملية تدمير الآخر المختلف. نجد ذلك ومنذ الصفحات الأولى من سفر الاعداد وهو أحد الكتب الخمسة الأساسية في العقيدة اليهودية، إذ تجد رب موسى يحثه على إقصاء اللاويين". (مهدي، الكتاب، ص 36/37). أما بصدد المسيحية فقد كتب يقول: "المسيحية أخذت منحى أخر، فظهور القديس بطرس وتأثره بالثقافة اليونانية باعتباره مواطن روماني، أدى إلى الحد من مفاهيم العنف في العهد الجديد. رب المسيحيين وقبل كل شيء إله طيب لا ينزع لفعل الشر على العكس من ياهو العبري والذي يمكنه وفي يوم واحد القضاء على ملايين الأرواح". (المصدر السابق، ص 38). وعلينا هنا أن نشير إن التداخل بين الدين المسيحي والدولة في القرون الوسطى قد سمح في ارتكاب المذابح ايضاً أو في استعباد وقتل البشر في المستعمرات لأنهم عراة أو حتى الصراعات ما بين الطوائف المسيحية.   
وبصدد الإسلام فأن قرآن المسلمين يمارس العنف المفرط على من يطلق عليهم بالكفار أو المشركين، كما هو وارد في سورة التوبة والتي أشار إليها الكاتب على الصفحة 38 من الكتاب. ولكن القرآن فيه الكثير من الآيات ألت تدعو إلى استخدام العنف ضد أصحاب الدين الآخر. وبعضها يتسم برؤية سادية مرضية تعبر عن حكم جماعي في القرآن إزاء كل كافر او مشرك أو مخطئ. فعند قراءة القرآن سيجد الإنسان أمامه ثلاث صيغ من العقوبات التي تعبر عن أساليب في التعذيب الفردي والجماعي التي يفترض أن يمارسها ملائكة الله ضد المخطئين من البشر يوم الحشر أو القيامة عند تقديم الحساب أمام الله، والتي أخذ حكام المسلمين، ومن يؤمن بها، ممارستها ضد "الكفار والمشركين والمخطئين" في الحياة الدنيا. إن مجرد تصور هذه العقوبات وسبل ممارستها بحد ذاته يصيب الإنسان بالذهول والدوار الشديدين، إذ إنها فوق طاقة تحمل الإنسان وتتضمن مزاجاً سادياً مريعاً. وهذه الأشكال الثلاثة تتلخص فيما يلي:
1)   العقوبات الجماعية التي أصابت شعوباً وجماعات بشرية بكاملها مع دمار المدن وغيرها، التي يطلق عليها بالمهابدة. ويمكن هنا إيراد الكثير من الأمثلة، إضافة لما أورده الدكتور فالح مهدي، بما فيها ما ورد في سورة الفيل " ألم تَرَ كيفَ فعل ربك بأصحاب الفيل* ألم يجعل كيدهم في تضليل* وأرسل عليهم طيراً أبابيل* ترميهم بحجارة من سجيل* فجعلهم كعصف مأكول*" (القرآن، دار الجيل، بيروت، سورة الفيل، مكية، ترتيبها 105، 5 آيات، ص 601). أو كما جاء في سورة الحجر قوله: "… * فجعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل* إن في ذلك لآيات للمتوسمين* …فانتقمنا منهم وإنهما لَبإمام مبين* (القرآن. سورة الحجر. مكية. ترتيبها 15. آياتها 99. ص 266). 
2)   العقوبات الفردية الموجهة ضد الإنسان لذنب اقترفه، التي تقود، بسبب طبيعتها وأسلوب ممارستها، إلى تشوه الإنسان والحط من قدره وكرامته بين الناس. وهي في إطار العقوبات الزاجرة التي يراد منها أيضا منع الآخرين من ارتكاب مخالفات أو ذنوب أو جرائم مماثلة، ومنها فرض الإقامة الجبرية على المرأة التي ثبت زناها في دار زوجها حتى وفاتها، وعقوبة الجلد وقطع اليد أو القتل، مثل قطع الرأس والرجم بالحجارة، وما إلى ذلك. ورد في الآية 33 من سورة المائدة قوله: " … * إنما جزآؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم*" ( القرآن، سورة المائدة، مدنية، ترتيبها 5، آياتها 120، آية 33، ص 113)، أو في قوله في نفس السورة بحق مرتكبي السرقة: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءَ بما كَسَبَا نَكَلا من الله والله عزيز حكيم *" (المصدر السابق نفسه. آية رقم 38. ص 114). وهي، كما ترد في القرآن ذاته، عملية تنكيل بالإنسان المقترف للخطيئة.   
3) العقوبات الواردة في القرآن التي يهدد بها الإنسان ويقرر ممارستها ضده بعد وفاته في الآخرة إن ارتكب ما لا يجوز القيام به في الحياة الدنيا، أو بسبب عدم إيمانه بالله ورسوله ويوم الآخرة. وهي عقوبات يراد منها الردع والتحذير بهدف إبعاد الإنسان عن ارتكاب الخطايا والذنوب، وهي ذات رؤية سادية مرضية: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ" (سورة النساء، الآية (56. (قارن: كاظم حبيب، التعذيب في الإسلام: العهد العباسي نموذجاً، مجلة العقلاني، تصدر عن مركز الدراسات النقدية للأديان، العدد 3، يوليو 2015، لندن، ص 43/44).
ويمكن إيراد آلاف الأمثلة على ممارسه الخلفاء والولاة والقضاة في العهود الإسلامية المنصرمة ضد أتباع الديانات الأخرى أو ضد المخالفين لهم أو ضد المسلمين أنفسهم وفيما بينهم ذد هذا المذاهب أو ذاك.
ولكن لم تكن الأديان الإبراهيمية وحدها وراء الكثير من صيغ الإبادة الجماعية، بل يمكن أن نتابع ذلك في الأيديولوجية النازية القائمة على العنصرية أو العرقية وما فعله النازيون ابتداءً بالشيوعيين، ومن ثم بالاشتراكيين في ألمانيا، ومن ثم باليهود والسنِتّي والروما وبالسلافيين من عمليات قتل جماعية وحرق بالغاز في معسكرات الاعتقال النازية. وسيبقى الناس يتذكرون بالم شديد ما أطلق عليه بـ "الهولوكوست"، أي كارثة الإبادة الجماعية ضد اليهود في ألمانيا وفي أنحاء أخرى من أوروبا والتي بلغ عدد ضحاياها من القتلى فقط ستة ملايين أنسان. (كاظم حبيب، هل لعقلاء العرب والمسلمين من مصلحة في نفي الهولوكوست ومحارق النازيين ضد اليهود في أوروبا؟ الحوار المتمدن، العدد 4361، شباط/فبراير 2014).
كما لا يمكن نسيان ما فعله الدكتاتور جوزيف ستالين، باسم الدفاع عن الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، بعدد هائل من أبناء وبنات الدولة السوفييتية ومن مختلف القوميات في الثلاثينيات من القرن العشرين أثناء الحرب العالمية الثانية بدعوى التجسس أو المخالفة، وما بعدها. إن المعلومات تشير إلى مئات الآلاف من الضحايا البريئة. إن ما فعله ستالين لم تعترض عليه قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ولا الدولة السوفييتية، بل كان الكثير من قادة وكوادر الحزب وأجهزة الأمن والشرطة والقوات المسلحة عموماً الأداة الطيعة التي نفذت تلك الجرائم، والتي تعتبر جرائم إبادة جماعية، تتناقض كلية مع مضمون وجوهر الفكر الاشتراكي، وليس الممارسات التي نفذت باسم الاشتراكية، إذ إن ستالين أقام في واقع الحال دولة شمولية لم تتخلص منها الشعوب السوفييتية حتى بعد موت ستالين، مما أدى إلى نهاية تلك الدولة وتفسخها بالأساس من الداخل. كتب الزميل الدكتور فالح مهدي بهذا الصدد ما يلي: الفترة الإرهابية الستالينية خلال سنوات الثلاثينيات من القرن المنصرم أدت إلى إبادة الملايين، كما أن ذلك النظام أدى إلى موت ملايين الأوكرانيين جوعاً". (مهدي، الكتاب ص 26). والمقصود هنا المجاعة التي أصابت مناطق شاسعة من الاتحاد السوفييتي أثناء فرض إقامة االسوفخوزات والكولخوزات والتي رفضتها الأكثرية الفلاحية، ولاسيما الكولاك، أو كبار الفلاحين، والتي تسببت في تراجع إنتاج الحبوب في مناطق مثل أوكرانيا وشمال القوقاز والفولغا وكازاخستان.
وإذا أخذنا ما ورد في القرآن وما حصل في العهود الإسلامية المنصرمة، يمكننا أن نفهم بوضوح كبير ظهور حركات سياسية متطرفة وعدوانية تحاول تطبيق ما تعتقد به على وفق موقف القرآن من أتباع الديانات الأخرى، بل حتى أتباع الدين الإسلامي من مذاهب أخرى غير المذهب الوهابي الذي تبنته تنظيمات القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). فهذه التنظيمات شنت حرباً شعواء إجرامية ضد المسلمين من أتباع الديانات الأخرى وضد أتباع الديانة المسيحية وضد الإيزيديين وضد الشيعة، والشبك والتركمان الشيعة. وهي التي تسنى لها اجتياح العراق من بوابة الموصل ومحافظة نينوى في زل حكم طائفي مقيت قائم في العراق. مارست فيه خلال سنتين أبشع المجازر التي تعتبر ضمن جرائم الإبادة الجماعية، ولاسيما ضد الإيزيديين فاستباحوا المدن وهتكوا الأعراض وقتلوا المزيد من البشر وفرضوا على المسيحيين الجزية أو الهجرة أو القتل، وتسببوا في هجرة مئات الآلاف من مناطق سكناهم. إنها جريمة يصعب تصورها في القرن الحادي والعشرين. ولا بد من إدراك حقيقة أخرى هي أن المسؤولين في جامع الأزهر في القاهرة رفضوا إدانة هذه المجموعة التكفيرية لأنها تنفذ ما ورد في القرآن إزاء من يطلق عليهم بالكافرين أو المشركين! وتشير المعلومات إلى أن دولاً عديدة وقوى سياسية وحكومات وشخصيات وشركان في العالم العربي وخارجه كانت، وربما ماتزال، تقف داعمة هذه العصابات الدموية بالمال والمعلومات والمقاتلين الأوباش     
انتهت الحلقة الخامسة وتليها الحلقة السادسة.

129
كاظم حبيب
نظرات في كتاب "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الرابعة
تاريخ العنف العدواني وطبيعته البشرية
"استعمال العنف يترك أثرا في الوجه لا تخطئه العين"
الطيب صالح، كاتب من السودان (1929-2009م)
في باب العنف العدواني يطرح الكاتب 23 عنواناً فرعياً للعنف يتصدرها عنف الإبادة الجماعية. ولا شك ف يأن كل عنوان منها يصلح أن يكون عنوناً لبحوث عميقة وموسعة وتصدر في كتب. فعلى سبيل المثال لا الحصر نشير إلى مجموعة من هذه العناوين المهمة وذات الأهمية الفائقة، منها: العدوانية الحيوانية وخصائصها، الهويات الاجتماعية، الهوية والدين، الدوائر الهوياتية، العنف في المنظور الماركسي، العنف فلسفياً، العنف والتحليل النفسي، سوسيولوجيا العنف، الإنسان كحيوان سافل، غموض مفهوم الضمير، التجربة النازية، ومفهوم الإيثار وعدم الأنانية. يضاف إلى ذلك أكثر من عنوان للإبادات الجماعية التي عانت منها البشرية، ومنها التجربة النازية والإبادة الراوندية، التي تعرضت لها قبائل التوتسي في رواندا والتي "تعتبر الأسرع والأكثر فاعلية في تاريخ الإبادات البشرية"، وقبل ذاك إبادة الأرمن بتركيا العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، والإبادة البعثية الصدامية ضد الكرد في عام 1988 ...الخ. وبهذا يقدم الدكتور فالح مهدي أوسع فرشة للعنف البشري من جهة، وأكثر تكثيفاً وتركيزاً في عرض وتحليل وبلورة الآراء حول هذه الموضوعات الأساسية من جهة ثانية. وإذ لم يكن سهلاً على الكاتب مثل هذا التكثيف والتركيز قطعاً لكثرة المادة التي لديه والكتب التي تبحث فيها، فهو ليس يسيراً على من ينبري لهذا الكتاب المهم بكل تواضع ليتناول بعض هذه العناوين الفرعية بالتعليق والتحليل وإبداء الرأي، إذ أن الخوض بكل ما جاء في الكتاب يعني تأليف كتاب جديد عن العنف البشري اعتماداً على كتاب الزميل الفاضل فالح مهدي، وهو أمر غير ممكن، علماً بأن هذا الباب الموسوم "قراءة في العنف" هو المدخل النظري - التطبيقي للباب الثاني الموسوم "العراق المعلول" والباب الثالث الموسوم "لماذا وصلنا إلى هنا؟ ملاحظات وانطباعات".
للعنف العدواني تاريخ مديد يمتد عبر قدم تاريخ البشرية كلها، وقد عانت منه البشرية وماتزال تعاني منه بصور شتى تتراوح بين القسوة والقسوة الجامحة والمتناهية، بين قتل إنسان واحد وبين الإبادة الجماعية بشتى السبل، بين السُفالة الفردية والسُفالة المركبة والسفالة الجمعية. ويرى الكاتب مهدي إن ظاهرة "العدوانية البشرية" قد لازمت تاريخ البشرية وهي مماثلة للعدوانية الحيوانية ذات الطبيعة الغريزية، إذ كتب: "العدوانية البشرية لا تختلف عن أختها الحيوانية. ففي اللحظة التي يسيطر فيها الإنسان على محيطه ويتمكن من استعمال التقنيات وتكوين جماعات كبيرة، تميل تلك الغريزة إلى أن تكون معيقة ومؤذية، بل قاتلة ومدمرة". ويستكمل رأيه بقوله: "إذا بقي الإنسان عبارة عن حيوان مذعور وبدون وسائل دفاع سيحتاج في هذه الحالة إلى كل عدوانيته. وبدءاً من تلك اللحظة سيتحول إلى حيوان فاقد لطبيعته ومغلوب على أمره". (مهدي، الكتاب، ص 31). إن تاريخ البشرية قصير قياساً لعمر الكون، وأن عمر الإنسان وتطوره قصير قياساً لعمر الحيوان باعتباره الخلف للسلف بغرائزه العديدة ومنها عنفه الطبيعي، رغم مظهره العدواني، لحاجته الماسة للطعام لإشباع جوعه (أو) وجوع صغاره، أو دفاعاً عن نفسه وعن صغاره. فالإنسان قد تخلص الكثير من المسائل التي لازمته كحيوان متطور، ولكنه لم يتخلص من بعضها بل ربما تطورت لديه كما هو وارد في الكتاب بالاقتران مع تطور التقنيات التي أصبحت تحت تصرفه. والكاتب مهدي يطرح هنا بصواب الرؤية التالية: "في الدراسات الحديثة، يتفق كل الباحثين على إن العنف في العالم القديم كان شديداً ومدمراً وكاسحاً. العنف في العالم المعاصر تراجع كثيراً...". والسؤال المشروع هنا لماذا هذا التراجع؟ اعتقد إن الجواب يقدمه لنا الكاتب نفسه حين يتحدث عن دور الدولة والقوانين والتحضر الجاري في مسيرة البشرية وأن تباينت من منطقة أو إقليم أو شعب إلى آخر. وهنا بودي أن أشير إلى أن الكثير من العوامل المعقدة والمتشابكة تلعب دورها في تقليص أو تشديد العدوانية البشرية، ومنها طبيعة علاقات الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة ومستوى تطور وعي الإنسان كفرد والوعي الجمعي للمجتمع. ويمكن أن نلاحظ هذا في المقارنة بين مستوى العدوانية لدى الفرد في مجتمع متقدم حضارياً وتقنياً والحرية كإدراك الضرورة، وبين مجتمع لا زال يعاني من تخلف في استمرار وجود العلاقات الإنتاجية والاجتماعية القديمة والبالية ...إلخ. ومن ناحية ثانية يلاحظ بوضوح إن حجم الخسائر البشرية في الأحداث القديمة، رغم كونها كانت كاسحة ومدمرة، فهي أقل من حجم الخسائر البشرية التي يتعرض لها المجتمع البشري في العصر الحديث، بسبب طبيعة التقنيات التدميرية المتقدمة المستخدمة في الحروب الحديثة. فعلى سبيل المثال بلغ عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى لأربع سنوات 37 مليون نسمة، 17 مليون منهم قتلى بين عسكري ومدني، و20 مليون من الجرحى والمعوقين، إضافة إلى كثرة من المفقودين وخسائر مادية وحضارية هائلة. أما في الحرب العالمية الثانية فقد تراوح عدد القتلى بين 62-78 مليون قتيل لأسباب عديدة، وأن اختلف الراي في العدد، فهو لا يقل عن الرقم الأول، وهي ضحاي قد ارتبطت بالحرب وما تسببت به من أمراض وكوارث، ما عدا الجرحى والمعوقين والمفقودين، وكذلك خسائر مادية وحضارية أكثر بكثير مما تحملته البشرية في الحرب العالمية الأولى. ولا بد هنا من الأخذ بنظر الاعتبار واقع الفارق الشاسع بين الكثافة السكانية وعدد نفوس البشرية في ماضي البشرية القديم والقرن العشرين حيث وقعت فيه الحروب الحديثة والتي شاركت فيها مجموعة كبيرة من الدول.
طرح الباحث والفيلسوف السوري ندره اليازجي في دراسة له عن " العنف واللاعنف في الطبيعة والإنسان" الرؤية التالية: ".. يعتقد العلماء الذين درسوا الإنسان واختصوا بعلم الباليونتولوجيا (علم الأحياء القديم، ك. حبيب) إن الإنسان مازال يميل إلى الحرب والاعتداء لأن الفترة الزمنية التي تفصله عن مملكة الحيوان ليست كافية لإزالة آثار الحيوانية كلها من متعضِّيته. ويشدد بعض علماء النفس على أن لاوعي الإنسان مازال يحمل من اللاوعي الجمعي الذي خلَّفته له عصور الخوف والظلام الأولى، والرعب في الكهوف، ومكافحة الحيوان والهروب من عنف الطبيعة الأثر الكبير، الأمر الذي لم يساعده على التخلص منه حتى يومنا هذا. ومالا شك فيه أن هذه النظريات لا تُنكِر أن الإنسان ميّال إلى الخير المسلوب، المدعو بالشر، لأن بذرته وُجِدت فيه منذ القديم، ولأنه ما زال يعاني من نقص في تركيبه الداخلي والخارجي، الواعي واللاواعي، الذي يتمثل في صراع أو تناقض لا يقبل التوفيق أو التكامل". (راجع: ندره اليازجي، العنف واللاعنف في الطبيعة والإنسان، موقع معابر مايس/أيار 2019). ثم يطرح التساؤل التالي حول حالة العف عند الحيوان وحالة الانفعال عند الإنسان، والتي كما يرى لم تبحث بما يما يكفي حتى الآن. وفي قناعتي الشخصية أرى بأن الإشكالية في سلوكية الفرد أو الجماعة أو تلك الفئة الحاكمة متأتية من تشابك عوامل عديدة منها غريزية وأخرى مرتبطة بواقع المجتمع والبيئة والعلاقات الاجتماعية وواقع التمايز الشديد في المجتمع بين الطبقات الفقيرة وتلك المالكة لوسائل الإنتاج والمتحكمة بالسلطات الثلاث وفي وضع القوانين، وفي مجمل الظروف التي يعيش فيها الفرد أو المجتمع والتي يتم إعادة إنتاجها.
هناك دراسات متشائمة حول البشر حتى بلغ بالفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (1623-1662م)، كما يشير إلى ذلك الدكتور فالح مهدي فيذكر قول الفيلسوف "أي وهم هذا الإنسان؟ أية حداثة، أي مسخ، أي فوضى!". "وينسب القول التالي للكاتب الروسي الكبير ديستوفسكي: "من شدة خيبة أملي بالإنسان فضلت رفقة الكلاب!" ولم يكتف بذلك بل كتب في كتابه الموسوم "الفكر" ما يلي: "إذا سألني سائل: وما الذي تفضل: أن يختفي العالم، أو أن تحرم من فنجان الشاي؟ أردّ عليه: فليختفي العالم بأسره، شريطة أن يبقى فنجان شايي مضموناً على الدوام". (مهدي، الكتاب، ص 63). وأقدر عالياً التقدير السليم الذي طرحه الدكتور مهدي في تعليقه المباشر لما ورد عن لسان باسكال حث كتب "ليس هناك من كائن أكثر رخصاً من الإنسان وليس هناك من كائن أعظم من الإنسان، إنما والحق يقال إن أولئك ممن لهم الموهبة والقدرة على الدونية والانحطاط يبلغون نسباً يعتد بها في كل المجتمعات الإنسانية." وهنا يبدو لي بأن الزميل الدكتور مهدي يوافقني الرأي بأن الغالبية العظمى من البشر ليست لها الموهبة الدونية والانحطاط، وإن تقليص هذه النسب، التي مازال يعتد بها من الدونيين والمنحطين، يرتبط عضوياً بالتغيرات التي يمكن أن تحصل في عدد من العوامل التي أشرت إليها سابقاً، ومع تغير نوعي في وعي الإنسان والموقف من الـ "أنا" والـ "أخر".       
في تاريخ العراق القديم صور غير قليلة عن الصفاء المجتمعي، وكذلك عن العنف الاعتدائي، إذ يمكن أن يجد الباحث ذلك في الرقم الطينية التي تم اكتشافها في العراق. وعلى وفق ما وصل إلينا من ذلك نجده في خمس شرائع، إضافة إلى القوانين التي تعامل بها الآشوريون والكلدانيون دون أن يسجلوها في شريعة متكاملة. فالتشريع الأول الذي اكتشف في العراق سمي بـ "أورنمو"، وهو مؤسس سلالة أور الثالثة في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، أي بحدود 2050 ق.م، وهو أقدم قانون في تاريخ البشرية مكتشف حتى الآن. ثم قانون أوروكاجينا، وقانون لبت عشتار، وقانون أشنونة، وقانون حمورابي، ثم اللوائح القانونية للآشوريين والكلدانيين. وهي شرائع وقوانين صادرة عن الآلهة أو أنصاف الآلهة تدرجت في سعتها وشموليتها ومدى تعبيرها عن التغيرات الحاصلة في تلك المجتمعات بما في ذلك قضايا الاقتصاد والمجتمع والعلاقات العائلية وعلاقات الملكية وتوزيع الثروة والنزاعات والموقف من الدولة وبقية المشكلات التي عالجتها تلك الشرائع، وكذلك في بنيتها الداخلية وصياغتها، وفي اسلوبها التربوي والتحذيري، وفي العقوبات المتنوعة والمتباينة في قسوتها التي فرضتها على المخالفين لمواد تلك الشرائع. وفي التشريع الأول مثلاً لم يجد الباحث أي عقوبة ردعية نفسية أو جسدية عدا واحدة جارحة ومؤلمة: حين تتحدث خادمة عن نفسها وتشير إلى أنها أجمل من سيدتها، عند ذاك يحشى فمها بكمية كبيرة من الملح لكيلا تكرر ذلك، أما العقوبات الأخرى في هذه الشريعة فلا تتجاوز فرض غرامة مادية تعويضية لا غير. ولكن العقوبات الردعية تفاقمت تدريجيا لتصل إلى حدها الأقصى في شريعة حمورابي حيث بلغ عدد المواد العقابية 51 مادة من مجموع 282 مادة، أي أكثر من 18%، بعضها يجسد القسوة وسفالة الحكام وتشريعهم بأقسى صورها، وبعضها ينظم الحياة اليومية للمجتمع البابلي. وكانت الأحكام الآشورية قاسية إلى ابعد الحدود، ولاسيما عند خوض حروب الاستيلاء على مناطق أخرى. (راجع: برهان الدين دلّو، حضارة مصر والعراق: التاريخ الاقتصادي-الاجتماعي–الثقافي والسياسي، القوانين والشرائع، دار الفارابي، 1989، ص 395-460). (راج أيضاً: كاظم حبيب، لمحات من عراق القرن العشرين، (في 11 مجلد)، المجلد الأول، تجليات الاستبداد والقسوة في شرائع العراق القديم، دار أراس، أربيل، 2013، ص 344-368).
كما ساهم حكام العراق القدامى في حروب تدميرية وتخريبية وقتلى بأعداد غفيرة، إضافة إلى الأسرى الذي كانوا يقادون إلى أرض الرافدين أو ميزوبوتاميا، كما حصل مع خمس حملات عسكرية وموجات من الأسرى اليهود ابتداءً من شملنصر الثالث (859-824 ق.م.) وانتهاءً بالحملة الخامسة التي قادها الملك سنحاريب الأشوري (705-681 ق.م.) في العام 702 ق.م. (راجع: كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 2015، ص 20/21). كتب الفقيد الأستاذ يوسف غنيمة عن نتائج الحملة الأخيرة ضد اليهود ما يلي: "انتهت تلك الحرب بنصر الكلدان نصراً مبيناً، فدخلوا أورشليم بقيادة قوادهم نركل شراصر وسمكر نبو وسرسخيم وغيرهم وفَّر صدقيا ملك اليهود من وجه الفاتحين إلا أنهم أدركوه في سهل أريحا وأتوا به إلى نبوك نصر فأغلظ معاملته وأمر بقتل أولاده وأشراف مملكته على مرأىً منه ثم سمل البابليون عينيه وشدوه بسلسلتين من النحاس وأتوا به إلى بابل وخرَّب نبوزردان رئيس الشرطة أورشليم وهدم أسوارها وسبى جميع السكان إلى بابل واستباح ذمارهم وأتلف خضراءهم ونضراءهم وذلك سنة 586 ق.م. وقد قدر عدد اليهود الأسرى في هذه الحملة بـ 40000 أسير، وأطلق على نقل الأسرى المسبيين إلى بابل بـ "السبي البابلي الثاني لليهود". (يوسف رزق الله غنيمة، نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق. الوراق للنشر. لندن. 1997. ص 69. ملاحظة: نشر كتاب غنيمة لأول مرة ببغداد في عام 1924، ك. حبيب). وفي بلاد الرافدين، في العراق تعرض اليهود في اليومين الأول والثاني من حزيران/يونيو 1941 إلى مذبحة عدوانية أطلق عليها بـ "الفرهود"، حيث قتل فيها 144 من المواطنات والمواطنين اليهود العراقيين من مختلف الأعمار، حين هاجم الرعاع والقوميين اليمينيين، الذين تأثروا بالفكر النازي العنصري والمعادي للسامية والجنود الفارين والمهزومين أمام القوات البريطانية بعد سقوط حكومة انقلاب مايس بقيادة العقداء الأربعة ورشيد عالي الكيلاني ومحمد أمين الحسيني مفتي القدس، بيوت اليهود ومحلات عملهم ودكاكينهم فقتلوا وسلبوا ونهبوا دون أن يردعهم أحد، رغم وجود القوات البريطانية في بغداد ورغم معرفة السفير البريطاني بذلك. (قارن: كاظم حبيب، يهود العراق، مصدر سابق، الفرهود في العراق ص 359-384.)       
كما عرف التاريخ الأموي والعباسي وكذلك العثماني كوارث إنسانية رهيبة على أيد الكثير من الخلفاء والولاة والحكام والقضاة الذين تميزوا بالسفالة الجامحة في مواجهة الشعوب الأخرى أو حتى شعوبهم أو أبناء وبنات القوميات وأتباع الديانات الأخرى، كما في فترة حكم الحجاج بن يوسف الثقفي أو عهد الخليفة أبو الفضل جعفر المتوكل على الله ((847-861 العباسي، أو ما حصل للأرمن في العهد العثماني البغيض وأثناء الحرب العالمية الأولى، حيث كتب الدكتور فالح مهدي بحق وصواب بصدد إبادة الأرمن الجماعية ما يلي:
"خلال فترة الحرب العالمية الأولى قامت وحدات عسكرية من الجيش التركي بإبادة ما يقارب المليون من الأرمن." (مهدي الكتاب، ص 26). وهو الرقم الأقرب إلى الصواب، إذ جاء في كتابي الموسوم "نحن وكوارث أتباع الديانات والمذاهب في العراق" (تحت الطبع) بصد الإبادة الجماعية ضد الأرمن ما يلي: " على وفق التقارير الصادرة عن الكثير من مراكز ومعاهد البحث العلمي والمؤرخين، إلى استشهاد عدد يتراوح بين 1000000 - 1500000 أرمني من "رعايا" الإمبراطورية العثمانية. (أنظر: أرشاك بودليان، “شهادات غربية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية”، دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع، سانا، دمشق 2016). "أما الكتاب الأزرق الذي أصدرته الحكومة البريطانية في العام 1916، والذي كتب مقدمته المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي فيشير إلى إن عدد القتلى بلغ حتى ذلك الحين 600000 أرمني.) (أنظر: مجدي خليل، القضية الأرمنية بعد مائة عام من الإبادة، الموقع الإلكتروني للتنظيم الأرامي الديمقراطي"، 1/1/2017). وتقدر الحكومة التركية إلى إن عدد القتلى يتراوح بين 300000-500000 أرمني، ورغم ذلك فهي لا تعترف بأن ما حصل على الأراضي التركية، وفي مناطق سكن الأرمن الأصلية، باعتبارهم من أصل سكنة هذه الأرض، كان إبادة جماعية!! وبالتالي فأن الحكومات التركية المتعاقبة تلجأ إلى مقاطعة تلك الدول دبلوماسياً، إذا ما اعترفت بأن ما ارتكبته الإمبراطورية العثمانية ضد الأرمن كان إبادة جماعية، وهي في ذلك تعبر عن طبيعتها المماثلة لمن ارتكب تلك الجرائم. وإذا تابعنا مسيرة سلطان تركيا الجديد رجب طيب أروغان سنجد منذ العام 2016 وقبل ذاك أيضاً قد أرتكب أقسى الموبقات بحق القوميات العديدة في تركيا، بمن فيهم الشعب التركي، ولكي يبقى بالسلطة فأنه يمارس يومياً المزيد من العنف، والمزيد من الظلم والاضطهاد، أي المزيد من السفالة الجامحة، وهو بذلك يجسد الحكمة النازية التي نطق بها أدولف هتلر بقوله: "أول شيء أساسي لتحقيق النجاح على الدوام هو عمل مستمر ومنتظم من العنف".
انتهت الحلقة الرابعة وتليها الحلقة الخامسة

130
كاظم حبيب
نظرات في كتاب "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
الحلقة الثانية
معنى السفالة ومن هم السفلة 
المقدمة

الرجل الذي يحرم رجلاً آخر من حريته
هو سجين الكراهية والتحيز وضيق الأفق.
نيلسون مانديلا (1918-2013م)

يبدو عنوان كتاب الدكتور فالح مهدي، للوهلة الأولى، غريباً لمن لا يعرف العراق وما جرى ويجري فيه منذ عقود، وخاصة في الفترة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة والدكتاتور الأهوج صدام حسين ورهطه. ولكن يكفي أن يتصفح الإنسان أخبار العراق خلال السنوات الواقعة بين 2003-2019، دع عنك الفترات السابقة المليئة بالسفالة والسفلة، ليدرك مدى صواب ودقة هذا العنوان لهذا الكتاب الذي يبحث في "السفالة" السائدة في الدولة العراقية، وفي أبشع وأخس وأنذل ممارساتها وصور ظهورها في المجتمع. فالباحث الدكتور فالح مهدي يقدم في كتابه الموسوم "مقالة في السفالة: نقد حاضر العراق" مادة جديدة متنوعة وغنية وعميقة لمفهوم السفالة ومضامين هذا المصطلح وابعاده وما يقترن به وما تنشأ عنه من عواقب، ومنها مظالم مريعة، على الفرد والمجتمع في العراق. وهو في هذا التقصي والبحث ينتهج أسلوباً علميا لا يبتعد عن أسلوبه ونهجه المادي في دراسة الأديان والعقل الدائري، كما يستخدم لهذا الغرض مفردات اللغة العربية الغنية للتعبير عن هذا المصطلح، الذي يرد بلغات كثيرة، ولكنه يعبر عن مضمون واحد عملياً. فالسفالة مصطلح يجسد الانحطاط والخسة والنذالة والظلم في التعامل الفردي أو الجمعي في هذه الدولة أو تلك، وفي هذا المجتمع أو ذاك، وبتعبير أكثر ملموسية، على مستوى الدولة بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها وحكامها.
والسفالة تتجلى في الكلمة الخشنة أو الشتيمة الجارحة، وفي الصفعة، أو الابتزاز، أو الاعتقال الكيفي، أو التعذيب بمختلف صوره، إنها العنف في جانب مهم وأساسي منه. والسفالة، كلما يمعن الإنسان في مضامينها، تتجلى له في تجاوزها الفظ على كرامة الإنسان، أو على كرامة جماعة بشرية، أو على كرامة شعب بأكمله، وبمختلف السبل والوسائل والأدوات. والسفالة بكل معانيها تعتبر تجاوزاً مباشراً على حقوق الإنسان المحرمة دولياً والممارسة بأسوأ صورها في العالم النامي، ولاسيما في الشرق الأوسط، ويعتبر العراق نموذجاً صارخاً لها. والسفالة في جانب منها تعبر عن ضعف وهزال ممارسها وعدم ثقته بنفسه، وخشيته، ومعاناته، وربما في جانب آخر منها من عقد نفسية، يجد تنفيساً لها فيما يقوم به ويمارسه من سفالات.
وضع الزميل فالح مهدي القراء والقارئات أمام معنى السفالة في لغات أخرى، إلى جانب اللغة العربية، بهدف تحديد مفهومها ومضمونها. فالسفالة في العربية هي "النَّذَالَةُ، والخَسَاسَةُ، والحَقَارَة، والسَّفَاهَةُ"، على وفق ما جاء في معجم المعاني الجامع. وهي التفاهة أيضاً، كما يشخصها الدكتور فالح مهدي لها بصواب ويعريها دون رحمة. ويجد الباحث إن كلمة Crapule باللغة الفرنسية هي التعبير الأدق عن السفالة والتي تعني: الوغد والسافل والمنحط وعديم الشرف، وكذلك المخادع أو الغشَّاش. ولا تبتعد الكلمة باللغة الإنكليزية Crook عن المضمون ذاته، إذ تعني عديم الشرف أو الرجل غير الشريف والبعيد عن الاستقامة. (فالح مهدي، الكتاب، ص 12). وإذا استعنا باللغة الألمانية فسنجد إن كلمةHalunke أو Gauner تعنيان النذل والسافل والوغد والمحتال والمخادع، وبالتالي فهو شخص عديم الشرف.
والسُفاَلة اسم، ومصدرها سُفَل، وفعلها سُفِل، وفاعلها سافل، على وفق معجم المعاني والقاموس المحيط. والعراق قد ابتلى، ومازال، بكمٍ هائل من الحكام وحواشيهم وأتباعهم السفلة المنفذين لأوامر أسيادهم وإجراءاتهم السُفلية المنافية لكرامة وحقوق الإنسان. والسُفالة تعبير جامع وشامل لما يمارسه السافل فرداً أو جماعة أو حكومة أو دولة بكاملها، إنه التافه والرث والحقير والمخادع في الفكر والممارسة.
يضع الكاتب القراء والقارئات أمام العنف باعتباره تجسيداً في أبرز جوانبه للسفالة والدونية. والسافل ينطلق من ألـ "أنا" ليدين ألـ ""آخر، إنها الصورة النمطية (Stereotyp) لدى العنصريين والفاشيين والطائفيين وبقية الممارسين لشتى صيغ التمييز وبكل أشكال ظهوره، بما في ذلك وخاصة التمييز ضد المرأة.
والكتاب يطرح في الوقت ذاته صوراً وأحداثاً يعتبرها أعمالاً سافلة أو أشخاصاً سفلة. ولكنه يتحفظ هنا وعن صواب حين يبتعد عن التعميم ليشير بوضوح إلى استدراكه التالي: " ليس كل من ورد من أسماء في هذا الكتاب، سفلة ومنحطين، ذلك أنهم ساهموا في انحطاط هذا البلد دون ان يكونوا سفلة." (الكتاب، ص 12). وسأعود إلى مناقشة هذه النقطة الحساسة في إحدى الحلقات القادمة. وفي هذا الكتاب يطرح الكاتب الأسباب التي دعته إلى اختيار العراق، مرتع طفولته ومرابع صباه، وربما مكان حبه الأول، على النحو التالي:
لقد اخترت العراق موضوعاً لهذه الدراسة لأسباب منها، أن فهم المرض العراقي، يمنحني الفرصة أن أفهم جذور ذلك المرض في بلد طفولتي وشبابي. ومن ثم أن فهم العراق سيسمح، إن صحت الافتراضات التي سآتي بها، لفهم أو المساهمة لفهم واقع الإنسان في هذه المنطقة من العالم". (الكتاب، ص 13). ثم يقول في مكان آخر: في هذا البحث سنركز على العراق كنموذج، مستعيناً في ذلك بمنهج المقارنة والمقاربة، الذي سيسمح لنا لفهم العنف كنشاط حيواني فاعل في السلوك الإنساني، شروط قيامه، التربة التي تحتضنه، الأيديولوجية التي تولع النيران فيه لكي يتقد ويأتي على كل ما في الحياة من قيم ومبادئ." (الكتاب، ص 14). أي إن الكاتب ينطلق من حالة خاصة، هي العراق، لكي يبدأ بمقارنتها ومقاربتها وتدقيقها مع مناطق أخرى ليصل بها إلى التجريد، أو أطروحة التشخيص النظري للمرض أو العلة الاجتماعية التي تعاني منها شعوب كثيرة في عالمنا المعاصر. ولهذا يقول: إن "السفالة والهوان لا تتعلق بمجتمع دون آخر، فحتى في المجتمعات الديمقراطية نجد من هو صغير ورخيص وإلا كيف يمكننا أن نفهم خضوع الغالبية العظمى من الألمان لذلك المهرج هتلر؟". (الكتاب، ص 13/14).
يواجه المجتمع الدولي في عراق اليوم مجموعة هائلة من السياسيين المؤدلجين وكذلك المنظمات السياسية وشبه العسكرية المؤدلجة، الذين نالهم جميعاً مرض السفالة بعمق لا مثيل له، فدفعوا بالعراق إلى مستنقع السُفالة حيث يفعل السفلة والأنذال افعالهم دون رقيب أو حسيب، وحيث يعاني المجتمع من ظلمهم وسفالاتهم بكل خسة ودناءة. لم يكن صدام حسين وحده سافلاً فحسب، بل الكثير والكثير من قادة وكوادر وأعضاء حزبه وحاشيته أيضاً. كما ليس شخصاً واحداً من المجموعة الحاكمة في المرحلة الراهنة يتميز بالسفالة، وما تجسده هذه الكلمة من معانٍ فحسب، بل إن الغالبية العظمى من النخبة الحاكمة حقاً سقطت في مستنقع السفالة والخسة والنذالة، ولن تخرج منه، بل لا بد من ردم هذا المستنقع بمن فيه من السفلة، وإنقاذ العراق منهم لصالح مستقبل أفضل للحاضر وللأجيال القادمة.
في عام 1995 صدر لي كتاب في بيروت تحت عنوان "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة"، قلت فيه بأن الكثير من شخصيات وقوى المعارضة العراقية لا تختلف من حيث الواقع عن طبيعة ونهج وسلوك الدكتاتور صدام حسين، بل وستمارس سياسة مماثلة أو أسوأ إن وصلت إلى السلطة. ومن المؤسف أن تحققت هذه "النبوءة المحزنة"!
يؤكد الباحث أن "كتابه لا ينزع إلى سرد تاريخ العراق المعاصر، فقد كُتب الكثير عن ذلك، ولا تشريح الدمار الذي خلفته الإمبراطورية العثمانية في الجسد العراقي، بل جسد كل من وقع تحت طائلة ذلك الاحتلال اللئيم، بل محاولة تنظيرية لفهم سلوك الدونية والسفالة التي تحكمت في مسيرة هذه الشعوب والجماعات". ولكي يبعد الباحث التفكير بأن بحثه يشمل البؤساء من الناس، كتب مباشرة ما يلي: "السفالة هنا لا يقصد بها سلوك الإنسان البائس الذي يقوم في لحظة عصبية انتظرها طويلاً بالاستيلاء على أملاك الدولة بغرض نهبها أو تدميرها، ذلك إننا لو ركزنا اهتمامنا على ذلك فسيكون حالنا حال من يُصدم بسارق تفاحة نتيجة جوعه ولا يمارس أضعف الإيمان بإدانة سارق الملايين بينه وبين نفسه." (راجع: الكتاب، ص 13). وهنا أود أن استكمل الفكرة بقولي، إن سراقنا في العراق لم يعودوا يقبلون بنهب الملايين، حيث يعج بهم العراق، بل أنهم أصبحوا من سراق المليارات من الدولارات الأمريكية، إضافة إلى العقارات والآثار العراقية، إنهم جلادو الشعب وخاطفو لقمة عيشه! قال ابن خلدون (1332-1406م) بصواب وحكمة "الظلم مؤذن بخراب العمران".
بعد تقديم معنى كلمة السُفالة والسافل يطرح الزميل في هذا الكتاب الممتع العنف، باعتباره أحد نتاجات السفالة التدميرية، يبحث فيه ويشخص من يمارسه وأشكال ممارسته وعواقب تلك الممارسة. ثم يختار العراق كحقل واسع ومباشر لدراسته، وهو موضوع الحلقة الثالثة.


131


كاظم حبيب
نظرات في كتاب "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي
 
اسم المؤلف: فالح مهدي
اسم الكتاب: مقالة في السفالة - نقد الحاضر العراقي
دار النشر: سطور – بغداد / العراق
سنة النشر: 2019م
عدد الصفحات: 302 صفحة
الحلقة الأولى: استهلال: لمحات مكثفة عن البروفيسور الدكتور فالح مهدي

"ويل لعالِم لا ينفتح على غيره، وويل لجاهِل منغلق على نفسه"
حكمة مندائية
"كلما زاد علم الإنسان زاد تواضعه، وكلما قل علمه زادت كبرياءه"
نحن أمام مفكر عقلاني وباحث تنويري جليل، وأستاذ جامعي وكاتب متميز وروائي وقاص مبدع، نحن أمام صديق فاضل هو الدكتور فالح مهدي. فهو عالم منفتح على غيره، ومحاور ومناقش يتسم بالتواضع الجم، يعمل على وفق القاعدة القائلة "رأيي صائب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب". إنه الشك العلمي الذي يسمح بالمزيد من البحث والتدقيق والحوار والنقاش بعقلانية وموضوعية، إنه الطريق إلى المعرفة، هذا البحر الذي نسعى للسباحة فيه، وما زلنا نحث الخطى نحو شواطئه.   
ولد فالح مهدي عام 1947 في بغداد، ودرس فيها الابتدائية والإعدادية. دخل كلية القانون وتخرج منها عام 1970. بين 1970-1973 عمل محامياً، ولم يألف هذه المهنة، كما يؤكد ذلك. وفي الفترة ذاتها أبدى اهتماماً خاصاً بموضوع الدين، لدوره في حياة الناس عموماً، والعراق منذ القدم خصوصاً. غار في أعماق الديانات وفكرها، درسها بجدية لسنوات حتى أثمر الجهد والدأب الكبيرين عن كتاب قيمّ وأصيل طبع لأول مرة في عام 1981 عن دار نشر ابن رشد في بيروت، بعنوان "البحث عن منقذ: دراسة مقارنة بين ثمان ديانات". جرى طبع هذا الكتاب عدة طبعات كما استنسخ كثيراً من جانب المعجبين به، ولا زال تداوله مستمراً وعلى نطاق واسع. قال فقيدنا الفاضل الأستاذ الدكتور صادق جلال العظم (1934-2016م) للكاتب عن هذا الكتاب ما يلي: (كتابكم سيترك أثره على القراء). كانت البداية لأبحاث مهمة وجديدة لاحقاً.
في العام 1973 غادر العراق إلى الهند للدراسة في جامعة بونا (Pune University) في مدينة پونا، وحاز على درجة الماجستير في العلوم السياسية ودبلوم في القانون الدولي في عام 1976. ثم عاد إلى العراق ليغادره في عام 1978 إلى فرنسا، حيث أكمل دراسته في قسم القانون في جامعة باريس 10 وحصل على شهادة دكتوراه دولة في القانون في عام 1987 بدرجة امتياز وبإجماع لجنة التحكيم، وكان موضوع أطروحته "أسس وآليات الدولة في الإسلام: العراق نموذجاً"، التي قُدمت باللغة الفرنسية وتم نشرها من قبل إحدى دور النشر الفرنسية. مارس التدريس في مادة فلسفة القانون في الجامعة التي تخرج منها، ابتداءً من عام 1990، ثم انتقل بعدها للتدريس في جامعة فيرساي لتدريس نفس المادة إضافة إلى مادة القانون الدستوري الفرنسي إلى عام 2003. وهو أستاذ القانون الدولي في جامعة السوربون.
خلال مسيرته العلمية في البحث والكتابة والنشر صدر له في مجال الدين كتاب تحت عنوان "صلوات الإنسان: من سومر إلى الإسلام" في بيروت عام 2011. ثم جاء كتابه القيم والغزير في مادته والعميق في تحليله الموسوم "الخضوع السني والإحباط الشيعي: نقد العقل الدائري" عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، وهو الكتاب الذي تسنى لي قراءته والتعليق عليه بعدة حلقات، والذي أسهم في إغنائي بالكثير من خبايا الفكر الديني المسطح والعقل الدائري. ولم تمر فترة طويلة حتى صد كتابه الموسوم "جذور الإله الواحد: نقد الإيديولوجية الدينية" عن دار العودة في بيروت عام 2017. وفي الموضوع ذاته انتهى الزميل فالح مهدي، كما يشير إلى ذلك، من كتابه الجديد المعد للطبع والموسوم "تاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري"، ويعد العدة لإنجاز بحثٍ جديد عن "تاريخ الجنة: نقد مشاعر التفاؤل في الحيز الدائري". يتمنى المتابع لكتاباته أن يصدر هذان الكتابان في هذه الفترة التي تلعب كتاباته العلمية والتنويرية دوراً مهماً لإغناء المكتبة العربية وقراء وقارئات العربية الشباب على نحو خاص، بهذه المواد التي تسهم في إبعادهم عن السقوط في الحيز الدائري القاتل لقدرة الإنسان الفعلية على التفكير الحر والمستقل، إنه فخ العقل الدائري، العقل المغلق.
البحث العلمي لم يُبعد الكاتب فالح مهدي عن الأدب، ولاسيما الرواية والقصة. فقد أنجز الكثير خلال السنوات المنصرمة. فبعد صدور "البحث عن منقذ" صدرت له روايته الأولى بعنوان "أزهار المستنقع" عام 1982، ثم في عام 1992 صدرت له مجموعته القصصية الأولى بعنوان "الصلوات تغتال الصمت" التي احتوت على 10 قصص عن دار المدى. وفي عام 1995 صدرت له في باريس رواية "أصدقائي الكلاب" باللغة الفرنسية وترجمت إلى اللغة التركية، ثم نشرت مرة أخرى في منشورات الجيب عام 2002 لكثرة إقبال الفرنسيين والفرنسيات عليها. وفي العام 2002 صدرت له رواية أخرى باللغة الفرنسية بعنوان "صلوات الدم" ثم رواية ثالثة باللغة الفرنسية بعنوان "لم يرني الله" في عام 2011. وصدرت له روايتان إحداهما بعنوان "هجرة النور" وهي ليست بعيدة عن عالم الأديان، ورواية "الثوبان" التي تبحث في الأوضاع الاجتماعية. ومن ثم صدرت له مجموعة قصصية بالفرنسية بعنوان "معانقة أزهار الجحيم" وتحتوي على 10 قصص.       
شارك الباحث، وما يزال، في ندوات علمية حول القانون، صدرت أبحاث الندوات عن دار المنشورات الجامعية وبمساهمة واسعة من رجال قانون من أنحاء العالم. عند زيارته العراق في عام 2017 دعي البروفيسور مهدي إلى إلقاء عدد من المحاضرات في ندوات فكرية في مجال بحثه، ولاسيما حول العقل الدائري وفي "دور المكان في التجديد ورسم سلوك الأفراد والجماعات". والزميل فالح مهدي غزير الكتابة، فقد نشر الكثير من الدراسات والمقالات المهمة، أشير هنا إلى مقال واحد منها يكشف فيه عن التناقض الصارخ في الدستور الإيراني الحالي، نشر في موقع الحوار المتمدن بعنوان "المفاهيم الأسطورية في الدستور الإيراني". وفي هذا المقال يشخص الكاتب بوضوح ودقة التناقض الصارخ فيما ورد في الدستور الإيراني عن الاعتقاد بدور الغائب، المهدي المنتظر وصاحب الزمان (محمد بن الحسن العسكري بن علي المهدي)، من مهمات في مواجهة فساد وانحطاط العالم حين ظهوره، وبين الإصلاح وتأمين حقوق الإنسان من الرجال والنساء الذي يدعي المشروع الإيراني السعي لتحقيقه في إيران، على وفق ما ورد في الدستور الإيراني، حيث جاء في المقال: "وقبل امتحان دور المهدي في ذلك البناء، نجد من المفيد إلقاء ضوء على طبيعته الأسطورية. من المحتمل إن فكرة المهدي تعود الى الأساطير والشعائر الدينية السومرية تلك المتعلقة بموت الإله تموز في الخريف وعودته في الربيع. لقد وردت تلك الأسطورة في معظم الديانات توحيدية كانت أم لا. فالأدب الشيعي الأثنى عشري يشبه من حيث البناء ذاك الذي ورد في الأدب السني إنما يتميز عليه بطابع المبالغة، فنجد هنا إن المسيح بالذات يقوم بالصلاة خلف المهدي. ليس هذا فحسب بل إن المهدي حاله حال الأئمة الأثنى عشر، أرفع من كل الأنبياء عدا النبي محمد!! كيف يمكننا أن نتصور إن انجاز أسطورة كتلك داخل نص دستوري وجد أصلاً لكي يمنح السياسة وإدارة الدولة قدراً من العقلانية؟ ملاحظتان ستكونان كافيتين للإجابة عن ذلك التساؤل:
أ - سيظهر المهدي وفقا لتلك العقيدة عندما يعّم الفساد وتنهار الأخلاق فيصيب العالم الانحطاط. هنا تضع جمهورية إيران الإسلامية نفسها أمام تناقض مميت، ذلك إن قيامها من أجل بناء الأخلاق والفضيلة وتعبيد طريق المهدي، ينفي الحاجة لذلك المنقذ!
ب - سيقوم المهدي بإكراه من لا يرغب بدخول الإسلام بدفع الجزية. أية مصداقية يمكننا إن نمنحها لنص كهذا، حيث تتعارض نصوصه مع المبادئ الأولية لحقوق الإنسان وتتعارض مع نصوص ذلك الدستور نفسه. فقد ورد في الفقرة 14 من المادة الثالثة "تأمين كافة الحقوق للأفراد – المرأة والرجل - وإيجاد الضمانات القضائية العادلة للجميع. والمساواة في الحقوق أمام القانون ".(راجع: فالح مهدي، المفاهيم الأسطورية في الدستور الإيراني، موقع الحوار المتمدن، العدد 5307 بتاريخ 7/10/ 2016). ومن المناسب هنا أن يعود القارئ ليتمتع بدراسته المهمة التي أشرت إليها سابقاً "البحث عن منقذ: دراسة مقارنة بين ثمان ديانات". وليس من الغرابة بمكان أن يعجز العقل الدائري عن اكتشاف فحوى التناقض والخلل الفكري الذي أشار إليه الزميل الدكتور فالح مهدي. ومن هنا تأتي معاناة المسلمين والمسلمات في سائر أنحاء العالم، فقد برز الكثير من المصلحين الذين حاولوا دراسة أسباب انحطاط العالم الإسلامي، ولم ينجز هؤلاء شيئا، فيما عدا "علي عبد الرزاق في كتابه عن الخلافة الإسلامية " الإسلام وأصول الحكم" الذي جوبه بردود فعل عنيفة، دون نسيان الأفغاني، ومحمد عبده، والطهطاوي، وطه حسين، وسلامة موسى.. إلخ." ويؤكد الدكتور فالح مهدي عن السبب وراء هذا العجز الدائم وعدم الخلاص من الانحطاط في العالم الإسلامي في التمهيد لكتابه الموسوم "الخضوع السني والإحباط الشيعي" ما يلي:
"بيد إن كل تلك الكتابات لم تتمكن من المساهمة في إخراج هذا العالم من غفوته وانحطاطه لأسباب كثيرة من أهمها هو أن تلك الأعمال لم تقم على أساس نظري متين، إضافة إلى التحالف بين الموروث الأيديولوجي الإسلامي المتخلف والكهفي، وبين الأنظمة العسكرية التي تمكنت من الإمساك بمقاليد السلطة في معظم الدول الإسلامية في الخمسينيات من القرن الماضي، دون أن ننسى البنى الاجتماعية والثقافية الشديدة التردي."، (راجع: فالح مهدي، الخضوع السني والإحباط الشيعي: نقد العقل الدائري، مصدر سابق)، وهي مرتبطة عضوياً، كما أرى، بالواقع الاقتصادي الأكثر تخلفاً ورثاثة وتجلياته في البنية الاجتماعية والوعي الاجتماعي الجمعي والفردي في المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة.     
من الممتع أن نقرأ ما قاله البروفيسور فالح مهدي للناقد والمؤرخ العراقي صباح كاظم محسن عن مسيرته البحثية التي بدأت مع كتابه الأول "البحث عن منقذ": "في هذه الدراسة عندما كان عمري 23 عاماً وكتبت أول مؤلفاتي "المنقذ" حيث اعتبره أولى مغامراتي الكتابية في الأديان والبحث عن منقذ هو دراسة مقارنة بين ثماني ديانات تتحدث عن مفهوم المهدي المنتظر أو المخلص الموعود الذي تترقبه البشرية، وهذا موجود في كل الديانات وكل شعوب العالم تعتقد أنّ الله سيبعث أحد المنتخبين المخلصين لإنقاذ هذا العالم. تلك الرحلة مع المنقذ لم تكن هينة أو يسيرة بسبب شائكة الموضوع والحذر من الخوض في تفاصيله أو بسبب الظرف السياسي والاجتماعي أنذاك عن فكرة الكتاب وكيف تولّدت فكرة الرحلة العلمية والفكرية الطويلة فبعد قراءة عن القرامطة وتأريخهم وثوراتهم وتبحر بكل تفاصيلهم، راودتني فكرة كتابة بحث عنهم، لكن زيارتي للدكتور فيصل السامر غيرت مجرى الخطة لدراسات مقارنة ونحو ضفة أخرى، حيث اقترح "السامر " الكتابة عن المنقذ وبشكل خاص عن المهدي، ووجهني بالقراءة عن تاريخ الأديان والمنقذ في كل دين منذ الحضارات الأولى ." (راجع: صباح كاظم محسن، د. فالح مهدي في الناصرية، موقع جريدة الحقيقة، في 17/05/2017). [والدكتور فيصل السامر، هو الأستاذ الجامعي ووزير الإرشاد بعد ثورة تموز عام 1958، ثم سفير العراق في اندونيسيا وصاحب كتاب ثورة الزنج" الصادر عام 1977].
إن معرفة الدكتور فالح الموسوعية في الأديان، التي تراكمت عبر القراءة والبحث والدأب لسنين كثيرة، لم تمنعه من الإشارة الواضحة في لقاء له مع الصحفية كابي لطيف وعبر إذاعة مونت كارلو إلى ما يلي: "أنا احترم كل الأديان والمسافة بيني وين الاخر هو مدى انسانيته ومدى حبه للأخرين، كيف ينظر لنفسه وللآخر. منذ فترة الشباب تنبهت للدين بفضل الماركسية."
بودي بهذه المناسبة أن اشير إلى أني، ومعي مجموعة من الأخوات والأخوة العراقيين في داخل العراق وخارجه، أدركت بما يمكن أن يعاني منه أبناء وبنات العراق من أتباع الديانات والمذاهب من غير المسلمين وكذلك المسلمين بعد الحرب الخليجية الثالثة في العام 2003 بسبب دفع المحتل الأمريكي وإيران وقوى الإسلام السياسي الطائفية باتجاه قيام نظام سياسي طائفي محاصصي في العراق، فبادت مع مجموعة من الأخوات والأخوة، ومنهم السيدات راهبة الخميسي، ونرمين عثمان، ود. كاترين ميخائيل، والسادة زهير كاظم عبود، ود. غالب العاني، ود. حسن حلبوص، وجاسم المطير، ود. تيسير عبد الجبار الآلوسي، ونهاد القاضي، وجورج منصور، والفقيد مصطفى صالح كريم، وعلاء مهدي، وموسى الخميسي، والفقيد دانا جلال...وغيرهم، إلى تشكيل منظمة مجتمع مدني تحت اسم "هيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق" في العام 2004. وكان الهدف الأساسي للمنظمة هو الدفاع عن حق اتباع الديانات والمذاهب في حرية الاعتقاد بهذا الدين أو ذاك المذهب وممارسة طقوسهم دون أن يتعرضوا للتضييق أو الاضطهاد أو الاعتقال والسجن والتعذيب، والذين تعرضوا عملياً وعلى امتداد القرن العشرين، وخاصة العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين إلى شتى صنوف الاضطهاد والتشريد والتهجير والاغتيال والقتل الجماعي، كما حصل في أعقاب إسقاط الدكتاتورية في العراق في عام 2003 عبر قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية والتحالف الدولي خارج إطار الشرعية الدولية، على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة المرتبطة بإيران مباشرة كفيلق بدر وعصائب الحق وحزب الله وجماعة النجباء ومن لف لفها، وكذلك التنظيمات التكفيرية كالقاعدة وداعش، وما نشأ عنهما من تنظيمات عدوانية، وما فعلته بالإيزيديين من إبادة جماعية وكذلك بالمسيحيين والشبك والتركمان، بعد اجتياح وغزو الموصل وعموم نينوى في العام 2014 حتى العام 2016/2017. ولم تكن مهمه المنظمة أو هدفها الدفاع عن الديانات والمذاهب ذاتها أو عن الفكر او العقل الديني الدائري، بل من حق الجميع نقد الدين والفكر الديني أو بعض الممارسات والطقوس التي هي ليست من صلب الدين، وليس الإساءة لها.       
وبصدد الأديان فالأستاذ فالح مهدي له رأي مهم وسليم في صراع الأديان يختلف تماماً عن الرأي غير السليم لصموئيل هنتنكتون (1927-2008م) الذي طرحه في العام 1993 ونشر في كتاب في العام 1996 بعنوان "صدام الحضارات"، يؤكد فيه جازماً عن الصدام القائم والقادم بين الأديان، ولاسيما بين ثمانية أديان، وبشكل خاص بين الدين المسيحي والدين الإسلامي، أو بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، وأن الصراع ليس على أساس اقتصادي - سياسي، في حين يشير الدكتور فالح مهدي، وهو على حق بهذا الصدد إلى ما يلي: "انا اشك في صراع الأديان والفرنسيون اثبتوا انهم متحضرون جدا عندما قتل القس، فانهم لم ينجروا للعنف، ولو حصل ذلك في العالم العربي، لقتل الالاف من البشر، هناك حضارة وهذا مهم جدا في فرنسا، انهم لم يقتلوك لأنك مسلم" وأضاف:" فرنسا فتحت لي الأبواب، انا اسمي الحضارة نهر ومن يدخل عليه ان يسبح فيه،..". (راجع: كابي لطيف، الباحث العراقي المقيم في باريس د. فالح مهدي: أشك في صراع الأديان، موقع مونت كارلو، 24/10/2016). ويعبر عن انفتاحه على الفلسفات ودراسته للأديان في المصدر السابق ذاته بقوله: " تعلمت من فلسفة الهند معنى الحياة واحترام وحب الاخر، وان الله هو الكون نفسه، أي ان الشجر هو جزء من الله وانا جزء من الله وهذه فلسفة جميلة وعميقة الى ابعد حدود".
لقد وجد الشاب فالح مهدي، وفي وقت مبكر، نفسه مجبراً على ترك وطنه الأول، حيث ولد فيه وترعرع، وله في هذا الوطن المستباح ذكريات عزيزة وأصدقاء كثر، إضافة إلى أولى ملامح رحلته الثقافية والبحثية المديدة التي أثمرت، والتي اقترنت بالكثير من الجهد الفكري والإبداعي، عن مجموعة كبيرة من الكتب، وينتظر الكثير القادم أيضاً. فهو عن بلده العراق يقول: "البلد هو الطفولة، والأنظمة هي الفاشية الطفيلية التي طردتنا واحتلت البلدان من الداخل، يبقى الحنين للوطن، لأننا حينما نتخلى عن جلدنا تتوقف انسانيتنا، وتتوقف قدرتنا على التفكير وعن الكتابة والقراءة واشياء أخرى، هويتنا تكونت في طفولتنا، وبمرور الزمن نضيف اليها بالتجربة ".(المصدر السابق ذاته).
انتهت الحلقة الأولى وستليها الحلقة الثانية بعنوان: معنى السفالة ومن هم السفلة 




132
وداعاً أبا مخلص
وفاة الصديق والرفيق والقريب عبد الرزاق الصافي

في صبيحة هذا اليوم 14/05/2019 نعى إلينا الأصدقاء في لندن وفاة الشخصية الوطنية العراقية والشيوعي العراقي المقدام والصحفي المميز والصديق الكبير والرفيق العزيز والقريب المحامي عبد الرزاق الصافي (أبو مخلص)، بعد أن عانى الكثير من أمراض الشيخوخة وتعب السنين ومعاناة العقود المنصرمة من النضال الوطني والاجتماعي في سبيل قضايا الشعب والوطن، قضايا الحزب، الذي حط رحاله فيه منذ شبابه وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان في طليعة من ساهم في نشر الفكر الوطني والشيوعي في مدينة كربلاء وقبل أن ينتقل إلى بغداد ليواصل نضاله في صفوف حزبه ودراسته في كلية الحقوق.
ولد عبد الرزاق جميل الصافي في مدينة كربلاء في عام 1931/1932 وأكمل دراسته الإعدادية فيها، وهو الأبن الثاني مع خمسة أخوة وأخوات للسيد جميل الصافي، والذي يطلق عليه أيضاً السيد جميل الجلبي باعتبار العائلة من وجهاء المدينة.
اعتقل في العام 1950 وسجن لمدة 11 شهراً. درس في كلية الحقوق، ولكنه فصل منها في العام 1952 بسبب مشاركته في انتفاضة تشرين الثاني 1952، ثم عاد إلى الدراسة في العام 1953 وأكمل دراسته، ومنع من تسلم شهادته بسبب ضغوط مديرية التحقيقات الجنائية، لكيلا يمارس المحاماة والدفاع عن المعتقلين، ولكنه تسلمها بعد ثورة تموز 1958.
ساهم بنشاط وحيوية في الحركة الطلابية العراقية وترأس اتحاد الطلبة العام في العام 1956، كما كان أحد كوادر الحزب البارزين. انتخب إلى عضوية اللجنة المركزية في المؤتمر الثاني للحزب في العام 1970، كما أصبح فيما بعد عضواً في المكتب السياسي. شارك لسنوات عديدة في حركة الأنصار الشيوعيين وكان مسؤولاً أثناء وجوده في كردستان العراق لعدة فترات مسؤولاً عن إعلام الحزب في الحركة الأنصارية. عمل الرفيق أبو مخلص في الصحافة الحزبية وتميز بالكفاءة الصحفية العالية وكتب المئات من المقالات، كما أصدر العديد من الترجمات والكتب ومنها كتاب "من ذاكرة الزمن" وكتاب "شهادة على زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتية" وكلاهما عن دار المدى ضما الكثير من مقالاته وكتابته.
تميز الرفيق أبو مخلص بالحيوية والنشاط والجرأة في مواجهة المخاطر، والالتزام بقرارات الحزب وسياساته، كما اتسم بالتواضع والرغبة في المساعدة. كان حلو المعشر، حاضر النكتة وسريع البديهة.
التحقت بالحركة الوطنية العراقية في العام 1952 والتصقت بسياسة الحزب، وكنت على صلة بأبي مخلص، وهو الذي سلمني شرف عضوية الحزب ومنحني الحزب الاسم الحزبي "مخلص" والذي أعتز بهما وبالاسم. عملت معه في مدينة البصرة بعد خروجي من سجن الحلة والتحاقي الإجباري بالطلبة المجندين في الشعيبة عام 1955، وكان معنا الرفيق الشهيد مجيد حسن من أهالي كركوك. كما عملنا سوية في هيئة تحرير الثقافة الجديدة وفي اللجنة المركزية ومكتبها السياسي. في نهاية عام 1984 سلمته مسؤولية الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي في "وادي لولان" بكردستان العراق بعد أن انتدبني الحزب كممثل له في هيئة ومجلس تحرير مجلة قضايا السلم والاشتراكية (الوقت).
بموته فقدت، وكثيرون غيري، صديقاً عزيزاً ورفيقاً أميناً ومجرداً من المصالح الذاتية والأنانية، مثقفاً عضوياً ثابتاً وقارئاً نهماً، امتلك الكثير من المعارف والمعلومات والخبرات النضالية والحياتية، كان صديقاً صادقاً وناصحاً أميناً وودوداً. 
إن موت عبد الرزاق الصافي (أبو مخلص) خسارة كبيرة لعائلته وشعبه وحزبه وأصدقاءه ومحبيه. العزاء للجميع والذكر الطيب له.
كاظم حبيب 
كاظم حبيب 
من ذاكرة الزمن
عبدالرزاق الصافي: ”شهادة  على زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتية ”الصادر عن دار المدى سنة 2010




133
كاظم حبيب
حين يغيب الحوار عن السياسة ... يتوقف العقل عن العمل!
المسألة الكردية نموذجاً
بعد توتر شديد واحتقان خانق وصمت لا يطاق، احتضنت جامعة كويه في إقليم كردستان العراق، وعلى مدى يومي 28 و29/04/2019 ، مجموعة مشرقة من الباحثين الأكاديميين والأساتذة الجامعيين من العراق وبعض الدول العربية في ندوة أكاديمية مشتركة أقيمت بتنسيق مباشر بين جامعتي كويه وبغداد، بهدف تبادل الآراء ووجهات النظر حول أهمية وضرورة البدء بحوار عقلاني جاد ومسؤول عن العلاقات العربية-الكردية وعن أسس هذا الحوار العقلاني المنشود بشأن مسألة أساسية تمس العرب والكرد وباقي القوميات في آن واحد، مسألة "حق تقرير المصير". وقد وضَعَ المنظمون لهذه الندوة شعاراً مهما يدور حول "المثقف ومسألة التعايش المشترك"، استناداً إلى "حوار عربي-كردي عراقياً"، وفي "ذكرى الراحلين هادي العلوي وفالح عبد الجبار"، وهما الكاتبان الديمقراطيان واليساريان اللذان تبنيا ضرورة الحوار العربي الكردي وأهمية البحث الجاد والمسؤول عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، لا في العراق حسب، بل وفي بقية الدول حيث يعيش الكرد في أقاليمهم، كما هو الحال في كل من تركيا وإيران وسوريا، حيث الاضطهاد على أعلى وأقسى مستواه.
لقد قدّم المشرفون على الندوة، وبشكل خاص السادة وزير التعليم العالي في إقليم كردستان العراق ورئيس جامعة كويه ورئيس جامعة بغداد، ممثلاً بنائبه، ومدير الندوة الدكتور سربست نبي، كلمات مهمة استعرضوا فيها أهمية وحيوية مثل هذه الندوات وضروراتها، ولاسيما في القضايا المصيرية للشعوب، وأهمية الاستفادة من تجارب العقود المنصرمة المريرة لوضع الحلول الإنسانية والعلمية والعملية للمشكلات القائمة. ثم قدم المنظمون عرضاً موفقاً وموثقا بالصور أعده الزميل المهندس الاستشاري الأستاذ نهاد القاضي عن بعض جوانب حياة وعمل وأبحاث الراحلين ومواقفهم الفكرية والسياسية، وخاصة في الموقف من القضية الكردية في العراق والمنطقة.   
لقد قُدمت في هذه الندوة ما يقرب من 30 مطالعة وتلخيصاً لأبحاث ودراسات أكاديمية وبعضها بخلفية سياسية من باحثين وأساتذة جامعيين وسياسيين. وقد اتفق الجميع على أهمية وضرورة الالتزام بحوارات عقلانية جادة ومسؤولة وعلى أهمية وضع الأسس السليمة لمثل هذه الحوارات التي يفترض فيها أن تقود إلى العيش السلمي المشترك والاحترام والتفاعل المتبادلين واحترام الخصوصيات القومية، مع لزوم الابتعاد عن ممارسة القوة والعنف في فرض الحلول التي لا تعالج المشكلات القائمة بل تزيدها تعقيداً. وكانت تجارب العقود المنصرمة شاخصة في بحوث وأطروحات العديد من الباحثين، إذ شهدت الكثير من الخلافات والصراعات والنزاعات المسلحة والحروب الدموية التي لم تفض إلى نتيجة إيجابية، بل أدت إلى المزيد من الخسائر الفادحة بالأرواح والممتلكات وإلى تعطيل عملية التنمية والتقدم الاجتماعي والازدهار في العراق رغم الثروة النفطية الهائلة التي يمتلكها شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه. لقد تميزت الفترة الطويلة المنصرمة بغياب الحوار العقلاني الجاد والاعتراف بالحقوق المشروعة والعادلة، مما أدى إلى توقف العقل عن التفكير بالحلول السلمية والعقلانية، فكانت الصراعات والنزاعات السياسية والحروب بديلاً عن الحوار.   
في هذه الندوة الأكاديمية، التي تميزت بالحيوية والجدية، برزت وجهات نظر متباينة ليس بشأن أهمية الحوار، بل بصدد فهم وأبعاد وأسس ومستلزمات ممارسة حق تقرير المصير. وهنا تغلبت الإيديولوجية المتشددة لدى بعض المشاركين على الفكر الحر القادر على رؤية الأمور بشفافية ووضوح أكبر وفي ضوء اللوائح الدولية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، ولاسيما في الورشة الأولى، إذ كانت ورشة سياسية بامتياز وبين سياسيين عراقيين. إذ برز الاختلاف واضحاً في هذه الورشة الحوارية التي شارك فيها سياسيون ينتسبون فعلياً لأربعة أحزاب هي: حزب الدعوة الإسلامية (د. على الأديب)، الحزب الشيوعي العراقي (رائد فهمي)، الحزب الديمقراطي الكردستاني (د. محمد إحسان)، والاتحاد الوطني الكردستاني (عدنان المفتي). وتبلورت في هذه الندوة ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول يرفض حق الشعوب في تقرير مصيرها، بما في ذلك رفض حق إقامة دولة وطنية مستقلة من منطلق إنهم جميعاً في إمة إسلامية واحدة "أكرمكم عند الله أتقاكم"؛ والاتجاه الثاني يتفق مع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال وإقامة الدولة الوطنية المستقلة، ولكنه يرى بأن المرحلة الراهنة تتناغم مع الفيدرالية القائمة كحد أقصى، والاتجاه الثالث يرى بأن حق تقرير المصير، بما في ذلك الحق في إقامة الدولة الوطنية المستقلة حق مطلق للشعب يمارسه متى رأي ذلك ضرورياً. ولكن الجميع أكدوا على ضرورة الحوار العقلاني والالتزام بمعاييره وأسسه. وقد طرح مدير ورشة العمل د. سربست نبي، الذي أدار الندوة بشفافية وذكاء، أسئلة بدت وكأنها محرجة للبعض منهم، إضافة إلى الأسئلة التي طرحها الحضور. ولم يكن الهدف من ذلك إحراج المحاضرين بل التحري عن إجابات لسبل معالجة المشكلات القائمة بروح ودية ومسؤولة عن مصائر القوميات العديدة في العراق. ورغم ذلك بدا بإن بعض الأسئلة كانت محرجة لممثل حزب الدعوة، إذ تجنب الإجابة عنها، وتحدث بما كان يراه منسجماً مع الإيديولوجية الإسلامية السياسية التي يتبناها في الموقف من حق الشعوب في تقرير مصيرها، في حين أجاب الآخرون دون حرج عن الأسئلة التي بدا موقف رائد فهمي لعددٍ غير قليل من الحاضرين غير مفهومٍ، وكان مفهوماً لآخرين، حين أشار إلى إن الفيدرالية هي الحد الأقصى لهذا الحق في المرحلة الراهنة، لقناعته في عدم توفر مستلزمات إقامة الدولة الوطنية المستقلة، وأكد مجدداً على موقف الحزب الشيوعي المبدئي من حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. 
تطرح تجربة العراق مع المسألة الكردية دروساً غنية وكثيرة يفترض البحث فيها وإبرازها والتعلم منها، إذ إنها ترسم الطريق المفضي للحلول المنشودة في التعايش السلمي المشترك، كشكل من أشكال حق تقرير المصير من جهة، أو ممارسة حق إقامة الدولة الوطنية المستقلة بصورة سلمية وعبر حوار عقلاني جاد ومسؤول من جهة أخرى. فمنذ أن أُلحقت ولاية الموصل، ومعها إقليم جنوب كردستان، بالعراق، تعرض الشعب الكردي إلى التهميش والإقصاء من جانب الحكومات الملكية، وإلى رفض تنفيذ الالتزامات التي قطعتها على نفسها الحكومة العراقية والملك فيصل الأول أمام مجلس عصبة الأمم، كأحد شروط إلحاق ولاية الموصل بما فيها الإقليم بالعراق، مما استوجب خوض النضال من جانب الشعب الكردي وبصيغ مختلفة للوصول إلى بعض الأهداف، وقد ناضلت معه اقوى الوطنية الديمقراطية، وخاصة السارية منها. واشتد هذا الأمر في العهود الجمهورية رغم الاعتراف بالشراكة العربية الكردية في العراق كوطن للجميع، إلا إن هذه الحقوق لم تنفذ بما يرضي الكرد. وتفاقم رفض الحقوق في العهود الجمهورية اللاحقة في أعقاب انقلاب شباط 1963 المشؤوم، التي تميزت بالصراع والنزاع وسيول من الدماء على أيدي النظم القومية والبعثية الدكتاتورية وقواتها العسكرية. ولم يكن الاعتراف بالحكم الذاتي في عام 1970 سوى ثمرة النضال التحرري الكردي والتضامن بين القوى الديمقراطية والتقدمية العربية والقوميات الأخرى في العراق من جهة، وضعف البعث وخشيته من السقوط من جهة أخرى. ولكن هذا النظام الشوفيني سرعان ما عَمَلَ على تفريغ هذا الحق من مضامينه الأساسية، حين تعززت قدراته العسكرية وموارده المالية وتآمر بخسة ونذالة مع شاه إيران وبدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل والجزائر، في اتفاقية الجزائر في أذار/مارس 1975 ضد الشعب الكردي وحركته التحررية المسلحة. ولم تكن جرائم نظام وحزب البعث اللاحقة سوى تأكيد شوفينية ودمويته التي برزت في عمليات الإبادة الجماعية فيما أطلق عليه بعمليات "الأنفال" في العام 1988 والتي راح ضحيتها أكثر من 180 ألف مواطنة ومواطن من إقليم كردستان العراق، إضافة إلى أفدح الخسائر المادية والحضارية حيث استخدم السلاح الكيماوي في حلبچة ومواقع أخرى من كردستان. وفي عام 1991 أُجبر النظام الدكتاتوري على الانسحاب والسكوت على قيام الفيدرالية الكردستانية في الإقليم، ثم تم تكريسها في الدستور العراقي لعام 2005. ولم يكن هذا المنجز منحة من أحد بل نتيجة نضال مرير وطويل للشعب الكردي قدَّم فيها تضحيات جسيمة. من هنا يفترض أن يستخلص الباحثون الأكاديميون والمثقفون كافة والسياسيون الدروس الغنية وأن يسعوا لتعميمها والاستفادة منها في المرحلة الراهنة والقادمة، وخاصة في أعقاب التوتر الذي رافق عملية الاستفتاء في عام 2017، التي هي من حيث المبدأ حق مشروع للشعب الكردي. إن تجنب الحوار العقلاني والبدء بالصراع وإعلان القتال وخوض الحروب لن يحل المشكلات القائمة بل يزيدها تعقيداً ويخلق مشكلات جديدة. أن توقف الحوار العقلاني الجاد هو الذي يقود إلى توقف العقل عن العمل وبدء الأفعال التي تؤجج الصراعات والنزاعات والحروب. والحرب غالباً ما تلد أخرى وهلمجرا. أي إن بدء الحوار يعني التخلي عن القوة وعن استخدام السلاح للوصول إلى حلول معينة ترضي المتحاورين.   
والحوار العقلاني الجاد والمسؤول له شروطه ومستلزماته، إذ بدونها يتحول إلى "حوار بين طرشان". وكان هذا الرأي موضع اتفاق عام من جانب الباحثين الأكاديميين وأساتذة الجامعات التي تكرست هذه الفكرة في مطالعاتهم المكثفة وفي النقاشات التي دارت في 8 ورش عمل وزع عليها المحاضرون والمشاركون في الندوة. فالمساواة والندية والاعتراف والاحترام المتبادلين وتأمين الثقة والنية الصادقة بين المتحاورين تشكل القاعدة الأساسية لأي حوار عقلاني منشود. يضاف إلى ذلك الاستفادة من دروس الماضي ورفض سلوكيات الحكومات العراقية المتعاقبة في تهيش الشعب الكردي وعدم الاعتراف بحقوقه العادلة والمشروعة على مدى نيف وتسعة عقود خلت، وضرورة امتلاك رؤية واضحة وشفافة لما يراد الوصول إليه، وتجنب الاستفزاز والإثارة المتبادلة، وامتلاك روح التسامح والصبر والبحث والاستعداد لاتخاذ القرارات الصعبة للوصول إلى الأهداف المنشودة، كما يمكن الاستعانة بخبرات الشعوب والدول الأخرى لتأمين طرح المعالجات السليمة والعملية أثناء الحوار. إن الحوار سجال فكري وسياسي يراد منه الوصول إلى نتائج إيجابية، وهو ليس بمعركة واحدة وينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين وانكسار الأخر، بل يراد منه النصر للمتحاورين، لأنه يوفر الأرضية السليمة للتعايش السلمي المشترك، أو الانفصال السلمي والاحتفاظ بالصداقة والتعاون والتضامن والعمل المشترك.   
لقد نجحت الندوة في تقديم نموذج جيد ومتقدم للحوار العقلاني بين جمهرة من المثقفين الواعين في قضايا ذات أبعاد مصيرية للشعبين العربي والكردي ولبقية القوميات في العراق، ولا بد من عقد ندوات أخرى، سواء إن تم عقدها في العراق أم في دول عربية أخرى بهدف مشاركة أوسع من مثقفين وسياسيين لتوسيع وتعزيز الرؤية الواقعية والعملية والمبدئية في الموقف من حق تقرير المصير للشعوب.
ولا بد هنا من الإشارة والإشادة بما قدمته جامعة كوية برئيسها واساتذتها وطلبتها والعاملين فيها، إذ كانت نموذجاً طيبا في احتضان مثل هذه الندوات والسعي لتوفير المستلزمات وحرصاً على انجاحها، فشكراً جزيلاً لهم ولدورهم في هذا الصدد.
12/05/2019               

134

كاظم حبيب
خلوة مع النفس بصوت مسموع: الرأي والرأي الآخر

"إن حس النقد يتبلد كلما اشتد إيمان صاحبه"
عباس عبد النور
بين فترة وأخرى أخلو إلى نفسي، كما يفعل الكثير من البشر، واعود بذاكرتي إلى عقود وسنوات خلت، عقود من حياتي السياسية التي بلغت حتى الآن سبعة عقود بالتمام والكمال، أي منذ أن بلغت الرابعة عشر من عمري حيث بدأ وعيي السياسي الأول يتفتح على الحركة الطلابية والحركة السياسية العراقية، وقد اقترن ذلك بوثبة كانون الثاني 1948. لقد كانت الحياة مليئة بالحركة والعنفوان وروح التمرد الشبابية على العادات والتقاليد والأعراف البالية تموج في نفوسنا الشبابية وتتطلع إلى حياة جديدة فيها الجديد من معاني الحرية والديمقراطية والعمل وضد البطالة والفقر والحرمان والاستفادة من ثروات البلاد لصالح المجتمع. والخلوة مع النفس لا تخلو من نقد أو حتى جلد الذات لأخطاء ارتكبها أو ارتكبت بحقه أو بحق الآخرين أو فشل مرَّ به الإنسان أو المجتمع وكذلك عن نجاح تحقق له أو للمجتمع. إنه حساب مع النفس ومع الآخر.
تشير معطيات وتجارب الشعوب دون استثناء بأن غياب الحياة الديمقراطية كلية، أي سيادة الاستبداد بمختلف صوره وأشكال ظهوره، أو جزئياً وشكلياً، أو وجود الحياة الديمقراطية ومستوى وجودها في الدول، يلعبان دوراً أساسياً في ثلاث مسائل جوهرية:
1. دور وجود أو غياب الحياة الديمقراطية في تكوين الفرد ديمقراطياً أو بالضد منها.
2. واقع وجود أو غياب الحياة الديمقراطية في المجتمع وما ينعكس في دور الشعب وتأثيره في الحياة السياسية.
3. واقع الحياة الديمقراطية الداخلية في الأحزاب السياسية القائمة ودورها وعلاقتها بالدولة والمجتمع. وأحياناً تغيب الحياة الحزبية كلية في الكثير من الدول النامية، بسبب غياب الديمقراطية كلية، أي سيادة الاستبداد تماماً. والدول العربية والأفريقية وكذلك في آسيا وأمريكا اللاتينية تقدم نماذج فجائعية بهذا الصدد.
والعراق عموماً يعيش على امتداد عقود القرن العشرين والعقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين غياباً جزئياً أو كلياً للحياة الديمقراطية. وقد انعكس ذلك جزئياً أو كلياً على الأحزاب السياسية القائمة، على وجودها أو غيابها أو على مستوى الحياة الديمقراطية الداخلية فيها وفي علاقاتها مع الدولة والمجتمع.
وفي فترات مختلفة عرف العراق أحزاباً سياسية اندثر أغلبها وبعضها القليل قائم حتى الآن. بعض تلك الأحزاب حصل على إجازة عمل رسمية، وهي أحزاب النخب الحاكمة بشكل خاص، وأخرى معارضة كانت تغلق بين فترة وأخرى ويحرم عليها العمل السياسي رسمياً. وكانت هناك أحزب سياسية حرمت من العمل السياسي الرسمي وأجبرت على العمل السري، وبالتالي فكانت مطاردة من قبل الأجهزة الأمنية وغالباً ما وجد قادتها وكوادها وأعضاؤها أنفسهم في السجون وتحت التعذيب وبعضهم استشهد في المظاهرات أو على أعواد المشانق. وفي تاريخ العراق الحديث صدرت في فترات مختلفة قوانين جائرة تتعارض مع مواد الدستور العراقي لعام 1925 أو حتى فيما بعد، رغم تضمينه الحق في تشكيل الأحزاب والمنظمات والتجمع والتظاهر والإضراب وإبداء الرأي دون الخشية من عقوبات.
وانعكست الحياة غير الديمقراطية في الدولة العراقة على حياة الأحزاب السياسية في نواحي عدة وأبرزها ما يلاحظ في نظمها الداخلية ولاسيما التشدد في قواعد العمل وفي كسب الأعضاء وفي سرية الحياة الحزبية، وفي العلاقة بالأفراد والجماعات وفي الصحافة. ومما يزيد هذه الأمور صعوبة استخدام الدولة سلطاتها الثلاث، ولاسيما التنفيذية في الطلب من شيوخ دين بارزين وبتبعهم الكثير من المؤمنين بتحريم هذا الحزب أو ذاك، كما حصل من شيخ الدين محسن الحكيم حين حرم الحزب الشيوعي والشيوعية عام 1963، بل وحرم التعامل مع الشيوعيين (كما حصل حين حرم شراء بيت وسيلة الشبيبي في النجف، لأن أخيها الشهيد حسين الشبيبي (صارم) كان شيوعيا وأحد قادة الحزب وأعدم عام 1949) واعتبر ذلك من الكفر! وحين انخفض سعر الدار بسبب التحريم، قام السيد محسن الحكيم بشراء تلك الدار بسعر بخس! ومعروف لدى المسلمين حكم الكفر!
وفي ضوء هذا الواقع المضاد للدستور العراقي أجبرت بعض الأحزاب والكتل السياسية على العمل السري بسبب رفض السلطات الحاكمة منحها إجازة عمل رسمية، أن تضع في نظمها الداخلية بنوداً تتعارض مع مواد الدساتير العراقية والقوانين المرعية عموماً، إذ كانت تلك الأحزاب محرمة رسمياً وأعضاؤها ملاحقون من قبل السلطات الأمنية والسياسية. كتب حسين محمد الشبيبي (صارم) في مقدمة كراس يوسف سلمان يوسف(فهد) "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" بهذا الصدد ما يلي:
" فالحزب يختفي أذن ويصبح حزباً سرياً بقصد نشر مبادئه وآرائه، وتبيان موقفه من الحوادث وللمحافظة على استمرار الحركة وتنظيمها، الى آخر ما هنالك من الواجبات. فالشيوعيون ليسوا من عشاق السراديب والسجون وليسوا ممن يرتاحون الى تعريض بيوتهم الى غارات الشرطة وارهاب من فيها وأحياناً أخذهم رهائن - كما حصل في غارات حزيران المنصرم - وليسوا ممن يحبون رؤية وجه الجاسوس الذي يتبعهم كظلهم، ولكنهم يتحملون كل هذه وأكثر منها برغم أنف العدو الذي يحاول تهزيمهم من الميدان - عن طيب خاطر لسبب يحلّونه فوق ذواتهم وفوق بيوتهم، أنهم يعشقون مثلا أعلى في الحياة لطبقتهم وللبشرية أجمع، أنهم يكرهون عن وعي أعداء طبقتهم الواقفين حجر عثرة في طريق تقدم الإنسانية". هذا التشخيص دقيق تماماً لغالبية الفترة التي عاش تحت وطأتها الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه، ولا يمكن لأحد أن ينكر ذلك، رغم الفترة القصيرة من حكم عبد الكريم قاسم التي لم تستمر سوى سنة واحدة لتنتهي بعدم منح الحزب إجازة رسمية، إذ شَرَعَ بالهجوم والبدء باعتقالهم لمناداتهم بـ "الديمقراطية للعراق والسلم لكردستان العراق".
وكانت النظم الداخلية للأحزاب الشيوعية واليسارية عموماً في الدول الأخرى، التي كانت تعيش ذات الأوضاع اللاديمقراطية المماثلة لأوضاع العراق، متشابهة من حيث الجوهر في جميع الدول التي كانت ترفض سلطاتها منح هذه الأحزاب إجازة العمل العلني، والكثير منها لا يزال يمارس ذلك. وبالتالي كان المتابع يقرأ مواداً تنظيمية تفرض قواعد معينة على أعضائها تتعارض من حيث المبدأ مع مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي يمكن أن نجدها في كراس فهد حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية أو في مقدمة حسين محمد الشبيبي للكراس في تبرير تلك القواعد وتتجلى في النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي. فعلي سبيل المثال لا الحصر تتعارض مع الحق في إبداء الرأي المخالف لرأي الحزب علناً ونشره في الصحافة العلنية، وليس بالضرورة في صحافة الحزب المعني. وكان الأعضاء يقبلون بذلك بسبب غياب الديمقراطية كلية في البلاد، وبسبب الخشية من تفشي اسرار هذا الحزب أو ذاك وما يمكن أن ينشأ عنها من عواقب سلبية. من بين تلك القواعد سبل تطبيق المركزية الديمقراطية، أو الالتزام بعدم إبداء الرأي المخالف لرأي الحزب علناً بل يمكن مناقشته داخل تنظيمات الحزب حصراً أو نشره في إعلام الحزب، أو قاعدة "نفذ ثم ناقش" التي كانت سائدة عملياً! وكان من يخرق هذه القواعد الكثيرة جداً يحاسب ويعاقب على وفق القواعد المنصوص عليها في النظام الداخلي وهي: "التنبيه، الانذار، التنحية من اللجان أو المسؤولية، وفصل العضو من الحزب أو انهاء الترشيح للحزب." (أنظر: النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي الذي أقر في مؤتمره العاشر عام 2016).
ولكن وجود مثل هذه القواعد المخالفة من حيث المبدأ للدساتير الديمقراطية ولشرعة حقوق الإنسان بكل مكوناتها في النظم الداخلية لهذه الأحزاب، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، لم يعد قابلاً للتطبيق، إذ لم يعد الحزب يعمل في السر بل حصل على إجازته ويعمل علناً وله مقراته ويمارس مع بقية الأحزاب العملية السياسية الجارية في البلاد، رغم المخاطر التي تحيط بعمل الحزب، ناهيك عن القوى المتربصة به، بغض النظر عن طبيعة هذه العملية السياسية، كما أنه أقر الدستور العراقي الذي بنص على حرية الفرد في التعبير عن رأيه دون خشية من عقوبة أيا كان موقعه في الحزب. ماذا يعني ذلك؟ إن هذا يعني بكل بساطة واختصار: لا يجوز لأي حزب سياسي علني في العراق أن يتضمن نظامه الداخلي عقوبات على أعضاء الحزب بسبب اختلافهم في الرأي مع رأي الحزب، وبسبب نشر رأيهم الصريح بصورة علنية في صحافة الحزب أو في صحف علنية أخرى، حين يرفض الحزب نشره في صحافته أو حتى عند نشره. إذ أن مثل هذه العقوبات تتعارض مع مواد الدستور التي تعطي المواطن والمواطنة الحق في إبداء رأيه وإعلانه صراحة وعلناً دون خشية من عقوبة. كما إن من حق العضو أن يرفض تنفيذ أي قرار صادر من قيادة هذا الحزب أو ذاك حين يجد أن ذلك يتعارض مع مبادئ الحزب أو الدستور العراقي أو شرعة حقوق الإنسان أو ضميره. وحين يتعرض للعقوبة من حقه أن يرفع دعوى قضائية ضد الحزب أمام المحاكم المحلية للبت في الموقف على ضوء الدستور وليس النظام الداخلي للحزب. إذ لا يجوز وضع نظم داخلية للأحزاب التي تحمل إجازة رسمية تتعارض مع الدستور العراقي، رغم إن من حقها أن تعمل لتغيير الدستور أو تعديله والتبشير بذلك.
فالفقر 2 من المادة الأولى من النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي في مؤتمره الثالث عام 1976 تؤكد ما يلي: "وحدة الحزب السياسية والتنظيمية، ووحدة المنطلقات الفكرية المبنية على الأسس الديمقراطية وعلى حرية الآراء وتفاعلها، وهي تجد تعبيرها في وحدة الإرادة والعمل". ولكن تحقيق وحدة الرأي والعمل تتم على النحو الوارد في الفقرة (3) من المادة الثالثة: حقوق عضو الحزب: "حرية ابداء الرأي والمناقشة، وتعدد الآراء وتباينها وتفاعلها والاتفاق عليها داخل المنظمات والهيئات الحزبية، والاستماع الى الآراء المخالفة واحترامها والاستفادة منها." وكذلك الفقرة ج من 3. حق الأقلية في مناقشة سياسة الحزب العامة، وسياسته التنظيمية، وفي ابداء الاعتراض عليها أمام الهيئات الحزبية المسؤولة بما فيها المؤتمر، والتعبير عن رأيها في منابر الحزب الاعلامية، على أن لا يعيق ذلك التزامها تنفيذ قرارات الهيئات القيادية."
وقد تطور موقف الحزب خلال السنوات الأخيرة فورد في النظام الداخلي الذي أقره المؤتمر العاشر عام 2016 بهذا الصدد ما يلي:
"نشر وجهات نظره في القضايا الفكرية والسياسية في المنابر الاعلامية للحزب، وتقديم المقترحات والاعتراضات الى هيئته او اية هيئة حزبية اعلى، لدراستها والابلاغ عما اتخذته من إجراءات بشأنها."
ج - حرية ابداء الرأي والمناقشة، وتعدد الآراء وتباينها وتفاعلها والاتفاق عليها داخل المنظمات والهيئات الحزبية، والاستماع الى الآراء المخالفة واحترامها والاستفادة منها.
د‌- حق المنظمات الحزبية وأعضاء الحزب في الاعتراض على قرارات الهيئات القيادية، والمطالبة بإعادة النظر فيها، مع توضيح الاسباب، على أن لا يعيق ذلك تنفيذهم لها إلى حين البت في الأمر والاتفاق بشأنه. والهيئة القيادية ملزمة بالنظر فيه خلال شهر واحد من تأريخ استلامه من قبل الهيئة التي تصادق على القرار." (أنظر: النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي، موقع الحزب الشيوعي العراقي، نشر بتاريخ الأربعاء, 28 كانون1/ديسمبر 2016).
حين تقرأ ما ورد في المؤتمر الثالث والمؤتمر العاشر من حيث الجوهر ستجد إن المحصلة واحدة وهي لا يحق للرفيق الشيوعي أو أقلية حزبية نشرها الرأي المخالف لرأي الحزب خارج الأطر الحزبية الداخلية أو إعلام الحزب. وهذا غير صحيح خاصة، إذا امتنع الحزب عن نشر تلك الآراء في صحافته الحزبية. إنها مخالفة صريحة للدستور العراقي ولمبادئ حقوق الإنسان. لهذا فأي عقوبة تتخذ بحق رفاق شيوعيين اتخذوا موقفاً معارضاً لسياسة الحزب بطريقة تختلف عما نص عليه النظام الداخلي للحزب تعبر غير شرعية ويمكن الاعتراض عليها دستورياً وفي المحاكم العراقية. إن هذا لا يعني إن القضاء العراقي عادل فهو معروف لنا، ولكن الحديث هنا عن المبادئ التي يفترض أن تسود.
إن الأحزاب السياسية العراقية، الإسلامية منها والقومية، القائمة في العراق لا تمتلك المصداقية لا في برامجها ولا في نظمها الداخلية، وبالتالي فالمقارنة مع الحزب الشيوعي غير واردة، ولكن يفترض في الحزب الشيوعي العراقي أن يقدم النموذج الأفضل والأرقى والأحدث في هذا الصدد ويمنح رفاقه الحق في الاختلاف وفي نشر الأفكار المخالفة من أجل تنضيج الآراء مع المثقفين والمتعلمين والجماهير خارج صفوف الحزب، وكم كان من الناحية الفعلية رأي الأقلية في الحزب هو الأصوب من رأي الأكثرية.، ولكنها حرمت من إعلان رأيها، وهو ما يقود إلى عدم التناغم والانشقاقات التي تحرم الحزب قدرته على تعبئة قواه الداخلية. كم أتمنى على الحزب الشيوعي العراقي العريق والأقدم في العراق أن يعيد النظر فيما اتخذ من عقوبات بحق من خالف وجهة نظر الحزب بشأن هذه القضية أو تلك، إن كان قد اتخذ مثل هذه العقوبات، ومنها قضايا التحالفات السياسية، لأنها الضمانة الفعلية في تطور فكر الحزب وفي تأمين أفضل تفاعل بين الآراء وضمان التجديد الفكري والسياسي. وعلى وفق قناعتي الشخصية فأن النقد الجريء يعتبر المشعل الذي ينير درب المناضلين الطويل"، والتذمر منه أو الإساءة للناقد خسارة لا مبرر له



135
كاظم حبيب
جريمة بشعة يرتكبها أتباع حزب الفضيلة ضد مقر الحزب الشيوعي العراقي في الناصرية

جج حزب "الفضيلة"، الفاقد كما يبدو لكل فضيلة، في الناصرية مجموعة من رعاعه ليعتدوا على مقر الحزب الشيوعي العراقي في الناصرية وليهتفوا بصوت لا يختلف عن أنكر الأصوات المذكور في القرآن "كلا كلا للكفر والإلحاد" ومطالبين بإعدام المناضلة الشجاعة والناشطة النسوية والمدنية والنائبة في مجلس النواب العراقي عن الحزب الشيوعي العراقي هيفاء الأمين. إنها لجريمة منكرة وبشعة ان يمارس هؤلاء الجهلة، الذين جندهم حزب الا فضيلة، بهذه الهمجية مقر الحزب الشيوعي تحت سمع وبصر سلطة المحافظة وقوى الأمن والشرطة المحلية، فمثل هذا الاعتداء العدواني لا يمكن ان يحصل إلا في دولة خربة ونظام سياسي طائفي محاصصي فاسد. لم يكن هذا الهجوم العدواني وهذه الشراسة إلى حد المطالبة بإعدام المناضلة هيفاء الأمين الا لأنها وضعت، بغض النظر عن الأسلوب، أمام القارئات والقراء ثلاث مسائل جوهرية هي:
أولاً: إن العراق كله، وليس جنوب العراق، يعيش تخلفاً اقتصاديا واجتماعياًً وبيئياً شديداً بسبب طبيعة وسياسات النظام القائم في العراق، وبسبب الفساد السائد فيه وعلى جميع المستويات والمجالات، وان هذا الواقع يؤذي الشعب ولا يساعد على نهوضه حضارياً. ويجد هذا تعبيره في واقع الطائفية السائدة ومحاصصاتها والفساد العام والبطالة والفقر والحرمان والرياثة في البلاد
ثانيا: وان المرأة العراقية تعيش جحيما لا يطاق، تعيش وضعا مأساوياً وكارثيا، وهي مضطهدة في البيت والشارع والمجتمع، ولا بد لهذا القهر والظلام ان ينتهيا، ولا بد من تغيير هذا الواقع. وهيفاء الأمين لم تؤشر من يقف وراء ذلك، ولكن شيوخ الدين الفاسدين والأحزاب التي ينتمون إليها ادركوا جميعاً إنهم هم المقصودون بذلك، وعلى حد قول المثل الشعبي " اللي جوه إبطه عنز يبغج" فبغَّجَ اتباع حزب الا "فضيلة" فكشفوا عن هويتهم وفسادهم وعدائهم ضد النساء وضد حريتهم وحقوقهم الأساسية.
ثالثا: كما إنها أشارت إلى بعض الممارسات غير الإنسانية وتعذيب النفس وإيذائها دون أدنى مبرر بذريعة التقرب لآل البيت وهم منهم براء وألف براء.
إن هؤلاء الأوباش كانوا ينتظرون أي فرصة للانقضاض على بنات وأبناء الشعب المخلصين الذين يتصدون بجرأة وعزم للطائفية والمحاصصة والفساد، لأن مهمة هؤلاء المرتزقة هو الدفاع عن أسيادهم من الفاسدين والمتحكمين بأوضاع البلاد.
إن من وجه ودفع وأجج العداء ضد مقر الحزب الشيوعي العراقي في الناصرية وكذلك من ساهم في ذلك ومن هتف بشعارات عدوانية تحريضية بما فيها إعدام المناضلة هيفاء الأمين يجب أن يقدموا جميعا إلى المحاكمة العادلة لينالوا الجزاء العادل على أفعالهم النكرة والمناهضة للدستور العراقي وحقوق الإنسان وحق إبداء الرأي ولسلوكهم الوحشي وعدوانيتهم. وعلينا ان نقوم بحملة واسعة ضد هؤلاء وضد الطائفية السياسية والمحاصصة والفساد في البلاد.
إن علينا أن نتصدى لكل من يتجرأ على رفع يده الخبيثة ويتجاوز على الشرعية الدستورية وعلى حق الإنسان في التعبير عن رأيه دون التعرض للمساءلة القانونية أو العدوانية الشرسة، كما حصل في الناصرية أخيراً، إنها مهمة المجتمع كله مهمة قواه وأحزابه وقواه المدنية والديمقراطية واليسارية.


136
كاظم حبيب
رؤوس نقاط عن مشكلات الاقتصاد العراقي في المرحلة الراهنة
     

أولاً: تفاقم السمة المميزة للاقتصاد العراقي الريعي النفطي“.
ثانياً: تشوه البنية الاقتصادية للاقتصاد التي تتجلى في تخلف شديد للصناعة وضعف القطاع الزراعي والإنتاج السلعي الصغير.
ثالثاً: غياب سياسات اقتصادية واجتماعية عقلانية لدى الحكومة وابتعاد فعلي حتى عن السياسات اللبرالية للبرجوازية الوطنية المتوسطة، فهي سياسات تتخبط بين برنامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من جهة والجهل بمفهوم لليبرالية الاقتصادية أو استيعابها ومناهضة لتنمية وتطوير القطاع الخاص الصناعي والزراعي.
رابعاً: سوء توزيع وإعادة توزيع للدخل القومي وغياب الاستثمار الرأسمالي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو التدمير الإنتاجي وغياب العدالة في توزيع واستخدام الدخل القومي.
خامساً: سوء الإدارة والتنظيم والتخلف الشديد في التعامل مع دافعي الضرائب، مع المجتمع والاقتصاد الوطني وعدم وجود الرجل المناسب في المكان المناسب في جميع اجهزة الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث.
سادساً: وابشع من كل ذلك ويستكمل الحلقة المغلقة سيادة الفساد المالي والإداري والاجتماعي في الدولة العراقية كنظام فاعل ومعترف به عمليا ويمارس يوميا بملايين الدولارات.
إن هذا الواقع المزري مرتبط عضوياً بطبيعة الدولة العراقية القائمة على أساس الطائفية السياسية والمحاصصة المذلة للشعب والت تتجلى في جميع السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء.
انها وباختصار تجاوز ات فظة على حقوق الإنسان وتتجلى في:
أ: تشوه البنية الطبقية بسبب تشوه البنية الاقتصادية ونجدها في اتساع قاعدة أشباه البروليتاريا، وضعف البرجوازية الوطنية المتوسطة وضعف حجم ودور الطبقة العاملة وإعاقة شديدة لدور وتأثير المثقفين في الحياة الثقافية والاجتماعية والتنوير.
ب: وجود بطالة واسعة بسبب غياب الاستثمارات وتنمية الصناعات وتحديث الزراعة وتنميتها مقترنة بتضخم هائل في فئات الموظفين وفي الخدمات غير الإنتاجية تجاوزت كل الحدود ومنذ سنوات بدأ العجز عن استيعاب المزيد من الخريجين من مختلف المستويات والمجالات.
ج: يقترن بذلك ارتفاع في معدلات النمو السكانية السنوية وعجز عن توفير فرص عمل في القطاعات الإنتاجية وخدماتها.
د: تنامي عدد العائلات الفقيرة التي تقع تحت وعلى وفوق خط الفقر الدولي بقليل لبلد نفطي مثل العراق.
ه: إن غياب التنمية الاقتصادية يؤدي بالضرورة إلى الاعتماد على الخارج والانكشاف عليه في قطاع التجارة الخارجية تصديراً واستيراداً، وهو القطاع الذي يستنزف جزءا كبيراً من الدخل القومي ومن حصة الاستثمار الانتاجي دون ان تساهم في تحقيق التراكم الرأسمالي بسبب ان غالبية استيرادات العراق استهلاكية أساسية وكمالية تنافس الإنتاج والسوق المحلي وتمنع تطور الاقتصاد الانتاجي.
و: تدهور الخدمات العامة ولاسيما قطاع التربية والتعليم العالي والمهني من حيث المناهج ومستوى التدريس والمدرسين والطلبة وطرق التدريس، إضافة إلى تدهور كبير في البنايات المخصصة للمدارس والكليات في المدن والأرياف. وتدهور قطاع الصحة والعناية الطبية وبقية الخدمات
ز: نسبة عالية من المجتمع تعاني من صعوبة الحصول على السكن وارتفاع الإيجارات أو البناء وارتفاع مستوى التضخم وتراجع القدرة الشرائية للدينار العراقي، وبالتالي للفئات الاجتماعية الكادحة.
وهنا لا بد لي من تأكيد دور إيران وتركيا السلبي جداً في إعاقة اتخاذ القرارات الاقتصادية المستقلة وعرقلة تنفيذ مشاريع انتاج الطاقة الكهربائية ومشاريع التنمية الصناعية وتطوير وتحديث الزراعة باعتبارها ستكون منافسة لصادراتهما السلعية إلى السوق العراقي ولاسيما الغاز والطاقة الكهربائية. وهي اليوم تسعى لتأسيس مصرف إيراني -عراقي - سوري لكي تستطيع بموجبه التعامل التجاري على أساس العملات المحلية لتغرق السوق العراقي بالسلع الإيرانية وتعطل وتعرقل عملية التنمية الزراعية. الصناعية، وهي التي يفترض ان نتصدى لها ونرفضها.
ويلعب الفساد على الصعد المحلية والإقليمية والدولية دوره في نهب المزيد من أموال النفط الخام المصدر من خلال العقود الإنشاءات الحكومية وعقود السلاح والعقود التجارية وعبر مزاد البنك المركزي للدولار الأمريكي وأساليب كثيرة أخرى.
ان المجتمع العراقي لا يعيش تحت وطأة التخلف الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل وتحت تهديد الدواعي الذين لم ينتهوا حتى الان بل دخلوا بعمليات استنزاف جديدة وطويلة الأمد، كما يعاني من المليشيات الطائفية المسلحة، التي يكون قادتها وجزء كبير منها بنية الحشد الشعبي، التي تمارس سياسات تدميرية ضد المجتمع ومصالحه وبإرادة إيرانية.
إن الخلاص من هذا الواقع يتطلب النضال الوعي والدؤوب من اجل التوعية والتنوير في صفوف المجتمع وتعبئته لصالح النضال في سبيل المصالح والأهداف المهنية للفئات الاجتماعية المختلفة من جهة، وشدها إلى المصالح والمهمات الوطنية آلتي تمس المجتمع كله من جهة أخرى. فالعراق يعاني اليوم من محاولات شرسة لتحويله إلى دولة خائبة شبه مستعمرة لإيران لا تستطيع اتخاذ أي قرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي ومواقف وسياسات دولية دون العودة لإيران.
من حيث الواقع لا يملك الشعب العراقي حريته الفعلية وأمنه وسلامته وسلامة وطنه، بسبب السياسات الطائفية المحاصصة غير العقلانية.
ان المهمة التي تواجه المجتمع هو خوض نضالات مستمرة بما فيها التظاهر وتعبئة القوى الشعبية لتدرك الأوضاع المزرية التي تعيش فيها وضرورة تحركها لمواجهة النخب الحاكمة الفاسدة والموغلة في إفقار الشعب من اجل تغيير ميزان القوى لصالح القوى المدنية الديمقراطية والعلمانية وألفة المؤمنة من جميع الديانات التي تعمل من اجل دولة ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي. والطريق.
د. كاظم حبيب
محاضرة ألقيت في ندوة أقامتها الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية على قاعة الأكاديمية الثقافية في مدينة عنكاوة / أربيل في 05/05/2019


137
نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا


د. كاظم حبيب

لحلقة التاسعة
قراءة في الفصل التاسع: الزراعة: التخلف عن إشباع حاجة السكان
يقدم لنا الدكتور علي مرزا مساهمة مهمة عبر تسجيله وتحليله للوحة مكثفة جداً عن الواقع الزراعي وحجم الإنتاج في فترة كان القطاع الزراعي يشكل القطاع الأول في تحقيق الناتج المحلي الإجمالي، فترة الريع الزراعي، وفي الفترة التي أصبح القطاع النفطي يشكل القطاع الأول في توفير النسبة العظمى من الناتج المحلي الإجمالي وتراجع القطاع الزراعي إلى الموقع الثاني فالثالث أو متقلب بينهما. وإذ أشار إلى دور الإجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية لتوطين البدو من خلال توزيع الأراضي الأميرية على شيوخ العشائر والعائلات الميسورة في الولايات الثلاث، انتقل إلى الفترة التي أعقبت تخلص العراق من الهيمنة العثمانية وسقوطه تحت الهيمنة البريطانية حتى سقوط الملكية عام 1958. وقسم الفترة الواقعة بين 1864-2018 بالسبة للقطاع الزراعي إلى فترتين: الأولى قبل العهد النفطي، والثانية بعد سيادة الدولة الريعية النفطية، وقارن بين أربع مسائل مهمة للفترتين المذكورتين، وهي:
إجمالي مساحات الأراضي المستخدمة في الزراعة أولاً، وإنتاجية الفرد الواحد أو الدونم الواحد ثانياً، وإجمالي الإنتاج الزراعي، ومقارنة بين نمو السكان ونمو الإنتاج الزراعي ثالثاً، وعلاقة ذلك بإشباع حاجات المجتمع والقدرة التصديرية للمحاصيل الزراعية رابعاً. كما ركز في دراسته على المحاصيل الزراعية الثلاثة: الحنطة والشعير والرز. ثم عمد إلى إبراز دور النفط وتنامي إيراداته السنوية على دور القطاع الزراعي ومستوى الاهتمام بهذا القطاع الأكثر أهمية لإشباع حاجات السكان من السلع الزراعية والمواد الأولية الصناعية، من خلال استخدامه خطوتين، أولى إجراء مقارنة بين الإنتاج الزراعي في الفترتين، والثانية إجراء قياس الارتباط بين معدل حصة الشخص من العوائد النفطية ومعدل حصته من الإنتاج الزراعي، وتوصل إلى استنتاج بهذا الصدد صاغة على النحو التالي: "نخلص من الاختبار باستخدام الخطوتين إلى: 1) أن حصة الشخص من الإنتاج الزراعي كانت في تصاعد قبل العهد النفطي وفي تدهور خلال العهد النفطي. وب) يبين معامل الارتباط عموماً، ارتباطاً عكسياً بين تغير حصة الشخص من العوائد النفطية وحصته من كمية الإنتاج خلال العهد النفطي. ج) وبذلك نميل للاعتقاد إلى أن كلا الاختبارين يرجحان باحتمال معقول صحة الفرضية الريعية، عموماً". (أنظر، مرزا، الكتاب، ص229/230).
على أهمية هذه الدراسة وضرورة إبراز دور الدولة الريعية النفطية السلبي على القطاع الزراعي وعلى مجمل الاقتصاد الوطني والحياة الاجتماعية والسياسية، وأهمية تغيير هذه العلاقة لصالح تنويع الاقتصاد الوطني والاهتمام بالقطاع الزراعي، فأن أي دراسة اقتصادية ليست مهمتها الجانب التقني والحسابي فحسب، بل وبالأساس دور الاقتصاد في التأثير المباشر وغير المباشر على الإنسان في معيشته وحياته سلباً أو إيجاباً، أي ضرورة الغوص في أعماق المشكلة الزراعية في العراق لا البقاء على سطح الأرقام على أهميتها، رغم إن الأرقام تمنحنا صورة مفيدة ولكن المعدل لا يعبر عن واقع الحال للفئات الاجتماعية المختلفة. غالباً ما يشير علماء الاقتصاد إلى إن الأرقام الإحصائية التي تنشرها الدول، ولاسيما النامية، تشبه مايوه السباحة النسائي إذ يكشف عن الكثير من جسم المرأة، ولكنه يخفي أهم ما فيه.
كتب ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي 1332-1406م) في مقدمته ما يلي: "إنه لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر... لا بد لك أن تفهم ما في القاع... قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً.. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور".                     
إن البحث في الاقتصاد الزراعي يفترض أن يمتد ليشمل، على وفق قناعتي الشخصية، عدة مسائل جوهرية، إذ كان بودي لو كان قد تطرق إليها الزميل مرزا ولو بكثافة، لأني مقتنع بأن لديه الكثير من المعلومات حولها، أشير إلى أهمها فيما يلي:
أولاً: أهمية الإنتاج الزراعي في ضمان الأمن الغذائي والاقتصادي للعراق، ولاسيما وأن المنطقة مليئة بالمفاجئات غير السارة والتي تستوجب تأمين احتياطي منه. ومرّ العراق بتجارب مريرة في هذا الصدد ومنها فترة الحصار الدولي بين 1992-2003. 
ثانياً: الأهمية القصوى لتنويع الإنتاج الزراعي وأهمية ذلك لمسالتين مهمتين هما: الدورة الزراعية وتأثيرها الإيجابي على خصوبة التربة ونوعية الإنتاج من جهة، وتحسين معدلات الغلة وزيادة الإنتاج وتأمين المنتجات الزراعية للاستهلاك الغذائي، والخامات الزراعية للقطاع الصناعي.
ثالثاً: القطاع الزراعي لا يشمل المحاصيل الزراعية فحسب، بل هو قطاع يشمل المحاصيل ومنتجات البستنة والغابات والثروة الحيوانية والثروة السمكية، وبالتالي، فالاقتصار على المحاصيل الزراعية لا يقدم لوحة كافية عن القطاع الزراعي ضمن صورة الاقتصاد الوطني.
رابعاً: واقع الاستغلال الذي يتعرض له الفلاح غير المالك للأرض الزراعية وفئات المزارعين الآخرين، وسبل استخدام الريع الزراعي في الاقتصاد العراقي في الفترة التي سبقت الريع النفطي وبعده. وهناك معلومات كثيرة في هذا الصدد ابتداءً من رسالة الدكتوراه للدكتور صالح حيدر وانتهاء بكتاب الدكتور طلعت الشيباني، وزكي خيري وعزيز سباهي وكاظم حبيب وعشرات كتب أخرى حول القطاع الزراعي، إضافة إلى كتاب الدكتور كامل عباس مهدي الصادر باللغة الإنكليزية في لندن عام 2000 وتحت عنوان "الدولة والزراعة في العراق، التطور الحديث، الركود وتأثير النفط"  State and Agriculture in Iraq- Modern Development, Stagnation and the Impact of Oil إضافة إلى الكثير من الأبحاث والدراسات والمقالات المهمة الصادرة بهذا الشأن والمنشورة على العديد من المواقع الإلكترونية.
خامساً: مستوى الخدمات التي تقدم للفلاحين والريف العراقي خلال الفترات المنصرمة، ومدى تأثير ذلك على هجرة الشباب بشكل خاص، وبقاء الفلاحين كبار السن في الريف والزراعة، على ما يلاحظ في العراق خلال فترات طويلة.
سادساً: مدى تأثير الحروب العراقية، الداخلية منها والخارجية، فعلياً على الريف والزراعة العراقية وحياة العائلات بالارتباط مع التجنيد الإجباري للقوى العاملة التي تتراوح أعمارهم بين 18-60 سنة وأحياناً أقل وأكثر من هذين الحدين، إضافة إلى نشر الألغام في الكثير من الأراضي الزراعية الحدودية ولاسيما في إقليم كردستان العراق. 
وإذ أشير إلى هذه المسائل المهمة في القطاع الزراعي فلا بد أن أشير أيضاً إلى الأهمية القصوى لأي باحث اقتصادي يعالج أوضاع القطاع الزراعي إن يبحث في مسألتين مهمتين لا يجوز إغفالهما بأي حال، حتى لو اختلفت وجهات نظر الباحثين، وأعني بهما:
طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في البلاد قبل وبعد الإصلاح الزراعي لا على ما هو مسجل في القوانين فحسب، بل والحالة الفعلية على أرض الواقع، وهي أمور متيسرة.
مستوى تطور القوى المنتجة البشرية والمادية ومدى تأثيرها على إنتاجية العمل أو غلة الدونم الواحد من الأرض الزراعية في السنة. إذ إن التوسع في الأرض وزيادة الغلة التي برزت بشكل خاص في الفترة التي سبقت الفترة الريعية النفطية قد أدت إلى تسليط استغلال بشع على الفلاحين، إذ كان عليه أن يعمل ساعات أكثر وعلى مساحات أوسع لإنتاج غلة مساوية أو أكثر لصالح مالك الأرض أو المستحوذ عليها. وحين توفرت إمكانية زيادة نصب المضخات المائية على شواطئ الأنهر وزيادة المكائن الزراعية من تراكتورات (حارثات) وحاصدات وأدوات أخرى وأسمدة كيمياوية وحبوب محسنة ومخازن وقضايا النقل الزراعي وسبل التسويق، ازدادت غلة الأرض وارتفعت إنتاجية الفرد الواحد، ولكن لم تلعب باستمرار دوراً تحسينيا في حياة ومعيشة الفلاحين.
ويبدو لي بإن المفروض أن يبحث الكاتب واقع الزراعة العراقية ومشكلاتها الراهنة في أعقبت إسقاط الدكتاتورية الغاشمة حتى سنة صدور الكتاب والدور الكبير والمتنامي لكبار الملاكين الذين عادوا إلى الأراضي التي فقدوها بسبب القانونين الزراعيين وتعديلاتهما، ودور شيوخ العشائر الذين عادوا وبشكل أقوى إلى دورهم السابق في الهيمنة على الفلاحين والريف بل وبروز تأثيرهم المتنامي وتقاليدهم التي تهيمن حالياً على أجواء المدن العراقية، ومنها بغداد.   
الحلقة العاشرة
قراءة في الفصل العاشر: التصنيع: نشاط متدهور
الفترة بين 1921-1968
قدم الباحث الدكتور علي مرزا في الفصل العاشر دراسة تحليلية قيمة عن نشوء وتطور القطاع الصناعي في العراق منذ النواتات الأولى في العهد العثماني، ومروراً بالعهد الملكي بين 1921-1958، وانتهاء بالعهود الجمهورية المتلاحقة بين 1958- 2014 تقريباً مع واقع تقلبات هذا القطاع الذي يفترض أن يشكل قاعدة النمو والتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي في العراق. وفي هذا الفصل أيضاً يفتقد المتتبع والمتتبعة شيئاً مهماً وحيوياًن هو غياب الربط العضوي والجدلي بين الحياة الاقتصادية والحياة الاجتماعية، بين التغيرات الاقتصادية والتغيرات المصاحبة لها أو اللاحقة بها في الجانب الطبقي ومن ثم في وعي البشر، إضافة إلى التغيرات الحاصلة في عدد المشتغلين وعدد المؤسسات والأجر وإنتاجية العمل لفترات كانت متوفرة، وربما فترات أخرى لم تتوفر. إن غياب هذا الجزء المكمل يضعف الاستنتاجات المهمة، رغم الأهمية الواضحة في المادة الاستعراضية والتحليلية التي قدمها لنا الزميل د. علي مرزا في هذا الكتاب وفي فصل التصنيع. لا أنطلق في ملاحظتي هذه من موقف أيديولوجي أو سياسي، بل من واقع علاقة التفاعل بين الاقتصاد والمجتمع والتأثير المتبادل بينهما ومن ثم تجليات ذلك على مستوى حياة ومعيشة الأفراد وعلى وجهة التناقضات المحتملة والصراعات واحتمال تحولها إلى نزاعات سياسية مؤذية.   
إذا تابعنا الفترة الواقعة بين 1927 و1945، أي بين صدور قانون التعرفة الجمركية رقم 30 لسنة 1927 وقانون تشجيع الصناعة الوطنية لعام 1929 بعد مطالبة جادة من جمعية أصحاب الصنائع العراقية التي أجيزت عام 1928 برئاسة صالح القزاز، ونهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الحكومة قد أبدت اهتماماً بالصناعة المحلية، والتي أكدها الدكتور مرزا برسالة الملك فيصل الأول عام 1932 وطالبت بها "جماعة الأهالي"، إضافة إلى "جماعة الإصلاح الشعبي" برئاسة عبد الفتاح إبراهيم في النصف الأول من العقد الرابع من القرن العشرين، و"الحزب الوطني" برئاسة جعفر أبو التمن، أن تدفع قليلاً أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة إلى تنشيط دورهم وإنشا بعض المصانع الصغيرة حلال الفترة المذكورة. ,إذ بلغ عدد المشاريع الصناعية في عام 1929 (8) مشاريع صناعية صغيرة، ارتفعت أثناء الحرب العالمية الثانية حتى العام 1945 إلى (96) مشروعاً صناعياً صغيراً، وهي في الغالب مشاريع صناعية استهلاكية خفيفة مثل صناعات الغزل والنسيج وحلج الأقطان والسجاير والتقطير والأحذية والطابوق والشخاط.. إلخ، كما كانت رؤوس أموالها محدودة جداً وقلة عدد العاملين فيها، وضآلة حجم الإنتاج الصناعي لهذه المنشآت. (أنظر: د. كاظم حبيب، دراسة في اتجاهات ومشاكل التطور الصناعي في العراق للفترة 1917-1962، مجلة المستنصرية العدد 2-1971، بغداد). ويشير الزميل مرزا إلى ذلك بقوله: " إن نشاط القطاع الخاص وإمكانياته لم تكن كافية لحصول نهضة صناعية تنقل البلد إلى طريق التقدم" (أنظر/ مرزا، الكتاب، ص 239. ولكن وخلال الفترة الواقعة بين 1945 و1949 ارتفع عدد المشاريع الصناعية في العراق إلى 145 مشروعاً، أي بزيادة قدرها 49 مشروعاً. وقد ارتفع مقدار رأسمال المشاريع الصناعية المدفوع في عام 1948 3،133،741 د.ع. وقمة الإنتاج 1،403،372 د.ع. وعدد العاملين 1649 شخصاً، وارتفع في عام 1949/1950 إلى 3،914،000 د.ع. و1،555،428 د. ع. وعدد العاملين 2626 على التوالي. (أنظر/ د. صباح الدرة، التطور الصناعي في العراق-القطاع الخاص، بغداد، مطبعة النجوم، 1968، ص 74).
ويبدو لي من المناسب أن أشير إلى حقيقة أن واقع العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية التي سادت الفترة الواقعة بين 1921-1958 وأسلوب استخدام كبار الملاكين للريع المنتج في الزراعة لم تسمح لجزء مهم من هذا الريع أن يستخدم في تكوين وتراكم راس المال البدائي في البنية التحتية والصناعة العراقية، كما حصل في بلدان أخرى، حيث كانت الزراعة بقرة حلوب للمدن وتكوين وتراكم رأس المال البدائي، إذ كان هؤلاء الملاكون يستخدمون هذا الريع استهلاكاً بذخياً وأوجه صرف غير عقلانية، ولم يكن دخل الفلاح الضئيل يكفي لسد رمق عائلته، وبالتالي لم يكن في مقدوره توفير ما يمكن إعادة توظيفه في الزراعة. وكان كبار الملاكين يقدمون بعضاً من ذلك الريع كقروض للفلاحين ترهق كاهلهم بنسبة الفائدة التي عليهم دفعها.   
إلا إن الدفعة الجديدة والنسبية للصناعة العراقية قد بدأت بعد تأسيس مجلس الإعمار ومن ثم وزارة الإعمار، وكذلك المصرف الصناعي العراقي، الذي تأسس عام 1935 كمصرف صناعي وراعي، ثم إلى مصرف تنموي صناعي عام 1946 لتقديم القروض ولم ينشط فعلياً إلا في بداة الخمسينيات، وبعد أن تحقق للعراق المناصفة في الأرباح وزيادة العوائد النفطية ابتداء من عام 1951. وإذا تابعنا الفترة الواقعة بين 1949-1959، على وفق المعلومات المتوفرة، سنجد إن عدد المنشآت الصناعية التي يفوق عدد العاملين فيها 20 عاملاً قد وصل إلى 295 منشأة صناعية وارتفع عد العاملين فيها إلى 42802 شغيلاً، وارتفعت نسبة المشاركة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي إلى 7،2%، وهو تقدم ملموس ومهم. وقد حصل ذلك بسبب زيادة مشاركة الدولة في إنشاء المصانع أولاً ومشاركة المصرف الصناعي في تمويل مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص. ولا بد من إبراز دور المصرف الصناعي الذي لم يرد بشأنه شيء في كتاب الزميل مرزا، ولأهمية هذا الدور في مستقبل العراق لتأمين تطوير قطاع صناعي مختلط حكومي وخاص، أشير إلى الشركات الصناعية التي ساهم فيها المصرف الصناعي كلياً أو جزئياً بلغت بين عامي 1949-1957 (14) مشروعاً وهي مشاريع خاصة بمواد البناء كالأسمنت والجوت والجلود والمرمر والجص والتمور وغيرها. (أنظر: كاتلين م. لانگلی، تصنيع العراق، مطبعة دار التضامن، بغداد، 1963، مترجم إلى العربية، ص 93). رغم تأسيس مجلس ووزارة الإعمار والمصرف الصناعي، ورغم الضغط السياسي الذي مارسته القوى السياسية بشأن تسريع التصنيع، ورغم قيام خبراء ومؤسسات استشارية بتقديم المقترحات المهمة للحكومة العراقية، فأن أغلبها لم يجد طريقه إلى التنفيذ، كما إن البرامج التي وضعتها الحكومة العراقية خلال هذه الفترة لم يجر تنفيذها بنسبة عالية، فالفرق بين التخصيص والتنفيذ كان واسعاً ويعبر عن ضعف الأجهزة الإدارية العاملة وربما الرغبة في عدم التسريع في عملية التنمية الصناعية. يمكن أن نقرأ النص المهم التالي الوارد في كتاب الدكتور علي مرزا ليوضح الوجهة التي دعت لها تقارير الخبراء الإيجابية منها والسلبية من جهة، وما أسجله من تخلف شديد في تنفيذ مناهج مجلس الإعمار من جهة أخرى.             
استنتج الدكتور علي مرزا بصواب ما يلي:
"وبالرغم من إجماع هؤلاء الخبراء (تقرير البنك الدولي في 1952، وكارل أيفرسن 1954، واللورد سولتر 1955، وشركة آرثر دي لتل 1956) على ضرورة تركيز استخدام العوائد في مجال تطوير البنية الأساسية (طرق، مواصلات، محطات كهرباء/ الخ) ورأس المال الاجتماعي (مستشفيات، مدارس، الخ)، إلا أنهم جميعاً دعوا أيضاً إلى إنشاء الصناعات التي يتوفر لها السوق المحلية والمواد الأولية وتقام على أسس تجارية (أي مربحة). أي أن هه التقارير أوصت بإنشاء صناعات تحل محل الاستيراد وليست موجهة للتصدير. وربما كان هذا منبع هذه الاستراتيجية التي استمرت فيما بعد..". (أنظر، مرزا، الكتاب، ص 240/241). أما الجانب الثاني الذي لم يشر له الدكتور علي فهو الفارق الكبير بين تخصيصات المناهج الاستثمارية لمجلس الإعمار وبين مستوى تنفيذ تلك المناهج في الصناعة العراقية. فتخصيص 70% أو 50% من إيرادات النفط ليس هو العامل الحاسم في المسألة، بل في العلاقة بين توزيع الدخل بين الاستثمار والاستهلاك من الناحية النظرية والعملية أولاً وبين مستو ى تنفيذ تلك الاستثمارات وحصة الاستهلاك الاجتماعي فمن حصة الاستهلاك الإجمالي في الدخل القومي، أي في عملة توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي خلال الفترة 1951-1957. لد تسنى لي أن أدرس هذه الفترة وأن أكتب عنها، وأن استنتج في ضوء الإحصاء الحكومي إلى ما يلي:
"لقد وضع مجلس الإعمار خلال هذه الفترة ثلاثة مناهج استثمارية خمسية أولها في عام 1951 ليغطي الفترة حتى عام 1955، ثم عدل وأضيفت عليه مبالغ جديدة ومدد حتى عام 1956. وقد جرى تخصيص مبلغ قدره (31) مليون دينار تقريباً لتنمية الصناعة الوطنية. إلا إن ما صرف منه فعلاً بلغ (5،4) مليون د.ع. فقط أو ما عادل 17،4% من المبلغ المخصص للصناعة، أو ما يعادل 3،5% من مجموع تخصيصات البرنامج الخماسي الذي بلغ مجموع تخصيصاته 155,3 مليون د.ع. وفي عام 1955 صدر المنها الاستثماري الثاني ليشمل الفترة حتى عام 1959، وقد كان نصيب الصناعة في التخصيصات 43،6 مليون د.ع. أو ما نسبته 14،3% من المجموع الكلي للمنهاج. وقد وزع هذا المبلغ على سنوات البرنامج الخمسة واستهدف إنشاء جملة من المؤسسات الصناعية الاستهلاكية والإنشائية وإنشاء شبكات لإنتاج وتوزيع الكهرباء في مختلف مناطق العراق الرئيسية. إلا إن التنفيذ الفعلي لمشاريع المنهاج الثاني وتعديلاته التي شملت الفترة 1956-1960 لم تكن بأفضل من مستوى التنفيذ في المنهاج الأول". (أنظر: د. كاظم حبيب، دراسة في اتجاهات ومشاكل التطوري الصناعي في العراق، مصدر سابق، ص 27). لا بد لي هنا أن أشير إلى أن موقف الحكومات العراقية المتعاقبة غير المتحمس للتصنيع في العراق يعود بالدرجة الأولى على طبيعة هذه الحكومات التي كانت تمثل ف واقع الحال تحالفاً بين كبار ملاك الأراضي الزراعية والكومپرادور التجاري المتعاون مع الشركات التجارية البريطانية، إذ كان هذا التحالف يرى في التصنيع خطراً يهدده مواقعه ومصالحه، في حين كانت قوى المعارضة تضغط باتجاه التصنيع بهدف تفكيك هذا التحالف وتعزيز مواقع البرجوازية الصناعية في الاقتصاد والسياسة العراقية. 
خلال الفترة الملكية كانت ظروف العمل للعمال صعبة للغاية، رغم صدور قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 فأن ساعات العمل كانت مديدة وأجور العمال واطئة، وغياب الضمانات الاجتماعية والصحية، إضافة إلى ظروف العمل القاسية وغير الأمنة. مما دفع الكثير من العمال إلى الإضراب والمطالبة بزيادة الأجور وتقليص ساعات العمل وتحسين ظروف العمل. ويمكن أن نتابع ذلك في إضرابات عمال السجاير في بغداد أو عمال كاورباغي في كركوك في عام 1946، أو عمال السكك في بغداد وعمال الميناء في البصرة في الخمسينيات من القرن الماضي. وكانت الحكومة تمارس القمع في مواجهة تلك الإضرابات العمالية وسقوط شهداء واعتقال وسجن العمال، كما حصل في كركوك وبغداد والبصرة على نحو خاص.  جاء في دراسة عن تاريخ الحركة العمالية في العراق للباحث الدكتور إبراهيم خليل العلاف بصدد ظروف عمل العمال في هذه الفترة ما يلي:
"لقد أدى تطور انتاج النفط وتوفي مجالات جديدة وفرص جديدة للعمل إلى ان عدد العاملين في صناعة النفط سنة 1957 وصل الى 12 ألف شخص. اما في المؤسسات الصناعية الاخرى فقد بلغ العدد 264 ألف شخص. ولاشك في ان هذا التوسع في انتاج النفط (30 مليون طن 1954 ) وفر مجالات عمل لعدد كبير من الناس الذين انضموا الى الطبقة العاملة العراقية وما ان جاءت سنة 1958 الا وقد ازداد عدد العمال العراقيين الى اكثر من مليون عامل .لكن هذا لم يحل دون تفاقم مشكلة البطالة واتساع سياسة القمع وما يلحق ذلك من اذى للعمال والذين غرق بعضهم بالديون واصبح ارباب العمل يسومونهم سوء العذاب وكانت السجون تتلقف الكثيرين منهم واصبحت النقابات والجمعيات العمالية عاجزة عن تقديم اي مساعدة مالية لهم ومما ضاعف الامر سوءا عدم وجود صناديق للضمان الاجتماعي وعدم تأسيس صناديق للتقاعد وبالرغم من تحديد وقت العمل في قانون رقم 72 لسنة 1936 بثمان ساعات إلا أن وقت العمل الفعلي كان بين 12-16 ساعة يوميا وبالأجور اليومية نفسها .هذا فضلا عن تشغيل النساء والأطفال والأحداث دون السن القانونية في أعمال شاقة وبأعداد كبيرة .وقد دفع الوضع المزري هذا العمال الى التظاهر والاضراب الذي قمع بالقوة كما حدث في مذبحة كاورباغي بكركوك سنة 1946 ووثبة كانون الثاني 1948 وانتفاضة تشرين 1952 وكان امتصاص نقمة العمال واحدا من أهداف إنشاء مجلس الاعمار والبدء بمحاولات إصلاحية للوضعين الاقتصادي والاجتماعي. إن نضال الطبقة العاملة العراقية فرض على الحكومات وأصحاب المؤسسات والاحتكارات الرضوخ وإصدار تشريعات عمالية والموافقة على تأسيس نقابات وجمعيات عمالية." (أنظر: د. إبراهيم خليل العلاف، تاريخ الحركة العمالية في العراق، ذاكرة عراقية، ملاحق المدى، 28/04/2013).   
يقسم الدكتور مرزا الفترة الواقعة بين 1958-1968 إلى فترتين هما 1958-1962، أي الفترة الواقعة بين ثورة تموز وإسقاط الحكم الوطني 1963، ثم الفترة بين 1963 حيث استولى البعثيون والقوميون، ثم القوميون على الحكم حتى العام 1968. ويشير بصواب إلى أن الفترة الأولى شهدت توجهاً لدى حكومة الثورة بتصنيع العراق وبدعم القطاعين العام والخاص وبتوجهه صوب مسالتين مهمتين حيث استنتج بصواب:
"ومع توسع القطاع العام خلال الفترة 1958-1962 فأن القطاع الخاص استمر في نشاطه في القطاعات الاقتصادية الصناعية والتجارية. ووجد ذلك إسناداً سياسياً، حيث بالإضافة لتوجه الدولة نحو مجال واسع في الرعاية الاجتماعية وإسناد القطاع العام الإنتاجي، فأن الحكم كان بصورة عامة، متعاطفاً مع البرجوازية الصناعية والتجارية." (أنظر، مرزا، الكتاب، ص 242). لقد ألغت حكومة الثورة مجلس ووزارة الإعمار وأسست وزارة الصناعة على وفق القانون رقم 74 لسنة 1959. يشير الباحث سلام إبراهيم كبة على العلاقة الجديدة التي نشأت بين الاتحاد السوفييتي والعراق بعد ثورة تموز 1958 والاتفاقية الاقتصادية التي وقعها وزير الاقتصاد حينذاك الأستاذ إبراهيم كبة بقوله:
"ن أهم منجزات ثورة 14 تموز عقد اتفاقية التعاون الفني والاقتصادي مع الاتحاد السوفييتي التي نصت على القيام بالمسح الصناعي والنفطي الجيولوجي والمغناطيسي والسيميكي العام، التركيز على الصناعة في المشاريع بحيث احتلت 80% من مجموع قيمة مشاريع الاتفاقية، التركيز في القطاع الصناعي العام على الصناعات الثقيلة كمعامل الفولاذ والاسمدة الكيمياوية والكبريت وحامض الكبريتيك واللوازم والعدد الكهربائية، وعلى الصناعات الزراعية كمعامل المكائن والمعدات الزراعية والاسمدة النيتروجينية ومحطات الجرارات الزراعية ومعامل النسيج والتعليب، وعلى الصناعات التحويلية كمعامل النسيج القطني والصوفي والتريكو والخياطة والزجاج والمصابيح الكهربائية والتعليب والأدوية." (أنظر: سلام إبراهيم عطوف كبة، الباردوكس الصناعي في العراق الجديد/ القسم الأول، موقع الحوار المتمدن، العدد 4082، 04/05/2013).
أما الفترة الواقعة بين شباط/فبراير 1963 وتشرين الثاني من نفس العام فقد شهد توقفاً لعملية التنمية، إذ كان الاهتمام منصباً على ملاحقة المعارضين للنظام والذين قاوموا الانقلاب البعثي-القومي الفاشي وبدء الصراع مع حركة التحرر الكردية وتراجعاً واضحاً في التوجه صوب التصنيع، وبرزت مصاعب غير قليلة أمام المجتمع مما سهل إسقاط النظام المشترك للبعثيين والقومين بحليفهم القومي الناصري بقيادة عبد السلام عارف. وخلال هذه الفترة لعب القوميون اليمينيون دوراً بارزاً في قيادة الدولة، كما وضع على رأس السياسة الاقتصادية المجموعة التي كونت حزب "الاتحاد الاشتراكي العربي" وخاصة كل من خير الدين حسيب وأديب الجادر، حيث أسسا المؤسسة الاقتصادية، وكجزء منها أقيمت المؤسسة العامة للصناعة في عام 1965، ولكن هذه المجموعة قد أقدمت في تموز/يوليو 1964 على تأميم المصارف وشركات التأمين وشركات تجارية ومنشآت صناعية، بلغ مجموع رأس مال المصارف والشركات والمنشآت المؤممة 28 مليون د.ع. لا غير. أما رؤوس أموال المنشآت الصناعية فلم تزد عن 26 مليون د.ع.  لم تكن عملية التأميم ضرورية بأي حال، بل كانت ذات أهداف أوسع من الإسناد الشعبي وتقليد تأميم مصر بين 1961-1964، (أنظر: كاظم حبيب، طبيعة إجراءات التأميم في الجمهورية العربية المصرية، رسالة دكتوراه، جامعة الاقتصاد (برونو اويشنر) برلين، شباط/فبراير 1968)، بل كانت المجموعة الاقتصادية تهدف، إضافة لما أشار إليه الدكتور علي مرزا، إلى ما يلي:
التماثل، وليس التقليد، مع مصر والسعي فقامة الوحدة العربية معها، بخلاف نهج عبد السلام عارف الذي لم يكن يرغب بأي وحدة فعلية.
الرغبة في السيطرة على الاقتصاد الوطني من خلال تشديد هيمنة الدولة على الاقتصاد الوطني من خلال قطاع الدولة.
معاقبة البرجوازية العراقية، وخاصة البرجوازية الصناعية، من قوى يمينية في البرجوازية الصغيرة، بسبب مواقفها المناهضة للانقلابات البعثية والقومية.
سعيها لكسب القوى الاشتراكية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي إلى جانبها، في كونها تسعى إلى تعزيز قطاع الدولة الذي كان يدعو له الحزب الشيوعي العراقي. أي الدعوة إلى حل الحزب الشيوعي وانخراط الشيوعيين العراقيين في الاتحاد الاشتراكي، كما حصل في العام 1964 في مصر حيث حل الحزب الشيوعي المصري نفسه وانخرط في الاتحاد الاشتراكي. وقد ظهرت جماعة صغيرة في قيادة الحزب الشيوعي العراقي التي دعت إلى ذلك، ولكن أغلبية قيادة الحزب وكل القاعدة الحزبية رفضت هذا النهج واتهمت الداعين له بالخط اليميني في الحزب والذي تمثل فيما أطلق عليه بخط آب 1964. (أنظر: عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق، الجزء الثالث، منشورات الثقافة الجديدة، بغداد، 2005، ص 32-47).
لقد أدت هذه الإجراءات، كما يشير الدكتور مرزا عن حق، إلى مسالتين: "ولقد قادت إجراءات التأميم في 1964 إلى إضافة مجوعة من الصناعات ساهمت بتوسيع مجال القطاع العام في الصناعة وغيره من القطاعات. ولكن، من ناحية أخرى، كان لها أثر سلبي دائم الحضور في تردد هذا النشاط وخشيته المستمرة من توجهات الدولة تجاه نشاطه، ..". (أنظر: مرزا، الكتاب، ص242). لقد كان الضرر كبيراً وتجلى في المذكرة المهمة التي قدمها رئيس غرفة التجارة في العراق حينذاك الشيخ محمد رضا الشبيبي بتاريخ 28 تشرين الاول 1965 موجهة الى رئيس الوزراء العراقي آنذاك الدكتور عبد الرحمن البزاز، رئيس الحكومة مبيناً فيها المشكلات التواجه الاقتصاد العراقي والشعب والمناخ الاستثماري الذي نتج عن التأميم ...الخ. يشير الدكتور محمد علي زيني إلى المردود السلبي لإجراءات التأميم بقوله: "إن قرارات تأميم القطاع الخاص والقرارات التقييدية التي رافقتها أفرزت مردودات عكسية كبيرة على الاقتصاد العراقي." كما إن تأميم الصناعات الخاصة قد دفعت بالكثير من أصحاب رؤوس الأموال الخاصة إلى تهريب أموالهم، وأن عدداً من المدراء الجيدين ورجال الأعمال الناجحين إلى تهريب أموالهم إلى خارج العراق." (قارن: د. محمد عل زيني، الاقتصاد العراقي، الماضي والحاضر وخيارات المستقبل، مؤسسة الرافدين، طبعة ثانية، لندن، 2003، ص 111).     
وبودي هنا أن أشير إلى إن التأميمات قد رفعت مجموع رأس مال القطاع العام من 48،8 مليون د.ع. إلى 66،8 مليون د. ع. من إجمالي الرساميل المسجلة آنذاك والبالغة 186،8 مليون د.ع. ولا تدخل رؤوس الأموال الأجنبية الموظفة في صناعة النفط ضمن هذا الرقم، أي إن نسبة الزيادة بلغت حوالي 27%. (أنظر: سباهي، مصدر سابق، ص 35).   
انتهت الحلقة العاشرة وتليها الحلقة الحادية عشرة، التصنيع: نشاط متدهور، الفترة 1968-2017   
كاظم حبيب                       


138
كاظم حبيب
هل من جديد في العراق؟ نعم، تمخض الجبل فولد فأراً!
مرَّت الآن ستة شهور على تسلّم عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء في العراق. حتى الآن لم يستكمل مجلس الوزراء قوامه، في وزارتي الدفاع والداخلية، ولا مجل النواب لجانه ال 25. ولكن الأهم من كل ذلك هو أن رئيس الوزراء ومجلسه لم يخطو خطوة واحدة إلى الأمام في عدة محالات جوهرية تمس كيان العراق كله:
1.   وضع عناصر في مجلس الوزراء لا تنتمي لأحزاب طائفية وعلى أساس المحاصصة الطائفية، أي عنا وطنية مستقلة.
2.   مكافحة الفساد باعتباره المطلب الوطني الملح والمستمر الذي راوغت فيه كل الوزارات السابقة، لأنها تشكل جزءاً أساسياً من الفساد ذاته، والقائمة أيضاً، وبالتالي الفاسدون يواصلون ليس وجودهم في مواقعهم فحسب، بل وفسادهم الكبير أيضاً.
3.   لم يبدأ أي تنفيذ فعلي لبرنامج الدولة الاقتصادي، بل هو السير على منوال الوزارات السابقة في تصريف الأعمال وصرف الأموال بعيداً عن التنمية الاقتصادية، والوعود الفارغة تبدو اليوم للشعب بوضوح كبير، وكما قيل دوماً "العربة الفارغة كثيرة الجعجعة".
4.   رغم الاتصالات مع مصر والأردن والسعودية، فأن طبق الذهب بأموال العراق يقدم لإيران أولاً، وهي التي تبني اليوم بنيتها الأساسية في مجالات الأمن والحشد والاقتصاد وعموم الدولة والمجتمع، بما لا يفسح أي مجال لقرار اقتصادي أو سياسي مستقل يمكن أن يصدر عن الحكومة العراقية الحالية، كما كان الأمر في عهد رئيس الوزراء الأسبق على نحو خاص. 
5.   الاستجابة لمطالب الشعب في مجال الخدمات لا يزال كما كان عليه قبل ذاك رغم حملات الاحتجاج والإضرابات.
الا يحق للعراقيات والعراقيين يرددون بوضوح كامل المثل الشعبي "تيتي ... تيتي ... مثل ما رحتي جيتي"، ولكن العودة تكون أسوأ من الذهاب إذ لا حراك جديد وبالتالي يكون التخلف هو سيد الموقف. دعونا نتفحص الأمر.       
فالساحة السياسية العراقية لا تزال، كما كانت منذ الاحتلال الأمريكي-الإيراني للعراق حكراً على قوى الإسلام السياسي يلعبون فيها كما يشاؤون، بل ويحاول البعض منها احتواء القوى المدنية والديمقراطية بتخريجات تبدوا مقبولة ومشجعة، ولكن كما يقول المثل "أبو گروة ايبيّن بالعبره"! كنت أتمنى ألَّا يحصل ذلك، وكنت أمني النفس بأن أكون على خطأ كبير، وأحبتي على صواب، بعكس الأمر الاعتيادي حيث يتمنى المرء أن يكون هو على صواب وآخرون هم  أو آخر هو على خطأ. ولم تتحقق أمنيتي ولا أملي، فتذكرت قول المتنبي الكبير:
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ                         تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ
فحين أُعلن عن تشكل تحالف "سائرون نحو الإصلاح في 17/01/2018 بين التيار الصدري والحزب الشيوعي العراقي وبعض القوى السياسية الأخرى لخوض الانتخابات المحلية، ثم في استمرار هذا التحالف لخوض الانتخابات العامة في 12 أيار/مايس 2018 حمل التحالف شعار "سائرون لبنا الدولة المدنية.. دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية". وهو شعار جيد وقوي. وفي حينه نشر الموقع الإلكتروني لـ "سائرون" ما يلي: "تؤكد القوى المشاركة في "سائرون نحو الإصلاح" أن هدفها من التكتل هو تعديل مسار العملية السياسية في العراق وحل الأزمات ومغادرة نهج المحاصصة الطائفية، وهو ما أشار إليه عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مفيد الجزائري الذي صرح للجزيرة نت في الثالث من أبريل/نيسان 2018 بأن هذا التحالف - الذي جمع بين "إسلاميين معتدلين" و"علمانيين ديمقراطيين"- يمثل كسراً للطائفية السياسية ونهجاً ربما تتسع قاعدته الجماهيرية في المستقبل.(أنظر: موقع تحالف سائرون، أخذ المقتطف بتاريخ 15/04/2019.) وفي الانتخابات التشريعية لعام 2018 فازت قائمة سائرون بـ 54 مقعداً، كانت حصة الحزب الشيوعي العراقي منها مقعدين، وهما للرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية وللرفيقة هيفاء الأمين. ومن مجمل التصريحات الصادرة بشأن سائرون كان ولا يزال يجري تأكيد خمسة مسائل جوهرية: ** من أجل إصلاح الدولة ونهجها، ** ضد الطائفية والمحاصصة الطائفية، ** بناء الدولة المدنية، دولة المواطنة، ** ضد الفساد ومحاسبة الفاسدين، ورفض التدخل الإقليمي والدولي في الشأن العراقي. ليس هناك من عاقل لا يؤيد هذه الأهداف، إن كان حاملها، أو بعض أبرز حامليها جادين لتنفيذها.
والسؤال المهم الذي يواجه كل مشارك ومتابع للساحة السياسية العراقية: ماذا تحقق بالنسبة للأهداف الخمسة الأساسية، على وفق ما يجري فعلياً في الساحة السياسية العراقية، وليس من خلال أي تصور شخصي لما يحصل. أي أترك العدسة تسجل الوقائع ومن خلال الصحافة العراقية التي لم يكذب ما جاء فيها أو يتحفظ عليها.
فأول الأمور السيئة كانت مساومة تسليم السلطة لا لشخصية تكنوقراطية وطنية نزيهة، بل سلمت للإسلامي اليميني عادل عبد المهدي المؤمن بولاية الفقيه والمتشبث بشباك الكاظم ليفرجها له بدون الاعتماد على الشعب. وثاني الأمور السيئة هو التعاون غير المعقول مع قائمة فتح التي تضم كل المليشيات الطائفية المسلحة التي تعود لإيران، والذي لا يتعب رئيس هذا الفتح عن تقبيل يد سيده وفقيه أمره. دعونا نتابع ما ينشر في الصحافة العراقية. بتاريخ 14/04/2019 نشرت جريدة المدى البغدادية تقريرا مهماً وطويلاً للصحفي السيد محمد صالح تحت عنوان "اجتماعات بين الفتح وسائرون تُنهي الخلاف على رئاسات اللجان رغم تحفّظ الكتل الشيعيّة"، جاء فيه ما يلي:
"حسمت اللقاءات الثنائية بين تحالفي سائرون والفتح أسماء رؤساء اللجان البرلمانية ونوابها والمقررين في اجتماع عقد قبل يومين حيث اتفقا مع باقي المكونات على منح القوى الشيعية رئاسة ثلاث عشرة لجنة برلمانية دائمة و12 لجنة للقوى السنية والكردية مناصفة. وسيقوم تحالفا سائرون والفتح بعملية توزيع رئاسات هذه اللجان على الكتل والأحزاب الشيعية. وستناقش مفاوضات اللحظة الأخيرة عدد اللجان البرلمانية الدائمة وإمكانية استحداث لجنة واحدة أو لجنتين لترضية بعض الكتل والمكونات، في حين ماتزال رئاسة لجنتي النزاهة والقانونية غير محسومتين." (أنظر: محمد صالح، اجتماعات بين الفتح وسائرون تُنهي الخلاف...، 14/04/2019). ماذا يعني هذا النص؟ إنه يعني ببساطة فائقة إن سائرون بأشراف مقتدى الصدر وفتح بقيادة هادي العامري يقرران التوزيع المحاصصي الديني والطائفي للجان مجلس النواب، أي إن المحاصصة الطائفية التي يُراد تجاوزها، تكرست بصورة رسمية وعبر مفاوضات بين سائرون التي تضم التيار الصدري الشيعي وفتح التي تضمن كتلاً شيعية، أي أصبح التكتلان الكبيران يقرران توزيع المقاعد على بقية الأحزاب الشيعية بدلاً من التحالف الوطني أو البيت الشيعي السابق. بهذا المعنى لم تتحقق أية خطوة إلى الأمام في مجال تجاوز المحاصصة الطائفية في العراق بل جرى تكريسها لا في توزيع عدد الوزارات بين الطوائف الدينية فحسب، بل وفي اللجان العاملة في مجلس النواب، وجرى الأخذ بذات القاعدة التي وضعها باول بريمر في أن يكون للشيعة أكثرية وللسنة والكرد الدرجة الثانية والثالثة أو مناصفة، ومن ثم يتصدقون على البعض من أتباع الديانات الأخرى بلجنة أو لجنتين تبتكر لهم. فما هو الجديد، وما هو التغيير الحاصل في هذا الاتجاه، وما هو موقع مبدأ المواطنة في هذا المجرى؟ الشيء الوحيد هو أن سائرون وفتح قرروا توزيع حصة الشيعة عليهما وعلى بقية الكتل الشيعية، وهكذا مع السنة والكرد.
والأكثر إساءة لما كانت تقول به سائرون في توجهها لإلغاء المحاصصة وجعل السلاح بيد الدولة ما ورد في التقرير المذكور، حيث كتب السيد محمد صالح بناء على تصريح قيادي في سائرون لم يذكر اسمه ما يلي: "أما بخصوص تمسك تحالف سائرون برئاسة لجنتي الأمن والدفاع البرلمانية يبرر القيادي قائلا إن "التيار الصدري يمتلك أكبر فصيل مسلح (سرايا السلام) فضلا عن وجود مشروع إصلاحي لتحالف سائرون في وزارتي الدفاع والداخلية والأمن الوطني وإنهاء عملية الفساد المستشرية في هذه المؤسسات". اين أصبح شعار إنهاء المليشيات الطائفية المسلحة، أين صار شعار كل السلاح بيد الدولة فقط. إن بقاء التيار الصدري مالكاً لسرايا السلام، وهادي العامري لفيلق بدر، والخزعلي لعصائب الحق، وكتائب حزب الله والعشرات من المليشيات الطائفية المسلحة والكثير منها من إنتاج وتوجيه وأشراف وتمويل إيراني، فماذا حدا مما بدا!! ألا يصلح المثل الشعبي هنا أيضاً: "تيتي..تيتي .. مثل ما رحتي جيتي...". لم يتغير ما كان ينبغي أن يتغير على وفق تصريحات قادة سائرون. لست ممن كان يعتقد بان التغيير سيحصل ما دام عادل عبد المهدي تسلم رئاسة الحكومة، بل كنت أعول اساساً على الحركة المدنية الشعبية التي صمدت ونمت منذ سنوات وأن تتسع لتغير من ميزان القوى، بما في ذلك تأمين التعاون مع قواعد قوى إسلامية نظيفة وواعية، لفرض نفسها على الشارع والنخب الحاكمة لتغيير الوجهة الجارية حتى الآن، .إلا إن الوعود الكبيرة التي أطلقها عادل عبد المهدي، لم تنفذ بأي حال وبقي كل شي على ما هو عليه، بل وأن تصبح المحاصصة الطائفية رسمية وتعلن في الصحافة علناً وبروح طائفية مقيتة ومكشوفة، إذ لم يعد هناك أي تردد في التوزيع الطائفي في مجلس النواب، الذي يصرخ ليل نهار، بأنه لا يعمل على أساس طائفي. هذا هو مربط الخيل. وليس هناك أي اعتراض عليه مِن منْ هم في مجلس النواب على هذا التوزيع المخل والمضر بالعراق وشعبه، فيما عدا ما وصلني من خبر جديد من "اتحاد العشب" تحت عنوان "ضرورة تحقيق التوازن السياسي لا "المحاصصاتي" في تشكيل اللجان البرلمانية: ولكن النصوص المقتطفة من مشاركة الرفيق رائد فهمي لا تتضمن هذه الصراحة في مناهضة التوزيع الطائفي كما في العنوان، واليكم ما جاء فيه: " اعتقد ان الموضوع يتضمن أكثر من بعد، الأول كفاءة وخبرة الأشخاص وهذا مهم جدا، والبعد الثاني هو ضرورة تحقيق التوازن السياسي داخل اللجان، بمعنى يجب ان تعكس حجم الكتل السياسية المختلفة داخل مجلس النواب". ثم أكد: "توازن الكتل السياسية في اللجان، يعكس رأي الشعب، الذي اعطى صوته لها، وهذا يعني انه ايد مشروعها، من هنا لا يمكن ان يجري الالتفاف على الارادة الشعبية ونتائج الانتخابات" ثم يضيف الخبر الصحفي بأن الرفيق منبهاً الى انه لا يقصد بالتوازن السياسي "التوازن القومي والمذهبي". (انظر: "رائد فهمي: ضرورة تحقيق التوازن السياسي لا "المحاصصاتي"، في تشكيل اللجان البرلمانية"، المركز الإعلامي للحزب الشيوعي العراقي.) كنت أتمنى، نعم كنت اتمنى وأمل أن يكون موقف الحزب الشيوعي العراقي، المناهض للطائفية ومحاصصاتها من حيث المبدأ والممارسة، أكثر وضوحاً وصراحة في تصريح الرفيق رائد فهمي، وفي رفضه لموقف سائرون في التعاون مع فتح لتنظيم التوزيع المحاصصي لرؤساء اللجان ونوابها والمقررين فيها، وتبرئة الحزب من هذا العمل الطائفي البغيض، وأن يكون موقف الحزب في رفض ذلك في مجلس النوب أيضاً.
ليس هذا كل ما يجري في العراق، بل هناك أشياء أخرى، انظروا إلى ما يقوم به رئيس الوزراء العراقي. إنه لا يكتفي باستيراد ما قيمته 20 مليار دولار أمريكي سلعاً وخدمات من إيران، بأسعار خيالية لدعم إيران، كما طلب رئيس وزراء إيران حسن روحاني، بل أكد إنه سيصرف 40 مليار دولار أمريكي لدعم إيران، في وقت يعاني العراق الأمرين تحت وطأة الواقع الراهن، ولاسيما في محافظات نينوى وغرب العراق التي اجتاحها داعش بفضل وجود الأحزاب الإسلامية السياسية على رأس السلطة في العراق. لست إلى جانب الحصار الاقتصادي الأمريكي ضد الشعب الإيراني، فهو جريمة بشعة، عانى الشعب العراقي منها وليس صدام حسين وطغمته المجرمة حين فرض على العراق، ورفضت القوى الإسلامية السياسية العراقية المطالبة برفعه انتقاماً من النظام، ولكنه كان إساءة للشعب، إذ إن قرار الحصار الأمريكي لا يعاقب النخب الحاكمة ولا الملالي في إيران، إذ إنها لن تعاني من عواقب هذا الحصار، بل الشعب الإيراني وحده هو من يعاني الأمرين، والتي بدأت أثارها تشتد من خلال ارتفاع حجم البطالة واتساع جديد لقاعدة الفقراء والجوع والحرمان.
ولكن علينا تشخيص الواقع التالي في العلاقة مع إيران: فمنذ تولي نوري المالكي السلطة في العراق في عام 2006 حتى يومنا هذا، توجهت مئات المليارات من الدولارات الأمريكية من الخزينة العراقية بشكل رسمي أو غير رسمي (غير شرعي) إلى الخزينة الإيرانية والسوق الإيراني وبأساليب كثيرة. (على من يرغب الاطلاع أكثر يمكنه مراجعة خطاب أحمد الجلبي حول إيرادات العراق التي بلغت 550 مليار دولار أمريكي في خمس سنوات، ومنها 312 مليار دولار ذهبت عبر مزاد البنك المركزي إلى البنوك الخاصة بذريعة استيراد في حين إن مبلغ الاستيراد الفعلي لم يزد عن 155 مليار دولار أمريكي، فأين ذهبت البقية. وهل اغتيل لهذا السبب كما يشاع؟) اعتقد أن السيد عادل عبد المهدي قد وقف عند شباك السيدة معصومة في مدينة قم أخيراً وأقسم، وهو يقبل الشباك، بأنه سيقدم كل شيء لصالح إيران حتى لو كان العراق كله وجميع أهله. التحليل الواقعي والمنطقي يشير إلى أن ما أشرت إليه في أعلاه هو عين الصواب، فالماضي يعيش حاضرنا وحاضرنا يعبر عن ماضٍ عالق في العراق لم يتحرر منه بعد، ونحتاج إلى المزيد من الجهود الشبابية التطوعية والحراك المدني الشعبي لتساهم في تخليص العراق من جحيم ومستنقع الطائفية ومحاصصاتها والفساد السائد. إنها المآسي والمحن والأزمات التي يعيشها الشعب ويعاني منها في آن وبقسوة، ولن يحلها سوى النضال والحراك المدني الشعبي لتغيير ميزان القوى في صالح القوى المدنية والديمقراطية، تيارها الديمقراطي، الذي عول عليه الكثير، لصالح إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.       


139
لتكن خبرات عام 1971 و1985/1986 دروساً بليغةً للشعب والأحزاب السودانية


كاظم حبيب

في عام 1985 انطلقت انتفاضة شعبية عارمة استطاعت إسقاط نظام النميري العسكري رغم تلفعه بعباءة الإسلام
المهلهلة، وبعد أن عجزت القوى العسكرية في محاولاتها الانقلابية على إسقاطه. وفي انتخابات عام 1986 فاز حزب
الأمة بقيادة الصادق المهدي وشكل مع حزب الاتحاد الديمقراطي حكومة سودانية لم تمارس سياسة ديمقراطية تستجيب
لمطالب الشعب السوداني، كما لم تتمكن من إيجاد حل عملي لمشكلة جنوب السودان. بل كانت أحزاباً تقليدية لم تخرج
عن عباءة الدين والطائفة الدينية والقبلية. وفي حينها بدأ صراع مرير بين الأحزاب السياسية السودانية انتهى باستيلاء
حزب المؤتمر الوطني الإسلامي، الذي تأسس في عام 1985، بقيادة حسن الترابي، بما أطلق عليه بـ "ثورة الإنقاذ
الوطني" التي قادها العميد حينذاك عمر حسن البشير. وتمكن من البقاء في السلطة ثلاثة عقود عجاف ودموية. وأطيح
به أخيراً في انتفاضة شعبية رائعة. والسؤال الذي يدور في بال الكثير من السودانيات والسودانيين وغيرهم من
مواطني الدول العربية ممن يتابعون مجرى الأوضاع في السودان وأيديهم على قلوبهم مما يمكن أن يحصل في السودان
بسبب تزايد الشعور بوجود مؤامرة خبيثة تحاك علناً من جانب السعودية- دولة الإمارات – مصر، ومن وراءهم
الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على نحو خاص.
تؤكد خبرات الشعوب مع انتفاضاتها وثوراتها الوطنية إنها لم تفشل يوماً بسبب التآمر الخارجي على تلك الانتفاضة أو
الثورة فحسب، بل وبالأساس لأسباب داخلية معروفة للجميع نشير إلى بعضها فيما يلي:
1. الصراعات التي يمكن أن تخوضها الأحزاب السياسية فيما بينها إما للانفراد بالسلطة أو لتوزيع الحقائب
الوزارية فيما بينها، وبالتالي تفتت وحدة الشعب وتمزق إرادته التي هي وراء الانتفاضة.
2. وجود علاقات عمل مشترك بين القوى الخارجية وأيديها الممتدة إلى الداخل، إلى الأحزاب السياسية العاملة
في الداخل، بحيث تتمكن من تمرير مؤامراتها عبرها ومن خلال تشديد الصراعات الحزبية وتفاقمها بما يقود
إلى استيلاء بعض القوى العسكرية على السلطة والعودة إلى المربع الأول، كما حصل في العام 1971 أو
العام 1989، بل حتى قبل ذاك.
3. وهذا الواقع كان في واقع الحال تجسيداً حياً لضعف الوعي الديمقراطي والممارسة الديمقراطية ووعي الحرية
كضرورة في صفوف قيادات الأحزاب السياسية السودانية التي لم ترتق إلى مستوى الانتفاضات السابقة
وسقطت في صراعاتها وعجزت عن رؤية ما يحاك لها وضد إرادة ومصالح الشعب السوداني.
إن الحركة الشبابية الشعبية الجارية في السودان وانتفاضتها من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، من أجل
العمل والخبز وضد الفقر وفي سبيل الدفاع عن الكرامة وضد الحرب الداخلية، لم تساهم كل الأحزاب السودانية، بل
بعضها، في بداية انطلاقتها بقيادتها، بل كانت بمبادرة وقيادة الحركات الشبابية والمنظمات المهنية، منظمات المجتمع
المدني، ولكن كان للأحزاب السياسية المعارضة لنظام البشير الدموي دورها المعروف والمحفز على الانتفاضة
الجارية. والسؤال الذي لا بد منه هو: هل ستجد هذه الأحزاب السياسية التي تريد المشاركة في السلطة مع تجمع
المهنيين السودانيين لغة مشتركة وأهدافاً تجمعها بحيث لا تخوض الصراعات المدمرة فيما بينها على السلطة أو على
حقائب وزارية ومواقع ليها فيها، وبالتالي تقود إلى استفادة بعض القوى العسكرية لتنظيم انقلاب يجري الاستعداد له
منذ الآن ضد الانتفاضة الشعبية ومكاسبها المهمة التي تحققت حتى الآن بإسقاط البشير ثم إسقاط نائبه ومجموعة من
الطغمة الحاكمة، وليس كل نظامه وقواه الفاعلة التي لا تزال تملك الكثير من الإمكانيات والمليشيات التي يمكن أن
تتحرك في كل لحظة ضد الانتفاضة الشعبية. لتكن تجارب الماضي القريب شاخصة أمام أنظار وبصائر القوى والأحزاب
السياسية والتنظيمات المنهية المدنية في السودان لكي تستطيع تحقيق النصر والسير على طريق الحرية والديمقراطية
وحقوق الإنسان والسلام والعدالة الاجتماعية.

140
.        نظرة في كتاب الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا


د. كاظم حبيب

                                              لحلقة الثامنة

قراءة في الفصل الثامن: معضلة الأوبك بين حصة السوق وتحديد الإنتاج

تميز العقد السادس والنصف الأول من العقد السابع (الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات) من القرن العشرين
بسمات أساسية أشرت تصاعد حركة التحرر الوطني في الدول التابعة والمستعمرة وإلى انبلاج صبح جديد للشعوب التي
عانت من استغلال وقهر الدول الاستعمارية، ولاسيما في القارات الثلاث آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، كما سجلت هذه
الفترة تراجعاً ملموساً في قدرة الدول الاستعمارية على فرض إراداتها بشكل مباشر على الشعوب، ولهذا كانت تستخدم
أساليب وطرق جديدة وغير مباشرة للوصول إلى ذات الأهداف، وأعني بذلك استغلال الموارد الأولية وشعوب البلدان
النامية، إضافة إلى الهيمنة على أسواقها، إنه الاستعمار القديم الجديد بتقنيات حديثة.
رغم إن وعي الشعوب لم يكن في جميع القارات والدول متقدماً وبشكل متماثل، إلا إن قواها السياسية الديمقراطية
والتقدمية لعبت دوراً كبيراً في التأثير على جملة من الإجراءات التي أعاقت بحدود معينة بعض الجهود الاستعمارية
ومنها تشكيل الأحلاف العسكرية او عقد اتفاقيات اقتصادية مخلة بالاستقلال والسيادة الوطنية أو منعها من اتخاذ
مواقف سياسية واجتماعية مستقلة على الصيد الدولي. وجاء اقتراح تشكيل منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط
(أوبك) في هذه الفترة المهمة من حياة وتاريخ شعوب البلدان النامية، ومنها شعوب الشرق الأوسط. وكان العراق لتوه
قد خرج من دائرة الهيمنة البريطانية ومنطقة الاسترليني وحلف بغداد بعد ثورة تموز 1958، حيث بدأت السلطة
السياسية تفكر في تنفيذ بعض أبرز الشعارات التي رفعتها القوى الديمقراطية المعارضة لسياسات الحكومات العراقية
في العهد الملكي، ومنها في المجال الاقتصادي: الإصلاح الزراعي، التوجه صوب التصنيع والتعليم المهني، قانون
العمل والعمال، عقد اتفاقيات اقتصادية واسعة مع الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا، إضافة إلى مقترح تأسيس منظمة
ألـ(أوبك) في عام 1960. وخلال هذه الفترة عمدت شركات النفط الدولية والاحتكارية إلى تخفيض حجم إنتاج وتصدر
النفط بهدف رفع أسعاره وتحقيق ربحية عالية للشركات الاحتكارية، ولكنها كانت مؤذية بالنسبة للدول النامية المنتجة
والمصدرة للنفط لحاجتها الماسة لمزيد من الإنتاج والتصدير، مما أشعر البلدان المنتجة والصدرة للنفط بأهمية
وضرورة تشكيل هذه المنظمة ووافقت عل اقتراح العراق.
يشير الدكتور علي مرزا في بداية الفصل الثامن حول منظمة الأوبك إلى عوامل عدة أثرت وتؤثر على سياسة الأوبك
النفطية، وسواء أكان ذلك في مجالي إنتاج وتسويق النفط، أم في مجال أسعار نفطها في السوق العالمية، وعلى الدول
الأعضاء في هذه المنظمة. ويلخصها:
1. "وجود مجموعة من الدول الأعضاء في الأوبك التي لها أهداف مختلفة ووسائل محدودة في التأثير على
سوق النفط العالمية (بالذات أسلوب تحديد "حصص" إنتاجية للدول الأعضاء في مرحلة الاستخراج)
تختلف عن كارتل الشركات النفطية الكبرى".
2. امتلاك الكارتل العالم من خلال تكامله الأفقي والعمودي قدرة التأثير على عقود النفط وفي التأثير على
الصناعة النفطية. كما يمتلك الكارتل العالمي إمكانيات بثلاثة اتجاهات، هي: أ) إيجاد مناطق بديلة لاستخراج
النفط وعرضه في السوق الدولية، وب) إيجاد بدائل عن استخدام النفط أو بعض استعمالاته، وج) القدرة
على زيادة الكفاءة في استخدام النفط وتقليص الكميات المستخدمة منه سنوياً.
3. وجود خلافات سياسية ووجهات نظر متباينة بين بعض أعضاء دول الأوبك التي تسمح للكارتل العالمي
اللعب عليها والاستفادة منها مما يحد من فعالية المنظمة. لم يتوسع الكاتب في هذه النقطة حرصاً والتزاماً
بمحاولة معالجة الموضوع اقتصادياً. ولكن النفط ذو جانبين لا فكاك منهما، إنهما السياسة والاقتصاد.
ويبدو لي بأن العامل الثالث يمكن أن ينظر إليه من جانب آخر، وأعني بذلك دور الصراع السياسي الدائر منذ عقود
بين بعض الدول الأعضاء في الأوبك، ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط، وبتأثير واضح من الدول الكبرى
المستهلكة للنفط. وقد لمس الكاتب هذه المسألة في العامل الثالث، ومشاركة بعضها في محاور سياسية دولية،
بحيث يستطيع الكارتل العالمي للنفط والدول الكبرى التي تساهم الشركات النفطية الكبرى فيه، ولاسيما الولايات

2

المتحدة الأمريكية وبريطانيا، التأثير المباشر وغير المباشر على سياسات تلك الدول بما في ذلك السياسة النفطية،
سواء أكان من حيث كميات الإنتاج الموجهة للتصدير، أم ما ينشأ عن ذلك من تأثير واضح على السياسة السعرية
للنفط في السوق الدولي. وغالباً ما لعبت السياسة دوراً مؤذياً جداً في اقتصاد النفط للدول المختلفة، سوأ أكان عبر
مقاطعتها اقتصادياً أو الحد من كميات تسويقها للنفط أو حجز إيراداتها النفطية في البنوك الدولية. وقد واجه
العراق ذلك في أوقات عديدة خلال القرن الماضي، كما واجهته إيران في فترة رئيس الوزراء الإيراني د. مصدق
في الخمسينيات من القرن العشرين، أو ما تواجهه إيران حالياً، كما تواجه فنزويلا هذه المعضلة بقسوة بالغة في
الوقت الحاضر، بالرغم من التباين في الدولتين، ولكن الهدف من هذه المقاطعة إسقاط النظامين من خلال الحصار
الاقتصادي، ومنها حصار تسويق النفط الخام، وقبل ذاك عانى الشعب العراقي، وليس نظام صدام حسين وحاشيته،
من الحصار الدولي الذي دام 13 سنة وأدى إلى كوارث هائلة في العراق، وخاصة وفيات الأطفال والمرضى وكبار
السن، رغم التخفيف النسبي الذي حصل بعد صدور قرار "النفط مقابل الغذاء".
علينا أن نؤكد هنا بأن النفط سلاح ذو حدين، ولكن الاعتماد الرئيسي والأساسي على موارد تصدير النفط الخام
والغاز في اقتصاد بلد ما، أي في اقتصاد ريعي، لا يصبح ذو حدين، بل بحدٍ واحدٍ يلحق أفدح الأضرار بالاقتصاد
والمجتمع في عالمنا الرأسمالي المعاصر والمتناقض والمتصارع لتحقيق أقصى الأرباح على حساب حياة ومصالح
وإرادة الشعوب.
الدكتور علي مرزا يبحث في هذا الفصل المهم عن العلاقة الجدلية بين مسألتين عرض النفط أو حصة الأوبك من
النفط في السوق الدولية، وتحديد الإنتاج وتأثير ذلك سلباً أو إيجاباً على أسعار النفط هبوطاً وصعوداً، وبالتالي مد
تأثير ذلك على الإيرادات المالية للدول الأعضاء في الأوبك. وقد تابع هذه المسألة بعناية كبيرة وعبر فترات
ومقارنات وإحصائيات يصعب التعبير عنها باختصار في مثل هذه التعليقات والمراجعات المكثفة. ومن هنا أعود
لأنصح، لا العراقيات والعراقيين فحسب، بل وكل قراء العرب ممن لهم اهتمام أو رغبة الاطلاع على هذا القطاع
المهم في الاقتصاد الوطني للدول المنتجة والمصدرة للنفط، وأغلبها دول ريعية وحيدة الجانب في تطور اقتصاداتها
الوطنية ومتخلفة في بنية دخلها القومي رغم ارتفاعه بسبب دور موارد النفط في تكوينه. ولا أبتعد عن الحقيقة
حين اشير دون تردد بأنها دول غير ديمقراطية أو مستبدة وتنقصها الحوكمة الرشيدة والوعي بحاجات الشعب
وضرورات تغيير بنية اقتصاداتها الوطنية وتنوع مكونات الدخل القومي بقطاعات إنتاجية، وخاصة الصناعة
التحويلية والزراعة. إن تجارب شعوب الدول المنتجة والمصدرة للخامات الأساسية كالنفط أو الماس أو الذهب ..
إلخ حتى الآن ومنذ أكثر من قرن من الزمان تشير إلى أن أغلب تلك النظم السياسية أن لم نقل كلها، ليست
ديمقراطية، بل ومستبدة أو دكتاتورية مطلقة، سواء أكانت عبر العسكر أو عبر حزب واحد أم من خلال عائلة
واحدة أم عبر دكتاتور أهوج ونرجسي مريض، وتعيش أغلب شعوبها في عوز شديد أو تغيب عنها شمس الحرية
والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما هو حال دول الخليج العربي والسعودية وإيران والعراق وليبيا والجزائر
والكثير من الدول الأفريقية أو أمريكا الجنوبية ... إلخ.
انتهت الحلقة الثامنة وتليها الحلقة التاسعة وتبحث في الفصل التاسع عن القطاع الزراعي

الحلقة التاسعة

قراءة في الفصل التاسع: الزراعة: التخلف عن إشباع حاجة السكان

يقدم لنا الدكتور علي مرزا مساهمة مهمة عبر تسجيله وتحليله للوحة مكثفة جداً عن الواقع الزراعي وحجم
الإنتاج في فترة كان القطاع الزراعي يشكل القطاع الأول في تحقيق الناتج المحلي الإجمالي، فترة الريع
الزراعي، وفي الفترة التي أصبح القطاع النفطي يشكل القطاع الأول في توفير النسبة العظمى من الناتج المحلي
الإجمالي وتراجع القطاع الزراعي إلى الموقع الثاني فالثالث أو متقلب بينهما. وإذ أشار إلى دور الإجراءات التي
اتخذتها الدولة العثمانية لتوطين البدو من خلال توزيع الأراضي الأميرية على شيوخ العشائر والعائلات
الميسورة في الولايات الثلاث، انتقل إلى الفترة التي أعقبت تخلص العراق من الهيمنة العثمانية وسقوطه تحت
الهيمنة البريطانية حتى سقوط الملكية عام 1958. وقسم الفترة الواقعة بين 1864-2018 بالسبة للقطاع
الزراعي إلى فترتين: الأولى قبل العهد النفطي، والثانية بعد سيادة الدولة الريعية النفطية، وقارن بين أربع
مسائل مهمة للفترتين المذكورتين، وهي:

3

إجمالي مساحات الأراضي المستخدمة في الزراعة أولاً، وإنتاجية الفرد الواحد أو الدونم الواحد ثانياً، وإجمالي
الإنتاج الزراعي، ومقارنة بين نمو السكان ونمو الإنتاج الزراعي ثالثاً، وعلاقة ذلك بإشباع حاجات المجتمع
والقدرة التصديرية للمحاصيل الزراعية رابعاً. كما ركز في دراسته على المحاصيل الزراعية الثلاثة: الحنطة
والشعير والرز. ثم عمد إلى إبراز دور النفط وتنامي إيراداته السنوية على دور القطاع الزراعي ومستوى
الاهتمام بهذا القطاع الأكثر أهمية لإشباع حاجات السكان من السلع الزراعية والمواد الأولية الصناعية، من
خلال استخدامه خطوتين، أولى إجراء مقارنة بين الإنتاج الزراعي في الفترتين، والثانية إجراء قياس الارتباط
بين معدل حصة الشخص من العوائد النفطية ومعدل حصته من الإنتاج الزراعي، وتوصل إلى استنتاج بهذا
الصدد صاغة على النحو التالي: "نخلص من الاختبار باستخدام الخطوتين إلى: 1) أن حصة الشخص من
الإنتاج الزراعي كانت في تصاعد قبل العهد النفطي وفي تدهور خلال العهد النفطي. وب) يبين معامل الارتباط
عموماً، ارتباطاً عكسياً بين تغير حصة الشخص من العوائد النفطية وحصته من كمية الإنتاج خلال العهد
النفطي. ج) وبذلك نميل للاعتقاد إلى أن كلا الاختبارين يرجحان باحتمال معقول صحة الفرضية الريعية،
عموماً". (أنظر، مرزا، الكتاب، ص229/230).
على أهمية هذه الدراسة وضرورة إبراز دور الدولة الريعية النفطية السلبي على القطاع الزراعي وعلى مجمل
الاقتصاد الوطني والحياة الاجتماعية والسياسية، وأهمية تغيير هذه العلاقة لصالح تنويع الاقتصاد الوطني
والاهتمام بالقطاع الزراعي، فأن أي دراسة اقتصادية ليست مهمتها الجانب التقني والحسابي فحسب، بل
وبالأساس دور الاقتصاد في التأثير المباشر وغير المباشر على الإنسان في معيشته وحياته سلباً أو إيجاباً، أي
ضرورة الغوص في أعماق المشكلة الزراعية في العراق لا البقاء على سطح الأرقام على أهميتها، رغم إن
الأرقام تمنحنا صورة مفيدة ولكن المعدل لا يعبر عن واقع الحال للفئات الاجتماعية المختلفة. غالباً ما يشير
علماء الاقتصاد إلى إن الأرقام الإحصائية التي تنشرها الدول، ولاسيما النامية، تشبه مايوه السباحة النسائي إذ
يكشف عن الكثير من جسم المرأة، ولكنه يخفي أهم ما فيه.
كتب ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي 1332-1406م) في مقدمته ما يلي: "إنه لا يكفي أن
تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر... لا بد لك أن تفهم ما في القاع... قاع
البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً
كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً.. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت
السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور".
إن البحث في الاقتصاد الزراعي يفترض أن يمتد ليشمل، على وفق قناعتي الشخصية، عدة مسائل جوهرية، إذ
كان بودي لو كان قد تطرق إليها الزميل مرزا ولو بكثافة، لأني مقتنع بأن لديه الكثير من المعلومات حولها،
أشير إلى أهمها فيما يلي:
أولاً: أهمية الإنتاج الزراعي في ضمان الأمن الغذائي والاقتصادي للعراق، ولاسيما وأن المنطقة مليئة
بالمفاجئات غير السارة والتي تستوجب تأمين احتياطي منه. ومرّ العراق بتجارب مريرة في هذا الصدد ومنها
فترة الحصار الدولي بين 1992-2003.
ثانياً: الأهمية القصوى لتنويع الإنتاج الزراعي وأهمية ذلك لمسالتين مهمتين هما: الدورة الزراعية وتأثيرها
الإيجابي على خصوبة التربة ونوعية الإنتاج من جهة، وتحسين معدلات الغلة وزيادة الإنتاج وتأمين المنتجات
الزراعية للاستهلاك الغذائي، والخامات الزراعية للقطاع الصناعي.
ثالثاً: القطاع الزراعي لا يشمل المحاصيل الزراعية فحسب، بل هو قطاع يشمل المحاصيل ومنتجات البستنة
والغابات والثروة الحيوانية والثروة السمكية، وبالتالي، فالاقتصار على المحاصيل الزراعية لا يقدم لوحة كافية
عن القطاع الزراعي ضمن صورة الاقتصاد الوطني.
رابعاً: واقع الاستغلال الذي يتعرض له الفلاح غير المالك للأرض الزراعية وفئات المزارعين الآخرين، وسبل
استخدام الريع الزراعي في الاقتصاد العراقي في الفترة التي سبقت الريع النفطي وبعده. وهناك معلومات كثيرة
في هذا الصدد ابتداءً من رسالة الدكتوراه للدكتور صالح حيدر وانتهاء بكتاب الدكتور طلعت الشيباني، وزكي
خيري وعزيز سباهي وكاظم حبيب وعشرات كتب أخرى حول القطاع الزراعي، إضافة إلى كتاب الدكتور كامل
عباس مهدي الصادر باللغة الإنكليزية في لندن عام 2000 وتحت عنوان "الدولة والزراعة في العراق، التطور
الحديث، الركود وتأثير النفط" State and Agriculture in Iraq- Modern Development,

4

Stagnation and the Impact of Oil إضافة إلى الكثير من الأبحاث والدراسات والمقالات المهمة
الصادرة بهذا الشأن والمنشورة على العديد من المواقع الإلكترونية.
خامساً: مستوى الخدمات التي تقدم للفلاحين والريف العراقي خلال الفترات المنصرمة، ومدى تأثير ذلك على
هجرة الشباب بشكل خاص، وبقاء الفلاحين كبار السن في الريف والزراعة، على ما يلاحظ في العراق خلال
فترات طويلة.
سادساً: مدى تأثير الحروب العراقية، الداخلية منها والخارجية، فعلياً على الريف والزراعة العراقية وحياة
العائلات بالارتباط مع التجنيد الإجباري للقوى العاملة التي تتراوح أعمارهم بين 18-60 سنة وأحياناً أقل وأكثر
من هذين الحدين، إضافة إلى نشر الألغام في الكثير من الأراضي الزراعية الحدودية ولاسيما في إقليم كردستان
العراق.
وإذ أشير إلى هذه المسائل المهمة في القطاع الزراعي فلا بد أن أشير أيضاً إلى الأهمية القصوى لأي باحث
اقتصادي يعالج أوضاع القطاع الزراعي إن يبحث في مسألتين مهمتين لا يجوز إغفالهما بأي حال، حتى لو
اختلفت وجهات نظر الباحثين، وأعني بهما:
1) طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في البلاد قبل وبعد الإصلاح الزراعي لا على ما هو مسجل في القوانين
فحسب، بل والحالة الفعلية على أرض الواقع، وهي أمور متيسرة.
2) مستوى تطور القوى المنتجة البشرية والمادية ومدى تأثيرها على إنتاجية العمل أو غلة الدونم الواحد من
الأرض الزراعية في السنة. إذ إن التوسع في الأرض وزيادة الغلة التي برزت بشكل خاص في الفترة التي
سبقت الفترة الريعية النفطية قد أدت إلى تسليط استغلال بشع على الفلاحين، إذ كان عليه أن يعمل ساعات
أكثر وعلى مساحات أوسع لإنتاج غلة مساوية أو أكثر لصالح مالك الأرض أو المستحوذ عليها. وحين
توفرت إمكانية زيادة نصب المضخات المائية على شواطئ الأنهر وزيادة المكائن الزراعية من تراكتورات
(حارثات) وحاصدات وأدوات أخرى وأسمدة كيمياوية وحبوب محسنة ومخازن وقضايا النقل الزراعي
وسبل التسويق، ازدادت غلة الأرض وارتفعت إنتاجية الفرد الواحد، ولكن لم تلعب باستمرار دوراً تحسينيا
في حياة ومعيشة الفلاحين.
ويبدو لي بإن المفروض أن يبحث الكاتب واقع الزراعة العراقية ومشكلاتها الراهنة في أعقبت إسقاط
الدكتاتورية الغاشمة حتى سنة صدور الكتاب والدور الكبير والمتنامي لكبار الملاكين الذين عادوا إلى
الأراضي التي فقدوها بسبب القانونين الزراعيين وتعديلاتهما، ودور شيوخ العشائر الذين عادوا وبشكل
أقوى إلى دورهم السابق في الهيمنة على الفلاحين والريف بل وبروز تأثيرهم المتنامي وتقاليدهم التي
تهيمن حالياً على أجواء المدن العراقية، ومنها بغداد.
انتهت الحلقة التاسعة وتليها الحلقة العاشرة، الفصل العاشر: التصنيع: نشاط متدهور
08/04/2019

141
كاظم حبيب
رؤية حوارية حول وعي المجتمع ودور الدولة العراقية

بعد أن نشرت الكراس الموسوم "كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق" على عدد من المواقع الإلكترونية الصديقة، ومنها الحوار المتمدن وصوت العراق والناس ومركز النور وعنكاوة...، وإلى عدد كبير من الصديقات والأصدقاء وصلتني رسائل كثيرة مؤيدة ومطالبة بنشر المادة ككراس ورقي. وهو الذي سيحصل قريباً. ولكن وصلتني رسالة مهمة أيضاً من أخ كريم وأكاديمي انشر نصها في الآتي بعد أن رجوت الزميل موافقته على نشرها ونشر إجابتي عنها فوافق. وارتأيت عدم وجود مبرر لذكر اسم صاحب الرسالة لاسيما وأن الموضوع عام ويدور في خلد الكثير من الناس:
"أحسنتم استاذنا بتذكيرنا بكل هذه الماّسي والتي ربما بدأت بسميل ولم تنته حتى هذه الساعة ، لكنني اختلف معكم بتحميل حكامنا على مر العصور المسئولية الاولى ، لأنني ارى ان الشعب هو من يتحمل المسئولية الاولى ، ولو كنا شعبا واعيا وممتلكا لإنسانيته ككل الشعوب المتحضرة لما نجى حكامنا بهذه الجرائم بل ولجابهناهم بالعقاب بدل التهليل والتأييد لهذه المذابح حتى هذه الساعة ، استاذي الكريم عندما كنت في كردستان صدمت بان هناك من هو موجود في شعبنا الكردي من يحن لصدام وايامه ويبرر له حلبجة وغيرها !!!! واذا كان هذا شيئا نزيرا فانظر الى تنامي الصداموية في كل انحاء العراق الان وامنيات الشعب بمجيئ من يذبح حكامنا الحاليين واحلامهم بتعليق هؤلاء في الساحات العامة!!!! ...... البداية مع الشعب استاذنا الكبير وليست في اي مكان اخر".
الأخ الفاضل
تحية طيبة
شكراً جزيلاً على تجشمكم قراءة كراسي الموسوم "كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق" وتفضلكم بإبداء ملاحظاتكم ورأيكم حول بعض ما ورد فيه. بودي أن أشير إلى الملاحظات التالية فيما يخص رأيكم الذي أحترمه:
1.   كما تعرفون بأن الدولة، بسلطاتها الثلاث، وعلى وفق الدستور العراقي، مسؤولة عن القيام بكل الجهود الممكنة والضرورية لرفع وعي الإنسان الفرد ووعي المجتمع أو وعي الشعب، فوعي الفرد والمجتمع لا يتشكلان بشكل عفوي وعشوائي، بل من خلال جملة من السياسات والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والإعلامية والبيئية. وهذا الجهد المتشابك والمعقد والطويل الأمد لا يمكن أن يقوم به الأفراد، بل هو بالأساس جزء عضوي ورئيسي من مهمات الدولة بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها، ولاسيما التربوية والتعليمية والإعلامية من جهة، وتأمين تطور اقتصادي يساهم في تخليص العراق من علاقات الإنتاج من قبل الرأسمالية ومن بقايا العلاقات العشائرية المتجددة في البلاد ومن تأثير التشوه الديني الذي تمارسه جملة من المؤسسات والمرجعيات الدينية، ويفتح المجال لتغيير في بنية المجتمع الطبقية وفي وعيها الاجتماعي. ومن هنا يمكن أن نؤكد بأن ضعف الوعي لدى الأفراد والمجتمع، وبتعبير أكثر دقة، لدى الغالبية العظمى من المجتمع ناشئ عن تخلي الدولة العراقية عن أكثر مهماتها أساسية وأهمية من جهة، وعن ارتكاب أخطاء فاحشة وسوءات في سياساتها في هذه المجالات من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر نشير إلى إن العلاقات شبه الإقطاعية والعشائرية لا يزيلها الأفراد، حتى لو رغبوا في ذلك، وكذلك الموقف من المرأة والأحوال الشخصية، بل هي من أهم واجبات الدولة، إذ يفترض فيها إصدار قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء قانون العشائر، وصياغة قانون حديث للأحوال الشخصية، وكذلك التوسع في التصنيع وتحديث الزراعة والتعليم والتثقيف العام ومحاربة التشوه والزيف الديني، واستخدام الفنون الجميلة المتنوعة لزيادة حس الإنسان المرهف بالحب والجمال والذوق الحسن والعلاقات الإنسانية المتبادلة ...الخ.
كما إن رفع وعي الناس هو من مهمات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام الحكومية وغير الحكومية أيضاً، فهي التي تتحمل المسؤولية بالدرجة الثانية. ولكن علينا، ونحن نطرح هذه المسألة، أن نتابع ماذا حصل للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني خلال العقود المنصرمة التي كانت تحاول القيام بمثل هذه المهمات، لقد كانت تحارب بقسوة لا مثيل لها في غالب الأحيان. ويكفي أن تمر على تاريخ العراق الحديث، أي منذ ولادة الدولة العراقية الملكية في العام 1921 لترى كيف عانت الأحزاب السياسية المعارضة وكم هم أعضاء هذه الأحزاب الذين حملوا راية التنوير الفكري والاجتماعي والسياسي الذين دخلوا السجون والمعتقلات، وكم هم الذين عانوا تحت التعذيب حتى الموت أو استشهدوا على أعواد المشانق أو في ساحات النضال أو في السجون أو عبر الاغتيالات. فحرية الأحزاب وقدرتها على الحركة والتوعية تأتي من طبيعة الدولة بسلطاتها الثلاث، أي بالنظام السياسي القائم. فحين تكون سلطات الدولة الثلاث غير ديمقراطية أو استبدادية، فلا يمكن للأحزاب أن تفعل الكثير في هذا الصدد إلا بحدود ضيقة ومقيدة.
دعني هنا أذكر بواقع أن الدستور العراقي يحمل مع ديباجته ومجموعة من مواده الكثير من المفرقعات التي تتفجر في المجتمع. دعني أشير إلى واحدة منها: ترد في الفقرة أولاً من المادة الثانية من الدستور ما يلي: "اولاً ـ الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع: أ ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.  ب ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.  ج ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور." ولكن العراق عديد الديانات والمذاهب وبالتعالي لا يمكن تمييز دين ع دين آخر من ناحية، كما إن الدولة لا دين لها فهي شخصية اعتبارية، وبالتالي يبدأ التمييز فيها ثم يتواصل ليؤكد لا يجوز سن قوانين تتعارض من ثوابت أحكام الإسلام، فكيف ونحن في عراق فيه أتباع لديانات أرى ولها أحكام غير أحكام الإسلام في دياناتها.
ثم تابع التربية الطائفية الموجهة ضد الآخر في العراق. اليك أبشع نموذج حصل قبل سنوات حين وقف الطائفي حتى النخاع والمستبد بأمره رئيس الوزراء الأسبق في مدينة كربلاء حين صرخ كالبوم: "المعركة اليوم هي بين أنصار الحسين وأنصار يزيد".، ويقصد بوضح تام بين الشيعة والسنة، علماً بأنه يعرف مدى تقدير السنة للحسين واستشهاده، إنه يغرف من الماضي ليشوه علاقات الناس الراهنة.

وبعد دور الدولة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، يأتي دور الأفراد، ولاسيما الفئات المثقفة والواعية من العمال والكسبة والطلبة في عملية التوعية والتنوير، سواء أكان من خلال التعليم والتثقيف الذاتي أو من خلال انخراطهم بالقوى والأحزاب السياسية، فهم في مقدورهم أن يمارسوا وبحدود ضيقة ايضاً عملية التوعية الفردية والجماعية في صفوف المجتمع.
2.   إذا اتفقنا بشأن النقطة الأولى فيمكن أن نجد في المجتمع الذي لم تساهم الدولة في رفع وعي الفراد او المجتمع بصورة صحيحة وغير مشوهة، اختلالات في تفكير الأفراد، إزاء هذه القضية او تلك أو الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.. ، وسواء أكان هؤلاء الأفراد من الكرد أم من العرب أم من غيرهم من أتباع القوميات الأخرى في العراق، الذين يحنون لحكم صدام حسين، حكم دكتاتوري أهوج وشوفيني مريع. وهناك، أخي الكريم، من يحن للنظام الملكي، لأنه لم يعش تحت وطأته، أو ما جاء بعد العهد الملكي كان مريعاً بحيث جعله ينسى العهد المرير السابق. ولكن هذه المسألة مرتبطة مباشرة بتخلف الوعي أو ضعفه لهذا الشخص أو ذاك أو حتى لدى جماعة، فذاكرتهم قصيرة جداً وينسون تماماً إن الذي وضع أساس الخراب، وأوصل القضية المزرية "من الباب للمحراب" هو النظام الملكي، أو بتعبير أدق، النظام السياسي والحكومات المتعاقبة في العهد الملكي، حيث تم تشويه الدستور ووضعت قوانين مضادة للقانون الأساسي (الدستور)، وزورت الانتخابات وصودرت الكثير من الحقوق وحوربت المعارضة وزج بالكثير منهم في السجون بل وأعدمت مجموعة منهم ...الخ.
3.   علينا أن نقرأ تاريخ العراق المديد بإمعان ودقة، تاريخ العراق منذ العهود القديمة، ولكن وبشكل خاص منذ عهود "الفتح الإسلامي الأول" فالعهد الأموي والعهد العباسي وما بينه وبين العهد العثماني من دويلات، ومن ثم العهد العثماني، فالدولة العراقية الحديثة والمحتل البريطاني. لقد كان تعامل الغالبية العظمى، إن لم نقل كل الحكام، وحشياً، شرسأ وعدائياً على مدى قرون مع السنين العجاف في العراق، فيكفي أن تقرأ كتاب الفقيد والشخصية الديمقراطية المحامي عبود الشالجي الموسوم "موسوعة العذاب" بسبعة أجزاء، أو كتاب المؤرخ والباحث الديمقراطي الفقيد هادي العلوي الموسوم "التعذيب في الإسلام" أو كتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة في العراق، الصادر في عام 2006 في السليمانية وكتب كثيرة أخرى، لتتعرف على الأسباب الأساسية التي ساهمت بخلق روح الخشونة والقسوة والتشفي والانتقام والانتهازية والتشوه والتشوش في المعايير والقيم ، لدى الجمهرة الواسعة من الناس في العراق. ولكن علينا الحذر في هذه المسألة، فهذه الظاهرة ليست عراقية بحتة، بل كانت أو/و لا تزال موجودة ليس في صفوف الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه فحسب، بل هي موجودة لدى كل الشعوب التي ماثل وضعها وتطورها وضع العراق وتطوره تقريباً وما مرت به تلك الشعوب أيضاً. إنها ليست جينات يلد معها الفرد، بل هي نتاج الدولة والمجتمع، أي العلاقات الاجتماعية السائدة في بلد ما وتطورها..إلخ.
4.   لا أطرح جديداً حين أذكر، أخي العزيز، بأن القرآن مليء بصيغ التعذيب السادية المرضية وروح الانتقام والقسوة في التعامل مع الآخر، وهي تربية يومية يعيش الفرد والمجتمع عموماً في البيت والمدرسة والشارع والدولة والمجتمع. ويمكن أن نقرأ ذلك فيما ينشره الزميل الفاضل والصديق الأستاذ ضياء الشكرجي في الفترة الأخيرة من مقالات على صفحات موقع الحوار المتمدن، لهذا علينا ألَّا نستغرب أبداً من حصول ما تشير إليه في رسالتك الكريمة. إنه واقع مرّ ومرير في آن. ومهمتنا كمثقفين ديمقراطيين لا أن نراقب هذه الحالة ونكتب عنها ونحلل أسبابها، بل من واجبنا العمل على تغيير هذا الوضع المزري الذي يسود اليوم في العراق، علينا المشاركة في رفع الوعي الفردي والجمعي ليستطيع العراقي والعراقية إدراك ما يجري له وما يريدون به في دولة ذات نظام سياسي فاسد ومشين وغير عادل، وكيف يفترض أن يواجه هذا الواقع ويتغلب عليه. وأخيراً أقول: نعم، المطلوب هو العمل مع الشعب لتغيير وعيه وتنويره وتطويره، ومعه أيضاً لتغيير الوضع القائم لصالح الشعب وحريته وحياته الديمقراطية وكرامته وعيشه الكريم.
5.   هل يمكن أخي الفاضل أن تتصور كيف يمكن أن ينشأ الصبايا والصبيان، أولئك الذين ولدوا مع ولادة هذا النظام الطافي البليد والرجعي، وينمون ويتربون يوميا من خطب وكتب صفراء مسمومة، وفي ظل أحزان داكنة يعيش تحت وطأتها هؤلاء الشباب والأطفال بسبب ذكرى وفاة هذا الإمام أو ذكرى مقتل إمام أخر أو ولادة آخر مصحوبة بالبكاء على ولاته لأن ما شهيدا. يبقى الحزن والبكاء واللطم على الصدور وضرب السلاسل (الزناجيل) بسكاكينها المدببة على الظهور والتطبير سيد الموقف. وهل تتصور كيف يمكن أن ينشأ أطفالنا وكيف يتكون وعيهم في ظل المناحات اليومية والكذب والتشويه والتزوير الذي يتلى عليهم من على منابر الجوامع والمساجد وفي المدارس والجامعات وفي كل شارع وزقاق في العراق، للتاريخ والأحداث وليعمقوا الصراع الطائفي في البلاد، كما فعل رئيس الوزراء الأسبق ورهطه وحزبه وتحالفه السياسي الشيعي. لهذا علينا أن ندرك بأن وعي الكثير من العراقيات والعراقيين قد نشأ وتور في ظل هذه الأوضاع، فلا تستغرب مما حصل ويحصل في بلاد الرافدين منذ أن احتلت القوات الأمريكية العراق ونصبت القوى الطائفية المقيتة على رأس السلطة
لك ودي وامتناني على إثارتك الموضوع، وما أتمناه هو ان يكون فاتحة حوار ونقاش علمي رصين بصدد هذا الموضوع الحيوي والمهم.
كاظم حبيب
9/04/2019



142
د. كاظم حبيب
نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا
الحلقة السادسة
قراءة في الفصل السادس المشهد النفطي بعد تغيير عام 2003   

كتب الدكتور على خضير مرزا في عام 2018 مشيراً إلى البطء الشديد والتأخير غير المعقول في إقرار قانون النفط والغاز بما يلي: "منذ سنة 2007 ومسودة قانون النفط والغاز لم تُقر بالرغم من إحالتها إلى مجلس النواب في شباط من تلك السنة." (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 131). هذا الاستنتاج الصحيح لم يمس قانون النفط والغاز فحسب، بل يشمل الكثير من القضايا المهمة والأساسية الأخرى، في حين كانت السرعة تميز قوانين وإجراءات وسياسات أخرى. فقد تميزت الفترة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية باتجاهين متعارضين في حكم البلاد من حيث البطء والسرعة:
تميز الاتجاه الأول بـ:
** بطء شديد جداً وتخلف استثنائي في عمليات إعادة إعمار البنية التحتية التي خربتها الحروب المتتالية، ولاسيما الطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب والمؤسسات الصحة والتعليمية والبنايات المدرسية وعجز عن تطهير البلاد من ملايين الألغام الأرضية المزروعة ومن التلوث الهائل في كل جوانب الحياة، ولاسيما الماء والهواء والأرض والغذاء...إلخ.
** ابتعاد فعلي وصارم عن توجيه جزء مناسب من الدخل القومي، أو من موارد النفط المالية، من جانب الحكومة صوب توظيف رؤوس الأموال في القطاعين الصناعي وفي مجمل عملية التنمية الاقتصادية والبحث العلمي والتدريب المهني.
** بط شديد وإعاقة جادة في وضع وإقرار القوانين الأساسية التي تنظم حياة المجتمع مثل قانون النفط والغاز وقانون شركة النفط الوطنية، أو القوانين والنظم التي تحكم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمجالس المحلية في المحافظات، مما تسببت في خلق مشكلات ولدًّت مشكلات أخرى...إلخ.
** بط شديد في إنجاز المشاريع الخدمية المقرر إقامتها أو إهمالها كلية، رغم وجود تخصيصات لها، أو حتى بعد استيراد معداتها وتلفها، إضافة إلى تعرض الموارد إلى النهب والسلب.
** بطء شديد في مكافحة الإرهاب وقواه وعواقب ذلك على الدولة والاقتصاد الوطني والمجتمع.
** بطء شديد في مكافحة الفساد، بل وابتعاد تام عن محاسبة الحيتان الكبيرة التي ابتلعت جزءاً كبيراً من خيرات البلاد وموارده النفطية والتي تتصدر المشهد السياسي والسلطات الثلاث.
أما الاتجاه الثاني فقد تميز بـ:
** سرعة هائلة في تنشيط عمليات استخراج وتصدير النفط الخام، ومن ثم في إبرام العقود والتوقيع عليها في جولات تراخيص متنوعة، عقود خدمة فنية ومشاركة في الإنتاج مع غياب الوحدة والتنسيق بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمجالس المحلية في المحافظات.
** سرعة انتشار الفساد كالنار في الهشيم وفي نهب خيرات البلاد والتخصيصات الموجهة للمشاريع الاقتصادية التي لم تنفذ بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية، والتفريط بأموال الدولة بطرق وساليب كثيرة التنوع.
** السرعة في اغتناء النخب الحاكمة وقيادات الأحزاب السياسية الإسلامية والقومية وحواشيهم على حساب مصالح الشعب وخزينة الدولة والاقتصاد الوطني.
** سرعة هائلة في تشكيل الميليشيات الطائفية المسلحة وتسلطها على مقدرات الشعب ومصادرة حقوقه وحرياته الشخصية والعامة.
** السرعة في إصدار التشريعات التي تخدم مصالح النخب الحاكمة وقيادات أحزابها السياسية وتلك التشريعات التي تحد من حقوق الشعب وإرادته ومصالحه ورقابته.
وفي ضوء هذا الواقع الحكومي أحاول أن أتبين الموقف من اقتصاد النفط والغاز في العراق من خلال القراءة المكثفة للفصل السادس من كتاب الزميل مرزا، حيث عنون الفصل: "المشهد النفطي بعد تغيير عام 2003: بنى أساسية ومؤسسية بدون تشريعات مساندة"، وهذا عين الصواب.
تبرز أهمية هذا الفصل في معالجة الباحث لمسألتين أساسيتين تمس السياسة النفطية للنظام السياسي الطائفي الذي انبثق من رحم الغزو الدولي للعراق واحتلاله ورسم نهجه الأساسي وسياساته على أيدي الرئيس الأمريكي المهووس بالنموذج الأمريكي والمسكون بأداء رسالة سماوية للعالم، جورج دبليو بوش، وعبر المستبد بأمره پاول بريمر. وفي حينها عَبَّرَ جورج دبليو بوش عن خشيته من اجتياح جيوش "يأجوج ومأجوج" العراقية إسرائيل واحتلالها، على وفق ما جاء في التوراة والإنجيل، ما لم يسرع بتدمير القوات العراقية! جاء هذا في حديث هاتفي بينه وبين الرئيس الفرنسي جاك شيراك! (أنظر: ياسمينة صالح، عن كتاب جون كلود موريس الموسوم "لو كررت ذلك على مسامعي فلن اصدقه"، منشورات بلون الفرنسية 2009/2010). والمسائل المهمة التي يعالجها هذا الفصل هي:
1)   قانون النفط والغاز
جدير بالإشارة إلى إن السيد الباحث قد عالج في مقالات مهمة خلال السنوات المنصرمة المشاكل التي أحاطت بمسودة هذا القانون، عبَّر فيها عن وجهة نظره والتي نشرت على صفحات شبكة الاقتصاديين العراقيين وتبلورت بشكل مكثف ووافٍ في هذا الكتاب. ابتداءً يعرض الكاتب للقارئات والقراء لوحة واضحة عن ثلاث مسائل جوهرية هي: ** انتشار الموارد البترولية في أغلب مناطق العراق، مع تخلف في تطوير البنى الأساسية، ومن ثم في الطاقة الإنتاجية والإنتاج السنوي؛ ** التركيز في إنتاج النفط والغاز على أحواض ثلاثة وفي أربع مناطق هي: حوض زاگروس في الشمال وإقليم كردستان، وحوض الرافدين، وبضمنه المنطقة الجنوبية والمنطقة الوسطى، وثم حوض الوديان والصحراء الغربية؛ ** عن إنتاج النفط والتقدير لاحتياطي النفط العراقي. كما يدل على ذلك بعرض جداول توضيحية مهمة بهذا الصدد. وكانت أشارته التالية مهمة جداً لإنها تحمل في طياتها النقد لما يجري في العراق بصدد هذه النقطة حيث كتب: "إن انتشار الموارد البترولية في كافة أنحاء العراق لا يولد مشكلة جدية، في شأن الاستكشاف التطوير والإنتاج، طالما كانت هذه الموارد تخضع لإدارة مركزية، غير إن وضعية الإدارة في العراق في الوقت الحاضر في ضوء ما ورد في الدستور (الماد 111 و112) وفي قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل في 2013، بقيت غير واضحة." وأضيف هنا إلى ذات المشكلة مع إقليم كردستان. أي إن المشكلة تكمن في تداخل المسؤوليات والصلاحيات، إضافة إلى التداخل النفطي الموجود بالأساس بين محافظات العراق ومع الدول المجاورة والتي تستوجب المعالجة الجادة والوضوح في الحقوق والصلاحيات.   
يشير الباحث إلى أن أول مسودة لهذا القانون طُرحت من قبل مجلس الوزراء لمناقشتها في مجلس النواب العراقي كان في عام 2007 ولم يتر بسبب بروز نقاط اختلاف بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ومع المحافظات، ثم طرحت مسودة قانون ثانية مع بعض التعديلات في العام 2011 في فترة وجود نوري المالكي على رئاسة مجلس الوزراء أيضاً، والتي هي الأخرى لم تحظ بقبول من جانب حكومة إقليم كردستان ومواقف كتل سياسية أخرى واراء ناضجة لخبراء عراقيين في اقتصاد النفط. ولهذا السبب تعطل إصدار القانون طوال السنوات المنصرمة، مما دفع وزارة النفط الاتحادية ووزارة نفط الإقليم العمل كلاً بمفرده وبعيداً عن مادتي الدستور العراقي، علماً بأن الإقليم، بخلاف الحكومة الاتحادية، أقر في عام 2007 قانوناً للنفط والغاز خاصاً به لا يتناغم مع الدستور العراقي الاتحادي ولا مع مسودة قانون النفط والغاز الاتحادي. 
كرّست المادة 111 من الدستور العراقي لعام 2005 النص التالي: "النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات." ثم جاءت المادة 112 لتؤكد ما يلي:
"اولا: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة على ان توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع انحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون.
ثانيا: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق اعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار." (أنظر: نص الدستور العراقي لعام 20005، المكتبة القانونية العراقية للحكم المحلي). والمشكلة التي تفاقمت سنة بعد أخرى، ولاسيما في غياب الثقة المتبادلة بين الحكومتين، برزت بسبب غياب قوانين ونظم إدارة ناضجة وتحديد لحقوق وصلاحيات الحكومتين ووزارتي النفط، إضافة إلى عدم إقرار قانون النفط والغاز الاتحادي. علماً بأن النص الدستوري في المادة 112 جاءا بصورة متناقضة وتجسد المساومة غير العقلانية من جانب الكتل الحزبية المتصارعة التي وضعت الدستور وعلى حساب الاقتصاد والمجتمع. وبالتالي خضعت العلاقة بين الحكومتين في مجال اقتصاد النفط إلى ميزان القوى بينهما في التصرف بالتنقيب والاستخراج والتصدير، وقبل هذا وذاك في المفاوضات وإبرام عقود النفط والغاز بعيداً عن أي سياسة مشتركة وتعاون وتنسيق بين الحكومتين. وكان هذا الغموض والتخبط التشريعي يصب في مصلحة شركات البترول الأجنبية التي أبرمت عقوداً مع الطرفين، ولم يكن بأي حال في مصلحة العراق عموماً. ويشير الدكتور علي إلى أن مسودة قانون النفط والغاز تضمنت ثلاث عناصر مهم: تكوين مجلس اتحادي لتنسيق وتوحيد السياسات النفطية، وتكوين شركة نفط وطنية اتحادية، قبول القانون بإبرام عقود الخدمة والمشاركة في الإنتاج ومنح الامتياز. ثم أضيف فيما بعد تكوين صندوق للمستقبل. وفي هذه الأمور برز الخلاف وتعقد بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وبالتالي تعطل مناقشة وإقرار قانون النفط والغاز طيلة الفترة المنصرمة. هناك الكثير من النقاط التي تستوجب المعالجة والتي تستوجب القراءة المتمعنة في كتاب الدكتور علي مرزا، إضافة إلى أبحاث مختصين آخرين مثل أحمد جياد موسى وقاسم الأمير وعصام الجلبي، على سبيل المثال لا الحصر.       
2) قانون شركة النفط الوطنية
تم في عام 1987 إلغاء شركة النفط الوطنية، التي تأسست بموجب القانون رقم 11 لسنة 1964، بسبب تدهور إيرادات الدولة العراقة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ودمجها بوزارة النفط. ورغم إن مسودة قانون النفط والغاز لعام 2007 دعا إلى تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية، إلّا إن أول ظهور لمسودتين فتأسيس شركة النفط الوطنية جاءا في عامي 2016 و2017. ويشير الدكتور مرزا إلى إن عام 1967 شهد صدور القانون رقم 123 لسنة 1967 الذي وضع جميع الأراضي التي استعادها القانون رقم 80 لسنة 1961 من شركات النفط الأجنبية الثلاث تحت تصرف شركة النفط الوطنية. ومنذ إلغاء شركة النفط الوطنية العراقية حتى عام 2018 بقي اقتصاد النفط مرتبطاً بوزارة النفط العراقية، فيما عدا تلك الحقول التي لم تخضع لوزارة النفط في إقليم كردستان العراق، إضافة إلى نفط كركوك منذ إسقاط الدكتاتورية عام 2003 تقريباً حتى نهاية عام 2017 حيث عادت وزارة النفط الاتحادية لتشرف على نفط كركوك ثانية.
في عامي 2016 و2017 ظهرت مسودتان تقترحان تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية. وفي عام 2018 وافق مجلس الوزراء الذي ترأسه حيدر العبادي على قانون شركة النفط الوطنية وأرسل إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره ثم إرساله إلى رئيس الجمهورية للمصادقة عليه ونشره في الوقائع العراقية. وقد تم ذلك على عجل شديد في الخامس من أذار/مارس عام 2018، وبنفس السرعة غير المعهودة صادق رئيس الجمهورية على هذا القانون. لقد ظهرت قبل المصادقة على هذا القانون وبعد المصادقة عليه الكثير من الملاحظات والاعتراضات المهمة ومن خبراء في اقتصاد النفط العراقي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، علي خضير مرزا، وأحمد جياد موسى، وفؤاد قاسم الأمير، وحمزة الجواهري، وطارق شفيق، ووليد خدوري، وعصام الجلبي.. إلخ. وفي حينها، ومن ثم وردت في كتاب الدكتور علي مرزا جملة من الملاحظات على القانون قبل وبعد المصادقة عليه. فقد قارن أولاً بين القانون رقم 123 لسنة 1967 ومسودة القانون الجديدة مؤكداً أهمية عدم اعتبار شركة النفط الوطنية شركة مقاولة، بل أن تكون مؤسسة مستقلة قادرة على إنجاز جميع العمليات النفطية التي يفترض أن تقوم بها بقية الشركات الوطنية في مختلف بلدان العالم، وألاَّ تعتمد توزيع عوائد النفط على السكان، والذي لا يسمح بتوجيه موارد النفط المالي’ أو جزء منهم منها صوب التنمية الإنتاجية وتطوير الاقتصاد الوطني، إضافة إلى تأكيد ضرورة خضوع حسابات الشركة لديوان الرقابة المالية. كما يؤكد ضرورة دفع الشركة "معدل ضريبة الدخل يوازن بين تأمين مناسب/مستدام لوزارة المالية، من ناحية، وتدفق نقدي كافٍ لشركة النفط الوطنية يمكنها من تحقيق الاستقلال والكفاية المالية، من ناحية أخرى". (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 139). ويرى ضرورة قيام الشركة ذاتها بدفع الرسوم الضريبية عن الشركات الأجنبية المتعاقدة معها باعتبارها المسؤولة عن ذلك ويدخل ذلك ضمن عقود المقاولة. ويتساءل عن مدى جدوى أو إضعاف للقوة التنافسية للشركة الوطنية حين يتحتم عليها الدخول في تنافس مع الشركات الأخرى للحصول على مناطق للتنقيب والإنتاج خارج إطار المناطق الممنوحة لها حصراً، وماذا يعني تسليم الشركة الوطنية النفط الخام لشركة تسويق النفط، أي تشكيل شركة أخرى مستقلة للقيام بعمليات التسويق. كما يرى ضرورة إزالة عدم الوضوح في توزيع المسؤوليات بين جهات عديد، في حين لا بد من حصرها في شركة النفط الوطنية. ويعتقد بعدم صواب استقلالية الإقليم والمحافظات عن السلطة المركزية في مجال اقتصاد النفط، التي تسببت حتى الآن للكثير من المشكلات ولاسيما مع الإقليم. ويلاحظ في مسودة القانون الجديد خطأ حذف الإشارة لصندوق المستقبل وعدم خضوع حسابات الشركة لديوان الرقابة المالية. إضافة على نقاط أخرى عديدة.
قبل وبعد صدور قانون شركة النفط الوطنية العراقية كتب مجموعة غير قليلة من خبراء النفط والاقتصاد مقالات ووجهوا رسائل إلى المسؤولين في الحكومة الاتحادي ووزارة النفط وإلى الرأي العام العراقي حول نواقص القانون وسلبياته والنتائج غير السليمة التي ستنشأ عن ذلك. وحين لم ينفع كل ذلك تبنت مجموعة من الخبراء والمختصين والاقتصاديين والسياسيين إقامة دعوى قضائية ضد رئيس مجلس النواب، باعتبار المجلس هو الذي أقر القانون ودفعها لرئيس الجمهورية الذي صادق عليها فعلاً. وقام كل من الخبير النفطي السيد فؤاد قاسم الأمير والسيد ماجد علاوي بتقديم الدعوى القضائية إلى المحكمة الاتحادية العليا ضد ما ورد في القانون من مواد مخالفة لنص الدستور العراقي. وقد نظرت المحكمة بهذه القضية وأصدرت قرار حكم نافذ مؤيدة مجموعة كبيرة من تلك الملاحظات النقدية الجوهرية المطالبة بإلغائها من القانون الجديد. وعلى وفق تقديري فأن قرار المحكمة الاتحادية العليا، الذي أخذ بأغلب الملاحظات النقدية للنقاط السلبية في القانون يشير إلى احتمالين لا غير: إما إن واضعي القانون لا يعون شيئاً من اقتصاد النفط أصلاً وغير مطلعين على قوانين شركات وطنية في دول أخرى ولا حتى على قانون 123 لسنة 1967، رغم أنهم مسؤولون كبار في وزارة النفط، ومنهم وزير النفط والخبراء النفطيين العاملين في الوزارة، وهو أمر غير ممكن بل مستحيل، أو أنهم، كلاً أو بعضاً، يجسدون اللوبي النفطي الفاسد والمهيمن الذي عمل ويعمل في غير صالح العراق ولصالح جهات معينة لا تخدم شعب العراق واقتصاده الوطني. واترك الحكم للقارئات والقراء الكرام حين يقرأون الكتاب والنقد الموجه، إضافة إلى الملاحظات الواردة في نص الدعوة القضائية المشار إليها في أعلاه، وكذلك قرار المحكمة الاتحادية العليا الصادر في 23/01/2019، (العدد: 66 وموحداتها 71 و157 و224 /اتحادية، إعلام/2018). أتمنى أن يتسنى لهم جميعاً قراءة الكتاب لأهميته والاطلاع أيضاً على نص الدعوى المقامة على رئيس مجلس النواب، وقرار المحكمة الاتحادية العليا بهذا الخصوص في واحدة من أهم القضايا النادرة التي بتت بها المحكمة الاتحادية العليا لصالح المجتمع والاقتصاد العراقي، لأهمية ذلك بالنسبة إلى معلوماتهم الشخصية، ولأنها تمس مصالح كل عراقية وعراقي، ولأنها تتعلق بأهم ثروة خامية يمتلكها العراق بعد الإنسان.   
كاظم حبيب
05/04/2019
انتهت الحلقة الخامسة وتليها الحلقة السابعة: قراءة في الفصل السابع: العقود والاتفاقيات النفطية/الغازية
 

143
د. كاظم حبيب
نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا
الحلقة الخامسة
قراءة في الفصل الخامس: المشهد النفطي 1921-2002، الامتيازات النفطية والإدارة الوطنية
يضع الكاتب الدكتور علي خضير مرزا قراءه وقارئاته في الباب الثالث من الكتاب أمام أربعة فصول مهمة تبحث في اقتصاد النفط العراقي، ابتداءً من اكتشافه والتوقيع على امتياز استثماره واستغلاله ومروراً بقانون 80 لسنة 1961، ومن ثم تأميم مجموعة شركات نفط العراق في عام 1972، وانتهاءً بتراخيص عقود النفط بعد عام 2003. وهي فترة تمتد لأكثر من قرن من السنين العجاف، حيث اقترن اكتشاف واستخراج وتصدير النفط الخام العراقي بسيول من الدم العراقي وبالفقر والحرمان والاستبداد، بدلاً من أن يكون رحمة وعنواناً للخير والتقدم والازدهار والحرية والديمقراطية والسعادة لبنات وأبناء الوطن. وقد "قال أحد ممثلي شركة نفط العراق بتشفي، كلمة تصلح أن تكون عنواناً لمأساة العراق: لقد أريقت دماء غزيرة (في العراق)، ولكن، شكراً للسماء، لم ترق قطرة واحدة من البترول". (أنظر: إبراهيم علاوي، البترول العراقي والتحرر الوطني، دار الطليعة-بيروت، 1967، ص 170، عن الأهرام المصرية 15 أغسطس 1966). إنها المأساة وهي المهزلة في آن واحد، والتي يمكن أن نتبين بعض أهم جوانبها في الفصل الخامس، الذي سيكون موضوع هذه الحلقة، دون أن يخوض الباحث بالتفاصيل السياسية، باعتبارها الرديف المباشر والوجه الثاني لاقتصاد النفط في العراق، إذ تقرأ بين سطور الكتاب ما يساعد على معرفة واقع حال العراق مع نفطه.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن اقتصاد النفط قد حظي بمئات الكتب الغنية بالمعلومات والتحليلات من قبل كتاب عراقيين وعرب وأجانب تبحث في جوانبه المتلفة، ولاسيما تاريخ وتفاصيل التوقيع على منح الامتياز وما بعده وإلى الوقت الحاضر، وليس سهلاً المرور على جميع من كتب بهذا الصدد، إذ تضم مكتبتي الشخصية الكثير المهم منها. وكانت رسالتي لنيل درجة الماجستير في عام 1964 تعالج موضع اقتصاد النفط في العراق. 
يطرح الكاتب في الفصل الخامس معلومات عن مرحلة اكتشاف وجود النفط الخام في العراق في العهد العثماني، رغم معرفة وجوده من قبل أجدادنا الأوائل من السومريين والأكديين والآشوريين وعموم البابليين واستخدام القير في البناء وإكساء الشوارع، ثم التوقيع على امتياز شركة النفط التركية التي أصبح اسمها فيما بعد "شركة نفط العراق". ويضعنا الكاتب في جو الصراعات والمساومات الدولية بين شركات البترول الاحتكارية ودولها ومع العراق بهدف الحصول على امتياز ممتاز لصالح الشركة والمشاركين فيها في مقابل إلحاق ولاية الموصل بالعراق وسن الدستور العراقي والبدء بمفاوضات حول موقع بريطانيا في العراق عسكرياً وسياسياً واقتصادياً والتي تم التوقيع عليها في معاهدة 1930 والتي مهدت إلى إلغاء الانتداب على العراق عام 1932. لقد تمكن البريطانيون، وكانت لهم اليد الطولى في العراق، على فرض التوقيع على امتياز منح التنقيب واستخراج وتصدير النفط الخام العراقي عام 1925 ولمدة 75 عاماً وبشروط مجحفة في السنة ذاتها التي صدر فيها القانون الأساسي العراقي ووضع الأسس لعلاقة التبعية العراقية لبريطانيا.
لقد هيمن البريطانيون على اقتصاد النفط العراقي وعلى مساحات واسعة من الأراضي العراقية للتنقيب عن البترول لشركة نفط العراق، ومن ثم لأبنتيها، وهما شركة نفط الموصل (1932)، وشركة نفط البصرة (1938)، طيلة الفترة الواقعة بين 1924-1958 تقريباً وعلى حصة الأسد من إيرادات نفط العراق، سواء حين كان طن النفط بأربع شلنات ذهب، أم حين أصبح العراق يحقق 50% من أرباح صادرات النفط منذ العام 1951 -حتى العام 1972، على وفق اتفاقية مناصفة الأرباح الموقعة عام 1952 بأثر رجعي. ودون الدخول بتفاصيل الاختلاف في وجهات النظر والصراعات بين الحكومة العراقية وشركات النفط الاحتكارية، لخص لنا الكاتب مرزا بوضوح مواطن الغبن العديدة التي لحقت بالعراق من جراء تلك الاتفاقيات والفجوة الكبيرة بين إيرادات العراق وأرباح الاحتكارات البترولية الأجنبية من نفط العراق. ولكن هناك غبن أخر ومتنوع لحق بالعراق بصورة غير مباشرة وألحق خسائر فادحة بالعراق وسأحاول بلورة واقع الغبين على التوالي:
** أولى الخسائر المالية التي لحقت بالعراق تجلت في عقد الامتياز والتي برَّزها الدكتور علي مرزا في واقع الإِتاوة الضئيلة التي تدفعها شركات النفط الاحتكارية  لخزينة الدولة عن الطن الواحد من النفط الخام المصدر والبالغة 4 شلنات ذهب، والفضل في تكريس 4 شلنات ذهب يعود لوزير المالية الأول والمواطن العراقي الكبير ساسون حسقيل، أولاً، وفي حرمان العراق من حقه في المساهمة في الامتياز، على وفق ما أقرته اتفاقية سان-ريمو السرية عام 1920 في إيطاليا بحصة 20% من الأسهم. وقد تم تقسيم الحصص بين الشركات الاحتكارية في العام 1928. والخسارة هنا تتجلى في إبعاد العراق عن المشاركة في الأرباح كمساهم بـ 20%، هي نسبة كبيرة وخسارة فادحة.
** الخسارة الثانية برزت في "احتساب سعر النفط المنتج في العراق والموزع على المساهمين في الشركة، بسعر الكلفة وليس بسعر البيع الفعلي" ويوضح الدكتور مرزا الهدف من ذلك بقوله: " وكان الهدف من ذلك هو تجنب إظهار تحقق أرباح في مرحلة استخراج النفط، وبذلك يمكن تجنب إشراك العراق في الأرباح والاقتصار على دفع إتاوة، royalty، له عن كل طن أو برميل منتج." (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 107/108)، واعتبرت الإنتاج للمنفعة العامة وليس لتحقيق الأرباح، وهو ضحك مكشوف على ذقون حكام العراق وشعبه!   
** هيمنة شركات النفط الاحتكارية على مدى 36 سنة على مساحات واسعة جداً من الأراضي العراقية لأغراض التنقيب عن البترول واستخراجه وتصديره، والتي لم تسمح للعراق بمنحها لشركات أخرى، في حين لم تقم تلك الشركات النفطية الثلاث، العراق والبصرة والموصل، بالتنقيب فيها للعثور على النفط واستخراجه وتصديره ة، حيث ظهر إنها لم تستثمر سوى 0,5 % من مجموع الأراضي التي كانت بحوزتها، وأن حقولها كانت في هذا النصف بالمئة من أراضي العراق. (أنظر: إبراهيم علاوي، البترول العراقي والتحرر الوطني، مصدر سابق، ص 206).     
** الخسارة الصارخة في علاقات العراق النفطية مع شركة نفط العراق وبناتها، تبرز في الاختلاف الكبير بين شروط امتياز النفط العراقي وشروط امتياز نفوط دول أخرى في غير صالح العراق، كما هو الحال مع السعودية أو مع ليبيا. أو مع فنزويلا. (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 110).   
** كما يمكن أن نتابع في الكتاب خسارة العراق لما أطلق عليه بريع التنفيق إلى أن تقرر استحصاله من شركات النفط الاحتكارية بعد اتفاقية المناصفة في الأرباح ويشير الدكتور علي مرزا بصواب إلى هذه النقطة بقوله:
".. إن اتفاقية المناصفة في 1952 لم تشمل، بشكل منفصل، حقاً للدولة ينبع من ملكيتها للمورد الطبيعي وهو الإِتاوة/الريع بل دمجها في حصة الدولة من الأرباح. في حين يحق للدولة فرض إتاوة على كمية الإنتاج، داخل حدودها القانونية، وتستطيع استلامها عيناً أو نقداً، مقيمة بالأسعار السائدة. بغض النظر عن حالة الربح أو الخسارة." لقد بلغت نسبة الريع 12،5%، وبالتالي ازدادت إيرادات العراق بنسبة 6,25% عما كانت تتسلمه قبل التوقيع على هذا الاتفاق الذي وقع في العام 1964.       
أما الغبن غير المباشر فيبرز في أربع ملاحظات مهمة:
1.   إن قلة إيرادات العراق من النفط الخام المصدر قبل المناصفة في الأرباح حتى بعدها قد حرم خزينة العراق من مبالغ طائلة كان في مقدورها أن تحسن من معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي، لاسيما وأن الاقتصاد العراقي كان اقتصاداً متخلفاً بحاجة إلى المزيد من الأموال.
2.   تلك الموارد المصادرة بفعل الامتياز المجحف، والتي دخلت في حساب أرباح شركات النفط الاحتكارية، كان المفترض أن تستخدم في عملية البناء والتعمير وإقامة الصناعة الوطنية أو تحديث الزراعة، والتي حرم منها العراق وساهمت في أعاقت تطوره، إلى جانب واقع أن شركات النفط الاحتكارية كانت تعرقل، عبر تأثيرها المباشر على الدولة وسلطاتها الثلاث، بكل السبل مطالبة الشعب العراقي بالتنمية والتصنيع وتطوير الخدمات العامة.
3.   ولكن لهذه الخسائر المالية تأثير سلبي آخر برز في عجز الدولة عن توفير فرص عمل جديدة للأيدي العاملة العاطلة عن العمل، إذ كان عدد العاطلين يتراكم وينمو سنة بعد أخرى.
4.   إن هذه الأموال الافتراضية المصادرة من حصة العراق لو كانت قد وظفت فعلاً لحققت تراكماً رأسمالياً مناسباً وزادت من ثروة العراق ومن دخله السنوي، وربما كان يعود بالفائدة على الشعب العراقي، رغم إن العراق كان يردد أهزوجة معروفة (هوسة) تقول: "خمسة بالمية من الربح ما طاحت بدينة"، أي لم يحصل الشعب حتى على 5% من أرباح شركات النفط العراقية.         
رغم كل ذلك فأن نضال الشعب العراقي في اعقاب الحرب العالمية الثانية ونضال شعوب المنطقة قد أجبر شركات النفط الاحتكارية على إعادة النظر باتفاقياتها النفطية، والتي انتهت بتوقيع العراق على اتفاقية المناصفة في الأرباح مع شركات النفط الاحتكارية في عام 1952. وهي التي سمحت زيادة إيرادات العراق النفطية والبدء بعملية بناء وإعمار ومشاركة نشطة نسبياً للدولة، عبر مجلس ووزارة الإعمار والمصرف الصناعي في إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية وتقديم القروض للفلاحين من خلال المصرف الزراعي، وتنشيط جملة من الخدمات العامة ومنها الصحية والتعليم. ولكنها كانت في الوقت ذاته البداية الفعلية لتحول العراق إلى دولة ريعية نفطية، بعد أن كان ريعياً زراعياً، إذ لم تسعى الدولة إلى وضع سياسة اقتصادية تهدف إلى خلق توازن وتناسب عقلاني تدريجي بين اقتصاد النفط والاقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي في البلاد وفي تكوين الدخل القومي.
لقد اتخذ العهد الجمهوري الأول خطوات جريئة حين أقدم على ثلاث إجراءات مهمة هي: إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، الذي استعاد 99،5% من مجموع المساحات التي كانت ممنوحة لشركات النفط الاحتكارية العاملة في العراق، رغم إن هذا القانون لم يقلص من قدرة الشركات على استخدام أبار النفط التي كانت تقع ضمن ال 0,5% من الأراضي التي بقيت تحت هيمنتها. والخطوة الثانية كانت الدعوة وإقامة منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك عام 1960)، والتي أصبحت في فترات معينة شوكة ناغزة في عيون شركات النفط الاحتكارية، والخطوة الثالثة حين تم تأسيس شركة النفط الوطنية. وهذه الخطوات المهمة، وقبل ذاك الخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، والدخول بمفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية حول إعادة النظر بالامتياز وحقوق العراق، أدت كلها إلى تفاقم التوتر مع الشركات والدول الرأسمالية الكبرى التي تسندها من جهة، ومع القوى المناهضة لنهج الجمهورية الأولى بإجراءاتها المهمة كالإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية والموقف من المرأة والدعوة لاستعادة الكويت كجزء من العراق والمعارك ضد حركة التحرر الكردية، من جهة أخرى، كما لم تقابلها إجراءات تدعم الجبهة الداخلية وتعزز القدرة على مواجهة التآمر ضد حكومة قاسم، ثم أدت إلى حصول انقلاب 8 شباط 1963 والإطاحة بجمهورية 14 تموز 1958.
ومن المحطات المهمة في اقتصاد النفط العراقي، والتي يبحث فيها الكتاب، صدور قانون تأميم مصالح شركات نفط العراق والموصل والبصرة في العراق في عام 1972، والذي اقترن بأحداث سياسية مهمة في منطقة الشرق الأوسط أدت في حينها إلى حصول فورة في أسعار النفط الخام وزيادة في الإنتاج والتصدير وارتفاع كبير في إيرادات النفط الخام العراقي المصدر. وكان في مقدور العراق بعد إجراءات التأميم أن يتحول تدريجياً إلى دولة صناعية وزراعية متقدمة لو كان نظام الحكم البعثي قد مارس سياسات واقعية وعقلانية وذات منحى ديمقراطي ونهج اقتصادي واجتماعي واقعي وحكيم. إلا إن إيرادات النفط الخام الكبيرة قد تساقطت كزخات مطر شديدة على رؤوس قادة النظام البعثي فأعمت بصرهم وبصيرتهم في آن، إضافة إلى طبيعة حزب البعث القومية الشوفينية واليمينية ونهجه الانفرادي المناهض لبقية القوى السياسية العراقية. ومع إن نظام البعث قد حاول انتهاج سياسة صناعية وزراعية جديدة، ولكنه سقط في مجموعة من المطبات الثقيلة والمدمرة، منها بشكل خاص:
1.   النهج الاستبدادي والرغبة في الانفراد بالسلطة والمال ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية للشعب والتحول تدريجياً إلى دولة دكتاتورية شمولية وفردية مطلقة. وقد تكرس هذا النهج الانفرادي في المؤتمر القطري الثامن لحزب العربي الاشتراكي في بغداد عام 1974 أولاً، وفي الممارسة الفعلية لإرهاب الدولة البعثية ابتداءً من منتصف عام 1977 واستمراراً في تصفية التحالف مع الحزب الشيوعي العراقي واعتقال ما يقرب من 100 ألف إنسان بين عامي 1978-1981 ومحاولة إسقاطهم سياسياً وسجنهم وقتل جمهرة منهم، ثم المجزرة التي نظمها صدام حسين ضد مجموعة كبيرة من قادة وكوادر في حزبه وسلطة البعث في عام 1979 وقبل تسلمه السلطة المطلقة من احمد حسن البكر، وتحضيره لممارسة ما كان يسعى إليه منذ البدء/ بما في ذلك تصفية الحلفاء والمعارضين والخصوم.
2.   النهج القومي الشوفيني والتطلع لدولة عراقية كبرى تلتحق بها تدريجياً الدول العربية الأخرى، أي سياسة توسعية على حساب الدول العربية ومركزها العراق، والتطلع ليكون العراق دولة إقليمية عسكرية كبرى. 
3.   التوجه صوب تحويل العراق إلى ترسانة ضخمة للسلاح الدفاعي والهجومي من خلال استيراد أحدث الأسلحة ومن جميع الدول المنتجة للسلاح، وإقامة صناعة عسكرية متقدمة بدعم مباشر من كل الدول المنتجة للسلاح، الغربية منها والشرقية، وكذلك السعي لإنتاج السلاح الكيماوي والبيولوجي والنووي. إضافة إلى التوسع في عديد القوات المسلحة العراقية وأجهزة الأمن المتعددة والشرطة.. الخ.
4.   وقد شاركت دول العالم المنتجة والمصدرة للسلاح، سواء أكانت من المعسكر الرأسمالي أم المعسكر الاشتراكي السابق، في دعم النظام العراق وتشجيعه وتأييد سياساته العامة، إذ إنها كانت تطمح وبكل السبل في الحصول على جزء مهم من موارد النفط المالية، وكانت تتسابق في بيعه السلاح أو في الحصول على مشاريع تقيمها في البلاد وبأسعار خيالية غير خاضعة للمعايير الدولية.
5.   وخلال فترة قصيرة تحول العراق إلى دولة عسكرية توسعية يريد قادتها البرهنة على قدراتهم العسكرية وتحت شعار "الحقوق لا تمنح بل تنتزع!". فاستغلوا المحاولات الإيرانية بعد عام 1979 التدخل في الشأن العراقي ودعم التفجيرات التي اعتمدها حزب الدعوة الإسلامية في العراق، ليخوضوا حرباً ضد إيران دامت ثماني سنوات عجاف ومدمرة.
6.   وعلى الصعيد الاقتصادي اتخذ المؤتمر القطري الثامن نهج التنمية الانفجارية، والذي كان أحد الأسباب المباشرة في التفريط بأموال هائلة لإقامة مشاريع بذخية والتوسع الأفقي بعيداً عن التخطيط العقلاني وبما يحتاجه العراق فعلاً. ولهذه الغاية استورد العراق أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة الأجنبية ولاسيما من مصر، وأقيمت العديد من المصانع المهمة في السبعينيات من القرن العشرين ومنها البتروكيماويات في البصرة على سبيل المثال لا الحصر.
وخلال فترة الحرب العراقية-الإيرانية، في عام 1987، أقدم النظام على حل شركة النفط الوطنية ودمجها بوزارة النفط وتقسيم نشاطها إلى ثلاث شركات عامة، في الوسط والجنوب والشمال، بسب تراجع القدرة المالية التي استنزفتها الحرب العراقية الإيرانية، كما يشير إلى ذلك الدكتور علي مرزا في كتابه على الصفحة 123. رغم الخسائر البشرية والمادية التي تحملها العراق في الحرب مع إيران، فقد خرج من الحرب غير خاسر لها، بل حقق نصراً على إيران الخميني حين أجبر الخميني على القول بأنه يتجرع السم حين يوقع على إيقاف القتال وتراجعت أحلامه التوسعية. ولكن هل لطموحات وأطماع صدام حسين حدود، وهل للصراعات بين دول الخليج وتأثير الولايات المتحدة عليها حدود، ولاسيما في الخلاص من الغريمين إيران والعراق، فكان استفزاز الكويت بمطالبتها بتسديد الديون فوراً والموقف من زيادة تصدير نفطها.. إلخ، سبباً لغزو الكويت. فقد أدت، تلك السياسات والرغبة الجامحة في التوسع والعنجهية السياسية الصدامية، إلى اجتياح القوات المسلحة العراقية للكويت واحتلاله على طريقة الغزو القبائلي العدواني والإمعان في إهانة الشعب الشقيق، والتي انتهت إلى حرب الخليج الثانية التي أذلت العراق وشعبه وقواته المسلحة، وإلى فرض الحصار الاقتصادي الدولي وتجويع المجتمع استمر طيلة 13 عاماً أدى إلى مآسي وكوارث كثيرة بما فيها وفيات بعشرات الآلاف من الأطفال والعجزة وكبار السن والمرضى. ثم كانت الحرب الخليجية الثالثة التي أدت إلى الإطاحة بنظام الحكم الدكتاتوري البعثي. لقد دمًّرت سياسات البعث العسكرية والتوسعية وحروبه الداخلية والخارجية الكثير جداً مما بني في العراق من منشآت صناعية وهياكل ارتكازية ومنشآت اجتماعية. وكانت خسارة فادحة لشعب العراق. 
ووفي ختام هذه الحلقة أود أن أشير إلى ملاحظة شخصية تتلخص في وضوح موقفي من اتجاهات تطور تلك الفترة حين التقيت بصدام حسين في المؤتمر الزراعي ببغداد وناقشته من على منصة المؤتمر، حيث كنت أترأس تلك الجلسة بشأن الأوضاع الاقتصادية في العراق وفشل سياسات التخطيط والتسعير للسلع، في عام 1976، ثم تركت المنصة وجلست بجواره وتحدثت معه طوال ساعة ونصف الساعة عن أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما استمعت لوجهة نظره وخرجت من اللقاء المنقول عبر شاشة التلفزة بانطباع واضح هو إن حزب البعث يسير في "درب الصد ما رد"، وأن عواقب ذلك ستكون وخيمة، وقد بلغت قيادة الحزب الشيوعي العراقي برأيي، ثم سجلت ذلك تفصيلاً في التقرير الذي أعدته اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي العراقي، وكنت مسؤولها، في منتصف عام 1977 وقدم إلى اللجنة المركزية ومكتبها السياسي بشأن التدهور المتسارع في نهج وسياسات حزب البعث، والرؤية القاتمة لما يمكن أن يؤول إليه الوضع في العراق.   
انتهت الحلقة الخامسة وستليها الحلقة السادسة حول النفط العراق خلال الفترة بين 2003-2018. 
كاظم حبيب
03/04/2019

144
الأخوات والأخوة الأعزاء
الصديقات والأصدقاء الأعزاء
تحية قلبية
أضع بين أيديكم كراساً عن كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب في العراق، عن معاناتهم في العراق منذ عقود، ولاسيما في الفترة الأخيرة. لقد ارقني هذا الكراس كثيراً وأتعبني نفسياً، إذ كان عليَّ، ولكي أكتب هذا الكراس، أن أقرأ الكثير من الكتب، وقد قرأت فعلاً عشرات الكتب وما نشر في المواقع عن أتباع الديانات والمذاهب واطلعت على أوضاعهم الكارثية  التي مروا بها في العهود المختلفة عبر القرون المنصرمة في العراق. لقد كانت هناك فترات طيبة ومريحة للجميع، ولكنها كانت قصيرة وقصيرة جداً، كما في أعقاب ثورة تموز 1958 مثلاً. يمكن لكل منكم، امرأة كانت أم رجلاً، أن يضع نفسه مكان أحد هؤلاء الأخوة أو إحدى الأخوات من أتباع الديانات والمذاهب الدينية والفلسفية، وهم مواطنون عراقيون وهن مواطنات عراقيات، لكي يمكن أن يحس بإحساسهم ومرارة العيش في مثل تلك الأوضاع التي عاشوا فيها، رغم إن العيب كل العيب في الحكام على مدى التاريخ، وليس في الشعب ذاته، ولكن الششعب يتحمل مسؤولية ايضاً بسبب الجهل والأمية وضعف الوعي والتعصب القومي أو الديني أو المذهبي. إنها المأساة وهي المهزلة ايضاً. تذكروا فقط الإبادة الجماعية عام 1988 للكرد في الأنفال، تذكروا ما أصيب به الكرد الفيلية أو شيعة الجنوب الذين اتهموا بالتبعية، أو ما حصل للإيزيديين والمسيحيين والصابئة المندائيين وفي الفلوجة وصلاح الدين وقبل اجتياح داعش للموصل، أ ما حصل للمجتمع المسيحي والإيزيدي والشبك والتركمان في أعقاب اجتياح الموصل وعموم نينوى، ثم الجريمة البشعة والنكراء التي قطع فيها رؤوس 50 أخت إيزيدية ودفن في سوريا على ايدي الدواعش المجرمين. ولنفكر بمن كان السبب وراء ما حصل في العرق، أليس النظام الطائفي المحاصصي ومن كان على رأس السلطة حينذاك، اليس الفساد وفقدان الذمة والضمير؟ أتمنى أن نفكر بكل ذلك. أتمنى لمن يقرأ هذه الدراسة المكثفة المنشورة في مواقع كثيرة، منها الحوار المتمدن، صوت العراق، موقع الناس، مركز النور ومواقع أخرى أن يفكر بأوضاع العراق الجارية وأن يتضامن معي مع اتباع الديانات والمذاهب دفاعاً عن حقهم في الإيمان وعن حريتهم في العبادة. الشكر لمن يتسنى قرأة الكراس ويوسع نشره بسحبه من أحد المواقع. كاظم حبيب

http://www.ankawa.com/sabah/kahdemhabib.pdf

145
د. كاظم حبيب
نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا
الحلقة الثالثة
قراءة في الفصل الثالث: السكان وقوة العمل
يقدم الباحث العلمي والكاتب الدكتور علي خضير مرزا دراسة علمية ممتعة ورزينة عن التطورات والتغيرات السكانية وقوة العمل والفقر في العراق خلال فترة مديدة، ولكنه يركز بصواب على العقود الأخيرة ويطرح استنتاجاته، إضافة إلى استشرافه لتطور البنية السكانية وقوة العمل في السنوات القادمة. ويعتمد في ذلك على ما هو متوفر من إحصائيات عن السكان والأحوال الاجتماعية، التي غالباً ما يكون، كما أرى، احتمال أن يصل الانحراف فيها بما يتراوح بين 7-15%، وغالباً ما يكون نحو الأسفل حين يتعلق الأمر بأرقام البطالة والفقر والفساد. وقد أشار إلى ذلك بقوله: "ومنذ اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية بدأ التحفظ في نشر البيانات. وتدريجاً اختفت منشورات رصينة خاصة ما يتعلق ببيانات الجهاز المركزي للإحصاء والبنك المركزي". ثم يقول في مكان آخر "وبالرغم من إن الكاتب يعتقد إن معظم البيانات المستخدمة في هذا الكتاب تمثل المُتغيرات التي تصفها بصحة معقولة، في المتوسط، ولكن بسبب ظروف القلاقل وعدم الاستقرار في إعدادها من قبل الجهات الإحصائية فأن درجة من عدم اليقين حولها. لهذا السبب ينبغي الحذر في تفسير النتائج والتوصيات التي تعتمد على البيانات المستخدمة، والنظر إليها كتوجيهات عامة صحيحة، بدلاً من كونها تشير إلى وقائع دقيقة". (أنظر: مرزا، ص 3). وتأكيداً لما ورد في أعلاه أروي هنا الحادثة الآتية التي شاهدتها كغيري من الناس: في ندوة عامة نظمت لصدام حسين في نهاية عام 1977 ونقلت عبر قناة التلفزة العراقية قال فيها بشأن عدد سكان العراق حينذاك ما مضمونه: حين يقرر القادة السوفييت بأن حجم إنتاج الحنطة أو الرز في الاتحاد السوفييتي وصل عام كذا إلى كذا طن، فأن جميع المسؤولين يلتزمون بهذه الأرقام ولا يحيدون عنها وتسجل في الإحصاءات الرسمية كواقع حال. وأنا صدام حسين أقول هنا أيضاً بأن عدد سكان العراق في عام 1977 بلغ 12 مليون نسمة وعلى الجميع الالتزام بهذا الرقم ولا يجوز ذكر غيره! وهكذا يجد المتتبع هذا الرقم قد سجل في الإحصاء الرسمي العراقي ولم يحد عنه أحد. ومنذ عام 1978 تقريباً توقف الجهاز المركزي للإحصاء، وكذلك البنك المركزي عن نشر تفاصيل إحصائية مهمة عن الاقتصاد والمال والمجتمع في العراق بقرار من صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة حينذاك. ومن هنا برزت الكثير من المصاعب التي واجهت الباحثين والإحصائيين وراسمي السياسات الاقتصادية والاجتماعية في العراق. وهي حالة لا تقتصر على العراق فحسب، بل تمتد إلى الكثير من الدول النامية. وفي قناعتي فأن إحصائيات المرحلة الراهنة وفي الكثير من المجالات غير دقيقة، لا بسبب القلاقل وعدم الاستقرار فحسب، بل بسبب طبيعة النظام السياسي وتجلياته في السلوك والممارسات الكثير من مؤسسات الدولة، رغم حصافة وسلامة وحسن نية ووجود جمهرة من موظفي الدولة النزيهين. ويعتبر العراق أحد النماذج الصارخة في مجال الإحصاء وعد الدقة في المعلومات، ولاسيما في موضوع البطالة والفقر وإيرادات الدولة والفساد ...الخ.
يبحث الكاتب في هذا الفصل المكثف عدداً من تفاصيل القضايا السكانية ويستكمل بها ما طرحه في الفصل الثاني عن النمو السكاني في "أرض السواد"، رغم إن أرض السواد لا تشمل العراق كله، بل البصرة ووسط العراق وبغداد وجزء من ولاية الموصل القديمة. فالتقديرات السكانية للفترة الواقعة بين 1867 -1905 في الولايات العثمانية الثلاث (بغداد والبصرة والموصل) تؤكد زيادة سكانية ضعيفة جداً لا يزيد متوسطها السنوي البسيط للفترة الواقعة 1867-1905 عن 23700 نسمة. علماً بأن تقاليد سكان الريف والبادية كانت تميل بقوة صوب إنجاب المزيد من البنين، باعتبارهم والمال زينة الحياة الدنيا، وهم بحاجة لهم للزراعة أو لرعي الماشية أو للغزو، ولكن البؤس والفاقة والأمراض السارية والفتاكة والفيضانات كانت تفتك بنسبة عالية من السكان، ولاسيما الولادات الجديدة، وبالتالي يكون صافي الزيادة السكانية ضئيل جداً. (أنظر: د. محمد سلمان حسن، "التطور الاقتصادي في العراق 1864-1958"، الفصل الأول، نمو وتركيب السكان، المكتبة العصرية، بيروت، 1065؛ الدكتور فاضل الأنصاري، "مشكلة السكان، نموذج القطر العراقي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980؛ د. كاظم حبيب، لمحات من عراق القرن العشرين، الكتاب الثاني من 11 مجلد، الفصل الخامس: البنية الاجتماعية لسكان العراق في الفترة الأخيرة من العهد العثماني، دارا أراس، اربيل، 2013). كما إن التحولات في البنية السكانية من حيث البداوة والريف والحضر قد بدأت عملياً وتدرجياً مع إجراءات مدحت باشا الإصلاحية الذي حكم العراق خلال الفترة 1869-1872، حيث اتخذ جملة من الإجراءات التي أدت فيما بعد إلى حصول تغير نسبي في نسب توزيع السكان بين البدو والريف، في حين حافظ سكان الحضر على نسبتهم بين عام 1867-1905 ولفترة غير قصيرة، إذ قدر سكان البدو والريف بـ 35% و41% على التوالي من إجمالي السكان، في حين تغير التناسب في عام 1905 لصالح الريف على النحو التالي على التوالي: 17% و59%. أما السكان الحضر فقد احتفظوا بنسبة 24% من السكان. وتسارع هذا التحول بعد إجراءات داوسن بالنسبة لتسوية حقوق الأراضي وإجراءات أخرى قادت إلى حصول تحول كمي مهم لصالح الريف أولاً، والمدينة ثانياً، على حساب سكان البادية في العام 1935، والتي وضعها الدكتور علي مرزا أمام القارئات والقراء وعلى النحو التالي: ريف 65،1، بدو 6،5، وحضر 28،4 بالمائة. (أنظر: مرزا، ص 42).
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن المجتمع حتى عام 1947، وربما بعد ذلك أيضاً، لم يكن قد أدرك أهمية الإحصاء السكاني بالنسبة للاقتصاد الوطني والخدمات الاجتماعية وقضايا السكن ...الخ، وكانت الخشية بالأساس من الخدمة العسكرية التي قوبلت منذ عهد مدحت باشا بثورة أهالي بغداد ضد التجنيد الإجباري، واستمر هذا الرفض والخشية من التعداد السكاني عقوداً طويلة لاحقة. وبرزت ظاهرة مهمة في فترة الحرب العالمية الثانية حين بدأ الحصول على حصص تموينية بسبب شحة المواد الغذائية والاستهلاكية عموماً، إذ بدأ الناس يسجلون الولادات الجديدة، مما أعطى دفعة مناسبة للإحصاء السكاني، كما إن احتياج القوات البريطانية للسلع الاستهلاكية في فترة الحرب قد دفعت بريطانيا على الموافقة في إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية الاستهلاكية التي ساعدت على نزوح إضافي من الريف إلى المدينة وحسنت بشكل ملموس من التوزيع النسبي للسكان بين البادية والريف والحضر.
واليوم يواجه العراق إشكالية جديدة تمس التعداد السكاني على صعيد العراق كله، الذي تعرقل تنفيذه في عامي 2009 و2017 لأسباب ثلاثة هي: 1) عدم الثقة في الوصول إلى تعداد سليم ونزيه بشأن إجمالي السكان الكرد في العراق ونسبتهم إلى إجمالي عدد السكان، 2) الخشية من بروز تناسب ف البنية القومية لسكان محافظة كركوك ومناطق أخرى ، يطلق عليها "المناطق المتنازع عليها" بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بما يميل لهذا الطرف أو ذاك، و3) حول مقدار الحصة التي يفترض أن يتسلمها الإقليم من الميزانية العامة بالارتباط مع عدد ونسبة سكانه. ومن حق أي باحث التشكيك بالأرقام التقديرية التي تجنح إما إلى تقدير مرتفع أو منخفض لعدد سكان العراق عموماً والإقليم خصوصاً، للأسباب المذكورة في أعلاه. وبالتالي فأن العراق بحاجة إلى بناء ثقة جديدة تسمح بإجراء هذا الإحصاء الذي ربما يساعد على حل بعض المعضلات القائمة.
لقد ورد لدى الزميل د. مرزا ما يلي: "وبعد عام 1997 لم يجر تعداد سكاني شامل. وكان المقرر إجراء تعداد في 2009 ولكنه لم يتم وأخذ يؤجل كل سنة، فيما بعد". (أنظر: مرزا، ص 45). وكان المفروض أن يشير الزميل إلى تفسير هذه الحالة الشاذة، لاسيما وأن الإقليم لم يشارك في أي تعداد سكاني بعد عام 1977 والذي جرى في ظروف معقدة أيضاً، فيما عدا إشارته إلى عدم شمول المحافظات الكردستانية بالتعداد السكاني عام 1997 "بسبب "استقلالها الفعلي" عن الحكومة المركزية".
هناك مسألة أخرى كان بودي أن يشير إليها الدكتور ميرزا، والتي لم يشر إليها الكثير من الكتاب العراقيين خلال تلك الفترة وما بعدها، والتي أثرت، شئنا أم أبينا، على الزيادة السكانية في نفوس العراق والتي حصلت بعد تعداد السكان لعام 1947، وأعني بها إسقاط الجنسية عن يهود العراق في العام 1951 والأجواء السلبية المناهضة لليهود بسبب الوضع في فلسطين وقرار التقسيم عام 1947، والذي أدى إلى هجرة 138 ألف نسمة من العراق إلى إسرائيل، وقلة قليلة منهم إلى بدول أخرى، في فترة زمنية لا تتجاوز الأربع سنوات. وهي خسارة فادحة في موزائيك العراق السكاني أولاً، وفي المستوى الرفيع للكوادر العلمية والفنية والأيدي العاملة اليهودية التي هُجرّت من العراق ثانياً، وتأثير ذلك على عدد ونسب الولادات خلال الأعوام اللاحقة للتهجير ثالثاً. (أنظر: كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، الشرق الأوسط، بيروت، 2015).
يضعنا الدكتور علي مرزا أمام مجموعة من المشكلات المعقدة التي تواجه العراق من الناحية السكانية والاجتماعية وأبرزها:
1.   واقع حصول معدلات نمو سكانية عالية تجد تعبيرها في دخول أعداد كبيرة في سوق العمل سنوياً وعجز الاقتصاد العراقي استيعابها بسبب غياب التنوع في بنية الاقتصاد الوطني والذي دفع بالحكومات المتعاقبة إلى التوسع في عملية التوظيف الحكومي التي قادت حتى الآن إلى بروز ظواهر سلبية منها: استنزاف نسبة مهمة وعالية من الدخل القومي أو من الميزانية الاعتيادية؛ تضخم الجهاز الحكومي وبروز بطالة مقنعة مرهقة للاقتصاد والمجتمع؛ استمرار وجود بطالة مكشوفة بسبب حالة الاشباع أو التخمة الحاصلة في استيعاب البطالة من قبل الجهاز الحكومي وعدم وجو فرص عمل في قطاعات اقتصادية إنتاجية.   
2.   إن الخلل الكبير في الاقتصاد العراقي المرتبط بالنمو السكاني يبرز في وحدانية التطور الاقتصادي العراقي، اقتصاد يعاني من تخلف قطاعي الصناعة التحويلة والزراعة، وغياب تحديث وسائل إنتاج الصناعات السلعية أو الحرفية الصغيرة.
3.   اللجوء إلى زيادة استخراج وتصدير النفط الخام للحصول على عوائد مالية أكبر لتأمين ما يسد حاجة العراق لتمويل الميزانية الاعتيادية ودورها في إضعاف "العلاقة بين مستوى إنتاج النفط الأفضل كما تقررها متطلبات ميزان المدفوعات من ناحية، والمعدلات الفنية للإنتاج التي تمد في عمر هذا المصدر" من ناحية أخرى، إضافة إلى تعميق وتشديد الطابع الريعي للاقتصاد.
4.   الدور الكبير والأساسي للموارد المالية من تصدير النفط الخام في التشغيل الحكومي بحيث تهيمن الحكومة على نسبة عالية من العاملين، التي تخلق بدورها تبعية مباشرة لنسبة عالية من العاملين وعائلاتهم لإيرادات الدولة المالية وسياسات الحكومة في تأمين رواتبهم ومعيشتهم.
5.   عدم وجود سياسة موحدة حول معدلات النمو السكاني المطلوبة، فهناك من يرغب في تحديدها، وهناك من يرى ضرورة زيادتها.
6.   التأثير السلبي لعدم وضوح الموقف من وجهة النمو السكاني على قدرة المشرع في تأمين علاقة عقلانية بين النمو السكاني والخدمات العامة، كالصحة والتعليم والنقل والسكن ... الخ، إضافة إلى تأمين الأمن الغذائي للسكان.
7.   العلاقة المختلة بين تشغيل الرجال وتشغيل النساء، فرغم إن نسبة النساء في العراق تعادل نسبة الرجال في إجمالي السكان فأن تشغيلهن في حدوده الدنيا، لأسباب ترتبط بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة والدور الذكوري المخل في المجتمع ودور الدين وشيوخه، إضافة إلى تخلف الوعي وتخلف العملية الاقتصادية والاجتماعية والحضارية في العراق.
8.   ويضع الكاتب قراءه وقارئاته أمام عدة مسائل مهمة، رغم غنى البلد بالموارد المالية الناشئة عن اقتصاد النفط الريعي، منها: أ) وجود نسبة عالية من العاطلين عن العمل، وهي بطال مكشوفة، إضافة إلى وجود واسع لبطالة مقنعة، وعواقبهما السلبية على المجتمع، إذ كلما ازداد عدد أفراد العائلة بالنسبة لمعيل واحد، وهي ظاهرة عامة في العراق، ازداد فقرها ووقوع تلك العائلات تحت خط الفقر، وب) النسبة العالية للفقر في العراق وعواقبه على الصراعات والنزاعات المجتمعية، ج) تحمل ميزانية الدولة الاعتيادية أعباء لا طاقة لها، ويأتي ذلك على حساب الحصة التي يفترض أن توجه لأغراض التثمير الإنتاجي في الاقتصاد وتغيير بنيته. علماً بأن الأرقام الرسمية تطرح صورة قاتمة عن البطالة والفقر، ولكن الواقع يفوق ذلك بكثير.
9.   ويشير الكاتب بوضوح إلى مشكلة معقدة جداً برزت في العراق بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية في العراق عام 2003 والتي تتلخص ببروز من يطلق عليهم بالفضائيين، أي أن هناك عشرات وربما مئات الآلاف من الأسماء المسجلة في دوائر الدولة وتقبض رواتب على الورق في حين لا وجود مادي لتلك الأسماء في أجهزة الدولة. وأن هناك من يتسلم تلك الرواتب عنهم. وحسب المعلومات المتوفرة لديّ والمنشورة في الصحف العراقية والمعترف بوجودها حكومياً، فأن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على إقليم كردستان، بل هي منتشرة في جميع محافظات العراق وجميع دوائر الدولة تقريباً، إضافة إلى وجودها في القوات المسلحة والمليشيات الطائفية المسلحة التي تشكل الهيكل العظمي للحشد الشعبي. وهي تكلف خزينة الدولة المليارات من الدنانير العراقية، دع عنك أشكال الفساد الأخرى.     
وبودي هنا أن أشير إلى ثلاث مسائل جوهرية يفترض أن يتوجه لها اهتمام الباحثين، كما أرى، في البحث العلمي عن الاقتصاد والمجتمع في العراق، والتي أختم بها هذه الحلقة، وهما:
1.    لا وجود لاستراتيجية تنموية وسياسة اقتصادية واجتماعية عقلانية في العراق منذ عقود، وقد تفاقم هذا الوضع منذ سقوط الدكتاتورية واحتلال العراق وقيام النظام السياسي الطائفي وتجلياته في المجال السكاني أيضاً. ويتجلى التذمر الشعبي من واقع الأوضاع المتردية في تفاقم حملات الاحتجاج والتظاهر والإضرابات بسبب البطالة وتراجع الخدمات ومنها الطاقة الكهربائية والماء والسكن والنقل .. الخ، والتي يمكن أن تتعاظم خلال الفترة القادمة. وتقدم بغداد والبصرة والموصل، لوحة قاتمة حقاً عن الأوضاع المزرية لغالبية السكان.
2.   إن تجارب العقود المنصرمة التي شهدتها جميع الدول النامية ذات الاقتصاد الريعي، ولاسيما النفطية، والعراق نموذج حي وراهن لها، تشير إلى إنها الأكثر استعداداً وتحفزاً لممارسة الاستبداد والقسوة والتحكم بالثروة والمجتمع في آن واحد، وهي الأكثر استعداداً لممارسة القمع والاضطهاد وملء السجون والمعتقلات بأصحاب الرأي الآخر، في سبيل البقاء في السلطة والاحتفاظ بها والهيمنة على الثروة والنفوذ الاجتماعي، وهي الأكثر فساداً وتفريطاً بأموال الدولة والمجتمع. وتجربة الدول العربية الريعية كلها دون استثناء تجسد هذا الواقع المحزن الذي يستوجب إبرازه والكتابة عنه ولاسيما من قبل الباحثين في الاقتصاد والمجتمع، والتي عانى ولا زال يعاني منها شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه.
3.   أشعر بأهمية وضرورة مثل هذه البحوث القيمة المهتمة بالشأن الاقتصادي أن تبحث في الوقت ذاته الجانب الاجتماعي، باعتباره التجلي الفعلي لطبيعة السياسات الاقتصادية والمالية التي تمارس الدولة. ومن نافل القول أن أشير إلى أن معالجة إشكالية الطبقات والفئات الاجتماعية، باعتبارها واحدة من القضايا الجوهرية في البنية السكانية وذات العلاقة المباشرة ذات أهمية فائقة بالارتباط مع الواقع الاقتصادي والتحولات الجارية فيه من خلال أربع مسائل جوهرية: أ) دور الطبقات والفئات الاجتماعية باعتبارها، من حيث المبدأ، الحاملة الفعلية للمجتمع المدني والديمقراطية، وهي البرجوازية المتوسطة، ولاسيما الصناعية، والطبقة العاملة، وفئات المثقفين، ب) دورها في إنتاج الثروة المادية والروحية في المجتمع، 3) ودورها في تغيير الوعي الفردي والمجتمعي، 4) وتأثيرها الفعلي على تحديد معدلات النمو السكانية للتحولات الفعلية في موقف متحفظ لدى العائلات البرجوازية والطبقة العاملة الصناعية من إنجاب الكثير من الأبناء والبنات، بخلاف العائلات الريفية والفلاحية. أعني بذلك حجم ودور وتأثير هذه الفئات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إذ خلال العقود الأخيرة، ومنذ النصف الثاني من العقد التاسع من القرن العشرين تغيرت بنية المجتمع العراقي الطبقية، بفعل الاستبداد الفردي المطلق والحروب والحصار الدولي وتدمير البنية التحتية والمشروعات الاقتصادية والصناعية، وغياب الاستثمار الإنتاجي الحكومي والخاص والأجنبي. فقد تقلص حجم الطبقة العاملة العراقية بشكل دراماتيكي، وتراجع دورها في إنتاج الخيرات المادية، كما تقلص عدد الفلاحين الشباب العاملين في الزراعة، وتدهور الإنتاج الصناعي، ودُمرت أو أغُلقت الكثير من المشاريع الصناعية العائدة لقطاع الدولة، أو للقطاع المختلط والقطاع الخاص، إضافة إلى تدهور القطاع الصناعي الحرفي الصغير بقواه المنتجة البشرية، ووسائل إنتاجه ونوعية الإنتاج. وقد أدى هذا الواقع إلى تدهور شديد في حجم ودور وتأثير العمال وفئات البرجوازية الصغيرة، والبرجوازية المتوسطة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما تراجع دور البرجوازية المتوسطة في مجمل العملية الاقتصادية، وفي الصناعة خصوصاً. في مقابل ذلك ارتفع حجم فئة أشباه البروليتاريا، والعاملين على هامش الاقتصاد العراقي، والذين يعيشون على هامش المجتمع أيضاً، والذين هم بعيدون تماماً عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. إنها بنية طبقية مشوهة وناتجة عن تشوه بنية الاقتصاد الوطني. وكل ذلك ترك تأثيره المباشر على وعي الإنسان الفردي والجمعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي. وسأفرد لهذه النقطة التي لم اجدها في مفردات ومضامين كتاب الزميل الدكتور علي مرزا حلقة خاصة بالارتباط مع الفصل العاشر من الكتاب حول تطور القطاع الصناعي في العراق.
انتهت الحلقة الثالثة وستليها الحلقة الرابعة
31/03/2019
 

146
المنبر الحر / تحية رفاقية حارة
« في: 21:12 30/03/2019  »
الرفيق العزيز رائد فهمي سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
الرفيقات والرفاق الأعزاء أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي الأعزاء
الرفيقات والرفاق الأعزاء
تحية رفاقية حارة
يسعدني أن أحييكم بحرارة وأهنئكم من القلب أيتها الرفيقات أبها الرفاق الأعزاء، ومن خلالكم أحيي وأهنئ جميع رفيقات ورفاق الحزب والاصدقاء والمتعاطفين والمتعاونين معه من القوى الديمقراطية والشعبية بمناسبة الذكرى ألـ 85 لتأسيسه، هذا الحزب الذي لم ينل من نضاله الدؤوب والمثابر طيلة العقود المنصرمة كل تلك المحاولات اليائسة والبائسة للإساءة له وتشويه سمعته وسمعة رفاقه،  والممارسات القمعية المرعبة والإرهاب الدموي والتهجير القسري، فهو، وبرغم كل تلك الصعوبات والمعوقات الهائلة، يعتبر الحزب الأقدم والأغنى تجربة القائم في العراق منذ يوم تأسيسه المبارك حتى يومنا هذا، وسيبقى في المستقبل أيضاً، ليساهم بقوة وعزم في النضال الوطني والطبقي من أجل بناء الوطن الحر والشعب السعيد.
يخوض الحزب، برفاقه ورفيقاته وأصدقاء الحزب ومحبيه، النضال في مرحلة معقدة وخطيرة جداً ومليئة بالمصاعب والعوائق المحلية والإقليمية والدولية، ولكن نضال الحزب ونشاطه كانا على الدوام في مواجهة مباشرة مع مثل هذه المصاعب والعراقيل والتغلب عليها لصالح وضع العراق على طريق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والتنمية والعدالة الاجتماعية والسلام. وفي سبيل ذلك قدم الحزب الكثير والكثير جداً من الشهداء الأبرار والضحايا العزيزة التي نقف اليوم جميعاً وفي هذه الذكرى العطرة إجلالاً وتقديراً لهم ولعائلاتهم النبيلة.   
ليس هناك من حزب تعرض إلى محاولات التصفية الجسدية والسياسية مثل الحزب الشيوعي العراقي ومنذ أول يوم من تأسيسه، وبالتالي فهو الحزب الذي كان ولا يزال مستهدفاً من كل الأعداء في الداخل والخارج. ولكنه خرج منها بعزم وروح وثابة واحتضان حميم من قبل الشعب الكادح والقوى اليسارية والديمقراطية والشعبية الأخرى. وهو ما يستوجب الاعتزاز به وصيانته وتطويره.
أتمنى للحزب، في يوم ذكرى تأسيسه، ولرفيقاته ورفاقه السلامة والحصافة والحكمة والنجاح فيما تتخذه قيادة الحزب وقاعدته من قرارات في مسيرة الشعب والحزب الجارية. لتنتعش وتتطور أكثر فأكثر علاقة الحزب بالشعب وكادحيه وقواه الديمقراطية والتقدمية، ولتنتصر إرادة الشعب في الخلاص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة والفساد والإرهاب، وفي سبيل التغيير لصالح الدولة الديمقراطية بسلطاتها الثلاث، ولصالح المجتمع المدني الديمقراطي العلماني. ولتسد الأخوة والتضامن والسلام بين قوميات الشعب كافة.
أحييكم بحرارة وأشد على أيديكم
رفيقكم كاظم حبيب
28/03/2019         

147
د. كاظم حبيب
نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا
الحلقة الثانية
العراق الحديث.. التكوين

في هذه الحلقة سأتناول بقراءة متأنية الفصل الثاني من الكتاب الذي تناول فيه الباحث الدكتور علي خضير مرزا بصفحات قليلة وتكثيف شديد واقع الحالة السكانية في الولايات الثلاث، بغداد والبصرة والموصل تحت هيمنة السلطنة العثمانية ومن ثم المماليكية فالعثمانية، والتدخلات الإيرانية في الشأن العراق التي رافقت تلك الفترة، ومن ثم نشوء الدولة العراقية الحديثة.  ويشير إلى واقع وجود البدو الرحل والفلاحين الذين شكلوا معاً نسبة عالية من إجمالي السكان في ظل علاقات مشاعية أبوية في الريف، بدأت تتحول تدريجياً إلى علاقات ملكية جديدة في فترة حكم مدحت باشا، ولكنها استكملت وتكرست في فترة الاحتلال البريطاني وصدور قانون العشائر عام 1916، ومن ثم قوانين ارنست داوسن في عامي 1932/1933 التي أطلق عليها بـ "قوانين تسوية حقوق ملكية الأراضي" بعدها بعقدين تقريباً صدرت قوانين أخرى، أي في عامي 1951 و1952، حول بيع الأراضي الأميرية التابعة للدولة والتي كُرَّست، بموجب جميع تلك التشريعات، علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية الاستغلالية في الريف العراقي، حيث تم انتزاع الأرض من أيدي الفلاحين الفقراء ووضعت في أيدي شيوخ العشائر والمتعاقدين السابقين مع الحكم العثماني وتجار المدن والعائلات الميسورة. وخلال الفترة بين قوانين أرنست داوسن وقوانين 1951 و1952 وبسبب هذه القوانين، إضافة إلى عوامل أخرى مهمة، منها الفقر المدقع وغياب الخدمات ومنها التعليم،  برزت بوضوح مؤشرات نزوح المزيد من الفلاحين من الريف إلى المدينة من جهة، ونزوح البدو الرحل من البادية إلى الريف من جهة ثانية. ثم تسارعت عملت النزوح من الريف إلى المدينة في اعقاب ثورة تموز 1958، مما أدى إلى استمرار عمليات بروز أحياء أو مدن جديدة عشوائية رثة في أطراف المدن الكبيرة، ولاسيما العاصمة بغداد. ويشير الباحث بوضوح وصواب إلى حصول تحول جديد في نزوح معاكس من المدينة إلى الريف بعد عقود من السنين بسبب الحروب والحصار الاقتصادي الدولي والعودة إلى التكافل العشائري للخلاص من الكوارث التي حلت بالعراق خلال العقد الأخير من القرن العشرين وما بعده بشكل خاص. لقد ساهمت العلاقات شبه الإقطاعية وقانون العشائر لعام 1916 وتعديلاته القليلة إلى تعريض الفلاحين إلى المزيد من الاستغلال والقهر الاجتماعي، وإلى السعي للهروب من الريف إلى المدينة، ولاسيما بعد أن توفرت نسبة أكبر من إيرادات النفط للخزينة العراقية وبدأ الحكومات المتعاقبة بإقامة بعض المشاريع الصناعية ومشاريع الخدمات العامة التي تطلبت المزيد من الأيدي العاملة، وبالتالي هجرة المزيد من الفلاحين. ورغم مطالبة المجتمع بالإصلاح الزراعي، فأن الحكومات الملكية المتعاقبة أغلقت أذانها طويلاً ثم جاء خطاب نور السعيد في العام 1956 الذي أثار المجتمع وقواه الديمقراطية والذي عرف بالأهزوجة (الهوسة) "دار السيد مأمونة" التي هزج بها من دار إذاعة بغداد، ثم طرح مشروعه للقضاء على الإقطاع، الذي تسنى لي تسجيله خطياً حين كنت مبعداً سياسياً في قضاء بدرة الحدودي مع إيران بعد قضاء فترة الحكم بالسجن، لإعدان نشرة أخبار للمبعدين، جاء فيه: إن القضاء على الملكيات الكبيرة يتم في الفترة القادمة بسبب الزوجات المتعددة لشيوخ العشار وملاك الأراضي حيث يولد لهم الكثير من الأبناء وعند موته تتوزع تلك الأراضي على الأبناء، وكذا أبناء البناء فنقضي على الإقطاع! ولكن لم تكن دار السيد مأمونة ولا النظام الملكي شبه الإقطاعي كان قادراً على الصمود بوجه انتفاضة الجيش 1958 والسعي لتحويلها إلى ثورة بإجراءات ثورية وإصلاحية ديمقراطية، من ضمنها قانون الإصلاح الزراعي.       
في بحثه عن التنوع السكاني والعقد الاجتماعي والحوكمة يشير الدكتور علي مرزا  إلى الرأي التالي القائل بتعرض العراق الجديد "إلى مخاطر هددت سلامة ووحدة اراضيه. وتكررت هذه المخاطر بدرجات عنف مختلفة أكثر من مرة". (أنظر: مرزا، ص 32). ويرى بصواب بعكس من يرى إن السبب وراء ذلك يكمن في "كيان العراق المصطنع" الذي قررت اتفاقية سايكس بيكو 1916 وما بعدها من معاهدات استعمارية إقامته، بل في غياب العقد الاجتماعي/السياسي وغياب الحوكمة الرشيدة في البلاد. (قارن: مرزا ص 32). لم يتوسع الباحث في هذا المجال، رغم تشخيصه الصائب للمعضلة التي تواجه العراق بسبب هذا التنوع وأسلوب التعامل معه. وأجد من المناسب أن أتوسع بهذه النقطة المهمة التي أشَّرها الزميل مرزا، وهي واحدة من مهمات القراءة المتمعنة في الكتب.
من السمات البارزة التي يتميز بها العراق، إن أُحسن الاستفادة منها، وجود تنوع السكاني باتجاهات ثلاثة:
** التنوع القومي حيث وجود العرب والكرد، ومنهم الكرد الفيلية، والكلدان والآشوريين والسريان والتركمان والفرس يعيشون في هذه المنطقة منذ قرون؛
** التنوع الديني والمذهبي حيث يقطن العراق مواطنات ومواطنون مسلمون، شيعة وسنة بمذاهب عدة، ومنهم الشبك، ومسيحيون بطوائف عديدة، ويهود حتى أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وصابئة مندائيون وإيزيديون وكاكائيون وبهائيون وزرادشتيون؛
** التنوع الطبقي، حيث تطورت في العراق وتغيرت عبر السنين أوزان الطبقات أو الفئات الاجتماعية العراقية وبشكل خاص: فئات الفلاحين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية والمستحوذين عليها، بينهم تجار وشيوخ عشائر، وبرجوازية تجارية، وفئات من البرجوازية الصغيرة كالكسبة والحرفيين والمثقفين، ومن ثم الطبقة العاملة قبل ومع نشوء البرجوازية الصناعية وتطورهما البطيء، إضافة إلى أشباه البروليتاريا، وهم في الغالب الأعم تلك الفئات النازحة من الريف إلى المدينة والتي كانت تعيش على هامش حياة المدينة والاقتصاد.   
ويضع الكاتب أصبعه على المشكلة الرئيسية في المجتمع العراقي التي نشأت بسبب "غياب أو توافق عقد اجتماعي/سياسي جامع، ونتيجة لتفاعل عوامل متعددة اقتصادية وسياسية واجتماعية، نشأت معضلة وتفاقمت بمرور السنين". (أنظر:مرزا، ص 34). ويرى إن المعضلة ناشئة بوجهين أ. "عدم التوصل إلى تطبيق حوكمة governance جامعة تحظى بقبول كافة المكونات مما أدى بالنتيجة إلى استمرار توتر/خلاف.."، وب "منذ أواخر السبعينيات اتسمت كفاءة استخدام العوائد النفطية بالتواضع: من  خلال أنفاق جزء كبير منها على نزاعات خارجية ...". (اأنظر: مرزا، ص 35).
في هذا التحليل السليم يقفز الكاتب على مرحلة طويلة من السنين التي تميزت بسوء الحوكمة من جهة، وبسوء استخدام الموارد المالية رغم شحتها، أي الفترة الواقعة بين 1921-1951 من جهة أخرى، إضافة إلى الفترة اللاحقة. إن أهمية الإشارة الموسعة لهذه الفترة تكمن في كونها كانت الأساس الخاطئ وغير العقلاني في بناء الدولة العراقية وما بني عليه لاحقاً كان الأكثر بعداً عن العقلانية والحوكمة الرشيدة، بما في ذلك التجاوز الفظ على القانون الأساسي وتزوير الانتخابات وتفاقم البطالة والفقر وتغييب الحريات الديمقراطية وإعلان متكرر للأحكام العرفية في البلاد. 
لقد برزت المشكلات الكبيرة مع وضع القانون الأساسي (الدستور) لعام 1925، والتوقيع على منح امتياز النفط في ذات الفترة تقريباً، وعقد معاهدة 1930 بجوانبها العسكرية والقانونية والمالية وبروتكولاتها السرية، ومن ثم طريقة إلحاق ولاية الموصل بالعراق عام 1926، وعدم إيفاء الحكومة الملكية بما اتفق عليه مجلس عصبة الأمم مع الملك فيصل الأول والحكومة العراقية من التزامات بشأن حقوق الكرد.
فالدستور العراقي كرس مسائل خاطئة منذ البدء حين أشار إلى إن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وبالتالي ميز في موقف الدولة من الأديان الأخرى وأتباعها، في حين إن الدولة ليست سوى شخصية اعتبارية (معنوية) لا دين لها، وبذلك أوجد الأرضية لممارسة التمييز إزاء أتباع الديانات والمذاهب الأخرى. وهنا لم ينشأ التمييز إزاء أتباع الديانات الأخرى فحسب، بل ونشأ معه التمييز أزاء أتباع المذهب الشيعي، بسبب اعتبار الدولة مسلمة على وفق المذهب الحنفي، مما دفع شيوخ الدين الشيعة إلى مقاطعة الدولة وسلطاتها الثلاث ولسنوات عديدة، مما عمق الخلافات الطائفية في المجتمع التي كانت قد تفاقمت في فترة الحكم العثماني والصراع العثماني الفارسي. كما إن القانون الأساسي قد ميَّز اللغة العربية عن باقي اللغات باعتبارها لغة الدولة الرسمية، في حين يتشكل العراق من إقليمين عربي وكردي أولاً، كما يتكون المجتمع من قوميات عدة، ولاسيما القومية الثانية، هي القومية الكردية من حيث النفوس بعد القومية العربية ثانياً، إذ كان المفروض أن يأخذ المشرع بالاعتبار وجود الكرد في إقليم كردستان ويقرر استخدام اللغتين.
كما إن القانون الأساسي قد اعتراف بقانون العشائر الذي وضعته إدارة الاحتلال البريطانية في العراق منذ العام 2016 لتكسب إلى جانبها شيوخ العشائر، بحيث أصبح هذا القانون مرادفاً للدستور العراقي في تعامل مزدوج في غير صالح المجتمع المدني الذي جسدته الكثير من بنود القانون الأساسي. كما تجلى التمييز في عملية البناء والتعمير منذ أن بدأت الحكومة بوضع برامجها التنموية والتي لم تنفذ في الغالب الأعم وتوقفت في فترة الحرب العالمية الثانية والتي برز فيها التعامل الهامشي مع الألوية المتخلفة أصلاً والتركيز على بعض المدن مثل بغداد والموصل والبصرة. وكان لسلطات الاحتلال البريطاني دورها البارز في إعاقة تنفيذ برامج تنموية في العراق، ولاسيما في مجال التصنيع والذي سنتطرق له أثناء قراءة الفصل التاسع المكرس للصناعة الوطنية في العراق.
حين برزت المشلات القومية والدينية والمذهبية والاقتصادية، بضمنها الفلاحية، في الثلاينيات من القرن العشرين وبعد إلغاء حكم الانتداب لم تمارس الحكومات العراقية المتعاقبة، وبدعم مباشر من المستشارين البريطانيين في الوزارات العراقية والسفارة البريطانية، سياسة عقلانية تعتمد الحوار والنفس الطويل لمعالجة وحل المشكلات، بل استخدمت العنف المفرط والقوة المسلحة حيث أشركت الجيش والشرطة في قمع الحركات السياسية وطمس الخلافات وكأنها غير موجودة! نشير هنا على سبيل المثال لا الحصر مجزرة سهل سميل ضد الآشوريين في العام 1933، أو ضد الإيزيديين الذين رفضوا الانخراط في القوات المسلحة في ذات الفترة تقريباً، أو حركات الفرات الأوسط الفلاحية والعشائرية في العام 1935. وقد أدى كل ذلك إلى نشوء أجواء سياسية متوترة قادت إلى وقوع انقلاب بكر صدقي العسكري عام 1936، ثم انقلاب مايس القومي 1941 وإلى تنامي الحركات الكردية السياسية والعسكرية في النصف الأول من العقد الخامس من القرن العشرين، إضافة إلى الوثبة والانتفاضات في أعقاب الحرب العالمية الثانية. إن كل هذه الأحداث قد رفعت من درجة التوتر والخلاف التي أشار إليها الزميل الدكتور علي مرزا والتي لم يشر إلى طابعها السياسي/القومي والاجتماعي مباشرة، ولكنه جمعها بصواب بـ "عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية"، تعبر بجملتها عن غياب الحوكمة الرشيدة وعن عدم وجود عقد اجتماعي/سياسي متفق عليه بين مكونات المجتمع. ويبدو إن الجهد الحكومي كان منصباً، كما شخص ذلك الملك فيصل الأول وعمل من أجله على "أمل واهم" هو إقامة "أمة عراقية" من قوميات متعددة، على طريقة الوهم السائد لدى شيوخ الدين المسلمين بوجود "أمة إسلامية"، وبسبب ذلك يرفضون الاعتراف بالقوميات وحقوقها والحق في تقرير المصير. لو تميزت سياسات سلطات الدولة الثلاث بالحياة الدستورية والحريات الديمقراطية واحترام القانون الأساسي، لكان بالإمكان وضع عقد اجتماعي-سياسي يؤمن التفاعل والتلاقح الثقافي بين القوميات ويمنحها في الوقت ذاته حقوقها المشروعة والعادلة ضمن الدولة الملكية العراقية. وهو الذي لم يحصل! 
منذ خمسينيات القرن الماضي، ومع تشكيل مجلس ووزارة الإعمار بالارتباط مع تنامي إيرادات العراق النفطية، بسبب المناصفة في إيرادات النفط الخام المُصَدر، بدأ حراك نسبي مهم صوب القطاع الصناعي شاركت فيه الدولة والمصرف الصناعي والقطاع الخاص، مما ساعد على زيادة الحاجة إلى الأيدي العاملة وإلى ارتفاع عدد النازحين من الريف إلى المدينة، بالرغم من قانون العشائر وملاحقة الشرطة للفلاحين النازحين بذريعة وجود ديون في رقبتهم لكبار ملاك الأراضي. وقد ساهم ذلك في تحسين التناسب بين عدد سكان الريف والحضر لصالح الحضر، لا في المدن الكبيرة فحسب، بل وفي بعض المدن الأخرى. واتسع هذا الاتجاه في أعقاب ثورة تموز 1958 حيث توجهت حكومة عبد الكريم قاسم صوب عقد اتفاقيات واسعة مع الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا عام 1959 لنشر مجموعة من المصانع في بغداد وفي مدن أخرى. كما ساهم في ذلك قانون الإصلاح الزراعي الديمقراطي البرجوازي الذي لم ينفذ كما ينبغي ولم تكن الحكومة تمتلك رؤية واضحة لما تريد فكانت تقف بين "مدينتي نعم ولا" حائرة مما دعا الدكتور علي مرزا أن يكتب بصواب "فنتيجة لتطبيق قانون الإصلاح الزراعي وما تبعه من انهيار العلاقة بين الفلاح ومالك الأرض التي تواجدت قبل 1958، والتي لم تستبدل ببديل مناسب، تعرض الإنتاج الزراعي لانخفاض قلل الحاجة للأيدي العاملة في الريف." (أنظر:مررزا، ص 38). إن المشكلة الكبيرة في علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية تبرز في الابتعاد الكلي من جانب ملاك الأراضي الكبار عن استخدام وتوظيف الريع المتحقق في الزراعة في الإنتاج الزراعي من خلال تحسين تقنيات واساليب ووسائل الإنتاج الحديثة، بل في الغالب الأعم كانت تستخدم وتستهلك أو تكتنز من جانب المستحوذين على الريع الزراعي في المدن، مما كان يقود إلى الفقر وضعف إنتاجية العمل للفرد الواحد. وكان يدفع بأصحاب الأراضي إلى التوسع في استخدام الأرض الزراعيةبدلاً من التقنيات الحديثة وللتعويض عن النقص في مقدار الغلة في الدونم الواحد، وهو ما يشير إليه بصواب الباحث، بحيث أدى إلى ارتفاع في إنتاجية العمل افقياً وليس عمودياً وإلى توفير كمية مناسبة للتصدير. (اأنظر: مرزا، ص 39).
لقد شهد القطاع الزراعي تحسناً ملموساً في السبعينيات من القرن الماضي لثلاثة أسباب جوهرية هي: 1) صدور قانون الإصلاح الزراعي الثاني رقم 117 لسنة 1971 بمواد جديدة ومهمة رغم عدم تنفيذها الفعال في المحصلة النهائية، و2) تنفيذ عمليات الري والبزل الجديدة وغسل التربة وتخليصها من الملوحة، و3) تأمين المزيد من محطات تأجير المكائن الزراعية وبأسعار مناسبة. إلا إن هذه العملية لم تستمر طويلاً، أذ كانت الحرب العراقية الإيرانية ومن ثم غزو واحتلال الكويت وحرب الخليج الثانية ومن ثم الحرب الخليجية الثالثة. واليوم يعيش الريف العراقي أزمة فعلية بسبب تسلط العلاقات العشائرية مجدداً على حياة الريف والزراعة العراقية والتي تنعكس أيضاً على حياة المدن، ولاسيما المدن الطرفية. وكم كان الدكتور علي مرزا محقاً حين اشار إلى إن بعض الكُتّاب يشيرون إلى واقع "ترييف المدينة"، وهي مرتبطة عضوياً بقانون العشائر الجديد وطبيعة الدستور العراق الجديد الذي أقر في العام 2005. ويبدو لي بأن العراق منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين بدأ يعيش تدريجاً، ولكن بتصاعد وتفاقم، ردة فكرية واجتماعية وسياسية شديدة الفاعلية وجدت تعبيرها في التخلي الكلي عن المجتمع المدني وعن التصنيع وتحديث الزراعة، وهي إشكاليات تساهم فيما أطلق عليه بـ "ترييف المدينة". كما إن سوء توزيع واستخدم موارد النفط الخام، أو بتعبير أدق، سوء توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي واستخدامه، كلها عوامل تقود إلى مزيد من المخاطر التي تهدد العراق لا في تطوره وتقدمه فحسب، بل وفي وحدته.               
يشخص الدكتور علي مرزا بصواب جملة من المخاطر التي تفاقمت خلال العقود الأخيرة. والتي كما تبدو لي ناشئة عن أسباب جوهرية ارتبطت إما بنظام سياسي أستبدادي وشوفيني وتوسعي مارس سياسات تميزت بالقسوة والعنف والحروب الداخلية والخارجية وبالفساد والتفريط بأموال المجتمع، أو بنظام سياسي طائفي فاسد، متخلف وضعيف. ويبدو لي إن الباحث قد جمع كل ذلك في النص المهم الأتي الوارد في النقطة الرابعة من الكتاب حيث كتب: "ويشير بعض الكتاب إلى "ترييف" المدينة خلال فترات العقود الثلاثة الماضية، أي تصاعد القيم العشائرية على حساب قيم "المدينية" في المدن نفسها.وكان هذا التطور نتيجة لإبراز وتصعيد البعد اعشائري لأهداف سياسية و/أو عسكرية، كما في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وامتد ذلك لما بعد 2003. فأثناء الفترة 2005-2009، وخاصة 2007/2009، حُفّزِت عشائر الوسط الأعلى لتشكيل مجموعات قتالية (من خلال مجالس الصحوات) للمساهمة في دحر تنظيم القاعدة الإرهابي. ونتيجة لضعف السلطة التنفيذية الرسمية والمجتمع المدني، عموماً، ينقل عن وجود مجالس عشائرية في المدن، ومن ضمنها بغداد، لحل بعض النزاعات التي تنشأ بين الأفراد والجماعات خارج القنوات الرسمية". (أنظر: مرزا، ص 40). ولا بد هنا أن استميح الكاتب عذراً في أن استكمل هذه اللوحة الخانقة بالإشارة الواضحة إلى الوجود المخل والمشين للمليشيات الطائفية المسلحة التي تلعب دوراً كبيراً وسيئاً في الساحة السياسية والاجتماعية في العراق، كما تضعف إلى أبعد الحدود دور الدولة وسلطاتها الثلاث، بل وتحل محلها وتزيد عليها، إضافة إلى أنها تؤرق وتؤذي المجتمع، لاسيما وأنها جميعاً تعود لأحزاب سياسية إسلامية طائفية من حيث النهج والسياسة والممارسة، و/أو ترتبط بدول الجوار العراقي. 
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة نظرة في الفصل الثالث: السكان وقوة العمل
28/03/2019
تنويه: حصول خطأ غير مقصود
حصل خطأ في مقالي الموسوم "نظرة في كتاب الاقتصاد العراقي- الأزمات والتنمية، الحلقة الأولى، المدخل، حين أشرت إلى إن السيد الدكتور علي خضير مرزا كان استاذاً جامعياً في ليبيا، إذ كتب لي الزميل الفاضل مشيراً إلى أنه لم يكن كذلك، لذلك وجدت مناسباً التنويه لهذا الخطأ والاعتذار للكاتب والقراء في آن واحد. كاظم حبيب




148
الأخوات والأخوة
تحية طيبة
لمن كنت قد أرسلت له المقال اليهم هذا التنويه 
تنويه: حصول خطأ غير مقصود
حصل خطأ في مقالي المسوم "نظرة في كتاب الاقتصاد العراقي- الأزمات والتنمية، الحلقة الأولى، المدخل، حين أشرت إلى إن السيد الدكتور علي خضير مرزا كان استاذاً جامعياً في ليبيا، إذ كتب لي الزميل الفاضل مشيراً إلى أنه لم يكن كذلك، لذلك وجدت مناسباً التنويه لهذا الخطأ والاعتذار للكاتب والقراء في آن واحد. كاظم حبيب


149
د. كاظم حبيب
نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا


الكتاب: الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية
الكاتب: الدكتور علي خضير مرزا
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ش.م.ل.
مكان النشر: بيروت - لبنان
سنة النشر: تموز/يوليو 2018
الرمز الدولي: ردمك 7-7352-01-614-978
الحلقة الأولى
المدخل
الدكتور علي خضير مرزا اقتصادي عراقي يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة بيرمنگهام البريطانية. عمل في وزارتي النفط والتخطيط في العراق، كما عمل في ليبيا أستاذاً جامعياً، كما أنه كبير مستشاري قسم الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة. يمتلك الدكتور مرزا معرفة واسعة ومعمقة بالنظريات الاقتصادية وخبرة عملية طويلة وناضجة في المجال الاقتصادي، ولاسيما اقتصاد النفط، للدول المنتجة والمصدرة للنفط عموماً والعراق على نحو خاص. أصدر في العام 2012 كتابه الموسوم "ليبيا: الفرص الضائعة والآمال المتجددة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، والذي جاء بعد عام من الإطاحة بنظام حكم معمر القذافي في ليبيا، وبالتالي وضع القارئات والقراء أمام حقائق الوضع الاقتصادي في هذا البلد المنكود طوال عقود خمسة مشيراً فيه إلى الفرص التي فوَّتها النظام السياسي على الشعب الليبي لبناء اقتصاد وطني متنوع ومتقدم ومزدهر، ومتأملاً أن يفتح التغيير الأبواب أمام الليبيين لتغيير اقتصادهم الريعي النفطي إلى اقتصاد منتج يسمح بتغيير فعلي في بنيتي الاقتصاد والمجتمع وفي تنويع مكونات الدخل القومي. وهي آمال لا تزال قائمة رغم الصراعات المرهقة الجارية في ليبيا وإرهاب قوى الإسلام السياسي المتطرفة الناشطة فيه.
وقبل صدور كتابه الجديد وبعده نشر الباحث الدكتور علي مرزا مجموعة مهمة وكبيرة من الدراسات والأبحاث العلمية في مجالات النفط والتنمية الاقتصادية في العراق، حيث قدم معالجات غنية تتميز بالثراء والكثير من البحث والاستقصاء والتدقيق، والتي يمكن الاعتماد عليها فيما تورده من معلومات قيمة واستنتاجات مهمة تسهم في دعم الباحثين في هذا المجال.
الكتاب الأخير الذي بين أيدينا والموسوم "الاقتصاد العراقي -الأزمات والتنمية" هو التتويج الفعلي لعمله العلمي خلال الأعوام المنصرمة وتركيزه الكبير على الاقتصاد العراقي. إنه موسوعة ومسح وتحليل واسعين للاقتصاد العراقي في قطاعاته الأساسية، إذ تتبلور فيه أفكار الباحث وتجاربه الغنية في الشأن الاقتصادي والاجتماعي.
إن من تسنى له متابعة الكتابات الاقتصادية خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر سيجد أمامه مجموعة من الكتب المهمة التي عالجت موضوع الاقتصاد العراقي بمختلف فروعه وقطاعاته وبتوسع ملموس. ومن بين تلك الدراسات المهمة والمنشورة كتاب الفقيد الدكتور محمد سلمان حسن الموسوم " التطور الاقتصادي في العراق، التجارة الخارجية والتطور الاقتصادي 1864-1958" الصادر في عام 1965، وكتابه عن "دراسات في الاقتصاد العراقي" الصادر في عام 1966 وكتابات وكراسات أخرى عن النفط والسكان وثورة العشرين، وكذلك كتاب الدكتور خير الدين حسيب الموسوم "الدخل القومي في العراق 1953-1961" الصادر عام 1964، وهو أول كتاب من نوعه في العراق عن حسابات الدخل القومي، ثم كتاب الفقيد الدكتور عباس النصراوي الموسوم "الاقتصاد العراقي- النفط. التنمية. الحروب. التدمير. الآفاق 1950-2010"، الصادر عام 1995، إضافة إلى كتب اقتصادية عديدة أخرى للكاتب، إضافة إلى كُتّاب آخرين وكتب أخرى صدرت خلال الفترة المذكورة. ويندرج كتاب الدكتور علي خضير مرزا ضمن هذه المجموعة القيمة من الكتب التي تبحث في الاقتصاد العراقي خلال العقود المنصرمة، والتي يمتد بعضها إلى ما قبل تشكيل الدولة العراقية وأغلبها لما بعد ذلك. ويمكن الإشارة هنا إلى صدور كتاب لي بعنوان "لمحات من عراق القرن العشرين"، يحتوي على 11 مجلداً ويقع بـ 4250 صفحة، يتضمن فصولاً كاملة عن واقع وتطور الاقتصاد والمجتمع في العراق قبل وبعد تشكيل الدولة العراقية، ويمتد إلى حين صدور الكتاب في العام 2013، عن دار أراس للطباعة والنشر في أربيل، والذي لم يصل إلى أيدي الكثير من القراء والقارات في العراق والدول العربية بسبب الكمية القليلة التي طبعت منه ونفذت بسرعة.   
يتضمن كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية" 19 فصلاً موزعة على أبواب سبعة وفهرس بالمصادر ويقع في 526 صفحة. هناك مجموعة من الفصول التي تتعرض إلى تفاصيل المشكلات القطاعية في الاقتصاد العراقي، وهي الفصول 2، 3، 4، 5، 9، 10، 11، 17، و18. لخص الفصل الأول بوضوح المضامين الأساسية لفصول الكتاب، في حين ركزت الفصول 2، 3 و4 على التكوين الاجتماعي والموارد السكانية والموارد المائية والمشكلات المرتبطة بها وتصور إمكانية تجاوزها. وبحث في الفصول 5، 6، 7، مشكلات النفط منذ البدء حتى الوقت الحاضر وعبر مراحل مرتبطة بواقع العراق وتطور أحداثه والتغيرات النسبية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. وركز بشكل تفصيلي ودقيق على جولات التراخيص النفطية، التي حولها خلافات وأراء كثيرة، مبّرِزا جوانبها الإيجابية والسلبية ومقارناً بين عقود الخدمة وعقود المشاركة في الإنتاج على صعيد العراق ودول أخرى، إضافة إلى بلورته الفوارق بين العقود التي وقعتها الحكومة الاتحادية وتلك التي وقعتها حكومة إقليم كردستان العراق والسلبيات البارزة في أوضاع العلاقات النفطية بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على الاقتصاد النفطي وعموم الاقتصاد الوطني في العراق في ضوء غياب القوانين المنظمة لهذه العلاقة على سبيل المثال لا الحصر.
أما الفصل الثامن فقد خص به الباحث منظمة الأوبك: "منظمة الدول المصدرة للنفط" وتطور سياساتها ومواقفها واستراتيجيتها في عالم النفط وما يفترض أن تعمل من أجله. وهي دراسة مهمة وقيمة ذكرتني بالدارسة القيمة التي نشرها الصديق الفقيد الدكتور عباس النصراوي والصادرة باللغة الإنجليزية في كل من بالتيمور ولندن في عام 1984 وتحت عنوان „Opec in a Changing World Economy“  " أوبك في اقتصاد عالمي متغير"، إضافة إلى كتابه الآخر والمهم الصادر في نيويورك ولندن في عام 1991 وباللغة الإنجليزية أيضاً وتحت عنوان ِ“Arab Nationalisim, Oil, and the Poltical Economy of Dependency“، "القومية العربية والاقتصاد السياسي المعتمد على الذات". أما الفصل التاسع فقد ركز الباحث على القطاع الزراعي باعتباره كان القطاع الأول المنتج للدخل القومي في بلد زراعي متخلف، غالبية سكانه من الريف والزراعة والبداوة، قبل أن يحل القطاع النفطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية ومنذ 1951/1952 بشكل خاص ليحتل موقع القطاع الزراعي في تكوين النسبة الأعلى للدخل القومي. ويبلور الباحث في هذا الفصل مشكلات الاقتصاد الزراعي وتطوره قبل ثورة تموز وما بعد الإصلاح الزراعي الذي حصل في العام 1958 وغياب وضوح الرؤية في معالجة مشكلاته أوضاعه الراهنة ومعاناة الزراعة والفلاحين والأمن الغذائي. أما الفصل العاشر فقد توجه صوب القطاع الصناعي التحويلي، ليشير إلى المشكلات التي كانت ولا تزال تواجه هذا القطاع الحيوي الذي كان في مقدوره أن يغير من بنية الاقتصاد العراقي ومن طابعه الريعي ومن بنية المجتمع الطبقية لو تسنى للعراق تطويره وبشكل منسق مع القطاعين الزراعي والنفطي على وفق إستراتيجية تنموية واعية وهادفة. ويؤكد الباحث على واقع التدهور الحاصل في هذا القطاع، لاسيما بعد الفترة التي أطلق عليها مصطلح "التغيير"، ويقصد به، بعد غزو العراق واحتلاله في عام 2003 من قبل التحالف الدولي خارج الشرعية الدولية وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ومن ثم إنهاء الاحتلال وحتى الوقت الحاضر. وفي الفصل الحادي عشر يبحث الكاتب في ثروة المجتمع أو الدخل القومي العراقي وتوزيعه بين الحكومة الاتحادية وحكومات المحافظات والإقليم والمشكلات التي واجهت ولا تزال تواجه العراق، ولاسيما الموقف من قطاع النفط وموارده المالية. أما الفصل الثاني عشر فيعالج موضوع المركزية واللامركزية في الحكم بالعراق وعلاقة ذلك بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. أما الفصل الثالث عشر فيركز على موضوعة مهمة طرحت من جانب بعض الاقتصاديين العراقيين والتي تدعو إلى توزيع موارد النفط على المواطنين، ليبين سلبيات هذه الدعوة وأهمية تأمين التوزيع والاستخدام العقلاني للثروة النفطية ومواردها المالية على وفق استراتيجية اقتصادية اجتماعية تساهم في تغيير بنية الاقتصاد أولاً، وبينة المجتمع ثانياً. ويطرح الباحث في الفصلين الرابع عشر والخامس عشر هيكلية التخطيط وإشكالياته ومضمون التخطيط المركزي والتخطيط التأشيري من الناحية النظرية، وما يجري في العراق عملياً، إضافة إلى معالجته لاستراتيجية التنمية الوطنية الصادرة عن وزارة التخطيط منذ العام 2003. أما الفصل السادس عشر فيبحث الكاتب في علاقة العراق ببرنامج صندوق النقد الدولي ورأيه فيه في واقع العراق الراهن، وهي إحدى النقاط التي سنتطرق إليها لاحقاً. يعالج الباحث في الفصل السابع عشر موضوع التضخم وفعالية السياسة النقدية، علماً بأن السياسة المالية والنقدية هما الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية والتي يفترض أن تكون نصب عيون القارئات والقراء. يعالج الفصل الثامن موضوعاً أساسياً وقطاعاً رئيسياً في الاقتصاد العراقي، وأعني به قطاع التجارة الخارجية والسياسات التجارية لدورها المميز في التأثير المباشر سلباً أو إيجاباً على عملية التنمية، إعاقة أو دعماً، لعميلة تغيير بنية الاقتصاد الوطني والتنويع الاقتصادي ومن أجل انقاذ العراق من براثن الاقتصاد الريعي النفطي.
أما الفصل الأخير فيطرح الباحث سؤالاً مهماً تحرى عنه منذ بدء الكتاب حتى نهايته هو: هل يمكن تحقيق التنوع الاقتصادي والإفلات من الفخ الريعي في العراق؟ وسنبحث بتوسع في إجابة السيد الدكتور علي خضير مرزا عن هذا السؤال في ظل الأوضاع الجارية في العراق منذ العام 2003 حتى الوقت الحاضر، ولاسيما طرحه لعدد من المقترحات المهمة بما فيها موضوع التربية والتعليم والبحث العلمي.
لا أضيف كثيرا حين أشير إلى إن الباحث قد بذل جهداً كبيراً ومتميزا لتشخيص المشكلات الأساسية التي واجهت ولا تزال تواجه الاقتصاد والمجتمع في العراق والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية:
** غياب استراتيجية تنموية للاقتصاد والمجتمع في العراق على امتداد تاريخ العراق الحديث، رغم التبدلات التي حصلت في العراق، والذي يتجلى اليوم وأكثر من أي وقت مضى في غياب الاستراتيجية والسياسات الاقتصادية الوطنية.
** منذ أن انتهى الطابع الريعي الزراعي في الاقتصاد العراقي في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، حل محله بامتياز الطابع الريعي النفطي، إذ بدأت هذه السمة المميزة بالتفاقم سنة بعد أخرى، وأصبحت المعرقل الفعلي لعملية التنمية الاقتصادية والتثمير الإنتاجي لتغيير بنية الاقتصاد والمجتمع والعواقب المرتبطة بذلك والناشئة عنه.
** في الفصول الأولى من الكتاب يضع الباحث يده على مشكلتين كبيرتين وأساسيتين في الاقتصاد والمجتمع، إضافة إلى مشكلات عديدة أخرى، هما، أولاً، مشكلة معدلات النمو السكانية العالية من جهة، وتدهور القدرة على استيعاب المزيد من الأيدي العاملة التي تدخل سنوياً إلى سوق العمل، وبالتالي تفاقم البطالة، ولاسيما بين الشبيبة، وتفاقم التضخم في الجهاز الإداري الحكومي إلى أكثر من التخمة بكثير من جهة أخرى، وثانياً، مشكلة شحة حصة العراق من المياه الداخلة إلى أراضيه من تركيا وإيران من ناحية، واستخدامها السيء والتفريطي، إضافة إلى قلة وسوء استخدام المياه الجوفية والاثار الناجمة عن كل ذلك حالياً وفي المستقبل من ناحية أخرى.   
** ويطرح الباحث مشكلة معقدة أخرى كانت ولا تزال تواجه العراق ناشئة عن بنية المجتمع القومية، ولاسيما بعد قيام الفيدرالية الكردستانية، وغياب القوانين المنظمة للعلاقة الاقتصادية، ومنها المالية والنفطية، والإدارية والاجتماعية والسياسية، بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وكذلك بين الحكومة الاتحادية ومجالس المحافظات والعواقب التي برزت حتى الآن والتي يمكن أن تتفاقم لاحقاً.
وفي مجرى قراءتي لهذا الكتاب سأحاول أن أشير إلى تلك المشكلات الأخرى والمهمة التي لم يشر إليها الباحث والتي تشكل نقصاً يمكن تداركه، إن اقتنع بها الباحث، في الطبعة الثانية لهذا الكتاب المهم والقيم حقاً.
واحدة من المسائل المهمة التي أرى ضرورة الإشارة إليها هنا في هذا المدخل من قراءتي للكتاب هي عدم الإشارة الواضحة للاختلالات الشديدة في استيعاب وإدراك المسؤولين عن الاقتصاد العراقي ورسم سياساته للقوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة في المجتمع وفي العملية الاقتصادية وسبل التعامل معها والعواقب الوخيمة لهذا الإهمال الذي ينعكس في جملة من الظاهر البارزة مثل اختلال العلاقة بين التوظيفات الاستثمارية (الإنتاجي) والانفاق الاستهلاكيأ أي فس سوء توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي. إن عدم الوعي بهذه القوانين وعدم التعامل الواعي معها يقود إلى سلسلة من الاختلالات الكبيرة والكثيرة في مجمل العملية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، والتي تقود بدورها إلى تناقضات وصراعات، ثم تتحول، حين لا تعالج، إلى نزاعات سياسية، كما حصل في وثبات العراق وانتفاضاته ومنذ ثم في عام 1958 أو فيما بعد أيضاً.   
المشكلات الكبيرة والمعقدة التي أظهرها الكاتب لم تنشأ دون عوامل وأسباب كثيرة ودون الإساءة للقوانين الاقتصادية الموضوعية المرتبطة بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في العراق وفي العلاقات الاقتصادية الدولية. وقد أشار الباحث إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ولكنه تجنب تماماً البحث في العوامل السياسية التي كانت وراء ذلك، بما فيها الحريات العامة والحياة الديمقراطية والمؤسسات الدستورية، حيث كتب يقول: "ونتيجة لتعرض العراق لأزمات سياسية واجتماعية وجيوسياسية عديدة خلال هذا التاريخ، فأن عرض وتحليل هذا التطور يأخذ بالاعتبار الأزمات المذكورة من ضمن العوامل الأساسية المؤثرة فيه، وربما المتأثرة به. غير أن من المناسب الإشارة إلى أن تفسير وتحليل العوامل المسببة لهذه الأزمات يقع خارج نطاق هذا البحث" (الكتاب، ص1). على وفق رؤيتي للأمور ومن وجهة نظري، أرى بأن البحث الاقتصادي البحت غير ممكن ما لم تكن هناك خلفية فكرية وسياسية لدى الباحث وفي التحليل العلمي للأحداث والوقائع الاقتصادية والاجتماعية في أي بلد من البلدان، وبالتالي لا يمكن تجاوزها بذلك المقطع الذي أورده الكاتب في أعلاه، فالاقتصاد أو السياسات الاقتصادية في أي بلد من البلدان هي نتاج النظام السياسي الحاكم الذي يقرر طبيعة ومضامين السياسات الاقتصادية، ومن هنا يفترض تأكيد حقيقة أن الاقتصاد  والسياسات الاقتصادية المنبثقة عن طبيعة نظام حكم معين هما من حيث المبدأ والواقع "وجهان لعملة واحدة" لا يمكن الفصل بينهما، وبالتالي فتجنب التحليل لهذه المسألة تبقى المعالجة العلمية ناقصة حين لا يشار إلى العوامل السياسية الفاعلة والمسببة أو تلك التي لا تزال تتسبب في الفساد السائد وفي مجمل العملية الاقتصادية والاجتماعية الجارية في البلاد، كما أشار إلى ذلك بصواب السيد الدكتور وليد خدوري في مقاله الموسوم عن كتاب "الاقتصاد العراقي الأزمات والتنمية" المنشور في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، مثلاً، أو اغفال موضوع الطابع القومي البعثي في فتر حكم البعث أو المحاصصة الطائفية في الدولة العراقية الراهنة وفي السلطات الثلاث وتأثيرها على غياب الاستراتيجية التنموية والتنويع الاقتصادي...الخ، أو في موضوع العواقب التي ترتَّبت عن غزو واحتلال العراق، أو تلك السياسات التي قادت إلى احتلال الموصل وكل محافظة نينوى من قوى الإرهاب الإسلامي السياسي المتطرف والتكفيري (داعش) وعواقبها على الاقتصاد والمجتمع، أو الحراك الشعبي الجاري والعوامل الكامنة وراء ذلك، ولاسيما موضوع الخدمات العامة، بما فيها الطاقة الكهربائية والماء الصحي، وهي موضوعات مهمة سأبحث بها لاحقاً ضمن قراءتي لهذا العمل الاقتصادي الكبير والقيم للسيد الدكتور علي خضير مرزا.
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية: قراءة في الفصول 2، 3 و4.             
26/03/2019         
 



150
كاظم حبيب
هل من علاقة بين ضحايا العبارة وطبيعة النظام السياسي العراقي؟
سؤال يمكن أن يقال عنه أنه يستخف بعقول الناس في العراق، عقول النساء والرجال بل وحتى الصبية من بنات وأبناء العراق. إذ لا يمكن أن يحصل مثل ما حصل في مدينة الموصل الحدباء في بلد تكون فيه طبيعة النظام السياسي إنسانية وخاضعة لإرادة ومصالح وحقوق المجتمع. ولكن يمكن لمثل هذا الحادث أن يحصل في كل بلد من بلدان العالم حين تسود في هذا البلد:
** دولة هشة مائعة كالدولة العراقية التي لم تعد مالكة لسيادتها واستقلالها السياسي والاقتصادي؛
** وفيها نظام سياسي طائفي مقيت لا علاقة له بالشعب وإرادته وحياته ومصالحه، بل جل هم حكامه تقديم الوعود الكاذبة وإفقار المجتمع واستمرار جعله ريعياً خاضعاً لصادرات وإيرادات النفط الخام؛
** نظام سياسي فاسد من أعلى قمته إلى أدناه، ويخشى حكامه تقديم أكبر وأكثر المسؤولين فساداً مالياً وإدارياً واجتماعياً، إلى المحاسبة القانونية، لأنهم، وكما يبدو، متورطون بذات العلة، على الفساد كنظام سائد ومعمول به في الدولة والمجتمع؛
** ونظام سياسي إرادته ليست بيده بل هناك من يصدر الأوامر له، مرة من الولايات المتحدة، ومرات ومرات وعلى الدوام من إيران وأحياناً من دول جارة أخرى.     
فهل في مثل هذه الحالة يمكن أن يطرح سؤال كما جاء في العنوان؟ كلا بطبيعة الحال، ولكن أردت به أن أقول: انتظروا أكثر فأكثر إن استمرت هذه العملية السياسية البائسة التي ربما يتصور البعض إنها ستقود إلى خير العراق، في حين إنها تغوص يوماً بعد آخر في مستنقع الطائفية والفساد والفوضى والوعود الوهمية وفي كل شيء.
الحزن والأسى والألم يحز فينا نحن بنات وأبناء هذا البلد وفي الخارج لما أصاب أهل الموصل ومن كان في زيارتها وركب العبارة لتغرق في نهر دجلة ويموت أكثر من مئة إنسان ويصاب بأذى بالغ ما يقرب من خمسين شخصاً، بين الضحايا أطفال ورُضّع ونساء ورجال لا يعرفون السباحة. إنها كارثة جديدة تضاف إلى كوارث أهل الموصل وعموم نينوى التي ألحقها بهم النظام السياسي الطائفي حين سلمت الحكومة الأسبق، الطائفية والفاسدة بامتياز، الموصل وكل محافظة نينوى إلى الداعشيين الأوباش لتنتقم من أهل الموصل ومن الكرد ومن أتباع ديانات أخرى ومن الشعب العراقي كله. وحين لا يحاسب الفاسدون والمسؤولون عن الجرائم التي ارُتكِبت في الموصل وعموم نينوى، فكيف لا ينتظر الإنسان وقوع مثل هذه الكوارث المريعة في الموصل وربما في مناطق أخرى من العراق.   
لقد هبَّ أهل الموصل بوجه رئيس الدولة وبوجه محافظ الموصل، أي بوجه الدولة والسلطات الثلاث، بوجه كل المسؤولين، يعلنون رفضهم لهم لأنهم لم يفعلوا شيئاً للموصل وعموم نينوى لا قبل العدوان الداعشي المجرم عليها ولا بعد ذاك، إنهم محبطون جداً، لأن النظام السياسي ومجلس النواب والقضاء العراقي لم يفعلوا ما كان ينبغي عليهم أن يفعلوه في الموصل وعموم نينوى منذ أن بدأ الفساد يعم الموصل في فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق ومحافظ الموصل الأسبق وكل المسؤولين قبل وبعد ذاك، وبالتالي سمحوا للفساد أن يلعب دورهم في وقوع مثل هذه الجريمة البشعة حيث تنقلب العبارة على ركابها فتقتل ثلثين منهم وتصيب الباقي بجروح واختناقات ..الخ، إنهم مسؤولون عما جرى ويجري في الموصل وعموم نينوى بل وفي كل العراق.   
كم أتمنى أن يعي الشعب العراقي كله، وليس جزءاً منه، بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفلسفية والفكرية، كما برز الوعي الجديد لدى أهل الموصل في مواجهة المسؤولين ورفضهم لهم، فهم لا يستحقون غير الذي قوبلوا به من قبل المتظاهرين الغاضبين للخسارة الجديدة في أرواح بنات وأنباء الموصل وعموم نينوى وزوراها في عيد نوروز السعيد الذي تحول إلى مأساة ويوم حزين مريع وغير سعيد. كان المفروض أن يزورا الموصل ونينوى قبل وقوع هذه الحادث وليس بعده ليروا ما فعلت أيديهم في الموصل ونينوى منذ سنوات كثيرة.
العزاء والمواساة لأهلنا وأحبتنا ممن فقدوا بناتهم وأبناءهم، من الصغار والكبار، في هذه الحادثة المروعة، والعزاء لكل الشعب العراقي ولنا جميعاً، والذكر الطيب للضحايا الأبرياء، والخزي والعار لمن تسبب في حصول هذه الكارثة من جميع مستويات السلطات في الدولة العراقية.
والسؤال كيف ستتعامل الحكومة العراقية ومجلس النواب والقضاء العراقي مع أهل الضحايا من جهة، ومع من تسبب بهذه الجريمة البشعة من جهة أخرى. دعونا لا نتعجل النتيجة، رغم معرفتنا العامة بالموقف، دعونا ننتظر، كما انتظرنا تشكيل مئات اللجان الحكومية للكشف عن القتلة والمجرمين دون طائل، وسجلت على متهم مجهول وأغلق الملف! فهل سيحصل في هذه الجريمة كما في جرائم أخرى وقعت وتقع يومياً في العراق؟ الأيام بيننا!!!


151
كاظم حبيب
هل أخفق تكتل سائرون باختيار عادل عبد المهدي لرئاسة الوزراء؟
"الاعتراف بالخطأ فضيلة وليس رذيلة"
حين يكون لتكتل سياسي عراقي واسع برنامجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً محدداً ومهمات ذات أهمية مباشرة وعاجلة، يفترض فيه أن يتم اختيار رئيس الوزراء على وفق تلك المهمات الرئيسية والأساسية واستناداً إلى معايير أو محكات معينة يكون الرجل قادراً على الالتزام بها وتحقيقها. ومن خلال برنامج وتصريحات قادة "سائرون"، ومنهم سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، نتابع تأكيد مجموعة من المهمات المركزية والجوهرية نشير إليها فيما يلي:
1.   مكافحة الطائفية السياسية في الدولة العراقية والتخلي عن المحاصصة الطائفية في الحكم وبنية مجلس الوزراء.
2.   مكافحة الفساد والبدء بالحيتان الكبيرة ومحاسبتها على وفق الدستور والقوانين العراقية.
3.   تأكيد سيادة العراق واستقلاله والتخلص من تدخل الدول المجاورة وغيرها في الشأن العراقي.
4.   التوزيع العقلاني لموارد الدولة والبدء بعملية التنمية التي تخفف تدريجياً من طابع الريع النفطي للاقتصاد العراقي.
5.   تحسين الخدمات ومكافحة البطالة والفقر في البلاد.
في الثاني من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2018 كلفَ رئيس الجمهورية السيد عادل عبد المهدي بتشكيل مجلس الوزراء، وفي الرابع والعشرين منه قدم أسماء مجلس وزراءه إلى البرلمان، إذ صُوت على البعض قبولاً ورفُض البعض الآخر. فماذا حصل في العراق بعد مرور ستة شهور على تكليف رئيس الوزراء الجديد؟ من المعروف أن السيد عبد المهدي قد تقلد قبل ذاك العديد من المناصب الوزارية، كما كان نائباً لرئيس الجمهورية في أكثر من دورة. ولم يكن سجله مرضياً، بل كان مليئاً بالعثرات. وفي ضوء ذلك واستناداً إلى سيرته السياسية منذ أن كان بعثياً في أوائل الستينيات من القرن الماضي ومروراً بتنقلاته العديدة، وإلى أن حط به الرحال في حزب سياسي طائفي بامتياز أُسس في إيران في عام 1982 وعلى أيدي القيادة الإيرانية حينذاك، كما كونت له فيلقاً عسكرياً تحت أمرة الحرس الثوري الإيراني باسم فيلق بدر، الذي قاتل إلى جانب الجيش الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية، أشرت في أول مقال لي نشر في الحوار المتمدن-العدد: 6044 - 2018 / 11 / 4 بعد اختياره ثم تشكيله للمجموعة الأولى من مجلس وزراءه ما يلي:
"من كان، أو ما يزال، يعتقد بأن السيد عادل عبد المهدي قادر على نزع عباءته الإسلامية الشيعية ودشداشته الطويرجاوية والظهور بموقع المستقل عن الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي اختارته لمهمة خاصة استثنائية فيها من التعاون والتنسيق والمساومة بين الولايات المتحدة وإيران، كان مخطئاً وحَّمل الرجل، المستعد للاستقالة فوراً في أول أزمة تواجهه، فوق طاقته وقناعاته الفعلية والمصلحية الراهنة.
منذ البدء كانت لي قناعتي الشخصية بعدم قدرة عادل عبد المهدي على تحقيق الاستقلالية في اختيار الوزراء بحكم متابعتي لمواقف السيد عادل عبد المهدي، الفكرية والسياسية والاجتماعية خلال السنوات الـ 15 المنصرمة، وهو أبن العائلة المنتفكية المعروفة التي عايشتها وأنا الآن ابن نيف وثمانية عقود من السنين، أولاً، ومن خلال كتاباته الكثيفة واليومية في جريدة العالم العراقية بعد خروجه من الوظائف الرسمية، إضافة إلى كتبه في الدعوة للاقتصاد الإسلامي ثانياً، ومن خلال مواقفه من المال والمنح المالية الحكومية الكبيرة التي كان ولا يزال يتلقاها سنوياً هو وأمثاله من قادة قوى وأحزاب الإسلام السياسي العراقية الفاسدة بصورة غير شرعية وخارج المألوف الإنسان والعدالة الاجتماعية ثالثاً، وكذلك في سياساته أثناء كان وزيراً للنفط أو على رأس وزارات أخرى، رابعاً، معرفتي بتقلباته الفكرية والسياسية قبل سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة حين كان في العراق ومن ثم في فرنسا حين تبنى بعد الماوية والتروتسكية النهج الخميني في أعقاب ثورة الشعب الإيراني الديمقراطية، التي احتواها وحرَّفها الإسلاميون السياسيون باتجاه ديني شيعي متطرف ومتطلع للتوسع في المنطقة باسم الدين والمذهب خامساً."
السؤال: ما الذي أُنجزه رئيس الوزراء العراقي خلال الشهور الستة المنصرمة؟
كل الوقائع الجارية على الأرض تشير بما لا يقبل الشك إلى ما يلي:
** مجلس الوزراء شُكل على أساس طائفي وقومي محاصصي بامتياز، ونشب صراع حول بعض الوزارات السيادية والأساسية بين القوى والأحزاب مثل وزارة الداخلية ووزارة الأمن الوطني ووزارة الدفاع على سبيل المثال لا الحصر، ثم مطالبة قوى طائفية تابعة لإيران والحشد الشعبي بمناصب "الداخلية والأمن القومي وقيادة الحشد الشعبي"، وإذ انحاز لها عبد المهدي في موضوع الحشد الشعبي لا يزال الوضع معقداً لمنصب وزارة الداخلية.
** وفي مجال مكافحة الفساد أعاد رئيس الوزراء تشكيل "المجلس الأعلى لمكافحة الفساد" وقال في كلمة تشكيله ما يلي: إن "الهدف من تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد هو تمكينه من اتخاذ الإجراءات الرادعة وتوحيد جهود الجهات الرقابية في سياق عمل جديد قادر على التصدي لأي جهة أو شخص مهما كان موقعه وأن نتصرف كدولة في كشف الفساد وحماية المجتمع والمواطنين والمال العام على حد سواء." (راجع: حمزة مصطفى، عبد المهدي يشكل مجلساً أعلى لمكافحة الفساد في العراق، جريدة الشرق الأوسط،02  كانون الثاني/يناير 2019 م رقم العدد14645]]). "فماذا حدا مما بدا؟"
على وفق المعلومات المتوفرة وبعد مرور هذه الفترة قدم رئيس الوزراء أربعين ملفاً ثانوياً وليس تلك الملفات الساخنة التي تمس كبار المسؤولين في الأحزاب السياسية الإسلامية وفي قمة الهرم الحكومي خلال الأعوام المنصرمة. وهذا يعني دول لف أو دوران إن الرجل لم يلتزم بما يُفترض أن يلتزم به: وقد قلت في حينها إن دولة فاسدة بسلطاتها الثلاث لا يمكنها محاربة الفساد وتقديم الفاسدين للمحاكمة، لأن الحكام هم جزء من الفساد السائد كنظام قائم ومعمول به من قبل الدولة والمجتمع. وسوف لن يلتزم بذلك.
** أما في موضوع السيادة والاستقلال الوطني، فأن الشعب يستخدم التعبير التالي " القضية لاگفة طين"، بمعنى إن الاستقلال والسيادة الوطنية مخترقتان من قبل دول الجوار، وبتعبير أدق من قبل حكام إيران، والآن حليف إيران الجديد قطر، وزيارة روحاني إلى العراق هي التعبير الأكثر وضوحاً في هذا المجال وما توصلا إليه من نتائج في غير صالح العراق. ويبدو أن إيران هي الدولة المهيمنة والعراق هو البنك الممول لإيران من جهة، ومرقد لموتى إيران من جهة ثانية، ومعبر للمخدرات وسوق لتصريف سلعها المصنعة وغيرها، إن العراق يعتبر اليوم دولة شبه تابعة! لا غير، وقلتها قبل ذاك شبه مستعمرة! 
** أما الموقف من الفقرتين الرابعة والخامسة، فليس هناك أي تغيير فعلي في السياسة الاقتصادية والاجتماعية وفي عملية التنمية الوطنية، فالرجل الاقتصادي يقف وهو في الحكم بعيداً عن الاقتصاد ومحكوما بالتعهدات المقدمة لصندوق النقد الدولي أولاً، ولإيران ثانياً، ولتركيا ثالثاً، في أن يكون المستورد لسلعهما الصناعية والزراعية وتابعاً لهما، ويبقى دولة ريعيةً نفطيةً برغم مطالبات الشعب والقوى الوطنية. والخدمات تفوح منها راحة التخلف والعفونة والفساد وعدم التقدم خطوة واحدة إلى أمام. ويكفي أن نلقي نظرة على البصرة التي تفوح منها اليوم رائحة الخراب والرثاثة والمرض والمياه العفنة، وهي المحافظة الغنية بمواردها الطبيعية بنفطها وأرضها الزراعية وسكانها البواسل والمهمشين حالياً.
وقد كنت صادقاً حين كتبت، لمن كان يردد في محاضراته داخل وخارج العراق بأن عادل عبد المهدي هو الأفضل بين الخيارات الأخرى وإذا استقال يكون القادم أسوأ:
"أتمنى أن نبتعد عن محاولة إرضاء النفس والقول بأن تنصيب عادل عبد المهدي يعتبر خطوة إيجابية ضرورية بأمل رفض المحاصصات الطائفية ومحاسبة الفاسدين في الحكم والدولة العراقية، إذ سنتحمل قبل غيرنا مسؤولية مكاشفة الشعب بواقع الحال، لكيلا يفاجأ بما لا يحمد عقباه. فالشخصية المستقلة لا تأتي من وسط وقلب قوى الإسلام السياسي الطائفية التي حكمت وما تزال تحكم العراق حتى الآن، بل تأتي من الأوساط السياسية الوطنية المستقلة، وهي كثيرة وبعيدة عن الأوساط الحاكمة، والتي تمتلك العلم والاختصاص المهني والفني النافع للبلاد، وتعي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئيا وخدماتياً ما يحتاجه العراق وشعبه خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق المعاصر وفي المستقبل. فحتى الآن أصيب كل من راهن على عادل عبد المهدي بخيبة أمل، وأملي أن تتم مراجعة الموقف ومواجهة ما يسعى إليه حالياً عادل عبد المهدي." (راجع: كاظم حبيب، الحوار المتمدن، هل في مقدور عادل عبد المهدي نزع عباءته الإسلامية المهلهلة؟).
من هنا يتبين إن تكتل سائرون، وعلى وفق تقديري وقناعتي الشخصية، وبغض النظر عن النيات الحسنة، إذ أن "الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الحسنة"، كان مخطئاً تماماً بالموافقة على اختيار عادل عبد المهدي لرئاسة الوزراء، لأنه شخصية إسلامية حزبية غير مستقلة حتى لو كان قد جمد عضويته مؤقتاً وشكلياً في المجلس الأعلى وتيار الحكمة. ويفترض أن يتم الابتعاد عن تكرار القول بـ "أنه كان ولا يزال الخيار الأفضل بين خيارات سيئة كثيرة". إذ اعتقد بأنه الخيار الأسواء بين خيرات سيئة، لأنه يفعل ما يريدون تحت ستار الاستقلالية، وأنه الخيار الذي وافق عليه تكتل سائرون أيضاً، وبضمن سائرون الحزب الشيوعي العراقي!   


152
كاظم حبيب
فنزويلا شوكة جارحة في عين ترامب وعيون اللبراليين الجدد

ليس هناك من يشك في ارتكاب قادة الدولة الفنزويلية منذ تولي هوغو تشافيز الحكم في العام 1999 أخطاءً فادحة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية، خاصة وأن كان يتحدى بسياساته الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات اللبرالية الجديدة. فبلد مثل فنزويلا كان يفترض أن يضع قادة الحزب الاشتراكي الموحد سياسة اقتصادية واجتماعية جديدة تأخذ بنظر الاعتبار أربع مسائل جوهرية:
أولاً: وضع خطة اقتصادية اجتماعية تأخذ بالاعتبار حلولاً بعيدة المدى وحلولاً أخرى آنية، تجد تعبيرها في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي بما يسهم في تخصيص نسبة مناسبة من الدخل القومي لصالح التثمير الإنتاجي في الاقتصاد الوطني وتغيير بنية الاقتصاد، ونسبة أخرى لصالح الاستجابة لحاجات الناس ولاسيما الفئات الكادحة والفقيرة.
ثانياً: يفترض أن تشتمل الخطة عملية تغيير واقع الاقتصاد الريعي المعتمد بنسبة عالية جداً على إيرادات النفط الخام المستخرج والمصدر سنوياً، بما تسهم في بناء وتطوير صناعة وطنية حديثة وزراعة حديثة وتنويع وزيادة معدلات نمو الاقتصاد الوطني والدخل القومي.
ثالثاً: معالجة مشكلات المجتمع الكبيرة والكثيرة ولاسيما البطالة والفقر والسكن والمستوى الواطئ للرواتب ومعدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي والاستجابة التدريجية لمطالبها الملحة والعادلة دون الإضرار بعملية التنمية المطلوبة ولا بمصالح الشعب اليومية.
رابعاً: العمل الجاد والمخطط لتقليص اعتماد البلاد على الاستيراد السلعي لإشباع حاجات السكان الأساسية للسلع والخدمات وتجنب السقوط في التبعية للخارج، وفي ذات الوقت تقليص الطابع الريعي والتبعية لاقتصاد النفط الخام. 
وبدلاً من التفكير العقلاني بهذه المسائل وانتهاج سياسة تساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني من خلال توجيه نسبة مهمة من أموال النفط صوب التنمية والتثمير الإنتاجي، صوب القطاعين الأساسيين الاقتصاد الصناعي والاقتصاد الزراعي لزيادة التشغيل وتوفير المزيد من فرص العمل وتنمية وتنويع مصادر الدخل القومي وتحسين مستوى المعيشة، وتأمين نسبة مهمة من الأمن الاقتصادي لفنزويلا والمجتمع، وبدلاً من انتهاج سياسة تشدد من الطابع الريعي للاقتصاد والدولة الفنزويلية من خلال الاعتماد على إيرادات النفط الخام، توجه هوغو تشافيز، ومن ثم نيكولاس مادورو وبقية قادة الحزب الاشتراكي الموحد، صوب التحسين السريع لحياة ومعيشة الفقراء والمعوزين وعلى مدى قصير، بما في ذلك تأمين دور سكن وضمان صحي وتحسين رواتب وأجور الشغيلة.. الخ، وأهملت بشكل صارخ المهمات المركزية الأخرى التي كانت ولا تزال تواجه الاقتصاد والمجتمع. لقد أدت هذه السياسة التي تميزت بالعجز عن فهم واقع وحاجات البلاد الآنية والمستقبلية إلى زيادة الاختلالات في بنية الاقتصاد الفنزويلي وتفاقم الاعتماد على إيرادات صادرات النفط الخام، وكذلك الاعتماد على استيراد السلع لإشباع حاجات السكان، حتى وصل دور النفط يشكل في العام 2018 ما يقرب من 99% من صادرات فنزويلا، رغم تراجع كميات النفط المصدر، وهذا يعني عجز القطاعات الأخرى عن المشاركة في التصدير وتوجيه الموارد المالية صوب الاستيراد الاستهلاكي، وعجز متعاظم في الاستجابة لمطالب الناس الاستهلاكية والتشغيل. وقد اقترن ذلك بتفاقم الأعمال العدائية للولايات المتحدة وبعض دول أمريكا الجنوبية المجاورة لفنزويلا، ولاسيما كولومبيا والبرازيل أخيراً. ومما زاد في الطين بِلة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على فنزويلا والإجراءات القاسية والعدائية التي أصدرها ترامب بشكل خاص، ومن ثم تراجع أسعار النفط الخام وتذبذبها، الذي قلل من الإيرادات السنوية لفنزويلا، ودفع بها إلى نشوء أزمة اقتصادية بنيوية فعلية حادة ومتفاقمة، ازمة إنتاج واستيراد واستهلاك وتصدير، وارتفاع غير معهود لنسب التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية للسكان.   
من المؤسف حقاً أن القوى اليسارية في فنزويلا لم تتعلم من دروس الدول الأخرى وما حصل لها بسبب سياساتها الاقتصادية الخاطئة والتعامل غير العقلاني مع حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية وعدم الاستفادة الواعية والناضجة من الفكر اليساري عموماً والماركسي على وجه الخصوص، في مجال الاقتصادي السياسي والتنمية الاقتصادية في اقتصاديات الدول النامية، لاسيما الدول الريعية.
لا يمكن ولا يجوز الدفاع عن سياسات تشافيز ونيكولاس مادورو الخاطئة، إذ يفترض أن نتحدث عنها بصراحة ونتعلم منها ومن تجارب الآخرين، وأن نكون ناقدين لها من منطلق الاستفادة من التجربة وليس من منطلق التشفي بتلك الأخطاء. ولكن علينا تأكيد حقيقة أخرى، هي أن ما يعاني منه شعب فنزويلا اليوم ليس بسبب سياسات تشافيز ومادورو فحسب، بل وبالأساس وقبل كل شيء بسبب تلك السياسات العدوانية التي مارستها ولا تزال تمارسها بعنجهية الإدارة الأمريكية والكونغرس ووكالة المخابرات المركزية، منذ مجيء تشافيز ومن ثم مادورو إلى السلطة، ضد الدولة والحكومة الفنزويلية بسبب سياساتها الخارجية والداخلية اليسارية والتقدمية.
لقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بمناهضة فنزويلا منذ سنوات كثيرة وبرزت في توقيع باراك أوباما على عقوبات ضد مسؤولين سياسيين فنزويليين من خلال تجميد اصول وعدم منح تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة في العام 2015. إلا إن أكثر العقوبات الاقتصادية التي ألحقت إضراراً فادحة بالاقتصاد الفنزويلي وشعبها وذات الطابع العدواني جاءت مع مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وبعد انتخاب مادورو مجدداً لرئاسة الجمهورية. فقد فرض قرار ترامب "حظرا على التعاملات في الديون الجديدة والأسهم التي تصدرها الحكومة الفنزويلية وشركة "بتروليوس دي فنزويلا PDVSA" النفطية الحكومية، بالإضافة إلى بعض السندات الموجودة المملوكة للقطاع العام، كما تحظر أيضا دفع أرباح للحكومة الفنزويلية". وأخيراً أصدر ترامب في العام 2019 إجراءات عقابية جديدة اشتملت على عقوبات مالية ضد 5 من كبار المسؤولين المقربين من نيوكلاس مادورو. كما حظر تجارة الذهب مع فنزويلا. (راجع: موقع اليوم السابع، أرتي روسيا، موقع بوابة العين الإخبارية...الخ). كما رفضت بريطانيا إعادة الذهب الموجود لديها لحساب فنزويلا والذي تقدر قيمته بـ 1,2 مليار دولار أمريكي. وبالتالي فأن هذه السياسات قد عمقت الأزمة الاقتصادية الداخلية ورفعت من ديونها حيث بلغت الآن ما يقرب من 120 مليار دولار أمريكي، وتراجع شديد في إجمالي حجم الإنتاج المحلي، كما تفاقمت نسب التضخم بارتفاعات جنونية بلغت بمئات الآلاف خلال فترة قصيرة جداً، وحولت نسبة غير قليلة من الشعب ضد سياسات مادورو، لاسيما وأن الأسواق قد شح ما فيها من السلع وتراجعت الخدمات، ومنها الصحية وتوفير الأدوية والحاجات الأساسية، كما تفاقمت البطالة وتنامى عدد الفقراء في البلاد. وقد استفادت واستخدمت المعارضة المحافظة واليمينية والمتطرفة برئاسة خوان غوايدو، وبالتنسيق التام واليومي مع الولايات المتحدة وكولومبيا وغيرها من دول أمريكا الجنوبية، نشاطاتها المعادية لحكومة مادورو، لتشن حملة شعواء ضده، تمثلت بالإضرابات والاحتجاجات والمظاهرات مما قسم الشعب الفنزويلي إلى جزئين ضد أو مع نيكولاس مادورو أو ضد أو مع خوان غوايدو.       
إن سياسات التهديد والوعيد والعقوبات الاقتصادية كانت ولا زالت تشكل جزءاً عضوياً من سياسة قوى اللبرالية الجديدة المتحكمة بسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تفاقمت في فترة ترامب، والتي تتعارض كلية مع لائحة الأمم المتحدة التي تنص على احترام استقلال وسيادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ورفض أي عمل يسعى للإطاحة بنظمها السياسية. إن سياسة الولايات المتحدة الخارجية إزاء الدول الأخرى، ولاسيما الدول النامية، والدول النفطية، تستهدف فرض أيديولوجيتها وفلسفتها الاقتصادية النيولبرالية عليها، وممارسة كل السبل المشروعة وغير المشروعة لتنفيذ مخططاتها بهذا الصدد، وفي سبيل الهيمنة على نفط هذه الدول.
إذا كانت سياسة باراك أوباما خاطئة ومضرة بالنسبة إلى فنزويلاً، إلا إنها لم تصل إلى حد التآمر اليومي وممارسة كل السبل المتوفرة لدى ترامب ولدى حلفائه في أمريكا الجنوبية لإسقاط حكومة مادورو. إلا إنها مهدت السبيل لممارسة سياسات أكثر قسوة وعدوانية. فالولايات الأمريكية وحلفاءها يرون في المعارض اليميني المتطرف، خوان غوايدو، وغريم نكولاس مادورو، الشخص المناسب الذي سيضع الاقتصاد الفنزويلي ونفط فنزويلا تحت امرة وإرادة ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، ويمارس نموذجا لسياسات تابعة للولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي من جهة ثانية، ويضطهد الكادحين والفقراء من جهة ثالثة. إنها السياسة التي تتعارض وتتناقض بشدة مع إرادة ومصالح الشعب الفنزويلي.
واليوم تقف نسبة عالية من الشعب الفنزويلي والقوات المسلحة الفنزويلية إلى جانب مادورو لا لأنها تؤيد تلك السياسات الخاطئة التي مورست في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بل لأنها ترى وتدرك مخاطر التدخل الأجنبي الواسع النطاق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والذي يتهدد الاستقلال والسيادة الوطنية الفنزويلية وكرامة وحرية وحقوق الشعب، ولأنها تجعل النفط الفنزويلي، ثروة البلاد الأساسية بعد شعبها، في خدمة ومصالح الولايات المتحدة وتبعية كاملة لها. وقد اصطفت أغلب دول الاتحاد الأوروبي، التي تصرخ دوماً بالدفاع عن حقوق الإنسان وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، إلى جانب سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في فنزويلا وتؤيد نهج غوايدو المناهض للدستور، رغم إنها لا تزال ترفض التدخل العسكري في فنزويلا.
إن متظاهرين فنزويليين تسندهم قوات كولومبية وقوى محافظة ورجعية تقف على حدود فنزويلا وقد كدست مساعدات "إنسانية!" تريد العبور بها إلى الجانب الفنزويلي، في حين إنها معبأة بأعداء فنزويلا وبالأسلحة والعتاد لتفرض حرباً ضد القوات المسلحة الفنزويلية التي تقف في الجانب الفنزويلي رافضة دخول تلك القوى ومساعداتها الكاذبة. إذ لو كانت مساعدات فعلية، لكان عليها تسليمها إلى الصليب الأحمر الفنزويلي ليقوم بتوزيعها على المحتاجين من الناس، وليس أن تدخل القوى الأجنبية المعادية مع تلك "المساعدات!" إلى فنزويلا. إنهم يستثمرون حاجة الشعب الفنزويلي للغذاء والدواء ليؤججوه ضد حكومة الحزب الاشتراكي الموحد وضد نيوكولاس مادورو، فهل سينجحون؟ لقد نجحت الإمبريالية الأمريكية في إسقاط نظام حكومة مصدق في إيران في العام 1953، وحكومة عبد الكريم قاسم في بغداد في التحالف مع البعث وقوى رجعية كثيرة في العام 1963، وفي إسقاط حكومة سلفادور أليندي في شيلي عام 1974، وهي لا تزال تتآمر ضد كوبا، لاسيما بعد مجيء ترامب، وهي التي تساعد السعودية والإمارات العربية في حربهم ضد شعب اليمن وفي مواجهة إيران، وهي التي تهدد جميع الدول بالعقوبات الاقتصادية ما لم تستجيب لإرادة ومصالح الإدارة الأمريكية.
إن من واجب كل العقلاء في فنزويلا العودة إلى طاولة المفاوضات لحل المشكلات العالقة وتفويت الفرصة على أعداء فنزويلا الداخليين والخارجيين لتفجير حرب داخلية في صفوف الشعب الفنزويلي، وهي الغاية الراهنة للإدارة الأمريكية لفرض التدخل العسكري فيها. إن من واجب الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي رفض السياسات التي تمارسها الولايات المتحدة ضد الشعب الفنزويلي ودعمها الكبير لقوى المعارضة اليمينية وتشجيعها التآمر على الحكومة الفنزويلية. ويبدو إن شعار "ارفعوا أيديكم عن فنزويلا" هو الشعب الواقعي المناسب لقوى حركة التحرر الوطني والقوى الديمقراطية في سائر ارجاء العالم لدعم الشرعية في فنزويلا.   
       

153
كاظم حبيب
دكتاتور تركيا يعيد ممارسة سياسات السلطنة العثمانية البائدة
أينما يولي الإنسان وجهه يجد في دول الشرق الأوسط دون استثناء نظماً سياسية دكتاتورية وعلى رأسها دكتاتوراً مطلقاً، إما تحت واجهة دينية إسلامية سياسية وطائفية، وأما تحت واجهة مدنية مشوهة ومزيفة، وإما تحت واجهة عشائرية أو عائلية، بعضها ملكي، وبعضها الآخر جمهوري، ولكنها كلها في الهمِّ شرق، كلها مصابة بداء العداء لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب، كما أنها أغلبها، إن لم نقل كلها، مصابة بداء مناهضة مصالح الشعب والتنمية الوطنية والفساد، وغالباً ما تتهم المناهضين لسياساتها بالتآمر والتعاون مع الأجنبي على حساب شعوبها، في حين أنها هي المتعاونة مع هذا الأجنبي الإقليمي أم ذاك ومع هذا الأجنبي الدولي أم ذاك، على حساب مصالح شعوبها ومستقبلها.
نحن اليوم أمام نظام سياسي تلبس أولاً بلباس الافتزام بمبادئ الحرية والديمقراطية، كما ادعى إمكانية المعايشة والمزاوجة بين الإسلام السياسي والحريات العامة والحياة الديمقراطية وحل المشكلات القومية بالطرق السلمية. وكان الهدف من وراء ذلك تعزيز مواقعه في البلاد وفرض الهيمنة على الدولة بسلطاتها الثلاث وعلى الاقتصاد والمجتمع. وحالما تيقن من قدرته على العودة إلى أصوله الإيديولوجية الإخوانية (إخوان المسلمين) والاستفراد بالدولة والمجتمع والسير على الأسلوب السلفي وممارسة العنف في مواجهة المعارضة حتى أعلن عن سياساته ومواقفه صراحة ودون مواربة. إنها الدولة التركية وإنه الدكتاتور طيب رجب أردوغان. وقد استثمر محاولة الإطاحة به من قبل زميله في الدين والعشرة الطويلة والعمل المشترك فتح الله گولن في 15 تموز/يوليو 2016، (وكان، كما تبين أخيراً، قد وصلته معلومات تفصيلية عن خيوط التحرك ضده واستعد له)، ليشن حملة شعواء لا مثيل لها في المجتمع التركي، حتى في فترة سيادة العسكر على البلاد، فاعتقل عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين من مختلف القوميات ومن المدنيين والعسكريين، ومن مختلف الوزارات والمؤسسات والشركات، بتهمة التآمر على حكومة أردوغان. كما استغل هذه الحادثة ليشن حملة على كل معارضيه من مختلف القوى السياسية التي لا ترتبط بأي صلة بحزب أو جماعة فتح الله گولن، ولاسيما حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، إضافة إلى جمهرة كبيرة من المدافعين عن حقوق الإنسان وأولئك الذين شاركوا في احتجاجات ساحة غيزي في العام 2013، كم افتعل معارك جديدة ضد الشعب الكردي ومطالبه العادلة والمشروعة، وشن حرباً عدوانية ضد الأحزاب الكردية المناهضة لسياساته في تركيا.
في أكتوبر من عام 2017 قامت الشرطة التركية باعتقال الشخصية الثقافية التركية ورئيس معهد الأناضول الثقافي والناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان واليساري المزاج ورجل الأعمال عثمان كافالا ومعه 16 شخصاً آخر بتهمة التحريض ودعم احتجاجات "غيزي" عام 2013. وبقي هؤلاء في المعتقل دون توجيه تهمة مباشرة وتحديد موعد للمحاكمة طوال 477 يومياً. واليوم ولأول مرة وجه المدعي العام التركي التهمة ضد عثمان كافالا والـ 16 الآخرين بتهمة التعاون مع الخارج للتحريض ضد حكومة أردوغان، والتي تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد. وتشير الجريدة البرلينية "برلينر تسايتونگ بتاريخ 22/02/2019 إلى أن التهم الموجهة له وللآخرين يمكن أن تصل عقوبتها إلى مئات السنين.               إن التهم، كما اشارت منظمة العفو الدولية، سخيفة ومضحكة، وهي محاولة بائسة للانتقام ممن شاركوا أو ساندوا احتجاجات الشعب التركي في ساحة غيزي عام 2013.
إن نداءات كثيرة صدرت عن منظمات دولية وإقليمية تطالب بإطلاق سراح المعتقلين لأنهم لم يرتكبوا جرماً، بل مارسوا حقاً ثابتاً حتى في الدستور التركي الراهن ورغم التغييرات المخلة التي لحقت فيه، حيث يكفل حق الاحتجاج والتظاهر السلمي. إن مكتب معهد الأناضول الثقافي عبر عن فرحه بتحديد موعد المحاكمة، بعد أن حبس ما يقرب من 16 شهراً بعيداً عن الشرعية الدستورية، لكي يتسنى له الدفاع عن نفسه وتأكيد براءته من التهم الفارغة والقرقوشية الموجهة له ولنشطاء الدفاع عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني الديمقراطي في تركيا.
إن سيف الدكتاتور مسلط على رقاب الناس في تركيا فحتى شهر نوفمبر من عام 2018، بل حتى الآن، قامت الشرطة وتقوم بحملات اعتقالات جديدة واسعة للمئات من العسكريين والمدنيين الترك بتهمة التعاون مع فتح الله گولن. وهي تهمة أصبحت، كما يقال في الأدب السياسي العرابي "قميص عثمان" لاعتقال أي إنسان يريد اعتقاله أردوغان وطغمته الحاكمة. كما إن رئيس حزب الشعب الديمقراطي في تركيا وعشرات من صحبه يقبعون في سجون السلطنة العثمانية الجديدة دون وجه حق وبتهمة تأييد حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه العادلة والمشروعة وفي سبيل الحريات العامة والحياة الديمقراطية في تركيا.
أن الإدانة لهذه السياسات غير كاف، بل لا بد للرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع الدولي، وكل الذين يؤمنون بالحرية والديمقراطية والعدالة، أن يرفعوا أصواتهم مطالبين بإيقاف التعذيب وانتزاع الاعترافات والمحاكمات القوقوشية، (التي عرفت بها السلطنة العثمانية القديمة)، وأطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والعقيدة والنشاط المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان في تركيا. إنها ساعة الحقيقة التي يجب مواجهتها بجرأة وتضامن متين مع الشعب التركي وقواه الديمقراطية. إن على الاتحاد الأوروبي أن يوقف مفاوضاته مع تركيا بشأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، لأنها خرقت كل الشروط الأساسية والإنسانية والحقوقية التي تتطلبها عضوية الاتحاد الأوروبي، فهي لم تعد دولة تحترم القانون الدولي والمبادئ الأساسية للائحة حقوق الإنسان الدولية والعهود والمواثيق الدولية بهذا الصدد، كما تمارس الاعتقال الكيفي الطويل ودون تهم أو محاكمات، وتمارس شتى أساليب التعذيب الجسدي والنفسي، وترفض الاعتراف بحقوق القوميات الأخرى وتمارس التدخل في شؤون الدول الأخرى سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، كما هو الحال في العراق وسوريا، وسيادة الفساد في الدولة، وهيمنة الحاكم المستبد على السلطات الثلاث ومصادرة استقلالية القضاء التركي، وكذلك إخضاع مجلس النواب لإرادة السلطان الجديد. وكان أعضاء في برلمان الاتحاد الأوروبي قد طالبوا أخيراً بإيقاف المباحثات مع تركيا بهذا الصدد، وهو موقف صحيح وعادل.   
24/02/2019

154
كاظم حبيب
عرش الدكتاتور السوداني في مهب الريح!
لم يعد دكتاتور السودان الأهوج مالكاً زمام عقله ولا مدركاً لأفعاله، فلياليه تحولت إلى كوابيس مرهقة، يرى تعاظم الاحتجاجات، وتزايد المظاهرات والمتظاهرين، يرى سقوط قتلى، ودماء زكية تسيل في الشوارع... إنها من صنعه. يرى جثث الشهداء تنهض.. تتحرك صوبه.. تلتف حوله، تمتد أياديها لتضيق الخناق حول عنقه، يكاد يختنق، يصرخ ولكن لا صوت سوى ولولة وحشرجة. يفز من نومه غارقاً في تعرق شديد. يسمع ولولته واستجداءه النجدة لإنقاذه من اختناق شديد يكاد يقضي عليه. يجلس على حافة السرير.. يفرك عينيه لا يرى شيئا سوى الظلام وصوت بساطيل (جزم) الحرس خارج غرفة نومه. يتناول قدحاً من الماء ليزيل جفاف الفم، يعود ويضع رأسه على الوسادة التي تخفي مسدساً تحتها وبجواره رشاشاً.. يحاول النوم، جفناه لا يستجيبان للنوم، يبقى مشدوداً إلى قلق مرهق وأرق دائم لا فكاك منه. يتحول البشير في نُهُرهِ إلى شخص مسطول يتخبط في أقواله وأفعاله يبدو كمن فقد عقله. عرش الدكتاتور يهتز تحت عجزه الثقيل. عبأ المزيد من الجنود والشرطة حول القصر، ولكن من يضمن له ولاءهم له، بعد أن أصدر أمراً بتوجيه الرصاص الحي إلى صدور وظهور أبناء وبنات السودان، وهم أبناء وبنات أو أخوة أخوات أو أقرباء هؤلاء الجنود وضباط الصف والضباط أيضاً. الشك المتفاقم يفتك به، يزيد من أرقه. منح ضباط القوات المسلحة ورجال الأمن المزيد من الرواتب والمخصصات والمكاسب بأمل شراء ضمائرهم والحصول على تأييدهم وسكوتهم عن جرائمه، ولكن هل يكفي ذلك لقتل ضمائر أبناء الشعب من العاملين في القوات المسلحة وهم يرون كيف يقتل الدكتاتور شعب السودان، وإلى متى؟
امس، الجمعة 22/02/2019 أعلن الدكتاتور عمر البشير حالة الطوارئ لمدة عام في كل أنحاء البلاد وحل الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، ودعا البرلمان لتأجيل تعديلات دستورية تتيح له الترشح لولاية جديدة عام 2020، في محاولة منه لإضعاف زخم التظاهرات الشعبية المتصاعدة والمعبرة عن المزاج الثوري المتنامي في صفوف الشعب السوداني والمطالبة بأسقاط النظام الدكتاتوري والخلاص من الدكتاتور. ولكن في المقابل ومباشرة بعد هذا الخطاب "دعا تجمع المهنيين السودانيين المنظم للمظاهرات "إلى مواصلة التظاهر حتى تحقيق أهداف هذه الانتفاضة والتي هي تنحي رأس النظام ورئيسه وتصفية مؤسساته". (راجع: موقع قناة فرانس 24، 23/02/2019).
إن هذا الإجراء هو آخر ما في جعبة هذا الدكتاتور، كما هو حال كل المستبدين في الأرض، والذي يمكن أن يغرق البلاد ببحر من دماء الشعب ودموعه، ولكن سيُقهر هذا النظام العفن في المحصلة النهاية وسينتصر الشعب السوداني الشقيق، الذي عانى من كل الفساد والموبقات لـ "نظام حكم إسلامي سياسي" خائن للشعب وخانق لحرية الإنسان وحقوقه ومتجاوز على كرامته وحياته ولقمة عيشه.
إن النصر سيكون حليف الشعب السوداني مهما أوغل الدكتاتور وارهابيو الحكم في ظلمهم واضطهادهم ومحاولة قهرهم لنضاله المرير والمظفر للإطاحة بالطغمة الحاكمة والبدء ببناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي والسعي لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية في البلاد.         

155
كاظم حبيب
أسئلة مباشرة إلى رئيس وزراء العراق
لن أكتب في هذه المقالة عن الدولة العراقية الطائفية الفاسدة بسلطاتها الثلاث، ولن أكتب عن حياة المجتمع التي حولتها الطغمة الحاكمة الفاسدة إلى بؤس وفاقة وحرمان ومرارة مستمرة، ولا عن الأطفال المشردين من بنات وأولاد في شوارع العراق، ولن أكتب عن الأرامل من النساء اللواتي فقدن أزواجهن عبر الحروب والإرهاب والسياسات المجحفة بحق النساء ويعانين من شظف العيش ومرارة الاستجداء، ولن أكتب عن أحوال عائلات الشهداء وجرحى والمعوقين وآلامهم، ولن أكتب عن المستشفيات البائسة وغياب العناية الصحية ونقص الأدوية والمعدات وكثرة النفايات المتجمعة في المستشفيات أو قربها، ولا عن أنهار البصرة المطمورة بالقاذورات، ولن أكتب عن مآسي التربية والتعليم التي وصلت إلى حد لا يطاق أُجبرت معها نقابة المعلمين على إعلان الإضراب العام ليومين يمكن أن يتكررا، ولن أكتب عن الرؤوس الفاسدة والمفسدة التي تحتل حتى يومنا هذا مواقع سيادية في سلطات الدولة العراقية ومؤسساتها وأجهزتها، ولن أكتب عن غياب التنمية الاقتصادية، ولاسيما التنمية الصناعية والزراعية وتفاقم الطابع الريعي للدولة واقتصادها، ولن أكتب عن التدخل الفظ في شؤون العراق الداخلية وانتهاك الاستقلال والسيادة الوطنية يومياً وفي كل لحظة، لا لن أكتب عن هذا وغيره كثير في هذا المقال، بل سأطرح مجموعة من الأسئلة المباشرة على رئيس وزراء العراق، باعتباره المسؤول الأول عن أمن وسلامة وحياة المواطنة والمواطن في العراق وأقسم على أداء واجباته لصالح الشعب والمواطِن والمواطِنة أولاً، وباعتباره القائد العام للقوات المسلحة ثانياً، شئنا ذلك أم أبينا، فهذا هو العراق حتى اليوم، إذ لا صوت يعلو غير صوت الفاسدين والميليشيات المسلحة في بلد يعتبر واحداً من أقدم وأشهر مهود الحضارة البشرية.
السؤال الأول: هل سمعت باغتيال المثقف والكاتب والروائي العراقي الدكتور علاء المشذوب في مدينة كربلاء، وقيل قد تم الاغتيال أثناء وجودك في هذه المدينة؟ فهل جاء ذلك صدفة أم توقيتاً هادفاً؟ 
السؤال الثاني: لم أسمع عنك أنك تحدثت عن هذه الجريمة البشعة التي أغتيل فيها مثقف صوبت إلى رأسه وجسده 13 إطلاقة من رشاش، ولم تشجبها أو تدينها، لماذا؟
السؤال الثالث: هل أنت مع اغتيال هذه الشخصية الثقافية من مدينة الثقافة الإنسانية لأنه انتقد المليشيات المسلحة وانتقد سياسات الخميني والخامنئي في العراق، وإلا فما معنى السكوت حتى الآن؟
السؤال الرابع: وإذا كنت غير موافق على هذا الاغتيال، فماذا فعلت لملاحقة القتلة ومن يقف وراءهم؟
السؤال الخامس: إن السكوت على الجريمة يعني، دون أدنى ريب، الرضى عنها من جهة، والمشاركة في ارتكابها من جهة ثانية، فهل تقبل لنفسك ذلك؟
السؤال السادس: هل هناك سيف مسلط على رقبتك تخشى الحديث عن الجريمة وعن القتلة وعن ملاحقتهم لأنهم يشكلون جزءاً من هذا النظام السياسي القائم؟
السؤال السابع: وهل شكلت لجنة لكي تمحو آثار الجريمة ويختفي تشخيص القتلة ليقوموا باغتيالات جديدة ضد من يملك الشجاعة ويدين أوضاع العراق والتدخل الإيراني فيه، فعلاء المشذوب لم يكن وحده المقصود بالقتل، بل المقصود كل من يفتح فمه ويمسك بقلمه ليكتب بضمير حي عن الأوضاع البائسة في العراق وعمن يقف خلفها وما المقصود منها؟ 
لست وحدي من يوجه هذه الأسئلة وغيرها، بل هناك الآلاف المؤلفة التي ادمت الجريمة البشعة قلوبها وأدمعت عيونها وتعاظم غضبها على نظام سياسي فاسد غير قادر على حماية أبناء وبنات الوطن الجريح والمستباح بالطائفية والفساد والإرهاب والاختطاف والاغتيال والموت...
انتظر الجواب من رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي وليس من غيره، فهو المسؤول الأول عن امن وسلامة وحياة المواطنة والمواطن في العراق.     
         

156
كاظم حبيب
السيسي ينصَّب نفسه دكتاتورا مطلقاً على شعب مصر
انطلق الشعب المصري بثورته المظفرة ضد النظام السياسي الفردي، ضد فردية رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك وضد الظلم والفقر والفساد، ثم انتفض على حكم الاخوان المسلمين والرئيس الاخواني محمد مرسي بسبب سياساته المنافية للدستور المصري وللحياة الديمقراطية والتعددية، وبهدف اقامة الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي. وانتصر بإسقاط هذا الدكتاتور الإسلامي السياسي الجديد. ولكن هذا الانتصار سرق بين عشية وضحاها، سرق بقرار مسبق، إذ ركب القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع في مجلس وزراء محمد مرسي عبد الفتاح السيسي الموجة الثورية وساهم في الإطاحة بمرسي، وادعى العمل على وضع دستور ديمقراطي وإقامة حياة دستورية ديمقراطية وإطلاق الحريات للشعب وتأمين التطور الاقتصادي في البلاد. فانتخب رئيساً للجمهورية. ولكن الرجل وحالما تسلم السلطة بدأ بتهيئة شروط تنصيب نفسه رئيساً للجمهورية مدى الحياة وإجراء تعديلات في الدستور، على وفق رغباته وعبر مجلس نواب مليء باتباعه وجمهرة من الانتهازيين المستعدين خيانة ضميرهم في مقابل تحقيق مصالحهم الذاتية على حساب مصالح الشعب ولقمة عيش الفقراء. وبعد ان هيمن على الحكم كرس هيمنته على السلطات الثلاث ومؤسساتها وعلى الاعلام المصري، بدأ بوضع تعديلات على الدستور لتسمح له بتحقيق عدة مسائل جوهرية والوصول من خلالها إلى فرض الحكم المطلق، الشمولي:
** ان يصبح رئيساً للجمهورية حتى العام 2040، وأن تكون كل دورة رئاسية ست سنوات بدلاً من أربع سنوات، ثم يمكن تمديدها بتعديلات اخرى ليكون رئيساً مدى الحياة. وتشير بعض الصحف المصرية إلى أن السيسي بدأ يهيئ نجله الضابط محمود السيسي لهذا المنصب، كما كان يريد أن يفعل ذلك محمد حسني مبارك، لاسيما وأنه قد كلف بوضع الملامح الأساسية للتعديلات الدستورية على وفق تصور الوالد في مقر جهاز الاستخبارات العامة وبمساعدة المستشار القانوني، محمد بهاء أبو شقة. كما تشير الصحف والمواقع إلى "ترقية ابنه محمود الضابط بالمخابرات العامة ترقية استثنائية من رتبة رائد لرتبة عميد، وتعيينه نائبا لرئيس جهاز المخابرات العامة، الذي ترأسه مؤخرا مدير مكتب السيسي السابق اللواء عباس كامل "خزنة أسرار السيسي". (راجع: محمد مغاور، على خطى نجلي مبارك: أبناء السيسي يصنعون إمبراطورية بالرقابة والمخابرات، موقع عربي 21، 22 تموز/يوليو 2018).
** ان يكرس دستورياً، وليس عملياً حسب، هيمنته التامة على السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية وكذلك على الاعلام، وبالتالي ان يصبح الدكتاتور المطلق غير الخاضع لأي رقابة، وهو ما لم يحلم به مبارك ولم يصل إليه. فله الحق بإقالة الوزارة وتشكيل وزارة جديدة وتعيين الوزراء دون العودة لمجلس النواب، وإنشاء مجلس أعلى للهيئات القضائية للنظر في الشئون المشتركة للجهات والهيئات القضائية يرأسه رئيس الجمهورية، أي السيسي نفسه، ومن حقه اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا، كما تمنح التعديلات الجديدة صلاحيات تتجاوز صلاحيات مجلس النواب، ويتحول غالبية النواب إلى بيادق يحركها السيسي كما يشاء. 
** القضاء على اي شكل من أشكال الحياة الديمقراطية وتحويل المؤسسات الدستورية القائمة الى مجرد هياكل شكلية لا تملك أي سلطة في الإفتاء أو الفصل في القضايا الدستورية، وبعيدة عن إرادة ومصالح الشعب وستكون المأمور المطيع لرئيس الجمهورية.
** فرض السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسات الخارجية بما تخدم مصالحه ومصالح الضباط الكبار والطغمة الحاكمة معه وعلى حساب مصالح الشعب المصري وحياته ومستقبل أجياله، لاسيما وهو الذي يقرر من يكون في مجلس الوزراء والسياسة الاقتصادية الاجتماعية التي ينبغي انتهاجها في مصر. إن هذه التعديلات تعيد مصر إلى العهد الملكي الوراثي، على موضة "الجمهورية الوراثية"، ولكن بدون الهامش الديمقراطي الذي عرفته مصر نسبياً في عهد الملك فاروق.
ان ما يجرًي اليوم في مصر هو أسوأ بكثير جداً عما كان عليه الوضع في عهد محمد حسني مبارك السيء والذي سمح بالوصول الى هذه النتيجة المحزنة في مصر. فإذا كان المئات من السياسيين في مصر في فترة مبارك في السجون والمعتقلات، فأن السجون والمعتقلات المصرية حالياً مليئة بمعتقلي وسجناء الرأي من السياسيين المخالفين لسياسات السيسي، والكثير منهم ممن شارك في التغييرات صوب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي حصلت في مصر، ويقدر عددهم بين 60-100 ألف معتقل وسجين. وتمارس أجهزة الأمن والشرطة والمحققين شتى صنوف وأساليب وأدوات التعذيب النفسي والجسدي وضد عائلاتهم أيضاً. وقد أدى السيسي في لقاء تلفزيوني صحفي بأن ليس في مصر سجناء سياسيين بل هم إرهابيون. وفي خطاب للرئيس عبد الفتاح السيسي قال بالحرف الواحد "اسمعوا كلامي أنا بس"، حين كان يحاول الطعن بنقد المعارضة للسياسات المصرية. ألا يعني هذا أن ليس من حق أحد أن يخالف رأي وكلام السيسي، اليس هذا أسلوب وحديث الطغاة، ألا يذكرنا هذا بحديث صدام حسين عام 1978 حين قال في ندوة تلفزيونية وأمام جمهور واسع "حين أقول إن عدد نفوس الشعب العراقي 13 مليون فهذا قانون وعلى الجميع الالتزام به ولا يجوز مخالفته!"، وبهذا كان يعارض ما نشره الجهاز المركزي للإحصاء.
إن هذا الواقع المرير يقترن بمزيد من المديونية للمؤسسات المالية الدولية من جهة، وتفاقم البطالة إلى حدود (10%) من القوى القادرة على العمل من جهة ثانية، وتفاقم حالة الفقر ونسبة العوائل الفقيرة التي تعيش تحت خط الفقر عالية جداً وتبلغ حالياً بحدود 27,5% من مجموع السكان البالغ حالياً 104 مليون نسمة، أي بأكثر من 28 مليون نسمة، وهناك الملايين التي تعيش على خط الفقر، وتلك التي تعيش فوق خط الفقر بقليل، ثم بدأت تتبخر الطبقة الوسطى من المجتمع المصري، وقد كتب منذ سنوات الكاتب المصري الفقيد رمزي زكياً كتاب بعنوان "وداعاً للطبقة الوسطى"، إضافة إلى نسبة التضخم العالية التي بلغت في شهر كانون الثاني/يناير 2019 (43.45 %)، والارتفاع المستمر في أسعار الحاجات الاستهلاكية الأساسية لغالبية السكان، مما يزيد من بؤس وفاقة الفئات الاجتماعية الكادحة وتلك التي تعيش على هامش الاقتصاد والمجتمع المصري، إضافة إلى إلغاء الحكومة المصرية دعمها لعدد مهم من الحاجيات الاستهلاكية الأساسية، ومنها الكهرباء، بناء على نصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المتحكم حالياً بوجهة السياسة الاقتصادية بمصر منذ العام 2014 ولا تزال مستمرة في تنشيط هذه الوجهة في إلغاء الدعم. وقد كتب السيد همام سرحان مقالاً بعنوان: إلغاء الدعم في مصر.. "القرار الخاطئ" أم "الدواء المرّ"؟ ما يلي: " بعد مرور شهر على سلسلة القرارات الي أصدرتها الحكومة المصرية مؤخرًا، بالرفع الجزئي للدعم عن أسعار المحروقات (السولار، البنزين، الغاز الطبيعي)، والكهرباء والمياه، يبدو أن المواطن المشغول بالجري وراء لقمة العيش، لم يجد بُدّا من الاستسلام للأمر الواقع، رغم ما أصاب ميزانيته الضعيفة أصلا من تدهور جراء ارتفاع أسعار معظم السلع والخدمات الأساسية" (راجع: موقع SWI الإلكتروني) وقد أثار هذا غضب الشارع المصري، كما تثيره الآن سياسات النظام السيسي الاقتصادية والاجتماعية. وهي السياسة التي تقود الكثير من العائلات إلى حالة العدم وتراجع مستمر للفئة المتوسطة وانحدارها في أحضان العائلات الفقيرة.
كتب الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق الكثير من الكتب المهمة ولكن أبرز كتابين في المرحلة الراهنة هما كتاب "اقتصاديات الفساد في مصر" حيث نشر، وكتاب "هل مصر بلد فقير حقا؟ وإذ يتحدث في الكتاب الأول عن حجم الفساد الهائل وتطوره منذ عهد حسني مبارك ومع "الانفتاح الاقتصادي: والأخذ ببرنامج صندوق النقد الدولي "التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي"، واعتباره نظاماً سائداً في مصر وفي كل المستويات. أما الكتاب الثاني الذي يتحدث عن واقع الفقر في مصر وأسبابه وأن مصر ليست فقيرة ولكن سياسات الدولة والانفتاح الاقتصادي وعن الهدر الحكومي وحجم الفساد الهائل في مصر وعن أساليب المحاسبة الرأسمالية.. الخ، باعتباره السبب وراء هذا الفقر العام والحديث عن مصر دولة فقيرة، في حين أن هناك من يفقرها يومياً. فقد صودرت مسودته وقبل نشره من المطبعة من قبل جهاز الأمن الوطني، رغم حصوله قبل ذاك على أذن بالنشر. ولم يكتف الأمن الوطني بذلك بل "ألقت قوات الأمن المصري، أمس الأحد، القبض على أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة، مؤلف كتاب "هل مصر فقيرة حقاً"، عبد الخالق فاروق والذي اقتيد إلى قسم شرطة مدينة الشروق، شرقي العاصمة القاهرة، وفقاً لتدوينة كتبتها زوجته نجلاء سلامة، على حسابه الشخصي عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك". كما "وسبق أن أخفت أجهزة الأمن صاحب مطبعة دار السلام، إبراهيم الخطيب، الذي تولى طباعة كتاب الخبير الاقتصادي البارز، وذلك من مقر عمله بواسطة رجال أمن بزي مدني، بمؤازرة ضباط من جهاز الأمن الوطني، من دون سند قانوني أو إذن من النيابة العامة، ومن غير المعلوم مكان احتجازه حتى الآن، علماً بأن النيابة أصدرت قراراً بإخلاء سبيله." (راجع: هل مصر بلد فقير حقاً؟، ملخص كتاب قاد عبد الخالق فاروق للاعتقال، موقع العربي الجديد، القاهرة في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2018).
والسؤال: هل سيقبل الشعب المصري بهذا الوضع الاستبدادي الرجيم، ام سينتفض مجددا، بالرغم من كل أشكال الإرهاب التي يتعرض لها الشعب المصري؟ لا اعتقد بأن هذا الشعب المقدام سيقبل بهذا الوضع، رغم ما عراف عنه من صبر ونفس طويل في تحمل المصائب والكوارث. ولكن حين تدق الساعة، حين يمتلئ كأس البؤس والفاقة والجوع والحرمان، وحين يزداد الضغط عبر الاعتقال والتعذيب والحبس، وحين يُسكت كل صوت معارض بشتى السبل، أو يجبر على ترك البلاد، وحين تداس كرامة الإنسان وتنحر حرياته وحقوق الأساسية، وحين تلتقي العوامل الموضوعية بالعوامل الذاتية وتنضج عوامل الحالة الثورية، عندها ينقلب السحر على الساحر، عندها يعيش الشعب عرساً جديداً، عندها تزهر براعم الربيع الثاني وتعلن الحراك الشعبية الديمقراطية عملية الخلاص من الدكتاتورية والدكتاتور لإقامة الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي المتحرر. لا يمكن الخلاص من هذا الوضع إلا بإيجاد لغة مشتركة وأهدافاً نضالية مشتركة بين قوى المعارضة المصرية أولاً، والتزام العمل لبناء الثقة مع الشعب والتحري عن لغة مشتركة معه وتبني إرادة ومصالح وتطلعات الشعب المصري ثانياً. لا يمكن لأي دكتاتور التغلب على إرادة الشعب، إن أحسنت قوى المعارضة من دورها وفعلها المشترك وتبني برنامج مشترك لا يكشف عن عورات النظام فحسب، بل ويطرح الأهداف التي يناضل من أجلها الشعب والاستعداد للتضحية من أجلها.

157
كاظم حبيب
المليشيات الطائفية المسلحة في الحشد الشعبي، المخاطر المحتملة، فما العمل؟
قيمتك ليست في عيون الناس، بل هي في ضميرك، فإذا ارتاح ضميرك ارتفع مقامك.  أنيس منصور
لم يعد سراً على أحد وجود ما يزيد عن 67 ميليشيا طائفية شيعية مسلحة، تمتلك منها إيران 41 ميليشيا وتتوزع الميلشيات الأخرى على عدد آخر من الأحزاب الإسلامية السياسية العراقي والمرجعيات الدينية العراقية. (راجع: صالح محمد، ما هي المليشيات الشيعية المقاتلة بالعراق؟ (ملف+ إنفوغراف) موقع عربي21-، في 3 تشرين الأول/نوفمبر 2016). وأكثر المليشيات عدداً وتسلحاً وقدرات مالية ونفوذاً سياسياً واجتماعياً، وأشدها خطورة على العراق ومستقبله هي تلك التي ترتبط مباشرة بإيران وبالمرجعية الدينية والسياسية الإيرانية (39 +2 تابعة لحزب الله)، أي كلها خاضعة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، السيد علي خامنئي، كما ترتبط بممثل المرشد والحرس الثوري الإيراني وجيش القدس الجنرال الإيراني قاسم سليماني وتخضع لقيادته وإرادته وتوجيهاته، وهي من إرادة وتوجيهات الخامنئي والدولة الإيرانية. أما المليشيات الشيعية الأخرى، فمهما كان نفوذها العراقي وحجم عددها وتسلحها، فهي في المحصلة النهائية غير قادرة على الزوغان الفعلي عن إرادة أو مصالح إيران في العراق، وتُجبر بهذا القدر أو ذاك على التعاون مع المليشيات العراقية-الإيرانية، ولاسيما الرئيسية منها، ولاسيما فيلق بدر بقيادة هادي العامري، وعصائب الحق بقيادة قيس الخزعلي، وكتائب حزب الله بقياد جعفر الغانمي.. الخ.
جميع هذه المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة تعمل تحت عباءة الحشد الشعبي، وقادتها هم قادة الحشد الشعبي ورئيس الحشد الشعبي المباشر هو فالح فياض، الخاضع بالتمام والكمال لإرادة قاسم سليماني. ورغم الحديث عن استقلالية "سرايا السلام" فهي أيضاَ ضمن الحشد الشعبي، وبالتالي فاستقلاليتها نسبية، وهي تخضع من حيث المبدأ لقرارات رئيس الحشد الشعبي فالح فياض، مع إنها من حيث الواقع العملي تحت قيادة السيد مقتدى الصدر. جميع هذه الميليشيات تمتلك جزئين، جزء ضمن الحشد الشعبي، وجزء أخر إطار الحشد الشعبي، وأحدهما يستكمل الآخر.         
حين نكل رئيس الوزراء العراقي الأسبق بالجيش العراقي من خلال فرض الهزيمة عليه دون إبداء أي مقاومة أو خوض المعارك ضد عصبات داعش الإجرامية التي اجتاحت الموصل وعموم نينوى في حزيران من عام 2014، وسيطرت على كل ما يملكه الجيش العراقي في نينوى من سلاح وعتاد وعربات وأموال، ومارست الإبادة الجماعية والتشريد والسبي والاغتصاب والقتل على شعب نينوى، ولاسيما الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، إضافة إلى معاناة الكثير من المسلمين العرب السنة، وحين أصبح العراق كله مهدداً، دعت المرجعية الدينية الشيعية في النجف إلى الجهاد الكفائي، فتطوع الناس واستطاعت الميليشيات المسلحة المنظمة احتواء المتطوعين وتشكيل الحشد الشعبي منهم ومن تطوع من خارجهم، وأصبحوا القوة الثانية في العراق بعد الجيش، ثم حولهم العبادي إلى قوة عسكرية رسمية تحت قيادة الدولة وجزء من القوات العسكرية العراقية، ولكنها حافظت على استقلاليتها عن الدولة والحكومة ورئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة عملياً، وأصبحت جيشاً داخل جيش يتحرك بأوامر من قادته العراقيين وبأوامر قاسم سليماني. إذا كان الكثير من المتطوعين أو حتى جماعات منه في الحشد الشعبي قد ساهموا فعلاً في عملية تحرير الموصل واستشهد الكثير منهم، فأن المؤسسة لها إرادة وأهدافاً ومصالح أخرى لا تلتقي بأي حال وفي وضعها الحالي مع إرادة وأهداف ومصالح الشعب العراقي. والكثير من العراقيين الذين يؤمنون بهذه الحقيقة يخشون الحديث عنها لأن مصيرهم مصير من ينتقد إيران، كما حصل للأديب والروائي العراقي الشهيد الدكتور علاء المشذوب لأنه انتقد الخميني حيث وجهة له ثلاث عشر رصاصة لترديه قتيلاً وجسدت الحقد والكراهية والعدوانية الغاشمة للقتلة ومن أرسلهم لقتله، أو حتى اعتقال رئيس "لواء أبا الفضل العباس" أوس الخفاجي، وميليشيته التي هي جزء من الحشد الشعبي، وموالية لإيران أيضاً، لأنه أشار بكلمة قصيرة إلى إن إيران وراء اغتيال المشذوب. وبعد اعتقال الخفاجي صدر بيان عن أجهزة الأمن العراقية تؤكد بعدم علمها عن سبب اعتقال الحشد الشعبي للخفاجي. أي إن قرار الاعتقال صدر عن الحشد الشعبي وقائده فالح الفياض، الذي هو في الوقت نفسه مستشار الأمن القومي في العراق، دون علم أجهزة الدولة العسكرية، ومنها الأمن العراقي. وهذا الرجل يراد له أن يكون وزيراً لداخلية العراق لتصبح إيران السيدة بلا منازع في العراق، وأكثر مما هي عليه الآن. لقد كان من واجب المرجعية الدينية الشيعية أن تؤكد انتهاء الجهاد الكفائي بعد تحرير نينوى ومناطق أخرى من اعراق من عصابات داعش الإجرامية وتؤكد ضرورة حل الحش الشعبي. 
على وفق التقاليد الشيعية المؤمنة بولاية الفقيه، فأن المقُلِد يخضع لفتوى ولي الفقيه دينياً وسياسياً، وبالتالي فأن جميع الميليشيات الموجودة في العراق والمؤمنة بولاية الفقيه تخضع للقرارات والتوجيهات السياسية والفتاوى الدينية لولي الفقه الحالي في إيران، للسيد الخامنئي. وبالتالي فأن قرارات المرجعيات الشيعية العراقية أولاً، وقرارات الحكومة العراقية ثانياً، لا تعتبر بأي حال ملزمة لتلك الميليشيات، ولا قيمة دينية لها، بل الملزم لها ما يقرره خامنئي وعبره قاسم سليماني ممثله السياسي والعسكري في العراق. وهنا تبرز أكبر مشكلة إزاء الدولة العراقية ومن يحكم العراق. ولا تبرز مثل هذه المشكلة حين يكون الحاكم هو الآخر من المؤمنين بولاية الفقيه، وحين يكون خامنئي هو سيده وولي أمرهِ، ولكنها في الحالتين هي أكبر مشكلة تواجه الشعب العراقي كله وتواجه استقلال وسيادة العراق ومستقبله.
دعونا نورد مثالاً احتمالياً واحداً قريباً من الواقع الجاري والقادم من الأيام: لو استوجب الأمر بقاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق لمواجهة بقايا داعش ومن يماثلهم في العراق، على وفق الاتفاقيات الأمنية وملحقاتها المبرمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، ولكن هذا الوجود يخالف موقف خامنئي الذي ينعكس على موقف الميليشيات الشيعية المسلحة المطالبة برحيل القوات الأمريكية والتي تريد إصدار قرار في مجلس النواب بشأنه. فكيف سيكون موقف الحكومة العراقية وكيف ستواجه الحشد الشعبي بقياداته الميليشياوية، خاصة إذا ما اتخذت هذه المليشيات قرار المقاومة العسكرية للوجود الأمريكي في العراق؟
وكيف سيكون الموقف من الوجود الإيراني العسكري والسياسي الكثيف غير المبرم باتفاقيات عسكرية وغير الرسمي في العراق؟ إنه القنبلة الموقوتة التي ستنفجر في أي لحظة، والتي ستقود إلى حرب أمريكية-إيرانية على أرض العراق، وستكون أعنف وأشد من الحرب الجارية منذ ثماني سنوات في سوريا. إلا إنها يمكن أن تجر لها أطرافاً أخرى في الشرق الأوسط.
إن الموقف المناسب والسليم للعراق وشعبه ومستقبل أجياله واستقلال قراراته وسيادته الوطنية وفي كل الأحوال هو حل الميلشيات الشيعية وسحب ما هو موجود منها في سوريا ونزع سلاح جميع أفراد هذه الميليشيات المنتمية للحشد الشعبي. وبتعبير أدق لا بد من قرار حل الحشد الشعبي وجعل العراق دولة واحدة بدون دولة عميقة موجهَة، وجيش عراقي واحد بدون حشد شعبي عميق وموجَه، الذي تديره الميليشيات الشيعية المسلحة والمهيمنة عملياً على محافظات القطر في الوسط والجنوب وبغداد، والمتحكمة في مجلس النواب من خلال أحزاب تلك الميليشيات المسلحة. والمشكلة المركزية في العراق تكمن في الحكم الطائفي ذاته الذي أوجد الميليشيات المسلحة ويراها ضمانة لاستمرار حكم الإسلام السياسي البائس والمتخلف في العراق، والذي أسقط العراق في مستنقع الفساد والإرهاب والفاقة الشعبية وغياب التنمية الاقتصادية الإنتاجية وسيادة متفاقمة للطابع الريعي للاقتصاد، رغم إمكانيات العراق على تغيير هذا الوضع لو كان في حكم البلاد من هم يستمعون بأذن صاغية لإرادة الشعب وحاجاته وتطلعاته الفعلية. لو، وكما كان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري يردد بين الحين والآخر: (آه من هذه الـ "لو" ما ألعنها!).     
           

158
كاظم حبيب
من أجل تضامن شعوب العالم مع انتفاضة شعب السودان
منذ نهاية عام 2018 يتصاعد غضب ونضال الشعب السوداني السلمي، وبإصرار الأحرار وعزم المناضلين، ضد دكتاتورية نظام الإسلام السياسي المتطرف وضد الدكتاتور الأهوج عمر البشير. وقد قدم هذا الشعب الأبي حتى الآن الكثير من الشهداء الأوفياء لشعبهم وحقوقه الأساسية ومصالحه وإرادته، كما زُج في المعتقلات الكثير من المناضلين الذين صمدوا بوجه الطغيان والأساليب الفاشية المستخدمة في معاقبة المعتقلين والمتظاهرين وأبناء وبنات الشعب. وتشير آخر الأخبار في أم درمان وبقية المدن السودانية إلى تزايد عدد المشاركين في هذه المظاهرات ودخول النساء إلى المعركة الوطنية والديمقراطية ضد الدكتاتورية وخيانة قضايا الشعب والفساد المستشري من جهة، وتفاقم الأساليب العدوانية التي تمارسها الطغمة الحاكمة وأجهزتها الأمنية ضد المتظاهرين والمتظاهرات. فقد جاء في أحد التقارير بهذا الصدد ما يلي: "وانتقلت التظاهرات بعد تفريقها إلى شارع الدكاترة، أشهر شوارع مدينة أم درمان ثم إلى منطقة السوق، وردد المتظاهرون هتافات بسقوط النظام. كما شنت قوات الأمن حملة اعتقالات في صفوف المحتجين. وجاءت احتجاجات اليوم بعدما تجمّع المئات، بناء على دعوة من تجمع المهنيين السودانيين وأحزاب معارضة، للتضامن مع المعتقلات اللواتي احتُجزن بسبب الاحتجاجات وتم إيداعهن في سجن النساء بأم درمان. ويشارك العنصر النسائي بشكل واضح في الاحتجاجات منذ اندلاعها." (راجع: عبد الحميد عوض، السودان: تجدد الاحتجاجات في أم درمان تضامناً مع المعتقلات، الخرطوم، موقع أخبار السودان، 10/02/2019). وفي مقابل تزايد الاحتجاجات وشمولها موظفين في أجهزة الدولة تضامنت مع المحتجين هدد مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني الفريق صلاح عبد الله قوش بقوله: " أن كافة القوات النظامية مصطفة تماما وراء الشرعية، وأن السبيل الوحيد للتغيير هو صناديق الاقتراع، وأنهم لن يسمحوا بانزلاق السودان الى الفوضى،" .. وأنّ ”المحسوبية مرفوضة ولا تهاون خلال المرحلة القادمة، في التعامل مع المتقاعسين أيًا كانت صفاتهم ومواقعهم في جسم الدولة“. راجع: مدير المخابرات السودانية: لن نسمح بانزلاق البلاد إلى الفوضى، موقع أرم، 11/02/2019).
لا شك في أن هذا النضال الوطني والديمقراطي سيستمر طالما بقي البشير وقادة حزب المؤتمر الوطني الفاسدين على رأس السلطة واستمرارهم في ممارسة النهج ذاته منذ أن تسلم هذا الدكتاتور ورهطه الحكم بانقلاب عسكري دموي والاستيلاء على الدولة بسلطاتها الثلاث بصورة غير شرعية في العام 1989. ويتطلب تحقيق النصر المزيد من التعاون والتضامن ووحدة موقف جميع القوى الديمقراطية المناضلة ضد النظام الدكتاتوري ومن أجل إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية في السودان، وبعيدا عن الأحزاب الإسلامية السياسية التي حكمت السودان بالحديد والنار طيلة ثلاثة عقود منصرمة (1989-2019). ولم يحصد الشعب السوداني طوال هذه العقود العجاف سوى البؤس والفاقة والحرمان، سوى الاعتقال والتعذيب والمزيد من الفساد والإرهاب ضد الشعب وقوى المعارضة.
إن تحقيق وحدة نضال القوى الوطنية والديمقراطية للشعب السوداني في هذه المرحلة النضالية الحاسمة ستجلب إليها المزيد من الناس المتضررين من وجود هذا النظام، بمن فيهم الكثير من صغار ومتوسطي الموظفين والمستخدمين، إضافة إلى العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين وأجزاء جديدة من مثقفي البلاد. إنها معركة قاسية، ولكنها نبيلة، وستنتصر الانتفاضة بإرادة الشعب وتضامن الشعوب العربية والأفريقية والآسيوية والرأي العام العالمي.   
إن نداءات التضامن قد انطلقت في بلدان عديدة مع شعب السودان ولا بد من توسيع هذا التضامن وتعميمه في أرجاء العالم. فعلى سبيل المثال لا الحصر دعت اللجنة المحلية للمثقفين للحزب الشيوعي العراقي إلى اجتماع تضامني مع الشعوب السوداني الذي عقد يوم أمس 10/02/2019 في بغداد. وجاء في النداء الصادر عن الاجتماع ما يلي: " نعلن التضامن مع الشعب السوداني وانتفاضته الباسلة، التي تتصاعد منذ انطلاقتها في 19 كانون الاول 2018، ضد طغمة البشير الدكتاتورية التي تحكم البلاد بالحديد والنار منذ 30 عاماً، وتواصل أجهزتها الأمنية وميليشياتها قمع الاحتجاجات السلمية بإطلاق العنان لأجهزتها الأمنية باستخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين والتعذيب الوحشي للمعتقلين، ما أدى الى استشهاد أكثر من 50 مواطناً".
إن من واجب المثقفين في أرجاء العالم أن يرفعوا راية التضامن النضالي مع الشعب السوداني في انتفاضته الشجاعة عالياً وأن يمارسوا اشتى الأساليب السلمية الممكنة للاحتجاج على هذا النظام وأساليبه الدموية في مواجهة المنتفضين والتنديد الحازم بالدكتاتور عمر البشير وطغمته الجائرة، وأن يدعموا المطالبة بإسقاط الدكتاتورية وإقامة الدولة الديمقراطية والحياة الدستورية وممارسة حقوق الإنسان في السودان.
 



   





159
كاظم حبيب
هل يمكن لسلطات دولة فاسدة محاربة الفاسدين والمفسدين؟
"اتسع الخرق على الراتق"
حكمة قديمة
سؤال عادل ومشروع يدور على بال كل إنسان في العراق: هل يمكن لسلطات دولة فاسدة كالعراق، حيث تحتل المرتبة 169 في الفساد من بين 180 دولة في العالم في العام 2017 ولم يتحسن الوضع في العام 2018 بل تفاقم، أن تحارب الفساد وتكافح الفاسدين، وتُطهر العراق من رجسهم وشرورهم وعواقب الرجس والشرور؟ وسبب عدالة ومشروعية هذا السؤال يكمن في حقيقة أن الفساد لم يعد ظواهر متفرقة يمارسها هذا الموظف الكبير، أو هذا المصرفي أو التاجر أو القاضي أو ذاك، بل أصبح الفساد المالي والإداري، ومنذ أن تم احتلال العراق في العام 2003 بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية والحاكم المستبد بأمره باول بريمر وبأوامر من إدارة جورج دبليو بوش أولاً، ومنذ أن سَلَّمت سلطة الاحتلال الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث بيد الأحزاب الإسلامية السياسية العراقية ومن تعاون معها ثانياً، نظاماً متكاملاً وفاعلاً وحاكماً في سلطات الدولة الثلاث وأجهزتها المدنية والعسكرية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي المجتمع. إن هذا الواقع الفاسد لا يعني إن النظام البعثي قبل ذاك لم يكن فاسداً، بل كان الفساد يمارس من قبل قيادة البعث الحزبية ومجلس قيادة الثورة مع حفنة من الأعوان ومن يرغب النظام مشاركتهم في الفساد، ولكنه كان يعاقب من يمارس الفساد دون علمه أو خارج إرادته. وكان العقاب يمس الغالبية العظمى من الشعب، إلا في سنوات الحصار الاقتصادي الذي اجبر الكثير من البشر على ذلك بسبب العوز. ولكن ما حصل في العراق يختلف تماماً. فالاحتلال أفسد الحكام الجدد بالرواتب والمخصصات ووضع ميزانية الدولة بيد الفاسدين والمفسدين، ونشأت فئة اجتماعية رثة فاسدة من حيث السلوك السياسي والمالي والاجتماعي. مثل هذا الواقع الفاسد لا يعني أيضاً عدم وجود مجموعة من الأفراد تتميز بنظافة اليد والعفة، ولكن هذه المجموعة لا تشكل سوى قلة قليلة، إذ من طبيعة النظام الفاسد أن يدفع بأفراد المجتمع بكل السبل المتوفرة إلى ممارسة الفساد، إذ بذلك فقط يمكنهم مواصلة فسادهم واستمرار قهرهم للمجتمع، وإلا لما كان لأبطال هذا النظام الفاسدين مكاناً لهم في العراق.
لا يمكن أن يعيش الفاسد طويلاً في بلد تسود فيه الحريات العامة والحياة الديمقراطية، إذ سرعان ما يُكتشف الفاسد وتنشر فضيحته ويحاكم. ولكن الفساد ينمو كالفطريات ويتعاظم عدد الفاسدين في ظل الجهل والأمية وانتشار الخرافة ودور شيوخ الدين المسلمين المزيفين منهم، أو الساكتين عن الفساد، أو الذين يعيشون على صدقات كفارة الفاسدين التي يدفعونها لغسل فسادهم، أو كما يعترف الفاسد أمام الكاهن خلف ستار في الكنيسة مثلاً. ففي الدول المتقدمة تحصل حوادث فساد غير قليلة، ولكن سرعان ما تفضح عبر وسائل الإعلام وعبر صحفيين نزيهين لا يخشون القتل على أيدي الفاسدين الذين تم فضحهم، كما يحصل في بلد كالعراق، حيث جرى اغتيال الكثير من الناس الأوفياء لوطنهم وشعبهم بسبب فضحهم للفاسدين في مقالات أو تقارير نشرت لهم، كما حصل للمغدور الدكتور علاء المشذوب وغيره، أو كما يقال عن تسميم الدكتور أحمد الجلبي الذي قام بنشر تقارير عن فساد هائل لمئات المليارات حصلت في فترة حكم المستبد بأمره نوري المالكي على سبيل المثال لا الحصر، رغم إن الرجل كان جزءاً من النظام السياسي الطائفي القائم.
لقد ادعى وتعهد حيدر العبادي على مكافحة الفساد، ثم صرح بأن مكافحة الفساد أخطر من محاربة الإرهاب، وجُبن أمام الفاسدين من قادة حزبه والأحزاب الإسلامية الأخرى أو من المشاركين معه في الحكم. وحين جاء نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء عام 2006 أدعى بصوت عال إنه مصمم على محاربة الفساد والإرهاب. ولكن كلا الظاهرتين انتعشتا في فترة حكمه وبجهوده الخاصة في رعاية الفاسدين وحمايتهم وأصبحتا سائدتين وتحول الفساد إلى نظام فاسد بالكامل واشتمل على مئات المليارات من الدولارات الأمريكية، ثم أعلن قبل تنحيته عن الحكم ما يلي: "بحوزتي ملفات سأضعها بيد القضاء لثمان سنوات التي كنت فيها رئيساً للوزراء وسأعلنها امام المحاكم وأجرَّ مرتكبيها من سادة ومشايخ وأبناء مراجع ومسؤولين شيعة وسنة الى المحاكم ليأخذوا جزائهم العادل"، وتعهد امام الحضور "انا ابن الشهيد الاول الشهيد الصدر لا اخاف والله معي والادلة معي بإذن الله تعالى". (راجع: المالكي يهدد بكشف ملفات فساد ثمانية اعوام لمسؤولين كبار وابناء مراجع، سومرنيوز، 20 أغسطس 2015".
ولكن ماذا حصل؟ اختفت ملفات الفساد، فلو كان قد أعلن عنها لصدر الحكم عليه بالفساد وحماية الفاسدين طيلة سنوات حكمه. لم يعلن عنها ولم يخش الله بل خشي من الفاسدين من أمثاله، وبالتالي وفي كل الأحوال فالساكت عن الفساد والفاسدين فاسداً ومشاركاً في جرائم الفساد التي احتوتها تلك الملفات التي لم يعلن عنها والتي عانى ولا يزال شعب العراق يعاني منها حتى الآن.         
لعبت المليشيات الطائفية المسلحة التابعة للأحزاب الإسلامية السياسية دون استثناء دوراً كبيراً في نشر الفساد والإرهاب في العراق بممارساتها اليومية في ابتزاز الجماهير الواسعة وفي اختطاف الناس وفرض دفع فدية بألاف الدولارات الأمريكية، وفي تعذيب معتقليهم وقتلهم أو نقلهم إلى إيران. وغالباً ما كانت عائلة الضحايا يدفعون الفدية، ولكن الكثير من الضحايا قُتل تحت التعذيب.
الفساد لم يشمل خزينة الدولة وأموال الشعب فحسب، بل تفاقم ليشمل أعضاء في جسم الإنسان، ولاسيما أعضاء أبناء وبنات العائلات الفقيرة والمعوزة، وأعضاء الأطفال والصبيان والصبايا المشردين، وهي جريمة بشعة ترتكب باستمرار بحق أبناء وبنات العراق. والفساد يبرز أيضاً في العراق في عبور مئات الأطنان من المخدرات عبر النقاط الحدودية بين إيران والعراق، سواء تلك القادمة من إيران أو عبرها من أفغانستان، وعبر مافيا منظمة تنظيماً جيدا ومرتبطة بمافيات إقليمية ودولية في هذا المجال وبشخصيات نافذة في الحكم، منها ما يبقى في العراق، ومنها ما يمرر إلى دول الخليج أو إلى سوريا فلبنان أو عبر الأردن ...الخ.
الفساد ضارب أطنابه في العقود التجارية ولاسيما تجارة السلاح، وفي مجال العقار ودور سكن عناصر حزب البعث والحكم البعثي والكثير من الدور الحكومية الأخرى التي استولى عليها حكام العراق الجدد دون وجه حق بعد سقوط دكتاتورية البعث وبدعم من إدارة الاحتلال لرشوتهم وإخضاعهم لإرادتها وقراراتها. ويمكن لكل عراقي أن يتابع مثل هذه القضايا في حي الخضراء وفي الكرادة الشرقية والجادرية وغيرها في بغداد أو في المدن العراقية الأخرى، وصحف العراق والصحف العالمية والكثير من المواقع مليئة بأخبار صادقة وصحيحة عن هذه السرقات والاستيلاءات المكشوفة. مثل هذه القوى المهيمنة على حكم العراق والمتهمة بالفساد والكثير من الموبقات، لا يمكنها بأي حال محاربة الفساد والقضاء على الموبقات، فهي بذلك تحارب نفسها.
أدرك العراقيون والعراقيات إن من يشكل لجاناً للتحقيق يريد قتل التحقيق وإفشال اكتشاف الجريمة ومن قام بها، بعد أن عاشوا تشكيل مئات اللجان للكشف عن جرائم القتل أو الاختطاف أو الفساد، ولم تكتشف أي حالة حتى الآن، وما اكتشف عبر هروب هذا الوزير أو ذاك الموظف، كما حصل مع السوداني، فأنه سرعان ما يعفى عنه لأنه سكت عنم الفاسدين معه ولم يكشف عنهم. بدأ عادل عبد المهدي بتشكيل مجلس ولديه الكثير من اللجان، وفي مقدمتها هيئة النزاهة، ولكنه يريد أن يشغل الناس بها ويضع على رأسها من نفس القوى الفاسدة، فكيف يمكن محاربة الفساد في مثل هذه الحالة.
لا يمكن محاربة الفساد في العراق إلا من خلال انتفاضة سلمية للشعب ضد الفساد، ضد الحكام الحاليين، القيام بعصيان مدني، إذ بدون ذلك ستتولى المليشيات الطائفية المسلحة وقواها في الحشد الشعبي على حماية النظام الطائفي الفاسد القائم والدفاع عن الفساد والفاسدين. إن التصور بأن عادل عبد المهدي سيحارب الفساد، كمن يعيش سراباً، كالتائه في البيداء يرى السراب وكأنه ماءً يمكن أن يرويه فيركض نحوه ولن يجد غير السراب، فيموت عطشا!!! أيها الناس لقد اتسع الخرق على الراتق، لاسيما وإن "الراتق المنقذ!" قد ساهم في الخرق وتوسيعه.

160
كاظم حبيب
العوامل الكامنة وراء نجاح انقلاب شباط/فبراير 1963 في العراق - في الذكرى السنوية 56 لانقلاب البعث الدموي-

 شكل حزب البعث العربي الاشتراكي الهيكل الرئيسي والعقل المدبر والمنفذ الفعلي لانقلاب الثامن من شباط/فبراير 1963 1، في حين لعبت القوى القومية الأخرى، وخاصة في الجيش، الدور المساند والداعم له مثل عبد السلام محمد عارف وعبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد وعارف عبد الرزاق وعبد الهادي الراوي، إضافة إلى مشاركة بعض المؤمنين المتدينين من الضباط المسلمين المتشددين من أمثال عبد الغني الراوي وغيره، في عملية التنفيذ وليس في التحضير للانقلاب2، وكانت المجموعة الأخيرة ترتبط بالجناح القومي الناصري من الحركة السياسية العراقية، في حين كان العقيد الركن عبد الغني الراوي يرتبط بشكل أقوى وأوضح بالتيار السياسي والديني للملكة العربية السعودية، وإن كان يعمل تحت خيمة التيار القومي الناصري بجناحه اليميني. لقد بني هذا التعاون السياسي في فترة الانقلاب في ضوء التحالف القديم الذي نشأ في العام 1959 بين القوى القومية بمختلف أجنحتها والقوى البعثية، والذي أطلق عليه في حينها بـ "التجمع القومي" رغم انفضاض عقده بعد سقوط الوحدة المصرية السورية وانسحاب سوريا من تلك الوحدة الشكلية في أعقاب انقلاب 1962، وكذلك التحالف السياسي المباشر المناهض لحكم عبد الكريم قاسم بين قوى البعث والقوى الكُردية. أما التحالف بين القوى القومية والقوى الإسلامية السياسية، شيعية كانت أم سنية، فقد كان تحالفاً عملياً تحقق على الأرض وفي الشارع وفي الموقف العام من حكم وسياسات قاسم الوطنية وقانون الأحوال الشخصية، رغم الفجوة التي كانت قائمة بين فكر وممارسات حزب البعث وبين قوى الإسلام السياسي الشيعية. وإذا كانت قوى الإسلام السياسي الشيعية قلقة من موقفها المناهض لقاسم، بسبب أن غالبية أتباع المذهب الشيعي كانت تميل إلى جانب عبد الكريم قاسم، في حين أن نسبة غير قليلة من أتباع المذهب السني كانت ضد قاسم.
كانت القيادة الفعلية للانقلاب محصورة بيد النواة الصلبة المكونة لقيادة حزب البعث والتي تمثلت قبل انقلاب شباط بالثلاثي على صالح السعدي، أمين سر القيادة القطرية حينذاك، وحازم جواد وطالب شبيب، وكلاهما كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث، وكلهم من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم حينذاك عن الثلاثين عاماً، إضافة إلى كل من أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف ومنذر الوندواي، وهم من أعضاء المكتب العسكري لحزب البعث، وكذلك قيادة فرع بغداد، التي كان حازم جواد مسؤولاً عنها 2. وكانت هذه المجموعة الصغيرة تدير نشاط القيادة القطرية والمكتب العسكري لحزب البعث في آن واحد وتخطط للانقلاب. وكان المكتب العسكري لحزب البعث مسؤولاً عن تنظيم وتأمين العلاقة مع الضباط المرتبطين بحزب البعث أو المساندين لحركة الانقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم وتوزيع المهمات على المشاركين في الانقلاب. لم يكن للانقلابيين عدد كبير من الضباط المساندين لحركتهم بقدر ما كان للشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين من الضباط وضباط الصف والجنود. ومع ذلك نجح الانقلاب البعثي وأطيح بحكم قاسم واستولى البعثيون على السلطة السياسية. والسؤال المشروع الذي يفرض نفسه في هذا المجال هو: لِمَ انتصر الانقلابيون وفشل قاسم في الاحتفاظ بالحكم؟
ويبدو لي مفيداً بلورة الإجابة عن هذا السؤال بنقاط محددة لإدراك عمق المشكلات التي اقترنت بعملية الإطاحة بحكم الفريق الركن عبد الكريم قاسم. إذ يفترض أن نتابع حركة القوى المتصارعة حينذاك، أي كيف كانت تعمل القوى التي تساند وتقف بمستويات مختلفة إلى جانب قاسم، وكيف كانت تعمل القوى المضادة لحكم عبد الكريم قاسم؟ وبصدد الجزء الأول من هذا السؤال يمكن بلورة الجواب بالنقاط التالية:
* هيمنت فردية قاسم على علاقته مع القوى الأخرى وسيطرة القناعة لديه بأنه الحاكم المعبود من الشعب والقادر على قهر كل المتآمرين، وهي صيحة أقرب ما تكون إلى "دار السيد مأمونة" التي أطلقها نوري السعيد حينذاك وقبل إسقاط نظامه الملكي، رغم الفارق بين الشخصيتين وأهدافهما. لم تساعد السمة الفردية والغرور، رغم تواضعه الشخصي قبل ذاك، على الاستعانة بالآخرين لمساعدته في التعرف على الواقع السياسي في البلاد. ورغم معرفته باحتمال حصول انقلاب واعتقال بعض البعثيين، إلا أنه لم يستطع إدراك عمق الأزمة التي كان يعيشها نظامه السياسي خصوصاً والعراق كله عموماً في آن، واستصغر وسخر من القوى المناهضة له وبإمكانياتها. ولهذا لم يتخذ وينفذ مجموعة كبيرة من الإجراءات التي كانت ضرورية والتي كان في مقدورها وضع حد أو إعاقة وقوع الانقلاب أو إفشاله عند وقوعه. والجدير بالإشارة إلى أن عبد الكريم قاسم لم يأمر أو يمارس التعذيب ضد المعتقلين من البعثيين قبل الانقلاب بأيام، للحصول على أسرار الانقلاب، وهو أمر يحسب لصالح قائد ثورة تموز 3. لقد كان قاسم فرداً مستبداً برأيه في تعامله مع الأحداث والواقع العراقي ومع آراء الآخرين الذين نصحوه وحذروه من النشاط التآمري ضده، ولكنه لم يفرض نظاماً دكتاتورياً مطلقاً في البلاد.
* الحرب المجنونة التي فجرها عبد الكريم قاسم ضد الشعب الكُردي والتي استنزفت الكثير من قواه الداخلية والعسكرية وتسببت في زيادة المعارضين وللحرب في كردستان بنسبة عالية. حيث هيمن شعار "السلم في كردستان"، إذ طالبت أغلب القوى السياسية العراقية من قاسم إيقاف القتل وحل المسألة الكُردية بالطرق السلمية وعبر التفاوض المباشر.
* كما أن سياسته غير العقلانية إزاء الكويت ودعوته إلى إلحاقها بالعراق وادعاء عائديتها للعراق وسعيه الفعلي لاستعادتها بالطرق العسكرية، ثد ساهمت في تنشيط كل القوى الدولية، ولاسيما بريطانيا، في تشديد العمل ضد حكومة قاسم.
* وفيما عدا عن ذلك فأن الثقة العالية التي كانت لدى قاسم بنفسه أولاً، وبأن الشعب سيدافع عنه في اللحظة المناسبة ثانياً، ورغبته في تجنب أي حرب أهليه ثالثاً، ساهمت كلها في نجاح الانقلابيين في إسقاط حكم عبد الكريم قاسم. إذ أنه حتى اللحظة الأخيرة رفض إعطاء السلاح للمدافعين عنه خشية وقوع حرب أهلية، خاصة وأنه كان يعتقد جازماً بأن المجتمع منقسم على نفسه بين مؤيد للشيوعيين ومعارض للبعث أو العكس، وبالتالي فأن الحرب ستكون شرسة والضحايا كبيرة.
* ارتفاع مستوى الشك في الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يدعم عبد الكريم قاسم أكثر من أي قوة سياسية أخرى في البلاد، رغم اختلاف الحزب معه في جانبين، في سياسته الفردية ونزوعه إلى الهيمنة وابتعاده الفعلي عن الممارسات الديمقراطية من جهة، وحربه ضد الشعب الكُردي التي كانت تستنزف قوى البلاد من جهة أخرى. ونشأ هذا الشك عن أسباب عدة، وهي:
   - المعلومات التي بلغت قاسم عن نية بعض الضباط الشيوعيين بتنظيم انقلاب ضده، رغم أنه كان يعرف بأن قيادة الحزب الشيوعي رفضت هذا المقترح، وأنها تسانده، ولكنها تسعى إلى تغيير نهجه السياسي وإجراءاته الفردية. ومع ذلك بقي الشك لديه بالحزب الشيوعي كبيراً ومتفاقماً.
    - تكرار قيام قيادة الحزب الشيوعي العراقي إبلاغ عبد الكريم قاسم عن مواعيد كانت قد وصلتها وتشير إلى احتمال تنفيذ عملية انقلاب ضده من جانب البعثيين والقوميين، كما أصدر الحزب الشيوعي العديد من البيانات والتحذيرات من احتمال وقوع انقلاب وشيك، وكان آخرها في 25/1/1963 5، أي قبل 13 يوماً من وقوع الانقلاب الناجح. ويبدو أن تلك المواعيد التي لم تكن كاذبة، كانت تلغى من قبل المخططين لها وتؤجل لموعد أخر. فارتفع الشك لدى قاسم بأن الشيوعيين يريدون التشويش على علاقته بالبعث والقوى القومية وأنهم يريدون أثارته ضدهم، حتى بلغ به الأمر دعوة القوميين إلى ترشيح ثلاث شخصيات جديدة لتدخل الوزارة ممثلة عنهم، وتم ذلك عبر محمد صديق شنشل، رغم أن البعثيين رفضوا ذلك. ومع أن قاسم قد اعتقل بعض قادة البعثيين، إلا أنه لم يمس القيادة الفعلية بشكل كامل ليتسنى له شل الحركة الانقلابية ومنع تنفيذ المخطط المرسوم. 
    - وقوف الحزب الشيوعي إلى جانب شعار "الديمقراطية للعراق والسلم لكُردستان" أغاظ عبد الكريم قاسم ودفعه إلى ممارسة إجراءات جديدة ضد الحزب الشيوعي وزج المزيد من كوادر وأعضاء الحزب بالسجن وإصدار جملة أحكام ثقيلة ضدهم.
* أدى هذا الشك بالحزب الشيوعي إلى اتخاذ قاسم مجموعة من الإجراءات ضد الشيوعيين، وأهمها:
- فصل الكثير من الضباط الشيوعيين من القوات العسكرية أو إحالتهم على التقاعد أو نقلهم إلى مراكز بعيدة أو غير فعالة.
   - الكف عن التحاور معهم أو استشارتهم أو استشارة المقربين منهم إليه.
   - شن حملة واسعة ضد الشيوعيين من قبل أجهزة الأمن والاستخبارات قادت إلى ارتفاع مستوى المناهضة الفعلية لعبد الكريم قاسم في القاعدة الحزبية للشيوعيين ولدى الكادر الوسط.
* غياب أي شكل من أشكال التعاون الفعلي المنشود بين القوى السياسية العراقية من جهة، وحكومة عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، لمواجهة أي محاولة انقلابية محتملة، وغياب الاستعداد الفعلي لمواجهة أي انقلاب محتمل. وكل المؤشرات تؤكد وجود صراعات وخلافات في المعسكر المساند لقاسم بسبب الاختلاف في المواقف حول سياساته ومواقفه إزاء الديمقراطية والحياة الدستورية والحرب في كُردستان والموقف من الكويت ... الخ.
* عدم وجود أسرار في معسكر عبد الكريم قاسم يمكن أن تبقى خافية على الانقلابيين بسبب وجودهم المنتشر في أجهزة الأمن والاستخبارات وفي وزارة الدفاع أيضاً.
* وجدير بالإشارة إلى أن عبد الكريم قاسم لم يكن يعتبر القوى البعثية أو القوى القومية من الناصريين وغيرهم عدوة له، بل كان يعتبرها اتجاهاً فكرياً وسياسياً يختلف معه، ولكن يحق له الحياة والعمل في العراق. ولهذا سكت عن النشاطات التي كان يقوم بها حزب البعث وبقية القوى القومية، رغم إدراكه بأنها موجهة ضده.     
وفي مقابل هذا تمتعت القوى المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم بعدة امتيازات ساعدتها على إسقاط حكم قاسم، نشير إلى أهمها فيما يلي:
- الموقف السياسي المشترك لدى القوى البعثية والقومية الناصرية المعارضة لحكم قاسم المصممة على إسقاط النظام، في مقابل التفكك في مواقف القوى المساندة لقاسم.
- حرية الحركة الواسعة التي تمتعت بها القوى البعثية والقومية وكل القوى المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم، فهو رغم سياسته الفردية وغير الديمقراطية، تساهل مع القوى المناهضة له التي كانت تريد الانقضاض عليه وعلى نظامه على أساس مبدأ "عفا الله عما سلف".
 - حرية العمل في القوات المسلحة لأغلب البعثيين والقوميين الذين استطاعوا بفعل وجود قوى لهم في مواقع المسؤولية تركيز وجودهم العسكري في مناطق حساسة وقريبة من بغداد ومعسكر الرشيد وقادرة على استخدامها لتوجيه الضربة.
- القدرة في الوصول إلى أدق المعلومات عن تحركات عبد الكريم قاسم ومجموعة الضباط المؤيدين له والقوى المعارضة للانقلابيين من خلال جهاز الأمن وجهاز المخابرات ووزارة الدفاع.
- إشاعة الرعب في صفوف الناس من خلال عمليات الاغتيال ضد الوطنيين أو إشاعة الفوضى بتنظيم الإضرابات الطلابية التي بدأت في 24/12/1962 6، أو حول أسعار البنزين قبل ذاك بكثير وما إلى ذلك.
 - التذمر الشعبي من بعض سياسات قاسم التي أبعدت جمهرة من الناس عن الالتفاف حول نظامه، رغم الحب الذي كان يحظى به.
 - التحالف الواسع الداخلي والعربي والإقليمي والدولي الذي تحقق في مناهضة حكم قاسم والسعي لإسقاطه.
لقد كانت الأرضية صالحة جداً لتنفيذ الانقلاب، وكانت القدرة على إيقافه وصدّه محدودة جداً، بسبب عدم تعاون قاسم مع القوى المساندة له وغياب الموقف المشترك.
تميز الانقلاب الذي وقع في الثامن من شباط/فبراير 1963 بالعنف والدموية وروح الانتقام والثأر من قادة وقوى ومساندي الحكم الجمهوري الأول. وإذ عجز عبد الكريم قاسم عن الدفاع عن نفسه واحتمى بوزارة الدفاع التي اعتبرها "عريناً" له، فأن القوى السياسية الأخرى، ومنها قوى الحزب الشيوعي العراقي بشكل خاص، رفضت الاعتراف بهذا الانقلاب والاستسلام للانقلابيين وقررت بناء على قرار قيادة الحزب وسكرتيرها الأول، سلام عادل، مقاومة الانقلاب والسعي لإفشاله، رغم إدراك سلام عادل بأن إمكانية النجاح في المقاومة ضعيفة جداً بعد أن أدرك ومن خلال اتصاله المباشر بقاسم، بأن الأخير غير مستعد لتسليح الجماهير المدافعة عنه وعن الجمهورية الأولى.
وقفت إلى جانب الحزب الشيوعي في مقاومة الانقلاب قوى شعبية واسعة في العديد من أحياء بغداد وفي أنحاء أخرى من العراق، كما في البصرة التي تصدت بإخلاص وقوة للانقلابيين، ولكن دون أن تمتلك السلاح والقدرة الفعلية على المقاومة، فيما عدا البعض الذي كان قد اختزن سلاحه الشخصي أو استطاع الحصول عليه من بعض مراكز الشرطة كما في الكاظمية مثلاً. ليست تفاصيل المقاومة التي نهضت في أنحاء من العراق وفي أحياء كثيرة من بغداد، مثل الكاظمية وحي الأكراد الفيلية أو الكرادة أو المواقع والشوارع القريبة من وزارة الدفاع وباب المعظم وغيرها هي التي تهم الباحث والبحث، إذ كتب عن هذا الموضوع كثيراً، بقدر ما يهم البحث مدى صواب أو خطأ تلك المقاومة، ومدى التحضير لها والتنسيق مع القوى السياسية الأخرى ومع الحكم في ضوء الاختلال في ميزان القوى الذي تحقق بفعل موقف عبد الكريم قاسم الفعلي من موضوع المقاومة وخشيته من اشتعال حرب أهلية.
كل الدلائل تشير إلى ثلاث وقائع مهمة، وهي:
1.   لم يكن هناك أي تنسيق عملي بين القوى التي كانت تساند عبد الكريم قاسم وبين قاسم نفسه، رغم معرفة الجميع بأن الانقلاب قاب قوسين أو أدنى، وأن قاسم قد نبه إلى ذلك واتخذ بعض الإجراءات، سواء أكان باعتقال بعض البعثيين القياديين، أم بنقل بعض الضباط البعثيين والقوميين ومصادرة بعض الأسلحة التي كانت في مخازن خاصة وضعت لصالح الانقلاب من قبل ضباط بعثيين، كما حصل مع الضابط البعثي خالد مكي الهاشمي. 
2.   لم تكن خطة الطوارئ التي وضعت من قبل الحزب الشيوعي لمواجهة الانقلاب كفيلة بضمان مقاومة ناجحة للانقلاب، خاصة وأن الحزب كله لم يكن على وفاق في سياسته مع حكومة قاسم. ولهذا تعثر تنفيذ الخطة ابتداءً من قبل المسؤول العسكري للجنة العسكرية للحزب الشيوعي والمسؤول عن تنفيذ الخطة أصلاً. حتى أن المسؤول عن تنفيذ الخطة قائد القوة الجوية العراقية الشيوعي والشخصية المحبوبة في القوات المسلحة العراقية الزعيم الطيار جلال جعفر الأوقاتي لم يبلَّغ بضرورة مغادرته البيت إذ أن من كان عليه إيصال الخبر له تعطلت سيارته، ولم يعمد إلى أخذ سيارة أجرة لإيصاله إلى دار جلال الأوقاتي الذي قتل على مقربة من داره وهو بصحبة أحد أبنائه الصغار صبيحة يوم الانقلاب 7، كما لم تكن هناك خطة بديلة في حالة تعثر أي من مراحل الخطة لأي سبب كان.
3.   لم يكن الشعب العراقي موحداً في موقفه من حكم عبد الكريم قاسم، خاصة وأن موقف الغالبية الكُردية كانت ضد حكومة قاسم ومتحالفة مع قوى البعث والقوى القومية لإسقاط حكومته، كما أن جمهرة كبيرة من العرب لم تعد تثق بسياسة قاسم غير الديمقراطية. أما القوى الشعبية التي كانت تريد الدفاع عنه فكانت لا تمتلك القيادة السياسية والعسكرية الموحدة والقادرة على منحها التوجيهات والأسلحة لكسب المعركة ضد الانقلابيين.
وعلينا أن نعي مسألة أخرى هي كثرة من الجماهير التي ركضت في مظاهرات انتصار ثورة 14 تموز 1958، يمكن أن تركض وراء كل انقلاب يحصل في البلاد، فهم جزء من المجتمع الهامشي المسحوق الذي كان ينتظر من كل حركة انقلابية الحصول على مكاسب معينة، إذ لا تربطه بالانقلابيين أياً كانوا أي توافق أو تناغم فكري وسياسي بأي حال. وأن هذه الجماهير التي استفادت من الثورة في البداية تعرضت إلى الكثير من المشكلات حيث بدأت الثورة بالتعثر والوضع السياسي بالتراجع. 
إن الدعوة إلى مقاومة الانقلاب استندت لدي قيادة الحزب الشيوعي العراقي إلى عدد من الركائز المهمة، وهي:
1.   القناعة التامة بأن المغامرين الجدد ينفذون سياسة مرتبطة بهذا القدر أو ذاك بالاستعمار البريطاني والشركات النفطية الدولية والولايات المتحدة الأمريكية، وهي بالتالي تشكل جزءاً من مخطط دولي يستهدف المنطقة بأسرها ويقوم على مناهضة حركة التحرر الوطني العربية وفي المنطقة، إضافة إلى كونه موجهاً ضد الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية. ولم تكن الحركة الوطنية العراقية مخطئة حين اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بدعم الانقلاب في العراق وأن الانقلابيين جاءوا بقطار أمريكي، على وفق تصريح علي صالح السعدي في العام 1963، إذ أن السفير الأمريكي الحالي هيل أوضح بتاريخ 19/2/2010 في تصريح واسع له عن أوضاع العراق والانتخابات قوله:
"وأشار بشكل صريح الى انه في الستينيات عندما كانت الولايات المتحدة قلقة جداً من احتمال انتشار الشيوعية إلى العراق، كان البعث يرى باعتباره بديلاً عن الشيوعية، حيث كانت الولايات المتحدة في حقيقة الأمر تفضل البعثية، وكذلك في عملية عام 1968 والتي أدت إلى عودة البعثيين و كانت الولايات المتحدة تفضل ذلك على أن يصبح فيها العراق شيوعياً" 8 .
2.   والقناعة بأن الانقلاب مناهض لمصالح الشعب وحرية الوطن ولا يخدم قضية الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، بل هو ردة رجعية تدفع بالبلاد إلى الوراء وسقوط في الممارسة الشوفينية والرجعية. وقد جاء فيما بعد في حديث شخصي للملك حسين بن طلال مع محمد حسنين هيكل حول انقلاب البعث في العام 1963 قوله:
"تقول لي أن الاستخبارات الأميركية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 1957. أسمح لي أن أقول لك إن ما جرى في العراق في 8 شباط (فبراير) قد حظي بدعم الاستخبارات الأميريكية. ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر ولكني أعرف الحقيقة. لقد عُقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الأميركية، وعقد أهمها في الكويت. أتعرف أن ... محطة إذاعة سرية تبث إلى العـراق كانت تزود يوم 8 شباط (فبراير) رجال الانقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم" 9 . 
3.   وأن التحالف بين الحركة الكُردية وقوى الانقلاب لم يكن سوى هروب الحركة الكُردية إلى أمام من الواقع القائم بأمل الخلاص من حكم عبد الكريم قاسم، ولكن قوى البعث لم تكن مستعدة بأي حال الاستجابة لحقوق الشعب الكُردي، بل كانت تصم الحركة الكردية بـ"أنها حركة استعمارية مشبوهة"، كما جاء في جريدة الاشتراكي التي كان يصدرها حزب البعث قبل سقوط النظام بأسابيع قليلة 10. وفي تشرين الثاني من العام 1962 أصدر حزب البعث بياناً نشر في صحافته تضمن الفقرة التالية بشأن الحركة المسلحة التي كان يقودها ملا مصطفى البارزاني:
"إن الحركة المسلحة في الشمال وموقف عبد الكريم قاسم منها، تفوح منهما رائحة التآمر والتواطؤ مع الاستعمار، فقيادة الحركة المسلحة بماضيها وحاضرها الملطخ بالدماء والمتصف بالاعتداء، ونياتها العدوانية التي أفصحت عنها مراراً وتعصبها الأعمى، يجعلها محلاً للريبة والاتهام. وأن موقف تركيا وإيران عضوي (السنتو) من الحركة، ورعايتهما هذه الحركة وتغذيتها بكل ما تحتاج إليه من مؤن وعتاد، يحول هذا الاتهام إلى يقين وإدانة" 11. وعلينا أن نقدر مدى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الحركة الكردية بقيادة ملا مصطفى البارزاني في تحالفها مع حزب البعث والقوى القومية لإسقاط الجمهورية الأولى والخلاص من عبد الكريم قاسم للحصول على حقوق الشعب من قوى لا تعترف بوجود للشعب الكردي أساساً.
4.   إن القوى البعثية والقومية سوف ترتكب مجازر بشعة بحق قيادة وكوادر وأعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية وضد مؤيدي قاسم أيضاً، إضافة إلى المخاطر التي تتهدد الضباط المختلفين معهم، وبالتالي لا بد من المقاومة لتجاوز المحنة المحتملة الأكثر قسوة، في حالة نجاح الانقلاب.
5.   وكانت قيادة الحزب الشيوعي تعتقد أيضاً بأن الجماهير ستهب دفاعاً عنى النظام الجمهوري وعن مكاسبها، كما أن قاسماً سيمنح الشعب ثقته ويمده بالسلاح والعتاد لمقاومة الانقلاب والذي لم يتحقق.
ومع ذلك فقد تكونت لديَّ القناعة بأن الدعوة للمقاومة جسدت حالة عاطفية لدى سلام عادل وقيادة الحزب، إن كانت قد اتخذت القرار بشكل مشترك، أكثر منها عملية عقلية مدروسة على أرض الواقع. ورغم القناعة المتوفرة أيضاً بأن الانقلابيين حتى لو لم تكن هناك مقاومة مسلحة ضدهم، لقاموا بذات المجازر الدموية التي ارتكبوها ضد حكم عبد الكريم قاسم وضد الناس الذين ساندوه أو حتى الذين اختلفوا معه ورفضوا سياساته. لقد كانت الكراهية والحقد وحب الانتقام والهيمنة الكاملة على السلطة السياسية في أعلى وأقسى وأسوأ صورها لدى حزب البعث.
لقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1963 بياناً علنياً أشار فيه إلى ما يجري في الخفاء لتنفيذ انقلاب بعثي - قومي ضد حكم عبد الكريم قاسم وحذر من العواقب الوخيمة لنجاح مثل هذا الانقلاب. فقد جاء في البيان ما يلي:
"هناك معلومات متوفرة تشير إلى أن الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد ولواء المشاة التاسع عشر أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين والمغامرين الذين يأملون بتحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، وقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض. وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها بعض كبار الجواسيس الأميركيين لبلدنا" 12.
لقد كانت لدى الحزب الشيوعي العراقي معلومات موثوقة بأن حزب البعث والقوى القومية والمتحالفة تستعد لتنفيذ عملية انقلابية ضد نظام الحكم وبلغا قاسم به عبر الكثير ممن كانوا يتصلون به حينذاك، كما أن الأستاذ الراحل محمد حديد هو الآخر قد بلغ عبد الكريم قاسم بوجود مؤامرة تستهدف النظام وشخص عبد الكريم. ولكن قاسماً كان قد فقد الثقة بهؤلاء واعتمد على جواسيس البعث الذين احتلوا مواقع مهمة في أجهزة الأمن العراقية.
وبعد الانقلاب أصدر الحزب الشيوعي بياناً نارياً جاء فيه ما يلي:
" إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية
أيها المواطنون! يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم! أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية والديمقراطية!
قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة يائسة للسيطرة على الحكم، تمهيداً لإرجاع بلادنا إلى قبضة الاستعمار والرجعية فسيطرت على مرسلات الإذاعة في أبي غريب وهي تحاول أن تثير مذبحة بين أبناء جيشنا الباسل لتنفيذ غرضها السافل الدنيء في السيطرة على الحكم.
إن جماهير شعبنا المجاهد حفار قبر المؤامرات، وجماهير جيش 14 تموز حفار قبر الملكية والاستعمار، ينهضان الآن كرجل واحد للدفاع عن استقلال البلاد ولدحر المؤامرة والمتآمرين، أعوان وصنائع الاستعمار والرجعية، والتأهب لرد أية محاولة استعمارية خارجية للتدخل في شؤون البلاد.
إلى الشوارع يا جماهير شعبنا الأبي المجاهد، لكنس بلادنا من الخونة المارقين.
إلى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني وعن مكاسب شعبنا.
إلى تشكيل لجان الدفاع عن الاستقلال الوطني في كل معسكر وكل محلة ومؤسسة وفي
كل قرية.
إلى الأمام.
إلى تطهير الجيوب الرجعية، وسحق أية محاولة استعمارية في أية ثكنة وأية بقعة من بقاع البلاد.
إن الشعب بقيادة القوى الديمقراطية سيلحق العار والهزيمة بهذه المؤامرة السافلة، كما سبق أن سحق بلمحة خاطفة مؤامرة الكيلاني والشواف وغيرها ... إننا نطالب الحكومة بالسلاح.
فإلى الأمام، إلى الشوارع، إلى سحق المؤامرة والمتآمرين.
بغداد في 8 شباط 1963       الحزب الشيوعي العراقي" 13
 
أدى النداء الذي أطلقه الحزب الشيوعي لمقاومة الإرهاب إلى نزول جماهير واسعة من الناس إلى الشوارع في محاولة منها لمواجهة الانقلاب، في وقت كانت لا تمتلك أسلحة تساعدها على مواجهة الانقلابيين. في مقابل هذا عجز عبد الكريم قاسم عن استخدام الإذاعة لبث نداءاته التي كان يريد إيصالها إلى الجمهور والموجهة ضد الانقلابيين وطمأنة الناس بأن هذه الحفنة من الخونة الانقلابيين سينهزمون، إذ كان الانقلابيون قد سيطروا على محطة البث أولاً، ولآن الذين تسلموا البيان لإيصاله إلى دار الإذاعة إما عجزوا عن ذلك أو كانوا متواطئين مع الانقلابيين. تضمن أحد ندائي عبد الكرم قاسم النص التالي:
"من الزعيم عبد الكريم قاسم إلى أبناء الشعب الكرام وإلى أبناء الجيش المظفر، إن أذناب الاستعمار وبعض الخونة والغادرون والمفسدون الذين يحركهم الاستعمار لسحق جمهوريتنا، الذين يحاولون بحركات طائشة النيل من جمهوريتنا ولتقويض كيانها. إن الجمهورية العراقية الخالدة وليدة ثورة 14 تموز الخالدة لا تسحق وأنها تسحق الاستعمار وتسحق كل عميل خائن، نحن نعمل في سبيل الشعب وفي سبيل الفقراء بصورة خاصة. وتقوية كيان البلاد. فنحن لا نقهر وأن الله معنا.
أبناء الجيش من مختلف الكتائب والأفراد، أيها الجنود البررة مزقوا الخونة اقتلوهم، اسحقوهم إنهم يتآمرون على جمهوريتنا ليحطموا مكاسب ثورتنا هذه الثورة التي حطمت الاستعمار وانطلقت في طريق الحرية والنصر. وإنما النصر من عند الله وأن الله معنا. كونوا أشداء أسقطوا الخونة والغادرين. أبناء الشعب في كل مكان، أسقطوا الخونة والغادرين، والله ينصرنا على الاستعمار وأعوانه وأذنابه" 8/2/1963. 14
لم يتسن لقاسم إيصال نداءاته إلى ضباط الجيش العراقي ولا إلى الشعب، في حين تمكن الحزب الشيوعي العراقي من إيصال بيانه ودعوته لمقاومة الإرهاب إلى أوساط غير قليلة من الجيش والشعب، فهب الشارع البغدادي محاولاً الوصول إلى وزارة الدفاع للمشاركة في الدفاع عن الجمهورية وقاسم في آن واحد، كما تحرك بعض الضباط الشيوعيين ومن مؤيدي قاسم أو الديمقراطيين الرافضين لقوى حزب البعث والقوى القومية، إلا أنهم حوصروا من قبل من كانت بيده المبادرة في احتلال رؤوس الجسور والطرق الخارجية أو مناطق مهمة من بغداد. لقد صمم الانقلابيون على ممارسة جميع أشكال العنف في مواجهة أتباع قاسم ورفاق الحزب الشيوعي العراقي، وخاصة القوى التي أرسلت للسيطرة على وزارة الدفاع، حيث مقر عبد الكريم قاسم.
بدأت التحركات الشعبية في الكاظمية والكرادة وحي الأكراد والكريمات وفي مناطق أخرى من الرصافة، إضافة إلى تحركات في مواقع عسكرية.
لقد تمت سيطرة الشيوعيين وأتباع قاسم على الكاظمية وخاضوا معارك ناجحة ضد القوات التي وقفت إلى جانب الانقلاب، إلا أن ميزان القوى قد اختل بعد توجيه المزيد من القوات العسكرية ونهوض تعاون بين البعث وجماعة الشيخ الخالصي في الكاظمية حيث ضربت مناطق شعبية بالمدافع وقتل الكثير من الشيوعيين وأصدقاء الحزب في تلك المعارك.  كما وقعت معارك في حي الأكراد في محلة باب الشيخ وفي الكريمات والكرخ والكرادة ومناطق أخرى من العراق، إلا أنها كانت دون جدوى.
اختلفت التقديرات عن عدد الذين سقطوا في معارك الأيام الثلاثة، حيث قدر زكي خيري عدد القتلى من الشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين بحدود 5000 إنسان، في حين قدر آخرون بتراوح العدد بين 12000-15000 إنسان، كما أن تقديرات أخرى ذكرت بأن عدد الشهداء الذين سقطوا في تلك المعارك بلغ بحدود 1500 إنسان، وأكثرهم كان من الشيوعيين والديمقراطيين. كتب زكي خيري يقول:
"وبلغ عدد القتلى خلال الأيام الثلاث الأولى من الانقلاب 5000 شخص في المقاومة وفي ملاحقة الشيوعيين من بيت إلى بيت" 15. أما حنا بطاطو في كتابه "العراق" أو "الطبقات الاجتماعية في العراق" فقد كتب يقول: "وفي تقديرات الشيوعيين ان لا أقل من 5000 "مواطن" قتلوا في القتال الذي جرى من 8 إلى 10 شباط (فبراير) وخلال الاصطياد الشرس للشيوعيين من بيت إلى بيت في الأيام التي تلت" 16. ثم يقول متابعاً:
"وذكر مصدر في الفرع الأول من مديرية الأمن العراقية للمؤلف في العام 1967 أن عدد القتلى للشيوعيين يومها وصل إلى 340 قتيلاً. وقدر مراقب دبلوماسي أجنبي حسن الاطلاع ولا يرغب في ذكر اسمه مجموع عدد القتلى بحوالي 1500، ويتضمن هذا الرقم ما يزيد على مئة جندي سقطوا داخل وزارة الدفاع و "شيوعيين كثيرين" 17. أما عدد البعثيين الذين قتلوا في هذه المعارك فقد قدر بالعشرات، إذ ذكر حنا بطاطو ذلك بقوله: "أما البعثيون فيقدرون خسائر حزبهم بثمانين شخصاً" 18.
قدم حي الأكراد معركة بطولية وملحمية يائسة ضد الانقلابيين بقيادة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي محمد صالح العبلي، الذي اعتقل فيما بعد مع عدد من أعضاء قيادة وكوارد وأعضاء وأصدقاء الحزب وعذبوا بشراسة واستشهد الكثير منهم تحت التعذيب. وإذ بدأ القتال في هذا الحي بمشاركة ما يقرب من 4000 مقاوم، تقلص العدد إلى 1500 مقاوم في اليوم الثاني من الانقلاب وإلى 500 مقاوم في اليوم الثالث منه، وجلهم من الشيوعيين وأصدقاء الحزب ومن أبناء حي الأكراد 19. وكانت خاتمة المعارك ونهاية المقاومة المسلحة للانقلاب الدموي الفاشي في الأساليب التي استخدمها ضد القوى السياسية المعارضة له وضد الشعب بشكل عام.

                 
الهوامش والصادر
   كتب السيد عزيز الدفاعي يقول: "آن مذكرات أكرم الحوراني والمرحوم طالب شبيب وتصريحات علي صالح السعدي أمين سر الجناح اليساري لحزب البعث آنذاك التي أكد فيها بان البعثيين وصلوا إلى السلطة على ظهر دبابة أمريكية ينفيها الجناح الآخر من الحزب كما آن مذكرات هاني الفكيكي (أوكار الهزيمة) لا تعيننا كثيرا في تقديم تفسيرات ووقائع معززة بالوثائق والأدلة والاعترافات الرصينة حول الدور الذي قامت به واشنطن في إسقاط جمهورية الزعيم وإعدام المئات من كوادر الحزب الشيوعي العراقي حسب ادعاءات هؤلاء الساسة والمؤرخين.
بعد نصف قرن على تلك الفترة الكارثية من تأريخ بلاد مابين النهرين في العصر الحديث يشير كاتبان أمريكيان مرموقان وهما NAUM CHOMSKY الحائز على جائزة نوبل و MILAN RAI  في كتابهما WAR PLAN IRAQ)) آن وليام ليكلاند مسؤول المخابرات المركزية في السفارة الأمريكية في بغداد بالتعاون مع عدد من الجنرالات العراقيين وقادة حزب البعث قد نجح في رسم خطة انقلاب 8-فبراير- شباط عام 1963 والتي اعتبرها السوفيت آنذاك صفعة قوية وجهت لهم ولطموحاتهم في العراق". (راجع: الدفاعي، عزيز. العراق في الحقبة الأمريكية. الجزء الأول. الحوار المتمدن. العدد 2064 في 10/10/2007. (المقصود هنا قطار أمريكي وفق ما جاء في تصريحات على صالح السعدي، وليس على ظهر دبابة أمريكية، كاظم حبيب).
وجاء في حوار مع الدكتور عقيل الناصري أجراه السيد مازن لطيف علي بهذا الصدد ما يلي: "وقد افتخر بعض ضباط المخابرات الأمريكية بمساهمتهم في إنجاح الانقلاب المضاد لقاسم. وهذا ما أشار إليه جيمس إيكنيس الذي عمل في السفارة الأمريكية في بغداد في مرحلة تموز/ قاسم النيرة، حيث قال عن قادة البعث: "عرفت كل زعماء البعث وأعجبت بهم" ويؤكد أن " المخابرات الأمريكية لعبت دوراً في انقلاب حزب البعث عام 1963. لقد اعتبرنا وصول البعثيين إلى الحكم وسيلة لاستبدال حكومة تؤيد الاتحاد السوفيتي بحكومة أخرى تؤيد أمريكا. إن مثل هذه الفرص قلما تتكرر. ويضيف إيكنيس "صحيح أن بعض الناس قد اعتقلوا أو قتلوا إلا أن معظم هؤلاء كانوا شيوعيين ولم يكن ذلك ليزعجنا ". بمعنى آخر كانت هنالك أموال أمريكية بل ومشاركة فعلية على الأرض. راجع الناصري، عقيل. انقلاب شباط 1963 في العراق وتخاذل الوعي العنفي. نشر في الحوار المتمدن بتاريخ 11/2/2007.
راجع: الدفاعي، عزيز. العراق في الحقبة الأمريكية. الجزء الأول. الحوار المتمدن. العدد 2064 في 10/10/2007 . (المقصود هنا قطار أمريكي وفق ما جاء في تصريحات على صالح السعدي، وليس على ظهر دبابة أمريكية، كاظم حبيب).
- راجع أيضا: الناصري، عقيل. انقلاب شباط 1963 في العراق وتخاذل الوعي العنفي. نشر في الحوار المتمدن بتاريخ 11/2/2007.
 

2 الفكيكي، هاني. أوكار الهزيمة. تجربتي في حزب البعث العراقي. مؤسسة المنار. لندن-قبرص. 1992. ص 235.
3 سعيد، علي كريم د. عراق 8 شباط 1963. من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. مراجعة في ذاكرة طالب شبيب. بيروت. دار الكنوز الأدبية. ط 1. 1999. ص 49.
4 سعيد، علي كريم د. عراق 8 شباط. مصدر سابق. الهامش. ص 58. يقول الكاتب الراحل الدكتور علي كريم سعيد بهذا الصدد وفي هذا الهامش رقم 1 ما يلي: "واعتقد أن تسامح قاسم وعدم استخدامه التعذيب الوحشي والقسوة ومعاقبة الزوجة والأطفال والأخوان ... الخ  مما مارسته الحكومات التالية، ساعد البعثيين في تنفيذ خطتهم ضده. فلم يكن قاسم وحده يعرف بوجود حركة يخطط لها ضد نظامه، بل علم بذلك مجلس الوزراء بكامله وعدد من المهتمين. فقد حدثتني الدكتورة مي ألأوقاتي أن خالها هاشم جواد (وزير خارجية قاسم) أخبرهم أن مجلس الوزراء بحضور قاسم أُعلِمَ أكثر من مرة بمحاولة سيقوم بها البعثيون".
5  يوسف، ثمينة ناجي، وخالدو نزار. سلام عادل سيرة نضال. في جزئين. الجزء الثاني. ط 1. دمشق. دار المدى للثقافة والنشر. 2001. ص 336.   
6  - بطاطو، حنا. العراق. الكتاب الثالث. مصدر سابق. ص 286.
7 - خيري، زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. المجلد الأول. ط 1. لندن. 1984. ص 372.
8  بطاطو، حنا. العراق. مصدر سابق. ص 289.
9  موقع الوكالة الوطنية العراقية للأنباء. نينا. في 19/2/2010.
10  بطاطو، حنا. العراق. مصدر سابق. الكتاب الثالث. ترجمة عفيف الرزَّاز. ط 1. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. ص 300.
 11 خيري، زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. المجلد الأول. ط 1. لندن. 1984. ص 377.
12 العاني، نوري عبد الحميد د. وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. 1958-1968. الجزء الخامس. ط 1. بغداد. المطبعة العربية. 2002. ص 228.
13 بطاطو، حنا. العراق. الكتاب الثالث. مصدر سابق. ص 287. 
14 العاني، نوري عبد الحميد د. وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. الجزء السادس. مصدر سابق. ص 26.
15 أورد الدكتور علي كريم سعيد بياناً أخر كتبه الفريق الركن عبد الكريم قاسم موجهاً إلى الجيش والشعب في العراق، ولكنه لم يصل إلى أسماع العراقيين بسبب إما تغييبه مع البيان= =الثاني أو بسبب خيانة جاسم العزاوي الذي كان المفروض أن يوصله لبثه من دار الإذاعة العراقية. ولا يختلف النص الأول عن النص الثاني إلا ببعض الكلمات، والمحتوى يبقى واحداً يؤكد ثقة قاسم بالجيش والشعب وبقدرتهما على سحق الانقلاب، دون أن يكون قد اتخذ الإجراءات الكفيلة بالتصدي للانقلاب. راجع في هذا الصدد: سعيد، علي كريم د. عراق 8 شباط 1963. مصدر سابق. ص 78.   
16 خيري، زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. مصدر سابق. ص 382.
17 بطاطو، حنا. العراق. الكتاب الثالث. مصدر سابق. ص 298.
18 المصدر السابق نفسه. ص 298.
19 المصدر السابق نفسه. ص 297.


161
كاظم حبيب
من هم قتلة الروائي والكاتب علاء المشذوب؟
هل تعتقد الحكومة العراقية إن العقلاء من الناس بالعراق لا يعرفون من هم قتلة الدكتور علاء المشذوب؟ هل تعتقد حقاً بأن الناس العقلاء لا يعرفون بأن الحكومة العراقية تعرف تمام المعرفة من هم القتلة ومن وجههم بالقتل؟ هل تعتقد أيضاً بأن وزارة الداخلية وأجهزة الأمن الداخلية المليئة بالميليشياويين ومستشار الأمن الوطني ورئيس الحشد الشعبي كلهم لا يعرفون من هم قتلة شهداء الشعب والوطن من المثقفين العراقيين الآخرين الذي استشهدوا بذات الطريقة التي استشهد بها الروائي والكاتب والمثقف العراقي د. علاء المشذوب؟ إن القتلة أيها "السادة!" لا يحتاجون إلى العمل في الخفاء كالخفافيش التي تختفي خلف جنح الظلام لتمارس القتل، إنهم قتلة محترفون ينفذون أوامر بالقتل صدرت لهم ويحملونها في جيوبهم ويجوبون بها الشوارع بمدن الجنوب والوسط وبغداد بدراجاتهم البخارية وعرباتهم الحكومية ليمارسوا الاختطاف والتعذيب وإطلاق الرصاص من كواتم الصوت أو بدونها لاغتيال الضحايا على الطريقة التي تعرض لها الشهيد د. علاء المشذوب، وتماما كما حصل قبل ذاك، في فترة حكومة المستبد بأمره نوري المالكي ببغداد حين تم اغتيال المسرحي والكاتب هادي المهدي، ومن ثم المثقف التنويري والكاتب الشيوعي المبدع كامل عبد الله شياع، وكما حصل لمئات من العلماء في مجال الطب والهندسة وغيرها من العلوم، أو كما حصل لمئات الصحفيين والإعلاميين والعلماء والمواطنات والمواطنين العراقيين خلال السنوات المنصرمة من الحكم الطائفي المحاصصي المقيت. نحن، أخص العقلاء من العراقيات والعراقيين، وأنتم يا أركان الحكومة الطائفية السياسية المقيتة، نعرف بالتحديد من هي القوى التي يهمها اغتيال الفكر الديمقراطي الحر، اغتيال الكلمة الصادقة والحرة والمعبرة عن أماني الشعب وآماله والمخلصة لقضية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، اغتيال من يكشف ملفات الفساد ويتحدث عن المليارات التي سرقت بالعراق، وكذلك من سرق ويسرق يومياً اللقمة من أفواه الجياع والمعوزين والمرضى والمعوقين والأرامل والأطفال المشردين. نحن، وأنتم أيها الحكام بالعراق، أدرى بتلك القوى الميليشياوية الطائفية المسلحة التي تأتمر بأوامر أحزابها الإسلامية السياسية وبمن يقودها من وراء الحدود، من إيران، الحكم وشيوخ الطائفية السياسية. وإذ نقوم نحن بكشف هوية المجرمين القتلة ومن يوجههم، تقومون أنتم بالتستر عليهم، لأنهم جزء منكم وليسوا بعيدين عنكم، أنهم أنتم!
قيل قديما، ولا زلنا نردد بصواب إن الشعب العراقي "مفتح باللبن" وأنه "يقرأ الممحي والمكتوب"، هذا القول صحيح لملايين من العراقيات والعراقيين، ولكن مع الأسف الشديد لم يشمل كل العراقيات والعراقيين حتى الآن، بل هناك الملايين التي لا تزال الغشاوة تحرم بصرها وبصيرتا من رؤية الحقائق والوقائع، وإلا لما بقي هؤلاء "السادة!" الفاسدون في الحكم ولو لليلة واحدة. ولما استطاع هؤلاء الحكام، وعلى مدى 16 عاماً، الضحك على ذقون كثرة من بنات وأبناء الشعب العراقي، ومواصلة الحكم بالطريقة ذاتها التي حكموا بها العراق خلال السنوات المنصرمة رغم المطالبة بالإصلاح التغيير الفعلي للنظام الطائفي المحاصصي. ومن اعتقد بأن الحكام القدامى الجدد في هذا العهد الطائفي المرير، في حكومة عادل عبد المهدي في الجمهورية الخامسة الطائفية، سيغيرون الأوضاع وينتقلون إلى مرحلة غير طائفية وغير محاصصية وغير تابعة لإيران، خاب اعتقاده، وهم كمن نسى القول العراقي الشهير: هل تنتظر من شفاثة عافية (الصحيح شثاثة، وهي كلمة آرامية تعني الصافية، وهي قضاء عين تمر التابع لمحافظة كربلاء)، أو كما ذكرت مرة في مقالٍ سابق لي قول الشاعر العربي المخضرم كعب بن زهير في قصيدة (البردة)، ولا بأس من إعادة نشره:
ولا تَـمَسَّكُ بـالعَهْدِ الـذي زَعَمتْ *** إلاَّ كَـما يُـمْسِكُ الـماءَ الـغَرابِيلُ
فـلا يَـغُرَّنْكَ مـا مَنَّتْ وما وَعَدَتْ *** إنَّ الأمـانِـيَّ والأحْـلامَ تَـضْليلُ
كـانَتْ مَـواعيدُ عُـرْقوبٍ لَها مَثَلا *** ومــا مَـواعِـيدُها إلاَّ الأبـاطيلُ
وإذا كان حيدر العبادي قد وفى بإدارة عملية تحرير نينوى وابتعد خوفاً ورعباً من المس بملف الفساد وجُبن أمام الحيتان الكبيرة أن تبتلعه، فأن عادل عبد المهدي و"رغم الجعجعة بلا طحين" التي أثارها، أو "العربة الفارغة كثيرة الجعجعة"، حين أعلن تشكيل مجلس أعلى لمكافحة الفاسد ومحارية المفسدين"، فأنه سوف لن يتخذ الخطوات الفعلية ليمسك بتلابيب كبار الفاسدين والمفسدين المعروفين للشعب العراقي كله والذين يطرح، الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي المطلع جيداً على أوضاع وفساد العراق، أسماؤهم يومياً، إذ أن أغلبهم من جاءوا به إلى الحكم وبموافقة مباشرة من إيران ليكون مرحلة انتقالية لصالح عبور تمهيداً لمجيء ذات القوى الموبوءة والمرفوضة من الشعب والتي تتحرك حول المستبد بأمره رئيس الوزراء الأسبق في العراق، والذي يحاول تجسين صورته دون فائدة. إن هذا المجلس شكل ليلهي الناس به وإلا لاستفاد من الهيئات والمؤسسات الموجودة أصلاً لهذا الغرض.
ليكن الشعب شاهداً على ما أقول: أن رئيس الحكومة ووزارة الداخلية والقضاء العراقي سيتوصلان إلى نتيجة واحدة: غلق قضية اغتيال الروائي العراقي الديمقراطي د. علاء المشذوب، وستسجل في سجلات الشرطة ضد متهمين مجهولين، كما حصل في قضيتي الشهيدين هادي المهدي وكامل شياع ومئات القضايا الأخرى، سواء أكانت اغتيالات أم فساد أم أجهزة فحص فاسدة أم ..الخ.
ولكن هل على الشعب العراقي أن نقبل بهذه المهزلة المستمرة؟ لا، على الإطلاق، يجب أن يرفض ذلك! من واجب المجتمع أن ينهض، أن ينتفض ضد هذه السياسة الجهنمية التي قادت وتقود إلى موت المزيد من المثقفين والمثقفات، والكثير من المواطنات والمواطنين الآخرين في العراق، بالأمس في بغداد، ومن ثم في البصرة، وبعدها في كربلاء وقبل ذاك وبعده في مدن عراقية أخرى.
اتفق تماماً مع دعوة تجمع عقلاء برئاسة البروفيسور الدكتور قاسم حسين صالح الموجهة إلى المجتمع العراقي، إلى منظمات المجتمع المدني وعقلاء الشعب العراقي، للتظاهر والاحتجاج والمطالبة بالتحقيق "السريع والنظيف" للكشف عن القتلة ومن وجههم للقتل وإعلان النتائج على الرأي العام العراقي والعالمي ومحاسبة الفاعلين. إنها الطريقة الوحيدة لتحريك الشارع العراقي لتحقيق نتيجة أفضل مما نتوقعه من الحكم الطائفي المحاصصي المقيت القائم.
الذكر الطيب للشهيد علاء المشذوب والعزاء لعائلته ومحبي أدبه وشخصه، والخزي والعار للقتلة المجرمين ومن يقف وراءهم.
كاظم حبيب       
       

162
كاظم حبيب
ألا يحق للشعب توجيه الاتهام لبوش الأب والابن بارتكاب جرائم في العراق؟
هذا السؤال، ومنذ سنوات، يتبادر إلى أذهان ملايين البشر ليس في العراق حسب، بل وفي الكثير من أرجاء العالم. جورج بوش الأب هو الذي أعلن حرب العام 1991 ضد العراق بذريعة تحرير الكويت. وجورج دبليو بوش الابن هو الذي أعلن حرب العام 2003 ضد العراق بذريعة وجود أسلحة دمار شامل وإزاحة الدكتاتورية البعثية والصدامية عن الحكم وإرساء الديمقراطية في العراق! وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإجابة عن سؤالين آخرين مهمين هما: هل كانت الحرب الأمريكية الأولى ضرورية حقاً لتحرير الكويت أم كان بالإمكان تحريرها دون تلك الحرب؟ وهل كانت الحرب الأمريكية الثانية لتدمير أسلحة الدمار الشامل في العراق ضرورية أم كان وجود هذه الأسلحة كذبة فعلية، إذ كان المفتشون الدوليون وصدام حسين نفسه قد أنهوا قب بدء الحرب وجود هذه الأسلحة، وكانت الولايات المتحدة تعرف ذلك قبل غيرها؟
لقد كتبت ونشرت مجموعة كبيرة من المقالات في حينها أكدت فيها إمكانية تحرير الكويت دون حرب، وإن التحرير سيتم فعلاً ويحتاج إلى فترة زمنية قصيرة جداً لتحقيق الهدف المنشود، أي فرض انسحاب القوات العسكرية العراقية بالكامل من الكويت دون حرب، إذ إن الموقف الدولي وبدء الحصار والكثير من المؤشرات الأخرى كانت تؤكد إمكانية انسحاب العراق من الكويت خلال شهر أو شهرين أو حتى أقل من ذلك. فما هي أسباب شن الحرب؟ الأهداف الحقيقية وراء تلك الحرب كانت واضحة، ومنها بشكل خاص: الهيمنة الفعلية الكاملة على منطقة الشرق الأوسط ونفط العراق ومواجهة إيران ومراقبتها، ومعاقبة صدام حسين على تلك الصواريخ التائهة والعشوائية التي وجهها إلى صحراء إسرائيل، ومعاقبة الشعب العراقي على "تأييده!" لصدام حسين في احتلال الكويت وتهليله لتوجيه الصواريخ ضد إسرائيل، كما صرح بذلك قائد العمليات الحربية في حرب عاصفة الصحراء (Desert Storm 1991) هربرت نورمان شوارزكوف. كما لم تكن حرب الابن الانتقامية في غزو العراق في العام 2003 في أعقاب جرائم 11 أيلول/سبتمبر 2001 وغزو أفغانستان ضرورية بأي حال، لأن النظام الصدامي قد وافق على قرار تدمير أسلحة الدمار الشامل وقام بنفسه وكذلك اللجنة الدولية بتدمير ومراقبة تدمير تلك الأسلحة، ولاسيما الكيمياوية منها، إذ لم يكن لدى العراق قبل ذاك غيرها. وبالتالي كانت الحرب انتقامية يراد بها الهيمنة الكاملة على العراق وعلى نفطه والاستمرار بمعاقبة الشعب العراقي بذريعة تأييده لصدام حسين وحروبه، في وقت كان بوش الابن يعلم علم اليقين بأن الشعب العراقي ضد صدام حسين ونظام البعث في العراق ويناضل للإطاحة به. لقد حذرت المعارضة العراقية من حرب مدمرة لن تكون في صالح العراق، رغم إمكانية إسقاط الدكتاتور صدام حسين، ولكن ماذا بعد؟ الجحيم بصورة أخرى وبينت ذلك في محاضرة بلندن قبل الحرب بعدة شهور وبمشاركة السادة محمد بحر العلوم ومحمود علي عثمان ويونادم كنا. 
تؤكد الكثير من المعلومات التي نشرت في أعقاب الحرب، سواء في كتب أمريكية أم صحافة ومجلات مختصة ووقائع على الأرض أم وثائق دامغة، بأن لم تكن هناك أي ضرورة فعلية لنشوب الحربين بأي حال، ولكن الإدارة الأمريكية بقيادة بوش الأب، ومن ثم بوش الابن، كانت مصرة على شن الحربين بغض النظر عن عواقبهما المدمرة على الشعب العراقي، فمصالح أمريكا الاستعمارية فوق كل اعتبار، وهي السياسة التي لا تزال مستمرة حتى الآن. لم تكن الحربان غير ضروريتين حسب، بل لم تكن ضرورية تلك الأسلحة التدميرية الشاملة التي استخدمت في الحربين أيضا، ومنها استخدام العتاد المنضب باليورانيوم 238 (Uranmunition و DU-Munition) المحرم دولياً والمعروف في قدرته على تدمير وحرق الدروع والعربات ومن فيها من الجنود وضباط الصف والضباط وتلويث البشر والماء والهواء والتربة والمزروعات وكل أجواء المنطقة التي تستخدم فيها تلك الأسلحة. وقد استخدمت هذه الأسلحة في الحربين وجرى بتعمد واضح وبقرار أمريكي صارخ بإرجاع العراق عبر حرب الأب إلى فترة ما قبل التصنيع، على حسب قول وزير خارجية الولايات المتحدة حينذاك جيمس بيكر، وعلى تدمير البنى التحتية في الحربين بشكل كامل تقريباً. وهكذا كان!
عواقب الحرب الصحية فقط
سوف لن أتحدث عن نتائج هاتين الحربين على شعب العراق من حيث النتائج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعسكرية، والصراعات والنزاعات الفكرية والدينية والطائفية والمليشيات الطائفية المسلحة ونهب العراق تراثاً وثروة وإيقاف عملية التنمية فيه ونشر الفساد والإرهاب في كل مكان من أرض بلاد ما بين النهرين، أرض الحضارات والتراث الإنساني القديم، وعدم إرساء الديمقراطية في البلاد، بل ما حصل بعد الحرب الابن الثانية إزاحة الدكتاتورية البعثية وإقامة دكتاتورية دينية طائفية محاصصية مقيتة على أنقاضها ووضع العراق فعلياً تحت الحماية الإيرانية. لقد أزال التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة دون قرار من مجلس الأمن وخارج الإرادة الدولية والرأي العام العالمي دكتاتورية قومية شوفينية توسعية بغيضة، وأقام دكتاتورية طائفية سياسية مقيتة تابعة وخاضعة لإيران وسياستها في العراق والمنطقة. كما لن أتحدث عن أساليب التعذيب الأكثر وحشية ودموية التي استخدمت ضد المعتقلين في سجن أبو غريب وفي البصرة وسجون ومعتقلات أخرى من قبل أجهزة الأمن والقوات العسكرية الأمريكية والبريطانية وبعلم الحكومة العراقية حينذاك، بل سأتحدث هنا عما فعلته الحربان من نشر للأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية في الولادات الجديدة على امتداد الفترة الواقعة بين عام 1991 حتى الوقت الحاضر لاسيما في محافظة البصرة كلها وفي محافظات الجنوب والوسط وبغداد، والعراق عموماً، كما ظهرت هذه التشوهات في ولادات المجندات الأمريكيات أو انتقل التلوث إلى النساء الأمريكيات عبر الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في تلك الحروب. هذه النتائج كانت وما تزال تقترن بآلام وعذابات جسدية ونفسية قاسية وأحزان مريرة للمرضى ولعائلاتهم وللمجتمع عموماً. 
في العام 2003 كتب الدكتور كاظم المقدادي عن كميات الأسلحة المحرمة دوليا المستخدمة في حرب عام 1991 وكذلك في حرب 2003 ما يلي: تم في هذه الحرب "استخدام الذخائر المصنعة من النفايات النووية. ومما زاد المخاوف ان أغلب الكمية التي استخدمت في حرب عام 1991 من ذخيرة اليورانيوم سقطت على جنوب العراق، وخاصة البصرة والمناطق المحيطة بها والقريبة من الحدود الكويتية، بينما في حرب عام 2003 قصفت القوات الأمريكية والبريطانية كافة أرجاء العراق، واستهدفت حتى المناطق الكثيفة بالسكان، وتبين ان الذخائر المستخدمة كانت مطورة كثيراً وذات قدرة تدميرية رهيبة، وأكثر فتكاً. وما نشهده حالياً أغلبه من أضرار 320 – 800 طناً استخدمت عام1991  ولا يعرف أحد، غير رب العالمين، ما الذي ينتظر الشعب العراقي من أضرار كمية نحو 2000 طن من القذائف المطورة والأكثر فتكاً بالبشر، استخدمت عام 2003 ضد العراق." (راجع: كاظم المقدادي، لمصلحة مَن يتسترون على حجم الإصابات السرطانية في العراق؟!! 2- 3))، الحوار المتمدن، 2008 / 8 / 7).
وكشف تقرير لموقع “كاونتر بنج” الأميركي، عن تسبب الولايات المتحدة الأميركية بارتفاع نسب الاصابة بمرض السرطان في العراق الى 600%، مشيرا إلى أن واشنطن القت 970 قنبلة وصاروخ اشعاعي مشبع بمادة اليورانيوم على العراق". "أشار الدكتور “جواد العلي” المتخصص بالأورام السرطانية وعضو الجمعية الملكية البريطانية للأطباء في إنكلترا، أن “الغبار الصحراوي يحمل الموت للعراق حيث تشير دراساتنا إلى أن أكثر من أربعين بالمائة من سكان البصرة سيصابون بالسرطان. نحن نعيش في هيروشيما أخرى” حسب قوله. (راجع: ازدياد نسب السرطان 600% جراء القصف الأمريكي للعراق، موقع يقين في 8 كانون الأول/ديسمبر 2018).
وجاء في تقرير عن كتاب للدكتور الطبيب كاظم المقدادي يعنوان " التلوث الإشعاعي والمضاعفات الصحية لحروب الخليج" صادر في العام 2015 بشأن حجم كارثة التلوث النووي في العراق ما يلي: " أُطلقت على العراق خلال الحربين 1991 و2003 كمية هائلة من ذخائر اليورانيوم خلفت أكثر من 2200 طنا متريا من اليورانيوم المنضب، وهذا اليورانيوم المنضب الذي استعمل في العراق يساوي في ذريته ما يعادل 250 قنبلة ذرية، وهذا وفقا لما قدره البروفسور ياغازاكي  Katsuma Yagasaki  من الهيئة العلمية في جامعة ريوكيوس في أوكيناوا في اليابان". كما أشارت الدكتورة موزه بنت محمد الربان من منظمة المجتمع العلمي العربي إلى "إن الأمر لا يقتصر على اليورانيوم المنضب فحسب، بل لقد استخدمت أنواع عديدة من الملوثات في تلك الحروب كان لها أبلغ الأثر على البيئة والصحة لأهالي المنطقة، والدليل القاطع على لا إنسانية من يتشدقون بحقوق الإنسان، وأن هذه الأمة العربية والإسلامية مستهدفة من قبل هؤلاء الحاقدين لتدميرها على كافة المستويات بما في ذلك حياتها ومستقبلها." (راجع: الجزيرة، منظمة المجتمع العلمي العربي بتاريخ 19/11/2015).
فما هي النتائج الفعلية لهذا الاستخدام الهمجي للأعتدة المعاملة باليورانيوم المنضب Depleted Uranium، وأنواع أخرى من الملوثات؟ أشار الدكتور كاظم المقدادي في مقاله إلى حجم الإصابات حتى العام 2008 إلى ما يلي:
أشارت إحصائيات المستشفيات العراقية الى إن عدد الاطفال العراقيين المصابين بالسرطان ارتفع من 32  ألف إصابة في عام 1990، ليصل الى 130  ألف إصابة في عام 1997. وأضيفت لها خلال العقد الماضي عشرات الآلاف من الإصابات السرطانية. وبلغت الإصابات لغاية عام 2001 أكثر من 74 ألف و400 إصابة. وقدر الخبراء أن تبلغ 100 ألف إصابة مع نهاية عام 2007- وفق معدلات الإصابات للسنوات 2000 – 2004. " (المصدر السابق نفسه).  [ملاحظة: كثرة إصابات عام 1990 جاءت بنتيجة استخدام السلاح الكيماوي في الحرب العراقية الإيرانية ولاسيما في جنوب العراق].   
 وفي العام 2015 أشار، على وفق ما جاء في تلخيص كتاب الدكتور كاظم المقدادي، إلى ارتفاع في الإصابات على النحو التالي: "إن العقدين الأخيرين شهدا انتشارا للأمراض السَرطانيّة في المجتمع العراقي على نحو كارثي، وبلغت الإصابات السَرطانيّة أكثر من مليون إصابة مُسجّلة رسميا، وما زال العدد يرتفع باستمرار. ويموت من هذه الإصابات سنويا ما يتراوح بين 10 آلاف و12 ألف شخص، وهناك عشرات آلاف الإصابات والوفيات سنويا غير المسجلة". ومن بين العواقب التي ذكرها الدكتور كاظم المقدادي في كتابه المشار إليه في أعلاه نذكر ما يلي:
•   كثرة حالات الإجهاض المتكرر والولادات الميتة.
•   ظهور حالات من التشوهات الولادية الرهيبة وغير المعروفة من قبل. صور ثلاث مرفقة تشير إلى بعض التشوهات الخلقية على جسم الولادات الحديثة لأطفال من البصرة.
•   انتشار العقم لدى رجال ونساء.
•   كثرة الإصابات السرطانية في المناطق التي قصفت بالأسلحة الغربية.
•   انتشار الحالات السرطانية وسط عوائل لم يصب أحد منها من قبل، وأحيانا أكثر من فرد في العائلة الواحدة.
•   لاحظ الباحث الدكتور جواد العلي إصابة المريض الواحد بأكثر من حالة سرطانية (2 و3 وحتى 4 حالات) في آن واحد.
•   انتشار أمراض سرطانية وسط أعمار غير الأعمار المعروفة طبيا، مثل سرطان الثدي لدى فتيات بعمر 10 و12 سنة، وسرطانات أخرى نادرا ما تصيب شريحة الأطفال.
•   ارتفاع الإصابات السرطانية والوفيات بالسرطان بنسب عالية جدا، بلغت أضعاف ما كانت عليه قبل عام 1989. (المصدر السابق نفسه).
وعلينا ألَّا ننسى بأن الضربات الجوية قد دمرت الكثير من المستشفيات والمستوصفات العراقية بحيث عجز العراق عن توفير المستشفيات الضرورية لمعالجة مرضى الرطان والأمراض الأخرى التي اقترنت بعواقب تلك الحروب.
فما هو الموقف الذي يفترض أن تتخذه الحكومة إزاء هذا الواقع المستمر الذي ستبقى عواقبه سنوات طويلة لاحقة، لاسيما وأن الصحراء العراقية ورمالها ملوثة باليورانيوم المنضب أولاً، وكثرة من الملوثات الأخرى المنتشر في أرض ومياه وهواء وأغذية العراق؟
الإجابة عن السؤال الأول الوارد في عنوان المقال تكون: نعم، للشعب العراق وحكومته كل الحق والواجب إقامة دعوى قضائية دولية ضد كل من بوش الأب وبوش الابن وكل من شاركهما في إعلان الحربين واستخدام تلك الأسلحة المحرمة ضد الشعب العراقي، وضد كل من مارس الكذب على المجتمع الأمريكي والدولي لإمرار حرب الخليج الثالثة عام 2003، لاسيما وأن استخدام هذه الاعتدة المعاملة باليورانيوم المنضب في حربين ضد العراق والمحرمة دولياً والجرائم الناتجة عنها لا تتقادم مع مرور السنين، ولا يمنع ذلك وفاة الأب في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، إذ إن الكثير من الجناة ما زالوا على قيد الحياة.
لا يمكن لمنظمات المجتمع المدني ولا للأحزاب السياسية أن تقيم الدعوى ضد هذين الرئيسين للولايات المتحدة الأمريكية، بل لا بد للحكومة العراقية أن تقوم بهذه المهمة. ويبدو إن الحكومة العراقية والأحزاب الإسلامية السياسية التي تشكل قيادة هذه الحكومة، والتي سلمها الاحتلال الأمريكي-البريطاني مقاليد الدولة وسلطاتها الثلاث، لا تجرأ على إقامة الدعوى، وبالتالي سيبقى العراق يعاني من المصائب دون موقف حازم إزاء من يتجرأ على استخدام هذا السلاح في أي  حروب قادمة محتملة أيا كان موقعها وأسبابها، كما سيبقى العراق محروماً من التعويضات الدولية لضحايا هذين العدوانين الهمجين ولعوائل الضحايا، ولاسيما تقديم المساعدة الضرورية والعاجلة للضحايا لمعالجة أوضاعهم الصحية ومكافحة الأمراض السرطانية والمواقع الملوثة التي يزيد عددها عن 143 موقعاً حسب المعلومات المتوفرة التالية:
فقد " كشف فريق علمي قاده إدوارد إليسون، وهو مختص بعلوم التلوّث الإشعاعي، وجود ما يزيد على 143 موقعاً ملوّثاً باليورانيوم المنضّب في 7 محافظات عراقيّة، منها قرابة 40 موقعاً في بغداد، و22 موقعاً في البصرة، و20 موقعاً في الناصرية، و20 موقعاً في مدينة بابل، و16 موقعاً في محافظة ديالى، و14 موقعاً في محافظة ميسان، و11 موقعاً في محافظة واسط." (راجع: كاظم المقدادي، 14عاماً من تلوّث العراق بإشعاع اليورانيوم، جريدة الحياة بتاريخ 14  شباط/فبراير 2017). في حين كانت وزارة البيئة العراقية قد كشفت في العام 2007، عن وجود 315 موقعاً ملوّثاً بالإشعاع المتأتي من أسلحة اليورانيوم." (المصدر السابق نفسه)، وهو الأمر الذي يدعو إلى الاستغراب من موقف الحكومة العراقية، لاسيما وأنها لم تمارس اية جهودٍ فعلية لمكافحة المواقع الملوثة حتى الآن.
يبدو إن من واجب الرأي العام العراقي ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب الوطنية والديمقراطية والرأي العام العالمي والقوى الخيرة في العالم أن يمارسوا جميعاً الضغوط السياسية المتواصلة على الحكومة العراقية، واستخدام كل السبل المتوفرة لفرض إقامة الدعوى ضد المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا (ولاسيما توني بلير وأركان حكومته حينذاك) لإشعال الحربين أولاً، واستخدام اليورانيوم المنضب ثانياً، وبسبب حجم الضحايا الهائل أثناء الحربين والإصابات المليونية بشتى الأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية بعد ذلك والتلوث الهائل والمستمر في العراق ثالثاً.
لا بد لشعب العراق من الوصول إلى هذا الهدف ولا بد من العمل من أجله بكل همة وبلا هوادة.   
     
 
صور من ألبوم البروفيسور الدكتور الطبیب گنترSiegwart-Horst Günther  (1925-2015) عن عواقب استخدام أعتدة اليورانيوم المنضب Uranmunition و DU-Munition ضد الدروع في حرب الخليج الثانية 1991.
   
 
صورة العتاد المعامل باليورانيوم المنضب من مقال د. كاظم المقدادي في جريدة الحياة بتاريخ 14 شباط فبراير 2017.             

163
كاظم حبيب
تجربتي الشخصية مع داء سرطان الرئة
في عام 1999 لاحظتُ شيئاً أشبه بدملة صغيرة جداً برزت على جلد البطن. كانت ذات عدة ألوان لا تشبه الدملة العادية. راجعت طبيبة جرَّاحة ورجوتها فحص هذا الجزء من الجلد. القت نظرة سريعة وقالت لا شيء، إنه مجرد دملة لا تستوجب القلق، إلا إذا أردت إزالتها من الناحية الجمالية، لم أقتنع برأيها وقلت له بأني لا أتحدث عن الناحية الجمالية، فهو جزء صغير لا يلاحظ أولاً، كما أني لا أسير في الشوارع مكشوف البطن، كما يفعلن النساء الهنديات، بل يحوم شكي حول شيءٍ آخر. ابتسمت كمن غير مصدق، ولكنها، وتحت إصراري، وافقت على مضض واقتطعت ذلك الجزء الصغير ورسلته إلى الفحص المختبري. بعد ثلاثة أسابيع اتصلت بي هاتفياً راجية مراجعتها بسرعة. ذهبت إليها مباشرة,  اعتذرت مني بشدة لعدم تشخيصها الصحيح، إذ كانت نتيجة الفحص المختبري بأن العينة تؤكد عن وجود سرطان خبيث، ولكن ليس من نسيج الجلد، بل هو من نسيج داخل الجسم، ولكنه طفح على الجلد. تقرر أرسال العينة إلى مختبر آخر تابع إلى جامعة برلين الحرة. وجاءت النتيجة مطابقة لنتيجة الفحص المختبري الأول. لهذا قررت إجراء المزيد من لفحوصات على أعضاء الجسم الداخلية. وعلى مدى عام كامل (2000) تم تحويلي إلى عدد كبير من المستشفيات والأطباء المختصين لإجراء الفحوصات على الكبد والرئة والمعدة والأمعاء والكليتين والمجاري البولية والبروستات والرأس أو الدماغ ...الخ. ولم يعثروا على أثر للسرطان. فكانت أخر طبيبة اختصاصية ممتازة في أمراض السرطان قد اكدت لي بخلو جسمي من مرض السرطان، ومع ذلك فمن المفضل أن أخضع للفحوصات السنوية للتيقن من خلو الجسم منه. ولم اشعر بأي حاجة للفحص الخاص بعد ذلك. لقد وجه المختبران نقداً للطبيبة الجراحة لأنها اقتطعت عينة صغيرةً جداً، إذ الأفضل في مثل هذه الحالات أن تكون القطعة المقتطعة من الجسم أكبر لضمان فحوصات أكثر.
بعد مرور 18 عاماً على هذا الحادث، وفي الأشهر الأولى من عام 2018، أصبت بزكام خفيف مع نشوء بلغم يجبرني على افتعال السعال للخلاص منه. وهي ممارسة غير مريحة، لاسيما أثناء انعقاد الندوات أو اللقاءات العامة أو تقديمي بعض المحاضرات، دون الإحساس بأي وجع. وفي البيت قالت زوجتي مازحة بأن لدينا في الشقة حصان يصهل بين فترة وأخرى، لأن افتعال السعال كان شبيهاً بصهيل الحصان. فقلت لها وجود فرس في البيت يستوجب وجود حصان أيضاً، على حد تمييز العرب بين الأنثى والذكر. ولكني حجزت موعداً لدى طبيب العائلة. في عيادة الدكتور الطبيب جيدو كُنيکر (Dr. Med. Guido Koemiger) أشرت له بمشكلة البلغم الملازمة منذ عدة شهور، ورويت له مزحة زوجتي، فضحك وقال إذن لا بد من إجراء الفحص الشعاعي. اجري الفحص الشعاعي الاعتيادي. بعدها مباشرة طلبت مني طبية التصوير الشعاعي أن أراجع في اليوم الثاني طبيب العائلة ولم تخبرني بنتيجة الفحص. وهكذا كان. قال الطبيب كُنيکر، يبدو أن هناك شكاً بوجود سرطان في الرئة، وعلينا إجراء المزيد من الفحوص، ومنه فحص التصوير المقطعي (CT)  Computer Tomographie للتيقن من الحالة الفعلية. في اليوم التالي أجري الفحص فعلاً، وكانت النتيجة وجود سرطان لا يمكن معرفة نوعه قبل إجراء فحوصات إضافية. لم يكن الأمر مفاجئاً لي بسبب ما قيل لي في العام 1999، رغم عدم وجود علاقة بين الاثنين، كما أكد الأطباء ذلك. شعر طبيب العائلة بالارتياح حين لاحظ سلوكي الاعتيادي ودون بروز أي ارتباك في موقفي، إذ أخذت الأمر ببساطة تامة. ففي عالمنا المليء بالتلوث ليس في الهواء الذي نستنشقه والماء الذي نشربه فحسب، بل وفي جميع المأكولات التي نتناولها يومياً، والأرض التي نمشي عليها، والملابس التي نرتديها ...الخ، وبالتالي فالإصابة بهذا الداء الخبيث ممكنة في كل لحظة ولكل إنسان على هذه الأرض الملوثة حين تتوفر الشروط المناسبة لبروزه ونموه لدى هذا الشخص أو ذاك. حولني طبيب العائلة مباشرة إلى طبيبة مختصة بأمراض الرئة والسرطان هي الدكتورة كاترين بورشكة (Frau Dr. Med. Katrin Poerscke). فأجرت فحوصات أولية إضافية مثل التنفس والوزن وما إلى ذلك. ثم حولتني مباشرة إلى مستشفى أمراض الرئة، ومنها سرطان الرئة، وهي مستشفى بروتستانتية مختصة ومعروفة في مدينة بوخ (Buch) التابعة لمدينة برلين (Evangelische Lungenklinik Berlin) ثم جرى تحويلي منها إلى منشآت صحية مختصة لإجراء فحوصات جديدة للتيقن من انتشار أو عدم انتشار السرطان في باقي أجزاء الجسم. فكان هناك فحص CT ,  MRT , PET  وفحص الحنجرة وتخطيط القلب وفحص الدم. بدأت هذه الفحوصات في 25/05/2018 وانتهت في بداية الشهر السادس وتيقنوا من خلو بقية أعضاء الجسم منه عدا وجوده في منطقة يمين الوسط من الرئة وبالقياسات التالية: 1,6 x 3,4 x2,6 cm مع اتصال غير واضح بالضلوع المجاورة، ربما بسبب وجود التهاب سابق أو سل عظمي سابق متيبس أو احتمالات أخرى، دون وجود انبثاث للخلايا السرطانية (Metastasen) في باقي أعضاء الجسم. ويبدو، كما أشار الأطباء بأن السرطان حديث العهد، واكتشافه مبكراً يساعد على الشفاء منه. فقرروا إجراء العملية في 02/07/2018. وقيل أن صحتي العامة، وأنا في الثالثة والثمانين من عمري، تتحمل إجراء العملية الكبيرة. لقد كنت متيقناً من شفائي، فأنا رجل متفائل عموماً والسرطان حديث العهد رغم خبثه، ولكن ليس عدائياً جداً، كما يظهر احياناً لدى بعض المصابين به. لهذا كانت معنوياتي عموماً عالية وبعيدة عن التفكير بالموت القريب، وكنت أمزح وأقول ما زال الوقت مبكراً إلى إعطاء ملعقتي لشخص آخر، على حسب تعبير الألمان!
أجرت رئيسة قسم العمليات الجراحية في المستشفى المذكور، الدكتورة الطبيبة کندا ليشبار (Frau Dr. Med. Gunda Leschbar )، العملية بنجاح، إذ اقتطعت، مع فريقها الطبي، الجزء الخامس من الرئة، الخرقة (Lapen) بكامله، حيث كان السرطان قد حط فيه لتقطع دابره مبدئياً. وفي اجتماع عقد في 25/07/2018 قررت لجنة الأطباء في الكونفرنس الخاص بما يفترض القيام به بعد العملية، وبعد وصول نتائج الفحص المختبري المتقدم للقطعة المستأصلة من الرئة، وضع برنامجٍ يمتد إلى ثلاثة شهور يتم فيها إجراء أربع جولات كيماوي بين كل جولة وأخرى ثلاثة أسابيع استراحة، دون الحاجة إلى المعالجة بالإشعاع.
في الفترة الواقعة بين إجراء العملية والمعالجة بالكيماوي اتصل بي بعض الأصدقاء الأفاضل طالبين مني عدم المعالجة بالكيماوي والاكتفاء بالعملية لما لهذه المعالجة من أعراض جانبية مدمرة ومؤذية، لاسيما وأني متقدم في العمر. شكرتهم لنصيحتهم الأخوية والودية التي أحترمها وأقدر رغبتهم في تجنيبي الآلام المحتملة للمعالجة بالكيماوي. ولكني أخبرتهم بأني سأستجيب لقرار الأطباء لأنهم أدرى بوضعي الصحي وقدرة تحملي، كما يقدرون أهمية وضرورة إجراء العلاج الكيماوي. وهكذا كان.
دخلت قسم المعالجة بالكيماوي بالمستشفى المذكورة يوم 21/08/2018، وهي برئاسة البروفيسور الدكتور الطبيب كريستيان کروه (Prof. Dr. Med. Chrisian Grohe)، حيث أجريت مجموعة من الفحوص قبل بدء زرق الكيماوي بالوريد، منها فحص إم أر تي للرأس وسي تي للرئة والمعدة وتخطيط للقلب ومستوى إداء الرئة لوظيفتها التنفسية، إضافة إلى فحص الدم. في اليوم التالي بدأ العلاج الكيماوي بمزيج من أدوية متعددة دام الزرق بحدود ساعتين ونصف الساعة. وبعد أن قضيت ليلة واحدة في المستشفى نقلت إلى شقتنا في برلين، على أن يتم أجراء ثلاثة فحوص على الدم في فترات متفاوتة لمعرفة تأثير الكيماوي على بنية الدم ومدى إمكانية تحمل الزرقة الثانية من الكيماوي بعد ثلاثة أسابيع.       
لم تظهر أية أعراض جانبية بعد الزرقة الأولى، وكان وضعي العام طبيعياً دون ألام أو منغصات صحية. ثم كانت الزرقة الثانية التي سبقتها فحوصات أخرى ولاسيما الدم حيث وافق الطبيب المختص على زرقة الوجبة الثانية من الكيماوي. وفي اليوم التالي غادرت المستشفى. بعد اليوم الرابع وبعد الانتهاء من تناول ثماني حبات من الكورتيزون موزعة على أربعة ايام للمساعدة في تجنب أو تحمّل الآلام. بدأت أشعر بآلام حادة في الفقرات وعظام الظهر والكتفين وحيثما وجدت قبل ذاك مناطق وجع سابقة في الجسم. كانت الآلام مرهقة تحرمني من متعة النوم الهادئ غير المتقطع. استمرت هذه الآلام قرابة اسبوع، ثم بدأت بالتراجع التدريجي حتى انتهت مع نهاية الأسابيع الثلاثة. وخلالها تم فحص الدم لثلاث مرات خلال الأسابيع الثلاثة. وبدا إن بنية الدم كانت مناسبة للجولة الثالثة من الكيماوي. الوجبة الثالثة بدأت بعد ثلاثة أسابيع بفحوصات مماثلة للجولتين السابقتين التي نفذت مساءً لأغادر المستشفى الي الشقة في اليوم التالي. تناولت ذات الكمية من الكورتيزون لأربعة وقبل ذاك زرقت بإبرة كورتيزون أيضا. في اليوم الخامس بدأت أعيش آلاماً مبرحة في جميع أجزاء الجسم يمكن تحملها، تناولت حبة دكلوفيناك (Diclofenac 75 mg) ضد الآلام، ولكنها لم تنفع كثيرا, وفي اليوم السادس وعلى الساعة الرابع صباحاً أصبت بنوبة حادة في القلب وفي الكتف الأيسر قدرت إنها غلطة (شعبياً جلطة) قلبية مفاجئة. استخدمت بشاش النيترولنکوال (Nitrolingual Spray)  الذي ساعد قليلاً، ثم جاءت نوبة أخرى أشد من السابقة استخدمت النيترولنکوال ثانية وبجرعة أكبر، فتراجع الألم. وفي الصباح راجعت طبيب العائلة حولني رأساً إلى الطوارئ حيث قضيت ليلة كاملة لديهم تبين أنها كانت ذبحة صدرية حادة وليس غلطة قلبية. والذبحة الصدرية بدأت معي منذ عشرين عاماَ، لهذا أحمل معي دوماً بشاش النيترولنکوال. عولجت بعناية كبيرة واقترح الطبيب الخفر بقائي في المستشفى لإجراء فحوصات إضافية، ولكني فضلت العودة إلى الدار في صبيحة اليوم الثاني.
لم تتوقف الآلام في أعضاء عديدة من الجسم بما فيها الكليتين والمجاري البولية، ولاسيما العظام، بسبب معاناتي من مرض المفاصل(ِArthrose) والاستهلاك. لقد وجه طبيب العائلة نقداً لي لسببين، الأول عدم ذهابي إلى الطوارئ في الصباح الباكر وبعد النبوية الأولى مباشرة، والثاني بسبب عدم بقائي في المستشفى لإجراء الفحوصات الدقيقة على القلب. وكان الطبيب محقاً في نقده، ولم أقدر بصواب الموقف. 
أجريت الفحوصات لثلاث مرات على الدم وكانت المرة الأخيرة أكدت إمكانية خوض جولة أخيرة مع الكيماوي. زرقت به كما في المرات السابقة،  وغادرت المستشفى إلى الشقة في اليوم الثاني، على أن أعود لهم بعد ثلاثة أسابيع لإجراء فحوصات واسعة لمعرفة وضع الجسم من ناحية خلوه من السرطان. كان عليً أن أبقى ليومين من أجل إجراء الفحوصات الضرورية.
كانت الجولة الرابعة مع الكيماوي أخف وطأة بكثير من الجولة الثالثة، إذ لم أتعرض لذبحة صدرية أو أي آلام قاسية، رغم حصول آلام في الفقرات والكتف الأيسر والمفاصل عموماً، لم يتساقط شعر رأسي الذي فضضته سنوات العمر الكثيرة. وبمزحة مع زوجتي أم سامر قلت لها: كنت أتأمل أن يسقط ليظهر ثانية على اللون الأسود الذي ولدت معه، ولكن لم يحصل!
بعد ثلاثة أسابيع عدت إلى المستشفى وأجريت فحوصات كثيرة ومتنوعة انتهت بإعلامي بأن جسمي حالياً خالٍ من السرطان ويمكن أن أذهب إلى عائلتي على أنهم سيرسلوا برنامجاً لفحوصات لاحقة بعد ثلاثة شهور وبعد ستة شهور. وهذا ما حصل.
لقد كانت التجربة غنية حقاً تعرفت فيها على مجموعة كبيرة من الأطباء والطبيبات والممرضات الذين كانوا مثالاً لغنى معارفهم وعمق وعيهم لتخصصهم ومهماتهم ونبلهم الإنساني وودهم واحتضانهم للمريض.
ساعدني التخلص من المرض عدة عوامل مهمة، بأمل أن لا يعود ثانية:
1. اكتشاف السرطان مبكراً، إذ كان ما يزال صغيراً ولم ينتشر إلى باقي أجزاء الجسم. والفضل في هذا يعود لحرص طبيب العائلة على إجراء الفحص الإشعاعي حال سماعه لشكوى البلغم.
2. المعالجة الطبية الممتازة التي عجلت بمعالجتي وانقاذي منه، والتي جسدت حرص الفريق الطبي.
3. الإرادة التفاؤل وعدم حصول ارتباك في موقفي إزاء المرض وإيجابيتي إزاء العلاج وقناعتي بإمكانية الخلاص الناجح من الداء الخبيث.
4. احتضان العائلة والأصدقاء لي واستفسارهم المستمر وودهم الذي عزز معنوياتي والتي كان لها الأثر المهم على الوضع النفسي الإيجابي.             
5. حرصي على عدم الإصابة بالرشح (الاستبراد) أو التهاب الرئة أو أي عدوى محتملة لكيلا تضعف مقاومة الجسم للكيماوي.
6. وخلال فترة الإصابة بالمرض والمعالجة أغرقت نفسي وبأكثر من السابق بالقراءة المكثفة وكتابة المقالات في الموضوعات التي كانت وما تزال تشغل بالي وبال كل العراقيات والعراقيين، أوضاع العراق المتدهورة في ظل النظام الطائفي السياسي الفاسد والتابع والمتخلف والمناهض لمصالح الشعب، بحيث كنت أنسى الآلام الجانبية للمعالجة بالكيماوي المنهكة للجسم والقدرة على التركيز. 
7. وبأمل عدم عودة السرطان أو مواجهته المبكرة في حالة عودته في أي موقع من الجسم لا بد من الالتزام ببرنامج المستشفى الخاص بالفحص المستمر كل ثلاثة شهور، إذ أنه الضمانة الفعلية لمواجهة احتمال عودته ومعالجته، خاصة وأن علوم الطب لم تتوصل حتى الآن إلى معرفة كل الأسباب الملموسة لظهور هذا النوع أو ذاك من السرطان لدى هذا الشخص أو ذاك. علوم الطب في تقدم سريع وهائل وإمكانية معالجة هذا الداء الخبيث أصبحت ممكنة، وهو أمر مفرح لكل من يمكن أن يصاب بهذا الداء.
برلين في 31/01/2019

164
د. كاظم حبيب
السودان ونظام البشير الاستبدادي إلى أين، وأين هي قوى المعارضة المنظمة؟
منذ الانقلاب العسكري في 30 حزيران/يونيو 1989 تولى عمر البشر السلطة في السودان، وهو لا يزال يحكم البلاد منذ ثلاثين عاما بالحديد والنار. وهو واحدٌ من بين أشد المستبدين والساديين الذين عرفتهم منطقة الشرق الأوسط مثل صدام حسين ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي وحسني مبارك وحافظ الأسد الذين انتهوا إلى مزبلة التاريخ، وبعضهم لا زال يحكم البلاد مثل عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد والأمير محمد بن سلمان وبعض حكام دول الخلج العربي، أو خامنئي، أو بشكل غير مباشر كنوري المالكي وقاسم سليماني ولن تكون عاقبة هؤلاء بأفضل ممن سبقوه من الحكام. لقد مارس البشير، العسكري الجاهل والفاسد، سياسة دينية متطرفة ومستبدة قادت بالنهاية إلى قيام دولة جديدة في جنوب السودان، التي لم يكن سكانها بالضرورة يدعون إلى الانفصال، لولا السياسة العدوانية والدينية المتطرفة الخرقاء التي مارستها حكومة البشير على نحو خاص. وقد عبر لي عن ذلك صراحة وبوضوح القائد الجنوبي الدكتور جون قرنق حين التقيته في هافانا/كوبا أثناء انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي في العام 1987، بأنهم لا ينوون الانفصال وإقامة الدولة الوطنية ولكنهم يريدون الديمقراطية والحقوق القومية وحق المواطنة لشعب جنوب السودان والشعب السوداني عموماً. كان هذا قبل تولي حزب المؤتمر الوطني "الإسلامي" السياسي الفاسد الحكم في البلاد في انقلاب على حكومة الصادق المهدي المنتخبة والتي عجزت عن تحقيق الوحدة الوطنية بالاستجابة لمطالب شعب جنوب السودان والشعب السوداني عموما/ مما سهل على الانقلابيين مهمتهمً. 
وخلال السنوات المنصرمة عبر الشعب السوداني عن رفضه للنظام السياسي الإسلامي المتطرف ودعوته لتغيير النظام والخلاص من الدكتاتورية والفساد الذي أصبح يشكل كابوساً خانقاً للشعب وبؤساً وفاقة لا تطاقان. فسرقة كبار المسؤولين لم تعد وحدها الظاهرة البارزة، بل فضائح فساد أخرى أصبحت جزءاً من النظام السياسي القائم فقد جاء في مقال للكاتب د. عبد الوهاب الأفندي بهذا الصدد ما يلي:
" بلغت الوقاحة بالمتورطين في إحدى هذه الفضائح، وهو مدير شركة حكومية أسس شركات خاصة باسم أقربائه ومنحها عقود بأكثر من ثلاثمئة مليون دولار، أن تلك الشركات قاضت الشركة الحكومية وألزمتها بدفع عشرات الملايين من الدولارات زعمت أنها مستحقة لها. ولم تكتف بذلك، بل وجندت لذلك مؤسسات عدلية، بل وأحد قضاة المحكمة الدستورية ووزير عدل سابق، من أجل مهزلة تحكيم حصلت بموجبها على الملايين. وقد أثار ذلك حفيظة أكثر أنصار النظام ولاءً، مما دعا إلى تدخل البرلمان وتسريب الفضيحة." ثم يؤكد الكاتب بعد ذكره لعدد آخر من الفضائح بقوله: " في هذه المشاهد السريالية يتجسد سقوط هذا النظام، ليس فقط أخلاقياً ودينياً وسياسياً، بل ومن جهة فقدان العقل." (راجع: الفساد في السودان والمصيبة الأعظم ..، بقلم: د. عبد الوهاب الأفندي، موقع السودان اليوم، 6 فبراير 2018).
وفي الوقت الذي ادعى حاكم السودان المستبد بأمره بأنه يعمل على مكافحة القطط السمان، نشرت منظمة الشفافية العالمية عن السودان اعتماداً عل منظمة الشفافية السودانية ما يلي:
"قالت منظمة «الشفافية السودانية»، في تقرير لها مطلع العام 2017، إن دراساتها للبيانات الحكومية والإحصاءات الرسمية وواقع الفساد في السودان تؤكد أن الخسائر من جراء الفساد في البلاد فاقت 18 مليار دولار سنويًا. وفي تقرير صدر عام 2015، عن المراجع العام – وهو الشخص المسئول عن مراجعة حسابات الدولة – فإن نسبة الفساد في دواوين الدولة ارتفعت إلى 300%. " (راجع: كريم اسعد، حرب القطط السمان: هل ينجح السودان في القضاء على الفساد؟ موقع إضاءات، في 30/06/2018).
إن الظواهر الثابتة والمميزة للواقع السوداني تشير إلى الوقائع التالية:
** أدت سوء السياسة الاقتصادية والاجتماعية للحكومة السودانية إلى تدهور شديد ومستمر في الاقتصادي السوداني يجد تعبيره أيضاً في ارتفاع كبير في نسب التضخم، حيث ارتفع التضخم السنوي إلى 68.93% في نوفمبر 2018، بعدما وصل إلى 68.44% في أكتوبر. من نفس العام.
** لقد أصبح الفساد في ظل النظام الإسلامي السياسي نظاماً سائداً في ارجاء الدولة حيث تمارسه السلط\ات الثلاث والمؤسسات والهيئات المحلية والإقليمية والدولية والمجتمع.
** أما نسبة البطالة فقد بلغت في العام 2017 إلى 19,6% من القوى العاملة، حسب الأرقام الرسمية في حين إنها أكثر من ذلك بكثير. ويقدر الخبراء إلى إنها تبلغ بحدود ثلاثة ارباع السكان. ويؤكد الواقع الراهن إلى إن البطالة بين الخريجين واسعة جداً ومؤذية لمزيد من العائلات.
** وكما أشرنا سابقاً فأن نسبة الذين تحت خط الفقر تزيد عن ثلي سكان السودان، أي ما يقرب من 27 مليون إنسان من مجموع 42،2 مليون مجموع سكان السودان في العام 2017. وإذ ينتشر الفقر في عموم السودان فأن مدن شرق البلاد هي الأكثر فقراً. فتقرير البنك الدولي يشير إلى أن مناطق شرق السودان تعد الأكثر فقرا وجفافا في البلاد وتأوي نحو 147 ألف نازح في مدن القضارف وكسلا وبورتسودان من جملة مليوني نازح في السودان. (راجع: شرق السودان أكثر المناطق فقرا وجفافا، قناة "امدرمان (ام درمان) الفضائية" تتوقف نهائيا، موقع دابنقا، في ديسمبر 19 – 2016، راديو دبنقا/وكالات). وكذلك " الناس الذين يعيشون في المناطق التي كانت أو لا تزال تتأثر بالجفاف والصراع - وخاصة في جنوب دارفور - هي الأكثر عرضة للفقر." (راجع: د. جمال سعد، الفقر في السودان، 10 كانون الثاني/يناير 2016).
** كشف البنك الدولي عن ديون السودان حتى نيسان/أبريل 2018 على النحو التالي: " أن السودان ما يزال يعاني من ضغوط الديون الخارجية التي بلغت(54)  مليار دولار منها (85%) متأخرات، وتضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة (15%)، ونادي باريس (37%) بجانب (36%) لأطراف أخرى، بجانب (14%) للقطاع الخاص. (راجع: البنك الدولي يكشف عن حجم ديون السودان الخارجية، موقع السودان اليوم في 10 نيسان/ابريل 2018). وعلى المتتبع أن يدرك حجم العواقب التي تنتجها الديون الخارجية والفوائد السنوية المترتبة عليها على الاقتصاد السوداني وشعب السودان.
وفي الآونة الأخيرة وحيث أشارت الولايات المتحدة إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات عنه، بدأ صندوق النقد الدولي بفرض نموذجه وشروطه المعروفة على السودان أيضاً، باعتبارها "خارطة طريق لإنعاش السودان" والتي برهنت في كل التجارب السابقة لبلدان عن فشلها المريع وفي غير صالح شعوب تلك البلدان، ومنها:
-   توحيد أسعار الصرف وتعويم العملة السودانية (الجنية).
-   إجراءات اقتصادية كلية وهيكلة داعمة ملائمة لتوحيد سعر الصرف وخصخصة القطاع العام.
-   إلغاء الدعم الحكومي للكهرباء والقمح بشكل خاص. 
-   توسيع قاعدة البلاد الضريبة إذا أرادت الاستفادة من رفع العقوبات الامريكية.
أدى كل ذلك إلى تراجع شديد في سعر الجنية السوداني مقابل الدولار، حيث أصبح في نهاية عام 2018 إلى 58 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، الذي انعكس ذلك على أسعار المواد الغذائية والسكن وغير ذلك مما زيد من إرهاق كاهل الكادحين والفقراء والمعوزين من السكان، وهم الغالبية العظمى.
من هنا يمكن استنتاج بأن دولة السودان أصبحت في عهد البشير واحدة من أكثر الدول فقراً وبؤساً، وأكثر اضطهاداً لشعبها وللمعارضة السياسية الديمقراطية وأكثر استغلالاً لسكان الريف وإملاقاً للفئات الكادحة، كما إنها واحدة من تلك الدول التي رعت وما تزال الإرهاب الإسلامي السياسي في منطقة الشرق الأوسط. وقد احتل اسمها مكاناً بارزاً في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لذلك كله انطلقت الانتفاضة الشعبية الجديدة في مدن مثل دنقلا والقضارف وبربر وكريمة، ثم لحقتها الخرطوم العاصمة وبقية المدن السودانية التي تطالب بالاستجابة لمطالبها بمكافحة الفساد والفقر والبطالة في البلاد، كما تطالب بالتغيير والتخلص من النظام الاستبدادي الفاسد ومن المستبد بأمره عمر البشير، لاسيما وأن النظام قد وافق على جميع الشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث رفع سعر الخبز ثلاثة أضعاف في وقت يعتبر الغذاء الرئيسي للغالبية العظمى من السكان، للفقراء والمعوزين. ولم يجد المستبد بأمره غير توجيه خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص الحي إلى صدور وظهور المتظاهرين ليقتل 19 شخصاً ويصيب 397 شخصاً بجروح، حسب تصريح وزير إعلام النظام، (راجع: الإعلان عن عدد القتلى والمصابين في مظاهرات السودان، موقع  الجرنال، بتاريخ 27/12/2018)، في حين تشير المعارضة إلى إن عدد القتلى والجرحى يفوق التصريح الحكومي،  من جهة، واتهام المتظاهرين المحتجين من أبناء السودان الفقراء بالعمالة للأجنبي، وأنهم يتحركون بإرادة الأجنبي المعادية للسودان، في وقت يدرك الشعب السوداني من هو الذي يخون القضية الوطنية ومن هو الذي يُجوّع الشعب السوداني، ومن هو الذي يرعى الفساد والفسادين في البلاد. إنه الجهل والفساد والعداء للشعب الذي يتميز به عمر البشير، إنها الإساءة لكرامة الشعب ومصادرة حقوقه العادلة والمشروعة، بعد ان أصبح البشير شحاذاً عالمياً.       
إن ما يجري في السودان لا يختلف كثيراً عما يجري في العراق والموقف الذي تتخذه الحكومة في مواجهة مظاهرات البصرة التي تطالب بالحصول على العمل للعاطلين والخدمات المحروم منها سكان البصرة وبقية أنحاء العراق. وإنها ذات المشكلة في بقية الدول العربية. إنها المحنة والمأساة التي يلتقي بها شعوب بلدان منطقة الشرق الأوسط عموماً المبتلات بنظم استبدادية وعنصرية وشوفينية ودينية وطائفية متطرفة.
إن النظام السوداني بقيادة البشير وحزب المؤتمر الوطني الإسلامي السياسي المتطرف والفاسد يسير بسرعة فائقة إلى طريق مسدود، إلى الصدام المباشر والأكثر شدة مع الشعب السوداني، إلى استخدام النظام المزيد من العنف والسلاح ضد الشعب المحتج، لينتهي كما انتهى إليه نظام زين العابدين بن علي في تونس، ومعمر القذافي ونظامه في ليبيا، حين رفض الجيش الدفاع عنهما، وهو ما يمكن أن يحصل في السودان أيضاً، إذ أن الجيش لم يحسم موقفه حتى الآن، ولا شك فهو من حيث المبدأ جزء من هذا الشعب المبتلى بالبشير ورهطه، ولا بد أن يحس يوماً بآلام الشعب ومأساته. لقد اعتقل البشير بهمجية عدداً متزايداً من قوى المعارضة بمن فيهم بعض ممثلي الأحزاب السودانية ويعرضهم للتعذيب والإساءة، ومن بينهم بعض قادة الحزب الشيوعي السوداني. إن المعركة الجارية في السودان تستوجب موقفاً وطنياً تضامنياً مع الحركة الشعبية العفوية التي انطلقت وعلى رأسها المنظمات المهنية، منظمات المجتمع المدني، ولا بد من عمل توحيدٍ منظمٍ وعاجل من جانب جميع القوى الديمقراطية المعارضة للحكم الثيوقراطي الاستبدادي في السودان، الحكم الذي رفضه الشعب ويسعى للخلاص منه بعد ثلاثين عاماً من الاستبداد والبؤس والفاقة والحرمان والاضطهاد.
إن الشعب السوداني بحاجة إلى تضامن الرأي العام العالمي، ولاسيما شعوب الدول العربية وقواها الديمقراطية، بحاجة إلى دعم المجتمع الدولي، بحاجة إلى إدانة سلوك وعنف النظام السوداني وهمجية تعامله مع الشعب المحتج، مهما اعتقد المستبدون إنهم قادرون على قهر الشعب، إذ أنهم مخطئون ومخطئون جداً وستبرهن الأيام على ذلك إذ لا بد لهذا الشعب أن ينتصر مهما طال ليل الظلم والظلام..
29/12/2018

165
كاظم حبيب
البصرة: الشرارة التي ستنطلق منها الانتفاضة ضد الطائفية والفساد والإرهاب في كل العراق
رغم كل المعاناة القاسية والمريرة على مدى عقود عجاف، ورغم الحروب والغزو والموت للبشر والنخيل، لم تصل معاناة أهل البصرة، كما هي عليه منذ 15 عاماً بالتمام والكمال. منذ أن تسلّم الإسلاميون السياسيون الطائفيون الفاسدون سدَّة الحكم في بلاد الرافدين. فأهل البصرة، ومعهم الغالبية العظمى من شعب العراق، يعانون من ظلم واضطهاد وحرمان من خدمات وبطالة مجحفة وعيش رث وإساءات مستمرة، منذ أن نصَّبَ المحتلون الأمريكيون والبريطانيون القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية على رأس السلطة في العراق وفرضوا نظام المحاصصة الطائفية والأثنية المقيتة على نظام الدولة السياسي والاجتماعي، وداسوا بأقدامهم الدنسة على مبدأ وهوية المواطنة العراقية، ودعوا في الوقت ذاته للهويات الفرعية القاتلة لتتقاتل، ومارسوا في الوقت ذاته وبإصرار وعناد جامحين سياسات التمييز العنصري الأهوج ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى وضد القوميات الأخرى، وجلبوا معهم، ومنذ اليوم الأول الفساد والإرهاب للبلاد، ثم الموت والخراب والحرمان للغالبية العظمى من بنات وأبناء العراق. ولم يكن ما حصل في الموصل وعموم نينوى وقبل ذلك في الأنبار وصلاح الدين سوى النتيجة المنطقية لسياساتهم في وأد الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي العراقي والخضوع لإرادة الأجنبي.
البصرة، ميناء العراق الوحيد وعاصمته الاقتصادية وأرضها الغنية بالثروات ولاسيما النفط والغاز وثغره صوب العالم الفسيح، تعاني من البؤس والرثاثة والخراب، تعاني من البطالة والحرمان، وأهلها الطيبون يعانون من محاولات جادة ومتواصلة لإذلالهم بتكريس هيمنة الحرس الثوري الإيراني بملابس شبه عسكرية عراقية رثة وأسماء عراقية، لتعتقل وتعذب وتسجن بسجون سرية أو تنقل المنتفضين إلى إيران ليجدوا مقبرة مفتوحة لهم في إحدى زوايا إيران. إنها المحنة الكبيرة التي يعاني منها أهل البصرة، ومعهم أغلب أبناء وبنات وادي الرافدين. عرفت البصرة بإضراباتها العمالية وانتفاضاتها الشعبية منذ الخمسينيات من القرن العشرين ولقنت الحكام بصمودها ورفضها القهر والاضطهاد والاستغلال دروساً في النضال المجيد المعمد بالدم والدموع. ولم يسكت أهل البصرة على السياسات الاستبدادية للنظام البعثي المشين والعنصري وانتفضوا بوجه قوات النظام وسعوا لإسقاطه لولا غدر القوات الأمريكية الغازية في ربيع عام 1991 ومساومتها القذرة مع نظام البعث حينذاك وفي أعقاب هروب القوات العراقية من جحيم أحدث الأسلحة التدميرية ورصاصهم المشبع باليورانيوم المنضب.   
ولم يسكت أهل البصرة، منذ أن استولت الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية على السلطة في البلاد في العام 2003/2004 حتى الوقت الحاضر، عن إعلان رفضهم للحكم الطائفي السياسي والفساد ونقص الخدمات والإرهاب والتدخل الخارجي في شؤون البلاد ومارسوا شتى أنواع النضالات المهنية والمعيشية والاجتماعية، ومن ثم السياسية اليومية، ليكسروا حاجز الخوف من إرهاب السلطة السياسة واستخدامها القوات المسلحة مرة، والحشد الشعبي مرة أخرى، والميليشيات الطائفية المسلحة مرة ثالثة، وكلها دفعة واحدة في مواجهة إضرابات ومظاهرات أهل البصرة. لقد سقطت حتى الآن كوكبة من الشهداء الأبرار واعتقل والكثير من المتظاهرين وعذبوا بوحشية، كما اختطف البعض الآخر واغتيل آخرون من المدنيين الديمقراطيين من النساء والرجال أثناء الانتفاضة الشعبية. وها هم أهل البصرة يتظاهرون مرة أخرى بسبب عدم استجابة الحكم بمطالبهم العادلة والمشروعة، ومرة أخرى تبدأ القوات الأمنية والمليشيات المسلحة بمختلف مسمياتها بضرب المتظاهرين وقتل بعضهم واعتقال أو اختطاف البعض الآخر، مما ألزم تنسيقية التيار الديمقراطي في البصرة إلى إصدار التصريح التالي بشأن أوضاع البصرة:
"اقدمت القوات الامنية في البصرة على تفريق المتظاهرين بأسلوب عنفي قاتل و ذلك باستخدام الرصاص الحي مما ادى الى استشهاد عدد منهم و جرح آخرين و الذي طالما استنكرناه و حذرنا منه و الذي سينفتح على تطورات تنذر بمخاطر تهدد امن و استقرار المحافظة و النسيج الاجتماعي و الممتلكات العامة و الخاصة ...
- نطالب الحكومتين المحلية و الاتحادية بالتحرك المسؤول و الفوري لإيقاف هذا الاعتداء الغاشم على المتظاهرين و نحملهما مسؤولية ذلك.
- نطالب قيادة عمليات البصرة و الاجهزة الامنية كافة القيام بواجباتها الدستورية و القانونية بحماية المتظاهرين و توفير الاجواء الآمنة للمتظاهرين للتعبير عن آرائهم و مطالبهم بحرية تامة .
- نطالب بتوفير الخدمات كافة و الاستجابة الفعلية لمطالب المتظاهرين المشروعة دون مماطلة او تسويف.
المجد لشهداء الحركة الاحتجاجية و الشفاء للجرحى
تنسيقية البصرة للتيار الديمقراطي
البصرة تغلي اليوم لأن الحكام المحليين والاتحاديين لا يريدون الاستجابة لمطالب الشعب العادلة والمشروعة، فهم صم بكم عمي لا يفقهون. هذا الغليان المستمر بالبصرة لا يمكن أن يبقى بالبصرة وحدها، فما يعاني من أهل البصرة يعاني منه أيضاً أهل بابل والنجف وكربلاء والديوانية والعمارة والناصرية وبغداد، والموصل والأنبار وصلاح الدين وسامراء والمدن الكردستانية، وبالتالي سيفجر المنتفضون قريباً الأرض تحت أقدام الطائفيين الفاسدين الذين يرفضون فهم ما يطالب به أهل العراق، فهم عن شعبهم ساهون وفي غيهم سادرون مستهترون..     
وفي هذا الفترة التي تستوجب لحمة العراقيات والعراقيين بغض النظر عن دينهم ومذهبهم وقوميتهم، يطلع علينا أحد الشيوخ المسلمين الشيعة في البصرة ليعلن من على منبر المسجد المركزي موقفه البائس والمعادي لاحتفال أهل البصرة وجنوب العراق عموما من مسلمين ومسيحيين بأعياد ميلاد السيد المسيح، نبي المسيحيين، ويدعو بذلك غل ى الكراهية والبغضاء ويتبع بذلك أيضاً ما صرح به مفتي السنة في الجمهورية الشيخ مهدي الصميدعي بدعوة المسلمين عدم المشاركة في احتفالات المسيحيين بعيد ميلاد السيد المسيح. إنها دعوات لا تختلف عن سلوك داعش وتوجهاته التكفيرية العدوانية المناهضة للوحدة الوطنية والتضامن بين أتباع جميع الديانات والمذاهب في العراق. إنها فتوى ظالمة ودعوة معادية للوحدة الوطنية يجب رفضهما ورص الصفوف في مواجهة الطائفية والفساد والإرهاب في العراق، في مواجهة الحكم الطائفي المحاصصي ومن أجل الإصلاح والتغيير والاستجابة الحقيقية لمطالب أهل البصرة والعراق.

166
كاظم حبيب
ستبقى آمال الشعب الكردي قائمة رغم معاناته الراهنة
لم يبدأ الشعب الكردي نضاله القومي والوطني في سبيل الحرية والاستقلال والوحدة القومية حديثاً، بل كان هذا هاجسه وهدفه منذ قرون، وتجلى في الإمارات التي تشكلت على امتداد القرون المنصرمة، والتي يمكن العودة إليها في العديد من كتب التاريخ، ومنها عل سبيل المثال لا الحصر كتاب المؤرخ شرفخان البدليسي (1543-1606)، وكتاب "خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من اقدم العصور التاريخية" للسيد محمد أمين زكي (1880-1958)، وكتاب د. مكرم الطالباني بعنوان "تطور الحركة القومية الكردية" بجزئين، وكتاب "الكرد وكردستان" تأليف أرشاك سافراستيان وترجمة الدكتور احمد خليل ..وغيرها. كما تجلى ذلك وبشكل خاص منذ بداية القرن العشرين في حركة الشيخ عبد السلام البارزاني في العام 1909/1910، ومن ثم مفاوضات الكرد مع الحلفاء قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، وثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية وإعلانه الملكية، وكذلك إعلان استقلال جمهورية أرارات الكردية بقيادة اللجنة المركزية لـ حزب خويبون، في 28 أكتوبر 1927، أثناء موجة من الانتفاضات بين الكرد جنوب شرق تركيا. واستطاع الجيش التركي استخدام العنف المفرط في القضاء عليها في العام 1930. كما بدأت في الثلاثينيات الحركات التحررية اللاحقة للشعب الكردي في العرق بقيادة الشيخ أحمد البارزاني، وتواصلت في الأربعينيات بقياد الملا مصطفى البارزاني، إضافة إلى تحركات واسعة خلال العقدين الرابع والخامس من قبل الكثير من المثقفين الكرد الذين شكلوا تنظيمات عديدة منها على سبيل حزب هيوا (الأمل) تأسس في العام 1938، ومن ثم حزب شورش (الثورة) وحزب رزگاري كرد (تحرير الكرد). تتوج نضال الشعب الكردي في كردستان إيران بإعلان قاضي محمد (1893-1947) جمهورية كردستان والتي سميت في كتب التاريخ "جمهورية مهاباد" التي أجهضت بقسوة بالغة من قبل قوات الدولة الشاهنشاهية الإيرانية وأعدم قاضي محمد في العام 1947. ووقد شاركت مجموعة من المناضلين الكرد بقيادة الملا مصطفى البارزاني ومجموعة من الضباط الكردي العراقيين في دعم جمهورية مهاباد، حيث أصبح الملا مصطفى البارزاني قائداً لقواتها العسكرية. وإذ استطاع البارزاني الهجرة إلى الاتحاد السوفييتي، قرر أربعة من الضباط الكرد العراقيين العودة إلى العراق بعد أن أعطت الحكومة العراقية وعداً بالعفو عنهم، ولكن الحكومة العراقية أخلت بوعدها وارتكبت جريمة إعدامهم في آذار/مارت من عام 1947 وهو نف الشهر والعام الذي أعدم فيه قاضي محمد رئيس جمهورية مهاباد.                          في العام 1946 بدأ تبلور أهداف ومهمات الحركة التحررية الكردية في لكردستان العراق واقترن نضالها بشكل واضح مع نضال الشعب العراقي عموماً في سبيل الحريات العامة والديمقراطية واستقلال البلاد وسيادتها وحقوق الشعب الكردي. وقد تجلت في الموقف الذي اتخذه الحزب الشيوعي العراقي من المسألة الكردية منذ تأسيسه وكذلك حزب الشعب الماركسي الذي أسسه عزيز شريف، وفيما بعد سمي بوحدة النضال، وعند تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي (وفيما بعد أصبح الحزب الديمقراطي الكردستاني).
وعلى العموم يمكن القول بأن نضال الكرد في العراق قد مرّ بثلاث مراحل: المرحلة الأولى تجلت في مطالب ديمقراطية بما فيها الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والاجتماعية، والمرحلة الثانية تجلت في طرح شعار الحكم الذاتي في إطار الدولة العراقية، والمرحلة الثالثة تجلت في إقامة النظام الفيدرالي ضمن الدولة العراقية. ولا شك في أن الكرد بالعراق كانوا يفكرون دوماً بإقامة دولتهم الوطنية المستقلة على القسم الجنوبي من أرض كردستان الكبرى أو إقليم كردستان العراق. وهي المرحلة الرابعة في هذا النضال.     لقد وجد نضال الشعب الكردي الدعم والتأييد من الحزب الشيوعي العراقي وقوى وأحزاب ماركسية في العراق، وكذلك في كل من إيران وتركيا. إلا إن هذه النضالات العادلة والمشروعة، على وفق مبادئ الأمم المتحدة القائمة على أساس حق تقرير المصير للشعوب، قد وجدت المعارضة والمقاومة والمجابهة العسكرية والحرب من جانب القوى الحاكمة في هذه الدول الثلاث، وهي حكومات قومية شوفينية ورجعية متعصبة. وهي التي سمحت للمحامي والسياسي العراقي الماركسي الأستاذ عزيز شريف أن يشير في كتابه الموسوم "المسألة الكردية في العراق" إلى ما يلي:       
 "ظاهرتان للمسألة الكردية في العراق:  الظاهرة الأولى تمثل الوجه السلبي للمسألة الكردية أي أثر السياسة الاستعمارية الرجعية التي قضت باستعباد الشعب الكردي وتمزيق أوصاله وإبقائه في مستوى من العيش البهيمي. أما الظاهرة الثانية للمسألة الكردية في العراق فإنها تمثل الوجه الإيجابي لهذه المسألة وهو كفاح الشعب الكردي في سبيل حرياته وفي سبيل تقرير مصيره. والمسألة الكردية في العراق ليست عراقية صرفة، إنها جزء من مسألة الشعب الكردي في جميع موطنه كُردستان وأن مزقته السياسات الاستعمارية الرجعية المحلية الجائرة وأن تعددت لهجاته حتى بدت أحياناً كأنها لغات مختلفة بسبب العزلة. وأن ترابط أجزاء المسألة الكردية يبدو جلياً في التدابير السياسية والبوليسية العسكرية المنسقة التي تقوم بها قوات الحكومات السائدة في العراق وتركيا وإيران ومن فوقها ومن ورائها الاستعمار الانگلو أمريكي لقمع أية حركة انتفاضة كردية، تقع في أي من الأقطار الثلاثة وأحدث مثال لهذه التدابير المنسقة هو التعاون العسكري بينها لسحق حركة البارزانية عام 1945." هذا ما كتبه عزيز شريف في العام 1950. ولكن أقسى جريمة وإبادة جماعية تعرض لها الشعب الكردي في حملات الأنفال عام 1988، إضافة إلى مؤامرة اتفاقية الجزائر لعام 1974 التي وقعت بين صدام حسين وشاه إيران بدعم مباشر من حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل وتركيا. وأخيراً حصول تعاون عدواني مناهض للكرد حصل بين حكومات الدول الثلاث في سبتمبر من عام 2017 بعد بروز نتائج الاستفتاء الذي أجرته حكومة إقليم كردستان بشأن مستقبل كردستان العراق، والذي حاز على 92,73% من مجموع المصوتين الذين بلغت نسبتهم إلى مجموع المسجلين 72,16%. ويمكن اعتبار النسبتين عالية جداً بالقياس إلى نسب المشاركة في الانتخابات في عموم الدول النامية ومنها العراق، والتي تؤكد رغبة الكرد في إقامة دولتهم الوطنية المستقلة. وهي لا تختلف عن رغبة الكرد في كل من كردستان إيران وكردستان تركيا، في حين أن كرد سوريا لهم مطالب وحقوق مشروعة، منها إدارية وثقافية واجتماعية، تؤدي إلى تعزيز الوحدة الوطنية في سوريا لو استجيب لها بعقلانية من جانب حكام سوريا.
لم يكن قرار الاستفتاء في كردستن للتنفيذ المباشر لإقامة الدولة الكردستانية على أرض إقليم كردستان في العراق، بل كان تأكيداً لثلاث مسائل جوهرية:
1.   التعبير عن حق الشعب الكردي في إقليم كردستان العراق في تقرير مصيره بنفسه، باعتباره حقاً مشروعاً لجميع الشعوب صغيرها وكبيرها، وهو حق ثابت ووارد في اللوائح الدولية للأمم المتحدة والهيئات الدولية ولوائح حقوق الإنسان وحقوق الشعوب.   
2.   التعبير عن رغبة الشعب الكردي الصادقة في إقليم كردستان العراق.
3.   تحسيس الحكومة العراقية بأن الشعب الكردي في كردستان العراق قد اختار الفيدرالية في الحكم باختياره حين كانت توفرت إمكانية لتجاوز الدولة العراقية في فترة حكم البعث في العام 1991، وبالتالي لا بد للدولة الاتحادية بسلطاتها الثلاث مراعاة هذه الحقيقة في التعامل بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في جانبي الصلاحيات والواجبات.
وإذا ما اختلفنا مع المسؤولين في الإقليم في مسالة توقيت الاستفتاء، فأن هذا لا يعطل ولا يبطل حق الشعب الكردي في إجراء الاستفتاء وفي إعلان نتائجه واحترامها من قبل العرب والحكومة الاتحادية، ومن ثم التفاوض مع حكومة الإقليم بشأن الموقف ما بعد الاستفتاء. ولكن الموقف الذي اُتخذ إزاء ليس الاستفتاء فحسب، بل وإزاء الشعب الكردي عموماً من جانب الحكومة الاتحادية بقيادة حيدر العبادي عبر عن:
1.   رؤية أيديولوجية قومية شوفينية متعصبة ورافضة لحق تقرير المصير للشعب الكردي من حيث المبدأ؛
2.   ورؤية إيديولوجية دينية متعصبة ومتشددة تعتبر المسلمين كلهم أمة واحدة يعيشون في دولة إسلامية واحدة هي الدولة العراقية، ولا يحق لهم غقامة دولتهم الوطنية المستقلة إذ يعتبر ذلك انفصالاً مرفوضاً.
وتناغماً مع هذين الموقفين الإيديولوجيين الخاطئين اتخذت الحكومة الاتحادية إجراءات ذات طبيعة إرهابية وقمعة وعقابية ضد إرادة الشعب الكردي وحقه في إجراء الاستفتاء. فكان الامتناع عن دفع الرواتب وفرض الحصار الاقتصادي وإجراءات عقابية وعسكرية أخرى كادت تقود إلى مآسي جديدة، ودامت فترة غير قصيرة وكانت ضد العدالة والشرعية والانصاف. وهو نفس الموقف الذي تتخذه الدولة الثيوقراطية "الإسلامية" الإيرانية بقيادة المرشد الطائفي والمستبد بأمره علي خامنئي، والدول الثيوقراطية التركية الجديدة بقيادة الشوفيني المستبد بأمره رجب طيب أردوغان من حقوق الشعب الكردي في الدولتين. وما الحرب العدوانية التي يخوضها حكام تركيا حالياً ضد الشعب الكردي في كردستان تركيا والصواريخ التي تطلق على أراضي كردستان العراق من تركيا التي تقتل المدنيين بذريعة قصف مقرات حزب العمال الكردستاني ليست سوى جريمة بشعة وتجاوز على استقلال وسيادة العراق وانتهاك صارخ للائحة الأمم المتحدة وضد إرادة المجتمع الدولي.
كم كان الفقد الدكتور زهدي الداوودي على صواب حين كتب يقول: „إن القومية الكبيرة التي تستعبد القومية الصغيرة، ليست حرة. ولقد آن الأوان كي يفهم القوميون العرب والأتراك والفرس هذه الحقيقة...". (راجع: الحوار المتمدن بتاريخ 26/12/2009).
وإذ تعرض تحقيق آمال ومهمات الشعب الكردي إلى الانتكاسة أكثر من مرة على امتداد القرن العشرين وحتى الآن، كان يعاود النهوض وبعزيمة أقوى وأمضى من السابق. ورغم حاجة الشعب الكردي لتأييد الشعب العربي وبقية القوميات في العراق من جهة، وتأييد المجتمع الدولي والكثير من الدول والرأي العام العالمي من جه أخرى، إلا إن التجارب المريرة التي مرّ بها هذا الشعب المناضل تؤكد الاستنتاج التالي: إن تحقيق الآمال والمهمات يتطلب أولاً وقبل كل شيء تحقيق الوحدة الوطنية للشعب الكردي، وحدة الإرادة والعمل، وحدة الهدف، والعمل على قبول الرأي والرأي الآخر والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة في الإقليم، يتطلب إعادة بناء الإنسان الكردي ورفع مستوى وعي الجماهير والاستجابة لحاجاتهم وتطلعاتهم والاستفادة الفعلية من دروس الماضي من خلال العمل على تغيير بنية الاقتصاد الكردستاني، ولاسيما التصنيع وتحديث الزراعة وتطويرها، وتغيير بنية المجتمع الطبقية وتأمين مستلزمات أساسية لتحقيق الأماني والأهداف التي يتطلع لها الشعب الكردي. كما لا بد من انتهاج سياسة تؤكد وحدة النضال ضد الاستبداد والتطرف والطائفية التي تمارس من جانب الحكومة الاتحادية وضد كل القوميات، ومنهم العرب. إن كسب ثقة الشعب الكردي من جانب القوى السياسية والاستجابة لحاجاته وتطلعاته هي الضمانة لوحدة نضاله وانتصاره على من يقف ضد طموحاته وتطلعاته العادلة والمشروعة. فلا بد من تجاوز أخطاء الفترات السابقة في العمل المشترك بين القوى والأحزاب السياسية في إقليم كردستان، كما لا بد من التعلم من الأخطاء الحكومية في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية وأهمية وسبل استخدام الموارد المالية المتوفرة في عملية تنمية إنتاجية عقلانية توفر الأرضية الصالحة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي وتنمي الثروة الوطنية وتحسن مستوى معيشة وخدمات بنات وأبناء الشعب في كردستان العراق. ومع قرب حلول العام الجديد أرجو لهذا الشعب عبور الأزمة والنجاح في تحقيق الوحدة الوطنية ومواجهة الواقع الجديد والاحتفاظ بالأمل والعمل من أجل تحقيق الأهداف العادلة والمشروعة.


167
كاظم حبيب
اليمن الحزين يبكي على قتلاه ويدين مساهمة تجار الحروب والسلاح على تدميره

يدرك الشعب اليمني أنه ضحية صراع المصالح الإقليمية وتجارب السلاح وأرباح تجار السلاح والحروب والموت، ومع ذلك غير قادر على إيقاف قتال الأشقاء، لأن الدول الاستعمارية بأساليبها الجديدة وتلك المتطلعة لتكريس نفوذها أو تأمين نفوذ لها في المنطقة، لا تريد ذلك، فهي تسع فعلياً إلى تخريب المنطقة ومواصلة القتال التدميري، بل تريد وتعمل على سيادة "الفوضى الخلاقة في عموم المنطقة، كما جاء على لسان كونداليزا رايز، وزيرة خارجة الحزب الجمهوري في عهد جورج دبليو بوش (الابن)، لإمرار مشاريعها العدوانية ضد شعوب المنطقة وبالتعاون مع حكوماتها المستبدة والرجعية والتابعة لهذه الدولة أو تلك على صعيد الدول الكبرى أو على صعيد المنطقة. هذه هي الحقيقة المُرّة التي يجب ان يراها الشعب اليمني وكل شعوب منطقة الشرق الأوسط بعيون مفتوحة وذهن متيقظ ورؤية واعية ومضادة. والحرب لا تحل المشكلة اليمنية، بل المفاوضات المباشرة بين اليمنيين أنفسهم. ك. حبيب
 
رغم شعور الحوثيين الزيديين بالتمييز من جانب الحكومة المركزية في اليمن، إلا إنها لم تقم بتحرك سياسي وعسكري طوال عقود ضد الحكومة اليمنية المركزية التي يدين حكامها بالمذهب الشافعي في الإسلام. ورغم الاختلاف بين المذهب الشافعي المتسامح لحكام اليمن وبين المذهب الحنبلي الوهابي المتشدد لحكام السعودية، فقد ارتبط حكام اليمن خلال العقود الأربعة الأخيرة بحكام السعودية والتزموا بدعم سياساتهم، رغم تيني علي عبد الله صالح، الذي تسلم الحكم في العام 1978 لفكر البعث ونهجه السياسي القومي الشوفيني وأقام علاقات متينة مع القيادة القومية لحزب البعث بقيادة ميشيل عفلق، ولاسيما مع نظام البعث العراقي ومع صدام حسين شخصياً. ولم تجد السعودية في ذلك غضاضة مادامت العلاقات معها قوية ومتناغمة، كما كانت لها هي الأخرى، ولاسيما في فترة حكم الملك فهد علاقات كتينة مع حزب البعث وصدام حسين.
إلا إن الخميني، وبعد سرقته لثورة الشعب الإيراني واستيلائه على الحكم في العام 1979، عمد إلى تبني تصدير "الثورة الإسلامية الشيعية" إلى الدول ذات الأكثرية الإسلامية وتلك التي سجلت في دستورها "الإسلام دين الدولة"، علماً بأن الدولة لا دين لها باعتبارها شخصية معنوية. وقد بدأ التدخل الإيراني الفعلي في شؤون الدول الأخرى بشكل مباشر، ولاسيما في الدول العربية ومنها اليمن. وقد أثار هذا التدخل حفيظة النظم السياسية الأخرى، ولاسيما المملكة السعودية، مما أدى إلى نشوب صراعات ونزاعات، بل وحرب دموية مجنونة بين إيران والعراق لفترة دامت ما يقرب من 8 سنوات عجاف ومدمرة ومميتة. ثم كانت الحرب في سوريا التي بدأت قبل ما يقرب من سبع سنوات ولا تزال مستمرة ومدمرة ومميتة لمزيد من البشر والنازحين واللاجئين.
أما في اليمن، البلد المتخلف اقتصادياً واجتماعياً وسياسيا، فقد بدأ التدخل الإيراني بتشجيع الحوثيين على مواجهة التمييز والمطالبة بحقوق متساوية والمشاركة في الحكم. ورغم صحة تلك المطالب، إلا إنها كان مطالب حق يراد بها باطل وغطاء تسترت به إيران لتحقيق مصالحها في اليمن. ولكن الحكم المركزي بقيادة علي عبد الله صالح لم يلتف لهذه المطالب ولم يهتم بإيجاد حلول عملية وعادلة مع الحوثيين. مما وسَّع شقة الخلاف وحولها إلى صراعات سياسية ومن ثم إلى نزاعات دموية.
فخلال الفترة الواقعة بين أوائل الثمانينيات من القرن الماضي والعام 2004 بدأ الحوثيون يسعون إلى امتلاك السلاح والتدريب عليه وتعزيز قدراتهم القتالية من خلال دعم إيران وحزب الله اللبناني-الإيراني لهم. وظهر ذلك بوضوح حين نشبت حروب ست بين الحوثيين وقوات الحكومة المركزية بقيادة رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح بين عامي 2004-2010، وكلفت الشعب اليمني الكثير من التضحيات البشرية والخسائر المادية والتوقف الفعلي عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وخلال هذه الفترة كانت سياسة علي عبد الله صالح تزداد استبداداً، ولاسيما بعد تحقيق الوحدة مع اليمن الجنوبي في أيار/مايس 1990. ولكن حرباً تفجرت بين الجنوب بقيادة علي سالم البيض، والشمال بقيادة علي عبد الله صالح في العام 1994 انتهت بالسيطرة على عدن وإنهاء الانفصال الذي أعلنه قائد الجنوب. وقد حصل الشمال على تأييد السعودية الكامل، مما أوقع علي عبد الله صالح تحت نفوذ السعودية بشكل واسع جداً. وخلال الفترة الواقعة بين 1994-2011 مارس علي عبد الله صالح سياسة استبدادية فاسدة لم تضطهد وتستفز الحوثيين وحدهم، بل وبقية الشعب اليمني، مما أدى إلى انفجار ثورة شعبية ضده في العام 2011، انتهت بإجبار علي عبد الله صالح على التنازل عن رئاسة الجمهورية لصالح نائبه عبد ربه منصور هادي في العام 2011. وقد أيد حكام إيران هذه الثورة، في حين وقف حكام السعودية ضدها، مما جعل المعركة ليست يمنية فحسب، بل وعلى صعيد المنطقة.   
لم تختلف سياسة الرئيس الجديد إزاء الحوثيين عن سياسة صالح السابقة، مما أدى إلى نشوب معارك بينهم وبين الحكم المركزي. وقادت هذه المعارك إلى بروز تحالف جديد بين أعداء الأمس، بين الجبهة الشعبية بقيادة علي عبد الله صالح وجماعة الحوثيين (حركة أنصار الله) التي أدت إلى احتلال صنعاء. عندها فرض على عبد ربه هادي منصور التنازل عن رئاسة الجمهورية لنائبه وفرضت عليه الإقامة الجبرية بصنعاء في كانون الثاني/يناير 2015. وفي شباط/فبراير 2015 تسنى له الهروب مع مجموعة من أعضاء حكومته إلى عدن وبدعم كامل من السعودية ودول عربية خليجية أخرى. ومنها أعلن سحب استقالته وإعلان الحرب ضد تحالف الحوثيين والجبهة الشعبية وبدعم من المملكة السعودية ودول خليجية، في حين وقفت إيران مع الحوثيين وبقوة أكبر من السابق.
شكل الحكم السعودي تحالفا لدول عربية وغير عربية ذات أكثرية مسلمة لخوض الحرب ضد الحوثيين لدعم عبد ربه هادي ناصر. حظي هذا التحالف على تأييد ودعم متنوع من جانب الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. في هذه المرحلة بالذات أصبحت اليمن ساحة فعلية لحرب إقليمية بين التحالف الذي تقوده السعودية لدعم الحكومة اليمنية برئاسة منصور، وبين تحالف تقوده إيران لدعم الحوثيين بقيادة عبد الملك الحوثي. ويجري هذا الصراع تحت واجهة دينية، في حين أنه صراع مصالح بين إيران والسعودية ودول خليجية بامتياز، إذ إنها تخشى من النفوذ الإيراني على نظمها السياسية. إنها ليست حرب الشعب اليمني، حرب الأشقاء، بأي حال، وليست حرباً دينية مذهبية، وإن بدت كذلك للبعض، إنها حرب الحصول على نفوذ وهيمنة وتحقيق مصالح في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما لدول المنطقة ذات الأكثرية المسلمة. إن هذه الحرب التي بدأت منذ أواخر عام 2014 لا زالت مستمرة ولا زالت تقتل المزيد من البشر وتدمر الكثير من المدن وتزيد من بؤس وفاقة وجوع ومرض ونزوح المزيد من السكان من مناطق القتال الكثيرة أو الهجرة إلى خارج اليمن. ومنذ فترة غير قصيرة يستد القتال في مدينة الحديدة بهدف السيطرة على ميناء الحديدة لاستخدامه في الحرب الدموية الجارية بين الطرفين، كما تحاول الأمم المتحدة الاستفادة منه لأغراض إيصال المساعدات الإنسانية على اليمنيين. ولم يتوصل المتفاوضون إلى نتيجة فعلية إيجابية بصدد المينا، رغم الاتفاق على بعض الخطوات بهذا الشأن.
إن المجتمع الدولي لا يريد إيقاف القتال رغم تحرك الأمم المتحدة ورئيسها وتشكيل لجنة ومسؤول للتفاوض بين الفرقاء المتقاتلين، إذ أن الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية تنشط هذه الحرب من خلال استمرارها لا في بيع المزيد من السلاح إلى السعودية وبقية الدول المشاركة في التحالف "العربي الإسلامي" بقيادة السعودية فحسب، بل وفي تأييد هذا التحالف في حربه في اليمن لأن الدول الغربية الكبرى ضد إيران ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، كما إن إيران تمارس تزويد الحوثيين بمزيد من السلاح الذي تبيعه لها الدولة الروسية ودول أخرى من تجار السلاح والموت، إضافة إلى السوق الموازي الناشط في منطقة الشرق الأوسط. والتقارير المتوفرة تشير إلى خسائر هالة تحملها المجتمع اليمني بسبب هذه الحروب. فتقرير صادر عن منظمة حقوق الإنسان في صنعاء تشير إلى الأرقام التالية:
بلغ عدد القتلى 296834 يمني و24000 طفل لأسباب كثيرة منها المرض وسوء التغذية والغارات الجوية والقصف المدفعي والتفجيرات المستمرة. إضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى والمعوقين. أما الخسائر المادية فتشير الإحصائية إلى تدمير "271 مصنعا و19 مؤسسة إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية و28 مركز إرسال إذاعي وتلفزيوني وميكرويف، وتم تدمير 400 منشأة وشبكة اتصالات حكومية وخاصة و420 منشأه وشبكة ومحطة كهرباء و450 منشأة ومحطة وناقلة نفطية وغازية و85 منشأه رياضية، هذا بجانب تدمير 9 مطارات مدنية و14 ميناء و5000كم من الطرق و95 جسر. كما أشار البيان إلى أن عمليات التحالف قد دمرت 2641 منشأة تربوية وتعليمية منها 293 تدمير كلي و2348 تدمير جزئي ودمر 68 مرفقا إداريا تربويا، وتم قصف وتعطيل 23 جامعة حكومية وأهلية كليا وجزئيا وتدمير 60 معهدا وكلية مجتمع، وتشريد ٢.٥ مليون طالب لا يذهبون للمدارس والجامعات نتيجة الحرب. كما استهدفت الحرب 1016 مزرعة للمحاصيل و535 سوقا مركزيا للمنتجات الزراعية و40 سوقا زراعيا ريفيا و81 سوقا فرعيا ومخزنا للتبريد و8010 منشأة مائية و1090 مضخة مياه و10 وحدات طاقة شمسية." راجع: خسائر اليمن البشرية والمادية بعد ثلاث سنوات من الحرب، موقع سبوتنيك عربي، 28/03/2018). ولا شك في أن المعارك الأخيرة في الحديدة وغيرها كلفات الشعب اليمني الكثير من القتلى والجرحى والمعوقين والنازحين والمشردين.
إنها واحدة من أكبر الجرائم التي ترتكب ضد الشعب اليمني، وهي الحرب التي لا بد لشعوب منطقة الشرق الأوسط والرأي العام العالمي من النضال الدؤوب والجاد لإيقافها، لمنع إيران والسعودية ودول خليجية وغيرها مواصلة الحرب المدمرة، إذ ستكون وبالاً لا على الشعب اليمني فحسب، بل وعلى شعوب المنطقة بأسرها. إن الحرب الجارية في اليمن لن تحل مشكلة الحكم، ولن تحقق لأي من الطرفين النصر على الآخر، ولكن الجرح الكبير سيبقى مفتوحاً ونازفاً ما دام هناك تدخل خارجي مستمر ومشين في شؤون الشعب اليمني، والحل الوحيد يكمن في  إيقاف القتال فوراً والبدء بمفاوضات مباشرة بين اليمنيين أنفسهم لضمان إقامة دولة ديمقراطية ومجتمع مدني ومشاركة فعلية من جانب جميع اليمنيين في حكم البلاد، وبعيداً عن المحاور الإقليمية والدولية التي لا تريد للشعب اليمني الأمن والسلام والخير والتقدم، بل تريد تحقيق مصالحها الخبيثة في اليمن وفي عموم منطقة الشرق الأوسط. إن هذا يمكن أن يتم حين تمتنع الدول المنتجة والمصدرة والبائعة للسلاح عن ارساله لأطراف النزاع الدموي، حين تمتع عن تزويدها بالمال لشراء السلاح من السوق الموازية، بل تقديم الدعم للشعب اليمني لمواجهة جوعه وجراحه. الحل يكمن في أجبار المتقاتلين في الركون إلى التفاوض ودون تدخل خارجي غير مساعد على إعادة الأمن والسلام لليمن الحزين وشعبه المستباح بالحرب.       
 

168
كاظم حبيب
حصاد الحكم الطائفي الفاسد في العراق
احتفل العراقيون والعراقيات يوم أمس، 10/12/2018، وهو يوم الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيضاً،  بالذكرى السنوية الأولى لانتصار الشعب العراقي بقواته المسلحة والبيشمركة والمتطوعين على أعداء الشعب من الإرهابيين الذين اجتاحوا الوطن من بوابة الموصل وعموم نينوى. رغم إن المعلومات المتوفرة تشير إلى أن أرض العراق ما تزل لم تطهر من رجس هذه العصابات حتى الآن، إذ سكان بعض المناطق مازالوا يعانون من عودة عصابات داعش ونشاطهم التخريب والقتل لمن يقف في وجههم.
لا يخفى على الناس في العراق بأن النصر الحقيقي لا يقاس بطرد المحتل وتحرير الأرض فقط، بل وبخلق أوضاع طبيعية وآمنة ومستقرة للذين عانوا من الاحتلال. إذ كان الاجتياح والاحتلال وسبي واغتصاب وقتل الناس وتهجيرهم نتيجة لسياسات حقيرة فاسدة وطائفية مذلة مارستها النخبة الحاكمة في أرجاء العراق منذ العام 2003/2004، ولاسيما في الموصل وعموم نينوى ومحافظات غرب العراق، مما سهل على القاعدة والدواعش اجتياح العراق وهروب القوات المسلحة بجميع اصنافها من مناطق الموصل ونينوى بقرار من القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء حينذاك نوري المالكي. لقد احتل الدواعش الأوغاد الموصل وكل سهل نينوى ومارسوا كل الفقرات الواردة في مفهوم ومضمون الإبادة الجماعية ضد بنات وأنباء شعبنا العراقي من الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان. وما لم تتغير تلك السياسات التي تسببت في تذمر السكان وتسهيل مهمة الاجتياح والاحتلالي، لن يستقر العراق ولن يغيب الداعشيون وأمثالهم عن الساحة العراقية، بل يمكن أن يعودوا بقوة أكبر ويمارسوا بشاعات جديدة.
لقد مارس النظام الطائفي ولاسيما في فترة حكم نوري المالكي سياسة التمييز الديني والطائفي بأجلى معانيه وأشدها ظلماً وقهراً للإنسان، كما مارس عملية إفساد منظمة وهادفة لجمهرة كبيرة من القادة العسكريين في الجيش والشرطة والأمن الداخلي وسمح للفساد بالانتشار والهيمنة على مجمل نشاط الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، وأفسد العلاقة مع القيادة الكردية بمساوماته الخادعة من أجل البقاء في السلطة والحصول على ولاية ثانية. لقد أصبح العراق الرث مكب نفايات وفساد وطائفية تقف فوقه وتعيد إنتاجه النخبة الحاكمة وأبرز قادة قوى وأحزاب الإسلام السياسي، وعلى رأسهم نوري المالكي. ولكي نؤكد ما أشرنا إليه نورد لكم جملة من الأرقام التي تسبر غور مضمون ووجهة ودلالات العملية السياسية الجارية في العراق منذ العام 2003/2004 حتى الوقت الحاضر.       
الشعب العراقي والكثير من شعوب الأرض يعرفون بأن الغالبية العظمى من شعبنا العراقي مستباحة من النخب الحاكمة، من قوى وأحزاب الإسلام السياسي، من ميليشياتها المسلحة، من طبيعة المحاصصة في العملية السياسية الجارية، مستباحة من الطائفيين والفسادين والإرهابيين وحاملي كاتم الصوت، الناس يستباحون ثانية بسبب عودة الداعشيين ثانية إلى بعض المناطق التي حررت، والغالبية مستباحة من إيران بصورة مباشرة من خلال وجودها في جميع سلطات الدولة العراقية ومفاصلها الحساسة، وفي السياسات العراقية التي تفرضها غيران داخلياً وخارجياً.
الإحصائيات التي تحت تصرفنا تؤكد بعلى سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
** بلغت البطالة على وفق الأرقام الرسمية 31% حتى عام 2017 وهي في تزايد مستمر، علماً بأن النساء لا يدخلن في عديد العاطلين عن العمل، كما إن الرقم الفعلي أكثر من ذلك بكثير
** بلغت نسبة من هم تحت خط الفقر 35%، والرقم الفعلي أعلى من ذلك بكثير، ويصل إلى حدود 50% من هم تحت أو على خط الفقر أو أعلى بقليل منه.
** بلغ عدد اليتامى 5,6 مليون نسمة حتى نهاية عام 2017، وبلغ عدد الرامل بين 14-52 سنة 2 مليون أرملة.
** بلغ عدد الذين هجروا العراق 3,4 مليون نسمة، توزعوا على 64 دولة، إضافة إلى 4,1 مليون نازح، 1,7 مليون منهم يعيشون في معسكرات تفتقر للعيش الأدمي،
** بلغ عدد الأميين 6 ملايين نسمة ممن لا يقرأ ولا يكتب.
** سقط 430 ألف قتيل و620 ألف جريح، منهم 30% بعاهات أخرجتهم من خانة القادرين على العمل، و58 ألف مفقود لا يعرف مصيرهم خلال الفترة الواقعة بين 2003-2016/2017.
** وهناك 271 ألف معتقل، منهم 187 ألف لم يحالوا على القضاء حتى عام 2017الآن.
** بسبب البطالة وانعدام وسائل الترفيه والضياع وفقدان الأمل بمستقبل يزداد تعاطي الحشيشة سنة بعد أخرى وترتفع النسبة باستمرار، ولاسيما بين الشباب.
** يوزع رئيس مجلس النواب الأموال على النواب بدون حساب أو قيد، في وقت تعاني نسبة عالية من الشعب العراقي من الجوع والحرمان والبؤس الشديد. وقد رفض نائبان شيوعيان قبول المنحة التي قرر مجلس النواب توزيعها على النواب دون وجه حق، وقدرها 45 مليون دينا عراقي لكل منهما وهما هيفا الأمين ورائد فهمي. أي أن رئيس المجلس وزع دفعة واحدة مبلغاً قدره 14805000000 دينار عراقي، أي 14,8 مليار دينار عراقي. كم مدرسة كان بالإمكان بناءها بهذا المبلغ الهدية "المتواضعة" الذي قدم لأعضاء مجلس النواب، إضافة إلى رواتبهم الدسمة جداً ومخصصاتهم ومخصصات إعلامهم وحمايتهم وزياراتهم واللجان وما إلى ذلك. 
** تشير المعطيات المتوفرة إلى انتشار 39 وباءً، والكثير من الأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية التي لم تكن معروفة في العراق قبل اليوم، ولاسيما في البصرة والمنطقة الجنوبية عموماً.
** وفي العراق قتل خلال الفترة 2004-2017 277 صحفياً عراقي وأجنبي على النحو التالي: 199 صحفياً قتلوا على أيدي مسلحين مجهولين أو مليشيات مسلحة، 56 آخرين لقوا حتفهم اثناء تواجدهم في اماكن حدثت فيها انفجارات نفذها مجهولون. 22 صحفيا قتلوا بنيران القوات الأمريكية. صحفيان قتلا بنيران القوات العراقية. كما تعرض 74 صحفياً ومساعداً إعلامياً الى الاختطاف، قتل اغلبهم ومازال مصير 14 منهم مجهولا. (قارن: مرصد الحريات الصحفية أخذ المقتطف بتاريخ 11/12/2018).
** يذكر فيديو منشور تحت عنوان "العراق في أرقام" إلى الحقائق الاقتصادية التالية: 13328 معملاً ومصنعاً ومؤسسة إنتاج توقفت عن العمل، ويستورد العراق 75% من حاجته للمواد الغذائية سنويا، كما يستورد 91% من حاجته لمواد البناء وصناعات أخرى. ورغم توفر إمكانيات غير قليلة لتغطية حاجة الاستهلاك المحلي لمواد غذائية مهمة كالطماطم وخضروات أخرى، فتح العراق باب الاستيراد لتغزو البلاد منتجات زراعية إيرانية تنافس الإنتاج الزراعي المحلي في أسعارها، مما يجعل الفلاحين يكفون عن الإنتاج ويتحملون خسائر كبيرة.
** بلغت إيرادات العراق المالية المتأتية من تصدير النفط الخام (786,2) مليار دولار أمريكي خلال الفترة الواقعة بين 2004-2017 (قارن: سرمد كوكب الجميل، نمير أمير الصائغ وعدي سالم، تقرير الاقتصاد العراقي: التحديات والخيارات، مركز صنع السياسات للدراسات الدولية والاستراتيجية، 11/8/2018). والسؤال العادل: أين ذهبت هذه الأموال في وقت لا يزال العراق بائساً رثاً ونسبة عالية من سكانه تعيش تحت خط الفقر وعاطلة عن العمل، كما يفتقد العراق لعملية تنمية فعلية، والعاصمة بغداد تعتبر واحدة من أكثر المدن قذارة، دع عنك الكثير من المدن العراقية الأخرى؟  الجواب نجده لدى منظمة الشفافية العالمية. فعلى وفق مؤشر الفساد "لا تزال منظمة الشفافية العالمية تصنف العراق بـالأكثر فساداً بين دول العالم الأخرى". ودولة العراق واحدة من 12 دولة هي الأكثر فساداً في العالم. (قارن: نصير الحسون، العراق يتصدر لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم. جريدة الحياة في 21 أذار/مارس 2018).
** وما يزال العراقيون والعراقيات يعانون من ضعف مرير في الخدمات الأساسية، ولاسيما الكهرباء والماء الصالح للشرب والمدارس التي يمكن أن تكون مناسبة لبني البشر، ويفتقد طرق مواصلات مناسبة وأزمة حقيقة في السكن ...الخ. وبهذا الصدد يشير عضو لجنة النزاهة البرلمانية شيروان الوائلي إلى أن "ملف الكهرباء لن يتحسن بإقالة الوزير، مبينا ان الوزارة صرفت منذ عام 2004 لغاية الان نحو 50 مليار دولار على هذا الملف، فيما اتهم لجنة الطاقة النيابية بـ"خداع" الشعب." (راجع: عمار طارق، لوائلي: الكهرباء صرفت 50 مليار دولار منذ 2004 ولجنة الطاقة تخدع الشعب، مؤيد الطيب - السبت 27 تموز 2013). وقد ارتفع هذا المبلغ بين عامي 2013-2018. 
هذا جزء يسير من حصاد العراق المأساوي والكارثي الذي تسببت به النخبة الطائفية الحاكمة في العراق منذ 2003/2004 حتى الوقت الحاضر، وهذا هو الوضع الذي تسبب في انتفاضة أهلنا في البصرة وبعض مناطق جنوب ووسط العراق، وهو الذي سينتفض من أجله كل الشعب العراقي، إذ مازالت هذه النخبة الحاكمة السيئة تضحك على ذقن الشعب حين ادعت بأنها ستشكل وزارة غير طائفية وغير محاصصية، في حين اختارت شخصاً لا يمكنه الخروج عن دائرة المحاصصة الطائفة ولا عن إرادة إيران ومرشدها الخامنئي وممثله في العراق العميد قاسم سليماني. والشعب يعرف هذه الحقيقة قبل الديمقراطيين. 
إن النخبة الحاكمة العراقية تدوس يوماً بعد أخر وأكثر فأكثر في بطن العراقيات والعراقيين، مما تدفع بهم إلى انتفاضة شعبية حقيقية لا في البصرة وحدها، بل وفي جميع أنحاء العراق، ولا في اعتصام في البصرة وكربلاء ومناطق أخرى بل في احتمال تنظيم عصيان مدني تنضج ظروفه تدريجاً، ولن ينفع اختيار شخص لإعادة الثقة بمن فقد الشعب ثقته بهم، بهذه النخبة التي نهبت العراق وسلبت شعبه العيش الكريم والحياة الآمنة والمساواة بين مواطنيه ومواطناته. إنها الطامة الكبرى التي يعيش تحت وطأتها هذا الشعب المستباح بالطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة وبالفساد، كنظام سائد وفاعل، وبالاغتيالات للشبيبة المدنية المحتجة، على ايدي المليشيات الطائفية المسلحة المؤتمرة بأوامر النخبة الحاكمة وبمن هم وراء الحدود. وليس غريباً أن يرتفع صوت إنسان عراقي يدافع عن فلاحي البصرة الذين لم يعد في مقدورهم تصريف بضاعتهم من الطماطم بسبب فتح الأبواب أما استيراد الطماطم والكثير من الخضروات من إيران والتي أدت إلى وعجز الفلاح العراقي عن تسديد الديون التي بذمته والتي اقترضها لمواصلة إنتاج الطماطم مثلاً. ((راجع: Video-1544355660.mp4x400 224). 
 إن الشعب العراقي بحاجة إلى إعادة تنظيم الحركة المدنية بما يساعد على تعزيز التعاون والتنسيق والتضامن والعمل المشترك بين العمال والفلاحين والطلبة والشبيبة، بمن يئن من نقص الخدمات ومن يعاني من بطالة ومن يخشى الموت جوعاً، لمواجهة النخبة الحاكمة الفاسدة التي لم تعد قادرة وغير راغبة في أي إصلاح ولو جزئياً، دع عنك التغيير الفعلي لنظام المحاصصة الطائفي الفاسد. إن عملية احتجاج وانتفاضة مشتركة هي التي يجب العمل من أجلها لكنس هذه النخبة الفاسدة التي لم تتعلم من السنوات المنصرمة ولن تتعلم لأنها ليست موالية لهذا الشعب ولهذا الوطن، بل موالاتها كما يبدو لغير هذا الوطن ولغير هذا الشعب. والسؤال الذي يوجهنا جميعاً هو: متى يقتنع الشعب العراقي بعقم أانتظار أي إصلاح أو تغيير على أيدي النخب الحاكمة الفاسدة؟ وحين تقتنع الأكثرية بذلك، وهي في طريقها إليه، عندها لن تقف أي قوة على وجه الأرض أما نضال هذا الشعب وعدالة قضيته، لن تقف خراطيم المياه ولا الرصاص المطاطي أو الرصاص الحيّ الذي استخدم في الفلوجة في العام 2011 وفي بغداد ومن ثم في البصرة ومناطق أخرى من العراق ولا الاعتقالات والتعذيب والسجون والاختطاف والاغتيالات بأي حال...
       


       

169
نقاشات حول سجون العراق
================
إلى جميع القارئات والقراء
تحية طيبة
نشرت في موقعي على الفيسبوك تقريراً مكثفاً قدمه الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح إلى اجتماع مهم نظمته منظمة غير حكومية ألمانية في برلين حول السجون في الدول العربية، ومنها العراق. وتحدث التقرير باختصار وكثافة عما فعله الجيش والقوات الأمنية الأمريكية في سجن أبو غريب وما فعله الأمن وشرطة السجون العراقية بالسجناء العراقيين من تعذيب ..الخ.  ونصه كما يلي:
السجناء العراقيون
في منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية
أ.د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
أمين عام تجمع عقول

 بمبادرة من مؤسسة (أمم UMAM ) عقد في برلين للمدة(28-30 نوفمبر/تشرين الثاني،2018) منتدى لمناقشة اوضاع السجون والسجناء في الشرق الاوسط وشمال افريقيا.
 شاركت في المنتدى شخصيات فكرية تمثل معظم البلدان العربية بينهم من تعرض/تعرضت للسجن واخرى من بلدان اجنبية على مدى ثلاثة ايام بجلسات صباحية ومسائية.. استعرضت احوال السجناء والمعتقلين والمحتجزين في العالم العربي والمخالفات التي تنفرد بها أبنية السجون العربية التي تستهدف اضطهاد  السجين جسديا واحتقاره نفسيا.
 وهدف المنتدى الى توحيد الرؤى المتعلقة بالشؤون السجنية في العالم العربي من حيث تعدد المسميات والتداخلات والمخالفات القانونية واعادة تركيبها بصياغات مفاهيمية واضحة وموحدة،وتحديد أهداف مشتركة يؤسس لعمل يوحد الجهود بمدد زمنية تعمل على تأمين حقوق السجين التي تبنتها الأمم المتحدة ونصت عليها الاتفاقيات الدولية.
 استهل المنتدى اعماله بمحاضرتنا الموسومة ( السجون العربية.. اذلال وتعذيب وانتقام- العراق انموذجا) وكانت بأربعين شريحة (سلايد) باللغة الانجليزية ،بدأتها بفضائح سجن ابو غريب التي ارتكبتها القوات الأمريكية معززة بصور التعذيب التي تجسد امتهان الكرامة وبشاعة الاحتقار ضد المعتقلين العراقيين من دولة تدعي انها المدافعة الاولى في العالم عن حقوق الإنسان، واعتراف الأمريكان انفسهم  بانهم  قاموا بتعذيب الاطفال لإرغام آبائهم في ابو غريب على الاعتراف..وشهادات من منظمات دوليه بينها (هيومن رايتس ووتش ) التي وثقت في تقريرها لسنة 2008 وجود "25 " ألف محتجز عراقي لدى الجيش الأميركي دون توجيه اتهامات إليهم أو مثولهم للمحاكمة.
 واشارت المحاضرة الى ان جميع المنظمات الحقوقية تتفق على أن قضية المعتقلين في العراق تمثل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وان عددهم بحسب تصريحات ( اتحاد الأسرى والسجناء السياسيين العراقيين) هو أربعمائة ألف معتقل، منهم ستة آلاف وخمسمائة حدث، وعشرة آلاف امرأة،يواجهون ظروفا صعبة بحسب بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالعراق.
التعذيب في السجون العراقية
 حرصنا على ان نوصل للرأي العام العربي والدولي التوكيد بأن  المصادر الرسمية العراقية والأميركية وتقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية  تتفق على أن المعتقلين في العراق يتعرضون لأنواع التعذيب المحظورة بموجب قانون حقوق الإنسان الدولي. وان سجن ابو غريب يعدّ (الأرحم بين السجون رغم فضائحه الفظيعة) بحسب منظمة اتحاد الأسرى والسجون السياسيين العراقيين، التي سجلت حالات وفاة لمعتقلين يعتقد انها بسبب التعذيب.
 والمخجل ان الجنود الامريكيين وقوات الامن العراقية استخدمت مختلف وسائل التعذيب:العزل والحرمان،الضرب والتجويع، الإهانة والسب،التعرية والاعتداء الجنسي والاغتصاب، التبول على السجناء، الصعق بالصدمات الكهربائية على أجزاء حساسة من الجسد، التعرض لدرجات الحرارة والبرودة القصوى لفترات طويلة، والتعليق من الأطراف.. فيما ينفي مسؤولون عراقيون تعرّض المعتقلين للتعذيب،ويقولون إنها مجرد ادعاءات،مع ان العراق يعدّ الأكثر في عدد السجون بالمنطقة التي تتوزع بين جهات متعددة:الدفاع، الأمن القومي، المخابرات.. وسجون الأحزاب السياسية، فضلا عن السجون السرية.
 ووفقا لمركز بغداد لحقوق الإنسان فأن "جرائم التعذيب ما تزال مستمرة، وسوء التعامل هو الصفة السائدة مع النزلاء في سجون وزارات الدفاع والداخلية والاستخبارات ومكافحة الإرهاب وقيادات العمليات بالمحافظات، عدا عن سجون وزارة العدل"(فبراير 2018)،وصدور أحكام بالإعدام نُفّذت ضد معتقلين تعرّضوا للتعذيب، وأخرى ضد معتقلين بناءً على اعترافاتهم تحت التعذيب.فيما تؤكد مصادر اخرى بانه منذ 9 مارس/آذار 2003 (تاريخ الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق) وإلى اليوم (2018)لم يقدّم للقضاء العراقي أي من مرتكبي جرائم التعذيب في السجون العراقية، ولم تشكّل الحكومة أية لجنة حقيقية للتحقيق في جرائم التعذيب وسوء المعاملة في سجونها، ولم تُقدم على أية خطوة في سبيل إيقاف أو تقليل حجم ظاهرة التعذيب وخطورته".(العربي الجديد).
شهادات سجناء عراقيين
 وحرصنا ايضا على توثيق شهادات لسجناء عراقيين نوجزها بالآتي:
* القيود لا تنزع من إيدينا، والطعام رديء والماء شحيح، والكلاب البوليسية تدخل علينا من حين لآخر لتعبث بأجسادنا وتثير الرعب، مريضنا لا يذهب للطبيب، والمعافى فينا يتعرض للتعذيب والاهانات وانتهاك الكرامة، الزحام يخنقنا والحر يقتلنا وأخبار مواعيد الإعدام ترعبنا (سجن الحوت).
* السجون باتت كالمقابر دفّنا فيها، ويبتلعنا الصمت، ويتجاهلنا الاعلام ومنظمات حقوق الانسان بشكل معيب ومخزي (سجن الناصرية)
*التعذيب النفسي والجسدي يمارس بقسوة: يدخلون علينا الكلاب البوليسية، يخبروننا ان كتب تنفيذ الاعدام قد وصلت الى السجن وهي اخبار كاذبة، وضع القيود بايدينا ونحن داخل الزنزانة بشكل مستمر، بعضنا لم يستحم منذ اكثر من شهر، نومنا وصلاتنا بالدور بسبب ازدحام الزنزانة بالنزلاء، والمصابون بامراض مزمنه لا يسمح لهم بمراجعة الطبيب.
 وشهدت السجون العراقية اجبار اغلب المعتقلين على حضور محاضرات دينية يلقيها رجال دين من شعبة الإرشاد الديني في وزارة العدل، ينتمون لحزب الفضيلة الإسلامي، الذي كان ينتمي له وزير العدل السابق، حيدر الزاملي، وتعرّض معتقلين للضرب بالهراوات والقضبان الحديدية والعصي الكهربائية في بعض حملات التفتيش وعمليات إجراء التعداد اليومي، واجبار آخرين بالوقوف على رِجل واحدة ورفع اليدين إلى الأعلى عدة ساعات.
 يؤكد صحة هذا الشهادات تقرير لمفوضية حقوق الانسان بان تلك الانتهاكات والتعذيب النفسي والجسدي تم توثيقها خلال الزيارات الميدانية للسجون، ولم تتم مساءلة للضباط او المسؤولين عن التحقيق وعن مسؤولي السجون، ولا توجد تحركات جدية بشأن الانتهاكات الحاصلة ضد المعتقلين رغم خطاباتها العديدة لوزارة العدل.
  وتفيد التقارير بصدور احكام بالسجن المؤبد واخرى بالاعدام نتيجة دعوات كيدية ومخبرين سريين لتهم ملفقة، وان عدد حالات الاعدام في العراق بلغت ( 967 من 2005 الى نيسان 2018).
والمفارقة ان الدستور العراقي يحرّم التعذيب وفق المادة 37/ح المثبتة بالنص:(يحرّم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة اللاانسانية، ولا عبرة بأي اعتراف انتزع بالأكراه او التهديد او التعذيب. وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي اصابه وفقا للقانون).
مناشدة وتوصيات
 وانتهت المحاضرة بمناشدة مؤسسة (أمم للأبحاث والدراسات ) والمشاركين في المنتدى  العرب والاجانب الى تأمين تحقيق التوصيات الآتية:
·        دعوة الحكومة العراقية والجهات ذات العلاقة الألتزام بتطبيق ما نص عليه الدستور العراقي بالمادة 37/ح التي تحرّم كل انواع التعذيب الجسدي والنفسي.
·        غلق السجون السرية التابعة لأحزاب السلطة وقوى سياسية اخرى، والأفراج عن المعتقلين فيها او ترحيلهم الى السجون الرسمية بموجب مذكرات قضائية.
·        الكشف عن المعتقلين العراقيين في السجون الأمريكية داخل العراق الذين اعتقلوا دون توجيه تهم قضائية بحقهم، وتسليمهم لوزارة العدل العراقية.
·        الزام الجهات المعنية بالسماح لعوائل السجناء بزيارة ذويهم في السجون دون ضغوط او ابتزاز، وتأمين الفرصة لقيام المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بزيارة السجناء والمعتقلين.
·        دعوة المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان (العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش، الصليب الأحمر..) الى تفعيل دورها من مستوى الأدانة المكتوبة الى مواقف عملية تدين تجاوزات الحكومات العربية في تعاملها مع السجناء والمعتقلين.
·        فتح دورات وورش عمل للسجناء تمكنهم من ممارسة اعمال منتجة بعد خروجهم من السجن.
·        توفير الفرص لعلماء النفس والاجتماع باجراء دراسات ميدانية على السجناء داخل السجون لتشخيص مشاكلهم النفسية والاجتماعية والسجنية وتقديم المقترحات للجهات المعنية لمعالجتها.
·        اعادة تأهيل السجناء الذين يطلق سراحهم وفق برامج سيكولوجية علمية معتمدة عالميا تعيد لهم توازنهم الذي يؤمن لهم التوافق الأسري والتكيف الاجتماعي والمهني.
·        قيام (مؤسسة أمم) بتنسيق الجهود والنشاطات الخاصة بأدب السجون (رواية، شعر، مسرحية، نص سينمائي، فنون تشكيلية..) على صعيد الوطن العربي.. للتوثيق واشاعة الثقافة على مستوى المواطن العربي بأن وظيفة السجن هي حماية المجتمع وليست خدمة الحاكم للبقاء في السلطة.
 
في الجلسة الختامية تقدمنا بجزيل الشكر والامتنان لمنظمي المنتدى والجهود الكبيرة التي بذلها الأستاذ لقمان سليم ومونيكا وعلي منصور.. ووعد بلقاء في اوائل مارس /آذار 2019  لتدارس ما انجز من نقطة الشروع، وتأمين مواصلة المشوار لتحقيق انبل مشروع انساني يوصلنا الى مجتعات عربية خالية من السجون التي تخدم حكامنا العرب المصابون بهوس الاستفراد بالسلطة والثروة.
قاسم حسين صالح
 برلين في 1 ديسمبر/كانون اول- 2018
 تعليقات
أشار الأستاذ رحيم العكيلي في ملاحظة سريعة عل الفيسبوك إلى أن الـ: "تقرير ملخص ويكشف جزء بسيط من مصائب سجوننا ومآسي والالام من يدخل اليها سواء اكان برئ ام مذنب." 
فأجبته بالملاحظة التالية:
عزيزي استاذ رحيم العگيلي تحية قلبية، من المفيد ان يعرض كل منا ما لديه من معلومات، ولدي ايضا الكثير من المعلومات عن سجون العراق وأرحب بما ينشر في هذا الخصوص من مختلف الباحثين والصحفيين وكم أتمنى عليك ان تنشر ما تعرفه بهذا الصدد لكي يمكن نشره على أوسع نطاق ممكن. ما نشر على الألمان مهم ويمكن طرح المزيد منه، مع ودي واحترامي، كاظم حبيب

أما السيد سعد حسين فقد اعترض على التقرير بقوله: "التقرير استاذي العزيز فيه الكثير من المغالطات وبعض المعلومات غير دقيقة".
فكتبت له ما يلي على الفيسبوك ما يلي:   
"عزيزي استاذ سعد حسين أفضل ان تشير الى ما تراه مغالطة وتصحح ذلك لكي نستطيع ان نتعرف على موقع المغالطة، اذ لا يكفي الإشارة الى وجود مغالطات دون البرهنة عليها وذكر البديل." كاظم حبيب
جاء الجواب الآتي من السيد سعد حسين
"دكتوري العزيز ادناه ما اشرت له كمغالطات .
الفقرة : الكشف عن المعتقلين العراقيين في السجون الأمريكية داخل العراق الذين اعتقلوا دون توجيه تهم قضائية بحقهم، وتسليمهم لوزارة العدل العراقية.
الرد
ليس من سجون أمريكية في العراق الان وآخر معتقل تم تسليمه في نهاية العام ٢٠١٠ من خلال لجنة شؤون المعتقلين التي نظرت ملفات ١٥ الف معتقل تم اطلاق سراح ثلثي هذا العدد لعدم كفاية الأدلة لإحالتهم للقضاء العراقي ، فيما تم استلام الثلث الأخير من قبل الحكومة العراقية وزارة العدل بموجب قرارات توقيف قضائية صدرت بعد تقييم الأدلة التي تقدم بها الجانب الامريكي وتم اعتمادها من قبل السلطات التحقيقية العراقية وانا احد أعضاء لجنة شؤون المعتقلين التي كانت برئاسة القاضي كاظم الطائي .

٢. الزحام يخنقنا والحر يقتلنا وأخبار مواعيد الإعدام ترعبنا (سجن الحوت).

الرد : سجن التاجي هو السجن الذي يسمى سجن الحوت ويقع في بغداد وطاقته الاستيعابية ٦٠٠٠وفيه وفق اخر احصائية ٥٨٧١ محتجز ،اي انه لم يتجاوز طاقته الاستيعابية ولا يضم اي محكوم بالاعدام ، فكيف أرعبتهم اخبار مواعيد التنفيذ.

٣. تؤكد مصادر اخرى بانه منذ 9 مارس/آذار 2003 (تاريخ الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق) وإلى اليوم (2018) لم يقدّم للقضاء العراقي أي من مرتكبي جرائم التعذيب في السجون العراقية، ولم تشكّل الحكومة أية لجنة حقيقية للتحقيق في جرائم التعذيب وسوء المعاملة في سجونها،

الرد
منذ العام ٢٠٠٤ وحتى العام ٢٠١١ تم احالت العشرات وقد وثقتها تقارير وزارة حقوق الانسان السنوية وشكلت المئات من اللجان التحقيقية لذات الغرض وصدرت احكام انضباطية وجزائية بحق ضباط ومراتب وموظفين من الوزارات الأمنية والمدنية .

٤. وان سجن ابو غريب يعدّ (الأرحم بين السجون رغم فضائحه الفظيعة)

الرد: ان سجن ابو غريب خارج الخدمة ومدمر منذ العام ٢٠١٤ ولا يوجد فيه سجين واحد او موظف.

المعلومات الدقيقة عن الخريطة السجنية وظروف الاحتجاز قد تضمنها تقريرنا الظل الذي قدمناه للجنة حقوق الانسان العربية ويمكن الاطلاع عليه على الرابط ادناه .

https://www.iohrd.nl/.../%d8%aa%d9%82%d8%b1%d9%8a%d8%b1...

اعتذر عن الاطالة دكتور". سعد حسين
وجهت هذه الرسالة الآتية بما فيها من معلومات إلى الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح:
"الأخ الفاضل السيد البروفيسور الدكتور قاسم حسين صالح، تحية طيبة
 بعد نشر تقريرك على موقعي في الفيسبوك جاء رد من السيد سعد حسين، ليست لديَّ معرفة به، فرجوته تقديم ما يعتقده مغالطات في تقرير الدكتور قاسم وإبراز الدليل على ذلك. فكتب لي على الفيسبوك ما أرسله لك الآن للاطلاع عليه، وربما الرد عليه وهو الأصوب.
اعتقد أن هناك نقاط ضعف فيما كتبه السيد سعد حسين ولكن أفضل أن ترد عليه أنت دكتورنا الغالي.
مع الود، كاظم حبيب
فجاء الجواب التالي الموجه إلى الأخ السيد سعد حسين 

"الاخ سعد حسين المحترم
ابلغني الصديق الأخ الكبير الدكتور كاظم حبيب بوجود (مغالطات) في ورقتنا المقدمة الى منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية الذي عقد في برلين (28-30نوفمبر 2018).. واظن ان جنابك هو الاخ سعد سلطان حسين صاحب منظمة اوهارد ، وكنت استفدت من احد نصوصك بوصفك صاحب خبرة في السجون العراقية واعددت تقارير مع شبكة العدالة للسجناء
عزيزي سعد
اشارت ورقتنا في نصها باللغة الانجليزية ان الاميركان سلموا العراقيين ما لديهم من معتقلين في 2010، لكننا ركزنا على ما ارتكبته القوات الامريكية من امتهان للكرامة الانسانية واحتقار للعراقيين سواء فضائحها في سجن ابو غريب او بشاعة ما ارتكبته في سجونها الأخرى والانتهاكات التي يجب ان تحاسب عليها دوليا وعراقيا.
وبخصوص التعذيب، فان المنظمات الحقوقية تؤكد وجوده الآن في السجون العراقية، وان كثيرا منها فيها اكثر من طاقتها الاستيعابية.
وفيما يخص السجون السرية فهي موجودة فعلا وتابعة لأحزاب السلطة وقوى سياسية
ان السجون في العراق يجب ان تكون تابعة لوزارة العدل فيما تتعدد مصادرها وجنابك تعرف ذلك
وبخصوص معاقبة مرتكبي جرائم التعذيب فان الطب العدلي وثق 1400 حالة لهذا العام، وان القضاء عاجز عن احضار او استدعاء المتهمين بجرائم التعذيب، وعدد الشكاوى قليل جدا لأن الناس لا يؤمنون بوجود عدالة في العراق، ولأن من يشتكي يلفقون ضده تهمة ثانية. صحيح هناك محكمتان لحقوق الانسان (كرخ ورصافة).. لكن الاجراءات الرقابية والقضائية مخجلة جدا والغالب فيها هو الافلات من العقاب.
 
 
انني اوجه الدعوة لجنابك الكريم وبالتنسيق مع الدكتور كاظم حبيب ان نتعاون في عقد ندوة أو اي نشاط نراه مناسبا يعقد في العراق او هولندا (المقصود المانيا، ك. حبيب) لمعالجة هذه القضية الانسانية، ونوحد الجهود لنصل الى تحقيق ان تكون وظيفة السجن هي حماية المجتمع وليس خدمة الحاكم.
 تحياتي واحتراماتي، أرجو نشره على صفحتك في الفيسبوك .. تحياتي

قاسم حسين صالح
 
كاظم حبيب: أسجل هنا ملاحظاتي الشخصية حول النقاش الجاري حول سجون العراق
1.   يجري النقاش بأسلوب حضاري هادئ ونافع لكشف حقائق أوضاع السجون في العراق، وهي مسالة مهمة حقاً .
2.   لقد نشرت الكثير من المقالات عن سجن أبو غريب وما جرى فيه استناداً واعتماداً على تقارير أمريكية ودولية كثيرة وما أشار إليه الدكتور قاسم حسين صالح قليل من كثير وهي عينة لا أكثر.
3.   ما يجري في المعتقلات العراقية لا يختلف في قليل أو كثير عما كان يجري في معتقلات صدام حسين التي عانيت فيها لفترة قصيرة، وعاني الكثير من المناضلين الشجعان الكثير من الآلام، وأعرف عراقيين عانوا الأمرين في سجون النظام السياسي الطائفي العراقي الراهن في فترة نوري المالكي وما بعده، وما يجري في السجون العراقية حالياً، وكذلك في السجون السرية للميليشيات الطائفية المسلحة ولجماعة الحرس الثوري الإيراني في الحشد الشعبي معروفة، وربما خفيت عن الأخ سعد حسين.
4.   إن أوضاع السجون العراقية بائسة. وقد كتب عنها مرة الأخ إبراهيم الحريري في جريدة طريق الشعب، وكتبت تعليقاً على مقاله وكانت رغبتنا تشكيل هيأة للدفاع عن أوضاع السجناء والسجينات في العراق، سواء أكانوا سجناء وسجينات الرأي والعقيدة أم غير سياسيين وسياسات، وما يطلق عليهم في العراق سجناء عاديين أو حتى من الإرهابيين. ولم يتسنى لنا تحقيق هذا الهدف النبيل حتى الآن.
5.   أرى من جانبي بأن ما نشره الأخ الدكتور قاسم حسين صالح لا يتضمن مغالطات بل اختلاف في زاوية الرؤية للموضوع والحقائق على الأرض أكثر بكثير مما ذكره الأخ قاسم. وما جرى ويجري لمعتقلي البصرة المحتجين على ايدي الميليشيات الطائفية المسلحة وجماعة إيران في الحشد الشعبي جرائم يندى لها جبين الإنسان.
6.   أتمنى على الأخ سعد حسين أن يزودنا بتقارير فعلية عن حقائق الوضع في السجون وعددهم وعدد السجون ومواقعها وما يجري فيها، وهل هناك تعذيب أم لا، وأن يطرح علينا سبل مواجهة ما يجري في هذه السجون، ولاسيما أولئك الذين قضوا شهور وسنوات في السجون دون تقديمهم للمحاكمة، إضافة إلى مدى معرفته بالسجون السرية القائمة في العراق.     


170
كاظم حبيب
التفكير بصوت مسموع: التعامل العقلاني المطلوب في التحالفات السياسية في العراق
"يفترض أن يكون مسعى القوى الديمقراطية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، نحو تحقيق تلك التحالفات التي تلتزم بصرامة وحزم ومسؤولية بالمهمات الآنية والملحة التالي: ** تحقيق تغيير في النظام السياسي الطائفي محاصصاته الطائفية المذلة؛ ** مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين وتقديمهم للعدالة؛ ** رفض العنصرية والشوفينية وضيق الأفق القومي والطائفية باعتبارها مفرقة للصف الوطني ورافضة لمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية؛ محاربة الإرهاب والتصدي لكل قوى الإرهاب بمختلف مسمياتها؛ ** حل الميليشيات الطائفية المسلحة ورفض وجود جيش داخل الجيش العراقي، ودولة داخل الدولة العراقية، ومنع وجود السلاح بأيدي أفراد وجماعات ومؤسسات غير حكومية وغير دستورية؛ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء؛ ** حماية الاستقلال والسيادة الوطنية، ورفض والتصدي لأي تدخل خارجي في الشؤون العراقية؛ ** إعادة إعمار المناطق التي خربتها الحروب والصراعات الطائفية وتوفير الخدمات الأساسية للمجتمع بأسره؛ ** البدء بعملية تنمية و\نية تغير واقع العراق الاقتصادي الريعي المتخلف والمشوه والتابع؛ ** العمل من أجل مكافحة البطالة والفقر والفجوة المتسعة في مستويات الدخل والمعيشة وتأمين العدالة الاجتماعية؛ تأمين أسس ومناهج التربية والتعليم على أسس علمية متقدمة وحديثة؛ بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني. .. وأي تحالف يبتعد أو يزوغ أو يتساهل عن الأهداف الجوهرية، ولاسيما مناهضة ورفض الطائفية والفساد والإرهاب، يعني أنه لا يريد الإصلاح ولا التغيير، إذ لا يمكن له أن يحقق التحالف المنشود الذي تسعى إليه القوى الديمقراطية العراقية. عن هذه الأهداف وعن التجارب السابقة يتحرك أمامي شريط تجارب التحالفات السابقة والأخطاء التي رافقتها والعواقب التي تحملها الشعب من جراء ذلك، رغم مسؤولية النظم السياسية الأول والأساس عما لحق الشعب العراقي ولا يزال يلحق به من جراء ذلك، من أذى شديد وخسائر بشرية ومادية هائلة، وأتحدث بها هنا بصوت مسموع."   ك. حبيب       
التحالفات السياسية ظاهرة قديمة متجددة باستمرار، تمارسها مختلف القوى والأحزاب السياسية في العالم، سواء أكانت من اليمين أم اليسار أم الوسط، وصيغ أخرى أيضاً. كما مارستها قبل ذاك، أو ما تزال حيثما وجدت حالياً، القبائل والعشائر، إضافة إلى الإمبراطوريات القديمة والدول الحديثة. والأحزاب السياسية في العراق مارستها منذ تشكيل الدولة الملكية 1921 حتى الوقت الحاضر. وهي ظاهرة تعبر عن مصالح طبقية وسياسة مشتركة بين القوى والأحزاب المتحالفة، سواء أكانت تلك الأهداف مؤقتة أم متوسطة المدى أم طويلة الأمد، وسوا أكان التحالف من أجل مجموعة من الأهداف أو عدد منها أو حتى من هدف واحد، يمكن بعدها أن يتطور ويتمدد أو ينتهي بانتهاء تحقيق الهدف أو الأهداف المتفق عليها. والتحالفات السياسية بمختلف صيغها هي شكل من أشكال الجبهات السياسية التي يشكلها حزبان أو أكثر لمواجهة أو معارضة حكم قائم، أو الدفاع عن حكم تقوده أو تشارك فيه.
كل أشكال التحالفات والجبهات السياسية والاجتماعية عاشتها مختلف الأحزاب السياسية الديمقراطية العراقية، سواء أكانت في المعارضة وهي الأكثر، أم في الحكم وهي النادرة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي حتى الوقت الحاضر. وكان الحزب الشيوعي العراقي أول من دعا إلى تشكيل الجبهة الوطنية الموحدة في العراق في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي ظهرت في كتاب الرفيق حسين محمد الشبيبي (صارم)، عضو المكتب السياسي للحزب. وقد تأثر مفهوم وبنية الجبهات الوطنية لدى الأحزاب الشيوعية والعمالية للأمية الثالثة، رغم إلغاء الكومنترن (مكتب الأممية الثالثة) في العام 1943، في أغلب دول العالم، بما فيها الدولة النامية، ومنها العراق، في تلك الفترة ولسنوات طويلة بفكر و"تعاليم" الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الثالثة والتقرير الذي قدمه جيورجي ديمتروف حول الجبهة الشعبية المعادية للفاشية في العام 1935 في مؤتمر الكومنترن السابع ومن ثم في كتابه عن الجبهة الوطنية في العام 1938، إضافة إلى أفكار جوزيف ستالين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولاسيما في الموقف من البرجوازية المتوسطة بنزعته اليسارية الانعزالية والمتطرفة، التي كانت تؤكد على تشكل الجبهات الوطنية، ولكن تؤكد أيضاً على قيادة الأحزاب الشيوعية والعمالية لهذه الجبهات وإدانة سلوكيات البرجوازية المتوسطة. وبسبب هذا الشرط غالباً ما تعرض نشوء الجبهات الوطنية، ولاسيما مع الأحزاب البرجوازية الوطنية المتوسطة، بل حتى مع أحزاب البرجوازية الصغيرة، إلى مصاعب جمة. ويعتبر كتاب الرفيق محمد حسين الشبيبي "الجبهة الوطنية الموحدة: طريقنا وواجبنا التاريخي"، والمقدمة التي كتبها الرفيق فهد نموذجاً لمسعى الأحزاب الشيوعية الجاد خلال تلك الفترة، مع كونه كان بنزعة يسارية من حيث الأهداف والقوى ودور الحزب الشيوعي في الجبهة. والمشكلة الكبيرة التي كانت تواجه الأحزاب الشيوعية في الدول النامية، ولاسيما العراق، هو الجبهة التي كانت تؤكد على التحالفات الطبقية في موجهة طبقة أو طبقات أخرى، في حين أن المجتمع لم تكن كل الطبقات فيه قد تبلورت بذاتها ولذاتها وفي مصالحها، ولاسيما الطبقة العاملة أو حتى البرجوازية الوطنية المتوسطة.
فيما بعد، ولاسيما في الخمسينيات وتحت قيادة الرفيق سلام عادل، لم يعد الحزب يركز على قيادة الحزب للجبهة أو أهدافاً يسارية، بل سجل تحولاً واقعياً ملموساً في رؤية الحزب لمشكلات العراق والحلول المطلوبة، مما ساعد على تشكيل جبهة الاتحاد الوطني ولجنتها العليا والتي انتهت باتفاقات مع حركة اضباط الأحرار وإسقاط النظام الملكي وتشكيل حكومة الثورة. وبعد انتصار الثورة بدأت الصراعات بين الأحزاب الأعضاء في الجبهة، ولاسيما بين التيار القومي اليميني والتيار الماركسي، مما أدى إلى إنهاء وجود الجبهة.
حقق الحزب الشيوعي خلال الفترة اللاحقة تعاوناً سياسياً مع عدد من عدد من القوى السياسية لم يصل إلى مستوى التحالف، ثم كان تحالفه مع حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1972 وبعد وصول الأخير إلى السلطة عام 1968 واتخاذه جملة من السياسات والإجراءات التي جعلت قيادة الحزب توافق على التحالف السياسي بقيادة حزب البعث، والتي سميت بـ "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية"، رغم الضربات الموجعة جداً التي أنزلها حزب البعث والنظام السياسي البعثي بالحزب الشيوعي وتنظيماته في نهاية عام 1970 وبداية 1971. بعد خروج الحزب من التحالف في نهاية عام 1978 وبداية عام 1979، أمكن الدخول بتحالفات جديدة منها جود وجوقد، في الثمانينيات من القرن الماضي، إضافة إلى تشكيل الجبهة الكردستانية في العام 1988. انتهت تلك الجبهات ولم تحقق الكثير وأصبح بعضها يشكل عبئاً ثقيلاً على الحزب بسبب الصراع المستمر بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. وفي التسعينيات حتى الإطاحة بنظام البعث عبر التحالف الدولي خارج إطار الشرعية الدولية، تشكلت تحالفات عديدة محدودة وواسعة لم يكن الحزب الشيوعي باستمرار طرفاً فيها لسببين: موقف الأحزاب الإسلامية السياسية من الحزب الشيوعي العراقي، وهو نتاج لموقف إيران أيضاً من جهة، ورفض الحزب الشيوعي العراقي الحرب الخارجية لإسقاط الدكتاتورية والعواقب المحتملة لمثل هذه الحرب من جهة ثانية، والتي تحققت أغلب تلك المخاوف العادلة. وبعد إسقاط الدكتاتورية لم تتشكل جبهة سياسية جديدة، رغم الأهمية القصوى لمثل هذه التحالفات السياسية بين القوى والأحزاب الديمقراطية، وبدا كل حزب أو قوة ديمقراطية تسعى لتعزيز مواقعها ونفوذها، مما أدى إلى خسارة كبيرة في تشكيل منبر ديمقراطيً مشترك مبكراً في العراق وفي أعقاب إسقاط الدكتاتورية ليلعب دوره في التعبئة والممارسة السياسية الفعالة. وفي حينها دعوت لأن يكون شعار القوى الوطنية الديمقراطية كلها هو: "قوى تنظيم الحركة الوطنية تتقوى وتتعزز أحزابكم السياسية". ولم يستمع لهذه الدعوة أحد وكانت صرخة في البيداء! وبعد فترة أمكن تشكيل تحالفات سياسية بين قوى ديمقراطية نشأ عنها التيار الديمقراطي العراقي بقواه العديدة، ومن ثم جبهة "تقدم". بعدها تشكل "سائرون" التي شارك فيها الحزب الشيوعي العراقي، وقوى ديمقراطية وإسلامية سياسية بقيادة مقتدى الصدر، وعليه اختفت "تقدم".
ليس هناك أي اعتراض على التحالفات السياسية المؤقتة وذات الأهداف المحدد، سواء أكانت انتخابية أم لإجراء إصلاحات سياسية أو حتى تغيير الأوضاع القائمة، ومنها الخلاص من الطائفية والفساد والإرهاب. ولكن ما يفترض أن تأخذ به القوى الديمقراطية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي، باعتباره أكبر القوى الديمقراطية العراقية، التي تتحالف مع قوى أخرى إسلامية سياسية أو محافظة، هي أن تستفيد من دروس تجاربها السابقة في التحالفات والجبهات التي تشكلت خلال ما يقرب من 70 عاماً، وهي فترة غنية بدروسها: وبودي أن ألخص بشكل مكثف رأيي الشخصي ببعض الدروس المهمة:
1.   كل تحالف سياسي مع قوى ذات أيديولوجية وأهداف أخرى يستوجب بعض التنازلات عن بعض أهدافها أو صياغتها بما يساعد على اتفاق المتحالفين.
2.   وفي مثل هذه الحالة لا بد للقوى الديمقراطية، ومنها الحزب الشيوعي، أن تحافظ على استقلاليتها الفعلية في التحالفات السياسية أو حتى في قيام جبهة وطنية، وألَّا تتخلى عن أهدافها الأساسية.
3.   ألَّا تكف عن ممارسة النقد لما تطرحه القوى الأخرى من أراء ومواقف بما يخالف صيغة الاتفاقات الموقع عليها، وتعتبر خاطئة من وجهة نظره أيضاً، بل عليها واجب ممارسة النقد بأسلوب حضاري وديمقراطي، إذ بدون ذلك تفقد القوى الديمقراطية شخصيتها المستقلة ودورها في التحالف وموقعها في صفوف جمهورها أو قاعدتها الحزبية والجماهيرية.
4.   أن ترفض أي انفراد في اتخاذ القرارات أو التصريحات من جانب واحد باعتبار هذا الطرف أو ذاك يمثل القوى الأكبر في التحالف، إذ أن ذلك يفقد القوى الديمقراطية دورها وفاعليتها ومواقعها في المجتمع، كما إن عليها هي الأخرى ألَّا تنفرد باتخاذ قرارات دون التشاور والاتفاق مع القوى الأخرى، إنه شارع عريض باتجاهين.
5.   أن تحافظ على الندية في العمل والمساواة في الحقوق والواجبات وفي التعامل المتبادل، فليس هناك قائد ومقاد.
وفي مثل هذه التحالفات غالبا ما تنشأ وجهات نظر متباينة حول هذا التحالف أو ذاك، ومع هذه القوى أو تلك. ويفترض في مثل هذه الحالة ممارسة أ- إدارة الصراع الداخلي بشكل عقلاني وخوض نقاش يعتمد السعي للإقناع أو البقاء بوجهات نظر متباينة، فالتنوع في الآراء لا يلحق أضراراً بالقوى الديمقراطية؛ وب_ الأخذ برأي الأكثرية، ولكن مع إبداء كل الاحترام للرأي الأخر، وامتلاكه حق الدفاع عن رأيه بكل السبل المتوفرة لديه. إذ ليس هناك ما يمكن أن يعطي الحق لأي من الرؤيتين أو أكثر القناعة بأن رأي الأكثرية أو رأي الأقلية هو الصائب، مما يستوجب اتخاذ موقف الاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر من جهة، والسماح بطرح وجهة نظر الأقلية بكل حرية وبصورة علنية من جهة أخرى. ج- الابتعاد كلية عن استخدام العقوبات ضد من يختلف في رأيه عن رأي الأكثرية، أو من أن ينشر رأيه علناً، إذ إن هذا الحق يكفله الدستور العراقي، على ما فيه من نواقص واختلالات، ولائحة حقوق الإنسان، حتى لو كان عضواً في حزب سياسي له نظامه الداخلي، إذ إن النظم الداخلية للأحزاب يفترض فيها أن تتوافق في مضامينها وأساليب وأدوات عملها مع الدستور وحقوق الإنسان، وألَّا تتعارض معها. 
إن التجارب السابقة تشير إلى عدد من المسائل المهمة التي يفترض تجنبها تماماً، منها بشكل خاص:
1.   الميل الواضح في عدم توجيه النقد للقوى الحليفة بسبب تجاوزها على الاتفاقات الموقع عليها، خشية انزعاج أو عدم ارتياح القوى الأخرى. إذ إن هذا الموقف يدفع ويشجع هذه القوى إلى ارتكاب المزيد من التجاوزات.                 
2.   منع الأقلية في طرح رأيها صريحاً وواضحاً ونشره علناّ بذريعة الالتزام بالنظام الداخلي، مما يخلق ازدواجية في شخصية الإنسان عندما يجبر على التثقيف برأي ل يتبناه، وهو أمر مخالف حقوقياً ويلحق اضراراً نفسية وسياسية بالعضو أيا كان موقعه الحزبي.
3.   اضطهاد الأقلية في معارضتها لرأي الأكثرية، أو لرأي القيادة، واتخاذ إجراءات عقابية بحق من ينشر رأيه علناً.
4.   فسح المجال أمام الأقلية أو أحدهم برفع دعوى داخل الحزب أو أمام القضاء ضد العقوبات المتخذة بحق الأقلية أو بحق الفرد، ولاسيما الطرد، إذ إن ذلك يعتبر مخالفة لحق الفرد في امتلاك رأي آخر كمواطن أو كعضو في حزب معين.
إن مثل هذه الوجهة تعتبر ضمانة للقوى والأحزاب الديمقراطية أن تكون ديمقراطية حقاً وتتعامل على وفق مبادئ حقوق الإنسان وأن تكون نظمها الداخلية منسجمة مع مبادئ حقوق الإنسان السياسية ولا تعارض معها بأي حال. ولا شك في أن أي عقوبة قد اتخذت أو تتخذ بهذا الصدد تعتبر غير شرعية ومخالفة لحقوق الإنسان أولاً وأخيراً، وهو ما يفترض أن ترتضيه الأحزاب الديمقراطية لنفسها بأي حال، إذ لا يجوز أن تتضمن نظمها الداخلية أفكاراً وإجراءات شمولية تمارسها الأحزاب الديمقراطية، ومنها الأحزاب الشيوعية والعمالية، ولاسيما أن القوى والأحزاب الديمقراطية تدعو دوماً إلى احترام الرأي والرأي الآخر وتطالب بالالتزام الثابت بمبادئ حقوق الإنسان وتنفيذها الفعلي، والأحرى بها أن تمارسها ايضاً.
   

             

171
كاظم حبيب
خلوة صريحة مع النفس والمجتمع: هل عرفنا الديمقراطية وهل عشناها فعلاً بالعراق؟
غالباً ما أخلو إلى نفسي مراجعاً ومناقشاً ما مررت به من أحداث وتفاعلات ومواقف. وحين خلوت قبل أيام إلى نفسي وحاورتها بصراحة وفكرت  في مجرى وشريط حياتي وحياة من كان معي أو حولي أو عموم الشعب العراقي، الذي أنا منه وإليه، سجلت بوضوح كبير ظاهرة كانت ولا تزال سائدة بالعراق، وهي  أنَّي لم أعش في وطني الحبيب حياة الحرية والديمقراطية ولم اعرفهما لا في البيت ولا في المدرسة ولا في الشارع، كما لم اعشها مع من كان معي ومن هم حولي، ولا الشعب كله كان يعيشهما، بل تعرفت عليهما حين بدأت أقرأ الكتب التي وصلت إلى يديَّ من خلال التنظيم السري للحزب الشيوعي العراقي، التي كانت تشرح مفهوم ومضمون الحرية والديمقراطية والمساواة بين النساء الرجال ورفض التمييز العنصري والديني والمذهبي، ومعنى العيش في ظل الحرية والديمقراطية. وحين بدأت أقارن بين ما كنت أقرأه، وبين ما كنت أعيش تحت وطأته، أدركت عمق وسعة الفجوة الهائلة بين كنت ما قرأت وما كنت أعيش فيه، إذ إن العيش في ظل الحرية والديمقراطية شيءٌ، والقراءة عنهما شيءٌ آخر تماماً، إضافة إلى وعي العيش تحت وطأة تغييبهما.
ولدت في بيئة عراقية محافظة، كأغلب العائلات العراقية، ولاسيما تلك التي حرمت من وسائل التثقيف الحديثة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مثل كربلاء، وأعني بها غياب السينما والمسرح أو صعوبة الوصول المناسب إلى الكتب والمجلات والصحف الحرة والديمقراطية التي لا تتحدث عن "أفضال" الحكومة على شعبها" وضرورة أن يكون الشعب دوماً في خدمتها وإطاعة أوامرها والابتعاد عما يبغضها...، كان هذا هو الواقع الذي عشت فيه، حيث لم أتعرف فيه بملموسية عن معنى الحرية والديمقراطية سنوات طويلة من عمري كصبي وبداية شبابي، أو حتى فيما بعد، حيث تجلى الموقف غير الديمقراطي في موقف سلطات الدولة الثلاث من المواطِنة والمواطن ومن مفهوم المواطنة الحرة والمتساوية أساساً. فالمواطن والمواطنة لا حقوق فعلية لهما، رغم أن الدستور العراقي السابق، والجديد كذلك، يعترف بحقهما ولا يفرق بين المواطنين، وأن لم يذكر المواطنات مباشرة، ولكن يقصد الإناث أيضاً. فغلتنا ذكورية بحتة، رغم إن اسمها انثوي. وتجلى في غياب الحرية الفعلية والديمقراطية الحقيقية، على نسبيتها، عن الأحزاب السياسية التي تشكلت في تلك الفترة وما بعدها. فهي في الغالب الأعم أحزاب النخب الحاكمة، أما الأحزاب الديمقراطية فكانت تعيش الاسم أكثر من الفعل، لأنها كانت محاربة من السلطات الثلاث ببعض القوانين والمراسيم والنظم وبالأفعال أكثر. وحتى الحزب الذي أصبحت عضواً فيه منذ بداية شبابي، ورغم تعلمي فيه معنى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأعني بذلك الحزب الشيوعي العراقي، لم أعش ثمارها الفعلية كما ينبغي وكما قرأتها أو ثُقفت بها، ومع ذلك كانت في الحقيقة هي الأفضل عما كان موجوداً وسائداً في مجتمعنا وفي الأحزاب الأخرى. فغياب مبادئ وممارسات الحرية والديمقراطية في بلد ما مثل العراق، ينعكس بكامل ثقله على كل الأحزاب السياسية العلنية منها والسرية وعلى حياتها الداخلية وعلاقاتها المتبادلة، وتزداد مصاعب الأحزاب السرية في ممارسة الحرية والديمقراطية في الحياة الحزبية، لأنها كانت، أو لا تزال، تخشى المطاردة والملاحقة والاعتقال والتعذيب والسجن، وما يمكن أن يتعرض له المعتقل من احتمالات التعذيب وانكشاف أسرار الحزب، ولاسيما أسماء الأعضاء فيه، وبالتالي فهي مجبرة على اختيار عناصرها القيادية وكوادرها ليس بالضرورة ممن يمتلكون قدرات فكرية وسياسية مميزة أو معارف وتجربة غنية أو استقلالية في التفكير، بل يكون المحك الأساس هنا هو قدرة هذا المناضل أو ذاك وهذه المناضلة أو تلك على الصمود في مواجهة خصوم هذا الحزب السري حين يعتقل، والخصوم هم في الغالب الأعم السلطات الثلاث في الدولة غير الديمقراطية. كما يجبر على عقد مؤتمراته في فترات متباعدة. فمؤتمر الحزب الشيوعي العراقي الأول عقد في العام 1944/1945، أي بعد مرور عشرة أعوام على تأسيسه، ومؤتمر الثاني عقد بعد مرور 26 سنة على عقد المؤتمر الثاني. على سبيل المثال لا الحصر. وسبب ذلك يكمن في طبيعة الأوضاع التي سادت العراق طيلة العقود المنصرمة.     
مبادئ الحرية والديمقراطية ليست فيتامينات يمكن أن تؤخذ كحبوب أو أبر يزرقها الطبيب لهذا المواطن أو تلك المواطنة، بل هي مبادئ وممارسات لا بد أن يعيشها الأطفال والصبية والشبيبة يومياً في البيت والمدرسة والشارع والمجتمع وفي دوائر الدولة وفي الإعلام والكتب والتربية والتثقيف اليومي وفي الأحزاب والحياة الاقتصادية والاجتماعية... أي في كل مجالات الحياة اليومية. هذا النوع من المبادئ والممارسات لم يعشها شعبنا العراقي في كل تاريخه الحديث والمعاصر، دع عنك تاريخه الأموي والعباسي والعثماني أو حتى الملكي، الذي بدا وكأنه كان يريد بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، ولكنه زاغ عنهما حين اعتقدت نخبه الحاكمة أنها ستعرض حكمها لمخاطر الضياع من يدها، إن سمحت للحرية أن تنتعش وتُنعِش الناس بها، وللديمقراطية أن تنتشر لتزدهر بها حياة الإنسان، إذ حين يبدأ العقل بالتفكير الحر، وحين ينمو الوعي ويستقل في رؤيته للواقع وما يفترض أن يحصل، ينتفض على واقعه ويرفضه ويعمل على تغييره.
حين لا يتعلم الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، معنى الحرية والديمقراطية منذ صغره ولا يتعرف عليهما بالممارسة العملية، لا يمكنه بأي حال أن يفهم أهميتهما أو يمارسهما مع الآخرين، ولا حتى أن يطالب بهما لنفسه، كما لا يجد غضاضة في التجاوز على حرية وحقوق الآخرين دون أن يدرك بأنه قد تجاوز بذلك على حقوق الآخرين، على حريتهما وعلى الديمقراطية التي يجب أن يتمتع بها الآخرون أيضاً. الحرية هي إدراك الضرورة، وهي ببساطة أيضاً "أن تمد يدك بحيث لا تمس أنف غيرك"..
المعضلة الحقيقية في مجتمعاتنا ذات الأكثري المسلمة تبرز في واقع التربية والتعليم والثقافة الدينية التي تصل إلى الطفل والطفلة والصبي والصبية، بل والشبيبة أيضاً، فهي ثقافة بعيدة كل البعد عن مفهوم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء الإنسان المستقل القادر على التفكير بحرية واستقلالية، فهي ثقافة شمولية متسلطة ترفض الفكر والرأي الآخر وتحاربهما بقسوة استثنائية، بل تصل إلى حد اغتيال من يحمل فكراً ورأياً أخر، وبالتالي لا يجد المجتمع أمامه غير ثقافة صفراء، في الغالب الأعم، ثقافة وتربية وتعليم كلها تتسم بالفاقة والخرافة والزيف والتشوه، ينشرها من يعتقد إنه يمتلك الحق الإلهي في نشر ايديولوجيته ورفض أي فكر أو رأي آخر أو نقد، فالحاكمية لله وحده، وكل الديانات الأخرى والأيديولوجيات الأخرى والأفكار والآراء الأخرى والنظم الأخرى نابعة من الجاهلية الأولى، إنها الجاهلية بعينها، إنها كفر وبهتان. وهذا يعني بوضوح يجب محاربتها. إنه التجسيد الحي للبؤس الفكري والسياسي الذي يعيش تحت وطأتهما المواطن والمواطنة في جميع الدول ذات الأكثرية المسلمة، ولاسيما في السعودية وإيران والسودان والعراق، وما يريدونه ويسعون إليه في العراق أكثر مما هو عليه الآن بكل ما اتيحت لهم من إمكانيات داخلية ودعم ومساعدة خارجية.
النخب الحاكمة في العراق تتحدث بملء أفواهها عن وجود حريات وديمقراطية في العراق، وهي أول من تجاوزت عليهما وداستهما بأقدامها. الدستور العراقي الجديد يؤكد حق الإنسان بالتظاهر، وحقه في أن يكتب أو يقول أو ينتقد ما يشاء ومن يشاء. ولكن هذا الإنسان "الحر" سيجد أمامه من يسدد كاتم الصوت الذي يحمله صوب صدره أو يأتيه من الخلف حتى في وضح النهار، ويطلق رصاصته المميتة، أو سيجد من يختطفه من الشارع لينقله إلى واحد من بيوت الاعتقال الكثيرة السرية الخاصة بالمليشيات الطائفية المسلحة، أو في معتقلات سرية لأجزاء من الحشد الشعبي ذات الانتماء الميليشياوي ليعذب ويموت ويدفن دون أن يعلم به أحد، ويبقى مصيره مجهولاً.. كما هو حاصل في البصرة، أو ينقل إلى بلد مجاور لينتهي هناك بالمصير ذاته الذي انتهى إليه الكثير من مناضلي ذلك البلد..
نحن في العراق أمام واقع مرير، فحكامه، الذين يعتمدون العمائم فكراً وممارسة، وهم في الغالب الأعم طائفيون بامتياز، بغض النظر عن ارتدائهم لها أو عدمه، يتحكم بهم وبممارساتهم اليومية الفكر الإسلامي السياسي الشمولي، وهم في الغالب الأعم قد تعلموا على مواجهة الفكر الآخر بالرفض، لأن فكرهم منزل ولا مرد له وأبدي، إنه جوهر "الحاكمية لله وحده"، سواء نقطوا بها، كما لدى الإخوان المسلمين ولدى أتباع المذهب السني الوهابي، أم لم ينطقوا بها بهذه الصورة، كما في فكر المذهب الشيعي في إيران! ولكن الحصيلة واحدة.
كيف الخلاص من هذا الواقع، إنها المحنة التي يفترض أن يواجهها وستصدى لها من يعي مخاطر غياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إنهم الأناس الواعون الذين بدأوا يتكاثرون تدريجاً، لا بسبب عيشهم في ظل الحرية والديمقراطية، بل بسبب التفاعل الجاري بين الثقافات في العالم واطلاعهم على ظروف عيش الشعوب الأخرى التي تتمتع بهذا القدر أو ذاك بالحرية والديمقراطية، إنها عملية معقدة وطويلة إنها عملية سيرورة وصيرورة غاية في التعقيد والتشابك ولكنها لسيت مستحيلة، بل ممكنة والشعوب قادرة على التعلم من الشعوب الأخرى والتفاعل معها ووضع خارطتها الذاتية في ضوء تطور وعيها، وهو الذي يجعل الأمل في نفوس من يجد في الحرية والديمقراطية طريق الخلاص من البؤس والفاقة الفكرية، من الفساد والإرهاب، من الدولة الدينية التي لا تميز بين اتباع الديانات المختلفة بسبب دياناتهم فحسب، بل وبين أتباع المذاهب في الدين الإسلامي، بسبب اختلاف مذاهبهم. إنها المحنة والكارثة التي لا بد من العمل للخلاص منها في العراق، بل وفي جميع الدول ذات الأكثرية المسلمة لصالح سيادة المجتمع المدني ومبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ويحدونا الأمل بانتصار ذلك ويقربنا منه حين نعمل من أجله.           
30/11/2018       
   

172
كاظم حبيب
دونالد ترامپ: المال أولاً ولو جاء على جثث الضحايا وكوارث البيئة
لم تستطع جميع السياسات والمواقف المريعة التي اتخذها دونالد ترامپ على الصعيد الداخلي والعالمي، بما فيها خروج الولايات المتحدة من "اتفاقية باريس لعام 2015 بشأن "التغير المناخي" والتهديد باستخدام السلاح على الحدود الأمريكية المكسيكية ضد لاجئي هندوراس وغواتيمالا والسلفادور، والمشاركة الفعلية بالحرب الهمجية الجارية في اليمن وسوريا، والخروج من اتفاقية الصواريخ المتوسطة والقريبة المدى مع روسيا الاتحادية ونكران ما يحصل في العالم من كوارث في العديد من البلدان التي ترتبط بشكل مباشر بواقع التغير المناخي الجاري والتلوث البيئي المتفاقم في الكرة الأرضية، بما فيها حرائق كاليفورنيا تموز 2018، أن تكشف عن الوجه الحقيقي لهذه الشخصية الأمريكية من أصل أوروبي ألماني مهاجر، (على وفق ما جاء في موقع "اليوم السابع" بتاريخ 4 تموز/يوليه 2018) إذ "أن جده فريدريك كان ألمانيا فقيراً وهارباً من القانون ومهاجراً إلى واشنطن في القرن التاسع عشر"، ولهذا فهو، كما يبدو، يعتقد بأن أغلب جميع اللاجئين هم هاربون من القانون ومجرمون ويهددون الولايات المتحدة، بالقدر الذي كشفه الموقف المعيب والبشع وغير الأخلاقي الذي اتخذه ترامپ إزاء قتل الصحفي من المملكة السعودية جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول شرَّ قتلة، وذلك بتقطيعه وتذويب جثمانه بالأحماض الكيماوية. ويقال أن رأسه قد نقل، كما تشير إلى ذلك وسائل الإعلام الدولية، إلى المملكة، ليتيقن من قَتلهِ وليشفي غليل من أراد قتله بأي ثمن. و(قارن: موقع هس بريس، مصدر تركي: تسجيلات تكشف قطع رأس الصحافي خاشقجي بإسطنبول، 18 تشرين الأول/أكتوبر 23018). وهذه الممارسة، وكثير غيرها، تقليد وحشي قديم استخدمها الكثير من الخلفاء العرب وغير العرب من المسلمين، إذ يجسد قسوة وسادية مرضية عند هؤلاء الحكام. ونحن نعرف بأن أحكاما كثيرة تصدر بقطع الرؤوس سنوياً في المملكة السعودية، فـ"محمد سعيد البيشي هو قاطع الرؤوس الأول في المملكة العربية السعودية. قطع هذا العام وحده (2015) 97 رأسًا فقط من رؤوس المواطنين السعوديين وغير السعوديين، ولا تزال يداه ويدا ابنه ممدودة. " لقطع رؤوس أخرى. (المصدر: موقع المصدر: تسفي برئيل، هل سيتوقف السعوديون عن قطع الرؤوس؟ في 15 حزيران/يونيو 2015). وفي أحدث تقرير لها صدر يوم السبت، قالت المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان ESOH )) إن "عمليات الإعدام من قبل الحكومة السعودية في الربع الأول من عام 2018 زادت بنسبة 72 بالمائة." وقالت مجموعة "ريبريف" المعنية بمناهضة عقوبة الإعدام في أن "معدل الإعدام في المملكة العربية السعودية قد ازداد منذ تعيين محمد بن سلمان وليا للعهد في عام 2017. وقالت المنظمة إن 133 عملية إعدام قد تمت في الأشهر الثمانية التي تلت تعيينه في 17 حزيران/يونيو الماضي (2017) مقارنة بـ 67 حالة. في الثمانية أشهر السابقة." (المصدر: غلوبال ريسيرش: عمليات "قطع الرأس" في السعودية ازدادت بنسبة 70% في عهد "ابن سلمان"، موقع الواقع السعودي، استناداً إلى غلوبال ريسيرش بتاريخ الإثنين 23 نيسان 2018.).
لقد وقف رؤساء أمريكا منذ تأسيس المملكة السعودية إلى جانب الحكام السعوديين، وكان الاتفاق بينهما يستند إلى قاعدة أساسية تؤكد ما يلي: "النفط والتأييد المطلق منكم للولايات المتحدة وأمنها القومي، وحماية حكم البيت السعودي منَّا لكم". وهكذا سارت الأمور على أساس هذه القاعدة بين الآمر والمأمور أو بين السيد والمسود، بعد أن تراجع تأثير بريطانيا وتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية في نفوذها في المملكة السعودية منذ ما يزيد عن سبعة عقود، ولاسيما في اعقاب الحرب العالمية الثانية. ولكن لم يصل الأمر إلى الحد الذي بلغه في عهد دونالد ترامپ. فترامپ تجاوز كل الخطوط الحمراء في العلاقات الدبلوماسية الدولية حين أكد بأن "من المحتمل أن ولي العهد كان على علم بالحادث، ربما كان على علم وربما لا". ، فأن الولايات المتحدة تعتبر "السعودية حليف موثوق وافق على استثمار مبالغ مالية غير مسبوقة في الولايات المتحدة". ، علما بأن وكالة المخابرات المركزية سي آي أي   CIA"خلصت إلى أن بن سلمان هو من أمر بالقتل."، على وفق التقارير التي نشرت في وسائل الإعلام الأمريكية. قال ترامپ إن "العالم خطير"، ثم وصف السعودية بـ"أنها حليف للولايات المتحدة ضد إيران، وأضاف: "تنفق السعودية المليارات في الحرب على الإرهاب الإسلامي المتطرف، بينما قتلت إيران الكثير من الأمريكيين وأبرياء آخرين في الشرق الأوسط". ، علماً بأن الدولتين السعودية وإيران لا تساهمان في تمويل الإرهاب وتنشيط الصراع الطائفي الشيعي – السني والتدخل في شؤون الدول الأخرى فحسب، بل وتمد قوى الإرهاب بمزيد من العناصر المقاتلة والدعاية الإعلامية وما يساهم في تأجيج الحروب الداخلية، كما هو حاصل في سوريا واليمن والصراع الدموي في العراق. وأشار بيان ترامپ إلى التزام السعودية بالاستثمار وشراء الأسلحة الأمريكية. وقال: "لو أننا ألغينا هذه العقود فإن روسيا والصين ستكونان المستفيد الأكبر، ثم اعترف بأن مقتل خاشقجي كان "فظيعاً"، ولكنه قال: "ربما لن نعرف أبدا حقيقة ما حصل له". (قارن: مقتل جمال خاشقجي: ترامپ يدافع عن العلاقات مع السعودية، موقع BBC عربي نيوز، الأخبار في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018). ويبدو أن معارضة بدأت تظهر بشكل أوسع في مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة ضد سياسة ترامپ بشأن السعودية، كما إن المعارضة بدأت تتسع بين الأوساط الشعبية الأمريكية لعموم سياسات ترامب، ولكنها لم تصل بعد إلى المستوى الذي يمكن أن يعرَّضه إلى إبعاده من البيت الأبيض.   
إن هذا التوحش الرأسمالي النيولبرالي واللاأخلاقي، الذي اشتد في فترة ولاية ترامپ، يؤكد حقيقة أن الولايات المتحدة، التي احتلت العراق في العام 2003 لم تألوا جهداً إلا وبذلته من أجل أن تبقى "الفوضى الخلاقة" والفساد والإرهاب والتخلف في العراق سائدة، بما في ذلك ترك الحدود مفتوحة للإرهابيين، وترك النهابة يسرقون العراق وثروته الآثارية التاريخية، ومصارفه، وقصور صدام حسين، كما سمحت، إضافة إلى كل ذلك، بتغلغل إيران في مناطق العراق الشيعية ومفاصل الدولة والمجتمع، ومنها بغداد، وتغلغل الوهابية السعودية والخليجية في مناطق العراق السنية، ومنها بغداد ايضاً، كما أصبحت كردستان موقعاً مهماً لنشاط واسع النطاق، ولاسيما اقتصادياً، لإيران وتركيا، إضافة إلى علاقات سياسية شديدة الفاعلية للسعودية مع الجماعات الإسلامية السياسية الكردية. وما يزال العراق يعاني جراء تلك السياسة المتطرفة للولايات المتحدة في العراق وسيبقى لفترة غير قصيرة على هذه الشاكلة حتى يعي الشعب ما خطط ونفذ ضده وما يراد له حالياً وفي المستقبل، وما ينبغي عليه القيام به والتصدي له ومقاومته وإسقاط أهداف كل القوى الخارجية التي تريد إيقاع أكبر الأضرار والخسائر بالشعب العراقي، وجني أقصى الفوائد لتلك الدول في العراق.     
27/11/2018
         

173
كاظم حبيب
ما الخدمة الأساسية التي يقدمها عادل عبد المهدي لإيران؟
لم أكن بعيداً عن الواقع العراقي حين أشرت بصراحة ووضوح إلى أن العراق يعتبر دولة شبه مستعمرة لإيران خلال فترة حكم نوري المالكي ورهطه بين 2006-2014، واستمر هذا الواقع الفاعل إلى حدود كبيرة في فترة ولاية حيدر العبادي 2914-2018، رغم محاولاته تقليص التدخل الفظ والمستمر لإيران واتباعها في شؤون العراق كافة، ليس بواسطة مستشاريها المدنيين والعسكريين والدينيين الطائفيين،  وعلى رأسهم العميد قاسم سليماني، فحسب، بل وبوجود جيش جرار من المدنيين والعسكريين، من جواسيس وعيون وحرس ثوري وبسيج وجيش المقدس وقوى واسعة في الحشد الشعبي في العراق، ومنها إزاحته لـ "فالح فياض" من مسؤولية الحشد الشعبي وتوليها بنفسه باعتباره القائد العام للقوات المسلحة. لقد استفادت إيران بشكل كبير من وجود المالكي وإلى حد ما غير قليل من العبادي، على رأس الحكم وهي لا تزال تستفيد، من العراق، ولاسيما في المجال الاقتصادي من حيث التصدير أولاً، وعرقلة التنمية الاقتصادية عبر أعوانها في الوزارات المسؤولة عن التنمية، بما في ذلك قطاع الكهرباء والمالية والمصارف ثانياً، وعبر السوق السوداء ولاسيما المخدرات التي تدخل العراق من جميع المنافذ الحدودية مع إيران، إضافة إلى تهريب العملة الصعبة بأساليب وطرق كثيرة ثالثاً.
ورغم إن العبادي لم يسع إلى إغاظة إيران جدياً أو إعاقة استفادتها من الاقتصاد العراقي، فأن إزاحته لفالح فياض من الحشد الشعبي، كانت وحدها كافية لسقوط ورقة الود الأخيرة المتبقية بين إيران والعبادي، وأصبحت الرغبة في إزاحته لا تخطئها العين المجردة. وأول إجراء حصل بعد تشكيل الجزء القليل من الوزارة الجديدة برئاسة عادل عبد المهدي هو عودة فالح فياض لقيادة ورئاسة الحشد الشعبي، ومن ثم ترشيحه من كتلة البناء ليكون وزيراً للداخلية، وآخر من نفس الفصيلة لوزارة الثقافة..، وكلهم مشهود لهم بالحب الشديد لإيران وللنهج الطائفي المتطرف الذي تتقنه إيران ونقلته للفكر والسياسة العراقية.
وبهذا أصبح عادل عبد المهدي شخصية مرغوباً بها من جانب إيران، الذي لم يتوقف عن مدح الحشد الشعبي ودوره فحسب، بل واستجاب لمطلب فالح فياض بمساواة رواتب الحشد الشعبي برواتب الجيش العراقي، وأغلب أعضاء الحشد الشعبي هم من قوى المليشيات الطائفية المسلحة الموزعة بين بدر وعصاب أهل الحق وحزب الله ومن لف لفها، وهي كلها مرتبطة فكرياً وسياسياً بإيران، اعترف عادل عبد المهدي بذلك أم أنكره، فهي حقيقة لا تخطئها العين ايضاً، إنه الحرس الثوري العراقي، إنها جيش حزب الله اللبناني-الإيراني. ولم يبق سوى وزارة الداخلية ليتحقق لإيران هيمنة كاملة على كل أجهزة الأمن والشرطة وقوى مكافحة الإرهاب والقوة الخاصة والتي شكلها نوري المالكي خارج الشرعية الدستورية، "فدائيي المالكي" وهي على غرار منظمة "حنين" التابعة لحزب البعث وبقيادة صدام حسين، كم إنها تذكرنا بـ "فدائيي صدام حسين"، وقبل ذاك بـ "فدائيي يونس سبعاوي" التي شكلها وزير الاقتصاد في حكومة انقلاب رشيد عالي الكيلاني في مايس/أيار 1941 ومسؤول الأمن عملياً في قيادة ذلك الانقلاب.
إن أكبر خدمة قدمها عادل عبد المهدي لإيران هي تسليمه قيادة الحشد الشعبي لفالح فياض أولاً، وتأكيده على دور هذا الحشد في السياسة العسكرية العراقية ثانياً، وربما سيكون تعيينه لاحقاً لفالح فياض وزيراً للداخلية ثالثاً. أما منافع إيران في القضايا الأخرى، في مجال الاقتصاد والمال والبنوك وتعطيل عملية التنمية الإنتاجية واستكمال مشاريع الخدمات، فتأتي لاحقاً ومن خلال الوجود المكثف لإيران على أرض العراق وفي جميع الوزارات والهيئات والمؤسسات. ولهذا لم ينته الموقف الفعلي الذي لا يزال يشير إلى إن العراق تابع لإيران في سياساته ومواقفه الداخلية والدولية، وأشبه بمستعمرة، رغم كل المحاولات التي تجري من البعض في التخفيف من هذا الواقع المزري والمعيب والمخل باستقلال وسيادة العراق والتي تجعل دولة العراق هشة حقاً، شاء بعض المسؤولين الذين يسعون إلى تخفيف هذه التبعية ذلك أم أبوا! فالواقع المُر هو القائم والذي يفقأ العين.                   

174
ملف خاص في الذكرى الثلاثين لمجازر الأنفال وحلبچة باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وإبادة الجماعية

https://www.youtube.com/watch?v=vEUzlBEtJZ0
لقراءة الملف كاملا
http://www.ankawa.com/sabah/Alanfal_in_Kurdistan.pdf

175
كاظم حبيب
متى تنتهي كوارث وآلام وأحزان مسيحيي ومسيحيات العراق؟
في الذكرى السنوية الخامسة لانعقاد مؤتمر "أصدقاء برطلة
ضد التغيير الديمغرافي لمناطق المسيحيين الأصلية في العراق"

منذ ان استولت الطغمة البعثية المتطرفة على حكم العراق في انقلابها الفاشي في 8 شباط عام 1963، إذا أغفلنا ما حصل للعائلات المسيحية في العام 1959 في أعقاب فشل مؤامرة العقيد عبد الوهاب الشواف، بدأت واحدة من أكثر العمليات الهادفة تحقيق التغيير السكاني (الديمغرافي) الفعلي في مناطق سكن وعمل المسيحيين التاريخية، في قرى وأرياف سهل نينوى والموصل، والتي تواصلت في فترة حكم القوميين اليمينيين أيضاً، ثم اتخذت أبعاداً جديدة بعد أن استولى حزب البعث ثانية على الحكم في العام 1968 وفرضه الدكتاتورية المطلقة على البلاد ومارسته سياسات معادية للأثنيات الأخرى إلى حين إسقاطه على أيدي قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا بخلاف موقف مجلس الأمن الدولي والشرعية الدولية. مارس حزب البعث في هذه الفترة عمليات تغيير سكانية عبر إطفاء الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مناطق سكنية يجري بيعها وتمليكها لمن هم من غير أبناء المنطقة، ولاسيما لعائلات من نينوى وجنوب العراق وإسكانهم فيها، فقد جاء في مقال للناشط في مجال حقوق الإنسان السيد وليم وردة، وورد النص ذاته في مقال للناشطة السياسية وحقوق الإنسان الدكتورة كاترين ميخائيل، ما يلي:
لقد عمد النظام السابق إلى أسلوب إطفاء الأراضي الزراعية في قرى ونواحي وأقضية المسيحيين لغرض تحويل صنفها من زراعي إلى سكني. وتتم هذه العملية بالرغم من إرادة سكان المنطقة وضد مصالحهم وبدون تعويض يذكر. وحين يتم التعويض فيكون رمزياً مما دفع الأهالي إلى رفض تسلم مبلغ التعويض. وكان النظام السابق يوزع تلك الأراضي التي تم إطفاؤها على رجال المخابرات والأمن وحاشية ومريدي النظام ورأسه. وكان هذا الإجراء يعني دخول أناس من مناطق أخرى، وأغلبهم من المسلمين إلى مناطق المسيحيين. والوثائق تشير إلى بيع تلك الأراضي على سبيل المثال لا الحصر الى جماعات من الشرقاط والقيارة وربيعة ليأتوا ويبنوا مساكن لهم في تلكيف والحمدانية مما جلب ذلك معه الكثير من المشكلات الاجتماعية. وإذ تم إلغاء قرارات مجلس قيادة الثورة على عموم العراق فيما عدا محافظة نينوى التي التزمت حتى الآن بتطبيق مضمون قرارين سيئين هما القرار 111 لسنة 1995 والقرار 117 لسنة 2000, وهما يعنيان الاستمرار بإطفاء الأراضي الزراعية وتحويل صنفها إلى أراض سكنية وتوزيعها على مستفيدين من مناطق أخرى ومن غير المسيحيين." (راجع: وليم وردة، من أجل إيقاف عمليات التغيير الديمغرافي لمناطق مسيحيي العراق، موقع منظمة حمورابي لحقوق الإنسان، وراجع أيضاً، د. كاترين ميخائيل، التغيير الديمغرافي مرض مزمن في العراق، صحيفة المثقف. 19/11/2018).
وبعد إسقاط الدكتاتورية توقع الكثير من المسيحيين، ولاسيما الجماعات التي أيدت الحرب ضد الدكتاتورية البعثية، وعموم الشعب العراقي، بأن الأوضاع ستتجه صوب الأفضل وستتوقف عمليات التغيير الديمغرافي لمناطق سكن وأراضي المسيحيين أولاً، ثم يستعيد المسيحيون لما نهب من بيوتهم وأراضيهم الزراعية وعقاراتهم بأساليب كثيرة وخارج الشرعية الدستورية ثانياً، ويتمتعون مع بقية أبناء وبنات الشعب بالرحة والاستقرار والكرامة والتقدم ثالثاً. ولكن، ما حصل هو العكس من ذلك تماماً، وهو ما توقعت حصوله في أكثر من دراسة ومقال ومحاضرة وندوة أجريتها قبل بدء حرب عام 2003، إذ تعرض المسيحيون أينما كانوا في العراق إلى نهب جديد وبأساليب مختلفة، بما فيها ممارسة التهديد والإرهاب والقتل والتشريد. وهو الذي دفعني ومجموعة من العراقيات والعراقيين التقدميين والديمقراطيين إلى تأسيس "هيأة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق في العام 2004 للتنبيه والتحذير عما يمكن أن يحصل من عدوان واضطهاد ضد أتباع الديانات والمذاهب وصراعات طائفية مميتة، ووقد حصل ما كنا نخشاه فعلاً وما يزال مستمراً بأشكال مختلفة.
يمكن إيراد عشرات الأمثلة عما جرى في الموصل وسهل نينوى وكركوك والبصرة وبغداد خلال الفترة بين 2004-2014، إذ تعرضت دورهم وكنائسهم للتدمير وإشعار النيران فيها واختطف وقتل الكثير من القساوسة والمواطنات والمواطنين المسيحيين قبل اجتياح داعش للموصل وسهل نينوى. وقد عمد الإرهابيون، ومنها أعضاء الميليشيات الطائفية المسلحة، إلى بث الرعب في نفوس المسيحيات والمسيحيين وإجبارهم عل ترك دورهم أو بيعها بأبخس الأثمان والهروب بجلودهم. وما حصل بعد ذلك كان أقسى وأشد، إذ ارُتكبت جرائم بشعة ضد الإنسانية وإبادة جماعية للإيزيديين بشكل خاص، وللمسيحيين وللشبك والتركمان. لقد سقطت محافظة نينوى كلها تحت الاحتلال الوحشي لعصابات داعش الإرهابية التكفيرية المجرمة، ومورست كل الموبقات والبشاعات والقتل والاغتصاب والسبي وبيع الآلاف من النساء الإيزيديات بسوق النخاسة "الإسلامي"، وشُرد مئات الألوف من الناس الأبرياء، وتقلص عدد المسيحيين والإيزيديين في العرق بنسبة كبيرة جداً. كما دمرت أجزاء كثيرة وكبيرة من الموصل وسهل نينوى، بحيث أصبح الكثير من المنازل والمحلات غير قابل للعيش والعمل، ويفترض إعادة البناء بشكل كامل تقريباً.
حتى يومنا هذا لم يعمد القضاء العراق ولا الادعاء العام إلى محاسبة ومحاكمة من كان مسؤولاً عما جرى ضد المسيحيين في الفترة بين 2004-2014 أولاً، ولا الذين كانوا السبب وراء اجتياح الموصل وسهل نينوى في 10 حزيران/يونيو من عام 2014 وما بعده، وأعني بهم رئيس وأعضاء الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة والقيادات العسكرية وبقية المسؤولين ثانياً، مما ساعد على ارتكاب عمليات تغيير سكاني جديدة في الموصل وسهل نينوى حتى بعد تحريرها من أيدي الأوباش الدواعش. لقد كان المواطنون المسيحيون والمسيحيات يتوقعون تحسن الوضع بعد تحرير المنطقة من العصابات التي دنست أرض الوطن وداست على كرامة البشر فيها. ولكن توقعات الناس خابت تماماً ومنيت بالفشل مرة أخرى، ولاسيما بالنسبة لمسيحيات ومسيحيي العراق. فماذا يجري الآن في مناطق المسيحيين؟ سأترك الحديث هنا إلى عدد من الوقائع التي يؤكدها أصحاب الأرض من بنات وأبناء الوطن المستباح بالطائفية والمليشيات الطائفية المسلحة والحشد وسياسات التمييز الديني والمذهبي والفساد الالي والإداري؟ اليكم بعض الوقائع المهمة، وهو جزي قليل من كثير جداً:
** "حذّر المطران شليمون وردوني، مدير أبرشية بغداد للكلدان من ان هناك مشكلة حقيقية وخطيرة تتعلق بتزوير تبعية أملاك عقارية تعود لمسيحيين، مشيرا الى أن الحكومة تمكنت من إيقاف 50 عملية بيع مزورة لعقارات مملوكة لمسيحيين في سهل نينوى حتى الآن، كما قال إن هناك ما يقارب 350 عملية مناقلة بيع مزورة على الاقل تتم متابعتها، مؤكداً أن الكنيسة الكاثوليكية تحاول جاهدة المساعدة في إرجاع الاملاك لأصحابها ولكن المهمة صعبة." ويواصل المطران رودني فيؤكد: "المسيحيون في سهل نينوى يتهمون ميليشيا الحشد الشعبي بالعمل على تغيير ديموغرافية مناطقهم بجلب سكان من الشبك الشيعة وإسكانهم فيها. كاميرا "العربية" زارت أبرشية "مار متى" التاريخية في السهل ونقلت معاناة المسيحيين مع الحشد بعد تقطع السبل بهم. (راجع: الحكومة تتابع 350 قضيّة تزوير للاستحواذ على أملاك المسيحيين، جريدة المدى، رقم العدد: 4313، في 11/18/2018).
** بالرغم من تحمسه للعودة إلى بيته في بلدة “بغديدا” جنوب الموصل، فإن “زيا عزيز” البالغ من العمر 43 عامًا، لم يقضِ أكثر من أسبوع واحد هناك، قبل أن يعود مرة أخرى إلى ناحية “عنكاوا” في “أربيل”؛ خوفًا على عائلته من التهديدات الواسعة، التي يقول: إنها تطال المسيحيين على أيدي عناصر “لواء الشبك” التابع لـ”الحشد الشعبي”، ووصلت إلى حد التحرش بالنساء". (راجع: رولا الخطيب، مسيحيو العراق.. تغيير ديمغرافي تنفذه "الحشد" بسهل نينوى، موقع العربية نت، 1 شباط/فبراير 2018).   
** " وكان النائب المسيحي “جوزيف صليوا” قد وجه في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي (2017) خطاباً إلى رئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي“، طالباً منه التصدي لحالات الاعتداء التي تحصل على النساء المسيحيات في وضح النهار، من قبل عناصر اللواء 30 التابع لميليشيا “الحشد الشبكي”، متهماً إياهم بالقيام بجرائم بشعة بحقهن. واتهم “صليوا” في لقاء مُتَلْفَز -تابعته “وكالة يقين”- عناصر ميليشيا الحشد؛ باستغلال مواقعها لتحقيق تغيير ديموغرافي في قضاء “الحمدانية” شرق الموصل، مبيناً أن أبناء “المكون الشبكي” يسعون لبناء منازل بشكل تجاوزات غير قانونية، في أراضٍ تابعة للمؤسسات الحكومية. (راجع: سهل نينوى.. ميليشيا الحشد تهدد باقتلاع المسيحيين من موطنهم التاريخي، موقع وكالة يقين للأنباء، قسم التقارير-نينوى، في 29 أذار/ مارس 2018).
** ويتفق مع النائب “صليوا” في هذا الموضوع؛ مدير شؤون المسيحيين في وزارة الأوقاف بحكومة إقليم كردستان “خالد البير”، والذي أكد وجود عملية مستمرة لنقل عوائل من الوسط والجنوب؛ لإسكانهم في منطقة “برطلة” ضمن “سهل نينوى”، وأن هناك مجمعات سكنية يتم بناؤها هناك، وبشكل سريع لهذا الغرض." (المصدر السابق نفسه).
** "وفي بلدة برطلة ايضاً ذات الغالبية المسيحية  تم الاستحواذ على بعض الأراضي، وكتابة عبارات طائفية مستفزة على جدران البلدة كـ(برطلة للشبك)، بالإضافة إلى ترهيب السكان واجبارهم على بيع ممتلكاتهم، وكل هذه الممارسات  كان الهدف الاساس منها إبعاد مسيحييّ برطلة عن مناطقهم، وفرض نفوذ الشبك الشيعة على هذه المناطق، وفي وقت سابق بنى هؤلاء مدرسة في البلدة اطلقوا عليها اسم (الخميني) وذلك امعاناً في سياسة التغيير الديموغرافي والتضييق على مسيحيي المنطقة، وهذا التغلغل المباشر متواجد حتى هذه اللحظة بطرق مدعومة من قبل قوى عراقية مشاركة في السلطة، ودول مجاورة. (راجع: المرصد الآشوري: التغيير الديموغرافي بحق قرى وبلدات مسيحية في شمال العراق مستمرّ...، عشتارتيفي كوم، بتاريخ 06/12/2017).
** قال عضو الهيئة القيادية في التجمع السياسي الكلداني السرياني الآشوري صباح ميخائيل في حديث لـ"السومرية نيوز"، إن "مناطق المسيحيين في سهل نينوى تتعرض لتجاوزات وعمليات تغيير ديمغرافي من خلال التحايل القانوني وتنفيذ المشاريع الخدمية"، مبيناً بأن "استمرار هذه السياسة يهدد الوجود المسيحي في العراق". وأضاف ميخائيل أن "المسيحيين في منطقة سهل نينوى يعانون من التهميش وقلة الخدمات والبطالة"، داعيا "الجهات الحكومية والسياسية بترجمة وعودهم لحماية حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى على أرض الواقع". (المصدر السابق نفسه).
ومن الجدير بالإشارة إلى أن عام 2013 شهد انعقاد المؤتمر الأول لأصدقاء برطلة على مدى يومين في كل من أربيل وبرطلة بسهل نينوى وتحت شعار "لا للتغيير الديمغرافي لمناطق المسيحيين الأصلية في العراق". حضر جلسة الافتتاح المئات من العراقيات والعراقيين من مختلف أنحاء العراق،  وكنت حينها رئيساً لمكتب اللجنة التحضيرية لهذا المؤتمر, وبعد المؤتمر قدمنا مجموعة كبيرة من الوثائق حول التغيير الديمغرافي لرئيس إقليم كردستان، السيد مسعود بارزاني، في لقاء مباشر بمقره في "سر رش" صلاح الدين، كما وضعنا الحكومة المركزية ومجلس النواب والقضاء العراقي أمام مسؤولياتهم بشأن هذه المشكلة، إضافة إلى توجيه رسالة إلى السيد عمار الحكيم، إذ كان من العاملين على شراء دور السكن والأراضي من المسيحيين وبأسعار خيالية في برطلة لصالح عائلات من الشبك وبأموال قيل أنها كانت قادمة من الحكومة الإيرانية. كما صدرت عن المؤتمر مجموعة من التوصيات المهمة. ولكن لم يجر أي تغيير في الموقف ولم تتوقف عمليات التغيير الديمغرافي في مناطق المسيحيين وفي غير صالحهم، بل يمكن تقديم الأدلة على إن المشكلة تتخذ اليوم أبعادا جديدة بعد تحرير المنطقة من عصابات داعش، إذ تساهم قوى حكومية وجماعات الحشد الشعبي بهذه العملية المخالفة للدستور العراقي وحقوق الإنسان وقرارات مجلس القضاء الأعلى. ومن هنا نؤكد مجدداً على أهمية وضرورة تعبئة الرأي العام العراقي والقوى الخيرة في الذكرى السنوية الخامسة لمؤتمر أصدقاء برطلة ضد الأفعال الإجرامية التي تزيد من آلام وكوارث وأحزان مواطناتنا ومواطنينا المسيحيين وتدفع بهم إلى ترك العرق، موطنهم الأصلي، والهجرة إلى دول الشتات العراقي، وهي كارثة حقيقة جديدة يمكن أن تحيق بالشعب العراقي المستباح بالطائفية والفساد وأنواع جديدة من الإرهاب.
وأخيراً أرى ضرورة عقد المؤتمر الثاني لأصدقاء برطلة لطرح الموقف إزاء ما يجري من تغيير ديمغرافي ف مناطق المسيحيين أولاً، والأوضاع البائسة التي لا يزال يعيش تحت وطأتها النازحون، إضافة إل نقص شديد في الخدمات وعدم اهتمام الدولة والرأي العام العراقي والعالمي لأوضاع المسيحيين واتباع الديانات الأخرى في العراق من غير المسلمين، سوا أكانوا من الشيعة أم السنة، واقترح أن يكون في ربيع عام 2019 في أربيل وفي إحدى بلدات سهل نينوى. 
كاظم حبيب، في 20/11/2018
   
 صورة من جلسة افتتاح مؤتم أصدقاء برطلة بتاريخ 24/11/2013 في قاعة الشهيد سعد في أربيل



176
كاظم حبيب
الفساد: مأساة ومهزلة العراق المستمرة، نوري المالكي وعلي العلاق نموذجاً
في عام 2007 قرر العراق وبدعم من الأمم المتحدة تشكيل "مجلس مشترك لمكافحة الفساد في العراق" وسميّ في حينها على محسن إسماعيل العلاق، محافظ البنك المركزي حالياً، رئيساً لها، والتي وضعت لها ما سمي بـ "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في العراق 2010-2014". وأن تكون عضوية هذا المجلس مكونة من: مجلس النواب، القضاء، ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة ومفوضية حقوق الإنسان ومجالس المحافظات، وأن يخضع هذا المجلس لرقابة المجتمع المدني ووسائل الإعلام. أي أن البدء بالعمل قد تقرر أن يكون عام 2010. وكان علي العلاق يحتل بين 2006 و2014 منصب الأمين العام لمجلس الوزراء، أي طيلة الفترة التي كان نوري المالكي رئيساً للوزراء، وكان عملياً أمين سره ومعتمده، وهو الذي عينه محافظاً للبنك المركزي وكالة ومن ثم أصالة. وطيلة السنوات الأربع لم يمارس هذا المجلس أعماله وأحبطت عملياً الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي ساهمت الأمم المتحدة في وضعها. وفي العام 2014 قرر حيدر العيادي، رئيس الوزراء الجديد أن يكون رئيساً لهذا المجلس المشترك، وأن يكون علي العلاق عضواً فيه مع أعضاء أخرين من الجهات المشخصة بالعضوية. ولكن ماذا حصل في فترة وجود العلاق أميناً عاماً لمجلس الوزراء 2006-2014، إضافة إلى رئاسته للمجلس المشترك لمكافحة الفساد بين 2007-2014؟ المعلومات المتوفرة عن هذه الفترة في مجال الفساد المالي والإداري تشير إلى إنها كانت الفترة الأوسع والأكثر فساداً في تاريخ العراق الجاري. فـ "بحسب لجنة المالية في البرلمان العراقي- كبّد الفساد العراق خسارة قيمتها ثلاثُمئة وستون مليار دولار خلال الفترة بين عاميْ 2006 و2014، وهذا ما أكدته منظمة الشفافية الدولية في إدراجها العراق ضمن أسوأ ست دول في العالم فساداً." (راجع. تداعيات الفساد في العراق وآفاق مكافحته، موقع الواقع العربي، 14/08/2015). راجع الملحق 1. وقد حمَّل رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب الدكتور أحمد الجلبي، الذي مات فجأة ويشار إلى احتمال تدبير موته بعد هذه التصريحات، مسؤولية تداعيات انهيار البنية المالية للبلاد للحكومة السابقة والبنك المركزي ومن وصفها بـ”العصابات” التي تتحكم بسعر السوق، وقال ان "سبب الانهيار الاقتصادي هو فترة الحكم من سنة 2006 الى سنة 2014 حيث دخل العراق مبلغ 551 مليار دولار والحكومة استوردت ما مجموعه 115 مليار دولار والبنك المركزي باع للبنوك الاهلية كمية 312 مليار دولار ، مضيفا ان "هذا المبلغ الذي أهدر (312 مليار دولار) كان بإمكانه بناء الاحتياطي النقدي". كما كشف الجلبي إن "اطرافاً سياسية تضغط على البنك المركزي لزيادة مخصصات البنوك بالمزاد لقاء مبالغ وهناك مذكرات داخل البنك المركزي بأسماء هؤلاء السياسيين من مجلس النواب ومن الحكومة". (راجع: المدى تبدأ بنشر ملف الفساد الذي أعده الجلبي وكان على وشك اعلان وقائعه الكاملة قبل وفاته، 7/11/2015).
وأكد الرئيس السابق لهيئة النزاهة القاضي رحيم العگيلي، وهو المطلع على أوضاع هذه الفترة جيداً، وجود آلاف المشروعات الوهمية والفاشلة التي تقدر قيمتها بنحو 228 مليار دولار، تخصم من ميزانية العراق."، (راجع: المصدر السابق ذاته). كما يشير رئيس هيأة النزاهة الأسبق السيد موسى فرج إلى أن أخطر أنواع الفساد هو "فساد البطانة المحيطة برئيس الوزراء السابق نوري المالكي وحمايته لهم، وقلت يومها في لقاء مع صحيفة الحياة اللندنية: الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي بؤرة الفساد في الحكومة العراقية... وقد إستئذبوا وإستأذب في حمايتهم، ووجدت أن البرلمان مهلل في حينه، وسطوة رئيس الحكومة عليه مكشوفة، وأن رئيس لجنة النزاهة في مجلس النواب الذي بلغها من خلال المحاصصة سيئة الصيت، قد دخل تحت عباءة المالكي في صفقة فاسدة لحماية نفسه وأخيه ومتنفذين من حزبه، كنت ألاحق قضايا سرقة وتهريب النفط المتهمين بها.. من جانب آخر، فإن رئاسة مجلس القضاء كانت منفذة لرغبات رئيس الحكومة وبطانته، في حين أن مواجهة الفساد من خلال هيئة النزاهة لا تستكمل إلا من خلال القضاء..". (راجع: عبد الجبار العتابي، مافيا الفساد في العراق يقودها ساسة وحكوميون كبار، إيلاف، 6/نوفمبر 2014). "ووفقا لمسح أجرته منظمة الشفافية الدولية المعنية بمراقبة الفساد، أقر 56 في المئة ممن جرى مقابلتهم بأنهم دفعوا رشوة في عام 2010. بينما يرى غالبية هؤلاء وتقدر نسبتهم بنحو "63 في المئة" بأن جهود الحكومة العراقية لمكافحة الفساد غير فعالة. ويرى نحو 77 في المئة أن الفساد ازداد منذ عام 2007." (راجع: بي بي سي، بالأرقام: عشر سنوات منذ غزو العراق، 20  مارس/ آذار 2013).
وقبل إزاحة نوري المالكي من رئاسة مجلس الوزراء وأثناء الصراع على المنصب هدد أكثر من مرة بقوله "بحوزتي ملفات سأضعها بيد القضاء لثمان سنوات التي كنت فيها رئيساً للوزراء وسأعلنها امام المحاكم وأجَّر مرتكبيها من سادة ومشايخ وأبناء مراجع ومسؤولين شيعة وسنة الى المحاكم ليأخذوا جزائهم العادل"، وتعهد امام الحضور "انا ابن الشهيد الاول الشهيد الصدر لا اخاف والله معي والأدلة معي بإذن الله تعالى". (راجع: مصادر: المالكي يهدد بكشف ملفات فساد ثمانية اعوام لمسؤولين كبار وابناء مراجع، موقع سومرنيوز، 20 أغســطس، 2015). ولكن نوري المالكي لم يضع أي ملف من الملفات التي بحوزته تحت تصرف القضاء العراقي، كما إن القضاء العراقي لم يجرأ على مطالبته بتلك الملفات ولا محاسبته على عدم تقديمها، لأن إخفاء أي ملف من ملفات الفساد يعتبر مشاركة فعلية في الفساد.
وتشير المعلومات المتوفرة إلى وجود ملفات كثيرة يستوجب فتحها وتقديمها إلى القضاء العراقي والادعاء العام لمواجهة رئيس الوزراء نوري المالكي والأمين العام لمجلس الوزراء سابقاً، المدعو علي العلاق، وهو محافظ البنك المركزي حالياً. وأهم تلك الملفات هي: سقوط الموصل، الفضائيين، البنك المركزي وبيع الدولار والمصارف الخاصة، النفط، التسلح، أجهزة الكشف عن المتفجرات والسلاح، العمليات العسكرية ضد الأنبار والفلوجة عام 2011، مظاهرات 2011 في ساحة التحرير ومناطق أخرى من العراق، الموقف من الهيئات المستقلة، الطائرات العراقية في روسيا، ملف إثارة العداء والاستعداء الطائفي في العراق، احمد نوري المالكي.
وإذ ابتعد نوري المالكي عن مركز المسؤولية الأول، ترك ظله البغيض، علي العلاق، يعمل كما يشاء في البنك المركزي ثم ليعلن دون حياء عن تلف 7 مليار دينار عراقي (بحدود 6 مليار دولار أمريكي) بسبب تسرب مياه الأمطار إلى خزينة البنك المركزي في العام 2013. وقد بدأ مجلس النواب تحقيقاً بهذا الخصوص. والغريب إن علي العلاق لم يكتشف هذا إلا بعد مرور خمس سنوات على الادعاء بتلف هذا المبلغ الكبير. وهنا أذكر القراء بالحكمة القائلة "صدق العاقل بما لا يعقل فأن صدق فلا عقل له". كما إن هذا الرجل أراد أن "يخلد" الفساد السائد في العراق حين وضع اسمه ولم يكتف بتوقيعه على كمية جديدة من الأوراق النقدية تقدر ب 90 مليار دينار عراقي، إذ “أصدر البنك المركزي العراقي طبعات جديدة من النقود، ووضع عليها اسم محافظ البنك علي العلاق، في إجراء غير مسبوق بالعراق". وجاء الخبر يقول بأن علي العلاق يدس اسمه على 90 مليار دولار.. استفزاز العراق بعملته". (موقع الترا)، وكما معروف فمثل هذا الفعل يعتبر مخالفة عالمية. وقد ترأس البنك المركزي منذ تأسيس البنك المركزي 17 محافظاً لم يعمد إلى كتابة اسم أي من هؤلاء المحافظين غير هذا السقيم علي العلاق، ربيب المالكي وحافظ أسراره! وبدأ الشارع العراقي حملة شطب اسم العلاق من الأوراق النقدية نكاية به وتصحيح الخطأ الفاحش! 
 



177
كاظم حبيب
حين تُغيَّب الديمقراطية وتسود الطائفية يسقط القانون: العراق نموذجاً
أشيع في العراق بأن النخبة الحاكمة بكل مكوناتها الراهنة تريد الخلاص من الطائفية السياسية ومن المحاصصة في تشكيل الحكومة العراقية، وأنها تسعى لتشكيل حكومة تكنوقراطية وبناء مجتمع مدني ومحاربة الفساد والإرهاب. هذه الإشاعة التي روّج لها كثيرون، حتى ممن يقف بالضد من الطائفية ومحاصصاتها المذلة للشعب والمواطنة، غابت عنهم مسألة بديهية، ولكنها مهمة وأساسية هي: أن النخب الطائفية والفاسدة المرتبطة بالأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي مارست التمييز الديني والطائفي، وغرقت حتى قمة رأسها مستنقع الفساد المالي والإداري والاجتماعي، ولعبت ميليشياتها الطائفية المسلحة دوراً إرهابياً مريعاً في محافظات العراق ضد المجتمع، وساعدت على خرق استقلال العراق وسيادته للجارة إيران وسمحت بتدخل اكثير من الدول في شؤون العراق الداخلية، وجوعت نسبة عالية جداً من شعب العراق وحرمتهم من أهم الخدمات الأساسية طيلة السنوات المنصرمة، لا يمكن لمثل هذه النخب الحاكمة تشكيل حكومة غير طافية وغير فاسدة أو مستقلة، كما لا يمكنها التخلي عن ميلشياتها الطائفية المسلحة والإرهابية، إذ إنها سند استمرار وجودها وحكمها وبقائها، ولا يمكنها بأي حال من حيث المبدأ والواقع أن تقيم مجتمعاً مدنياً يستند إلى مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة وترفض الدمج بين الدين والدولة، لأن ذك يتناقض مع أيديولوجيتها الدينية المشوهة ومصالحها، بل ستبقى حبيسة دائرتها الضيقة المقيتة والمميتة وأفكارها السقيمة والرجعية والمتخلفة وممارساتها المخلة بكل ما هو إنساني ونبيل.
كانت هذه الإشاعة التي أطلقتها النخبة الحاكمة للتعتيم على نهجها ليست فقط خاطئة، بل وكذبة كبيرة حاول حتى البعض المدني إقناعنا بصوابها. وها نحن وهم والجميع نواجه حقائق الوضع العراقي في تشكيل حكومة من "گرگري" يرأسها "عادلوي"، حكومة بطعم العلقم ورائحة العفونة الطائفية تفوح منها وتزكم أنوف العراق والعالم كله. حتى إن بعض من دعا إلى تشكيلها بدا اليوم يؤكد طائفيتها. رئيس الوزراء المكلف بتشكيلها كان جزءاً من النخبة الحاكمة طيلة الفترة المنصرمة، ولم يكن مستقلاً عنها أو حيادياً في نهجه وسياساته ومواقفه. إن الإشكالية ليست في هذا الوزير أو ذاك فحسب، بل بالأساس في طبيعة النظام السياسي الطائفي القائم في العراق، برئيس الوزراء الطائفي ذاته، وبالقوى السياسية المشكلة للسلطة التنفيذية، فهي قوى صادرت الحريات العامة والديمقراطية من خلال سياساتها اليومية وسلوك قادتها وميليشياتها الطائفية المسلحة طيلة الفترة المنصرمة وماتزال.
يمكن للإنسان العراقي الحر أن يكتب مقالاً في الصحافة وينتقد هذه النخبة أو تلك أو الميليشيات الطائفية المسلحة، ولكنه سيبقى مستهدفاً للانتقام بصيغة ما بما في ذلك القتل عبر تلك الميليشيات الطائفية المسلحة، وحين يعتقل ويعذب، أو حين يقتل لن تكتشف الجهة التي اعتقلته وعذبته، أو الجهة التي قتلته، وستوجه تهمة ضد مجهول ويحفظ الملف ولن يُعثر على الجهة أو القاتل أبداً، لأنها أو لأن القاتل منهم. هكذا قتل في الآونة الأخيرة عدد من النساء والرجال، وقبل ذاك قتل المناضل كامل شياع وهادي المهدي، وقتل ابن اختي (أحمد جواد الهاشمي) وزوجته وابنته ذات الأربعة عشر ربيعاً، حيث ذبحوا في دارهم بمنطقة الطارمية من الوريد إلى الوريد... وحيث اغتيل عشرات بل والمئات من المختصين والعلماء والصحفيين والآلاف من العرقيات والعراقيين، وهكذا ستستمر هذه السياسة في ظل هذه الحكومة المباركة من "القيادة الإيرانية والأمريكية" في آن!
حين تغيب شمس الحرية والديمقراطية ودفئها عن وطننا العراق، يغيب القانون أيضاً ويتم التجاوز عليه ليل نهار، حينها يختفي فعل القضاء، بما فيه الادعاء العام، وهي الحالة المضنية والقاتمة التي يعيش تحت وطأتها شعب العراق منذ ما يقرب من 16 عاماً.
من حقي كمواطن عراقي أن أتساءل: هل القضاء العراقي مستقل؟ هل يتصرف وفق ما يمليه عليه الدستور العراقي؟ وهل يتابع القضاء والادعاء العام ما يجري في العراق منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة حتى الآن، دع عنك الفترة السابقة في ظل الحكم البعثي والصدامي الدكتاتوري البغيض؟ وهل يتصرف القضاة على وفق ضمائرهم، ومنهم الادعاء العام، أم أن الطائفية السياسية والفساد والإرهاب والخشية من الإرهابيين أماتت الكثير من تلك الضمائر؟ وإذا كان القضاء مستقلاً، فلماذا لا يحقق بما صرح به محافظ البنك المركزي بتلف 7 مليار دينار عراقي بماء المطر وفي بناية البنك المركزي؟ قال العرب: حدث العاقل بما لا يعقل فأن صدق فلا عقل له. فهل القضاء العراق صدق هذه الفرية وكذا الادعاء العام؟ قال أحمد الجبوري، عضو مجلس النواب، "أني شراي وأكو من يبيع صوته"، حين أتهم بشراء مجموعة من الأصوات لصالح رئيس مجلس النواب الحالي، فهل لم ينتبه الادعاء العام وعموم القضاء لهذا القول الوقح في تجاوزه على الدستور العراقي والقوانين المرعية، أم لم يجد القضاء في ذلك أي جريمة، بل مسألة اعتيادية في ظل العراق الفاسد؟ حين يغيب القانون يمارس الفاسدون ما يشاؤون، وقيل قديماً: "غاب القط ألعب يا فأر!"
هناك عشرات القضايا التي أهملها القضاء العراقي والادعاء العام، ولاسيما في فترة حكم نوري المالكي، وما حصل من فساد وإرهاب واجتياح، علماً بأن غالبية الشعب العراقي كانت مقتنعةً بأن القضاء في فترة هذا الدكتاتور الصغير غير مستقل وخاضع له ولإرادته وسكوته عن الكثير من التهم التي وجهت له دون أن يحرك ساكناً. من المسؤول عن وقوع الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين والمسيحيين وغيرهم؟ من المسؤول عن اغتصاب أخواتنا الإيزيديات وبيعهن في سوق النخاسة؟ من المسؤول عن ترك الأسلحة والأموال لكي تقع في أيدي عصابات داعش المجرمة؟ من المسؤول عن الدمار الشامل في الموصل وعموم نينوى وعن جريمة سپايكر؟ 
سيبقى الناس يطرحون المزيد من الأسئلة على القضاء العراقي ويطالبون بالإجابة، سيلاحقون القضاء العراقي والادعاء العام ويتهمونه بعدم الاستقلالية والسكوت عما مارسته وماتزال تمارسه النخبة الحاكمة الفاسدة من مفاسد مريعة في العراق، وسيبقى الناس يراقبون ممارسات القضاء وادعاء العام إلى أن تتيح لهم الفرصة لتغييره أو أن يغير نفسه أو ما بنفسه!   
 
 
 


178
كاظم حبيب
توحش السياسات النيولبرالية الترامپية ومخاطر العالم المتفاقمة
القسم الثالث والأخير
ليس ترامپ هو الرئيس الوحيد الذي يمتلك مثل هذه السمات السيئة في العالم، بل هناك الكثير من رؤساء الدول والسياسيين الذين لا يختلفون عنه قيد أنملة ويتجاوزونه في ذلك ويزيدون عليها. إلا إن الفارق الكبير بين ترامپ وهؤلاء الرؤساء يكمن في بعض المسائل المهمة، منها بشكل خاص:
** التزامه الثابت بالإيديولوجية النيولبرالية الأكثر إمعاناً في استغلال المجتمع والأكثر قهراً للفرد والأكثر تطرفاً في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء على المستويين السياسي والاقتصادي وعلى الصعيدين الداخلي والدولي، وفي بقية المجالات الأخرى، وبشكل خاص المجالات العسكرية والبيئية والثقافية.
** وأن ظهور مثل هؤلاء القادة السياسيون الذين يتسمون بالفردية والاستبداد واحتقار فعلي للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان يعتبر نتيجة منطقية لأزمة الديمقراطية التي يمرّ بها المجتمع الأمريكي، والتي تعتبر جزءاً من التناقض المتفاقم بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. ويمكن أن يلاحظ المتتبع هذه الظاهرة في دول الاتحاد الأوروبي أيضاً والتي في تنامي مستمر وخطير.
** كما إن الصلاحيات الكبيرة التي يمنحها دستور الولايات المتحدة الأمريكية للرئيس الأمريكي على المستويين الداخلي والخارجي يمكن أن تقود إلى إساءة في استخدامها وإلى تفريخ مشكلات جديدة وكبيرة.
** ولأن ترامپ يقف على رأس أقوى دولة عسكرياً وأغنى دولة اقتصادياً، ويلعب دور القائد الفعلي للعالم الرأسمالي الأكثر تقدماً، ويقود ويشرف ويمول أقوى وأوسع حلف عسكري هو حلف الشمال الأطلسي، تبدو الصورة أكثر قتامة وخطراً.
** كما يمسك ترامپ بيديه مفتاح الحقيبة النووية الأمريكية، وله الحق في إرسال قوات عسكرية إلى مناطق مختلفة ولمدة ثلاثين يوماً دون موافقة الكونغرس، على أن يعرض فيما بعد لاستحصال الموافقة.
** إضافة إلى اعتبار ترامپ الدولة التي لا تقف مع أمريكا عدوة لها، فأن من لا يقف إلى جانبه ويؤيده فهو عدو له، سواء أكان من السياسيين المحليين، أم على الصعيد الدولي، وعلى وفق معاييره المشوهة لمفهوم الصداقة.
** ومن الصعوبة بمكان أن تقدر ما يمكن أن يقوم به ترامپ كرد فعل عن سياسة أو موقف محدد على الصعيدين الداخلي والخارجي، فهو شخصية غير محسوبة الإجراءات والعواقب، شخصية فردية معقدة ومتداخلة وجشعة. 
من هنا تبرز مخاطر السياسات الرأسمالية النيولبرالية المتوحشة والأكثر عدوانية التي بدأ بتنفيذها ترامپ منذ توليه إدارة البيت الأبيض وسيستمر بها خلال السنتين القادمتين، وربما لولاية ثانية، والتي تتناغم مع طبيعته وسماته الشخصية. لم يكن اختيار الحزب الجمهوري لترامپ من بين عدد من المرشحين السياسيين الجمهوريين البارزين عبثياً، بل لمعرفتهم بطبيعته وسلوكياته، ولكونه يمتلك القدرة على تنفيذ ما يسعون إلى تحقيقه. إذ لم تكن الوعود التي أطلقها دونالد ترامپ أثناء حملته الانتخابية جزافاً، بل كانت نابعة من الرؤية التي استقرت في أذهان الجماعات الأكثر تطرفاً والأكثر شراسة في الحزب الجمهوري وفي المجتمع الأمريكي لتطبيق اللبرالية الجديدة لا على صعيد السياسات الاقتصادية والاجتماعية والموقف من الأجانب واللجوء وفي مجمل السياسات الداخلية فحسب، بل على الصعيد العالمي، ولاسيما على صعيدي العلاقات الاقتصادية والعسكرية والبيئة. وقد وجد هذا تعبيره في الموقف من البطالة الواسعة والتشغيل والسياسة الجمركية والسياسة الضريبية ومن قانون الرعاية الصحية، وتنشيط قوى اليمين المحافظ والمتطرف، حيث تلتقي فيه قوى البيض العنصرية والقوى المناهضة للسامية والمعادية للأجانب، وضد اللجوء بمختلف أشكاله، وبناء السور مع المكسيك، وقانون الجنسية، والإصرار على حق اقتناء السلاح لكل مواطن ومواطنة في أمريكا وحمله...الخ، في الداخل، أما نحو الخارج فقد برز في الدعوة للخروج من الاتفاقية النووية مع إيران، وتشديد الصراع ضد كوريا الشمالية، والتدخل العسكري المباشر في سوريا وفي اليمن، وتأييد مطلق وغير مقيد لإسرائيل ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس ورفض وجود دولتين على الأرض الفلسطينية السابقة عملياً فيما يطلق عليه بـ "صفقة القرن"، وكذلك التدخل الفظ في شؤون أمريكا الجنوبية، ولاسيما فنزويلا، وتأييد القوى اليمينية الأكثر تطرفاً في البرازيل، والعودة إلى مقاطعة كوبا، وتشديد العمل بالعقوبات الاقتصادية وتوسيع دائرة ممارستها، ضد إيران وروسيا، إضافة إلى البدء بدعم التوظيفات الجديدة في الإنتاج العسكري التقليدي والحديث وتطوير أجيال جديدة منها والدفع باتجاه سباق التسلح على صعيد الدول الكبرى والعالم من خلال تشديد التوترات والصراع والاستفزاز، بما يمكن أن يقود إلى خلق بؤر لمشكلات مستعصية ومصاعب مالية لكل من روسيا والصين على نحو خاص، إضافة إلى محاولة بناء قواعد عسكرية في الدول المجاورة لروسيا، ولاسيما دول البلطيق واكرانيا وغيرها، وإجراء المناورات العسكرية الواسعة مع دول حلف الأطلسي على الحدود الروسية. هذا النهج الموغل بالتشدد والعدوانية المباشرة والصريحة من جانب القوى المساندة والداعمة لدونالد ترامپ اقترنت بشعور كاسح لدى هذه القوى بأن الولايات المتحدة قد فقدت قدرتها على قيادة العالم وعلى الدفاع عن مصالحها وأنها لم تعد البعبع الذي كان يرعب شعوب العالم، وأن الولايات المتحدة تقدم الكثير من الأموال وتبني الكثير من القواعد العسكرية وتنشر الكثير من الجنود والأسلحة في العالم دفاعاً عن العالم الرأسمالي، في حين لا تشارك الدول الأخرى، ولاسيما دول الاتحاد الأوروبي وخاصة المانيا وفرنسا، بما ينبغي عليهما من زيادة الأموال المخصصة للتسلح ودعم قوات حلف الأطلسي، وأن الصين وروسيا بدأتا بلعب دور أكبر في السياسة والاقتصاد في العالم لا بد من إيقافهما.
كل هذه الأفكار دأب ترامپ على نشرها أثناء حملته الانتخابية. وما أن تسلم إدارة البيت الأبيض حتى بدأ بتطبيق ما وعد به فعلياً، وحقق بعض المكاسب، كما في موضوع تقليص البطالة وزيادة التشغيل، مما رفع من رصيده لدى مسانديه وداعمي سياساته، ولكنه حصد من جانب آخر رفض قوى مجتمعية جديدة ضده، ولاسيما في صفوف النساء، بسبب مواقفه وفضائحه النسائية وتصريحاته المخلة. لقد أدت سياسات ترامپ إلى بروز شرخ أكبر وأوسع من السابق في المجتمع الأمريكي، إلى جانب شروخ أخرى، مثل تفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبين السود والبيض، وبين من هم من أصل أوروبي ومن هم من أصل اسيوي. وهي التي قادت إلى خسارة الحزب الجمهوري للأكثرية في مجلس النواب، رغم تحسن مواقعه في مجلس الشيوخ في الانتخابات النصفية الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2018. وتشير استطلاعات الرأي إلى انخفاض شعبية ترامپ إلى نسبة تتراوح بين 40-43%، ولكنه لا يزال يحتفظ بتأييد واسع لدى من صوت له.   
إن المخاطر الكبيرة المتزايدة على الأمن والسلام في العالم في فترة رئاسة ترامپ للبيت الأبيض تأتي من النواحي التالية:
أولاً: البدء بإلغاء الاتفاقية المعقودة مع (الاتحاد السوفييتي سابقاً) روسيا في مجال الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى من جانب الولايات المتحدة، بدعوى عدم التزام روسيا ببنود هذه الاتفاقية. ثم خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية للدول الخمس + واحد مع إيران.
ثانياً: إن هذا الموقف من جانب الولايات المتحدة يقود إلى تصعيد غير مسبوق لسباق التسلح، لا بين روسيا والولايات المتحدة فحسب، بل وعلى الصعيد العالمي وفي منطقة الشرق الأوسط.
ثالثاً: إن منطقة الشرق الأوسط المليئة بمشاكل قديمة وجديدة متراكمة يمكن أن تتفجر فيها حروب إقليمية جديدة لعدة أسباب:
أ‌.   الموقف المتشدد من قبل إسرائيل والولايات المتحدة إزاء إيران في موضوع الاتفاقية النووية والصواريخ التي تقوم إيران بتطويرها وإنتاجها باستمرار. كما إن فرض العقوبات الاقتصادية والمالية القاسية جداً على إيران سيزيد من التوتر في المنطقة، رغم إنه لن يلحق ضرراً بالفئات الحاكمة، بل سيكون الشعب الإيراني ضحية هذه المقاطعة. 
ب‌.   التدخل الإيراني المستمر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة باتجاه تصدير الثورة "الإسلامية" "الشيعية" الإيرانية إلى دول منطقة الشرق الأوسط والعواقب الوخيمة الناجمة عن هذه السياسة المجنونة وتصادمها المصلحي مع مصالح تركيا والسعودية ودول الخليج الأخرى. ولا شك في أن العراق واحد من الدول التي تعاني من سياسة التدخل الإيراني الفظ والواسع في الشأن العراقي، على سبيل المثال لا الحصر.
ت‌.   النهج السياسي العسكري السعودي الجديد ليس في التصدي لإيران فحسب، بل وفي محاولتها الهيمنة على سياسة الدول العربية، بما لديها من أموال وما تجده من تأييد أمريكي-إسرائيلي، وما تقتنيه من أسلحة ليست دفاعية فقط، بل وهجومية ايضاً، كما يلاحظ استخدام ذلك في الحرب في اليمن.     
ث‌.   الوضع المتوتر دوماً بسبب رغبة إسرائيل الجامحة باتجاهين هما: رفض عملي لقيام دولة فلسطين والعمل على تآكلها التدريجي، والتوسع في بناء المستوطنات الصهيونية الجديدة في الضفة الغربية، مما يشدد من التوتر والصراع، بما يقود إلى معارك جديدة، لاسيما وأن دونالد ترامپ هو الأكثر تأييداً لإسرائيل في سياستها التوسعية في القدس والضفة الغربية.       
ج‌.   استمرار الولايات المتحدة الأمريكية ببيع المزيد من الأسلحة التقليدية المتطورة إلى دول منطقة الشرق الأوسط، مما دفع ويدفع الدول الأخرى المنتجة للأسلحة ببيع المزيد من الأسلحة إلى دول في المنطقة، كما هو الحال مع روسيا وبريطانيا وفرنسا، والتي تخلق أجواء متوترة قابلة للاشتعال في كل لحظة وفي كل زاوية من منطقة الشرق الأوسط، كما هو الحال في اليمن وسوريا، أو حتى العراق وغزة. إضافة إلى العواقب الوخيمة لمثل هذه السياسة على التنمية الاقتصادية وعلى مستوى معيشة الغالبية العظمة من السكان ومن الخدمات المقمة لها.
رابعاً: إن السياسة التي تمارسها الولايات المتحدة حالياً إزاء الكثير من الدول، ولاسيما إزاء روسيا والصين، بدأت بتنشيط الحرب الباردة مجدداً وستقود إلى تنشيط تشكيل الأحلاف العسكرية والتكتلات الاقتصادية في غير صالح شعوب العالم.
خامساً: كما أن سياسة الولايات المتحدة في مجال البيئة وخروجها من اتفاقية باريس للتغير المناخي والعواقب الوخيمة لهذه النهج الخطير الذي يقود إلى المزيد من التلوث وتدهور البيئة والمناخ في العالم، وما يصاحب ذلك من مشكلات جديدة بما فيها نزوح المزيد من البشر من مناطق سكناهم، والمزيد من الأمراض والأوبئة والكوارث الطبيعية، وما يقترن بكل ذلك من عواقب وخيمة على البشر والعلاقات بين الدول.
سادساً: ورغم ادعاء ترامپ بكونه ضد العولمة الجارية، فأن العولمة الرأسمالية الجارية هي عملية موضوعية مرتبطة بمستوى تطور الاقتصاد الدولي والتشابكات الجارية فيه وتطور العلوم والتقنيات، فأنه يعمل من أجل أن تكون الولايات المتحدة هي المستفيدة هي المستفيدة الأولى اساساً من العولمة الرأسمالية في ظل النهج النيولبرالي المتشدد، والذي تجلى في إجراءات ترامپ في مجال السياسة الجمركية والمالية والعقوبات الاقتصادية، مما سيقود إلى صراع لا بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى فحسب، بل وبين الولايات المتحدة وبين ودول الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا وغيرها من الدول الرأسمالية المتقدمة والحليفة لأمريكا. وفي هذا عواقب كثيرة مخلة على الاقتصاد العالمي وعلى حياة ومعيشة شعوب كثيرة ولاسيما شعوب الدول النامية.
نحن أمام سياسات تكتيكية جديدة لولايات المتحدة ذات نهج نيولبرالي متوحش بكل معنى الكلمة وجامح يقود إلى تعميق الانقسام في العالم بين الدول الغنية والفقيرة، بين الدول المتقدمة والمتخلفة اقتصادياً، وكذلك في كل بلد من هذه البلدان. وتقدم الكثير من الدراسات الراهنة لوحة قاتمة عن الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء في العالم وعلى صعيد كل دولة من الدول الرأسمالية المتقدمة وعدد أصحاب المليارديرات من جهة، ونسبة الفقراء المتسعة في هذه الدول وعلى الصعيد العالمي. إنها كارثة حقيقية حين نعلم، على وفق تقرير لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، بـ "أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء تستمر في الاتساع. وفي دول المنظمة الأعضاء، البالغ عددها 34، يحصل أغنى عشرة في المئة من السكان على 9.6 أضعاف ما يحصل عليه أفقر عشرة في المئة." (راجع: أنتوني روبن رئيس قسم الإحصاء في بي بي سي، فجوة بين الأغنياء والفقراء تستمر في الاتساع، 5 أيار/مايو 2015). كما إن حالة ألمانيا هي الأخرى تشير إلى مخاطر من هذا النوع "فقد حذَّرَت جمعيات اجتماعية كثيرة من عواقب عدم معالجة تفاقم الفقر والعوز، فنسبته ارتفعت عام 2015 إلى 15.7 في المائة (أي 13.4 مليون شخص، من إجمالي 82 مليون نسمة، عدد سكان ألمانيا) وعلى كل واحد من خمسة اليوم (أي 16.1 مليون) أن يقلق لأن الفقر يهدده لأسباب كثيرة، منها التسريح من العمل.  وتعريف الفقر في ألمانيا هو أن يكون دخل الشخص أقل من 11.53 يورو يومياً، مع العلم أنه طرأ في السنوات الثلاثة الماضية ارتفاع على أسعار المواد الغذائية الأساسية والكهرباء والماء والمواصلات وبدل الإيجارات بنسب متفاوتة." (راجع: عدالة سلامة، الفقر والغنى ينموان في ألمانيا، الشرق الأوسط، 18 مارس 2017). علماً بأن التقارير الأخيرة تشير إلى أن النسبة ارتفعت إلى 17% ممن يتهددهم الفقر في المانيا. أما كيوساكي فيشير "إلى أنه في الولايات المتحدة على سبيل المثال وخلال الأعوام الأخيرة واصلت ثروة الـ5% الأغنى النمو بينما انخفضت القيمة الحقيقية لمدخرات واستثمارات بقية الأمريكيين." (راجع: روبرت كيوساكي، لماذا يزداد الأغنياء غنى والفقراء فقرًا؟ وما هو الحل؟، موقع أرقام، 23/03/2018). إن المشكلة ليست في واقع تنامي عدد الفقراء من جهة وتزايد ثروة الأغنياء من جهة أخرى في العالم فحسب، بل في طبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة ومستوى تطور القوى المنتجة الذي يقود إلى المزيد من التفاوت والصراع في كل من هذه المجتمعات على حدا وعلى الصعيد العالمي.
13/11/2018



179
كاظم حبيب
توحش السياسات النيولبرالية الترامپية ومخاطر العالم المتفاقمة
القسم الثاني
العوامل الكامنة وراء سياسات ترامپ الجديدة

تسلم أوباما إدارة البيت الأبيض في العام 2009 من جورج دبلو بوش، الذي اعتقد بخرافات تسبب أذى كبيراً للبشرية والحياة الدولية وحفزته على التدخل الفظ والمستمر في شؤون الشعوب والدول الأخرى وشجعته على العدوان، فكلفت المزيد من الأموال والجهود والموت والخراب، كما نشطت سباق التسلح على الصعيد العالمي. وقد برز ذلك في إيمانه بمسائل لا تمت إلى العقل والمنطق بصلة، ولاسيما: 1) إيمانه الشديد بأن له رسالة سماوية لا بد له أن يؤديها على الصعيد العالمي وملزم بها، 2) وأن من واجبه العمل على إلزام الشعوب والدول الأخرى الأخذ بالرسالة التي يحملها، رسالة الحرية والديمقراطية على الطريقة الأمريكية، 3) وأن من يقف ضد هذه السياسات ومصالح الولايات المتحدة ونفوذها هو عدو لدود للولايات المتحدة يجب مواجهته وكسر شوكته، وإن من يساندها هو صديق لها، 4) وأن على الولايات المتحدة دعم إسرائيل بكل السبل والإمكانيات، إضافة إلى المبادرة في البحث عن "يأجوج ويأماجوج" في العراق والوراد ذكرهما في التوراة والإنجيل لصالح الدفاع عن دولة إسرائيل حليفة أمريكا الأولى في الشرق الأوسط التي تتهددها هذه الجيوش، 5) وإن الحرب ضد العراق هو الطريق الضامن للتخلص من "يألجوج يأماجوج". (قارن: جون كلود موريس، لو كررت ذلك على مسمعي فلن أصدقه، عن منشورات: بلون الفرنسية، 2009/2010). بـمثل هذا الرجل المهووس بالخرافات والدين والحرب وإسرائيل قد ابتلي شعب العراق، واصبح ضحية حربه وعدوانه. لا شك، في أن سياسات جورج دبليو بوش الداخلية والخارجية والاقتصادية ودور الشركات العقارية والاحتكارية الأمريكية والدولية وحروبه في أفغانستان والعراق، قد تسببت كلها في تفجير الأزمة المالية العميقة والشاملة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 2007 وتواصلت 2008 مباشرة، تلك الأزمة الاقتصادية الحادة التي تفاقمت بسرعة لتشمل أوروبا وكل العالم الرأسمالي، بما فيه الجزء المتخلف منه ومحيطه التابع، في الدول النامية. وتعتبر هذه الأزمة المالية، وهي في الجوهر، أزمة اقتصادية، إذ عبرت بوضوح عن وجود أزمة بنيوية تشمل النظام الرأسمالي العالمي كله، وهي من أسوأ الأزمات التي أصيب بها الاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ أزمة الكساد العام في العالم عام 1929.
لقد واجه الاقتصاد الأمريكي مصاعب جمة ومصائب هائلة جراء هذه الأزمة، ولكن تسنى للحكومة الأمريكية، الممثلة الشرعية للاحتكارات الرأسمالية الكبرى أن تلقي بكامل عبئ الأزمة وثقلها وعواقبها المدمرة على كاهل: أ- أولئك الذين كانوا ضحية مباشرة للأزمة المالية والعقارية والذين خسروا دورهم التي اشتروها بالقروض الأمريكية الميسرة من البنوك العقارية وغيرها، إضافة إلى أغلب جماهير الشعب الأمريكي، والذين لم يعودوا قادرين على تسديد القروض وفوائدها ، مما أجبروا على خسارتها الفعلية. ونتيجة ذلك ألقى بمئات الآلاف من العمال والمستخدمين وصغار المنتجين على قارعة الطريق عاطلين عن العمل ومفلسين وبائسين حقاً، وب- دافعي الضرائب، حيث قامت الدولة الأمريكية بدفع مبالغ طائلة حقاً كمنح أو تعويض عن الخسائر التي تحملتها البنوك نتيجة سياساتها ومضارباتها في سوق العقار لإنهاضها ثانية، رغم إن أصحاب البنوك والرأسماليين العقاريين والشركات العقارية وغيرها كانت هي الرابح الأول والأخير والوحيد من تلك الأزمة البشعة، وكان الشعب وخزينة الدولة هما الخاسران. وهكذا فعلت دول الاتحاد الأوروبي حيث تحمل دافعو الضرائب المليارات من اليورو من خزينة الدولة، كما تحمل الفقراء والمنتجين والكادحين والفئات الصغيرة والمتوسطة خسائر مالية فادحة ومواقع عملهم وأعلن الكثير جداً منهم إفلاسه. لقد حققت هذه الأزمة أرباحاً طائلة وخيالية لكبار الرأسماليين وأصحاب البنوك والشركات العقارية والمضاربين بالعقار والأوراق المالية وغيرها، وكانت على حساب الاقتصاد الوطني والمجتمع ولاسيما المنتجين والفقراء منه. وكان هذا متوقعاً ومحسوباً من الأساس.
غادر بوش البيت الأبيض في العام 2009 والمجتمع الأمريكي واقتصاده يعانيان من مصاعب جمة، وأوضاع سياسية معقدة على الصعيدين الداخلي والدولي. وفي العام نفسه تسلم باراك أوباما الإدارة في الولايات المتحدة. وتشير المعطيات المتوفرة إلى بعض الأرقام المهمة ذات التأثير المباشر على المشكلات التي واجهت باراك أوباما أثناء فترة حكمه بين 2009-2016: 
-   بلغت البطالة في العام 2009/2010 نسبة قدرها 10%، والتي اقترنت بأزمة 2008. 
- وفي العام 2010 بلغت الأرقام الفعلية لإجمالي الدين العام الأمريكي 13.528على وفق الإحصاء الرسمي الأمريكي خلال الفترة 2008-2017 على النحو التالي:




لم تكن الديون وحدها مرهقة للاقتصاد والمجتمع الأمريكي فحسب بل كذلك الفوائد المترتبة عليها وتراكمها المستمر من سنة إلى أخرى كما هو وارد في الجدول أعلاه.
ونتيجة لكل هذه الديون وتراكم الفوائد ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج الإجمالي الأمريكي في العامين 2016 و2017 على النحو التالي: 81,5% و82,3%. (. (Factbook, CIA, gover. USA, Economy, 2018  ويقدر أن ترتفع هذه النسبة في العام 2018 الجارية. (المصدر السابق نفسه). واحتسب ما يصيب الفرد الأمريكي الواحد من الدين العام 60,340 دولار أمريكي في العام 2015، وهو في زيادة مستمرة وأعباء مرهقة للأجيال القادمة. وكانت الإدارة الأمريكية وما تزال مستعدة على طبع المزيد من النقود الورقية وضخها للأسواق لتجاوز مصاعبها وحاجاتها الملحة.
- وتشير الأرقام الرسمية إلى ارتفاع العجز في الميزان التجاري الأمريكية بين صادراتها واستيراداتها. فوفق الأرقام المتوفرة عن صادرات عامي 2016 و2017 بلغا 1.456 و1.576 تريليون دولار أمريكي، قفي حين بلغ حجم الاستيراد للسنتين المذكورتين على التوالي: 2.208 و2.352 تريليون دولار أمريكي، وازداد العجز من 752 مليار دولار إلى 776 مليار دولار أمريكي. (المصدر السابق نفسه).   
- تراجعت الوظائف الشاغرة من 6090.00 إلى 5562.00 خلال الشهرين الماضيين، وقد تراجعت أيضا الرواتب خارج القطاع الزراعي من 167 ألف دولار إلى 156 ألف دولار خلال نفس الفترة. (مجلة مناي).
¬- وخلال فترة حكم أوباما انخفضت نسبة البطالة من 10% في الفترة ذاتها إلى 4,9%، ولكنها بدأت بالارتفاع ثانية إلى 5,1% في العام 2016. 
- ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الميزانية الحربية للولايات المتحدة الأمريكية أخذة بالتزايد سنة بعد أخرى، وهي الأعلى في العالم حيث بلغت في الأعوام الثلاث التالية كما يلي: 2015: 596 مليار دولار أمريكي (3,9% من الناتج المحلي الإجمالي، 2016: 597,5 مليار دولار (3,3) من إجمالي الناتج المحلي، 2017: 610 مليار دولار أمريكي (قارن: الموسوعة الحرة، قائمة الدول حسب الإفاق العسكري، في 11/11/2018، وانظر: الإنفاق العسكري حول العالم.. أمريكا الأولى والسعودية الثالثة، بالعربي CNN في 11/11/2018).
ورغم ذلك فقد تحقق واحداً من أبرز المكاسب التي تمس الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي في مجال الرعاية الصحية، إذ صدر القانون، الذي يعتبر تخفيفاً فعلياً عن الملايين من الفقراء والمعوزين والمنتجين الأمريكيين، والذي لاقى معارضة شديدة من جانب اللبراليين الجدد والمحافظين المتشددين في الحزب الجمهوري. ولا شك في أن هذا القانون يكلف الدولة مبالغ طائلة ويقلل بحدود ضئيلة من أرباح الرأسماليين الذين هيمنوا على حقل الرعاية الصحية.   
هكذا كان الوضع الاقتصادي الداخلي للولايات المتحدة الأمريكية قبل انتقال إدارة البيت الأبيض إلى دونالد ترامپ. أما على الصعيد الدولي فقد جرت خلال الأعوام المنصرمة تغيرات كبيرة في الساحة السياسية والاقتصادية الدولية، ولاسيما بدء فقدان الولايات المتحدة لقطبيتها الدولية الواحدة، حيث تشاركها اليوم، بهذا القدر أو ذاك، الصين وروسيا، كما بدأت أوروبا تتخذ مواقف أخرى تختلف في جوانب مهمة منها عن السياسة الأمريكية. ورغم التشنج والتوتر المستمرين في الشرق الأوسط، فأن الاتفاقية النووية مع إيران جعل المنطقة أكثر أمناً وأقل خطراً على السلام، ولكن بقيت الحروب مستمرة في اليمن وسوريا والعراق ضد داعش. كما بدأ الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا يتخذ منحى أكثر شدة ولاسيما في عدة مسائل مهمة:
1.   محاولة الولايات المتحدة الاقتراب أكثر فأكثر بقوات حلف الأطلسي من الحدود الروسية ولاسيما في الجمهوريات السوفييتية السابقة ومحاولة تطويقها عسكرياً وسياساً، مما أغاظ الروس كثيراً وتسبب في قيام روسيا باستعادة جزيرة القرم الروسية، التي كانت قد سجلت باسم اكرانيا في العام 1964 من قبل نيكيتا خروتشوف باعتبار الأخيرة جزءاً من اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، بحملة عسكرية وفصلها عن أكرانياـ والتي أغاظت بدورها الغرب كله. ولا بد من الإشارة إلى إن الاتفاق الذي تم بين الدولة السوفييتية قبل انهارها التام والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بأن الحلف الأطلسي لا يقترب بقواته العسكرية أو قواعده من الدول المحادة للاتحاد السوفييتي، والذي جرى تجاوزه من جانب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية.
2.   اتهام الروس التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما في الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها دونالد ترامب ضد هيلاري كلنتون.
3.   دعم الروس لإيران وسوريا في الحرب ضد الإرهاب وضد التدخل العربي-التركي القطري والخليجي عموماً في الشأن السوري.
4.   مد خط الغاز من روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي الذي يزعج الولايات المتحدة الأمريكية.
5.   تطور العلاقات السياسية والعسكرية التنسيقية بين روسيا والصين الشعبية.
6.   المنافسة الاقتصادية، رغم المصاعب الروسية، للاقتصاد الأمريكي في مناطق معينة من العالم ولاسيما في مجال الطاقة.
7.   اتهام الروس بأنها تخل باتفاقية الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى وغيرها من الاتفاقيات التي عقدت في الثمانينات من القرن الماضي.   
ورغم التوتر النسبي بين البلدين في عهد أوباما، فقد استمر العمل بالاتفاقيات العسكرية الكبرى وفي أطار التشاور وعقد اللقاءات لتجاوز حصول سباق تسلح نووي، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب الدولي، إضافة إلى استمرار التعاون الاقتصادي بينهما. وقد بدا العالم أكثر هدوءاً في فترة حكم أوباما رغم الحروب الإقليمية والتوترات المستمرة في الشرق الأوسط أو في دول أفريقية أو في أمريكا الجنوبية.
إلا أن الصراع بين القوى الداخلية في الولايات المتحدة، ولاسيما بين الحزبين اللذين يتداولان الحكم وبين القوى الأكثر تشدداً وتطرفاً في الحزب الجمهوري وفي القوى الرأسمالية الأكثر رغبة في تشديد الاستغلال والهيمنة العالمية حتى على دول الاتحاد الأوروبي، وبين المعتدلين نسبياً من الحزب الديمقراطي وقوى اجتماعية أخرى ضد التطرف في تطبيق سياسات اللبرالية الجديدة المعمقة للتفاوتات الطبقية والصراعات الاجتماعية والسياسية، قد احتدم قبل وأثناء الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي فاز فيها دونالد ترامپ على منافسته الديمقراطية هيلاري كلنتون، والتي أشيع إلى وجود تلاعب في الانتخابات وتدخل روسي لصالح ترامپ، والذي شدد من التوتر والانقسام الداخلي الأمريكي.
لقد عمد دونالد ترامپ، منذ أول تسلمه للإدارة في البيت الأبيض، إلى ممارسة سياسات تميزت بعدة سمات لم يكن بعضها غائباً عن السياسيين والسياسات الأمريكية، ولكنها اتخذت أبعاداً جديدة وخطيرة:
1.   الغاية تبرر الواسطة وأيا كان الثمن.
2.   الديماغوجية العالية جداً وما يمكن أن يطلق عليه بالشعبوية المبتذلة، والتي تذكر الإنسان بدعايات الثلاثينيات من القرن الماضي في ألمانيا أو في فترة جورج دبليو بوش بشأن العراق وتبريراته للحرب.
3.   الكذب جهاراً نهارا دون حياء، على قاعدة "افتروا ثم افتروا ثم افتروا لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس".
4.   العداء المباشر للصحافة والإعلام واتهامها جميعاً بالتزوير والنفاق والكذب.
5.   الاستخدام المباشر والفعال للتقنيات الأكثر حداثة في العلاقة مع المؤيدين والمتعاونين.
6.   طرح شعار "أمريكا أولاً"، ولكن في الحقيقة برز بجواره شعار "مصالح ترامپ" في المقدمة، لأن الشعار الأول كان دوماً في صدارة عمل الرؤساء في أمريكا وأن لم يعلنوا عنه صراحة.
انتهى القسم الثاني ويليه القسم الثالث والأخير

180
كاظم حبيب

توحش السياسات النيولبرالية الترامپية ومخاطر العالم المتفاقمة
القسم الأول
لا تختلف استراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الجوهر منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي حتى الوقت الحاضر، رغم التنقل بين تكتيكات كثيرة ومتنوعة من جهة، ورغم تبادل قيادة الحكم بين الحزبين الحاكمين، الديمقراطي والجمهوري، ورغم انتقال الرئاسة من رئيس لهذا الحزب أو ذاك من جهة ثانية. فالاستراتيجية المعهودة كانت وستبقى حماية وتعزيز النفوذ والمصالح الأمريكية في جميع أرجاء العالم أولاً، ولو جاء ذلك على حساب الاقتصاد العالمي، أو حلفاء أمريكا الأوربيين وغيرهم، إضافة إلى الهيمنة الفعلية على السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية والثقافة في العالم ثانياً، والسيطرة على أهم منابع المواد الأولية ذات الطبيعة الاستراتيجية في السياسة والاقتصاد، ولاسيما النفط والغاز الطبيعي ثالثاً، ومحاربة أي شكل من اشكال النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرافضة للرأسمالية، أو نمط الحياة والثقافة و"الديمقراطية الأمريكية!" بكل السبل التي تتوفر لديها رابعاً، والسعي إلى فرض مصالحها في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، رغم وجود امتلاك حق استخدام الفيتو ضد محاولات الولايات المتحدة من جانب الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن الدولي.
أما الاختلاف في الممارسة فيكمن في عدد آخر من المسائل المهمة أيضاً، رغم إنها تقع في خانة التكتيكات السياسية اليومية والطويلة الأمد، التي ربما تستمر لأكثر من دورة رئاسية في البيت الأبيض. وقد برهنت تجارب أكثر من 70 سنة المنصرمة على صواب هذا الاستنتاج بصدد سياسات الولايات المتحدة في الاستراتيج والتكتيك على الصعيد الدولي. ويمكن ان نمرَّ على أبرزها فيما يلي: 
1.   التغيرات الملموسة في نعومة أو قساوة أساليب المواجهة مع الدول الأخرى المعارضة أو المناهضة.
2.   استخدام أساليب جامحة ومدمرة من جانب وكالة المخابرات المركزية في تنظيم الانقلابات الناعمة أو العسكرية، وبالتنسيق مع القوى المحلية المدنية منها والعسكرية.
3.   استخدام المعونات العسكرية والمالية والغذائية مباشرة، أو من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، للوصول إلى أهدافها السياسية والاقتصادية إزاء هذه الدولة أو تلك، إضافة إلى الإفادة الكبيرة من منظمة التجارة الدولية الحرة ودور الدولار الأمريكي في التعامل الاقتصادي الدولي، ولاسيما التجاري.
4.   تشكيل الأحلاف العسكرية مع الدول الأخرى في القارات المختلفة، إضافة إلى إقامة القواعد العسكرية في دول كثيرة في القارات كافة. فقد بلغ عددها وحجمها على النحو التالي في العام 2009: لقد ".. نشر الجيش الأمريكي تقريرا عن قواعده العسكرية، أشار فيه إلى وجود ما بين 600 إلى 900 موقع على أراضي أجنبية. هذا التقرير الذي يعود إلى عام 2009، والمتاح على موقع وزارة الدفاع يدرج 716 موقع عسكري في الخارج، 13 منها مصنفة "كبيرة" و19 مصنفة "متوسطة". وتشمل القائمة الكاملة مئات من المواقع الصغير عددها 620. بالأرقام." (أنظر: موقع اليوم السابع، القواعد العسكرية لجيشي أمريكا وروسيا فى الخارج. الإثنين، 04 يونيو 2018 ). وجاء في تقرير آخر للسيد الفريد ميللر بهذا الصدد ما يلي: " يبلغ عدد القواعد العسكرية الأمريكية 1000 قاعدة في جميع أنحاء العالم.  أما روسيا فلديها 20 قاعدة.".  (البريشت ميللر، المسؤول عن النشر:  Albrecht Müller، موقع صفحات للتفكير، باللغة الألمانية بتاريخ 14 شباط/فبراير 2017).
5.   تشديد سباق التسلح على الصعيد العالمي على مستوى تحديث وتطوير الأسلحة التقليدية أو الأسلحة النووية أو الصواريخ العابرة للقارات وغيرها، إضافة إلى تنشيط بيع السلاح وسباق التسلح في الدول النامية في القارات الثلاث وأوروبا، وتنشيط نزاعات الشعورة بالقوة وروح المغامرة في حل المشكلات الإقليمية التي تقود إلى حروب مدمرة لشعوبها واقتصاداتها.
6.   اتخاذ شعار محاربة الشيوعية واجهة لمحاربة كل ما هو ديمقراطي وتقدمي في العالم، والمساعدة على ترسيخ كل ما هو استغلالي ورجعي ومحافظ في العالم، وتشكيل تحالفات سياسية مع قوى إسلامية سياسية متطرفة ومن ديانات أخرى لمكافحة الشيوعية.
7.   وقد نجم عن ذلك ما أطلق عليه بالحرب الباردة التي تجنبت الحرب الساخنة، كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكنها تسببت في حروب إقليمية كثيرة جداً أدت إلى خسائر هائلة في الأرواح والاقتصادات والتخلف وزيادة التلوث وتدهور البيئة، ولاسيما في الدول المتحاربة والمتجاورة ولأسباب كثيرة. وكان التأثير السلبي لكل ذلك كبيراً على شعوب الدول النامية، إذ إنها أصبحت جزءاً من الحرب الباردة وتوزعت على المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي، وعانت الأمرين من جراء ذلك، وآثارها لا تزال سارية حتى الآن. 
هذه السياسات الاستعمارية الاستغلالية والعدوانية وغيرها حققت للولايات المتحدة والدول الرأسمالية المتقدمة الأعضاء في حلف الأطلسي الكثير من المكاسب على حساب مجموعتين من الدول هما الدول الاشتراكية التي انهارت تحت ثقل سياساته وأوضاعها الداخلية غير السليمة والمتعددة الأوجه من جهة، وتحت ضغط الخارج، ولاسيما سباق التسلح على الصعيد العالمي من جهة ثانية، كما عانت منها شعوب الدول النامية جميعها، ولاسيما الأكثر فقراً وتخلفاً في العالم.
هذه السياسات جلبت للدولة الأمريكية كراهية شديدة من جانب غالبية شعب الدول النامية، ولكنها جلبت في الوقت ذاته تعاوناً أوثق وأكثر عدوانية مع حكومات أغلب الدول النامية، ولاسيما ف منطقة الشرق الأوسط التي حمت النظم الرجعية ومونتها وساعدتها في مواجهة شعوبها.   
منذ ثمانينيات القرن العشرين بدأت في العالم الرأسمالي المتقدم ممارسة سياسات اللبرالية الجديدة وتبلورت بشكل صارخ في فترة حكم رونالد ريگن في الولايات المتحدة، ومارغريت تاتشر في المملكة المتحدة، وهلموت كول في ألمانيا الاتحادية، وفي الاتحاد الأوروبي يعد تشكيله في فترة گاستون ثورن من لكسمبورغ، ... وهي السياسات التي ماتزال مستمرة حتى الآن، ولكنها توحشت بأضعاف المرات بعد انهيار دول المنظمة الشرقية الاشتراكية بغض النظر عن الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبلورت بشكل خاص منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وأن بدأت مخففة قليلاً ، في جوانب منها في فترة حكم الرئيس باراك أوباما، ولكنها لم تغير من جوهر الاستراتيجية الأمريكية بشيء، إلِّا في بعض تكتيكاتها، التي كانت رغم ذلك مفيدة نسبياً للعالم.
ولكن ما هو الجديد في التكتيكات الأمريكية منذ التسعينيات، والتي تفاقمت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 حتى الآن؟ يبدو لي كمتتبع إمكانية الإشارة إلى النقاط التالية:
1.   التفرد في الساحة الدولية بعد انهيار القطب الثاني الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية واعتبر العالم عندها بقطبية واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها بدأت بوضوح علامات السعي الأكثر جموحاً وصراحة في الهيمنة على العالم والاستفادة القصوى من ثورة الانفوميديا والعولمة والقدرات العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وعموم الدول الرأسمالية المتحالفة في حلف شمال الأطلسي.
2.   الإيغال بسياسات الاستغلال الرأسمالي المتوحشة من جانب الشركات الاحتكارية العابرة للقارات للطبقة العاملة في الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية وتراجعت عن الكثير من الإيجابيات التي تحققت للطبقة العاملة والكادحين في تلك الدول بسبب نضالات الطبقة العاملة والمنافسة الحادة بين المعسكرين لكسب الشعوب إلى جانبها، وتخلت بوضوح عن الكثير من استعدادها على المساومة مع الطبقة العاملة على الأجور وأوقات العمل ومكاسب كثيرة أخرى، مما شدد من التوتر والصراعات الطبقي داخل الدول الرأسمالية، ولاسيما حين تفاقمت البطالة وبدأت الأزمات الاقتصادية الدورية والمالية تعصر بالكادحين وترمي بهم على قارعة الطريق والفقر والإفلاس.   
3.   سياسات الضربات الاستباقية في مواجهة ما يبدو للولايات المتحدة مخاطر على مصالحها في أي مكان من العالم، ولاسيما في الدول النامية، إضافة إلى تقسيم الدول إلى عدوة وشريرة حين لا تكون معها وصديقة حين تكون معها. وقد تبلور هذا الموقف في أعقاب حرب الخليج الثانية ضد الكويت وتفاقم في أعقاب تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001، وتميز بذلك جورج دبلو بوش.
4.   فرض العقوبات الاقتصادية على كل الدول التي لا تخضع لإرادة وشروط الولايات المتحدة، حتى على الدول المتحالفة معها، كاليابان وألمانيا الاتحادية والدول النامية، كما مع العراق وإيران.     
5.   استخدام الصراعات الأثنية والدينية والمذهبية بشكل مكثف واستغلالها لفرض هيمنتها وسياساتها في مختلف المناطق التي فيها مشكلات أثنية أو دينية، وقد برز في هذا المجال بعض المفكرين الأيديولوجيين الأمريكيين المدافعين عن الرأسمالية المتوحشة من أجل تقديم تفسير فلسفي متهافت لهذه السياسات وترويجها في العالم، وكان على رأسهم صموئيل هنتنگتون منذ العام 1991 أو فرانسيس فوکویاما عن الرأسمالية والديمقراطية البرجوازية باعتبارها تشكل نهاية التاريخ.
6.   الاستعداد لممارسة شتى الأكاذيب على الصعيدين المحلي والعالمي وتجنيد الإعلام الرسمي وغير الرسمي لهذا الغرض لتبرير تدخلهم السياسي أو شن العدوان والحروب على الدول الأخرى. وأبرز مثال على ذلك أكذوبة تملك العراق لأسلحة الدمار الشامل وشن الحرب "لتطهيره منها"، بهدف إقناع شعب الولايات المتحدة بأهمنية وضرورة تلك الحرب. 
7.   المبادرة باستخدام وكالة المخابرات المركزية والبنتاگون لتكوين تشكيلات شبه عسكرية من قوى إسلامية سياسية متطرفة من الدول ذات الأكثرية المسلمة، أو ممن هم في خارجها، كما في أوروبا وأمريكا مثلاً، لمواجهة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ومن ثم امتدادها إلى دول أخرى في العالم، ومنها التنظيم الإرهابي "القاعدة" ومن ثم "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) وعشرات أخرى موزعة في الكثير من البلدان النامية. وقد شاركت كل من السعودية وباكستان وبعض دول الخليج في تبني هذا المشروع والمساهمة فيه بشرياً ومالياً وسلاحاً وتدريبات عسكرية وأمنية ومعلومات تجسسية وتقنية.
8.   البدء بالحديث عن إن منطقة الشرق الأوسط بحاجة إلى "فوضى خلاقة" تعيد تشكيل هذه المنطقة، على وفق الرؤية الأمريكية للدول الصديقة لها. وقد بادرت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (الأبن) كوندوليزا رايس إلى طرح هذا النهج السياسي، فكانت الحرب بين إسرائيل ولبنان، وبين فلسطين وإسرائيل، ولاسيما غزة، والحرب في سوريا، وكانت الحرب في العراق وأفغانستان، ثم كان اجتياح العراق من الموصل، وكانت الحرب في اليمن، وكلها ما تزال مستمرة بطريقة وأخرى لتشعل المنطقة وتعيد ترتيب الأوراق لصالح إسرائيل.
ومنذ أن وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض حاول استخدام التكتيكات الناعمة لتحقيق جوهر الاستراتيجية الأمريكية في العالم. فعلى سبيل المثال محاولته تقليص نسبي لسباق التسلح، أو عقد الاتفاقية النووية بين الدول الخمس +1 مع إيران، أو محاولة التخفيف من غلواء تأييد سياسات إسرائيل إزاء الشعب الفلسطيني والتركيز في الإعلام على حل الدولتين... الخ. ويمكن اعتبار فترة حكم باراك أوباما فترة استراحة دولية قصيرة ونسبية في تكتيكاتها الدولية والإقليمية بين جورج دبليو بوش وبين من أتى بعد باراك أوباما، دونالد ترامپ.
في عام 2016 نجح ترامپ على هنري كلنتون في الوصول إلى البيت الأبيض، وأصبح في كانون الثاني/يناير 2017 رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك انتصر النيوليبراليون الأكثر تطرفاً والمحافظون الأكثر تشدداً  في الحزب الجمهوري والمجتمع الأمريكي بنجاح دونالد ترامپ. فما هو الجديد في السياسات التكتيكية الأكثر تشدداً وتطرفاً وقسوة لدونالد ترامپ؟
انتهى القسم الأول ويليه القسم الثاني.
07/11/2018





181
كاظم حبيب
هل في مقدور عادل عبد المهدي نزع عباءته الإسلامية المهلهلة؟*
من كان، أو ما يزال، يعتقد بأن السيد عادل عبد المهدي قادر على نزع عباءته الإسلامية الشيعية ودشداشته الطويرجاوية والظهور بموقع المستقل عن الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي اختارته لمهمة خاصة استثنائية فيها من التعاون والتنسيق والمساومة بين الولايات المتحدة وإيران، كان مخطئاً وحَّمل الرجل، المستعد للاستقالة فوراً في أول أزمة تواجهه، فوق طاقته وقناعاته الفعلية والمصلحية الراهنة. 
منذ البدء كانت لي قناعتي الشخصية بعدم قدرة عادل عبد المهدي على تحقيق الاستقلالية في اختيار الوزراء بحكم متابعتي لمواقف السيد عادل عبد المهدي، الفكرية والسياسية والاجتماعية خلال السنوات الـ 15 المنصرمة، وهو أبن العائلة المنتفكية المعروفة التي عايشتها وأنا الآن ابن نيف وثمانية عقود من السنين، أولاً، ومن خلال كتاباته الكثيفة واليومية في جريدة العالم العراقية بعد خروجه من الوظائف الرسمية، إضافة إلى كتبه في الدعوة للاقتصاد الإسلامي ثانياً، ومن خلال مواقفه من المال والمنح المالية الحكومية الكبيرة التي كان ولا يزال يتلقاها سنوياً هو وأمثاله من قادة قوى وأحزاب الإسلام السياسي العراقية الفاسدة بصورة غير شرعية وخارج المألوف الإنسان والعدالة الاجتماعية ثالثاً، وكذلك في سياساته أثناء كان وزيراً للنفط أو على رأس وزارات أخرى، رابعاً، معرفتي بتقلباته الفكرية والسياسية قبل سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة حين كان في العراق ومن ثم في فرنسا حين تبنى بعد الماوية والتروتسكية النهج الخميني في أعقاب ثورة الشعب الإيراني الديمقراطية، التي احتواها وحرَّفها الإسلاميون السياسيون باتجاه ديني شيعي متطرف ومتطلع للتوسع في المنطقة باسم الدين والمذهب خامساً. أؤكد مرة أخرى بأن رئيس الوزراء الجديد غير قادر حقاً على الوفاء بعدة التزامات قدمها للشعب العراقي، وهي:
أولاً: أن يكون مستقلاً حقاً وصدقاً عن الأحزاب الإسلامية السياسية في تعامله مع الأحداث ومواقفه كرئيس وزراء عراقي يتطلع للإصلاح ورفض المحاصصة الطائفية والفساد.
ثانياً: أن يرفض الخضوع لإرادة الدولة الإسلامية الإيرانية ومرشدها الخامنئي، كما في فترة حكم المالكي، في اختيار شخصيات تسعى إيران لفرضها على العراق من التابعين لها ومن قادة الحشد الشعبي ومن الطائفيين والفاسدين المعروفين الذين اغتنوا من السحت الحرام وعلى حساب الشعب ومصالحه ورزق يومه، إذ تظهر يومياً الكثير من الفضائح لهذه النخب الفاسدة الحاكمة.
ثالثاً: أن يختار شخصيات وطنية مستقلة وتكنوقراطية متميزة وبعيدة عن تأثير الأحزاب الإسلامية السياسية التي حكمت العراق طيلة 15 عاماً ولم تجلب له الخير والتقدم، بل ساقته إلى البؤس والفاقة والموت والخراب والإرهاب والفساد وتفتيت الوحدة الوطنية، إنه المستنقع الطائفي السياسي والفساد النتن.
رابعا: أن يكافح الفساد والفاسدين لا من الأسفل، بل من القمة، فالسمك يتعفن ويفسد من رؤوسه لا من ذيوله، إضافة إلى دعوته تطهير سلطات الدولة الثلاث بمختلف أجهزتها وهيئاتها المستقلة وغيرها من خلال المحاسبة الجادة والموضوعية والمسؤولة والعادلة في آن.     
من خلال متابعتي لجلستي مجلس النواب الأولى والثانية، وما طرح من جانب الأوساط السياسية، وما تم تشكيله من مجلس الوزراء حتى الآن، وما يرغب تنسيبهم لوزارات مهمة ومؤثرة في المجتمع: وزارات الثقافة والداخلية والتربية، على سبيل المثال لا الحصر، تؤكد بجلاء ما كنت أتوقعه وأخشاه. فالرجل خاشع مستكين أمام إرادة طهران ومرشدها أولاً وقبل كل شيء، وملتزم بما يطلبه أتباع إيران المباشرين، ومنهم هادي العامري الذي أدان أخطاءه الفاحشة، ولكنه عاد ليكررها قبل اختفاء صدى صوته، ومعه نوري المالكي وقيس الخزعلي ومن لفَّ لَفّهم، أولاً كما أنه عاجز عن تجاوز المحاصصة الطائفية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ثانياً، وعن المقربين والمحسوبين والمنسوبين من النخبة الفاسدة ثالثاً. إن إيران تريد وزارة الداخلية، لأنها الوزارة التي تعرف: 1) أسرار العراق ونشاط قوه السياسية ومعارضي الإسلام السياسي؛ 2) وتعرف أين توجد قوى إيران التجسسية والحرس الثور وفيلق القدس والجماعات العسكرية الأخرى والعيون الوقحة والحاقدة التي ترصد حركة العراقيات والعراقيين وتقدم التقارير لإيران مباشرة؛ 3) وتعرف وتوجه الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة التي تنفذ أوامر إيران مباشرة وبضمنها الحشد الشعبي؛ 4) كما إنها تعرف علاقات إيران والتابعين لها كموظفين ومستخدمين في سلطات الدولة الثلاث وفي مختلف الأجهزة التنفيذية ومجلس النواب.
أتمنى أني نبتعد عن محاولة إرضاء النفس والقول بأن تنصيب عادل عبد المهدي يعتبر خطوة إيجابية ضرورية بأمل رفض المحاصصات الطائفية ومحاسبة الفاسدين في الحكم والدولة العراقية، إذ سنتحمل قبل غيرنا مسؤولية مكاشفة الشعب بواقع الحال، لكيلا يفاجأ بما لا يحمد عقباه. فالشخصية المستقلة لا تأتي من وسط وقلب قوى الإسلام السياسي الطائفية التي حكمت وما تزال تحكم العراق حتى الآن، بل تأتي من الأوساط السياسية الوطنية المستقلة، وهي كثيرة وبعيدة عن الأوساط الحاكمة، والتي تمتلك العلم والاختصاص المهني والفني النافع للبلاد، وتعي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئيا وخدماتياً ما يحتاجه العراق وشعبه خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق المعاصر وفي المستقبل. حتى الآن أصيب كل من راهن على ذلك بخيبة أمل، وأملي أن تتم مراجعة الموقف ومواجهة ما يسعى إليه حالياً عادل عبد المهدي.
كان وما زال أمام القوى الديمقراطية والقوى المستقلة أن تدرك جيداً بأن اختيار عادل عبد المهدي جاء لتجنيب الأحزاب الإسلامية السياسة وحكمها الكارثة المحتملة، كارثة السقوط ورفض المجتمع كلية لها بفعل ما جنته أيديها خلال الأعوام المنصرمة والعواقب الوخيمة التي تعرض لها وما يزال حتى الآن بسبب استمرار وجودها على رأس الحكم الطائفي القائم في العراق، وأن ما تحقق لا يعدو سوى ذر الرماد أو رمال الصحراء الحمراء في العيون.
لقد أدرك الشارع المدني العراقي بسرعة فائقة الخطر الذي يتهدد العراق بمحاولة تكليف مسؤول الحشد الشعبي الفعلي، فالح الفياض، ومرشح عصائب الحق حسن کزار الربعي، إضافة إلى مرشحين من ذات النسيج الطائفي ومن أتباع الميليشيات الطائفية المسلحة، فبدأ تحركه ضد المحاصصات الطائفية والفساد والتجاوز الفعلي لعادل عبد المهدي على التعهد الذي قطعه على نفسه أمام الشعب العراقي وأمام الدستور والقسم الذي أداه، ويفترض أن يتسع هذا التحرك ليشمل العراق كله لإنقاذ العراق مما هو عليه وفيه الآن.                         
•   مدبنة زراعية صغيرة (قضاء الهندية) تقع بين بابل (الحلة) وكربلاء، واسمها الرسمي الهندية، وتباعة لمحافظة كربلاء بعد أن كانت تابعة لقضاء بابل. ينطلق منها عزاء الطويريج (ركضة طويريج) حيث يلتقي في هذا العزاء راكضو أهل الطويريج وراكضو أهل كربلاء وآخرون من الزوار، في العاشر من شهر محرم في مكان يبعد 2 كم عن كربلاء يطلق عليه (قنطرة السلام)، لتبدأ الهرولة الراكضة المشتركة صوب مرقد الحسين والتطواف حول صحن المرقد ومنها صحن مرقد العباس والتطواف حول المرقد في الصحن، ثم الركض إلى المنطقة التي نصبت فيها الخيام (المخيم) حيث يتم حرق الخيام وينتهي العزاء. وطيلة الركض يهتف الراكضون "واحسيناه" أو "يا حسين" أو "حسين حسين يا حسين".         

182
كاظم حبيب
أهمية ودور الشبيبة والنساء في نشاط قوى التيار الديمقراطي العراقي
الابتعاد القسري عن المجتمع العراقي، عن الفئات الاجتماعية، عن الشبيبة من الذكور والإناث، نتجت عنه فجوة واسعة ومديدة وغربة فيما بين المجتمع والقوى والأحزاب السياسية ونشطاء التيار الديمقراطي العراقي بكل فصائله واتجاهاته الفكرية والسياسية الديمقراطية واليسارية والاشتراكية. وكانت هذه الظاهرة الواقعية واحدة من أقسى العواقب السلبية الحادة التي أصيب بها التيار الديمقراطي العراقي خلال الفترة التي هيمنت فيها القوى والأحزاب القومية والبعثية اليمينية والشوفينية والرجعية المتطرفة على حكم البلاد. فطيلة حكم هذه القوى، الذي دام أكثر من خمسة عقود، مارست فيها سياسات تدميرية ضد القوى المعارضة لها أو المستقلين عنها أو حتى ضد قواها الذاتية، إذ تميزت بممارسة أبشع أنواع الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والشوفينية والطائفية، كما فرضت هيمنتها المطلقة على المجالات الفكرية والسياسية والحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى الإعلام والنشر، كما صادرت جميع حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، ولاسيما الحق في العمل والحياة والكرامة، وغاصت في استخدام أقسى أنواع العنف السادي المرضي والاضطهاد المتعدد الجوانب والأغراض،  ومطاردة المعارضين واعتقالهم وقتل الكثير منهم أو زجه بالسجون لسنوات كثيرة، أو فرض الهجرة القسرية على قوى وكوادر وأعضاء ومؤيدي التيار الديمقراطي العراقي وقوى سياسية أخرى أيضاً، إضافة إلى زجها الشعب العراقي بعدة حروبٍ إجرامية داخلية وخارجية متلاحقة دامت طوال الفترة بين 1980 حتى سقوطها بحرب الخليج الثالثة 2003، بضمنها السنوات العجاف، سنوات الحصار الاقتصادي الدولي وتفاقم حياة البؤس والفاقة للغالبية العظمى من أبناء وبنات المجتمع، وحيث حصدت الحروب والحصار والاستبداد مئات الألوف من العراقيات والعراقيين ومن مختلف الأعمار والقوميات والديانات والمذاهب الفكرية.
ورغم النشاط الفكري والسياسي والاجتماعي والإعلامي لقوى التيار الديمقراطي العراقي بكل فصائله العربية والكردية والقوميات الأخرى، لفضح وإدانة نهج وسياسات النظام البعثي الدكتاتوري، سواء أكانت خارج الوطن أم في مناطق إقليم كردستان العراق، في فترة الكفاح الأنصاري أو في الفترة التي أعقبت عام 1991، بعد اضطرار نظام الحكم البعثي على الانسحاب من بعض مناطق إقليم كردستان العراق، فأن انقطاعاً طويلاً وغربة فعلية حصلت عن المجتمع ونسيان ملموس من جانب الذين ولدوا في نهاية السبعينيات وما بعدها لحركة ونضال ودور قوى وأحزاب التيار الديمقراطي خلال العقود المنصرمة وعدم معرفة الحجم الكبير للتضحيات، ولاسيما الشهداء الأبرار، الذي قدمته هذه الحركة لتخليص العراق من الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والفكري.
وخلال فترة الاغتراب عن الوطن لم يستطع التيار الديمقراطي العراقي العمل الواسع والمناسب في صفوف الجاليات العراقية التي كانت في الغالب الأعم في أكثريتها تعاني من مصاعب جمة، بما في ذلك الإحباط والبطالة وعوز العيش الكريم، إضافة إلى قناعتها بعدم قدرة قوى التيار الديمقراطي العراقي على تغيير الوضع الدكتاتوري في العراق. وبسبب طول فترة الغربة كبر سن أغلب كوادر وأعضاء قوى التيار الديمقراطي الذين كانوا شباباً وبين 30-50 سنة أصبحوا بعد إسقاط الدكتاتورية كبار السن، ولاسيما القيادات الحزبية والكوادر المتقدمة، الذين عادوا إلى الوطن وعاودوا نشاطهم في الداخل، مع من كان قد بقي في الداخل من الكوادر القديمة، والتي هي الأخرى لم تعد شابة. لقد وجدت هذه القوى نفسها أمام وضع جديد معقد ومشوه ومجتمع صعب الراس. وهنا لا بد من تشخيص بعض سمات أضاع العراق في أعقاب إسقاط الدكتاتورية، لكي نتفهم مدى صعوبة العمل الجديد في الداخل في ظل سلطة الاحتلال الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وقواتهما العسكرية والمدنية باتجاهاتهما الفكرية والسياسية والاقتصادية المعروفة ورغبتهما في تكريس هيمنتهما على العراق، إضافة إلى عوامل أخرى.
أولاً: حصول تحولات واسعة وعميقة جداً وسلبية في بنية المجتمع العراقي. فقد تقلص بشكل استثنائي عدد أبناء وبنات الطبقة العاملة العراقية، بسبب التدمير الهائل الذي أصيبت به الصناعة الوطنية وتوقف فعلي في الاستثمار الصناعي وعجز عن توفير المواد الأولية والاحتياطية للمكائن والمعدات المتبقية، وخراب الكثير من الأراضي الزراعية وتلوثها ووجود الألغام المبثوثة في المناطق الحدودية وخسارة هائلة في نخيل العراق وعموم زراعته، بسبب الحروب واستخدام الأعتدة المحرمة دولياً من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا والعراق نفسه في المعارك (اليوانيوم المخصب والسلاح الكيماوي)، إضافة إلى تراجع حجم الطبقة البرجوازية المتوسطة وعموم الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة، ولاسيما فئة المثقفين، نتيجة الانهيار الذي أصيب به الاقتصاد العراقي وتخلفه الشديد وريعيته التي جلبت له الكثير من المتاعب، بما في ذلك الاستبداد السياسي والتدخلات الخارجية الفظة. وكل هذه العوامل أدَّت إلى بروز فئات ذات قاعدة اجتماعية واسعة جداً نشأت بفعل انحدار الكثير من العائلات العمالية والفلاحية والبرجوازية الصغيرة إليها، فئات هامشية تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فئات يصعب عليها تدبير أمر عيشها اليومي، إنها من أشباه البروليتاريا وفئات أخرى رثة في سلوكها ومصادر عيشها اليومي وعلاقاتها الاجتماعية. وهي تحمل معها تركة ثقيلة من سياسات النظام وقسوته وعنفه وساديته، كما إنها ضحية النظام السياسي الدكتاتوري ونهجه وسياساته العسكرية والحربية والعدوانية نحو الداخل والخارج، إضافة إلى فساده وتعفنه.
ثانياً: تراجع شديد وعام في الوعي السياسي والاجتماعي في المجتمع العراقي نتيجة الاستبداد والقهر والتوعية المشوهة والمزيفة للنظام الدكتاتوري من جهة، وبسبب الفقر والحرمان والبطالة والأمراض والحروب والموت الذي حصد مئات الآلاف من سكان العراق، ولاسيما الذكور، وأصيب ما يقارب ذلك العدد بجروح وعوائق وتشوهات أبعدوا عملياً عن مجمل العملية الاقتصادية، دفع بهم كل ذلك إلى الغوص في الغيبيات والخرافات والأساطير والسحر، ثم السقوط تحت تأثير شيوخ دين مزيفين ومشوهين وأحزاب وقوى إسلامية مماثلة تستثمر الدين لصالحها وإملاء جيوبها بالسحت الحرام من جهة ثانية.             
ثالثاً: وبسبب تلك الأوضاع الشاذة والطويلة الأمد حصل تراجع في السلوك العام وفي صيغ التعامل اليومي للكثير من القيم والمعايير العامة وذات الطابع الإنساني الشمولي التي عرف بها الشعب العراقي، ونشأت عوضاً عنها سلوكيات غير حميدة كالانتهازية والخديعة والمختلة والركض وراء المكاسب بأي ثمن، إضافة إلى تفاقم العنف والضغينة والعدوانية والرغبة في الثأر والنزعات الشوفينية الطائفية المقيتة والرغبة في الانتقام.
رابعاً: وعلى أثر إسقاط الدكتاتورية على أيدي القوى الإمبريالية المعروفة، ولاسيما الولايات المتحدة وبريطانيا، التي ادَّعت بناء الديمقراطية "الأمريكية!" على أنقاض الفاشية في العراق، قامت بتسليم الدولة بسلطاتها الثلاث بأيدي قوى إسلامية سياسية طائفية، بأيدي جماعات من أشباه البروليتاريا ومن الفئات الرثة، والفئات الرجعية والمحافظة القديمة، التي فرضت الحكم الطائفي المحاصصي على البلاد، والذي أنهى العمل بمبدأ وهوية المواطنة، وأخذ بالهويات الفرعية القاتلة والمدمرة لوحدة الشعب ومصالحه الأساسية. لقد نهض في العراق حكماً طائفياً محاصصياً بأيديولوجية دينية رجعية مشوهة وفاسدة، نخرت في النسيج الوطني للمجتمع العراقي ودفعت بالبلاد إلى جحيم لا يطاق ولا يختلف كثيراً في بعض أبرز جوانبه السيئة عن النظام السياسي الشوفيني والعنصري.
في مثل هذا الواقع كان على القوى الديمقراطية العراقية أن تجد طريقها في العمل السياسي والاجتماعي وأن تطرح برامج تتناغم مع الواقع الجديد في العراق، وأن تعمل على تجميع قواها والتعاون والتنسيق فيما بينها لتجاوز الصعاب والإحباطات المتراكمة في المجتمع وجماهير قوى التيار الديمقراطي العراقي.
لم يكن العمل سهلاً على كوادر قوى التيار الديمقراطي العديدة القادمة من الخارج وتلك التي كانت في الداخل ولا على إيجاد لغة مشتركة فيما بينها، بل نشأت منافسة غير عقلانية ورغبة في توسيع وتقوية الذات، ربما حتى على حساب الآخرين من قوى التيار، أولاً، وصعوبة الوصول إلى الشبيبة التي لم تتعرف عن قرب على قوى التيار الديمقراطي، وغالبيتهم ليسوا من الشبيبة ثانياً ويصعب عليهم تغيير خطابهم السياسي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في مقابل ذلك كانت قوى الإسلام السياسي، الشيعية منها والسنية، التي تسلمت الحكم، قد وجدت في عمل المساجد والجوامع والحسينيات والمنابر الدينية مجالاً واسعاً للعمل في أوساط المجتمع، حين عادت إلى العراق وتسلمت السلطة، فاستطاعت أن تجتاح الساحة العراقية وتمارس بالتعاون مع المرجعيات والمؤسسات الدينية الهيمنة على المجتمع مستفيدة من بعض التقاليد والطقوس الدينية، ولاسيما المذهبية الشيعية، في التأثير على المجتمع اشيعي والشبيبة الشيعية لصالحها ومصالحها في آن واحد.
رغم إن هذا الوضع البائس لا يزال قائماً حتى الآن، استطاعت قوى التيار الديمقراطي، ولاسيما الزب الشيوعي العراقي، بجهود كثيرة وحثيثة وتضحيات غير قليلة، اختراق نسبي للطوق الذي فرض عليها، وإيجاد لغة مشتركة نسبياً مع جمهرة من الشبيبة والنساء، في مجال الحراك المدني الشعبي، خاصة وأن المجتمع العراقي يعاني الأمرين من سياسات النظام الطائفية والفساد السائد اللذين تجليا بشكل صارخ في كامل سياساتها وتعاملاتها اليومية والتي افتضح أمرها على نطاق واسعد.
لقد استطاع الحزب الشيوعي أن يجدد نسبياً جزءاً من قيادته وكوادره وأن يكسب نسبياً المزيد من الشباب والنساء في العمل، ورغم إنه بحاجة إلى المزيد والمزيد جداً من العمل باتجاه الشباب والنساء وعموم المجتمع، إلا إن الواقع يشير إلى أن بقية قوى التيار الديمقراطي لم تستطع حتى الآن أن تجدد نفسها أو تضيف شباباً إلى قياداتها، وبالتالي فهي لم تستطع التوسع في القاعدة الشبابية أو النسوية كما يفترض أن يكون عليه الأمر، وبالتالي فأن تأثيرها في المجتمع بقي ضعيفاً وتأثيرها محدوداً والتصويت لها في الانتخابات العامة واطئاً، مع قناعتنا بوجود تزوير وتزييف للإرادة ورشوات هائلة شهوت العملية الانتخابية كلها. إني بهذا المعنى أود أن أؤكد بأن أعضاء قيادات قوى تيار الديمقراطي في أغلبها لا تزال من كبار السن أولاً ومن الذكور ثانياً ونادراً ما تجد امرأة في القيادة، فيما عاد الحزب الشيوعي فله بعض النسوة في اللجنة المركزية وواحدة في المكتب السياسي للحزب.
ما لم تتحرك قوى التيار الديمقراطي، بما فيها الحزب الشيوعي العراقي، بشكل أكبر وأوسع، نحو الشبيبة من الذكور والإناث، وما لم توضع خطة متكاملة بهذا الصدد مع استخدام التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال الأكثر حداثة وتأثيراً، فسوف يصعب عليها تجاوز الواقع الراهن القائم في العراق، فالشبيبة هي عصب الحياة وهي التي تمتلك القدرة على وعي الجديد والتجديد والتفاعل مع المجتمع والأحداث بسرعة وبحيوية فائقة، ولها القدرة في التأثير المباشر على بقية فئات المجتمع. بين الشبيبة الطلبة وكثرة من المثقفين ومن العمال والفلاحي والكسبة والحرفيين، والكثير منهم من أبناء وبنات الفئات الكادحة والفقيرة المظلومة والمضطهدة اقتصادياً واجتماعياً والتي تعيش على هامش الحياة السياسية، وهي الصوت الذي لم يجد في القوى الإسلامية السياسية من اهتم به وبمصالحه وحقوقه والذي يدرك يوماً بعد أخر، المخاطر التي تلم بالعراق وأكثر حتى من السابق، بسبب النهج الطائفي المحاصصي والفساد ووجود الميليشيات الطائفية المسلحة والصراع الطائفي في البلاد على مستقبل البلاد والشعب، إضافة إلى كون الشبيبة بدأت تدرك تدريجياً بأنها قد استغلت ولا تزال تستغل بوحشية من جانب قوى الإسلام السياسي الطائفية لصالحها ومصالحها، دون أي اعتبار لمصالح الشبيبة وحياتها ومستقبلها ومستقبل البلاد.
إنها واحدة من أهم مهمات قوى التيار الديمقراطي هو العمل الجاد والدروب بين الشبيبة لكسبها إلى جانب برامجها ونشاطاها وفعالياتها للخلاص من النظام السياسي الطائفي المحاصصي، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إنها من أكثر المهمات صعوبة وحيوية وتعقيداً، ولكنها الأكثر أهمية ونبلاً، إذ عليها يعتمد تغيير واقع العراق الراهن.
           
                   

183
د. كاظم حبيب
لنحيي معاً ذكرى وفاة المناضلة الوطنية والأممية ورائدة المرأة العراقية الدكتورة نزيهة الدليمي
حين نحتفي هذا العام بتأبين الدكتورة نزيهة جودت الدليمي في ذكرى وفاتها السنوية، فنحن نستذكر فيها حياة امرأة عراقية مناضلة مقدامة كرّست حياتها للنضال اليومي الشجاع طيلة ستة عقود ونيف من سني الكفاح المليئة بالأحداث الجسام والتحولات الدراماتيكية، على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، نُحي ذكرى نضالها الدؤوب ضد الاستعمار والاستغلال والحرب والتدخل الأجنبي في شؤون البلاد وضد الانقلابات والشوفينية والعنصرية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية، وفي سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنها بشكل ملموس حقوق المرأة ومساواتها التامة بالرجل وعلى جميع الأصعدة، وفي سبيل الأمن والسلام العالميين والعدالة الاجتماعية، لا على صعيد العراق حسب، بل وعلى صعد الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط والعالم. فهي مناضلة وطنية ديمقراطية وأممية أمينة على مبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق أتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية الديمقراطية في ممارسة عباداتهم واتجاهاتهم الفكرية الإنسانية والعدالة الاجتماعية والسلام.
كانت رفيقتنا الدكتورة نزيهة الدليمي منذ نشأتها السياسية، أثناء الحرب العالمية الثانية، قد ناهضت منذ البدء النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية التي انتشرت أفكارها الشوفينية والعنصرية في العراق منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، وتجلت في تأسيس نادي المثنى بن حارث الشيباني في العام 1935 والذي ارتبط بعلاقات عمل وتعاون وتنسيق مستمر ومتين مع الحزب النازي والحكومة الهتلرية والقنصل والوزير المفوض الألماني في بغداد الدكتور فريتز غروبا، إذ كانت له علاقة ممتازة مع الملك غازي الأول ورئيس حزب الشعب القومي رشيد عالي الكيلاني ومفتي القدس محمد أمين الحسيني.
في العام 1941 حاك العقداء الأربعة وحزب الشعب القومي السري انقلاب الأول من مايس/ أيار 1941 ضد الحكومة الملكية. في نهاية شهر أيار/مايس من نفس العام فشل الانقلاب، فنفذ أتباع الحزب وفدائيي محمد يونس وجموع من الأوباش مباشرة مجزرة رهيبة وجريمة بشعة ضد اليهود في الأول والثاني من شهر حزيران/يونيو 1941 في بغداد وراح ضحيتها 144 من المواطنات والمواطنين العراقيين اليهود. وقبل ذاك كان قد حصل فرهوداً مماثلاً في البصرة دون وقوع قتلى.
في العام 1945، وهي طالبة في كلية الطب، شاركت الدكتورة نزيهة مع مجموعة من النسوة في تشكيل "الجمعية النسوية لمكافحة النازية والفاشية" برئاسة السيدة عفيفة رؤوف وعضوية الدكتورة روز خدوري وخانم زهدي ومبجل بابان وناشطات أخريات.
تركز نضال نزيهة في هذه الفترة في تعبئة النساء للنضال من أجل الحصول على حقوقهن المغتصبة في مجتمع كان لا يزال يعاني من التخلف الاقتصادي والاجتماعي وغياب الوعي بالحقوق والواجبات، إضافة إلى كونه ذكوريا متعسف وديني مشوه في مواقفه إزاء المرأة تماما.
في العام 1947 تخرجت من كلية الطب، فعمدت إلى وضع اختصاصها في مساعدة الفقراء والمعوزين، حين كانت عيادتها في مدينة كربلاء أو في السليمانية، وبالتالي ساهمت عبر مهنتها إلى توسيع دائرة المناضلات والمؤيدات لحقوق المرأة، وكسبت من خلال ذلك جمهرة واسعة من النساء للحزب الشيوعي العراقي لا عبر دعايتها المباشرة للحزب بل عبر حيويتها ونشاطها الطبي في مساعدة الآخرين وسلوكها الإنساني وسمعتها الطيبة، إذ اعتبروا ذلك جزءاً من سلوك ونشاط الشيوعيين لصالح الفقراء.
في العام 1952 بادرت مع مجموعة من النساء الناشطات في تشكيل رابطة المرأة العراقية وانتخبت في أول مؤتمر لها رئيسة للرابطة، في ذات الفترة التي تم تأسيس اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي وحركة السلام العراقية كجزء من حركة السلم العالمية، والتي كانت بتوجيه ودعم كبيرين من الحزب الشيوعي العراقي. وفي العام 1953 شاركت في مؤتمر اتحاد النساء الديمقراطي العالمي في كوبنهاگن وانتخبت الرابطة عضوة في هذا الاتحاد.
في العام 1958 فجر الجيش العراقي انتفاضة عسكرية ناضل الشعب لتحويلها إلى ثورة شعبية لتحقق له الكثير من طموحاته الوطنية والديمقراطية. في أول تشكيلة حكومية بعد الثورة، برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم، تولت الدكتور نزيهة الدليم وزارة البلديات، وهي أول امرأة عربية تصبح وزيرة في الدول العربية. جاء توزيرها لعدة أسباب مهمة، منها سمعتها الطيبة كطبية نسوية، ورئاستها لرابطة المرأة العراقية وحيويتها ونشاط المنظمة البارز في فترة الحكم الملكي وتعرض مناضليها للاضطهاد والسجن والتعذيب، عضويتها في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، الذي كان قد حصل في نفس العام وبمبادرة من الرفيق سلام عادل، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب. كان لتوزيرها الوقع الحسن في الشارع العراقي، ولاسيما بعد أن برهنت بدورها الفعال في وزارة البلديات، ومنها: 1) كثرة منجزات وزارة البلديات لصالح المجتمع عموماً ولاسيما للكادحين، 2) أطلاق اسم مدينة الثورة على المنطقة التي امتلأت بالفلاحين الهاربين من ظلم الإقطاعيين وكبار الملاكين والعناية بها وبقاطنيها، 3) توزيعها قطع بمساحات مناسبة على العائلات الفلاحية في مدينة الشعلة لبنا دور لهم بدلاً من الأكواخ الطينية العشوائية، 4) دورها المميز مع الرابطة في انجاز وإصدار حكومة الثورة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 كأحسن قانون في الدول العربية حينذاك وفي العراق حتى الآن. وكان هذا القانون المتقدم، رغم تواضعه فيما تضمن من حقوق مهمة للمرأة العراقية، من العوامل التي دفعت بالقوى الرجعية والقومية اليمينية والبعثية والفئات الإقطاعية والمؤسسات والمرجعيات الدينية، إضافة إلى الحركة المسلحة الكردية المشاركة في لتآمر على حكومة قاسم وإسقاطها بانقلاب شباط الدموي والفاشي عام 1963، وبدعم دولي امريكي بريطاني مباشرين، مما أكده علي السعدي نائب رئيس وزراء حكومة البعث الانقلابية بقوله "جئنا بقطار أمريكي"، ودول حلف بغداد (السنتو) والعديد من الدول العربية.
وبسبب المخاطر التي تجمعت حول حياة الدكتورة نزيهة الدليمي، وحياة الكثير من المناضلين حينذاك، قررت قيادة الحزب الشيوعي العراقي إرسالها للدراسة الحزبية في موسكو في العام 1961. وبعد إسقاط النظام الوطني رغم فردية عبد الكرم قاسم وتراجع في سياساته الديمقراطية، انتقلت الدكتورة نزيهة الدليمي إلى براغ وساهمت في تشكيل "حركة الدفاع عن الشعب العراقي وانتخبت في عضوية هيئتها القيادية إلى جانب رئيسها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والدكتور فيصل السامر والأستاذ عبد الفتاح إبراهيم والفنان التشكيلي محمود صبري والدكتور عزيز الحاج ونوري عبد الرزاق حسين وآخرون. هيأت الدكتور نزيهة الدليمي، عضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، نفسها للعودة إلى الوطن وعادت فعلاً في العام 1967/1968 ونسبت عضوا في لجنة منطقة بغداد للنهوض بعمل الحزب النسوي ورابطة المرأة العراقية في آن واحد، وكانت قبل ذاك قد ساهمت في اجتماع اللجنة المركزية في براغ في العام 1964 الذي تم فيه انتخاب الرفيق الفقد عزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، كما مثَّلت الحزب في مجلس وهيئة تحرير مجلة الوقت، لسان حال الأحزاب الشيوعية والعمالية للأممية الثالثة على الصعيد العالمي.
لقد شاركت الدكتورة نزيهة الدليمي أثناء وجودها في الخارج في الفترتين اللتين أجبرت على مغادرة العراق، الأولى 1961 والثانية 1978، في جميع المؤتمرات الدولية لاتحاد النساء الديمقراطي العالمي وكانت نائبة لرئيسة الاتحاد، وفي مؤتمرات نسوية وندوات كثيرة، كما كانت عضوة في هيئة رئاسة مجلس السلم العالمي إلى جانب الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وهو من المشاركين في أول اجتماع لحركة السلام العالمي في العام 1948، وأحد مؤسسي مجلس السلم العالمي في مؤتمر الحركة الأول في العام 1950 والعضو الدائم فيه، وكذلك كل من الرفيقين القياديين والفقيدين عزيز شريف وعامر عبد الله.
تميزت نزيهة الدليمي بالحيوية والنشاط الدؤوب وبعلاقات واسعة مع المنظمات الإقليمية والدولية في مجالات النساء وحركة السلام العالمية والقوى الديمقراطية اليسارية واتسمت بالتواضع الجم في علاقاتها مع من حولها ومع الناس الكادحين الفقراء والعاملين معها.
قرر المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي انتقال الدكتور نزيهة الدليمي من دمشق إلى مدينة بوتسدام بألمانيا الديمقراطية في نهاية العام 1985 بداية 1986. وقد كلفت بكتابة تاريخ الحزب، بعد أن كانت مسؤولة عن تنظيمات الحزب في الخارج لسنوات عديدة حتى العام 1986 وبسبب مرض القلب الذب كانت بداية معانتها منه، وللأجواء السياسية المعقدة في الشام والصراعات الحزبية الجانبية التي بدأت تبرز حينذاك.
بدأت الدكتورة بهذا العمل الكبير، ولم يكن التاريخ ضمن اختصاصها، فأنجزت جزءاً صغيراً ومحدوداً منه، إذ لم تتوفر المصادر ولا ساعدتها صحتها على استكماله، ولكنها عملت مع الرفيقة ثمينة سلام عادل في موسكو لمراجعة كتاب ثمينة الموسوم "سلام عادل". واختلفا في بعض المسائل، فعادت إلى برلين. لقد تميزت نزيهة باستقلالية الرأي والرغبة في الحوار والنقاش الموضوعيين للوصول إلى الرأي الصائب والسديد دون تعصب أو أصرار، وملكنها كانت باستمرار إلى جانب رأي قيادة الحزب، وكانت مؤمنة تماماً بالحزب والماركسية -اللينينية وبالاتحاد السوفييتي، ولهذا كان الضربة قاسية حين انهار الاتحاد السوفييتي وكل المعسكر الاشتراكي، ولكنها لم تفقد ثقتها وأحلامها ببناء المجتمع الخالي من الاستعمار والاستغلال والعنصرية والتمييز والحروب.
اختارت د. نزيهة بوتسدام لتكون قريبة من شقيقها واثق الدليمي وعائلته، فاحتضنت من العائلة بمحبة واحترام دائمين، وعاشت في شقة خاصة بها وقريبة من عائلة الأخ إلى حين وفاتها. لقد كانت الفقيدة نزيهة محط احترام وحب كبيرين من رفاقها وأصدقاءها وصديقاتها ومن كانت تلتقي بهم, كانت الزيارات لها دائمة من قادة الحزب الذين يمرون ببرلين ومن القاطنين بألمانيا ولاسيما برلين. لقد فقدت نزيهة شقيقين عزيزين هما لطفي وواثق، وكلاهما أصغر سناً منها، فتلقت بذلك ضربة قاسية في الصميم لم تكن تتوقعها ولم تتحملها، كما إنها كانت بعيدة عن السياسة اليومية وعن رابطة المرأة العراقية، رغم كونها كانت ماتزال رئيستها بسبب بعدها عن واقع الحياة السياسة والاجتماعية اليومية وعن الناس ولاسيما النسوة في بغداد والعراق، وكان هذا البعد يحز في نفسها كثيرا ويؤرقها وتحس بالعزلة والوجع النفسي. لم تكن في عزلة عن الأصدقاء والصديقات وعن الزيارات المتكررة لها، ولكنها كانت معزولة عن واقع الحياة السياسية في بغداد أو دمشق أو حتى برلين، بسبب صغر وبعد بوتسدام وعدم وجود وسائل الاتصال الحديثة، كما كانت تعاني من ضعف في القلب، وكان سبب وفاتها، وفي القدرة على السير بسبب العمر، وكانت محاطة برعاية عائلة شقيقها وزوجته الفاضلة وابنته الدكتورة زحل وأبنيه الدكتور سعد وأحمد وزينة. وكانوا حولها حين وفاتها في المستشفى.
لقد كانت لي علاقة رفاقية وأخوية وصداقية حميمة مع الدكتورة نزيهة واحترام كبير متبادل منذ الستينيات من القرن الماضي وعملنا في حزب واحد وفي تنظيمات واحدة لفترات معينة، ولاسيما في فترة السرية ببغداد، وفي تنظيمات الخارج، وكانت لي زيارات لها في بوتسدام مع أصدقاء وصديقات من العراق وألمانيا، وأهدتني نسخة مصورة من مسودة كتابها غير المنجزة وغير المطبوعة عن تاريخ الحركة الوطنية والحزب الشيوعي العراقي والتي استفد منها في كتابة رسالة ماجستير عنها في بغداد، كما شاركت في فيلم وثائقي ألماني عن العراق في فترة العهد الملكي، وانجزت كراساً عن حياة ونضال ودور المرأة العراقية.
إننا إذ نحيي ذكرى الفقيدة، نتابع أيضاً وبغضب وحزن شديدين استمرار موجة جرائم الاغتيالات الجبانة التي ترتكب ضد الناشطات من النساء العراقيات ومن اللواتي يعملن في مجالات الزينة النسوية والشأن العام، وكذلك ضد مجموعة من المناضلين الشجعان، بعد أن انطلقت حملة نضالية احتجاجية وانتفاضة شعبية ضد نظام المحاصصة الطائفية ونقص شديد في الخدمات والفساد السائدين وظواهر التمييز الديني والطائفي والقومي المقيتة، لاسيما بعد أن عمدت الحكومة وأجهزتها الأمنية والمليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي بضرب المظاهرات في البصرة ومناطق أخرى في الجنوب والوسط وبغداد، وملاحقة تلك القوى المسلحة خارج القانون للناشطات والناشطين واغتيالهم بوحشية وفي وضح النهار. لم تنتج التحقيقات الرسمية التي أعلن عنها رئيس الوزراء حتى الآن عن اكتشاف أي مجرم، علماً بـأن سلطات الدولة تعرف عين اليقين من هم القتلة، سواء أكانوا من داخل الحدود، أم جاءوا من وراء الحدود ومن دول الجوار، ولاسيما إيران. إننا إذ ندين هذه الجرائم ونطالب بإيقافها فوراً والكشف عن مرتكبيها القتلة، وعن عمليات الاختطاف والابتزاز والتغييب ومحاكمتهم وأنزال العقاب العادل بهم.
في العراق قررت الحكومة العراقية في العام 2009 إقامة تمثال لها في إحدى ساحات بغداد كأول امرأة ووزيرة وناشطة نسوية وديمقراطية، والذي لم يتحقق حتى الآن، ولا بد من السعي للضغط من أجل تنفيذه.
في اليوم التاسع من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2007 توقف قلبها عن الحركة وفقدنا بها أختاً ورفيقة وصديقة ومناضلة جسورة ومتواضعة وذات مبادئ ثابتة وحب كبير للشعب العراقي.
الذكر الطيب للمناضلة النسوية والديمقراطية والشيوعية المقدامة، المناضلة الوطنية والعربية والأممية الساطعة كشهاب بزغ واختفى سريعاً، ولكن بقي وهجه يشع في سماء العراق ليشارك في إنارة طريق النسوة العراقيات والحركة الديمقراطية والتقدمية العراقية دوماً في نضالها الحثيث والثابت من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنها حقوق النسوة والسلام والعدالة الاجتماعية، من أجل وطن حر وشعب سعيد.
كاظم حبيب
برلين، 27/10/2007
ملاحظة: ألقيت الكلمة في الاحتفال التأبيني في الذكرى السنوية لوفاة الرفيقة المناضلة الدكتورة نزيهة الدليمي التي أقيمت في منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين بتاريخ 27/10/2018.                   

184
كاظم حبيب
ما الجديد في أوضاع العراق الراهنة؟
ليس هناك من كان يعتقد بوجود إمكانية فعلية لإجراء تغيير جذري في أوضاع العراق الراهنة دفعة واحدة، رغم حقيقة كون النظام السياسي الطائفي والمحاصصي قد فقد قدرته على البقاء والمواصلة في الحكم من الناحية الموضوعية، بسبب فساد وخداع وعجز النخب الإسلامية السياسية الحاكمة على تقديم ما يمكن أن يمنحهم الشعب تأييده، رغم بروز رغبة عارمة لدى المزيد من الأوساط الشعبية الراغبة في التغيير. والمشكلة لا تزال تكمن في الجانب الذاتي، أي في جانب القوى الراغبة في التغيير والساعية إليه. فما هي تلك العوامل الكامنة وراء ما حصل في العراق خلال الفترة الأخيرة والتي أدت إلى تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، حكومة اللاتغيير؟
يمكن، كما أرى، تلخيص العوامل الفاعلة في الواقع العراقي الراهن في النقاط التالية:
1.   الدلائل المتوفرة تشير إلى أن ميزان القوى السياسية والاجتماعية لا يزال يميل لصالح القوى الرافضة للتغيير، ولكنها ترى إمكانية إجراء تغيير شكلي وجزئي في بعض القوى والأفراد من النخب الحاكمة، في حين لا تزال القوى الراغبة والعاملة من أجل التغيير تعاني من نقاط ضعف غير قليلة تستوجب تجاوزها لتحقيق التغيير المنشود في ميزان القوى لصالحها. وهذا الاختلال في ميزان القوى لصالح القوى التي حكمت العراق خلال الأعوام الـ 15 المنصرمة ناشئ عن الواقع التالي:
أ‌.   رغم مرور فترة طويلة لا يزال الوعي الاجتماعي والسياسي لنسبة عالية جداً من بنات وأبناء المجتمع العراقي ضعيفاً وإلى حد كبير مزيفاً ومشوهاً، وهي نتيجة منطقية لما يقرب من ستة عقود من حكم الدكتاتورية والعنف والحروب والفقر والتجهيل وتزييف وعي الفرد والمجتمع.
ب‌.   هيمنة قوى الإسلام السياسي، ولاسيما الشيعية منها، على الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، منذ إسقاط دكتاتورية البعث حتى الآن، التي جعلت منها دولة هشة وهامشية، إضافة إلى وجود دولة عميقة فاعلة فيها (دولة داخل دولة). فهذه القوى تمتلك الحكم والمال والقوات المسلحة والتأييد الديني، إضافة إلى وجود ودور الميليشيات الطائفية المسلحة والإرهابية المنتشرة في أنحاء البلاد والتابعة للأحزاب أو لقوى ودول أجنبية، وهي التي أشرفت على الانتخابات ومارست كل أساليب التزوير والتزييف والرشوة لإبقاء الهيمنة الطائفية والمحاصصة على مجلس النواب والحكم.
ت‌.   الدور الفاعل والمساند بالأساس وبقوة معلنة من جانب المرجعية الدينية الشيعية للأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الشيعية وللحكم السياسي الطائفي المحاصصي القائم، مع نقد لا بد منه موجه لمجموعة من الفاسدين المفضوحين من النخب الحاكمة والتي لم يعد الدفاع عنها ممكناً وللحفاظ على النظام وحمايته من الانهيار أساساً. 
2.   الضعف الذي لا تزال تعاني منه الأحزاب والقوى الديمقراطية والتقدمية الراغبة في التغيير، إذ إنها تعاني من:
أ‌.   ضعف كل منها على انفراد وقلة تأثيرها على أوساط الشعب الواسعة، ولاسيما الكادحة والفقيرة التي تعاني من طبيعة وسياسات النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد، رغم التحسن النسبي الملموس في قاعدتها الاجتماعية ونشاطها وتأثيرها خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
ب‌.   ضعف تعاونها وتضامنها والتنسيق الضروري فيما بينها وتكاثر تكتلاتها غير المنتج والمؤثر سلباً على دورها ونشاطها وتأثيرها.
ت‌.   ومع التحسن النسبي في دور القوى اليسارية العراقية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي، إلا إنها جميعاً لم تعثر حتى الآن على لغة مشتركة فيما بينها تسمح لها بالتعاون والتنسيق والتأثير الإيجابي على مجمل المجتمع العراقي ولاسيما الفئات الكادحة والفقيرة والمضطهدة.
ورغم الضعف الذي تعاني منه القوى الديمقراطية العراقية، فإنها استطاعت أن تقود حركة مدنية شعبية تميزت بالحيوية والفاعلية ورفعت الشعارات السليمة وواصلت الحراك المدني المطالب بالتغيير لثلاث سنوات متواصلة، عبأت الكثير من الناس حولها. وهي جديرة بمواصلة ذلك.
3.   ومنذ أن تسلمت قوى الإسلام السياسي الطائفية الحكم في البلاد تحول الفساد إلى نظام (سيستم) قائم بحد ذاته وسائد ومتشابك بين قوى الفساد في الداخل والخارج، حيث تلعب القوى السياسية ذات النهج المافيوي التابعة للأحزاب أو البيوتات الدينية المعروفة، دورها في كل ذلك، والذي يسمح بهيمنة هؤلاء الفاسدين على الكثير من القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
4.   والدلائل كلها تشير إلى واقع وجود علاقة تشابكية متينة ومخلة باستقلال العراق وسيادته الوطنية وبقراراته الداخلية والدولية بين أغلب قوى الإسلام السياسي الحاكمة، الشيعية منها والسنية، وبين الدول المجاورة للعراق على أساس ديني ومذهبي. ولكن هذه العلاقة تجسد بالأساس مصالح ذاتية للقوى الأجنبية مخلة ومضرة بمصالح العراق والمجتمع العراقي. ورغم المشكلات المتفاقمة التي تعاني منها دول الجوار، إيران والسعودية وتركيا وقطر والإمارات العربية، والتي يمكن ان تضعف بهذا القدر أو ذاك دورها وتأثيرها في العراق، إلا إنها لا تزال تمتلك اوراقاً مهمة بيديها، قادرة على التأثير الفعلي في مجرى أحداث العراق، ولاسيما إيران، التي تعاني من مشكلات متفاقمة داخلية وإقليمية ودولية، سياسية واقتصادية واجتماعية، وكذلك السعودية بعد اغتيال جمال القاشقجي وجرائم الحرب التي ترتكبها في اليمن. وتلعب الدول الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، دورها المؤثر سلباً على أوضاع العراق، واستعدادها، رغم عدائها الصارخ لإيران، على المساومة مع إيران على حساب الشعب العراقي.
   ما هو الجديد في أعقاب الانتخابات وبدء تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة عادل عبد المهدي؟

العوامل الذكورة في أعلاه وغيرها لعبت دورها في نتائج الانتخابات العامة الأخيرة وفي بروز حل هجين، "لا يطير ولا ينكض باليد"، أو بين مدينتي "نعم ولا" على حد قول الشاعر الروسي الفقيد أفتوشنكو. فعادل عبد المهدي ليس بالشخصية المستقلة، بل هو جزء من قوى الإسلام السياسي، وكان عضواً قيادياً في المجلس الإسلامي الأعلى والمرتبط بعلاقات قوية مع عمار الحكيم ويصعب عليه الفكاك من تأثير ودور المرجعية الشيعية، كما كان وزيراً لأكثر من وزارة في الحكومات السابقة، وكان نائباً لرئيس الجمهورية ممثلاً عن قوى الإسلام السياسي، كما يصعب عليه حقاً التصدي الفعلي الحازم لنهج إيران في التدخل المباشر والفظ والمستمر في الشؤون العراقية. فالحكومة الجديدة التي تم تشكيل أجزاء منها أخيراً، لم تبتعد عن المحاصصة الطائفية من حيث الجوهر، رغم الضجة الإعلامية التي تثيرها قوى إسلامية سياسية بعينها تدعي الطلاق مع المحاصصة الطائفية. فهل من جديد حاليا وحقاً في كل ذلك؟ يمكن تلمس أربع نقاط مهمة تعبر عما اشرت إليه في إبعاد نسبي لبعض القوى والأشخاص المحروقة أوراقهم عن الحكم المباشر:
1.   اعتراف الجميع، ومنهم قوى الإسلام السياسي، بفشل النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المقيتة والمذلة للشعب، رغم إصرارهم على استمرار العمل به عملياً، واعتراف بعضهم بارتكابهم أخطاء فادحة لا غير، في حين إن ما حصل في العراق لم يكن مجرد أخطاء منهم، بل جرائم بشعة يندى لها جبين الإنسان.
2.   إبعاد حزب الدعوة عن المشاركة المباشرة في الحكومة الجديدة، رغم الوجود الكثيف والمهيمن لهذا الحزب على أجهزة السلطة التنفيذية وله قوى مؤيدة ومؤثرة في المجلس النيابي، وكذلك في السلطة القضائية. فهذا الحزب وقادته البارزين هم الأكثر مسؤولية بين جميع قوى الإسلام السياسي العراقي عن كل ما حصل في العراق خلال الأعوام المنصرمة منذ إسقاط الدكتاتورية الشوفينية وإقامة الاستبداد الديني والمذهبي في الحكم وتشديد الصراع الطائفي والديني في البلاد، إضافة إلى اجتياح داعش واستباحته لجزء كبير من بنات وأبناء الشعب في محافظة نينوى ومحافظات غرب العراق. 
3.   وجود خطوط عامة جيدة لبرنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي مطروح، والعبرة في التنفيذ بالأساس، وهو في حكم المستقبل أو الغيب. وليس هناك ما يؤكد على تحقيقه إذا ما استمرت هذه القوى تهيمن على أجهزة الدولة بسلطاتها الثلاث وتلك المسؤولة عن تنفيذ البرنامج.
4.   وجود بعض الأسماء التي يعتقد أنها مستقلة في التشكيلة الوزارية الجديدة، إلا إن الأيام سوف تكشف عن مدى علاقتهم بقوى الإسلام السياسي الشيعية أو السنية، ومدى استقلاليتهم فعلاً. 
  ويبدو لي إن هذه النقاط هي التي سمحت للرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ان يصرح: بـ "أن جلسة التصويت على الثقة بالحكومة الجديدة حقق خطوة نحو تجاوز نهج المحاصصة، ونجح في اخراج الحكومة جزئيا من هذا النهج". (رائد فهمي: عملية تشكيل الحكومة سجلت الخروج جزئيا من نهج المحاصصة ، موقع الحزب الشيوعي العراقي، 27/10/2018). وهي مسألة قابلة للنقاش.
ما هي الجوانب السلبية في الوضع العراقي الراهن:
1.   إن شخصية رئيس الوزراء الجديد ليست مستقلة، بل هي في القلب من قوى الإسلام السياسي الطائفية، وكان عادل عبد المهدي عضواً في حزب سياسي طائفي مؤيد لإيران ومتحالف معها، ويتبع في مواقفه ما تأمر به المرجعية الشيعية.
2.   وجود قوى من قائمة البناء، والتي هي بالأساس فتح، ورئيسها هادي العامري، مسؤول ميلشيا منظمة بدر الطائفية المسلحة خارج القانون، المشاركة في الحكم، وهي الحليف الأقوى والتابع لإيران مباشرة. وهذا التشخيص ليس ادعاء مني على هادي العامري، بل كان تصريحا منه أكد فيه أنه يقلد علي خامنئي، وبالتالي ينفذ ما يطلب منه مرشد الثورة الإسلامية في إيران، وهو الذي قام بتقبيل يد سيده الخامنئي. وهو أمر بالغ الخطورة، والشعب العراقي يعرف تماماً هذا الأمر وماذا يعني ذلك.   
3.   إن الادعاء بتجاوز المحاصصة الطائفية، كما تتحدث عنه قوى الإسلام السياسي، كذبة لا يجوز القبول بها أو ترويجها، بل هو التفاف على طلب التغيير لا غير، رغم الملاحظات الإيجابية التي أشرنا إليها.
4.   وإذ تخلت قائمة سائرون عن حصتها في الحقائب الوزارية، وهي في الغالب الأعم حصة قوى مقتدى الصدر، الأكثر قاعدة ونفوذا وتأثيراً في "سائرون"، وهي قوى إسلامية سياسية طرحت برنامجاً مهماً وجد تعبير بعض مهماته في منهاج الحكومة الجديدة، فأن الأحزاب الكردية والأحزاب السنية والجماعات الشيعية الأخرى لم تتخل عن ذلك، وبالتالي، فأن هذا الجزء قد تخلى عن حصته، وربما سيجد تمثيله بترشيحات لشخصيات قريبة من "سائرون" لعدد من الحقائب الوزارية غير المحسومة حتى الآن، وهي ثماني وزارات مهمة، بما فيها وزارة الثقافة، التي احتجت نقابة الفنانين بحق وصواب على اسم الشخص الذي كان ضمن قائمة حكومة عادل عبد المهدي، إذ رفض البرلمان ممارسة التصويت بشأنه وبشأن وزارات أخرى.             
من هنا أرى بأن مطلب التغيير للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته سيبقى قائماً ولا بد من النضال من أجل تحقيقه من خلال تنشيط الحركة المدنية الشعبية وتعزيز دور ونضال وتأثير وتعاون القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية وتعبئة المجتمع لهذا الغرض وممارسة الضغط لمحاربة الفساد والفاسدين وتقديمهم للمحاكمة، وحل التنظيمات المسلحة ومنع اقتناء وبقاء السلاح خارج القانون والسلطة التنفيذية، وحل الشد الشعبي المكون بالأساس من ميليشيات طائفية قائمة، وتنفيذ برنامج اقتصادي-اجتماعي-بيئي يؤمن عملية تنمية قادرة على تحقيق التغيير البنيوي في الاقتصاد العراقي وخطوة مهمة على طريق إزالة الطابع الريعي للاقتصاد العراقي بتنمية قطاعي الصناعة والزراعة عبر قطاعات الدولة والخاص والمختلط وتوفير عاجل للخدمات الأساسية وحل مشكلة الكهرباء والماء والسكن والنقل والعمل للعاطلين، إضافة إلى تأمين الخدمات الصحية والضمان الصحي ...الخ.
إن الأيام والأشهر القادمة ستظهر مدى قدرة الحكومة الجديدة على تنفيذ البرنامج التي وعدت بطرحه. ولكن يفترض ألَّا يُترك هذا الأمر لإرادة الحكومة وعملها، بل لا بد من النضال من أجل مصالح الشعب والوطن وإنقاذ البلاد من الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة ومن تأثير القوى الأجنبية في الشأن العراقي. 

185
الموضوع: شكوى ضد نوري كامل المالكي، رئيس وزراء العراق السابق 
السيد رئيس الادعاء العام في العراق المحترم 
السادة المحترمون
أدى نوري كامل المالكي حين تسلمه رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 20 أيار/مايو 2006 نص اليمين الدستوري التالي:
"اقسم بالله العلي العظيم أن اؤدي مهماتي ومسؤولياتي القانونية بتفانٍ واخلاص وان احافظ على استقلال العراق وسيادته، وأرعى مصالح شعبه واسهر على سلامة ارضه وسمائه ومياهه وثرواته ونظامه الديمقراطي الاتحادي وان اعمل على صيانة الحريات العامة والخاصة واستقلال القضاء والتزم بتطبيق التشريعات بأمانة وحياد، والله على ما اقول شهيد".
وأدى هذا اليمين للمرة الثانية بعد أن كُلف بولاية ثانية بتاريخ 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2010. كما أنه وبحكم الدستور العراقي لعام 2005 أصبح نوري المالكي القائد العام للقوات المسلحة العراقية.
إن متابعة عمل ونشاط رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة نوري كامل المالكي خلال الفترة الواقعة بين 2006 -2014 وما شهده العراق من أحداث جسام خلال هذه السنوات المذكورة، تؤكد لي بأن المومأ إليه لم يلتزم باليمين الدستوري الذي أداه وابتعد كلية عن الالتزام بالدستور العراقي لعام 2005 في جميع المجالات التي تعتبر ضمن صلاحياته وواجباته. فهم لم يعمل على حماية الشعب العراقي من المناهضين له والمتربصين بالشعب، ولم يدافع عن أرض الوطن، وتسبب أثناء وجوده على رأس السلطة بكوارث هائلة حلت بالشعب العراقي، كما وقعت مساحات واسعة من الأراضي العراقية ومدن كثيرة ومحافظات تحت احتلال وهيمنة قوات إرهابية مجرمة، عصابات داعش التكفيرية والدموية، وما اقترن بذلك من اجتياح ونزوح وسبي وتهجير واغتصاب للنساء العراقيات و بيع الآلاف من مواطناتنا من النساء الإيزيديات في سوق النخاسة، إضافة إلى تفاقم الصراع الطائفي الشيعي السني على مستوى الحكم والمليشيات الطائفية المسلحة والإرهاب والقتل على الهوية وموت واسع النطاق في سائر أرجاء البلاد وسيادة الفساد والتفريط بعشرات المليارات من الدولارات الأمريكية، وتفاقم الفقر والبطالة، وتوقف عملية التنمية في البلاد ونقص شديد جداً في الخدمات وبروز مشاريع وهمية كلفت خزينة الدولة عشرات المليارات من الدولارات الأمريكية ...الخ. في ضوء الوقائع المتوفر التي تشير إلى تجاوز رئيس الوزراء الكثير جداً من صلاحياته وانتهاكه الفظ للدستور العراقي واليمين الدستوري، أشارك السيد رحيم العكيلي والسيد كامل الحساني الشكوى المقدمة منهما إلى الادعاء العام العراقي للتحقيق في التهم الموجهة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي وتقديمه للمحاكمة في ضوء ما يتوصل إليه الادعاء العام من الواقع والحقائق الواردة في نص الشكوى المرفقة. 
مع خالص التقدير
الدكتور كاظم حبيب
24/10/2018     
نص شكوى السيد رحيم العكيلي، القاضي السابق، والمحامي كامل الحساني، ضد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي المقدمة إلى الادعاء العام في العراق طالباً محاكمته بناء على التهم الموجهة له:
السيد رئيس الادعاء العام في العراق المحترم ...   
                                                          م / شكوى 
طالب تحريك الشكوى :- المركز الوطني للبحوث والدراسات القانونية والقضائية / منظمة مجتمع مدني عراقية  - مسجلة وفقا للقانون / يمثلھا امينھا العام القاضي السابق رحيم حسن العكيلي ونائب الامين العام المحامي كامل الحساني . /العنوان :العراق  - بغداد – شارع حيفا . 
المتھم :- نوري كامل المالكي / رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة / السابق - نائب رئيس الجمھورية العراقي ./العنوان :العراق - بغداد المنطقة الدولية- شارع الدستور . 
جھة الشكوى : 
تولى المتھم ( نوري كامل المالكي ) منصب رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة في العراق بين عامي 2006 – 2014 وقد ارتكب خلال فترة حكمه عدد من الانتھاكات والجرائم الخطيرة ، وحيث ان منصب القائد العام للقوات المسلحة ھو منصب مدني طبقا لنص المادة ( 9 / اولا – أ ) من الدستور التي نصت : - ( تتكون القوات المسلحة والاجھزة الامنية من مكونات الشعب العراقي ... وتخضع لقيادة السلطة المدنية .. ) لذا فلا وجه قانوني للقول بان التھم المنسوبة للقائد العام للقوات المسلحة من اختصاص القضاء العسكري لانه منصب مدني ، وانما تختص محاكم قوى الامن الداخلي والمحاكم العسكرية بالجرائم التي يرتكبوھا العسكريون حصرا ، وحيث ان الدستور نص في المادة ( 93 / سادسا ) منه على ان تختص المحكمة الاتحادية العليا في : - ( الفصل في الاتھامات الموجھة الى رئيس الجمھورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء .. ) لذا فأن الادعاء بكون الجرائم المنسوبة الى المتھم بضمنھا الخيانة العظمى ھي من اختصاص القضاء العسكري ھو تنصل من السلطة القضائية لاداء مسؤلياتھا الدستورية ومحاولة للتخلى عن مواجھة قضايا الشعب . 
لذا نطلب اتخاذ الاجراءات القانونية وتحريك الدعاوى الجزائية ضد المتھم عن الجرائم الاتية : 
اولا :- جرائمه باعتباره كان يتولى منصب قائد عام للقوات المسلحة :- 
1- الخيانة العظمي :- في سقوط ثلث العراق بيد منظمة ارھابية ( داعش ) ، وتسببه في تسليح تلك المنظمة المجرمة باليات واسلحة الجيش العراقي المتطورة التي يقدر قيمتھا ( باكثر من خمسة عشر مليار دولار ) الذي تركھا الجيش خلفه حين تخليه عن الدفاع عن الارض في المحافظات المنكوبة وما نتج من قتل وجرح وتھجير وتشريد ملايين المواطنين وإنتھاك حقھم في الحياة وأعراضھم وأموالھم  وسبي النساء وبيعھن في اسواق النخاسة الداعشية  .
-2
-3
-4 -5
 مجزرة سبايكر : - حينما ورط الاف الشباب ( غير المدرب ) فعينھم لاغراض انتخابية منحرفة ، ودفع بھم الى معسكر في صلاح الدين وتركھم ھناك بلا تدريب ولا اسلحة يدافعون بھا عن انفسھم وبلا مبرر عسكري لوجودھم ھناك مما جعلھم صيد سھل لمنظمة ارھابية قتلتھم جميعا بابشع جريمة في تاريخ العراق الحديث . والدليل (الملف التحقيق الذي تتداولة المحكمة الجنائية المركزية في بغداد ) .
 ارتكابه مجازر كبرى ضد الشعب العراقي تعد جرائم ابادة وجرائم ضد الانسانية حينما قتل مئات من الاطفال والنساء والمتظاھرين كما فعل في الزركة والحويجة والفلوجة والرمادي . الادلة :- دعاوى تلك المذابح في مراكز الشرطة والطب العدل ودوائر الإدعاء العام بتلك المناطق بإفتراض إطلاع رئاستكم عليھا طبقا لقانون الإدعاء العام رقم 159 لسنة 1979) .
 ارتكابه المجزرة الكبرى في كربلاء ضد نصار السيد الحسني عام 2014 .(ملفات في مديرية شرطة كربلاء ومحاكم التحقيق والجنايات في كربلاء  . ) .
 تسببه في المأسي التي تعرضت لھا الاقليات (من مسيحيين وايزيدية ) وتقصره في حمايتھم وتھاونه في اغاثتھم وتوفير ادنى المتطلبات لھم .(ملفات مجلس النواب والمؤسسات المدنية والدينية الوطنية والدولية ) .
6-   نشر الفساد في المؤسسة العسكرية والامنية باختلاسات ممنھجة عن طريق الفضائيين وقبض العمولات عن عقود التسليح وتموين الجيش وقوى الامن الداخلي ، وبيع المناصب والرتب غير المستحقة ، واخذ الاتوات . 
الدليل(ملفات التحقيق المغلقة والمفتوحة داخل مكاتب المفتشين العموميين في وزارة الدفاع وفي وزارة الداخلية وھيئة النزاھة ) 
7-   تسليط البعثيين على قيادة المؤسسة العسكرية والامنية والقضائية وتسليط سيف الاجتثاث عليھم لضمان ولائھم وعدم خروجھم عن الطاعة من اجل تنفيذ اجنداته الخارجة عن القانون والدستور . والدليل (قوائم الإجتثاث والمستثنين من الاجتثاث من بالمؤسسات الأمنية بدون موافقة مجلس النواب ) خلاف قانون المسائلة والعدالة رقم 10 لسنة 2008 .
8-   الانفراد في تعيين القادة العسكريين دون ترشيح اسمائھم الى مجلس النواب للمصادقة عليھم طبقا لنص المادة ( 61/خامسا /ح  من الدستور ) لضمان ازاحة من يخرج عن طاعته منه في اي وقت يشاء .
9-   انشاءه مؤسسات امنية وعسكرية وقوات قذرة ليس لھا اساس لا في الدستور ولا في القانون من اجل السيطرة والتحكم والتفرد بالحكم وعسكرة المجتمع وتنفيذ الاجندات السياسية  مثل مكتب القائد العام للقوات المسلحة وجھاز مكافحة الارھاب والتي اھدر بھما مئات الملايين من الدولارات وساھمت مساھمة كبيرة في اضعاف الجيش ونشر الفساد فيه عن طريق اخذ الاتوات وبيع المناصب والرتب غير المستحقة ونشر فساد الفضائيين بشكل منظم ومنھجي ، كما أمعنت في خلق فوارق بين تشكيلات القوات المسلحة وجرى تحصين تجاوزاتھا  وخروقاتھا من المساءلة القانونية والقضائية  بأوامر مباشرة من المتھم
.(واقع المؤسسة إقرار الحكومة ومجلس النواب والتحالف الدولي بوجوب إعادة بناءھا بشكل مھني ووطني) 
10   - انحرافه ببناء الجيش بنھج طائفي واقصائي ، وتوريطه في المعارك السياسية واستخدامه ضد الشعب .والدليل وحدات الجيش التي إنتشرت داخل العاصمة بغداد وبقية المدن العراقية ومنھا من توجھت ضد إقليم كردستان العراق .. خلاف المادة ( 9 /أولا - أ ، والمادة 110/ ثانيا ) من الدستور التي حددت دور الجيش بالدفاع عن العراق وحماية الحدود العراقية من العدوان الخارجي وحظرت ان يكون اداة لقمع الشعب , ومنعته من التدخل في الشؤون السياسية  .
11   - ممارسة أعمال الطواريء دون تخويل من مجلس النواب  ، وادارة البلد بالازمات ، والتجاوز على الأملاك والطرق العامة والخاصة وقطع الطرق وتقييد حرية الأشخاص بالحركة وتفتيشھم اليومي ، وممارسة الاعتقالات العشوائية وانتھاكات حقوق الانسان ،خلافا للمادة (61/تاسعا) من الدستور التي نظمت احكام اعلان حالة الطوارئ .
12   - اعدام السجناء والموقوفين في السجون والمعتقلات حال وبعد احتلال داعش للموصل وصلاح الدين وديالى ، وتصغية السجناء والموقوفين طائفيا بترتيب كمائن بالشوارع العامة لقلتھم بعد اخراجھم من السجون بحجة نقلھم .(ملفات دعاوى مقتل السجناء المسجلين في سجلات وزارة العدل وإفتراض إطلاع رئاستكم عليھا طبقا لقانون الإدعاء العام ) .
13   - تنفيذ الاعتقالات العشوائية بلا اوامر قضائية في الكثير من المحافظات العراقية ، مثل حادثة الاعتقال الجماعي قبل القمة العربية في بغداد، واعتقال اكثر من ثلاثة الاف رجل في زيارة المتھم للموصل قبل احتلالھا وفق اقراره في احد لقاءاته التلفزيونية .
14   - ارتكاب جرائم الاختفاء القسري بشكل ممنھج على الاف من العراقيين من قبل جھات امنية مرتبطة به او مليشيات مدعومة منه
، وقتلھم والقاء جثثھم في الشوارع او الانھر ، او اخفائھم لفترات طويلة لحرمانھم من حماية القانون لھم مما يعد خرقا لاتفاقية الاختفاء القسري التي صادق عليھا العراق بموجب القانون  رقم 17 لسنة 2010 والتي تعتبر الاختفاء القسري الممنھج ضد الاشخاص جريمة ضد الانسانية(ملفات وقوائم محفوظة لدى تشكيلات السلطة القضائية ووزارة حقوق الإنسان ومفوضيتھا ) 
15   - إستخدام سلطاته في وقف الإجراءات القانونية أو رفض مباشرة القضاء بإتخاذ الإجراءات القانونية بحق القيادات المدنية والعسكرية المتھمة بالجرائم الجنائية ضد المدنيين ( ملفات المشمولين المحفوظة في وزارتي الدفاع والداخلية ومحاكم التحقيق والجنح والجنايات في العراق بإفتراض إطلاع رئاستكم عليھا طبقا لقانون الإدعاء العام ) .
16   - استخدامه القوات المسلحة عام 2012 لتھديد اقليم كوردستان - من اجل تحقيق مكاسب سياسية ضيقة  - في سابقة خطيرة مخالفة للدستور الذي منع تدخل القوات المسلحة في الشؤون السياسية طبقا لنص المادة ( 9 / اولا ) من الدستور والتي حصرت دور االقوات المسلحة في الدفاع عن العراق . ( ملف تشكيل قوات دجلة والتھديد بالمواجھة التي حصلت في تموز
 . (2012
 
ثانيا : - جرائمه كرئيس لمجلس الوزراء :- 
 
1-   خرقه استقلال القضاء وتدخله في شؤونه ، واستعماله في تصفية خصومه السياسيين ، وشراء المواقف السياسية
،ومنح صكوك البراءة للموالين له سياسيا من المجرمين والفاسدين (ملفات قضائية ضد محافظ البنك المركزي ووزير المواصلات السابق جرى تبرأتھم بعد خروج المشكو منه من الحكومة ،بينات شخصية ،إقرار رئيس مجلس القضاء أمام نائب رئيس الجمھورية الدكتور أياد علاوي وإعلان الأخير بالقنوات التلفزيونية وبينات تحريرية ،كل الأوامر والإعمامات والتوجيھات المحفوظة بملفات مجلس القضاء والأمانة العامة لمجلس الوزراء ) 
2-   نشر ممارسات التعذيب وانتزاع الاعترافات بالاكراه بشكل ممنھج  ووحشي خصوصا في الجھات الامنية المرتبطة بالمتھم وفق الثابت في تقارير منظمات دولية رصينة متاحة على الشبكة الدولية.
3-   فتح وادارة السجون السرية التي تجري فيھا اسوء وابشع انواع الانتھاكات في تاريخ العراق الحديث ، وفق الثابت في تقارير لمجلس النواب وتقارير منظمات دولية محترمة كمنظمة العفو الدولية وھيومن رايس ووج .
4-   تھريب السجناء والموقوفين من الارھابيين بالمئات من سجن ابي غريب وغيره ، والذين عادوا لاحتلال ثلث العراق خلال اشھر . .(دعاوى ھروب المحكومين المسجلين في سجلات وزارة العدل وإفتراض إطلاع رئاستكم عليھا طبقا لقانون الإدعاء العام .
5-   اطلاق سراح الارھابيين المحكومين من العرب بشمولھم بالعفو الخاص او بدونه كاالتونسين والليبين واردنين وسعوديين خلافا لنص المادة ( 73 / اولا ) التي منعت العفو الخاص في جرائم الارھاب نھائيا .
6-   ايقاف تنفيذ احكام الاعدام بعدد من الارھابين وتھريبھم خلال اشھر بعد ذلك . .(دعاوى ھروب المحكومين بالاعدام المسجلين في سجلات وزارة العدل وإفتراض إطلاع رئاستكم عليھا طبقا لقانون الإدعاء العام ) .
7-   ارھاب وقمع المتظاھرين السلميين في بغداد والبصرة ومحافظات اخرى عام 2011 باستخدام القوى الامنية والمروحيات
، وتصفية بعض الناشطين ( مثل ھادي المھدي ) وترتيب تھم ملفقة ضد اخرين كما في قضية اتھام الشباب الاربعة بتزوير بطاقات الاحوال المدنية .مللفات موجودة في وزارة الداخلية وقيادة قوات بغداد ومحاكم التحقيق في تلك المناطق’ بإفتراض إطلاع رئاستكم عليھا طبقا لقانون الإدعاء العام ) .
8-   تأسيس مليشيات خاصة به ودعمھا باموال الدولة واسلحتھا والياتھا ومنح اعضائھا ھويات الدولة لتنفيذ اجنداته غير المشروعة ، خلافا لاحكام الدستور في المادة ( 9 / اولا - ب ) التي حظرت بالقطع تشكيل المليشيات.(الملفات المعدة في دوائر الداخلية والأمن الوطني والمخابرات ) .
9-   تعطيله الدور الرقابي لمجلس النواب من خلال رفضه الحضور للاستجواب واصدار الاوامر للوزراء والقادة العسكريين بالامتناع عن الحضور الى المجلس (حسب المحاضر الرسمية المسجلة لمجلس النواب في دورته الثانية ).
10   - تستره على الجرائم الارھابية وملفات الفساد التي كان يعلن عن وجودھا لديه وانه منع تقدمھا للعدالة بحجة الحفاظ على العملية السياسية ، مما ادى الى اھدار المزيد من دماء الابرياء واموال الدولة ، مخالفا احكام القانون والدستور ، وكل ذلك بقصد استعمال تلك الملفات لاخضاع المعنيين وشراء المواقف السياسية .(قضية المجرم الدولي مشعان الجبوري وجملة من التصريحات الرسمية المتلفزة أوالمنشورة بوسائل الأعلام الرسمية وغير الرسمية يمكن تقديمھا حسب الطلب) .
11   - تزوير الانتخابات والتلاعب بارادة الناخبين من خلال شراء اصواتھم من خلال بتوزيع الھبات والدرجات الوظيفية والاراضي الوھمية كرشاوى انتخابية خلافا للتشريعات التي تنظم التصرفات التي تقع على الأموال العامة وتشريعات المفوضية المستقلة للإنتخابات  .(فحص شكاوى المرشحين والناخبين المحفوظة في مكاتب المفوضية بالمحافظات ومفاتحة المحافظات لحصر المنافع التي وزعت خلال الفترة الإنتخابية ) .
12   - استغلال اموال الدولة ومواردھا في دعايته الانتخابية ودعاية كتلته وانفاق مئات المليارات فيھا من اموال الشعب
.(مطالبة المشكو منه بكشف عن المبلغ الدعاية الإنتاخبية ومقارنتھا بكشف الذمة المالية الذي قدمه عام 2006) .
13   - التأمر مع مفوضية الإنتخابات لإستبعاد بعض بعض المرشحين والفازين (التحقيق بملفات المفوضية الخاصة بالمستبعدين من المرشحين والفائزين)
14   - توزيع الاف القطع من اراضي الدولة على الاقارب والموالين خارج الاطر والصلاحيات الدستورية القانونية التي أكدت على حرمة المال العام (مفاحتة الأمانة العامة لمجلس الوزراء / لتقديم كل البيانات عن الأراضي والعقارات التي وزعت بين الفترة من 2006 وحتى 2014)
15   - نھب عقارات ازلام النظام السابق المحجوزة لمصلحة الدولة بالتلاعب والتزوير وتسجيلھا باسماء الموالين والمقربين
(ملفات محفوظة بين الأمانة العامة لمجلس الوزراء ووزارة المالية /عقارات الدولة واالتسجيل العقاري وامانة بغداد إحدھا ملف تخصيص أرض تعود لأحد أفراد عائلة صدام وتخصيصھا الى رئيس مجلس القضاء الحالي ).
16   - التفريط بحقوق العراقيين البحرية والبرية والنھرية (كل الملفات الموجودة في الأمانة العامة ورئيس ھيئة المستشارية التابع الى رئيس مجلس الوزراء ، وزارة الخارجية , وزارة الموارد المائية , وزارة النقل والمتعلقة ببناء ميناء مبارك الكبير ، والإتفاقيات التواطئية لخور العمية ، والتخلي عن الدفاع عن حقوق العراق المائية مع الدول المتشاطئه والتفريط بھا ) . 
17   - رفضه تطبيق النظام الديمقراطي الإتحادي ومباشرته لعدد من الطعون ضد كل التشريعات التي أصدرھا ممثلي الشعب بقصد تعطيل النظام اللامركزي والنظام الاتحادي ومبادئ التداول السلمي من خلال استخدام سلطته على المحكمة الاتحادية لاصدار قرارات الغاء القوانين مثل قانون تحديد الولايات وقانون المحافظات وقانون مجلس القضاء وقانون الغاء وزارتي العمل والبلديات والاشغال العامة .(عشرات ملفات الدعاوى التي حسمتھا الإتحادية أو سحبت من المحكمة أو إنھا مازالت قيد النظر) .
18   - استغلال نفوذه في تمكين اقاربه واصھاره وابنه من مقدرات الدولة مما مكنھم من ابتزاز المقاولات وكبار موظفي الدولة من خلال التدخل في تعاقدات الوزارات وقبض مليارات الدولارات كعمولات ، واستغلال موارد الدولة وامكاناتھا لتحقيق مصالح خاصة ونھب عقاراتھا ، وممارسة سلطات وصلاحات امنية وعسكرية وادارية خارج اطار القانون والدستور .(ملفات وإجراءات وتسھيلات إدارية ومقابلات تلفزيونية مع المشكو منه إعترف علانية بدور ولده .كما يمكن للإدعاء العام مفاتحة القضاء اللبناني حول القضايا الجنائية المسجلة ضد ولده وبعض المقربين منه، والكثير من الوثائق التي نشرت في الاعلام ومواقع التواصل عن دور ابنه واقاربه في التدخل ادارة الدولة والتحكم بمفاصلھا  .
19   - سرقة نصف النفط المباع للاردن عن طريق ( 14 ) شركة مسجلة في لبنان و( 8 ) شركات مسجلة في الاردن تقوم بنقل النفط العراقي لبيعه للادرن وتسرق نصفه قبل وصوله للادرن وتقوم بغسل الاموال والشركات مسجلة باسم ابن المالكي او اشخاص مرتبطين بھم (مفاحة السلطات الأردنية واللبنانية للتأكد من أسماء وعمل الشركات المسجلة بإسم إبن المالكي وأقاربه )
20   - استغلاله وظيفته في اختلاس طائرة مھداة للدولة العراقية بتسجيلھا باسمه خلافا للقانون .(ملف الطائرة التي طلبت الأمانة العامة من وزارة النقل إعادتھا الى إصول الوزارة ) .
21   - التنصت على الاتصالات الھاتفية وفق ما اعلنه وزير الاتصالات محمد علاوي اكثر من مرة اخرھا يوم 25 / 4 / 2014 على قناة البغدادية  وھو مخالفة دستورية للمادة ( 40 ) من الدستور : - ( حرية الاتصالات والمراسلات والبريدية والبرقية والھاتفية والالكترونية وغيرھا مكفولة ولا ييجوز مراقبتھا او التصنت عليھا او الكشف عنھا .. ) .
22   - خرق استقلال الھيئات المستقلة ، واستخدام شخصيات ھزيلة محدودة القدرة ومنعدمة الكفاءة لادرتھا وكالة لضمان الولاء وعدم الخروج عن الطاعة ، مما اثر في ادائھا ومنعھا من اداء مھامھا خصوصا في مكافحة الفساد وحماية حرية التعبير والاعلام .(التعديلات والتغييرات التي أجراھا المشكو منه على قيادات ھذه التشكيلات بدون العودة الى مجلس النواب) .
23   - الاستحواذ على الھيئة العراقية لخدمات البث والارسال ( شبكة الاعلام  العراقي ) وتسخيرھا في خدمة نھجه الطائفي الدكتاتوري ، من اجل التفرد بالسلطة والتغطية على الانتھاكات والخروقات الكبرى للدستور والقوانين .(كل الأوامر والتوجيھات الصادرة من المشكو منه أو مكاتب الأمانة العامة وملفات مجلس النواب المتعلقة بالشبكة بعد أن  أمر المشكو منه بعزل شبكة الإعلام عن رقابة مجلس النواب خلاف النصوص الدستورية وأمر تشكيل الھيئة ) .
24   - تبنيه نھجا طائفيا اقصائيا ترك شرخا كبيرا في السلم الاجتماعي وروج للعنف من خلال نظريته عن احفاد الحسين ويزيد
.(تنطبق عليه المادة (2 /فقرة 4) من  قانون الإرھاب رقم 13 لسنة 2005).
25   - مصادرته لاستقلال الھيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة ، واستخدامه ملف الاجتثاث لتصفة خصومه واستثناء كبار البعثيين لاستعماله ضد الشعب وضد خصومه السياسيين بدون أخذ موافقة مجلس النواب حسب قانون المسائلة والعدالة . 
26   - ادارته الوظائف العليا في الدولة بالوكالة ( الوزارات الامنية – رؤساء الھيئات المستقلة – وكلاء الوزرارات - قيادات الجيش – الجھات غير المرتبطة بوزارز كامانة بغداد)  لمنع مجلس النواب من اداء دوره في المصادقة على تلك الوظائف ، وتمكينه من ازاحة من يخرج عن طاعته منه واستخدامه لشخصيات غير مؤھلة او فاسدة فيھا خلاف النص الدستوري . 
27   - استيلاءه على ھيئة الاعلام والاتصالات ومصادرته لاستقلالھا واستخدامھا في مصادرة  حرية الرأي والتعبير  وحرية الاعلام  ، من خلال غلق الفضائيات الناقدة لاداءه ونھجه الطائفي والدكتاتوري . 
28   - شراء الذمم و الفضائيات والاقلام الاعلامية الفاسدة باموال الدولة لدعم تفرده بالسلطة ونھجه الطائفي في ادارة الدولة 
.(مفاتحة مجلس الوزراء لحصر الأموال التي صرفت على وسائل الإعلام الرسمية التي سخرت لوسائل الإعلام الشخصية للمتھم وكتلته السياسية )
29   - تسببه في ضياع ما يزيد على ( 800 ) مليار دولار امريكي من اموال العراق دون ان يحقق بھا منجز واحد ، لا على المستوى الامني ولا الاقتصادي ولا الخدمي .(طلب كشف من وزارة المالية وكشف بالمشاريع التي إنجزت في 15 محافظة عراقية خلال فترة ترؤوسه لمجلس الوزراء .) .
30   - عجزه وفشله في ادارة الدولة التي سببت بعجز ھائل لمؤسسات الدولة ب تقديم الخدمات للمواطنين ،فلا كھرباء ولا ماء ولا امن ولا عدالة ولا صحة ولا تعليم ولا مجاري رغم تسليمه موازنات انفجارية سرق معظمھا ھو واتباعه والمحسوبين عليه(مطابقة بين البرنامج الحكومي الذي أقسم على تنفيذه في آخر ولاية له وواقع المؤسسات الأمنية والخدمية ) 
31   - انفاقه مئات المليارات من الدولارات خارج اطار الموازنة العامة للدولة ودون تخويل قانوني يمحنه ذلك مما ادى الى فلاس الخزينة العامة للدولة . (مراجعة ملف الموازنة التشغيلية لعام 2014 ) .
32   - تضييعه كل الفرص الاستثمارية لبناء واعمار العراق وطرده رؤوس الاموال الاستثمارية الاجنبية من خلال الإدارة الفاسدة في المؤسسات المعنية وتمكينه المقربين والموالين له من ابتزاز المستثمرين لمشاركتھم فـــي مشاريعھم او فرض اتوات عليھم .(الطلب من ھيئة الإستثمار الوطنية لحصر اسماء المستثمرين ونتائج إستثماراتھم ،والبحث بصحة العملية الإستثمارية بمشروع بسماية السكني  وفقا لقانون الإستثمار النافذ ) 
33   - تبني سياسة تعطيل العمل الرقابي على اعمال السلطة التنفيذية بحجة تعطيلھا لجھود الاعمار والبناء من خلال ضرب المنظومة الرقابية ، وتسريح معظم المفتشين العموميين ذوي الخبرة والكفاءة ، وتعويم ھيئة النزاھة واستخدامھا لاستھداف الخصوم السياسيين ومنح صكوك البراءة للموالين من الفاسدين ، مع ضمان عدم فتحھا لمفات الفساد لمكتبه والتابعين له واقاربه واصھاره وابنه . (مراجعة جميع الملفات التي اغلقتھا ھيئة النزاھة بين عامي 2011 – 2014 والبحث في اسباب الغاء الخطوط الساخنة فيھا ، والاستعانة بملفات مكاتب المفتشين العموميين في الوزارات العراقية )
 
34   - انتھاكه الاتفاقيات الدولية وتعھدات العراق امام الامم المتحدة والمجتمع الدولي حين استھدافه بالقتل والتشريد اللاجئين في العراق من مجاھدي خلق وقتل العديد منھم .(ملف مجاھدي خلق الموجود في مكتب القائد العام للقوات المسلحة السابق وجھاز الأمن الوطني والمخابرات ووزارة الدفاع وإفتراض إطلاع رئاسة الإدعاء العام ،كما أن ھناك عدد من الدعاوى الجنائية الدولية التي تتداولھا محاكم إوربية وأمريكية يمكن تزويد رئاستكم بنسخ من ھذه الدعاوى ) .
 
35   - تعطيله تنفيذ التعداد العام للسكان خلافا للقانون والدستور .(بدليل قرار محكمة الإتحادية رقم 69 لسنة 2009التي إعتبرته مخالف للقانون وإصراره على عدم تنفيذه للقانون ورفضه  تنفيذ قرار المحكمة ) .
 
36   - استغلال منصبه في منع تطبيق احكام الدستور وقانون تشكيل الاقاليم حينما منع تحقيق مطالب المحافظات الغربية ومحافظة صلاح الدين والبصرة بتشكيل اقاليم في محافظتھم خلاف الدستور والقوانين .(ملفات طلبات الأقليم المحفوظة في وزارة الدولة لشؤون المحافظات ومكتب الأمانة العامة لمجلس الوزراء ) .
 
37   - تعاونه وتواطئه مع رئيس مجلس القضاء ورئيس المحكمة الإتحادية العليا بتعطيله المتعمد للتشريعات التي تصحح وضع وتشكيلات السلطة القضائية وفقا للمتطلبات الدستورية من خلال مخاطبات مكاتب المتھم الى مجلس النواب لسحب مشاريع القوانين التي تخص قانون مجلس القضاء والمحكمة الإتحادية العليا بينما مرر كل التعديلات المناصبية والوظيفية التي أرادھا رئيس المحكمة الإتحادية لبعض العناصر القضائية ومنھا مشاريع قانون التمديدات وتعديل التمديد لأعضاء محكمة التمييز . 
 
38   - الحنث باليمين الدستورية :- اذ اقسم وفقا لنص المادة ( 50 ) من الدستور بان يحافظ على استقلال العراق وسيادته ويرعى مصالحه ويسھر على سلامة ارضه وسمائه ومياھه وثرواته وان يعمل على صيانة الحريات واستقلال القضاء وان يلتزم بتطبيق التشريعات بامانة ، وقد حنث بكل فقرة من فقرات اليمين وفق ما يأتي :- 
1-   حنث بقسمه في الحفاظ على سيادة العراق واستقلاله وسلامة اراضيه حينما احتلت منظمة ارھابية ثلث ارضه .
2-   حنث بقسمه في الحفاظ على ثروات العراق حينما اھدر ( 800 ) مليار دولار بلا ثمرة حقيقة .
3-   حنث بقسمه في العمل باستقلال القضاء حينما تدخل في شؤونه واستعمله للتآمر وصنع الملفات السوداء للخصوم السياسيين ، ومنح صكوك البراءة للموالين والارھابيين والفاسدين ، كما استعمله لحرف احكام الدستور وھدم مبادئه الاساسية .
 
39   - خرق الدستور وتعطل احكامه :- اضافة الى الخروقات التي ذكرناھا في الجرائم اعلاه ، فأن المتھم ارتكب الخروقات الدستورية الاضافية الاتية:- 
 
اولا : - عدم وضع نظام داخلي لمجلس الوزراء تعطيلا لنص المادة ( 85 ) : - ( يضع مجلس الوزراء نظاما داخليا لتنظيم سير العمل فيه )   ثانيا : - تعطيل الدور التشريعي لمجلس النواب واجھاض دوره الرقابي :- من خلال الاصرار على ان  مجلس النواب لا يمكنه اصدار القوانين الا بمشروع قانون يرده من السلطة التنفيذية حصرا ، وانه عاجز عن اجراء اي تعديل في مشاريع القوانين الا بموافقة الجھة التنفيذية، والطعن بكل قانون لا يعجبه امام محكمة - اخضعھا لارادته بالتخويف والترھيب والعطايا والامتيازات - لالغاء تلك القوانين متى شاء  . ومن خلال منع اي تنفيذي من الذھاب الى مجلس النواب الا باذن منه ، ورفض ذھاب وزراء مطلوب استجوابھم عن مخالفات وفساد منھم وزير الشباب والرياضة ووزير التعليم العالي والقادة الامنيين وغيرھم .  المادة  ( 61 / سابعا – ج ) من الدستور . 
 
ثالثا : - عدم اعداد مشاريع القوانين التي يتطلبھا الدستور البالغة ( 58 ) قانون رغم اصراره على منع مجلس النواب من التشريع الا بمشروع منه ، مما عطل اغلب نصوص الدستور لعدم وجود قوانين تنظمھا منھا قانون محاكمة رئيس الجمھورية ورئيس الوزراء والوزراء وقانون العنف الاسري وقانون مجلس الاتحاد وقانون ھيئة ضمان حقوق الاقاليم والمحافظات وقانون ھيئة مراقبة تخصيص الواردات الاتحادية .وقانون العاصمة بغداد وغيرھا . وتعطيل تنفيذ القوانين النافذة :- اذ عطل المالكي العديد من القوانين رغم انه انما عين في منصبه لتنفيذ القوانين واھمھا قانون الخدمة العامة وقانون التعريفة الكمركية وقانون رواتب مجلس الوزراء وقانون التقاعد الموحد الصادر عام 2006 . 
رابعا: تورطه بالتدخل في الشؤون الإدارية والمالية للسلطة القضائية التي نص الدستور على إستقلالھا المالي المرتبط بمجلس النواب  (موازنات وملاكات وتوظيفات السلطة القضائية التي يجري ترتيبھا بين الدائرة الإدارية والمالية لمجلس القضاء والأمانة العامة لمجلس الوزراء )   
رابعا :- انشاء سجون سرية وايداع الموقوفين فيھا :- كسجن الشرف وغيره من عشرات السجون في وزارة الداخلية والالوية والثكنات العسكرية خلافا للمادة ( 19 / ثاني عشر – ب ) من الدستور : - ( لا يجوز الحبس او التوقيف في غير الاماكن المختصة ... ) .و انتشار التعذيب المنھجي للموقوفين من اجل انتزاع اعترافات منھم او انتقاما لاسباب طائفية او سلطوية : - خلافا لنص المادة ( 37 / اولا – ج ) :- ( يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية .... ) .وتفتيش المنازل بلا اذن قرار قضائي : - وھي ممارسة اتبعتھا القوات الامنية بطريقة مخالفة للدستور باوامر مباشرة من المالكي حتى داخل المنطقة الخضراء ، خلافا لنص المادة ( 17 / ثانيا ) :- ( حرمة المساكن مصونة ولا يجوز دخولھا او تفتيشھا او التعرض لھا الا بقرار قضائي ووفقا للقانون ) .ولاعتقالات التعسفية بلا قرارات قضائية خلافا للمادة ( 37 / اولا – ب ) من الدستور :- (  لا يجوز توقيف احد او التحقيق معه الا بموجب قرار قضائي ) . 
 
خامسا :- تقييد الحق بالتظاھر السلمي وقمع المتظاھرين ومصادرة حرية الاعلام  خلافا لنص المادة ( 38 / ثانيا ) :- ( تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والاداب : - ... ثانيا : - حرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر.  ثالثا :- حرية الاجتماع والتظاھر السلمي وتنظم بقانون) . 
 
سادسا : - عدم تقديم الحساب الختامي لمجلس النواب خلافا لنص المادة  (62 ) من الدستور :- ( اولا :- يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة والحساب الختامي الى مجلس النواب لاقراره . ) . 
 
سابعا : - التدخل في البنك المركزي وابعاد رئيسه  ، خلافا للمادة ( 103 ) من الدستور . 
 
ثامنا : - عدم احترام التوازن في القوات المسلحة بين مكونات الشعب العراقي :- خلافا لنص المادة ( 9 / اولا – أ ) :- ( تتكون القوات المسلحة والاجھزة الامنية من مكونات الشعب العراقي بما يراعي توازنھا وتماثلھا دون تمييز او اقصاء ... ) . 
 
تاسعا : - منع المحافظات من ممارسات صلاحياتھا الدستورية على مبدأ اللامركزية الادارية ، والاصرار على ادوات الحكم المركزي خلافا لنص  ( 122 / ثانيا ) من الدستور : - ( تمنح المحافظات التي لم تنتظم في اقليم الصلاحيات الادارية الواسعة بما يمكنھا من ادارة شؤونھا على وفق مبدأ اللامركزية الادارية ... ) . 
 
عاشرا:- عدم تنفيذ خطوات التطبيع والاحصاء والاستفتاء في كركوك والمناطق المتنازع عليھا ، طبقا لنص المادة ( 140 ) من الدستور التي نصت : - اولا :- تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة ( 58 ) من قانون ادارة الدولة ... ثانيا :- .. على ان تنجز كاملة ( التطبيع ، الاحصاء ، وتنتھي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليھا لتحديد ارادة مواطنيھا ) في مدة اقصاھا الحادي والثلاثين من كانون الاول سنة الفين وسبعة ) ، ولم ينجز المالكي اي شئ لحل تلك القنبلة التي قد تنفجز لتشعل العراق باكملــــــه رغم التكليف الدستوري الوجوبي الصريح .
وحيث ان كل ما تقدم ھي افعال تشكل اخطر الجرائم والانتھاكات التي ارتكبت ضد النظام الدستوري والقانوني العراقي الوليد بعد عام 2003 وھي من ابشع صور انتھاكات حقوق الانسان والفساد واستغلال النفوذ والمنصب ، لذا نطلب من رئاستكم القيام بواجباتھا القانونية
 - وفقا لنص المادة ( 2 / اولا ) من قانون الادعاء العام رقم 159 لسنة 1979 المعدل – بعتبار في  تحريك الشكاوى الجزائية ضد المتھم نوري كامل المالكي عن الجرائم اعلاه . وطلب اتخاذ الاجراءات القانونية بحقه وبحق من تورط في ارتكابھا معه او ساعده عليھا أو ساھم بھا، وطلب اصدار الامر بمنع سفرھم ، والقبض عليھم جميعا وايداعھم التوقيف حالا .   
                                                                     ولكم وافر التقدير والإحترام..   
 
  المحامي كامل الحساني                                                         القاضي السابق رحيم حسن العكيلي               نائب الامين العام                                           الامين العام للمركز الوطني للبحوث والدراسات القانونية والقضائية   




186

برجى الإنتباه بان الحفل التأبيني سيكون مساء يوم السبت المصادف 27/10/2018 وعلى الساعة السادسة مساءً إ إذ ذكر خطأ يوم الجمعة المصادف 27/10/2018
للعلم مع الاعتذار للخطأ
كاظم حبيب


187
أدعو الجميع من ذوي الضمائر الحية إلى المشاركة في حملة جمع التواقيع وإيصال النداء إلى المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية وإلى المجتمع الدولي والرأي العام العالمي والإعلام وتحويلها إلى حملة جماهيرية على صعيد واسع، علماً بأن النداء المنشور في موقع الحوار المتمدن لأغراض التوقيع قد ترجم إلى ثلاث لغات هي الكردية والإنكليزية والألمانية وسينشر بهذه اللغات وستنظم وفود لهذا الغرض كما شكلت لجنة من سبعة مناضلين للقيام بهذه المهمة ومنسقها العام هو الأستاذ الدكتور تيسير الآلوسي.  كاظم حبيب
رابط الحملة: http://ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=1033

نداء ملح وعاجل
إلى جميع منظمات المجتمع المدني العراقية والعالمية
إلى منظمات حقوق الإنسان في كل مكان

عاش العراق، ولا يزال، أوضاعاً مريرة، عانى فيها من الكوارث والمآسي على امتداد أكثر من نصف قرن، من الاستبداد والحروب والحصار ومصادرة كاملة لحقوق الإنسان، بما فيها الحق في حماية الكرامة والحق في الحياة والعمل، عانى من العنصرية والشوفينية وضيق الأفق القومي والتمييز الديني والطائفي والفكري والسياسي وضد المرأة، عانى من النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية المذلة، وعرف القتل الجماعي والتفجيرات الانتحارية والاغتيالات الفردية والاختطاف، عرف الاجتياح والنزوح والتهجير القسريين والسبي والاغتصاب للنساء والأطفال وبيع النساء والأطفال في سوق النخاسة، عرف التكفير وقتل غير المسلم والمسلم تحت هذا العنوان، عرف القتل على الهوية الفرعية والاسم، عرف الموت تحت التعذيب بأساليب القرون الوسطى والحديثة، شهد ولا يزال نهب موارد البلاد والمال العام بعشرات المليارات من الدولارات الأمريكية، وكذلك السلب والتدمير المنظم لتراث العراق الإنساني أو تهريبه، وعرف تشويه الوعي وتزوير الإرادة وتغييب المصالح اليومية الإنسانية الأساسية للفرد والمجتمع، عرف زرع الألغام في أغلب المناطق الحدودية والتي ما تزال تقتل بنات وأبناء الفلاحين، عرف التدخل الفظ من قبل دول الجوار والدول الكبرى في الشؤون الداخلية لدولة عراقية هشة، عرف هذا وغيره ولا يزال يعاني من كل ذلك وعواقب ذلك.
لهذه الأسباب كلها وغيرها، ولاسيما عواقب الاجتياح الداعشي والإبادة الجماعية واغتصاب النساء الإيزيديات على نحو خاص، مُنحت المناضلة المقدامة والشجاعة نادية مراد، رمزاً وتكريماً لكل النساء المغتصبات وكل نساء وشعب العراق، جائزة نوبل للسلام لعام 2018. إلا إن هذه الجائزة الكبرى والعالمية التي منحت لنادية مراد من منظمة مجتمع مدني هي الأكاديمية السويدية هي بمثابة نداء إنساني موجه إلى جميع منظمات المجتمع المدني في العراق والعالم والرأي العام العالمي والمجتمع الدولي للتحرك صوب العراق والفئات الحاكمة في العراق والمجتمع العراقي ومطالبتهم بتحقيق عاجل وملح لخمسة أهداف مركزية، إذ بدونها سيبقى العراق عرضة لكل ما حل به ولا يزال مستمراً حتى الآن بصور شتى:
أولاً: المطالبة بالالتزام بمبادئ وشرعة حقوق الإنسان والتي من ضمنها الكف عن ممارسة سياسات المحاصصة الطائفية، لأنها تعتبر تمييزا صارخاً وظالماً بين البشر يقوم على أسس عرقية ودينية وطائفية مقيتة ومرفوضة من جانب الأمم المتحدة ومبادئ ومنظمات حقوق الإنسان.
ثانياً: المطالبة بتقديم كل المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت بالعراق على امتداد السنوات الـ 15 المنصرمة إلى القضاء العراقي وبعضها إلى محكمة العدل الدولية بسبب طبيعتها الإجرامية الدولية والإبادة الجماعية. وهذا يشمل كل المسؤولين الذين مارسوا السياسات الطائفية وتجاوزوا على حقوق الإنسان ومارسوا الفساد وسهلوا الاجتياح والقتل الجماعي وسبي واغتصاب آلاف النساء الإيزيديات والتهجير لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق من جهة، والقوى التي مارست ذلك من تنظيم داعش الإجرامي ومن ساعده في فعل ذلك من جهة ثانية. كما يتطلب ذلك نزع سلاح جميع المليشيات الطائفية المسلحة وحل الحشد الشعبي ووضع الأسلحة والعتاد بيد الدولة وقواتها المسلحة الرسمية.
ثالثاً: المطالبة بتأمين الحقوق المدنية وحقوق الإنسان في العراق، وكذلك حقوق المرأة ومساواتها بالرجل وحقوق الطفل.
رابعاً: توفير الخدمات الأساسية للمواطنات والمواطنين الذين لا يعانون من نقصها فحسب، بل ومن تنامي الفقر والحرمان، ولاسيما الأرامل واليتامى من الأطفال والعاطلين عن العمل والمشردين والمعوقين، بسبب سياسات الاستبداد والحروب والفساد والإرهاب والطائفية، ضمن برنامج آني ومتوسط المدى للتنمية الاقتصادية والبشرية ووضع موارد النفط في خدمة الاقتصاد والمجتمع والبيئة في العراق.
خامساً: دعم جهود الشعب العراقي لوقف التدخل في الشؤون الداخلية للعراق من جانب دول الجوار والدول الكبرى وحماية استقلال قراراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. 
نحن الموقعين أدناه ندعو جميع منظمات المجتمع المدني ذات الأهداف الإنسانية والمخلصة لمبادئها إلى التكاتف والتعاون والتنسيق لتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه لصالح الشعب العراقي والتي تقع ضمن صلاحياتها وواجباتها الإنسانية المباشرة، باعتبارها منظمات مجتمع مدني، ومنظمات حقوق الإنسان، التي تدافع عن الإنسان وحريته وكرامته وحياته ومستقبله، إذ أن تحقيق هذه الأهداف ستكون جائزة نوبل للسلام، التي منحت للسيدة الفاضلة نادية مراد، ذات معنى حقيقي وقيمة إنسانية كبيرة لها ولنساء وشعب العراق!!!
بانگەوازێکی پێویست وبە پەلە
بۆ تەواوی رێکخراوەکانی کۆمەڵگای مەدەنی عێراقی وجیهانی
بۆ رێکخراوەکانی مافی مرۆڤ لە هەر شوێنێك بن.....
بەردەوام و ئێستاشی لەگەڵدا بێت عێراق لە بارودۆخێکی تاڵدایە، بە درێژایی نیو سەدەیە بە دەست بەڵا وکارەستدا دەناڵێنێت، لە زوڵم وجەنگ وگەماڕۆ وزەوتکردنی تەواوی مافەکانی مرۆڤ لەگەل نەبوونی مافی پارێزگاری لە کەرامەت ومافی ژیان وکارکردن، هەروەها بە دەست دەمارگیری وشۆڤێنیەت وبەرتەسکردنەوەی ئاسۆی نەتەوایەتی وجیاکاری ئایینی وتایفی وفکری وسیاسی ودژایەتیکردنی ئافرەت دەناڵێنێت، هەروەها لە دەست سستەمی سیاسی تائیفی وپشکپشکێنەی داڕزاو، هەروەها ناسینی کوشتنی بە کۆمەڵ وتەقینەوەی خۆکوژی وپاکتاوکردن ورفاندنی کەسەکان ودەستبەسەرداگرتن ودەربەدەری وئاوارەیی بە زۆر و بە کەنیزەك کردن ودەستدریژی بۆ سەر ئافرەت ومنداڵ وفرۆشتنی ئافرەت ومنداڵ لە بازاڕی کۆیلەکان، هەروەها تەکفیرکردن وکوشتنی موسڵمان ونا موسڵمان لەژێر ئەم ناونیشانەدا ناسی، هەروەها ناسینی کوشتن لە سەر ناسنامە وناو، هەروەها ناسینی مردن لە ژێر ئەشکەنجە بە شێوازەکانی سەدەکانی ناوەڕاست وبە شێوازی نوێ، ئێستاشی لەگەڵدابێت بە تاڵانکردنی سەرچاوەکانی ولات وسامانی گشتی بە دەیان ملیار دۆلاری ئەمریکی بە خۆیەوە بینیوە ودەبینێت، هەروەها بە تاڵانبردن ووێرانکردنی رێکخراو بۆ کولتوری مرۆیی عێراقی وبەقاچاغبردنی، هەروەها ناسینی شێواندنی هزر وتەزویرکردنی ئیرادە ونەهێشتنی بەرژەوەندیە مرۆیی وبنەڕەتیەکانی رۆژانەی تاک وکۆمەڵگا، هەروەها ناسینی چاندنی مین لە زۆربەی ناوچە سنووریەکان کە ئێستاشی لەگەڵدابێت کچ وکوڕی جوتیارەکان دەکوژێت، هەروەها ناسینی تەدەخولێکی لە رادەبەدەر لە لایەن وڵاتانی دراوسێ ووڵاتە زلهێزەکان لە کاروباری ناوخۆیی عێراقێکی فشەڵ، ئەمانە وجگە لەمانەشی ناسی وئێستاشی لەگەڵدابێت بە دەست هەموو ئەمانە وئاکامەکانی دەناڵێنێت.
لەبەر هەموو ئەم هۆکارانە وجگە لەمانەش، بە تایبەتیش دەستدرێژی داعش وپاکتاوکردنی بە کۆمەڵ ودەستدڕیژی کردنە سەر ئافرەتانی یەزیدی بە شێوەیەکی تایبەت خەڵاتی نۆبلی ئاشتی بەخشرا بە تێکۆشەر وئازا وبوێر نادیە موراد وەکو رێزو رەمزێک بۆ هەموو ئەو ئافرەتانەی دەستدرێژیان کراوەتە سەر وهەموو ئافرەتان وگەلی عێراق.
بەڵام ئەم خەڵاتە گەورە وجیهانییە کە بەخشراوە بە نادیە موراد لە رێکخراوێکی کۆمەڵگای مەدەنی کە رێکخراوێکی ئەکادیمی سوێدیە بانگەوازێکی مرۆییە وئاراستەی هەموو رێکخراوەکانی کۆمەڵگای مەدەنی لە عێراق ورای گشتی جیهانی وکۆمەڵگای نێودەوڵەتی کراوە بۆ کەوتنە خۆ دەربارەی عێراق وئەو توێژەی دەسڵاتدارە لە عێراق وکۆمەڵگای عێراقی وهەروەها داوا لێکردنیان بۆ بەدیهێنانێکی بە پەلە بۆ پێنج ئامانجی سەرەکی کە بە بێ بەدیهێنانی ئەم ئامانجانە عێراق بە قوربانیی ئەوەی بەسەری هاتووە دەمینێتەوە وکە تاوەکو ئێستاش بە شێوازی جیاواز هەر بەردەوامی هەیە:
یەکەم: داوای پابەندبوون بە بنەماکانی مافی مرۆڤ ولەناویاندا دەستهەڵگرتن لە پەیرەوکردنی سیاسەتی پشکپشکێنەی تائیفی لەبەر ئەوەی بە جیاکاریێکی رون وزاڵمانە دادەندرێت لەنێوان مرۆڤەکان لەسەر بنەمای رەگەزی وئایینی و تائیفی ناپەسەند ورەتکراوە لەلایەن نەتەوە یەکگرتووەکان وبنەماکانی رێکخراوەکانی مافی مرۆڤ.
دووەم: داواکردن بە رووبەرووکردنەوەی هەموو بەرپرسان لەو تاوانانەی ئەنجام دراون لە عێراق بە درێژایی ١٥ ساڵی رابردوو بۆ دادوەری عێراقی وهەندێکیشیان بۆ دادگای دادی نێودەوڵەتی  بە هۆی سروشتە تاوانکاریە نێودەوڵەتیەکەی ولە ناوبردنی بە کۆمەڵ. هەروەها ئەمە هەموو بەرپرسەکان دەگرێتەوە ئەوانەی پەیڕەوی سیاسەتی تائیفیان کردووە ودەستدرێژیان کردوەتە سەر مافەکانی مرۆڤ وگەندەڵیان کردووە وئاسانکاریان کردووە بۆ هەڵکوتانە سەر وکوشتنی بە کۆمەڵ وکۆیلەکردنی ئافرەت ودەستدرێژیکردنە سەر هەزاران ئافرەتی ئێزیدی وئاوارەبوونی شوێنکەوتوانی ئایین وئاینزاکانی تر لە عێراق لە لایەک وئەو هێزانەی ئەمەیان ئەنجامداوە لە رێکخراوی داعشی دڕندە وئەوانەی هاوکاریان کردوون لە لایەکی تر.
هەروەکو ئەمە ئەوە دەخوازێت کە هەموو میلیشیا تائیفیەکان لە چەک دابماڵدرێن وحەشدی شەعبی هەڵبوەشێندرێتەوە وچەک وتەقەمەنی بدرێتەوە دەستی دەوڵەت وهێزە چەکدارە فەرمیەکەی.
سێیەم: داوای دابینکردنی مافە مەدەنی ومرۆییەکان بکرێت لە عێراق، بە هەمان شێوە مافی ئافرەت ویەکسانکردنی لەگەڵ پیاو وهەروەها مافی منداڵ.
چوارەم: فەراهەمکردنی خزمەتگوزارییە بنەڕەتیەکان بۆ هاوڵاتیانی ژن وپیاو ئەوانەی کە تەنها بە دەست کەمییەکەیەوە نانالێنن بەلکو بە دەست بێبەشکردن وهەژارییەوە بە تایبەتیش بێوەژن وهەتیوەکان لەمنداڵان وبێکارەکان وبێ ماڵ وحالەکان وپەککەوتووەکان، بە هۆکاری سیاسەتی زوڵم وجەنگەکان وگەندەڵی وتیرۆر وتائیفییەت، لە میانەی پرۆگرامێکی هەنووکەیی وناوەند مەودا بۆ گەشەپێدانی ئابوری ومرۆیی ودانانی سەرچاوەکانی نەوت لە خزمەتی ئابوری وکۆمەڵگا وژینگە لە عیراق.
پێنجەم: پاڵپشتی هەوڵەکانی گەلی عێراق بۆ وەستاندنی تەدەخول کردن لە کاروباری ناوخۆیی عێراق لە لایەن وڵاتانی دراوسێ وزلهێزەکان وپارێزگاریکردن لە سەربەخۆیی بڕیارە سیاسی وئابوری وکۆمەڵایەتی وژینگەییەکانی.
ئێمە کە واژوومان کردووە لە ژێرەوە داوا لە گشت رێکخراوەکانی کۆمەڵگای مەدەنی خاوەن ئامانجی مرۆیی ودڵسۆز بۆ بنەماکانی دەکەین بۆ هاتنە پاڵ وهاوکاری وهەماهەنگی بۆ بەدیهێنانی ئامانجە ئاماژەپێکراوەکانی سەرەوە بۆ بەرژەوەندی گەلی عیراق وئەوەی بە شێوەیەکی راستەوخۆ دەکەوێتە چوارچێوەی دەسەڵات وئەرکە مرۆییەکانی ، بەو پێیەی کە رێکوپێکە.

09/10/2018
الموقعون رابط حملة جمع التواقيع
http://ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=1033


188
كاظم حبيب
ماذا يعني منح نادية مراد جائزة نوبل للسلام؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟
من حق الشعب العراقي، ولاسيما نسوة العراق، وبالأخص النسوة الإيزيديات، ممثلات عن كل النساء اللواتي تعرضن للاضطهاد والاختطاف والأسر والاغتصاب والقتل والتشريد والنزوح الجماعي والتهجير القسريين، أن يهلل لمنح جائزة السلام للمرأة المقدامة، لنادية مراد، رمز النضال ضد الحرب والعدوان والقتل والاغتصاب للنساء لا في العراق فحسب، بل وفي جميع أنحاء العالم. ولكن من حق الشعب العراقي، ولاسيما نسوة العراق، وبالأخص الإيزيديات ومن تعرض من النسوة الأخريات إلى كل العذابات في العراق، أن يحزنَّ لأن منح هذه الجائزة جاء لا بسبب اكتشافات واختراعات وانجازات علمية وثقافية وبيئية ... لصالح البشرية جمعاء، كما هو حال غالبية جوائز نوبل للسلام التي تمنح سنوياً، بل لأن العراق وشعبه ونساءه، ولاسيما نساء نينوى الإيزيديات والمسيحيات والشبك والتركمان، قد تعرضن لأسوأ الكوارث والمآسي، لأسوأ وأول إبادة جماعية فعلية وقعت في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، لأن أكثر من 5000 امرأة إيزيدية تم أسرهن واغتصابهن و بيعهن في "سوق النخاسة الإسلامي" من أبشع تنظيم إسلامي سياسي تكفيري وعدواني ووحشي، تنظيم داعش. ومنح هذه الجائزة يراد منه تأكيد ثلاث مسائل جوهرية آمل أن لا تغيب عن بال كل العراقيات والعراقيين، بل كل نساء ورجال العالم:
1.   الأهمية البالغة لرفض الحروب والاستبداد والعنف والتمييز وما يقترن بها من قتل ودمار واغتصاب للنساء وتشويه للطفولة والحياة اليومية للإنسان.
2.   الأهمية البالغة للكفاح ضد التمييز الذي تعاني منه المرأة في جميع بقاع العالم، ولاسيما في الدول ذات الأكثرية المسلمة، وما يؤكد الموقف غير السليم للشريعة والفكر الديني الإسلامي من المرأة المسلمة وغير المسلمة وعواقب ذلك على المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة.     
3.   الأهمية البالغة لمعاقبة كل الذين يمارسون اغتصاب النساء، كما لا يجوز بأي حال إعفاء مجرمي الاغتصاب بسبب مرور زمن محدد من جهة، ومحاسبة ومعاقبة النظم السياسية والشخصيات التي قادت سياساتها إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم، ومنها الاغتصاب وضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية من جهة أخرى.
إن منح جائزة نوبل للسلام لعام 2018 للسيدة المناضلة نادية مراد من جانب الأكاديمية السويدية تعني دون أدنى ريب بأن على الشعب العراقي أن يطالب دون هوادة وبإصرار مستمر ثلاث مسائل أساسية:
1.   النضال الدؤوب ضد كل العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي قادت إلى وقوع تلك الجرائم البشعة في العراق عموماً وضد النساء خصوصاً، ولاسيما اغتصاب النساء الإيزيديات وغيرهن. وهذا يعني النضال ضد السياسات الطائفية والأثنية والتمييز الديني والمذهبي والتمييز ضد المرأة بكل أشكاله وصور ظهوره وممارسته. وهذا يتطلب أيضاً فصل الدين عن الدولة وإقامة دولة ديمقراطية علمانية.
2.   النضال دون هوادة وملاحقة مستمر لتقديم كل المسؤولين العراقيين الذين كانوا سبباً وراء اجتياح الموصل ونينوى من جانب تنظيم داعش المتوحش ووقوع جرائم الإبادة الجماعية، وبضمنها جرائم الاغتصاب ضد النساء وتشويه الطفولة البريئة والقتل والتشريد والتدمير ...الخ، إلى القضاء العراقي ومحاكمتهم وتأمين العدالة وإنزال العقاب بمن يستحق منهم ذلك.
3.   ملاحقة كل القتلة والمجرمين الذين مارسوا سياسة الإبادة الجماعية في الموصل ونينوى من قوى الظلام والجريمة، من تنظيم داعش الإرهابي ومن تعاون معه وساعده في ارتكاب جرائمه.
إن منح الجائزة بطبيعتها المعنوية غير كاف، بل يفترض أن يجد تعبيره في معاقبة المجرمين وفي توفير الأرضية الصالحة لعدم تكرار وقوع مثل هذه الجرائم البشعة في العراق، لاسيما وأن العوامل التي قادت إل كل ذلك لا تزال قائمة، كما إن الشخوص الذي تسببوا في وقوع تلك الجرائم لا زالوا  على رأس الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة وفي السلطة أيضاً.
     

   

189
كاظم حبيب
وفاءً للمناضلة السودانية الديمقراطية والأممية الشجاعة فاطمة إبراهيم في الذكرى الأولى لوفاتها*
مرَّ عام وعدة أسابيع على وفاة السيدة الفاضلة والمناضلة الديمقراطية والأممية الشجاعة فاطمة إبراهيم، وبوفاتها فقدت الحركة النسوية والديمقراطية السودانية والعربية والحركة النسوية العالمية واحدة من أكثر النساء دفاعاً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والسلام والعدالة الاجتماعية. وفي المجتمع السوداني المحافظ، الذي كان ولا يزال يعيش أوضاعاً مماثلة لأوضاع الدول العربية والدول النامية الأخرى من حيث التخلف الاقتصادي والاجتماعي والفقر وغياب الحريات الديمقراطية، وجدت فاطمة إبراهيم في العام 1952، وهي ابنة العشرين ربيعاً، طريقها إلى صفوف الحزب الشيوعي السوداني، الحزب الذي رفع منذ منتصف الأربعينيات من القرن العشرين رايات النضال ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية ومن أجل الاستقلال والسيادة الوطنية وفي سبيل التنمية والتقدم الاجتماعي والعيش الكريم والإنساني للشعب السوداني، ولاسيما كادحيه في المدينة والريف. وأصبحت فاطمة عضوة في لجنة الحزب المركزية، كما كانت من المشاركات في تشكيل الاتحاد النسائي السوداني في العام 1952، وانتخبت في العام 1956 رئيسة لهذا الاتحاد، وكانت في الوقت ذاته رئيسة تحرير جريدة "صوت المرأة" منذ العام 1955، لسان حال الاتحاد النسائي السوداني. وانتخبت فاطمة إبراهيم في العام 1965 نائبة في مجلس النواب السوداني، وهي أول امرأة سودانية وعربية تنتخب في مجلس نيابي في الدول العربية كافة.
في خضم النضال من أجل الحريات العامة والديمقراطية في السودان وضد الدكتاتورية الغاشمة تعرضت فاطمة إبراهيم للاعتقال عدة مرات، كما تعرض زوجها الشفيع أحمد الشيخ، العضو القيادي في الحزب الشيوعي السوداني والقائد النقابي السوداني والعالمي المعروف للاعتقال، ثم أقدمت الدكتاتورية النميرية في العام 1971 على ارتكاب جريمة إعدامه وإعدام مجموعة من خيرة أبناء السودان، ومنهم سكرتير عام الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب وجوزيف قرنق، والرائد هاشم العطا، والمقدم بابكر النور، والرائد فاروق حمدالله، وغيرهم، رغم الاحتجاجات العالمية الواسعة ضد هذه الجريمة الجبانة.
لعبت فاطمة إبراهيم دوراً مهماً في تعبئة نساء السودان في النضال من أجل حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل. وخلال فترة نضالها على راس الاتحاد النسائي السوداني تحققت الكثير من المكاسب للمرأة السودانية، والتي حاولت النظم الدكتاتورية والإسلامية السياسية سلبها من جديد. إلا إن نضال المرأة السودانية، ورغم كل الصعوبات ما يزال يتصدى لتلك المحاولات الرجعية المناهضة للمرأة وحقوقها في المجتمع السوداني.
وبسبب دورها النضالي النسوي والوطني في السودان انتخبت في العام 1991 رئيسة لاتحاد النساء الديمقراطي العالمي لسنوات عدة، ولعبت دوراً مهماً في نضال المرأة على الصعيد العالمي وساهمت بتنشيط حركة التضامن بين نساء العالم عموما، ونساء الدول العربية والبلدان النامية خصوصاً، وتركت بصماتها الواضحة على هذه المنظمة بسبب روحها النضالية العالية، وشغفها بالعمل لصالح المرأة وعمق إنسانيتها وتواضعها الجم. ونتيجة لهذا الدور النضالي على الصعيد العالمي منحت في العام 1993 جائزة الأمم المتحدة لحقوق الانسان. كما مُنحت في العام 2006 الجائزة السنوية لمؤسسة أبن رشد للفكر الحر. وجاء في حيثيات قرار منحها الجائزة ما يلي: "ان الفائزة من أبرز الساسة في بلادها حيث كان اسمها رمزا لنضال المرأة السودانية " ضد حكومات القمع العسكرية وواجهت منذ بداية نضالها صعوبات. مع تكوين الاتحاد النسائي السوداني في ظروف اجتماعية صعبة في العام 1952" حيث لعب الاتحاد النسائي دورا في أن تظفر المرأة السودانية في العام 1964 بحق التصويت وحق الترشيح لدخول البرلمان. وفي العام 1965 صارت فاطمة ابراهيم أول نائبة في البرلمان.". وتجلى اهتمامها المتعدد الجوانب فيما نشرته من كتب مهمة منها: حصادنا خلال عشرين عاما، -المرأة العربية والتغيير الاجتماعي، -  حول قضايا الأحوال الشخصية،  -  قضايا المرأة العاملة السودانية، -  آن أوان التغيير ولكن! و-  أطفالنا والرعاية الصحية.
إنها المرأة الجليلة التي لم يتوقف نضالها الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي لحظة واحدة رغم وجودها القسري في المنفى، كما وقفت باستمرار إلى جانب نضال النساء العراقيات والحركة الديمقراطية العراقية، وهو ما أكده بيان الحزب الشيوعي العراقي في رسالة التعزية والمواساة التي وجهها إلى الحزب الشيوعي السوداني، جاء فيها:
"اننا نقدر عاليا الدور الذي نهضت به الفقيدة على الصعد كافة، داخل السودان وخارجه، ولا ننسى مساهمتها الفاعلة في حملات التضامن مع نساء وشعب بلادنا، ما جعل لها مكانة خاصة في وجدان الشيوعيين والديمقراطيين العراقيين، اسوة بشهداء حزبكم الخالدين عبد الخالق محجوب والشفيع احمد زوج الفقيدة الكبيرة، وغيرهما ".
من هنا أقول ثانية بأننا كنا أمام امرأة مناضلة وطنية وقومية ديمقراطية سودانية وأممية في آن واحد، وكانت في حياتها النضالية قدوة لنضال المرأة وكل الديمقراطيات والديمقراطيين والتقدميين واليساريين، ولاسيما في الدول العربية والدول النامية. إنها ستبقى في ذاكرة المناضلات والمناضلين العرب وغير العرب، فلها الذكر الطيب دوماً. كاظم حبيب، برلين في 22/09/2018.
•   ألقيت هذه الكلمة، وكلمات أخرى، في الاحتفاء التأبيني بذكرى مرور عام واحد على وفاة السيدة فاطمة إبراهيم أحمد، الذي أقامته أربع منظمات مجتمع مدني هي: الجمعية الأدبية السودانية في برلين، والجالية السودانية، برلين\برندبورغ ورابطة المرأة العراقية، ومنتدى بغداد للثقافة والفنون ومؤسسة أبن رشد للفكر الحر، وبتهيئة وإشراف الدكتور حامد فضل الله في مقر منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين بتاريخ 29/09/2018.

190
كاظم حبيب
هل يمكن للدولة الطائفية الفاسدة بناء دولة ديمقراطية واقتصاد مزدهر؟
2-2
هل يمكن بناء اقتصاد وطني وتنمية متوازنة في دولة طائفية فاسدة؟

تشير بعض المصادر المطلعة إلى إجراء مفاوضات بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية الطائفية من خلف كواليسها، إلى احتمال أن يتوحد حزب الدعوة من جديد ليرشح أحد قيادييه السادرين في غيهم والمعروفين للشعب ، أو أن يصبح عادل عبد المهدي، القيادي السابق في المجلس الأعلى الإسلامي قبل انشقاقه، رئيساً للوزراء في العراق، رغم اعتذاره لخشيته من فقدان تأييد هذه القوة بعد قليل من تنصيبه، في تحالف "معقول" بين الفتح وسائرون، لو لم يكن الحزب الشيوعي العراقي حتى الآن عضواً في هذا "السائرون!"، المتقلب دوماً بين اليمين واليمين الوسط المتخلف، ثم العودة إلى اليمين الأكثر وحشة وظلمة لمستقبل العراق وشعبه، في ضوء الضغوطات المشتدة التي يتعرض لها مقتدى الصدر وأبويته ومهو ما يزال شاباً ومزاجه الشخصي، ثم يتحول من رفض التعاون مع قوى خاضعة لإيران إلى تحالف مع قوى راكعة بالتمام والكمال لإيران. ولكن سيكون هذا التحالف الوزاري، كما أرى وكما رأت الكاتبة والصحفية التقدمية د. سلوى زكو، غير معقول وغير مقبول وغير مبرر بالمرة، لو استمر الحزب الشيوعي العراقي، المناضل المُجرب والمجَرِب والعريق والأقدم وجوداً في الساحة السياسية العراقية منذ تشكيل حلقاته الماركسية الأولى 1930 وتأسيسه عام1934، في هذا التحالف العجائبي الغرائبي، واحتمال المشاركة في وزارة من "گرگري!"، رغم وجود فرامل (بريكات) معلنة في حالات معينة، إذ سُتدفع البلاد خطوة إضافية خطيرة ومرعبة باتجاه المزيد من السقوط في أحضان إيران، وبقاء الميليشيات الطائفية المسلحة متحكمة بالساحة السياسية والاجتماعية والعسكرية العراقية، وستستمر الأوضاع على ما هي عليه، بل ستزداد سوءاً، بسبب جشع إيران للدولار الأمريكي في العراق ولكل شيء فيه!! وإذا ما حصل هذا الشيء وأصبح عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء، أو من يماثله، أو من حزب الدعوة الملفوظ، فسيطرح كل منهم رؤيته الاقتصادية التي لا تبتعد عن رؤية أسلافه من رؤساء وزارات الأحزاب الإسلامية الحاكمة في العراق منذ أكثر من خمسة عشر عاما, وقد تسنى لي مناقشة مقال عبد المهدي الموسوم "من أين وكيف يبدأ الانطلاق الاقتصادي بالعراق مع السيد عادل عبد المهدي". ؟، في سلسلة مقالات من خمس حلقات، نقاشاً هادفاً وموضوعياً. من هنا أقول بأن هذه القوى لو شكلت وزارة جديدة على شاكلة سابقاتها وأعادت العمل بنظام المحاصصة الطائفي القائم حالياً لعجزت الدولة العراقية الهشة والهامشية المعتمدة في اقتصادها على الريع النفطي عن التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام في حل معضلات الاقتصاد والمجتمع في العراق، بل ستتسبب بمشكلات اقتصادية محلية وإقليمية ودولية جديدة، بسبب الاحتمال الأكبر في خضوعها لإرادة إيران في صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يؤكد باستمرار عليها هادي العامري، مسؤول فتح وقائمة البناء وقائد "ميليشيا منظمة بدر الطائفية المسلحة" والمنضوية أجزاء مهمة وكبيرة منها تحت عباءة الحشد الشعبي، الذي تسيطر على قياداته الفرعية الأساسية قادة الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، إضافة إلى كونها لا تزال تعمل بمنظمة بدر وميليشيات أخرى تعمل تحت عباءة وهوية الحشد ولكنها تحمل هوية ميليشياتها الخاصة بها أيضاً. 
كتب لي صديق فاضل، أقرأ كتاباته واستمع إلى رأيه بعناية، في أعقاب نشر مقالي الموسوم "ما القديم الجديد في الدولة العجائبية والغرائبية العراقية؟ ما يلي:
" أحسنتم، انها دولة مكوناتية تقسم مناصب الدولة فيها. حسب كل مكون ويخضع المنصب نفسه داخل المكون الواحد لقانون العرض والطلب، انها سوق سياسية مع الأسف، احسنتم التشخيص والتحليل".
وحقاً وصلتني الكثير من الرسائل المهمة ومن شخصيات عراقية ديمقراطية ومستقلة كثيرة أسعدني ذلك، كما نشرت في عدد كبير من المواقع، إضافة إلى نشرها في جريدة العالم العراقية، كحال الكثير من مقالاتي التي تنشر في هذه الجريدة مشكورة. فشكراً لثقة من كاتبني بشأن ما ورد في مقالي المذكور.
أؤكد من جديد بأن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية، شيعية كانت أم سنية، أولاً، وهذه القوى الحاكمة الحالية، التي قادت البلاد إلى مستنقع فيه المزيد من الرثاثة والتخلف والبطالة والبؤس والفاقة والخراب والدمار والنزوح والهجرة القسرية والموت، لا يمكنها بأي حال أن تبني الدولة الديمقراطية المنشودة التي تنتهج سياسات اقتصادية اجتماعية ثقافية بيئية، داخلية ودولية مستقلة، لأنها طائفية النهج والنزعات، ونهَّابة للثروات، ومعادية لحقوق الإنسان، بما في ذلك حق التنمية والبيئة النظيفة والعدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعي والأمن الوطني المستقر والمتطور. إنها المعاناة التي ستطول، إن لم تنجح الحركة المدنية الشعبية السلمية والديمقراطية الوصول إلى تغيير في ميزان القوى الداخلية لتغيير الواقع الراهن بهذه الدرجة المطلوبة والضرورية أم تلك، نحو إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية والمجتمع المدني الديمقراطي.       
لم يختلف الاقتصاديون العراقيون عن تحديد طبيعة الاقتصاد العراقي الريعي النفطي ولا عن تخلفه وتشوهه الشديدين في قواه المنتجة وطبيعة علاقات الإنتاج السائدة فيه عموماً. وقد كتبت كثرة من الاقتصاديين العراقيين مجموعة كبيرة من الكتب المهمة حول الاقتصاد والنفط على امتداد العقود المنصرمة حتى الوقت الحاضر، ومنها كتب ودراسات ومقالات الدكتور على مرزا وكتابه الجديد الموسوم "الاقتصاد العراقي: الأزمات والتنمية"، وهو أحدث كتاب في هذا الصدد وموعود به، كتب عنه السيد الدكتور وليد خدوري مقالاً مهماً قيَّمهُ بما يستحق من تقدير للكتاب والكاتب الاقتصادي الغزيز في الإنتاج والمعرفة، ونشر في جريدة الحياة وفي موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 17/09/2018. وسأجد فرصة للكتابة عنه.     
•   الاختلاف بين الاقتصاديين الديمقراطيين بشأن الاقتصاد العراقي يبرز في بلورتهم حجم النواقص والسلبيات في الواقع الراهن وعموم الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وفي مدى تأثيرها على الدولة والاقتصاد والمجتمع حالياً من جهة، وفي النهج والحلول المطلوبة التي يقترحونها لهذا الواقع المتدهور باستمرار من جهة ثانية. وهو أمر طبيعي ويدفع إلى المزيد من النقاش والتحليل والتدقيق بهدف الوصول إلى الصيغة المثلى، شريطة أن تتوفر الظروف والشروط الذاتية والموضوعية لنهج سليم ومتقدم في العراق. فليس وضع الحلول الاقتصادية المطلوبة والصحيحة للاقتصاد العراقي بالعملية الشديدة التعقيد والصعوبة بالنسبة للمختصين والخبراء في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والذين يمتلكون المعلومات الضرورية عن واقع الاقتصاد وثرواته وموارده البشرية وحاجات البلاد الفعلية، الآنية وذات المدى المتوسط والبعيد. هذه المسألة يعترف بها من يدرك بأن الخلل ليس في طرح الحلول، بل في غياب الناس الأوفياء لشعبهم عن المواقع التي ينبغي ان يكونوا فيها المختصون المخلصون ويستوجب وجودهم المهمات والحلول الناجعة المنشودة. فالخلل المقصود هنا هو في هيمنة مجموعة من الشخصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي أقامت لها احزاباً سياسية دينية طائفية، جمعت في صفوفها القيادية مجموعات من البشر، تكالبت منذ تسلمها السلطة باليد مباشرة من الولايات المتحدة وإيران، وهي مغرقة في التخلف وبعيدا عن وعي مهمات التنمية المستدامة وشروطها، ثم في وضعها موارد البلاد المالية والخاماتية، ولاسيما النفط والغاز الطبيعي، تحت رحمتها وتصرفها ونهبها كلما حلا لها ذلك، وبدا واضحا ان الشيء الوحيد الذي عشقته هو النهب الدائم وارشاء المزيد من البشر والتفريط بالمال العام ليدوم لهم الحال. وهنا أضعكم أمام أحد النماذج السيئة التي دلَّنا عليه عادل عبد المهدي في لقائه التلفزيوني مع القناة السومرية, فهو يتسلم راتب وزير متقاعد ومخصصات غلاء المعيشة كوزير، ومستحقات الحماية الشخصية ومصروفات الدعاية والإعلام، إضافة إلى ثروته الشخصية التي استردها بعد غزو أمريكا للعراق. ثم يتسلم مبلغاً مقدره مليون دولار شهرياً أو (12) مليون دولار أمريكي سنويا كمساعدة اجتماعية يتصرف بها كما يشاء بغير حساب! وهو ليس وحده بهذه "المنحة السنوية" الدائمة التي يمنحها الحكام لأنفسهم من أموال أجدادهم، بل معه الكثير من هؤلاء "القادة الأفذاذ!!!" الذين يسرقون ملايين الدولارات الأمريكية من خزينة الدولة ومن أفواه الجياع والمعوزين والمشردين من الأطفال اليتامى والفقراء والنساء الثكالى والأرامل دون ان يشعروا ولو للحظة واحدة بالذنب والخزي والعار لما يمارسونه. وهم بهذه المساعدة التي يقولون انهم يقدموها للفقراء، يشترون بها أصوات الفقراء ويوسعون نفوذ الطبقة الرثة الحاكمة المالي والاجتماعي! على هذه اللوحة البائسة دافع عنها عادل عبد المهدي بوعي رجل لا يفقه من الاقتصاد شيئاً مناسباً. ويذكرني هذه التصرفات بما ورد في خطبة لأبي جعفر المنصور حين وقف خطيباً في يوم عرفة حدد برنامجه السياسي كما يلي: بهذا الصدد ما يلي: " وقف أبو جعفر المنصور يوم عرفة خطيبا يحدد برنامجه السياسي فقال:
"أيها الناس, إنما أنا سلطان الله في أرضه, أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده, وحارسه على ماله, أعمل فيه بمشيئته, وإرادته وأعطيه بإذنه, فقد جعلني الله عليه قفلا, إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم, وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني.". (راجع: الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، "الطاغية"، دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي, سلسلة عالم المعرفة رقم 183, الكويت 1994, ص 219). بهذا السلوك يتعامل حكام العراق مع أموال شعب العراق!
ماذا يعني ذلك؟ إن هذه المجموعة من سياسيي العراق المغرق بالطائفية يتركز همها ويتمحور لا في كيفية بناء الاقتصاد الوطني المزدهر الشعب المنتج والشبعان والسعيد، بل في الكيفية التي تنمي ثرواتها الشخصية وبقاء نفوذها على الاقتصاد المتخلف والرثاثة وتصرفها المطلق بالمال العام والنفوذ على المجتمع. هذا الواقع برهنت عليه السنوات الخمسة عشر المنصرمة بألف ألف وبرهان. وأصبح عدد الفاسدين آلاف أضعاف ما كان منهم في زمن البعثيين، وآلاف آلاف الأضعاف على ما كان عددهم في زمن الملكية.
هل ينفع ان أشارك في طرح برامج وحلول للاقتصاد والمجتمع والثقافة والبيئة وامور أخرى؟ نعم هو نافع للجمهور الواسع، ولكنه غير نافع للحكام الحاليين الذين اذلوا دينهم وشعبهم ووطنهم وهم يدركون ذلك تمام الإدراك، ولكن في غيهم جادون ولا يمنعهم من ذلك غير انتفاضة الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل، غير العمال والفلاحين الذين يكدون لا ليَشبَعوا وعائلاتهم، بل ليُشبعوا من سلبوهم لقمة عيشهم وعائلاتهم، وهم ليسوا سوى حكام العراق ولإلب القوى والأحزاب (الدينية!) التي أصبح إلهها المطلق هو الدولار الأخضر وليس الله الذي لا يعبدوه!
لقد فاض غضب الناس بالضحك على ذقونهم وتجويعهم وشراء الذمم والمناصب. ان هذه القوى الحاكمة لن تبني اقتصاداً وطنيا عبر عملية تنمية اقتصادية وبشرية مستدامة يستوجبها واقع العراق ويعرفها من يريد نقل العراق من مستنقعه النتن الراهن الى مواقع اخرى يطمح اليها الشعب ويعمل من اجلها، بل هي تعمل لمزيد من خراب العراق وملء الجيوب والبنوك بالسحت الحرام!!!
لا أنوي في هذه المقالة المشاركة في تقديم الحلول التي أراها واقعية للعراق، فالحلول مطروحة منذ سنوات كثيرة، إذ إن النقص في وجود الناس المخلصين لهذا الشعب والأرض الطيبة على رأس الحكم وفي المواقع التي ينبغي ان يكونوا فيها ليدفعوا عجلة التنمية الوطنية والديمقراطية المنشودة، والقلة الموجودة لا تسمع!
إن الصراع الجاري في العراق بين القوى الحاكمة الحالية لا يمس مصالح الشعب والاقتصاد والنمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل للعاطلين وتأمين العيش والضمان الاجتماعي والصحي للناس الفقراء والمعوزين، بل من يمكنه فرض نفسه ويتسلم السلطة من بين هؤلاء الحكام القيمين على الحكم حتى الان ليعيدوا إنتاج نظامهم الطائفي المحاصصي المقيت، وتقاسم المغانم وليذهب الشعب العراقي الى ما يماثل جحيم البصرة والجنوب، ولتتلقى صدور وظهور المتظاهرين الرصاص الحي والقتل والاعتقال والسجن والتعذيب والموت على أيدي مرتزقتهم من الميليشيات الطائفية المسلحة وقوى الاٍرهاب الاخرى القادمة من وراء الحدود الإقليمية والدولية.
يقال ان الأمريكيين يريدون العبادي والايرانيين يريدون هادي العامري أو المالكي، وأن اخرين يريدون ويتحركون بين هذا وذاك ليرضوا بمساومة حقيرة، كما حصلت في العام 2010 وجاء المالكي لدورة جديدة في رئاسة الحكومة، الطرفين الخارجيين وليس الشعب العراقي ومصالحه وخلاصه من الذل والهوان الراهنين. ليس من مصلحة الشعب ان يبقى مثل هؤلاء البشر على رأس الحكم، فالظلم إن دام دمر، ولكن في النهاية ينقلب على رأس الفاسقين الظالمين من حكام البلاد!!!
23/09/2018

191
كاظم حبيب
ما القديم الجديد في الدولة العجائبية والغرائبية العراقية؟
من يتابع تصريحات الأحزاب والقوى والسياسيين، بمن فيهم، وأكثرهم، من أصحاب النعمة الحديثة المنهوبة وسياسيي الصدفة، يجد أنها تدور عن رفضهم للمحاصصة الطائفية والدعوة للدولة المدنية، حتى المرجعية الشيعية التي يفترض ألَّا تتدخل بالسياسة، تتدخل من أوسع أبوابها وتؤذي سمعتها ودورها الديني والاجتماعي ومكانتها في المجتمع العراقي. ولكن هل حقاً هناك تحول إلى الدولة المدنية العابرة للطائفية والأثنية، أم لا تزال المحاصصة الطائفية والدولة الطائفية بسلطاتها الثلاث هي السمة والسياسة الفعلية للقوى الحاكمة ومن معها من الأحزاب والقوى السياسية العراقية؟ هل أعاد القديم القائم إنتاج نفسه باسمٍ دعائي كاذبٍ وفاشلٍ جديد؟ 
لقد أُبعدت هوية المواطنة والوطن وكُرّست الهوية الفرعية القاتلة، لقد انتخب رئيس مجلس النواب على أساس هوية فرعية هي المذهب السني في الإسلام المستباح، وانتخب على ذمة المعلومات السائدة بدفع مبلغ طائل يصل إل 30 مليون دولار لكي يصبح رئيساً للمجلس، ونائب الرئيس الأول شيعي المذهب في الإسلام المستباح أيضاً، والنائب الثاني كردي الهوية، ولا أدري ما هي المبالغ التي دفعت لهذين المنصبين، على وفق ما جاءت به النائبة ماجدة التميمي حول رئيس المجلس وطريقة انتخابه ودور أبو أحمد الجبوري في المسألة!! فما هو الجديد في المؤسسة التشريعية العراقية؟ هل تحولت إلى مؤسسة مدنية حقاً ومواطنة عراقية حقاً أم لا تزال كما كانت طائفية وأثنية حتى النخاع؟ في هذه السلطة التشريعية لا يجوز لمسيحي أو مندائي أو إيزيدي أو تركماني مخلص وأمين ومثقف عالي المستوى أن ينتخب لهذه المواقع الثلاثة، بل لا بد أن يكون سنياً وشيعياً وكردياً على التوالي!! فهل هذا يتناغم مع حقوق الإنسان، بل حتى مع الدستور العراقي الراهن؟
والآن يأتي دور رئيس الجمهورية، إذ لا بد أن يكون كردياً، بل وأكثر من ذلك، لا بد أن يكون من حصة الاتحاد الوطني الكردستاني؟ وهنا استبيحت هوية المواطنة العراقية لصالح الهوية الفرعية أيضاً، سواء أكانت قومية أم دينية أم مذهبية. والسؤال لماذا لا يحق للمسيحي والمندائي والإيزيدي والتركماني أن يرشح وينتخب لهذا الموقع المهم في الدولة العراقية، وهم، على وفق الدستور العراقي، مواطنون من الدرجة الأولى؟ هل هذه الدولة التي تنتخب رئيس البلاد، ولو شكلياً، على أساس محاصصة وليس على وفق مبدأ المواطنة، هي دولة مدنية وديمقراطية؟ ليس هناك عاقلاً واحداً بالبلاد يصدق هذه الفرية أو الكذبة التي ترددها الأحزاب الإسلامية السياسية، ولاسيما ميليشياتها الطائفية المسلحة؟ الوحيدون الذين يمكن أن يصدقوا كذبتهم هم المدعون كذباً أنهم يبنون دولة ديمقراطية ومجتمعاً مدنياً!!! هذا ما سيحصل يوم 25/09/2018 في انتخاب أحد مرشحي الكتل الكردية. ليس هناك اعتراض على انتخاب كردي لهذا المنصب ولأي منصب آخر في الدولة العراقية، بل الاعتراض أنه ينتخب على أساس المحاصصة الأثنية والطائفية في دولة طائفية بامتياز وبعيدة كل البعد عن مبدأ المواطنة والهوية الوطنية! هنا تحدثنا عن الذكور في الانتخابات في حين أن المرأة محرومة كلية من كل هذه المناصب، وهو امر بالغ الخطورة في دولة أكثر من نصف سكانها من النساء، إنه المصادرة الحقيقية لحقوق المرأة ومساواتها في المجتمع!
وسيأتي بعد ذلك إيجاد مرشح من الأحزاب والقوى الشيعية لينتخب رئيساً لوزراء العراق حصراً! هنا يأتي السؤال العادل والمشروع: لماذا هذا الحصر بالشيعة لو كانت الأحزاب والقوى السياسية العراقية تريد بناء دولة مدنية وديمقراطية، وتريد الخروج من عنق الزجاجة الطائفية التي حُشر العراق فيها حشر وهو يختنق فيها ومنها يومياً، وتجد تعبيرها في واقع العراق الدامي والمرير؟ لماذا لا يكون مواطناً أو مواطنة من أي دين أو مذهب أو قومية أو من أي حزب يحدده الناخب الحر والديمقراطي والذي يحترم ضميره وذمته؟
سيأتي مجلس الوزراء على شاكلة سلفه البائس والمحنط والذي عجز عن محاربة الفساد والفاسدين المتربعين على مواقع الدولة العراقية بكل سلطاتها ومؤسساتها المدنية والعسكرية والميليشياوية المسلحة وهم يحتلون كل الوظائف الأساسية بل حتى الكثير من الثانوية في البلاد وعلى أساس طائفي أو أثني وحزبي، كما عجز عن تحسين ولو جزئياً من الخدمات التي يفترض أن تقدم للشعب، بل زاد في الطين بِلة. والمكسب الوحيد الذي لعب دوره فيه هو تحرير العراق من داعش، وأن لم ينتهِ بعد! وهو مكسب كبير.
أما الحديث عن التغيير فأقرأ أيها المواطن العراقي، واقرأي أيتها المواطنة العراقية، السلام لا على التغيير فحسب، بل وعلى الإصلاح الذي تبخر فعلاً، بعد هذه الطريقة في انتخاب رئيس المجلس ونائبيه، وما سيلحقه من انتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم اختيار رئيس الوزراء، فنقرأ جميعاً على الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي في العراق السلام، إلى حين أن ينهض الشعب ليكنس الرثاثة السائدة في البلاد.
إن من واجب القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية العراقية أن تكون صريحة وجريئة وواضحة حول ما يجري في العراق، عليها فضح ما يجري وليس السكوت عنه وابتلاع اللغم الذي سيتفجر بصيغة ما في داخلها وفي المجتمع.
العراق أمام وضع صعب ومعقد للغاية، لاسيما وهناك محاولات جادة لمساومة قذرة في غير صالح العراق تبدو متحركة في سماء السياسة العراقية الملبدة بالغيوم الكثيفة، حيث إيران تمارس ضغوطاً بصورة مرعبة ومدمرة لاستقلال وسيادة العراق ولطموح الناس في دولة ديمقراطية ومجتمع مدني حديث. إننا أمام وضع شبيه بما جاء في تلخيص صائب وصادق لندوة نقاشية جرت في مجلة الثقافة الجديدة العراقية والتي أشار الملخص السيد عادل عبد الزهرة فيها إلى الحقيقة التالية:     
"هناك أزمة هيكلية ولا يمكن الحديث عن اصلاح في ظل ادارة دولة مهدمة ،أصبحت السياسة في العراق عبارة عن توزيع المغانم، يحتاج الإصلاح الى مصلحين كما تحتاج الديمقراطية الى ديمقراطيين، ليس لدينا مصلحين في العراق بسبب وجود معوقات وسيطرة عقول فاشلة على الدولة، إضافة إلى سيطرة الفساد وعملية النهب المنظمة، أذا أردنا الإصلاح فنحتاج إلى مصلح محاط بقاعدة اجتماعية مساندة، الإصلاح منظومة اجراءات تحتاج إلى أدوات ومؤسسات قانونية والى ادارة عملية الإصلاح ،البيئة الاقليمية والدولية هي بيئة طاردة لعملية إصلاح العراق، العراق فضل المكوناتية على المواطنة، لدى العراق رقم قياسي في التوافقية وليس الدستورية، الاستجوابات في البرلمان العراقي هي لأغراض الاسقاط السياسي وليس كما في البرلمانات في العالم، الفساد في العراق ظاهرة وليس حالة وهو ليس عفويا وعشوائيا وانما هو ممنهج وهو من أخطر الأمراض ربما يتجاوز الإرهاب، ننظر إلى العراق من ثقب المكونات وليس من البوابة الوطنية العراقية، هناك سوء فهم للفيدرالية في العراق وعلينا أن ننظر إليها نظرة صحيحة، ينبغي أن تقوم المؤسسة العسكرية على أساس المواطنة، قضية بيع المناصب تعكس درجة الاستخفاف بالمؤسسات، .." إلخ. (راجع: مجلة "الثقافة الجديدة" تقيم حوله طاولة مستديرة: اصلاح النظام السياسي في العراق – الواقع والرهانات، مركز الاتصالات الإعلامية (ماتع)، الحزب الشيوعي العراقي). والمقصود بالمكوناتية، الطائفية والأثنية، والتوافقية تعني هنا عملياً المساومة المخلة بالدستور! (ك. حبيب).
       

192


كاظم حبيب
حوار موضوعي وهادف حول طبيعة ومهمات منظمات ونشطاء حقوق الإنسان
بعد نشر مقالي الموسوم "خلوة مع النفس بصوت مسموع حول الموقف من حقوق الإنسان" وصلتني مجموعة من الرسائل التي تؤيد الأفكار الأساسية الواردة في المقال المذكور، وتدعو إلى مناقشة تلك الأفكار والملاحظات في منظمات حقوق الإنسان العراقية في الداخل والخارج. ومن بينها كانت رسالة الأخ الأستاذ المهندس الاستشاري نهاد القاضي، أمين عام هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق، والأخ صبحي حجو والدكتور خليل عبد العزيز وأخوات وأخوة آخرين. كما وصلتني رسالة مهمة من الصحفي العراقي المميز والكاتب الأستاذ صلاح النصراوي يناقش فيها المقال ويطرح أفكاراً تستحق وتستوجب المناقشة. يجد القراء رسالته الكريمة في نهاية مقالي ومناقشتي المكثفة لما ورد فيها من أفكار وملاحظات، لكي يتسنى للقارئات والقراء الاطلاع على أفكاره بشكل مباشر.
أود أن أقدم شكري الجزيل وامتناني للزميل العزيز والصديق الأستاذ صلاح النصراوي على خوض النقاش الهادف والهادئ مع الأفكار التي وردت في مقالي سالف الذكر، بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي مع بعض ملاحظاته والتي سأبينها في مناقشتي في هذا المقال والتي وافق على نشر رسالته الشخصية، إضافة إلى تقديره الذي اعتز به حول مقالاتي التي تصله مني مباشرة.
ابتداءً أشير إلى أن هذا المقال هو ليس المقال الأول الذي أنشره عن المشاكل التي تواجهها منظمات حقوق الإنسان والنشطاء فيها، بل نشرت قبل ذاك عشرات المقالات حول هذا الموضوع وعموم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في موقع الحوار المتمدن وصوت العراق والناس وفي جريدة العالم البغدادية وغيرها. وآخر مقال نشرته في هذا الصدد جاء بعنوان "مادة للمناقشة: سبل وأدوات تنشيط وتجديد حركة حقوق الإنسان بالعراق"، في موقع الحوار المتمدن بالعدد 5717 في 04/12/2017، ولهذا اتفق تماماً مع الزميل صلاح النصراوي على الفقرات أولاً وثانياً الواردة في رسالته، في حين اختلف معه جزئياً أو أكثر في ثالثاً ورابعاً وخامساً. وعليه سأركز نقاشي على النقاط الثلاث الأخير والتي تدور النقطة ثالثاً حول موقف منظمات حقوق الإنسان من حقوق الفرد وحقوق القوميات أو الأثنيات في بلد متعدد القوميات أو الأثنيات، ثم النقطة رابعاً حول الموقف من حق الشعوب من تقرير مصيرها بنفسها، بما في ذلك حقها في الانفصال وتشكيل دولها المستقلة، والنقطة خامساً حول مسألة الفصل بين ما هو فردي في حقوق الإنسان، وما هو جماعي كحق القوميات في تقرير مصيرها بنفسها.
1. من المعروف أن منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان لا تلتزم من حيث المبدأ، وبسبب طبيعة عملها الطوعي، باللائحة الدولية لحقوق الإنسان الصادرة في العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 1948 فحسب، بل وبالشرعة الدولية لحقوق الإنسان والتي تتضمن خمس وثائق دولية مهمة هي: 1- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 2- العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، 3- العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، 4- البروتوكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بشأن تقديم شكاوي من قبل الأفراد، 5- البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهدف العمل على إلغاء عقوبة الإعدام. كما صدرت وثائق كثيرة أخرى ضمن هذه المجموعة من الوثائق منها مثلاً: حقوق المرأة وحقوق الطفل وضد التعذيب وحقوق الشعوب الأصلية والحق في بيئة نظيفة...الخ. هذه كلها تقع ضمن حقوق الإنسان الفرد وضمن حقوق الجماعات البشرية من قوميات أو أتباع ديانات ... إلخ. والفرد الذي ينتمي لمنظمات حقوق الإنسان لا يمكنه أن ينتقي من هذه الوثائق ما يعجبه ويترك الوثائق الأخرى التي تشكل جزءاً أساسياً من حقوق الفرد في إطار الجماعة التي ينتمي إليها، فاغتصاب حقوق الفرد لا يختلف عن اغتصاب حقوق جماعة بعينها لأي سبب كان، وسواء أكان بسبب التمييز الشوفيني، أم العنصري، أم بسبب التباين الديني، أم المذهبي، أم الفلسفي والفكري، أم بسبب الجنس، أي التمييز بين الذكر والمرأة لصالح الذكر، كما هو جارٍ في مجتمعاتنا والمجتمعات ذات الأكثرية المسلمة.
2. في النقطة ثالثاً يطرح الزميل النصراوي فكرتين مهمتين، وبقدر صواب الفكرة الأولى التي يؤكد فيها شمولية مبادئ حقوق الإنسان وأهمية الالتزام بها، وسواء أكانت هذه الحقوق فردية أم جماعية لأنها تقع ضمن إطار الشرعة الدولية لحقق الإنسان، أجد خطأ الفكرة الثانية الواردة في هذه النقطة والتي تميز بين حقوق الفرد، التي يفترض أن تهتم بها منظمات حقوق الإنسان، وحقوق الجماعات التي لا تعتبر ضمن اختصاص منظمات حقوق الإنسان، على حد رأي زيد بن رعد بن الحسين، المفوض السامي الأممي السابق لحقوق الإنسان، والذي أختلف معه أيضاً وتماماً.
منظمات حقوق الإنسان تميز بين اغتصاب حق الفرد واغتصاب حق شعب بكامله، ولكنها لا تدافع عن الأول وتهمل الثاني، بل من واجبها الكامل الالتزام بالمسألتين، أي الدفاع عن حق الفرد وحق الشعب أو الجماعة التي تتعرض حقوقها للاغتصاب والمصادرة. سأورد أمثلة تتعلق بنشاط المنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي أنا عضو فيها، ومركزها القاهرة، وتأسست عام 1982 بليماسول في قبرص، حيث تمارس الدفاع عن حقوق الأفراد في فلسطين المحتلة من جهة، وحقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس من جهة أخرى. وهو موقف سليم ولم يعترض عليه أحد من نشطاء حقوق الإنسان ولا الزميل النصراوي. لأن الموقف سليم وعادل ومشروع. وهنا ينطبق بيت الشعر الذي كتبه الشاعر السوري أديب إسحاق الذي أراد نقد الموقف الخاطئ الذي يميز بين قتل شخص واحد وقتل شعب أو اغتصاب حقوق فرد وحقوق جماعة حين قال:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر... وقتل شعب آمن مسالة فيها نظر
إن الخصوصية في الدفاع عن حقوق الإنسان الفردية حين تنتهك، لا تعني بأي حال تمييزها عن حقوق الجماعة حين تنتهك، فالفرد هو جزء من جماعة بشرية، إنهم مجموعة أفراد تنتهك حقوقهم بصورة مشتركة ولا بد لمن يدافع عن حقوق الفرد أن يدافع عن حقوق الجماعة المنتهكة حقوقها في بلد ما من جانب حكومة ذلك البلد أو الدولة بكل سلطاتها. حين تجاوز النظام السوري على حقوق الفرد في سوريا، تصدَّت له منظمات حقوق الإنسان وطالبت بالكف عن ذلك، وحين نهضت الحركة المدنية الديمقراطية مطالبة بحقوق الشعب في الديمقراطية والحريات العامة واضطهدها النظام السوري وزج بالمناضلين بالسجن وعرضهم للتعذيب، تصدَّت منظمات حقوق الإنسان منددة بالنظام الذي ينتهك حقوق الشعب ومدافعة عن حقق الشعب السوري بالحرية والديمقراطية والمجتمع المدني. وحين اضطهد صدام حسين الشعب الكردي واستخدم السلاح الكيمياوي, تصدت له منظمات حقوق الإنسان، بما فيها لجنة حقق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، المنظمة العربية لحقوق الإنسان ومنظمات عراقية حقوقية ... إلخ. الخصوصية هنا لا تعني التمييز بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، فهي كلها حقوق، بل لأن هناك تمييز وانتهاك يشمل حقوق جماعة أكبر، يمكن أن يشارك في الدفاع عنها المجتمع الدولي، الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إضافة إلى الرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان.           
3. كما يشير الزميل صلاح النصراوي بصواب، فأن موقفي من القضية الكردية ليس جديداً، بل هو يستند إلى المبادئ التي أحملها وقناعتي التامة بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان بكل وثائقها، وهي المبادئ التي رفع رايتها الحزب الشيوعي في العراق ودافع عنها وتعرض بسببها للاضطهاد والقمع حزباً وأعضاءً ومؤيدين، كما اقتنعت بها لاحقاً الحركة الاشتراكية العربية ورئيسها عبد الإله النصراوي. المسألة تعود إلى الثلاثينيات من القرن العشرين، أي منذ تأسيس الحزب الشيوعي العراقي الأمين لمبادئه وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها ولا وصاية لأحد عليها. يشكل العرب في العراق جزء من الأمة العربية الموزعة على الكثير من الدول، كما يشكل الكرد في إقليم كردستان العراق جزء من الأمة الكردستانية الموزعة على أربع دول في المنطقة. وهذه الأمة الكردية تقيم على أرض اسمها كردستان موزعة على الدول الأربع ذاتها. وكما كان من حق الشعوب العربية إقامة دولها من حق الكرد ايضاً، وليس في هذا أي غرابة أو مجافاة للمبادئ والحقائق على أرض الواقع. ولكن شعوب الأمة الكردية تعاني من اضطهاد قومي شوفيني وعنصري من الدول الأربع، ولاسيما في تركيا وإيران وموضوع الجنسية والإدارة في سوريا. وقد حقق الكرد في العراق بنضالهم المرير وبدعم من المناضلين العرب بعض النجاح في التمتع ببعض حقوقهم المهمة كالحكم الذاتي ومن ثم الفيدرالية. وليس في هذا أي فضل من أحد على الكرد، ومن حقهم أن يناضلوا في سبيل إقامة دولتهم الوطنية المستقلة في كل تلك الأقاليم الكردستانية. ومن واجب الناشط في مجال حقوق الإنسان أن يتبنى ممارسة هذا المبدأ الذي هو جزء أصيل من مبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. إن ما يمارسه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الاضطهاد وقمع وسجن وتعذيب للمناضلين الكرد، إضافة إلى حرب يخوضها ضدهم وكذلك اضطهاد وتمييز ضد العلويين، كأفراد وجماعات أثنية ودينية، لا يمكن سكوت منظمات حقوق الإنسان عن كل ذلك، بل لا بد من إدانة الحرب والاضطهاد والتمييز بكل قوة ومن جانب منظمات حقوق الإنسان، وهذا ليس تدخلاً في السياسية، بل تدخلاً ضد انتهاك حقوق الأفراد وحقوق الجماعات التي هي جزء عضوي من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. إن القادة الترك يمارسون سياسية قومية شوفينية متطرفة لا يجوز القبول بها، بل لا بد من شجبها وإدانتها والمطالبة بموقف سليم وواضح إزاء حقوق الأفراد والجماعات البشرية في الدولة التركية. وهكذا حال الكرد في كردستان إيران حيث يتعرض الكرد هناك إلى اضطهاد وقمع ومحاربة لمن يطالب بحقوقه العادلة المشروعة كأفراد وكشعب كردي. 
حين تعرض الفرد المسيحي والإيزيدي والمندائي والتركماني، كأفراد إلى الاضطهاد دافعنا عنهم كناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وحين تعرضت هذه الجماعات، وليس كأفراد فقط، دافعت منظمات حقوق الإنسان العراقية في الداخل والخارج عن هذه الجماعات التي سلبت حقوقها وشردت وانتهكت أعراضها وبيع النسوة في "سوق النخاسة الإسلامي!"، أي حين تعرضت للإبادة الجماعة، ولم يظهر أي تمييز بين الفرد وخصوصية الجماعة، بل اتفق الجميع على صواب الدفاع عن الفرد والجماعة من جانب منظمات حقوق الإنسان ونشطائها. ليس هناك من مشكلة في اختلاف وجهات نظرنا الشخصية إزاء المسألة الكردية، ولكن يفترض ألَّا نختلف فيما يمس اضطهاد الفرد أو الجماعة في أي من حقوقها المشروعة والعادلة والتي تقرها اللوائح الدولية لحقوق الإنسان.
وحين تعرض العرب المسلمين إلى انتهاك بحقوقهم المشروعة كأفراد، أو حين تعرضت الجماعات المذهبية الشيعية أو السنية إلى اضطهاد من جانب نظام صدام حسين، ومن ثم من جانب النظام السياسي الطائفي الجديد، وحين بدأ القتل على الهوية وشمل جميع المسلمين شيعة وسنة، تصدَّت منظمات حقوق الإنسان ذات المبادئ السليمة والواعية لمهماتها لهذا النهج العدواني، سواء أكان من جانب الأحزاب الشيعية الحاكمة وميليشياتها الطائفية المسلحة، أم من جانب قوى الإرهاب السنية المتطرفة أو التكفيرية.                 
4. لا شك في وجود أحزاب ومنظمات سياسية ومنظمات مجتمع مدني تدافع عن مصالح جماعات بشرية معينة منها على سبيل المثال أحزاب كردستانية أو منظمات مجتمع مدني للكرد أو للشبك أو للتركمان أو للمندائيين أو للإيزيديين أو للمسيحيين، والتي يمكن أن تحمل أهدافاً محددة، وتتضمن مهمات تندرج ضمن مبادئ حقوق الإنسان. ولكن هذه المنظمات هي ليست تلك المنظمات التي أسست على أساس الدفاع عن حقوق الإنسان بغض النظر عن قومية أو دين أو جنس أو لون أو لغة هذا الإنسان أو ذاك، وهذه الجماعة أو تلك. إنها تدافع عن الجميع وأينما حصل اضطهاد للإنسان أو الجماعة أو أي شعب أيضاً. كيف نستطيع الدفاع عن إنسان مغاربي من الأمازيغ حين تنتهك حقوقه الفردية المشروعة والعادلة، ونسكت حين تنتهك حقوق الجماعة الأمازيغية وبضمنها الفرد الأمازيغي ذاته مثلاً في دول شمال افريقيا المغاربية؟ هذا التمييز غير منطقي لمن يعمل ويناضل كناشط في مجال الدفاع عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بما فيها اللائحة العالمية لحقوق الإنسان. إن الفصل والتمييز موقف غير مقبول ويتنافى مع مهمات الناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. من هنا جاء في مقالي السالف الذكر الذي هو محور نقاشنا، بأن مبادئ شرعة حقوق الإنسان، بما فيها اللائحة الدولية، هي سلة واحدة لا يمكن انتقاء مبادئ وحقوق منها، ورفض مبادئ وحقوق أخرى، بذريعة أن حقوق الجماعة لها خصوصية تختلف عن حقوق الفرد، وأن الأخيرة هي من واجبات منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان. هناك خصوصية حين يكون الاضطهاد والتمييز جماعي لشعب كامل، ولكن هذه الخصوصية لا يعني بأي حال فصل الدفاع عن حقوق الأفراد حين تتعرض حقوقهم إلى الانتهاك عن حقوق الجماعة أو شعب ما في نضال منظمات حقوق الإنسان.       
14/09/2018


الاخ العزيز الدكتور كاظم حبيب المحترم
تحية طيبة، وبعد
استمتعت، كما هي العادة دائما مع كتاباتكم القيمة والغنية والمتنوعة، بموضوعكم الاخير عن حقوق الانسان في العراق والذي وصفتموه بانه "خلوة مع النفس بصوت مسموع". ولي، ان سمحتم، بعض الملاحظات التي هي حصيلة تجربتي وعملي في هذا المجال منذ سنوات اود ان اطرحها عليكم.
اولا: ان (حركة) حقوق الانسان في العراق حديثة النشأة وهي تعود الى فترة ما بعد الغزو الامريكي في للعراق عام 2003.لم يشهد العراق من قبل حركة حقوقية بالمعنى المتعارف عليه بسبب الانظمة القمعية والدكتاتورية التي توالت عليه، اما النشاطات الحقوقية المدافعة عن حقوق الانسان فقد كانت تجري في إطار عمل الاحزاب والجماعات السياسية باعتبارها مطالب عامة. ما شهدته حركات واحزاب المعارضة لصدام حسين في الخارج من تأسيس لمنظمات حقوقية، خاصة في اوربا، كانت بالتأكيد منظمات مسيسة انشأت لتخدم اغراضا سياسية وحزبية ودعائية في سياق العمل المضاد للنظام حتى لو انها كانت تساهم فعلا في فضح جرائم النظام وانتهاكاته لدى المجتمع الدولي.
ان الامراض العديدة التي تعاني منها (حركة) حقوق الانسان الان، او بعضها على اقل تقدير، تأتي من الارث الذي وصلها عبر منظمات الماضي وشخصياته التي كانت ولا زالت مسيسة اما بسبب ارتباطاتها او بسبب العادات والمنهج الذي تمرست عليه بالإضافة الى علاقاتها الحالية السياسية وارتباطاتها الايدولوجية، وما اضيف اليها الان من ارتباطات طائفية وإثنية (قومية).فالمتابع يعرف جيدا ان التجربة المحدودة للنشطاء السياسيين القدماء او السابقين في مجال  حقوق الانسان العراقية محدودة ولا يمكنها ان تفي باشتراطات عمل الحركات الحقوقية العالمية، وخاصة وفق المعايير العالمية لحركة حقوق الانسان الدولية.
هذا نقص او عيب اساسي يجب تشخيصه ومعالجته.
ثانيا: ان (حركة) حقوق الانسان في العراق تعاني من واستقطابات طائفية ومذهبية وإثنية ودينية شديدة حولت المنظمات (بعضها او الكثير منها) التي تعمل في هذا الاتجاه الى واجهات لطوائفها واديانها وإثنياتها وهذه مشكلة حقيقية ينبغي مواجهتها وحلها ومن دون مواجهة هذا التحدي لن تنجح الحركة الحقوقية العراقية في بناء نفسها وفي مواجهة الانتهاكات والتجاوزات الفظيعة. ان نشطاء حقوقيين يدافعون عن حقوق ابناء ملتهم وطائفتهم ودينهم فقط لا يمكن ان يدافعوا عن حقوق (الإنسان) بل لا يمكن ان يتمتعوا بالمصداقية المطلوبة لاكتساب شرف الدفاع عن حقوق الانسان.
المطلوب مواجهة هذا التحدي بكل قوة وجسارة وعلى كل الاصعدة كي تحصل الحركة الحقوقية العراقية على المصداقية والموثوقية وعلى بطاقة الدخول الى رحاب حركة الانسان العالمية. هذا الموضوع بالذات هو موضع اهتمامي وسأناقشه في ورقة في مؤتمر دولي في شهر تشرين الثاني القادم واتمنى ان تنعقد حوله ندوة عراقية خاصة للدفع بالمزيد من الافكار والرؤى بهذا الاتجاه، خاصة وان الصراعات الطائفية في العراق مستمرة، ولربما تتأجج مرة اخرى في اي وقت.
ثالثا: ان (فكرة) حقوق الانسان والتي اصبحت الان ميدانا من ميادين العمل الفكري والثقافي والفلسفي، اضافة طبعا للميادين الحقوقية والقانونية والسياسية، تدور جوهريا حول اساسيات وهي كل ما يتعلق بالحريات والحقوق والعدالة التي جاءت بها الثقافات والشرائع والاديان ولكنها اضحت مقننة باتفاقيات ومعاهدات دولية اصبحت هي الإطار القانوني الكوني الشامل الذي يتم الالتزام به ليس فقط لتأكيد شمولية حقوق الانسان وانما ايضا بربطها بالقانون الدولي وبالعلاقات الدولية متعددة الاوجه. ان الجميع يعترف بان الشمولية لا تعني عدم وجود خصوصية، ولكن هناك اصرار انه لا ينبغي ان تستخدم الخصوصيات بهدف التملص من الالتزامات الاساسية التي تعتبر الانسان انسانا مهما كان لونه او دينه او ..... إلخ.
من هذا المنطلق فان فكرة حقوق الانسان لابد ان تعني اولا بالفرد، اي الانسان، اما الجماعات او الاقليات او الاثنيات فان حقوقهم تأتي في إطار "الحقوق الجماعية" وليس الفردية وفي سياق القانون الدولي والاتفاقيات الخاصة بالأقليات والاثنيات. ان اخر من اهتم بالتأكيد والتركيز على هذه الفكرة هو المفوض السامي الاممي لحقوق الانسان السابق زيد بن رعد الحسين بقوله ان "مهمة المدافعين عن حقوق الانسان هي "الدفاع عن حقوق الافراد، اما الدفاع عن جماعات معينة ضد جماعات اخرى فانه يرتقي الى خلق لصراعات الغد." وانا اجدا ان هذه قضية مهمة جدا في السياق العراقي ينبغي مراعاتها لتجنب الخلط بين القضيتين.
رابعا: ان قضية حق تقرير المصير هي حق للشعوب وليس للأفراد ولا ينبغي الخلط بينهما. وفي السياق العراقي هذا موضوع في غاية الاهمية من الناحيتين السياسية والحقوقية ويجب ان يكون واضحا لدى العاملين في كلا النشاطين. ان حق تقرير المصير منذ ظهوره في اوربا في عهد تصاعد قضايا القوميات وتطوره بعد ذلك كمبدأ سياسي وحتى تبنيه في ميثاق الامم المتحدة وبعض وثائقها الاخرى هو حق خاص للشعوب للتخلص من هيمنة امة اخرى او من الاستعمار الاجنبي وليس حقا للأفراد وهو امر ضروري لإعطاء الامر بعدا سياسا بكل ما يتعلق الامر بقضايا الدولة والاستقلال والسيادة.
ان دفاع المدافعين عن حق الشعوب في تقرير المصير يأتي من ايمانهم بالحق وبالحريات والعدالة ولكن عدم تبنيهم او دفاعهم عن حق تقرير مصير يؤدي الى انفصال جزء من بلادهم لا ينزع عنهم هويتهم في كونهم نشطاء حقوقيين لأنهم يتخذون هنا موقفا سياسيا باعتبارهم مواطنين في دولة وليس باعتبارهم نشطاء حقوقيين. وفي الحالة العراقية فان نشطاء حقوق الانسان قد يدافعون عن حق الانسان الكردي كما يدافعون عن حق الشيعي والسني والمسيحي وغيرهم ولكنهم لا يرون بالضرورة انهم يشاركون الكردي حقه (الجماعي) في تقرير المصير. تلك قضيتان منفصلتان والربط بينهما لا ينفع بل يضر العمل الحقوقي.
من الطبيعي ان هناك كلام كثير بخصوص هذا الموضوع ولكني اشير اليه هنا باختصار لتركيزكم عليه في مقالتكم ولمعرفتي ايضا باهتمامكم الشخصي تاريخيا به ولكني مع كل الاحترام والود الذي أكنه لكم ولمسيرتكم الشخصية والنضالية والسياسية ارى من واجبي ان اطرح رأيا قد يكون مخالفا له مع اصراري على ضرورة ان تلتزم الحركة الحقوقية العراقية بالتفريق في عملها بين النشاطات المتعلقة بحقوق الانسان وبين الدعوة الى تأييد حق تقرير المصير للكرد. ان هذا الخلط يؤدي الى خلاف بشأن قضية ليست في صميم عمل الحقوقيين والى شق وحدة الحركة الحقوقية وبعثرة جهودها.
خامسا: هناك ملاحظات ايضا تتعلق بالمنظمات التي تعمل في مجال الدفاع عن حقوق الاقليات والإثنيات في العراق وهي تحتاج الى تفصيل كثير بشأن الفصل بين ما هو حق انسان (فردي) وحق جماعي للأقلية او الجماعة الدينية او الإثنية. ان نظرة عابرة على تسميات ونشاطات الكثير من المنظمات تكشف انها تندرج في إطار الدفاع عن حق الجماعة، وهو بطبيعة الحال حق مكفول وطبيعي ومشروع ومطلوب وخصص له القانون الدولي والاتفاقات الدولية حيزا كبيرا من التشريعات والمبادئ، ولكن لا ينبغي هنا ايضا الخلط بين ذلك وبين العمل في مجال حقوق الانسان على الرغم من ان الحركة الحقوقية ستظل تحمل دائما شعلة الدفاع عن هذه الجماعات ضد الانتهاكات التي تتعرض لها ضمن المعايير التي اختطتها حركة حقوق الانسان العالمية.
اشكرك جدا على اتاحة هذه الفرصة وايضا على رحابة صدرك (وهو أمر انا متأكد منه تماما) وارجو ان تتاح للإخوان في منظمات حقوق الانسان في العراق فرصة فتح باب النقاش بشأن هذه الافكار وغيرها بهدف تطوير عملها وادائها.
مع كل المحبة.
صلاح النصراوي


193
كاظم حبيب
الضغوط الإيرانية على قوى الإسلام السياسي العراقية.. إلى أين؟
تمارس الدولة الإيرانية بقضها وقضيضها، بكل سلطاتها ومؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والدينية، ضغوطاً متفاقمة ومتصاعدة يوماً بعد آخر على العراق حكومة وأحزاباً سياسية إسلامية وقومية، عربية وكردية، وميليشيات طائفية مسلحة و"منظمات مجتمع مدني!" إسلامية شيعية، من أجل إعادة إنتاج الوضع الطائفي المحاصصي القائم في العراق منذ العام 2003 حتى الوقت الحاضر، ولاسيما منذ أن تسلم المدعو إبراهيم الجعفري رئاسة الحكومة أثناء الاستفتاء على الدستور العراقي الجاري حالياً، حتى الوقت الحاضر. فلم تكتف بالهجوم الصاعق بكامل أسلحتها الإعلامية والدعائية الدينية وغير الدينية ضد رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، بسبب موقفه من العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، بل جندت كل ما تملكه من نفوذ سياسي واقتصادي واجتماعي-ديني مذهبي وعسكري للضغط على مقتدى الصدر وسائرون للموافقة على التنسيق والتعاون  وتشكيل الكتلة الأكبر مع قائد ميليشيا بدر الإيرانية النزعة والتكوين والمهمات، هادي العامري، والمسؤول الأول عن قائمة "فتح" التي تضم جزءاً من قادة الحشد الشعبي، بمن فيهم قيس الخزعلي، ومن لف لفه، من أتباع إيران في العراق. وهم بالتالي، يسعون إلى نسف ما طرحته قائمة "سائرون" من أهداف ومهمات، ولاسيما الابتعاد عن المحاصصة الطائفية ومحاربة الفساد والفاسدين، وأغلبهم في الأحزاب الإسلامية السياسية وفي قوائمهم الانتخابية ومن أتباع إيران، إضافة إلى رفض النفوذ والتأثير الأجنبي على القرار العراقي، ولاسيما إيران وتركيا ودول الخليج والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية. إن لهذه الدول كلها دون استثناء علاقات وامتداد في جميع المنظمات الإرهابية العاملة في المنطقة والخارج، ولاسيما تنظيم القاعدة وفروعه المحلية، ولهذا يفترض ألَّا نستغرب من احتمال التنسيق في التخريبات والحرائق التي أشعلت في البصرة لتشوه التظاهرات السلمية والمطالب الديمقراطية المشروعة لأهلنا في البصرة المستباحة.
إن تصريحات مقتدى الصدر اليومية المتباينة تجعل المتحالفين في "سائرون" في حيرة من أمرهم، فهم لا يستطيعون نشر تصريحات معارضة لتصريحات الصدر التي تنتقل من تحالف إلى آخر حسب مستوى الضغوط المسلطة عليه من إيران وحزب الله في لبنان وقوى داخلية ايضاً، ولاسيما من قاسم سليماني ومن معه من القوى الإيرانية المقيمة في العراق لفرض النهج الإيراني السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري على العراق، أو لهوى في نفسه!
كما إن القوى السياسية الكردية في كردستان العراق تتعرض هي الأخرى إلى ضغوط مماثلة سياسية واقتصادية واجتماعية، إضافة إلى ضغوط أمنية وعسكرية، وذلك بقصف مواقع في إقليم كردستان بذريعة قصف مواقع للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (حدكا). وقد أدى القصف الصاروخي الإيراني العدواني الأخير إلى استشهاد عدد غير قليل من المواطنات والمواطنين العراقيين والإيرانيين. ويهدف هذا الضغط إلى إقناع الكرد بكل السبل بضرورة تحالفهم مع فتح ومواصلة تأييد وجود نظام طائفي سياسي في البلاد، الذي كان، ولا يزال، السبب وراء الكوارث والمآسي التي عانى منها العرب والكرد والكلدان والآشوريين والسريان والإيزيديين والتركمان في محافظة نينوى وبقية العراقيات والعراقيين في أنحاء البلاد الأخرى، ومنهم المندائيين في جنوب ووسط العراق.       
إن إعادة إنتاج نظام المحاصصة الطائفي في العراق يعني دون أدنى ريب استمرار الفساد والإرهاب والتخلف والعجز عن التنمية وتوفير الخدمات وتغيير الواقع البائس والرث الراهن والبطالة المتفشية، يعني استمرار الدمج السلبي المدمر بين الدين (المذهب) والدولة، وهي مخالفة صريحة للدستور العراقي الراهن، رغم كل سلبياته ونواقصه. كما إنها ستجعل من العراق ساحة حقيقية للصراع الديني والمذهبي والموت المتجدد للمواطنات والمواطنين بصيغ مختلفة.
لقد طرح الحزب الشيوعي العراق، في مقال مهم في جريدة طريق الشعب لهذا اليوم (13/09/2018) تحت عنوان "البرنامج الاصلاحي الحقيقي هو المخرج"، رأيه في الأهداف التي يفترض أن تحققها الحكومة العراقية القادمة، وإذ أتفق مع تلك الأسس والأهداف، يبقى السؤال المشروع الذي يطرحه واقع العراق الراهن هو: هل في مقدور تحالف بين "سائرون" و"الفتح"، ومن معه، تحقيق مثل هذه الأهداف المهمة، علماً بأن الأخير، ومن معه، خاضع من قمة رأسه إلى أخمص قدميه في الدفاع عن هيمنة إيران على القرار السياسي والاقتصادي والدولي العراقي، والذي لا يأتمر إلا بأوامر الذي يقلده مذهبياً، المرشد الإيراني، على خامنئي، على حد تصريحاته بالذات والمنشورة في كل مكان. يقول الحزب الشيوعي العراقي بوضوح ما يلي:     
"ويتوجب القول ايضا في هذا السياق، ان من اهم حلقات الاصلاح تعزيز البناء المؤسسي للدولة بسلطاتها الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتجاوز حالة التشظي التي كرسها نهج المحاصصة، ومعالجة مسألة السلاح خارج إطار الدولة، والتوجه الجدي نحو مكافحة الفساد وتجفيف منابعه وعوامل اعادة انتاجه، كذلك محاربة الفاسدين، واتخاذ التدابير القانونية والادارية الضرورية لتحقيق ذلك كله، واعادة هيكلة المؤسسات المعنية وذات الصلة." ثم يؤكد المقال ما يلي:
"ومن الضروري بجانب ذلك التشديد على استقلالية القرار الوطني العراقي، وقطع طريق التدخلات الخارجية، وتأمين تمتع المواطنين بحقوقهم وحرياتهم الدستورية، من دون قمع او ملاحقة او تضييق". ولا ينسى المقال تأكيد أهمية الاستجابة لمطالب الشعب في الخدمات ولاسيما الماء والكهرباء وفرص العمل.. وتخفيف معاناة الناس في كل أنحاء العراق.
أؤكد سلفاً، إن تشكلت حكومة بهذه البنية أو التحالفات، ستكون وبالاً على الشعب، لأنها تعيد إنتاج ما هو قائم الآن، ولن تكون قادرة على محاربة الفساد بالفاسدين، ولا التصدي للطائفية بالطائفيين الذين مرغوا جباه الشعب بالتراب والبؤس والفاقة والخراب، ولن تتخذ قرارات مستقلة، لأن إيران ستكون المصدرة لتلك القرارات، ولن تحل الميليشيات المسلحة لأن قادة المليشيات سيكونون في الحكم مباشرة. إنها المأساة والمهزلة المتوقعة!!!
 



194
كاظم حبيب
خلوة مع النفس بصوت مسموع حول الموقف من حقوق الإنسان
الدول التي عشنا فيها، نحن أبناء وبنات الدول العربية من قوميات عديدة وديانات ومذاهب واتجاهات فلسفية وفكرية متنوعة، كانت ومازالت، دول غير ديمقراطية، استبدادية، سواء أكانت ملكية أم جمهورية، وسواء أكانت النظم السياسية فيها تحكم عبر هذا الحزب أم ذاك، أم عبر هذه العائلة والعشيرة أم تلك، أم عبر العسكر أم شيوخ الدين، أم تحالف بين بعضها والبعض الآخر. فكل هذه النظم السياسية لم تعرف يوماً الديمقراطية حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق القوميات ولم تكف عن التمييز بين البشر، وهي نظم لم تكن من حضارة القرن العشرين ولا هي الآن من حضارة وثقافة القرن الحادي والعشرين. إنها نظم سياسية بالية تعود إلى ماضٍ سحيق ومرير.
ولدنا وترعرعنا وتربينا وعشنا في مجتمعات لم تعرف المعنى الحقيقي للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب والفلسفات، لم تعرف سوى عنف الدولة وسلطاتها الثلاث، وعنف العائلة وعنف الشارع والمدرسة بشكل عام. لم يعرف آباؤنا ذلك ولا أجدادنا المساواة في التعامل بين الرجل والمرأة أو بين العائلات أو بين البشر عموماً. فالتمييز كان حاضراً سواء أكان ضد الجنس الآخر، ضد المرأة، أم ضد الشخص الآخر من العشيرة الأخرى، أم من القومية الأخرى، أم من دين أو مذهب آخر. كان هذا في البيت والمدرسة والدوائر الحكومية وفي الشارع وعموم المجتمع. كان هذا في إطار الدولة العثمانية الثيوقراطية التي حكمت العراق ما يقرب من أربعة قرون عجاف وما بعدها.
كان العنف المنزلي والعنف في المدرسة من قبل المعلمين والمعلمات أو مدير ومديرة المدرسة، وكان في الشارع، وقبل هذا وذاك كانت الدولة بسلطاتها ومؤسساتها المختلفة، ولاسيما الأمنية، تمارس العنف ضد مواطنيها، وبالتالي ينعكس ذلك في سلوك الرعية أو المواطنين والمواطنات.
من يقرأ الكتب المدرسية في درس التاريخ مثلاً، سيجد العجب العجاب، سيتعلم، وهو في لا يزال صفحة بيضاء، تاريخنا العربي والإسلامي مقلوباً، سيجده ضد حقائق التاريخ. مليء بالكذب والادعاء والافتراء. يكرس العداوة والبغضاء ضد الآخر، سواء أكانت من قوميات أم شعوب أخرى أم من ديانات ومذاهب أخرى. نحن الأفضل والآخرون هم الأسوأ، إنها الرؤية النمطية الخاطئة والمضرة وذات المضمون الشوفيني والعنصري.   
من هذا الواقع المرير، وتحت وطأة هذه الظروف وفي فترات مختلفة، التحق البعض أو الكثير من المواطنين على نحو خاص، أي من أبناء وبنات هذه الدول، بمنظمات حقوق الإنسان، لأننا عانينا من مرارة الاستبداد وظلم الحكام وقسوة النظم السياسية. ولكن ونحن ندعي أننا نناضل من أجل حقوق الإنسان، وندعي فهمنا لها، ولا أعمم هذه الظاهرة على الجميع، أن بعضنا أو الكثير منا، ولا استثني نفسي، لم نعِ حتى الآن مضامين ومعاني مبادئ حقوق الإنسان وشرعتها وعياً كافياً، لم نستوعبها استيعاباً مناسباً، وبالتالي لم نتصرف في كل الأحوال تصرفاً يتناغم ويتفاعل مع تلك المبادئ. إن هذا الواقع ناجم عن الواقع الذي عشنا فيه ولم نتخلص من عواقبه في خلفيات تفكيرنا وسلوكنا، وتطفح على سطح الأحداث في الملمات وفي الحالات الحرجة التي تمسنا أو تمس مصالح من ننتمي أو ننتسب لهم.
الكثير من الديمقراطيين والتقدميين فقدوا البصر والبصيرة الواقعيين السليمين حين برزت الصراعات الطائفية، فقدوا بوصلة حقوق الإنسان وراحوا يتحزبون لهذه الطائفة أو تلك ويلتحقون بهذا الحزب الطائفي أو ذاك، أو يؤيدون طروحاته ويساندون سلوكياته التي تتعارض كلية مع مبادئ حقوق الإنسان، في حين أنهم لا زالوا أعضاء في منظمات تقول بأنها مع حقوق الإنسان، أو أنها في النشر مع حقوق الإنسان. هناك منظمات أسست على اساس الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكنها تقف مع هذا الشعب أو ذاك حين يتعرض للتجاوز على حقوق الإنسان، ولكنها تنسى شعباً أخر حين يتعرض لانتهاك حقوقه، رغم معرفتها بما يجري في هذه الدولة أو تلك من الدول العربية، ولا تجد إلا القليل من الناشطين يعترضون على هذا النهج المتعارض مع حقوق الإنسان.
مبادئ حقوق الإنسان سلة متكاملة لا يمكن ولا يجوز الأخذ ببعضها وإهمال بعضها الآخر، لا يمكن ولا يجوز أن تسود الانتقائية في ممارسات من يعمل ويناضل في مجال حقوق الإنسان. هذا الموقف أعيشه يومياً حين أتابع نشاط بعض أو أغلب منظمات حقوق الإنسان في الدول العربية، ومنها العراق، وتلك التي في خارج دولها، سواء أكان في مجال العلاقات الإنسانية والاجتماعية، أم في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان أو في التعامل العائلي. إن بعض هؤلاء يعتبر عبئاً حقيقياً على عمل حقوق الإنسان، لأنهم لا يقدمون النموذج المطلوب لنشطاء حقوق الإنسان، بل يساهمون في الإساءة لحقوق الإنسان.
تجد عضواً في منظمات حقوق الإنسان يتبنى الدفاع عن حقوق الإنسان ينتقد هذا الحزب أو ذاك حين يرتكب تجاوزاً على حقوق الإنسان، ولكنه ينسى انتقاد الحزب الذي ينتمي إليه حين يرتكب تجاوزاً على حقوق الإنسان وانتهاكاً لها. إن مثل هذا الشخص لم يعِ بعمق ومسؤولية مبادئ حقوق الإنسان التي تستوجب خلع الحزبي عباءته الحزبية حين يحتكم لحقوق الإنسان، وإلا أصبح كـ "من يعلم على الصلاة ولا يصلي!"، أو كما جاء في "مسرحية الكاتب الفرنسى الكبير موليير "تارتوف" في العام 1664 رسم فيها شخصية رجل دين فاسد يسمى تارتوف، يسعى إلى إشباع شهواته الإنسانية الرخيصة وهو يتظاهر بالتقوى..."، (موقع حروفي، علاء الأسواني، الدين الشكلي، 12/05/2018). ووقد أصبحت شخصية تارتوف نموذجاً سيئاً لمن يتناقض سلوكه مع ادعاءه بالتدين، ونجد هذا في واقع الحال في عدد هائل من حكام العراق الحاليين من أعضاء الأحزاب الإسلامية السياسية ومن المساندين لهم.   
كان أغلب الديمقراطيين والتقدميين إلى جانب حق الشعب الكردي في تقرير مصيره التزاماً منهم بالمبادئ التي آمنوا بها، ومنها حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. ولكن حين مورست سياسات خاطئة من الحكومتين الاتحادية وإقليم كردستان العراق، وتطور الوضع سلبياً، انقلب البعض لا ضد السياسات الخاطئة التي مارستها الحكومة الكردستانية أو قيادة الإقليم السياسية فحسب، بل وضد حق تقرير المصير الذي هو جزء ثابت وأصيل من مبادئ حقوق الإنسان وحقوق الشعوب. وهكذا نجد هذا الموقف السلبي والخاطئ لدى بعض النشطاء ممن يعمل في منظمات حقوق الإنسان والأعذار التي تقدم كثيرة ولكنها غير مبررة وغير صحيحة.                           
الإنسان كيان قابل للتعلم، وليس فينا من ولد ورضع مبادئ حقوق الإنسان مع حليب أمه، بل حاولنا أن نتعلمها ولا زلنا نحتاج إلى الإمعان في تعلمها واستيعاب مضامينها وسبل الالتزام بها والدفاع عنها، وهو واجب أساسي ورئيسي من واجبات من يعمل كناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. من واجبنا أن نتخلص مما علق فينا من رواسب العلاقات في مجتمعاتنا التي تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، سواء اكان في الوطن أم خارجه، ومهمة من هم في الداخل أصعب بكثير ممن هم في الخارج.

195
كاظم حبيب
مأساة البصرة ومهزلة جلسة التشريعي-التنفيذي المشتركة
من شاهد جلسة مجلس النواب العراقي الاستثنائية بحضور مجلس الوزراء ومحافظ البصرة، مع غياب 149 نائباً عن الجلسة، رغم الادعاء باستثنائيتها وأهميتها وعجالتها، يتيقن بأن المأساة التي يعيش تحت وطأتها  الشعب العراقي عموماً وأهل البصرة خصوصاً خلال هذا العام والأعوام السابقة، يقابلها مهزلة مروعة لا مثيل لها أبطالها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، مهزلة الصراع على السلطة بين قوى وأحزاب سياسية إسلامية طائفية مقيتة حكمت العراق طيلة الفترة المنصرمة وشعارها الأول الاحتفاظ بالسلطة على وفق النهج القديم ومواصلة نهب الموارد المالية وتجويع الشعب وتركيعه لإرادتها ومصالحها غير المشروعة. من تتبع كلمات رئيس الوزراء والوزراء والوزيرات من جهة، ومحافظ البصرة ومن معه ونواب البصرة أدرك عظم الكارثة التي يعاني منها الشعب العراقي، فكل من هؤلاء لم يجد ما يعترف به أمام الشعب ويدين الأخطاء الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الخاطئة والخطيرة التي ارتكبها رئيس ومجلس الوزراء والوزراء من جهة، ومحافظ البصرة وبقية المسؤولين فيها من جهة أخرى، ومجلس النواب العراقي طيلة الأعوام المنصرمة من جهة ثالثة، بل كانت هناك اتهامات ومزايدات وادعاءات بأنهم عملوا كل شيء لكي لا تخرب البصرة ولا يتسمم أهلها ولا يجدون ماءً نقياً وتيار كهربائي مستمر و...إلخ، وأن أهل البصرة هم الذين خربوا كل شيء، كما يبدو من طريقة طرحهم وتحميل كل طرف الطرف الآخر المسؤولية عما حصل في البصرة وبقية أنحاء العراق. انكم تجسدون بسلوككم المثل الشعبي النابت والمناسب لأوضاعكم "غراب يگلة لغراب وجهك أبگع". لقد تسببتم وارتكبتم، وأنتم وأحزابكم جميعاً في الحكم، الكثير والكثير جداً من الكوارث والمآسي ومارستم أبشع الأساليب للحفاظ بهذه السلطة الطائفية المحاصصية المقيته، ولم تتورعوا عن استخدام الحديد والنار، سواء في العام 2011 أم هذا العام، بحق المتظاهرين السلميين الذين لم يطالبوا إلا بالماء والكهرباء والخبز والعمل الذي سرقتموه من أفواه وحياة الأطفال والنساء والشيوخ وبقية بنات وأبناء الشعب العراقي المستباح بكم.
كم كنتم أغبياء في أسلوب طرحكم لما قمتم به خلال مسيرة الـ 15 سنة المنصرمة: وعود عسلية كاذبة وخداع وضحك على ذقون الناس الطيبين والبسطاء والمخدوعين بكم وبأغلب شيوخ الدين والأدعياء منهم وكل المتحالفين مع هذا الحكم البائس والرث. كم أبديتم حمية في الدفاع عن أنفسكم في مواجهة الاتهامات المتبادلة وبأساليب سيئة متوترة وفارغة من أي معنى، في حين لم تظهر هذه الحمية المطلوبة في الدفاع عن مصالح الشعب وسيادة البلاد واستقلاله المشروخ بسلوك وتدخل دول الجوار. الوزيرات والوزراء الذين تحدثوا لم يجدوا نقصاً في عمل وزاراتهم، وبالتالي فالنواقص والأخطاء التي كانت ضمن الأسباب لما حصل ويحصل في البصرة، كان سببها الناس وليس الوزارات والوزراء والوزيرات وبقية المسؤولين الفاسدين دون استثناء.
هل تابعتم ما طرحه محافظ البصرة حين قال له رئيس الوزراء، لماذا تركت الموقع في هذا الظرف الحرج، فقال له: لقد طلبني "زعيم الشعب!" ولو كان قد طلبك لذهبت أيضاً.. هكذا يفهم هذا المحافظ العلاقة بين الحزب الذي ينتمي إليه والدولة التي هو موظف فيها، لا يستطيع أن يميز بين كونه موظفاً ومسؤولاً عن محافظته ويتبع رئيس الوزراء أولاً وقبل كل شيء، وليس لحزبه أو المسؤول الديني الذي يقلده، إلا في المبادئ التي يحملها، إن كان يحمل مبادئ تخدم الشعب والوطن، وحين يكون خارج الوظيفة يمكنه أن يخضع ويركع لمن يراه قائداً له. إنه الدمج السيء والخطير بين الدين والدولة!!!
تحدثتم عن المندسين الذين أشعلوا الحرائق! ولكن من هم المندسون، ألم تسمعوا ما قاله محافظ البصرة، بأن قوى من الحشد، وأخر يشير إلى قوى من داعش، وثالث يؤكد على دور المليشيات الطائفية المسلحة. ولا استبعد أن يكون هؤلاء جميعاً مشاركين في الحرائق التي وقعت في البصرة وليس المتظاهرين السلميين والديمقراطيين والذين يميزون بين المسؤول عن الجرائم التي ارتكبت وترتكب بحق الشعب العراقي خلال الأعوام المنصرمة، وبين المباني العام والخاصة التي لا يجوز حرقها أو تدميرها فهي ملك الشعب والناس الأفراد. يتحدث محافظ البصرة عن مدير الأمن أو الشرطة بكونه "حرامي"، لماذا لم تبادروا إلى التحقيق في هذه التهمة، رغم أن الكثير والكثير جداً ممن هم متهمون بسرقة المال العام بطرق شتى!
لقد تحدثتم عن إجراءات سريعة لمعالجة وضع البصرة، وعلى طريقتكم المعروفة سوف لن تنفذ هذه الإجراءات كما ينبغي، لأن الفساد قد دخل إلى كل مسامات أدمغة واجسام غالبية المسؤولين في العراق، ومع ذلك اليس حال ذي قار مشابه لحالة البصرة والعمارة والديوانية وكربلاء والحلة والكوت وغيرها، فكيف ستعالجون حالات كل العراق قبل أن تتفجر الأوضاع كما تفجرت في البصرة ولم تنته حتى الآن.
ليس هناك من يثق بكم، لأنكم لستم أهلاً للثقة، وقد خبركم الشعب 15 عاماً وتعملون اليوم لتستمروا في الحكم سنوات أخرى مميتة. لم يأتي شعار "باگونة الحرامية وهتكونة الشيلاتية" من فراغ، بل جاء معبراً عن أوضاع الدولة الهشة والحكام والبلاد والشعب.
باختصار شديد الشعب لا يريدكم، عليكم أن تنزاحوا من الساحة السياسية، عليكم أن تتركوا الشعب يدير أموره بيديه، قبل أن تتفجر في كل مكان، وستستغل من أيدي خبيثة كأياديكم لتمعن في قتل الناس الأبرياء وحرق المزيد من البنايات العامة والخاصة.
من شاهدكم يوم أمس أدرك بأنكم غير أهل للحكم، وكم كان صادقاً رئيس السن الدكتور محمد علي زيني حين قال تريدون إعمار البصرة بعد خراب البصرة، وأقول تريدون الآن إصلاح العراق بعد خراب العراق أيضاً، وأنتم غير آهلين لذلك!!!
لم تكن الانتفاضة الشعبية في البصرة بعد طول عذاب واستباحة للحقوق والمصالح من قوى أجنبية، سوى الشرارة الأولى التي اعلنت عن قرب اندلاع شرارات أقوى وأشد سوف تنتشر في سائر أنحاء العراق، ما لم تدرك تلك الأحزاب والقوى والأطراف المشاركة في الحكم حتى الوقت الحاضر، بأن نهجهم الإيديولوجي وسياساتهم الداخلية الفعلية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وعلاقاتهم وسياساتهم الخارجية، كلها لم تعد مقبولة من الشعب العراقي بل مرفوضة، وأن الشعب مستعد لتقديم المزيد من التضحيات الغالية، عبر نضاله السلمي المسؤول، للخلاص من هذا النظام السياسي الطائفي والمحاصصي الذي أذل الشعب وافقره وجوعه وسرق لقمة عيش العائلات العراقية، ولاسيما الفقيرة والمسلوبة، والتي إذا انتفضت عندها تعرفونها وتعرفون النتائج والعواقب في آن!!!
         


196
كاظم حبيب
أهل البصرة ينزفون دماً.. من المسؤول؟
يتحدث حكام العراق والانتهازيون ووعاظ السلاطين والفاسدون بلغة واحدة، يتحدثون عن العنف في المظاهرات، وكلهم يعرفون بأن العنف حكومي المصدر، وتشارك معه كل المليشيات الطائفية المسلحة والقوى العدوانية القادمة من إيران وأتباعها في البصرة، كلهم يعرفون بأن العنف ليس مصدره الشعب والمتظاهرين الذين يرفعون راية السلام بيد، ومطالب الشعب العادلة والمشروعة والملحة باليد الأخرى. إنهم يتحدثون عن حق الشعب في التظاهر السلمي ومثبت دستورياً بصوت مسموع ومن على منابر الخطابة وفي المؤتمرات الصحفية، كما فعل رئيس الحكومة الحالية باستمرار، ولكنهم في الوقت ذاته يصدرون الأوامر لقوات الأمن والجيش بتوجيه نيران رشاشاتهم إلى صدور وظهور المتظاهرين، والغاز المسيل للدموع، وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين السلميين. وقد أدت تلك الأوامر إلى استشهاد المزيد من المتظاهرين الشجعان وإلى سقوط المزيد من الجرحى والمعوقين. لا يمكن لأي شرطي أو رجل أمن أو جندي إن يطلق رصاصة واحدة إلى جموع المتظاهرين ما لم يكن يمتلك القرار الصادر عن الجهات المسؤولة عنه وعن إصدار مثل هذه القرارات. ويبقى المصدر الأول والرئيسي في إصدار تلك القرارات هو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة، حيدر العبادي. والمسؤولة تتوجه إليه أياً كان المسؤول الأقل منه في المسؤولية الذي أصدر مثل تلك القرارات. إن تشكيل لجان تحقيقية لا تعني هنا سوى إماتة القضية وكسب الوقت لنسيان الحدث الجلل، حدث سقوط قتلى وجرحى ومعوقين بين المتظاهرين السلميين الذيم لم يرفعوا السلاح بوجه الحكومة الاتحادية الفاسدة والحكومة المحلة الأكثر فساداً وسوءاّ، بل رفعوا رايات كتب عليها مطالب الشعب: الماء النقي للشرب، كهرباء يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، عمل للشبيبة العاطلة عن العمل، مستشفيات ومستوصفات نظيفة ومعالجات طبية للمرضى والمصابين بإمراض سرطانية وأوبئة كثيرة، مدارس آدمية للتلاميذ والطلبة، أدوية غير فاسدة، حل الميليشيات الطائفية المسلحة وجعل السلاح حكراً بيد الدولة، محاربة الفساد والفاسدين وتقديمهم للمحاكمة أياً كان موقعهم في الدولة، حكومة وطنية غير طائفية وبعيداً عن المحاصصات الطائفية المذلة، منع دول الجوار من التدخل في الشؤون العراقية، ومن أجل أصار قرارات عراقية سيادية مستقلة...الخ.
إن إدانة استخدام العنف والسلاح والرصاص الحي في مواجهة التظاهرات السلمية وقمعها لم يعد كافياً بأي حال، بل لا بد من المطالبة الملحة والفورية بتقديم كل المسؤولين عن الدولة العراقية الذين قصروا في واجباتهم ومنها توفير مستلزمات استتباب الأمن والاستقرار، ومنها توفير الماء والكهرباء ...الخ، وحماية حياة المتظاهرين وتظاهراتهم السلمية من أيدي العابثين بحياة الناس الأبرياء، إلى القضاء العراقي لينالوا الجزاء العادل.
لا يكفي أن نطالب بإيقاف استخدام العنف والسلاح في مواجهة مطالب المتظاهرين، بل يجب أن نطالب بالتحقيق الفوري والسريع والخروج بنتائج تقود إلى تقديم جميع الذين شاركوا في عمليات القمع والقتل مباشرة، إلى القضاء العراقي.
لن يركن الشعب إلى الهدوء ولن يكف عن التظاهر السلمي والديمقراطي ما لم تلبى مطالبه العادلة والمشروعة والملحة. إنه لم ينتفض لكي تسفك دماء الأبرياء من قبل القتلة الأوباش ولا لتحرق ممتلكات الدولة التي هي ممتلكاته، بل لكي يطالب باسم الشعب كله عن الزامية تحقيق مصالح الشعب الحيوية والأساسية التي أهملتها الحكومة الاتحادية والحكومة المحلية في البصرة وبقية الحكومات الملحية في جميع أنحاء العراق، ومنها محافظة ذي قار التي يمكن أن تنشأ فيها ذات الأوضاع الجارية في البصرة ما لم تبادر الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لمعالجة هناك وفي كل المحافظات. 
أدعو جميع مواطنات ومواطني العراق، وأينما وجدوا، إلى حمل راية التضامن الصادق والمستمر والتفاعل الإيجابي المؤثر مع أهل البصرة والمتظاهرين السلميين، مع أهل ذي قار وكل المحافظات العراقية الأخرى والمطالبة بتحقيق مصالح الشعب العراقي التي أهملت بإصرار متعمد وكريه من جانب المسؤولين في الدولة العراقية والأحزاب الحاكمة على مدى 15 سنة المنصرمة. إنه الطريق المضمون لانتزاع المطالب المشروعة والعادلة من أيدي أولئك الحكام الذين فقدوا الذمة والضمير، ولم يعد يؤنبهم لما فعلوه من بؤس وفاقة وحرمان ومصادرة لحقوق الشعب وتخلي عن الواجبات لصالح الشعب. وها هم الذين حكموا العراق بالفساد والغش والخديعة، وبالحديد والنار، يتكالبون على الحكم من أجل إعادة إنتاج ما حصل من اجتياح وغزو وقتل وتشريد وتدمير وتهجير لنسبة عالية من سكان العراق خلال الفترة الواقعة بين 2006 -2014، فهل سيتمكن الشعب من كبحهم وصدهم عن الحكم وإرسالهم إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، أو إلى اسيادهم في إيران أو غيرها من دول الجوار. فتشوا عن المندسين الذين يحرقون الدوائر الرسمي والأملاك العامة والخاصة في صفوف القوى المناهضة للمظاهرات السلمية، عن أولئك الذين يريدون الإساءة للشعب ومطالبه السلمية العادلة، عن أولئك الذين يريدون إشاعة الفوضى في البلاد ليفرضوا سياساتهم المناهضة للشعب ومصالحه!       
إن انتصار الشعب في معركته ضد الطائفية والمحاصصة الطائفية المذلة ومن اجل تحقيق التنمية والخدمات السريع للشعب تتحقق عبر أصرار الشعب على التظاهر السلمي والديمقراطي ورفض العنف الحكومة ومن أي جهة أخرى، ولاسيما هناك من يرغب في إشاعة الحرائق وبث الرعب والفوضى في البلاد. إن شبيبة العراق الغاضبة والمنتفضة لن تلجأ إلى حرق الدوائر الحكومية ومؤسسات الدولة والمال العام، ولا بد للمسؤولين من التحري عن تلك الأيدي الخبيثة التي تحاول ممارسة إشعال الحرائق لإجهاض الانتفاضة الشعبية والمطالبة العادلة والمروعة بالحقوق المغتصبة والمصادرة، ومنها الخدمات العامة كالماء والكهرباء وفرص العمل. لقد ربط المتظاهرون في البصرة وحيثما تظاهر الشعب بوعي ومسؤولية بين المطالب الآنية والملحة للشعب وبين المطالب الوطنية العامة، وفي مقدمتها الخلاص من الحكم الطائفي والمحاصصي ومن الهويات الفرعية القاتلة والعمل على أساس المواطنة وإقامة دولة ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي.. إلخ..                       

197
كاظم حبيب
نقاش معرفي مع الكاتب حسن العاصي حول التنوير العربي
نشر الكاتب والشاعر والصحفي الأستاذ حسن العاصي مقالاً في موضوع مهم على موقع القنطرة بتاريخ 31/08/2018 يتساءل فيه "هل فشل التنوير العربي أم تعثر؟". والمقال محاولة جادة للإجابة عن هذا السؤال، بما احتواه من معلومات وأفكار تستحق القراءة والمناقشة. إن قراءتي للمقال ولدَّت لدي مجموعة من الملاحظات التي أحاول التركيز على بعضها لتنشيط النقاش حولها وحول الموضوع الحيوي ذاته، الذي يحتمل طرح السؤال التالي أيضاً: هل بدأ التنوير أصلاً في العالمين العربي والإسلامي، أم لا يزال بعيد المنال، رغم الإرهاصات الأولية التي حصلت في القرن التاسع أو بداية القرن العشرين، ثم أجهضت؟
سأحاول تناول تلك الملاحظات فيما يلي:
الملاحظة الأولى: يقول الكاتب ف مطلع مقاله: "وأنت تطالع كتب التاريخ تنبهر بصفحات مشرقة من تاريخ العرب والمسلمين، تجد مراحل عاشها أجدادنا وكانت منارات في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية والرياضيات والموسيقى والفلك والترجمة."
هذا الرأي يمثل نصف الحقيقة أو جانب واحد منها، في حين يتجنب الكاتب هنا الإشارة إلى النصف الثاني من الحقيقة المرةّ جانبها المعتم، لاسيما وهو يبحث في موضوع علمي يشمل جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تمس تاريخ العالمين العربي والإسلامي، على حد تعبيره. الجانب المشرق اقترن بما أشار إليه من منجزات كثيرة عبر التاريخ، ولكنه أهمل الجانب المظلم في تاريخ العرب والمسلمين على امتداد القرون المنصرمة، وسواء أكان ذلك في الإمبراطوريات العربية، كالدولة الأموية والدولة العباسية، أو الدولة العثمانية، وفي الدول الأخرى ذات الأكثرية المسلمة، كالدولة الفارسية، حيث تميز هذا التاريخ بالكثير من المظالم والتخلف والتمييز والاستغلال والبؤس والفاقة، التمييز الفاحش إزاء أتباع الديانات والمذاهب، وإزاء القوميات الأخرى، تاريخ تميز بالفتوحات الاستعمارية والحروب والهيمنة على مصائر الشعوب واستغلالها. ويمكن أن نورد ما تعرض له العرب أنفسهم على أيدي السلاطين العثمانيين على امتداد تاريخ هذه الدولة التي تبنت الإسلام وحكمت باسمه ما يقرب من 400 سنة أغلب شعوب منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما الشعوب العربية والشعب الكردي وشعوب أخرى في وسط أوروبا. ومن يقرأ بعلمية وحيادية تاريخ العرب والمسلمين، عليه أن يقرأ الجانبان المشرق والمعتم، والذي لم يقترن بالعرب بالأساس، بل بالعرب وغير العرب من المسلمين. ويمكن للسيد حسن العاصي أن يقرأ كتاب "موسوعة العذاب" بسبعة أجزاء للكاتب العراقي الأستاذ عبود الشالجي ليدرك ما كان يجري في هذا العالم الذي لم يجد فيه سوى "منارات في مختلف العلوم.." الخ. كما يمكن أن يعود لكتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة في العراق" ليطلع على ممارسات الإمبراطوريات العربية وكذلك الإسلامية (الترك والفرس) من مظالم وجرائم بشعة تقشعر لها الأبدان، وكلها باسم الإسلام!
الملاحظة الثانية: في فقرة أخرى يكتب السيد حسن العاصي ما يلي: "إنتاج معرفي علمي استعان به الغرب ونقل عنه المعارف وقطف ثمار العصر الذهبي للعرب والمسلمين، مما مكنه من شق طريقه نحو التطور والحداثة، بينما نحن أهدرنا هذه الإنجازات في غمرة الصراعات السياسية والاحتقان المذهبي والتعصب الديني والاقتتال الطائفي."
لا شك في أن الغرب قد استعان، للخلاص من ظلمات القرون الوسطى، بما تحقق للعرب والمسلمين من منجزات في مجالات كثيرة. ولكن هذه الرؤية هي الأخرى ذات جانب واحد، إذ إن العرب والمسلمين أنفسهم قد استعانوا، لبناء الدولة الأموية والدولة العباسية، بمنجزات اليونان وفارس في العلوم والفلسفة والمنطق والتنظيم والإدارة، من خلال تكثيف ترجمة المنجزات اليونانية في العلم والفلسفة والرياضيات وغيرها، والتي لعب المسيحيون العرب والكلدان والآشوريين والسريان، على نحو خاص، دورهم المميز والأساسي في ترجمتها إلى اللغة العربية، إضافة إلى اللغة السريانية. أشير إلى هذا لأوكد بأن الشعوب تتعلم من بعضها في مختلف مجالات العلم والفلسفة والأدب والثقافة. حصل هذا في السابق ويحصل اليوم وسيحصل في المستقبل أيضاً، وهو أمر ضروري ولا يمكن بناء الحضارة الحديثة دون الدمج العملي بين التراث الإيجابي لشعوبنا من جهة، وما تحقق للغرب الأوروبي والعام من منجزات في جميع مجالات العلوم المختلفة والفلسفة، ولاسيما في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والطب، والتقنيات الأكثر حداثة، في ثورتهم العلمية التقنية ومنجزاتها الكبيرة. أما وأن العرب قد دخلوا في صراعات سياسية واحتقان مذهبي.. الخ، فهي مسألة سأعود إليها في ملاحظة أخرى.   
الملاحظة الثالثة: في فقرة أخرى يعيد الأستاذ حسن العاصي ما يؤكده تاريخنا العربي الرسمي ويردده الكثير من الكتاب العرب والمسلمين واحداً بعد الآخر، حيث يكتب: "الأمة العربية والإسلامية دخلت العصر الظلامي حين دمّر المغول بيت الحكمة في بغداد عام 1258 ورموا أمهات المخطوطات العربية ونفائس كتب الطب والفلك والرياضيات في نهر دجلة."
ولكن إلى ماذا تشير الحقائق التاريخية، كما أرى، بهذا الصدد. الحقيقة التاريخية العلمية تقول غير ذلك. لقد كان القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، قمة ما وصل إليه العصر العباسي، رغم وجود جوانب سلبية كثيرة وكبيرة فيه. (يمكن الاطلاع في هذا الصدد على الكتاب المهم للدكتور عبد العزيز الدوري الموسوم " تاريخ العراق الاقتصاد في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة ثالثة 1995). ولكن، ومنذ منتصف القرن الحادي عشر والثاني عشر حتى منتصف القرن الثالث عشر كانت الدولة العباسية في تدهور شديد من حيث الفكر والسياسة، وفي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وفي ارتكاب المظالم بحق الناس من جانب الخلفاء والولاة والحكام وشيوخ الدين والفقهاء المسلمين. لقد انتعشت الدولة العباسية في فترات مختلفة، ولكنها لم تخل من مالم وتمييز. وعهد الخليفة عبد الله المأمون (786-833م) تميز بالانفتاح على الثقافات والأفكار واهتم بالترجمة والتأليف. وقد برز الكثير من العلماء الممتازين في عهده. كما كان للمعتزلة دورهم الكبير في الحكم وشؤون الدين والمجتمع، لتبني المأمون رؤيتهم في هذه الأمور، ولاسيما في الموقف المعروف من خلق القرآن والصراع العنيف مع الحنابلة في هذا الصدد وممارسة الاستبداد الفكري ضد أتباع الرأي الآخر، ولاسيما ضد الحنابلة، تماماً كما مارس الحنابلة ذات الأساليب القهرية إزاء من كان يحمل راياً في تفسير القرآن أو السنة المحمدية أو عموم الفقه الحنبلي.
وفي القرن الحادي عشر، حيث أقيمت دولة السلاجقة في إطار الإمبراطورية العباسية، لعب الفقيه الكبير أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي الأشعري (1058-1111م) دوراً تخريبياً ضد ما تحقق قبل ذاك من تطور في علوم الفلسفة والرياضيات والفيزياء وغيرها. إذ ناهض أي إعمال فعلي للعقل، ووقف ضد الفلسفة والمنطق والرياضيات والفيزياء وترجمة الفكر اليوناني، وضد كل ما هو عقلي وعقلاني واستقر جامداً على النقل وليس العقل، كما ناهض فكر أخوان الصفا والمعتزلة. وشاركه في هذه العمل التخريبي في الفكر العربي وفي عقول المسلمين الوزير نظام الملك، قوام الدين أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي (1018-1092م)، الذي أأقام مدارس المدارس النظامية التي اختصت بتدريس فقد الغزالي على نحو خاص. وكان أبو حامد الغزالي أبرز المدرسين في هذه المدارس.
لقد بدأ عصر العتمة وخراب الدولة العباسية ودخول العصر الظلامي قبل الغزو المغولي بعقود كثيرة، إذ لولا الخراب والانهيار الداخلي في الدولة العباسية والصراعات على السلطة والمال والنفوذ الذي تفاقم في تلك الفترة وفي عهد عبد الله المستعصم بالله (أبو عبد المجيد "المستعصم بالله" عبد الله بن منصور المستنصر بالله( 1213-1258م) لما استطاع هولاكو غزو بغداد والإجهاز عليها، لقد كان غزو هولاكو بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير! إن ما حصل أثناء غزو هولاكو كان نتيجة وليس السبب في تدهور الأمة العربية والمسلمين.
الملاحظة الرابعة: لقد شهدت بلاد الشام (راجع: د. ماهر الشريف، رواد الحداثة المجتمعية والدعوة الوطنية في بلاد الشام، الحوار المتمدن-العدد: 2678 - 2009 / 6 / 15)، ومصر حركة تنويرية بطيئة ووجلة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولكنها توقفت منذ الربع الأول القرن العشرين تقريباً ودفنت على عجل ولم تنتعش حتى الوقت الحاضر، رغم وجود بعض المظاهر المدنية التي تشكل جزءاً من مفهوم وعناصر عملية التنوير المجتمعية. في المجتمعات العربية توجد نسبة مناسبة من المثقفين المتنورين الذين يسعون إلى نشر التنوير، ولكنهم حتى الآن عاجزون عن إنجاز ذلك. وهذا العجز لم ينشأ عن عجز الأشخاص أنفسهم، أي ليس لعجز شخصي في المواطن المثقف في الدول العربية، بل في طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في الدول العربية والدول ذات الأكثرية المسلمة، في تخلف بنية الاقتصاد الوطني في كل منها، وفي البنية الطبقية المشوهة للمجتمع الناجمة عن الواقع الاقتصادي، والتي تتجلى بشكل واضح في وعي الإنسان وقدرته على إعمال العقل لفهم واقعه وما يحيط به وما يفترض تغييره. فالفكر الديني الجامد والمُجمِد لعقل الإنسان ورفض الرؤية الفلسفية للحياة والمجتمع والعلم، الرؤية غير النقدية للواقع والفكر الديني ... كلها وغيرها تساهم في إنتاج الأرضية الرافضة للتنوير، إنتاج وإعادة إنتاج الإنسان غير الحر، العاجز عن التفكير المستقل، وغير العقلاني والرافض للتغيير. إنها الحالة الراهنة التي تعيش تحت وطأتها الغالبية العظمة من شعوب الأمة العربية والمسلمين في أنحاء العالم.
أي توجه صوب التنوير في الدول العربية يستوجب خوض النضال بلا هوادة من أجل تغيير علاقات الإنتاج السائدة فيها وتغيير بنية الاقتصاد الوطني، والتي ستساهم بدورها في تغيير البنية الطبقية للمجتمع ووعي الإنسان. إنها عملية صيرورة وسيرورة معقدة ومتلازمة أو متشابكة، ولكن لا بديل عنها. وإذا كان الغرب المتنور قد وقف طيلة العقود المنصرمة لا ضد التنوير فحسب، بل بالأساس ضد التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربي والدول الأخرى ذات الأكثرية المسلمة، ضد تغيير بنية الاقتصاد، ضد التصنيع وتحديث الزراعة، لأنه يدرك بأن هذا التغيير هو الذي يقترن تماماً ويسهل عملية التنوير، التي يمكنها أن تخلق إنساناً حر التفكير وقادراً على إعمال عقله باستقلالية عالية. ورغم هذا الموقف من قبل العالم الغربي الرأسمالي الاستغلالي، لا يمكن لشعوب الدول العربية أن تنعزل عن الغرب، عن الحضارة الحديثة بكل منجزاتها العلمية والتقنية، عن عملية التنوير التي أصبح عمرها في الغرب الرأسمالي عدة مئات من السنين. لا يمكن للشعوب العربية أن تنعزل عن حضارة القرن الحادي والعشرين ولا عن المستوى الذي بلغته عملية التنوير فيها، ولا عن التأثر بهما. إن هذا التماس والتفاعل الضروريين لا يعني بأي حال عدم الاستفادة من التراث الحضاري الإيجابي للشرق العربي، مع بلورة تلك النقاط التي يراد الاستفادة منها والتخلص من سلبيات فترة الجهل والأمية وهيمنة الفكر الغيبي الخرافي على عقل وممارسات الإنسان في الدول العربية من جهة، والسعي لتجاوز ما يريد الغرب فرضه في الاقتصاد على استهلاك المنتج عندهم، دون تطوير القدرة على المبادرة والإبداع والتقدم، والي لا يمكن أن تحصل دون تغيير في طبيعة علاقات الإنتاج والتدني الراهن ف مستوى تطور القوى المنتجة، في غياب واسع للتصنيع والتحديث المناسب للزراعة وتغيير بنية المجتمع الطبقية، بما يخلق تلك القوى الحاملة للمجتمع المدني، الطبقة البرجوازية الوطنية والطبقة العاملة والفئات المثقفة المتنورة.           
إن المثقفين المتنورين من العرب وغير العرب في الدول العربية يمكنهم أن يساهموا بدور فعال في عملية التنوير في مجتمعاتهم، إذا ما ربطوا العملية الثقافية التنويرية بالنضال المشترك مع بقية فئات المجتمع من أجل إزالة المعوقات الكبيرة التي تقف بوجه التنوير، وهي كثيرة، بما فيها النظم الاستبدادية والرجعية القاهرة لإرادة ومصالح وطموحات الشعوب في المنطقة والمصادرة لحقوقهم العادلة والمشروعة، وكذلك سياسات هذه النظم التي تعتمد الريع النفطي والدولة الاستهلاكية بدلاً من الدولة ذات التنوع في إنتاج الدخل القومي، حيث يشارك القطاع الصناعي والزراعة الحديثة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية (البشرية) والتخلص من البطالة والفاقة والبؤس وغياب العدالة الاجتماعية.
الملاحظة الخامسة: منذ ما يزيد عن أربعة عقود والعالمين العربي والإسلامي يعيشان في وضع ردَّة فكرية وسياسية واجتماعية عميقة تشتد من حيث العمق والشمولية سنة بعد أخرى، حتى وصل الوضع إلى ما هو عليه واقع هذين العالمين في الوقت الحاضر، رغم المحاولات الجادة للمثقفين المتنورين وحركة شعبية متباينة في عمق مضامينها تفرض نفسها على هذا الواقع بين الحين والآخر، كما حصل فيما أطلق عليه بالربيع العربي والذي اختطف، في الغالب الأعم، بسرعة من قوى الردّة ذاتها، وبضمنها قوى الإسلام السياسي الرجعية والمتطرفة والعسكر.
لا شك في أن هذا الواقع المرير لا يشكل كل المشهد السياسي والاجتماعي في هذين العالمين، ولكنه ما يزال المهيمن على الساحة السياسية وبيده السلطات الثلاث في كل الدول العربية الشرق أوسطية والدول الأفريقية ذات الأكثرية المسلمة، إضافة إلى كل من إيران وتركيا وباكستان على نحو خاص. إلا إن المقاومة لهذه القوى المتطرفة وهذه النظم السياسية الدكتاتورية والثيوقراطية من جانب القوى الديمقراطية، وبضمنها الفئات المثقفة المتنورة وفئات البرجوازية الوطنية الصناعية وجمهرة من كادحي المدن والريف، ما تزال ضعيفة ولم ترتق إلى المستوى الذي تشكل فيه تهديداً لتك النظم، وبالتالي فالحديث عن عملية تنوير واسعة تشمل شعوب هذه الدول ما تزال بعيدة المنال وتستوجب توفير مستلزمات كثيرة ووقت غير قصير لبلورة جديدة لأساليب النضال التي يفترض أن تخوضها قوى التقدم والديمقراطية والعلمانية والتنوير في المجتمع ومع البشر مباشرة. ولا شك في أن هذه العملية قابلة للتحقيق، سواء اطال الزمن أم قصر. ولا يمكن أن يمنع دين المسلمين تحقيق عملية تنوير هذه المجتمعات، كما عجزت الديانات الأخرى منع ذلك. فالديانات كلها متماثلة من حيث الجوهر وتلتقي عند نقطة مركزية واحدة، موقفها المناهض للعلم وإعمال العقل والتفكير الفلسفي الحر.. سواء أكان هذا الدين يهودي أم مسيحي أم إسلامي، أم غيرها. وهي، رغم جوهرها المشترك، يحاول بعضها نفي البعض الآخر على مدى القرون المنصرمة. ورغم ذلك استطاعت البشرية أن تفرض عملية تنوير عميقة وواسعة في المجتمعات الأوروبية والغرب عموماً، وأن تباين مستوى التنوير، بمفرداته الكثيرة، في المجتمعات ذات الأكثرية المسيحية أو اليهودية، وعجزت البشرية حتى الآن عن تحقيق ذلك في المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة، ولكن هذا لا يعني إنها غير قادرة على تحقيق ذلك في المستقبل شريطة أن يرتبط، كما ارتبط في الغرب المسيحي، بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية وفي الوعي الفردي والجمعي، التي سهلت عملية الانتقال من العتمة إلى النور، ومن الظلمات إلى مجتمع الأنوار أو التنوير. الغالبية المسلمة لا تزال تعاني من هيمنة الرؤية الدينية الجامدة المتكلسة التي عمرها أكثر من 1400 سنة حتى الوقت الحاضر، رغم حركة الزمن، أو ما أطلق عليه الدكتور فالح مهدي بصواب "العقل الدائري" في كتابه الموسوم "نقد العقل الدائري"، (الدكتور فالح مهدي، الخضوع السني والإحباط الشيعي، نقد العقل الدائري، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، القاهرة – جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى 2015)، حيث وضع اصبعه على الخلل في الفكر والتفكير، والذي حاولت الإشارة إليه في متن هذا المقال.                     
وأخيراً، فقد وفَّر لنا الأستاذ حسن العاصي مشكوراً فرصة المشاركة في النقاش حول موضوع حيوي وأساسي في منطقة الشرق الأوسط، والذي أمل أن يتسع النقاش ليساهم في نشر الفكر التنويري في مجتمعاتنا الراهنة.
05/09/2018         










198
كاظم حبيب
البصرة الشجاعة والغاضبة ... البصرة المنتفضة...!
بتاريخ 30/09/2005 نشرت مقالاً بثلاث حلقات تحت عنوان "البصرة الحزينة... البصرة المستباحة!" في موقع (الحوار المتمدن-العدد: 1333 - 2005 / 9 / 30)، حيث تطرقت فيه إلى أوضاع أهالي البصرة وعيشهم النكد تحت وطأة نظام سياسي طائفي مقيت، حيث تتحكم فيهم ميليشيات طائفية مسلحة ودولة جارة هي إيران تتدخل في مجرى الحياة اليومية لأهل البصرة وتحصي أنفاسهم وحركاتهم ليلاً ونهارا، وتخطف من تشاء وتنقله إلى إيران ليلقى نهايته في سجن إيفين (زندان اِوین) في شمال غرب طهران، كما تغتال من تشاء، وتعتقل من تشاء بغير حساب بواسطة جواسيسها وعملائها وعيونها وميليشياتها الطائفية المسلحة التي شكلتها في إيران والعراق قبل وبعد إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة. وأوردت وقائع كثيرة عن دور الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية في التنسيق والتبعية الفعلية لإيران، والعواقب المترتبة عن ذلك وعليه. وكنت أتوقع أن أهل البصرة، وعموم سكان جنوب العراق، لطبيعتهم السمحة والمرحة، الذين كانوا يعانون أوضاعاً مذلة تبدأ بالبطالة الواسعة للشبيبة وتدهور الخدمات الأساسية وفقر مدقع ومطاردة من جانب قوى الأمن والأحزاب الإسلامية وميليشياتها، لا يمكنهم أن يرتضوا هذا الواقع المرير، وأن لصبرهم حدود.
وفي 30/05/2006 نشرت مقالاً تحت عنوان: "هل ما تزال البصرة حزينة.. هل ما تزال مستباحة؟" في موقع (الحوار المتمدن-العدد: 1566 - 2006 / 5 / 30)، أكدت فيه استمرار وضعها السابق، بل تفاقم الوضع. وبعد هذا كتبت الكثير من المقالات عن أوضاع الجنوب عموماً. ودوماً كنت أتوقع نهوض أهل البصرة وكل الجنوب والوسط ضد الأوضاع المزرية والرثة وضد الحكام السيئين!
وفي المقابل كان الحكام في المركز وفي المحافظات الجنوبية والوسط عموما، ولاسيما في البصرة، ثغر العراق الحزين!، يوغلون بسياساتهم التي تميزت بالتمييز المفرط إزاء المواطنات والمواطنين من أتباع ديانات أو مذاهب أخرى، وبالفساد الذي كان يلتهم ما يصل إلى المحافظات من موارد مالية، إضافة إلى سرقة نفط البصرة بمختلف السبل الممكنة، وعدم الاستجابة لمطالب الناس في الحصول على العمل أو الخدمات الأساسية، ولاسيما الكهرباء والماء والنقل والصحة (وكلنا يعرف حجم الأمراض السرطانية المنتشرة في البصرة وأنواعها الجديدة)، والتعليم المتدهور وعدم تعمير المدارس المخربة أو بناء مدارس جديدة للتلاميذ والطلبة ...الخ، إضافة إلى استمرار الإرهاب والاختطاف والتغييب والقتل والاعتقال والتعذيب وابتزاز العائلات. مما أدى إلى نزوح عائلات كثيرة من البصرة أو مدن جنوبية إلى بغداد وإقليم كردستان العراق، أو الخارج، ولاسيما أتباع الديانة المسيحية والديانة المندائية، وكذلك عائلات سنية تعرضت للمضايقة من جانب الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. واليوم أكتب وأنشر مقالاً آخر عن البصرة ذاتها، عن بصرة الفيحاء، ولكن تحت عنوان أخر هو: "البصرة الشجاعة، الغاضبة ... البصرة المنتفضة!!!". 
لقد أدى تراكم مفردات هذه الحالة إلى انفجارات عدة في فترات مختلفة قوبلت بالحديد والنار من جانب رئيس الوزراء السابق وأدى إلى استشهاد وجرح وتعويق الكثير من المواطنين. ولكن الانفجار المدوي في البصرة وبقية مدن جنوب العراق ووسطه وبغداد العاصمة، انطلق في أوائل الشهر السابع، شهر تموز من هذا العام (2018) بعد حراك مدني اجتماعي شعبي بدأ منذ العام 2015 في بغداد وغيرها، الذي هزَّ سكان المنطقة الخضراء من المسؤولين عن السلطات الثلاث، هزّ العروش الخربة المناهضة لمطالب الشعب والمعادية فعلياً لمصالحه ومستقبل أبنائهم، هزّ مقرات قادة الأحزاب الإسلامية السياسية وقادة ميليشياتها الطائفية المسلحة في مختلف مدن الوسط والجنوب. وقد امتدت تلك الأيدي الخبيثة، أيدي المليشيات الطائفية المسلحة، لتوجه نيرانها وضرباتها ضد المتظاهرين بدعوى ممارستهم العنف ووجود مندسين في صفوف المتظاهرين!!! ونسوا أنهم هم المندسون وليس غيرهم!
الجماهير الكادحة التي هدَّتها البطالة والفقر ونقص الخدمات الأساسية، ولاسيما الكهرباء والماء، وأوجعها الفساد السائد في كل جزيئة من مكونات حياة الشعب العراقي، إضافة إلى عمليات الاغتيال والاختطاف والتفجيرات هنا وهناك وموت الناس أو إصابتهم بجروح وتعويق، وشراسة الميليشيات الشيعية المسلحة في التعامل مع الناس في مدنهم المختلفة واستئساد أحزابهم الإسلامية السياسية على البشر باعتبارهم مالكي الحكم والمال والنفوذ في هذا العراق المستباح بالطائفية والمحاصصة المقيتة والظالمة والناكرة لمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية لكل العراقيات والعراقيين بغض النظر عن القومية أو الدين أو المذهب أو الجنس.
لقد أصبحت البصرة مدينة خربة، رثة بكل معنى الكلمة، بسبب رثاثة حكامها ورثاثة سياساتهم ومواقفهم وجهلهم ورفضهم الاستجابة لمطالب أهل البصرة وأهل بقية محافظات الجنوب والوسط. لذا فأن ما حصل في البصرة من انتفاضة الحزن والغضب، قد حصل أيضاً في ذي قار وميسان وواسط والقادسية وبابل والنجف وكربلاء وغيرها من مدن الوسط والجنوب، لأن المشكلات واحدة والقوى والأحزاب الحاكمة المستهترة بالحكم والمقدمة مصالحها على مصالح الشعب واحدة والعواقب واحدة.
رغم استمرار أشكال مختلفة من صيغ الاحتجاج والانتفاضة الشعبية الجارية، ورغم إصرار الناس على التظاهر وعدم السكوت ورفض الحلول العرجاء التي لا ترتقي إلى تغيير النظام الطائفي المحاصصي القائم، رغم كل ذلك نلاحظ إن ممثلي إيران في العراق يبذلون المستحيل من أجل إعادة إنتاج ما هو قائم حالياً من نظام سياسي طائفي محاصصي مقيت ويتمادون في تعاونهم وتنسيقهم مع أتباعهم في العراق. فقاسم سليماني يتجاوز كل القواعد الدبلوماسية والسياسية، يتجاوز على شرعية الدستور العراقي، يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، لا يتوقف عن السفر بين مدن العراق المختلفة ليلتقي بالقوى والأحزاب السياسية وبعناصر قيادية في هذه الأحزاب، بما في ذلك سفراته إلى إقليم كردستان العراق، في محاولة وقحة للوصول إلي تشكيل تحالف شيعي -شيعي ليكون منه الكتلة الأكبر لتكون أساس الحكم الطائفي الذي يراد إعادة إنتاجه في العراق، ليكون حكماً لصالح إيران وليس لصالح الشعب العراقي وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي بواء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث.
ومن الغريب ألّا تواجه هذه الجولات المكوكية بالاحتجاج والرفض من جانب الأحزاب الإسلامية السياسية، ولا من جانب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، وكأن الرجل يعمل في بيته بالعراق، باعتبار العراق محمية إيرانية أو شبه مستعمرة!!! إنها المأساة التي لا يمكن القبول بها أو السكوت عنها وعليها. ليس سليماني وحده المتحرك، بل هناك بيادق إيرانية عراقية تتحرك هي الأخرى لنفس الهدف، في محاولة لتبييض وجه من اختزن السوءات طوال تسع سنوات من الحكم الجائر والفاسد والأجرب بين 2006-2014 ثم يرفع عقيرته ليطالب بعدم الإساءة له في حين إنه الأول الذي أساء إلى نفسه وقبل غيره من العراقيات والعراقيين، إنه يريد أن يعود بدعم من سيده ومرشده الإيراني خامنئي إلى الحكم، لأنه "سيف الإسلام" المتطرف والبغيض الذي سُلط على رقاب الشعب العراقي لما يقرب من عقد من السنين ولا يزال يرغب في استمرار ذلك. إنها المحنة الراهنة التي لا بد للشعب من تجاوزها ورفض هؤلاء العتاة الذين هم في أمور كثيرة لا يختلفون عن سلفهم في حكم العراق.
المياه الآسنة والملوثة هي حصة أهل البصرة من مياه دجلة والفرات، من شط العرب، إنها الكوليرا التي أصابت الآلاف من بنات وأبناء البصرة، دون أن يعمل المسؤولون على معالجة الوضع المتدهور بمسؤولية وحرص على الإنسان. ووزيرة الصحة ذهبت لتشارك في الفساد والخديعة حين أنكرت وجود ألاف المصابين بالكوليرا وادَّعت وجود 1500 شخص لا غير والمسألة غير خطيرة!، كما لم تتخذ أيبة إجراءات فعلية ضرورية لمساعدة الأهالي، بل عادت إدراجها كما ذهبتـ، هاربة مع من معها خشية الإصابة بنفس المرض، رغم العناية الاستثنائية التي وفرت لها ولوفدها. إن على العراق تحريك الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لدعم مطالب أهل البصرة وعموم الجنوب في معالجة الواقع الرث والفاسد والاحتجاج ضد سياسة الحكومة إزاء مطالب الناس.
البصرة الشجاعة، البصرة الغاضبة، البصرة المنتفضة ستنتصر على الحكام السيئين لا محالة، وأن طال الزمن، لأنها سنة الحياة، لأن الشعب صاحب المصلحة قد أدرك وبحدود مناسبة، وأن لم يكن تماماً، الأخطاء التي ارتكبها لجهله وسقوطه فعلياً في خديعة الدين والمذهب، في منح هذه القوى والأحزاب الطائفية المقيتة تأييده وتزكيته لها ومساندتها في الحكم. لقد سرقته ونهبت اللقمة من أفواه أطفال البصرة وعموم شعبها وعموم الجنوب والوسط والعراق كله.
 ليس العيب في أهل البصرة أو أهل الجنوب والوسط، رغم التأثير المباشر لشيوخ العشائر وشيوخ الدين الذين تحالفوا مع الحكم والأحزاب السياسية لفترة طويلة جداً ولا زالوا، كما يبدو حتى الآن، بل العيب في جميع المسؤولين الذين تولوا الحكم في العراق عموماً وفي المحافظات الوسطى والجنوبية، دع عنك الموصل والمحافظات الغربية وإقليم كردستان العراق، الذين تجاهلوا مصالح سكان محافظاتهم وتناغموا كلية مع مصالحهم الذاتية وأحزابهم السياسية، وكانت العواقب التي يعيش الشعب تحت وطأتها منذ 15 عاماً بالتمام والكمال، وبعد أن خرج من تلك المرحلة التي حكم فيها الفاشيون البعثيون وقادتهم الأوباش العراق ما يقرب من 35 عاماً مليئة بالحزب والكآبة والحروب والجوع والحرمان والموت والهجرة.               
البصرة لا تزال مليئة بقوى ومنظمات وعناصر الحرس الثوري والبسيج والأمن الإيراني، ولهم بيوت خاصة ومعروفة لأهل البصرة، وحسينيات يعمل فيها مرتزقة عراقيون، وهناك إذاعات وقنوات تلفزة "عراقية!" تعمل بأموال إيرانية تبث ليل نهار الدعاية ضد الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي وتعبئ القوى لصالح أولئك الذين يخدمونها وهم في الحكم أو خارجه. على أهل الجنوب والوسط تقع مسؤولية فتح أبصارهم وبصائرهم أمام هؤلاء الدخلاء سواء أكانوا من إيران أم من السعودية ودول الخليج، فنحن نريد أن يبقى العراق للعراقيات والعراقيين وان تكون قراراته مستقلة وغير خاضعة لأي أجنبي دخيل يحاول الإساءة للوطن والمواطن كما يفعل قاسم سليماني ورهطه!!!   

199
كاظم حبيب
هل العراق على حافة حرب إيرانية-ميليشياوية ضد الشعب العراقي؟
الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في صراع مستديم منذ سنوات على أرض العراق. الولايات المتحدة تعلن الحصار على إيران بسبب رفضها للاتفاقية النووية المعقودة بين الدول الكبرى الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي من جهة، وإيران من جهة أخرى. والمعركة لا يراد خوضها في إيران وحدها، بل في الكثير من دول العالم، ولاسيما بالعراق. الولايات المتحدة تطالب الدول بإيقاف تعاملاتها التجارية والمصرفية والتقنية وغيرها مع إيران. العراق، في وضعه الحالي، مجبر على إيقاف تلك التعاملات مع إيران، على وفق اتفاقيات ومصالح كبيرة جداً له مع الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، كما صرح بذلك رئيس الوزراء العراقي قبل شن الحملة السياسية والدبلوماسية والإعلامية ضده من جانب إيران وأتباعها في العراق. ورغم تخفيف رئيس الوزراء العراقي موقفه من العقوبات الأمريكية لم ينفعه ذلك، بل استمر الهجوم الإيراني بتشديد أكبر وعلى الأرض العراقية مباشرة.
إيران من جانبها تطالب العراق، المشدود إليها بألف خيط وخيط مرئي وغير مرئي عسكري وسياسي ومذهبي وميليشياوي وأحزاب إسلامية سياسية وحرس ثوري وقواد عسكريين وأجهزة أمنية إيرانية وجواسيس، على رأسهم الجنرال الإيراني قاسم سليماني بالعراق، بأن برفض الشروط الأمريكية كلها دون استثناء، وأن يضع مصالحه كلها جانباً ويدافع عن إيران ومصالحها لا في إيران فحسب، بل وفي العراق أيضاً، وأن يواصل تعاملاته كافة مع إيران على وفق الأوضاع السابقة.
هذا التوصيف الأولي لما يراد للعراق بالعراق يحصل في فترة تم حسم نتائج الانتخابات البرلمانية بانتظار الدعوة لعقد الجلسة الأولى للمجلس النيابي العراقي، أياً كان الموقف منه، لانتخاب رئيس المجلس ورئيس الجمهورية وتكليف رئيس الجمهورية للشخصية التي تمثل الكتلة البرلمانية الأكبر في البرلمان الجديد لتشكيل الحكومة العراقية. هذا الصراع لا يتم في بلد ديمقراطي حر وشعب يمتلك كامل حريته وإرادته ومقدراته ووعيه، بل تسوده الصراعات على المصالح الإقليمية والدولية في العراق والمغطاة بصراعات مذهبية محمولة إلى مواقع القاعدة الاجتماعية من قبل أغلب، أن لم نقل كل، الأحزاب والقوى والشخصيات، الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية الإرهابية المسلحة. وهي تدور في داخل ما يطلق عليه بالمكونات المذهبية وفيما بينها.
هذا الواقع قد سمح بصدور تهديدات صارخة من إيران بشكل مباشر ودون لف أو دوران، تهديدات بثلاثة اتجاهات خطرة:
أولاً: توجيه الشتائم البذيئة للشعب العراقي ولكل القوى والأحزاب والشخصيات التي ترفض قبول التضحية بمصالح العراق لصالح إيران في الصراع الإيراني الأمريكي. وهي لا تنطلق من أفواه الناس العاديين في إيران، بل من أعلى سلطة إيرانية، من المرشد الإيراني الأعلى ومن ممثله في النجف وبكل صفاقة، ومن هم حوله من الأجهزة العسكرية والمدنية والإعلامية في إيران والعراق.
ثانياً: مطالبة إيران بدفع العراق تعويضات مالية عن الحرب التي اشتعلت بين البلدين في العام 1980، والتي يفترض أن يطالب العراق بها، بسبب رفض الخميني إيقاف هذه الحرب المجنونة بعد انفجارها بفترة قصيرة، أي في العام 1982، وبعد انكسار الجيش العراقي في الأهواز، بل حتى حين أَجبره العالم وكثرة الخسائر في الأرواح والممتلكات على إيقافها، قال الخميني بملء فمه في العام 1988(شرب السم الزُعاف اهون من إنهاء الحرب!) مع العراق. أي بعد مرور سنتين على بدء الحرب وست سنوات على انتهائها!، فمن الذي ينبغي عليه أن يدفع التعويضات فعلياً؟ 
ثالثاً: الاستعدادات الكبيرة التي تمارسها القوى الإيرانية المعسكرة في العراق، وهي في الغالب الأعم، من قوات جيش القدس والحرس الثوري والبسيج، التابعة للمرشد الإيراني الأعلى مباشرة، وأجهزة أمنية إيرانية كثيرة في العراق، بما في ذلك تلك الحسينيات والجوامع و"جمعيات المجتمع المدني!" التابعة لإيران والتي تدار كلها من قبل قاسم سليماني ونوابه من إيرانيين وعراقيين أولاً، والاستعدادات السياسية والإعلامية والعسكرية والمجتمعية والمذهبية التي تقوم بها الأحزاب والقوى والميليشيات العراقية المؤيدة لإيران أو التابعة لها أو المشكلة أصلاً منها في العراق، وما تحمله من تهديدات مباشرة أو مبطنة بخوض معركة كبيرة في العراق لصالح المصالح الإيرانية، ثانياً.
إن هذه التهديدات المتزايدة لبلد لم ينته بعد من حربه ضد الدواعش وبدعم من تحالف دولي واسع من جانب، ومن أوضاع معاشية وحياتية تزداد يوماً بعد يوم تعقيداً وصعوبة وتدجد تعبيرها في مظاهرات الجماهير الواسعة والعادلة في جنوب العراق ووسطه، ومنها ثغر العراق الحزين، البصرة الفيحاء، من جانب أخر، والضغوط الأمريكية السياسية والمالية والوجود العسكري الأمريكي ذاته في العراق ثالثاً، كلها عوامل يمكنها أن تُفجرَ حرباً إقليمية دولية على الأرض العراقية، وهو ما ينبغي التصدي له وإفشاله في كل الأحوال.
ليس عفوياً ولا عبثياً حصول حرائق متزايدة في العراق، ولاسيما في بغداد، إضافة إلى الاغتيالات والاختطافات وإشاعة الفوضى التي تمارس يومياً، لأن قوى بعينها تريد أن تجبر العراق على اتخاذ موقف إلى جانب إيران، كمن يقول للعراقيات والعراقيين: "تريد أرنب أخذ أرنب، تريد غزال أخذ أرنب"، لا بد لك أن تكون إلى جانب إيران ولو تمت التضحية بكامل مصالح العراق وشعبه. إنها اللعبة التي يمارسها من يملك القوة في العراق، رغم ضعف إيران في بلدها واهتزازها الشديد أمام القرارات والمواقف الأمريكية، التي هي إجراءات لا تلحق الضرر بالفئة الحاكمة في إيران، بل كلها تلحق أبشع الأضرار بالشعب الإيراني، وهي سياسة خاطئة وخطرة من جانب الولايات المتحدة، ولكن ليس في مقدور العراق مقاومتها والتضحية بمصالحه بأي حال وكان العراق أحد ضحايا مثل هذه السياسة. إن إيران تعتبر العراق "محمية إيرانية!" عليه أن يلتزم بقرارات "حاميه الإيراني!"، وإلا فلعنة المرشد الأعلى ستنزل على رأس الشعب العراقي، ولو تم ذلك بتفجير حرب أهلية شيعية-شيعية، ثم لتشتعل في العراق كله، كما هو حاصل في سوريا منذ ما يزيد عن سبع سنوات، وفي اليمن منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.
إن في هذه المعركة السياسية التي ينبغي لها أن تتخلى عن استخدام السلاح كلية، وعن الاحتماء بالأجنبي، سواء أكان من دول الجوار أم من غيرها، وأن تلعب القوى القومية والديمقراطية، ولاسيما القوى الكردية، التي عاشت السنوات المنصرمة منذ إسقاط الدكتاتورية تجارب مريرة، بما لها وما عليها، أن تحسم أمرها في غير صالح من يريد جرَّ العراق لحرب أهلية مدمرة بسبب سياساته التدميرية وتصدير الثورة الإسلامية إلى المنطقة العربية وغيرها.
لقد مرّغت إيران وأنصارها في العراق، ولاسيما من حكم العراق مباشرة لتسع سنواته، مع رهطه المستبد، بأساليب الخديعة والفساد والطائفية المقيتة والنار والحديد والسماح باجتياح داعش للموصل وعموم نينوى وغيرها من المحافظات الغربية، وكذلك أغلب دول الجوار، كرامة العراقيات والعراقيين بالتراب خلال السنوات المنصرمة، وعليهم جميعاً تقع مسؤولية مقاومة هؤلاء الذين لا يريدون الخير للعراق بل لملء جيوبهم وحساباتهم المصرفية بالسحت الحرام وبالخنوع للجار الأجنبي. إنها معركة ربما غير متكافئة، ولكن سينتصر الشعب العراقي على قوى الظلام والشر والفساد والباطل، وهو اليوم بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن يرتفع إلى مستوى المعركة التي يراد فرضها على العراق وعدم السماح بزج القوات العراقية والشعب في معارك دامية عراقية-عراقية لا يراد منها سوى فرض إرادة إيرانية ظالمة ومتجبرة ومهددة على العراق.   
26/08/2018
     
   


200
كاظم حبيب
تركيا تعيش بدء تفاقم أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية!
منذ سنوات برزت على سطح الأحداث في تركيا بدايات تشير إلى مجموعة من العوامل التي تسببت في بدء دخول تركيا في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة بعد تلك التي عاشتها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، واقترنت هذه المرة بممارسة رجب طيب أردوغان وحزبه السياسي، حزب العدالة والتنمية، نهجاً إيديولوجياً إسلامياً سلفياً وسياسات استبدادية أخذت تتسع بسرعة وتهدد بوقوع عواقب وخيمة على الاقتصاد ومستوى حياة ومعيشة شعوب الدولة التركية.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حققت تركيا نجاحات ملموسة في حقول السياسة الداخلية والخارجية وفي الحياة الاقتصادية، مما أدى إلى انتعاش كبير في حجم التوظيفات الرأسمالية في القطاعات الإنتاجية والخدمية، وتقلص حجم البطالة، وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، إضافة إلى زيادة حجم الصادرات والاستيرادات، وتحسن في الميزان التجاري وميزان المدفوعات. لم تأت هذه النجاحات من فراغ، بل بسبب اتجاه اردوغان صوب تحسين علاقاته بالمجتمع والانفتاح على الأجواء الديمقراطية، والدعوة لحل المسألة الكردية بالطرق السلمية والمبادرة إلى إيقاف القتال مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وبروز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بصورة علنية، الذي حقق نجاحات كبيرة في الانتخابات العامة لعام 2015، إذ دخل البرلمان بـ 80 نائباً من مجموع 550 نائب. كما إن العلاقات الدولية لتركيا قد تحسنت بفعل مواقف إيجابية مع الكثير من دول العالم، مما ساعد على زيادة الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد التركي، ولاسيما علاقات تركيا بالدول الأوروبية، ومنها ألمانيا، حيث يعيش ما يقرب من 3 ملايين تركي في المانيا.
ألا إن هذه النجاحات بدأت تنحسر مع بدء محاولات تركيا التحول صوب التخلص من المظاهر العلمانية في نهج الدولة التركية، والبدء بفرض قيود "إسلامية" سياسية على الحياة العامة وفي نهج الدولة. وبرز هذا بوضوح مع نهوض شعوب بعض الدول العربية ضد أنظمتها المستبدة ولاسيما في تونس ومصر وحراك قوي مدنية في العراق ضد النظام الطائفي المحاصصي وفساده والإرهاب الذي عمَّ البلاد، وقلق متزايد لدى الحكام العرب وحكام منطقة الشرق الأوسط، ومنها تركيا. فبدأ أردوغان، على الصعيد الدولي، يتدخل بشؤون الدول العربية ويحاول فرض نموذجه الإسلامي ويتفاعل مع القوى والأحزاب الإسلامية السياسية في الدول العربية، كما حصل مع حزب النهضة في تونس أو مع الإخوان المسلمين في مصر أو تدخله المباشر في أوضاع سورية وتحالفاته الرجعية الجديدة مع السعودية وقطر ...الخ. ثم تحول من العملية السلمية مع الكرد إلى محاولة فرض الحل التركي العنصري على الكرد بقوة السلاح والحرب والمطاردة، واعتقال نواب من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، إضافة إلى دعمه اللامحدود لقوى القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وفتح الحدود أمامها للولوج إلى سوريا والعراق وتأمين ظهيراً لها في الأراضي التركية وتموينها بالسلع والخدمات وتوفير السلاح والعتاد ومعالجة المرضى. وقاد كل ذلك إلى اجتياح الموصل ونينوى في العام 2014. وكانت تركيا في القلب من كل ذلك، بأمل تدمير مقاتلي ومواقع حزب العمال الكردستاني والحصول على مواقع لها في العراق ولاسيما في إقليم كردستان العراق وخاصة كركوك.
لقد قاد كل ذلك إلى تحمل تركيا ثلاث عواقب وخيمة:
1.   خسائر مالية كبيرة بسبب الحروب والتدخل في شؤون الدول الأخرى ودعمها للإرهابيين وقوى المعارضة السورية الإسلامية، مما سبّب لها وهناً مالياً كبيراً، كما كان يحصل لتركيا في حربها ضد الكرد في الثمانيات من القرن الماضي.
2.   إن غياب الاستقرار السياسي وبروز عمليات عسكرية إرهابية ومعارضة في داخل تركيا قاد إلى ثلاث عواقب أثرت وتؤثر بشكل مباشر على الحياة الاقتصادية والمعيشية للسكان:
أ‌.   تراجع شديد جداً في حجم السياحة السنوية وتراجع في حجم التشغيل وخسارة مورد مالي كبير من العملة الصعبة.
ب‌.   تراجع الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد التركي والذي أثر ويؤثر بشكل واضح على التشغيل ويزيد من حجم البطالة.
ت‌.   تراجع في معدلات النمو الاقتصادي وفي مشاركة القطاع الإنتاجي والخدمي في تكوين الدخل القومي، إضافة إلى تراجع ملموس في مستوى دخل وحياة ومعيشة المزيد من المشتغلين، ولاسيما العمال والكسبة والحرفيين والفلاحين أيضاً.
3.   تدهور العلاقات السياسية مع بلدان كثيرة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ولاسيما مع أوروبا لأسباب كثيرة بما فيها مصادرة حقوق الإنسان واعتقال بعض الألمان من الصحفيين من حاملي الجنسيتين بتهمة التعاون مع الإرهابيين، وكذلك اعتقال القس الأمريكي بذات التهمة، والمقصود هنا التعاون مع، أو تأييد، حزب العمال الكردستاني. كما تميزت سياسة أردوغان لا بالتدخل السياسي في شؤون دول الجوار فحسب، بل والتدخل العسكري المباشر، كما هو حاصل في سوريا والعراق، إضافة إلى أرسال قوات إلى قطر وبناء قاعدة عسكرية للقوات التركية فيها.
إن النجاحات السابقة التي تحققت في تركيا أصبحت عبئاً ثقيلاً على عاتق الحكام الترك، لأنها تحولت في الممارسة العملية إلى غرور لا حدود له وإلى شعور بالعظمة وإلى رغبة جارفة وصادمة في استعادة "مجد!" الدولة العثمانية والسلاطين والتوسع على حساب الجيران وباعتبارها دولة إقليمية عظمى تنافس إيران في هذا الصدد. وقد قاد هذا الغرور الأجوف رجب طيب أردوغان إلى خمسة إجراءات معقدة وخطيرة، بهدف تعزيز دوره ونهجه الإسلامي السلفي والاستبدادي في آن واحد، ولكنها تزيد من عزلته على الصعيد الدولي، ولاسيما بعد فشل محاولة الانقلاب العسكري ضده والذي اتهم فيه غريمه الإسلامي السلفي المماثل له فتح الله غولن الذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية:
1.   فرض نظام الرئاسة على تركيا بدلاً من النظام البرلماني، وهو أقرب ما يكون إلى النظام العسكري، نظام الرجل القوي الواحد الذي يهيمن على السلطات الثلاث ويتحكم بها.
2.   تعديل الدستور التركي بما يمنحه كل الصلاحيات التي كانت لرئيس الوزراء ومجلس النواب، والكثير من صلاحيات تعيين القضاة.. إلخ.
3.   مصادرة الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان والتصرف الكيفي بأحوال البلاد ومن خلال أجهزة الأمن وأجهزة الحزب الحاكم والقوات الخاصة.
4.   تفاقم النهج العنصري والتمييز في نهج الدولة التركية من خلال سلطاتها الثلاث إزاء أتباع القوميات الأخرى وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى وتعزيز سياسة الإخوان المسلمين التي يمثلها حزبه وشخص رجب طيب أردوغان في حياة البلاد.
5.   مطاردة المعارضين للنظام التركي لا في البلاد فحسب، بل وفي الخارج أيضاً وإصدار أوامر إلقاء القبض إلى المتروبول ضد شخصيات تركية أو كردية أو غيرهما سياسية وكتاب وصحفيين معارضين لإردوغان ونظامه السياسي. لقد اعتقل الحكم أكثر من 100000 إنسان في تركيا من عسكريين ومدنيين في اعاقب محاولة الانقلاب وطرد أكثر من هذا العدد من الوظائف العامة في الجيش والشرطة والقضاء والتعليم وبقية الوزارات.         
إن العراك السياسي الشخصي الأخير بين أردوغان وترامب، الذي يحمل معه أسباب وصراعات عميقة أخرى، قد بدأ باعتقال القس الأمريكي وصدور عقوبات أمريكية ضد تركيا التي قادت كقشة، مع قشوش أخرى، لا إلى قصم ظهر البعير بتراجع الليرة التركية إلى ما يقرب من نصف سعر تصريفها الرسمي مقابل الدولار وكذلك مقابل بقية العملات كاليورو والفرنك السويسري فحسب، بل يمكن أن تكون البداية الفعلية لانفجار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في تركيا وما يمكن ان تنشأ عنها من عواقب وخيمة على الاقتصاد التركي وعلى اقتصادات أخرى ترتبط معها بعلاقات واسعة ومتشابكة، ولاسيما الاقتصاد الأوروبي، ولاسيما الألماني، حيث تأثرت حالياً أكثر من 6500 شركة المانية تعمل في السوق التركي.
غالباً ما يتحدث الخبراء والمختصون بالشأن التركي عن العوامل الاقتصادية التي تقود إلى هذه الأزمة القادمة بكل قواتها في الاقتصاد التركي، ومنها ضعف القوة الاستثمارية والتوظيفات الأجنبية والديون الكبيرة المتراكمة على الشركات التركية والتي تتجاوز الـ 200 مليار دولار أمريكي، وتوجه السياسة الاقتصادية التركية صوب صرف مبالغ طائلة على الجسور والطرق والسدود والتي رفعت من مصروفات الدولة دون أن يكون لذلك مردودات اقتصادية مباشرة على الأمد القصير، كما لم تول اهتماماً ضروريا بسعر الفائدة على القروض والادخار انطلاقا من الموقف من الربا، إضافة إلى السياسة التجارية لأروغان التي تشير إلى عجز كبير في الميزان التجاري التركي بسبب ارتفاع حجم الاستيرادات في مقابل الصادرات، وتأثير ذلك على ميزان المدفوعات التركي، إذ بلغ العجز لعام 2018 حوالي 17 مليار دولار أمريكي. (راجع، عجز ميزانية تركيا عام 2018 يتجاوز 17 مليار دولار، تاريخ النشر، 23/12/2018، قناة روسيا العربية RT). 
ولا بد من الإشارة إلى حصول تراجع كبير جداً في السنوات الأخيرة للسياحة في تركيا والتي كانت تدر على تركيا مبالغ طائلة سنوياً وتغطي جزءاً من العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
ولكن هؤلاء الخبراء والمختصين كانوا ولا زالوا في الغالب الأعم يتجنبون الحديث عن مسالتين مهمتين هما:
أ‌.   عسكرة الاقتصاد التركي وتوجيه مبالغ طائلة صوب الإنتاج العسكري من جهة وصوب الاستيراد العسكري من جهة أخرى، إضافة إلى توسيع حجم القوات العسكرية التركية العاملة في داخل تركيا وتلك التي تعمل خارج حدود تركيا، كما في العراق وسوريا وقطر. فالصحيفة الألمانية في زوريخ (تسوريشة تسايتونغ) نشرت تقريراً جاء فيه بهذا الصدد ما يلي:
"منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية الحكم لأول مرة في عام 2002، زادت نسبة إنتاج الأسلحة من 18 إلى 70 بالمئة. في الأثناء، توسعت قائمة المنتجات العسكرية التركية لتشمل المسدسات والمدرعات، علاوة على مدافع الهاون والصواريخ. وفي سنة 2030، ستحتفل تركيا بمئوية تأسيس الجمهورية. وبحلول ذلك الوقت، يُنتظر أن يكون الجيش التركي قادرا على تحقيق اكتفائه الذاتي من الأسلحة." (راجع: صحيفة ألمانية: كيف تحولت تركيا إلى مركز لصناعة الأسلحة؟ نشر بتاريخ 21 مارس 2018، موقع ترك برس).
وتشير تقارير "سپري" إلى ارتفاع مستمر في ميزانية الدفاع التركية حيث جاء فيه ما يلي: قدرت ميزانية الدفاع التركية في عام 2016 بنحو 14.8 مليار دولار، وفقا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI)"، كما إن عام 2018 يشهد ارتفاعاً كبيراً في ميزانية وزارة الدفاع والداخلية والدرك في آن واحد" (راجع: لماذا قررت تركيا زيادة ميزانيتها الدفاعية بنسبة 30% العام المقبل، نشر بتاريخ 21 أكتوبر 2017، موقع ترك بريس).
ب‌.   المشكلات السياسية التي تواجه تركيا ولاسيما الموقف من الكرد وحقوقهم المشروعة وما ينجم عن ذلك من قتال ودمار وخراب وموت وتعويق مستمر وخسائر مالية ضخمة وتعطيل عملية التنمية في عموم تركيا ولاسيما المنطقة الكردية. 
 إن السياسة التي يمارسها ترامپ باستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية للأغراض السياسية، كما هو حاصل حتى الآن إزاء روسيا وإيران وتركيا أو الصين، ليست سياسة خاطئة فقط، بل وتلحق ضرراً كبيراً في العلاقات الدولية والاقتصاد الدولي،  ولكنها لا تشكل بالنسبة إلى تركيا إلَّا جزءاً من المشكلات التي تواجه تركيا، بسبب مجمل سياساتها الداخلية والخارجية، وإن هذا النهج الذي يمارسه أروغان سيتسبب بعواقب وخيمة على تركيا وعلى جيرانها وعلى دول المنطقة عموماً، وربما يمتد الضرر إلى أوربا، هو ما يفترض النضال ضد هذه السياسة والتي يتحمل مسؤولية هذا النضال الشعب التركي والقوميات الأخرى فيه، وما على الشعوب الأخرى إلَّا التضامن مع القوميات العديدة في تركيا التي تناضل من أجل السلام وغدٍ أفضل لها وللشعوب التركية.   
20/08/2018 

201
كاظم حبيب
مرة أخيرة مع السيد علي الشرع بشأن واقع العراق الراهن
الحلقة الرابعة (4-4)
هل العراق بحاجة إلى عملة تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة ومستدامة؟
جاء في مقال السيد علي الشرع "العبادي ومستشاره الاقتصادي" المقطع التالي:" بسبب رؤيته الشمولية وربما بسبب تأثره بنظرية النمو المتوازن فإن د. كاظم حبيب يتبنى نفس رؤية وزارة التخطيط في خططها الخمسية التي تسعى من خلالها الى تنمية القطاعات الاقتصادية المختلفة في آن واحد، على الرغم من فشل كل الخطط المبنية على هذا الرأي. ولم يفكر الدكتور كاظم حبيب لحظة واحدة ان الموارد المالية غير كافية في سبيل تحقيق هذا الهدف. وان تبديد هذه الموارد النادرة على رقعة واسعة من القطاعات، سيجعل من الاقتصاد العراقي هيكلاً سقيماً مطروحاً بشكل دائم على فراش العلاج يتلقى جرعاً غير نافعة لن تنعشه ولو على المدى الطويل. لكن -بخلاف ذلك- ان وجهنا التخصيصات المالية نحو قطاع حيوي وهو قطاع الكهرباء، فسوف نخلق منه قطاعاً قائداً تنطلق من خلاله التنمية الاقتصادية. ولا يخفى على المتخصصين ان عدم نهوض هذا القطاع كان ولا يزال يشكل مصدر قلق للحكومة والناس؛ فالأولى ان يتم التركيز عليه. والمشكلة تكمن فيه وليس في غيره، ولقد ازهقت أرواح كثيرة في المظاهرات بسبب الكهرباء، ام ان هذه الأرواح لا قيمة لها عندك يا سيد كاظم!".
أترك روح الاستفزاز السقيمة التي تتجلى في مقالة السيد علي الشرع حين يقول في خاتمة المقطع ".. أم ان هذه الأرواح لا قيمة لها عندك سيد كاظم!" جانباً، فالرجل لا يعبر هنا عن جهل بالاقتصاد فحسب، بل وجهل مضاعف بمعرفة الناس أيضاً، وبالتالي يلجأ إلى الإساءة في نقاش يفترض أن يتسم بالهدوء والموضوعية.
الاقتصاد العراقي اقتصاد ريعي استهلاكي متخلف. ومثل هذا الاقتصاد بحاجة إلى شروط للنهوض به من تشوهه البنيوي ومن تخلف علاقاته الإنتاجية السائدة فيه منذ عقود، بل منذ قرون، إنها علاقات إنتاج ما قبل الرأسمالية ورأسمالية طفيلية وقطاع نفطي رأسمالي متطور إلى حدود معينة في قواه المنتجة. هذا الاقتصاد لا تعالجه حكومة طائفية من النوع القائم منذ 15 سنة ولا قبل ذاك كحكومة البعث المستبدة والمحكومة بقرارات الفرد المطلق والشرير.
ليس لهذه الحكومة رؤية سليمة في سبل وأسس تنمية الاقتصاد الوطني والمجتمع، وليست لها أهدافاً اقتصادية واضحة تساهم في إصلاح الاقتصاد العراقي وتلبي حاجات المجتمع الأساسية بما في ذلك الطاقة الكهربائية والماء.. الخ. ولهذا فهي تتخبط فعلياً، إضافة إلى ما نشأ في العراق من احتلال وإرهاب ثم اجتياح وحروب وفساد شامل في البلاد.
ليست الحكومة الحالية وحدها مسؤولة عن هذا الواقع المرير، بل هي تركة ثقيلة منذ عقود، فاقمتها الحروب الصدامية نحو الداخل والخارج ومن سياسات النظام الطائفي الطفيلية والفاسدة والتي ألحقت أفدح الأضرار بالاقتصاد والمجتمع وعمقت التخلف والتشوه في الاقتصاد وفي بنية المجتمع.
كل الاقتصادات الوطنية في العالم بحاجة إلى تخطيط أو برمجة، سواء أكانت رأسمالية متقدمة، أم لا تزال في مرحلة التحول صوب الرأسمالية، أم بلدان النامية لا تزال تعاني من العلاقات البالية، سواء أكانت شبه إقطاعية أم في بدايات نمو الرأسمالية، ولاسيما القطاع التجاري والعقاري. الخطط الاقتصادية التي وضعا في العراق لم تكن كلها فاشلة، بل كان الفشل حكومي بامتياز، فشل الإدارة الاقتصادية والمالية، فشل الأجهزة والعناصر غير الجيدة التي وضعت على رأسها بسبب حزبيتها أو قرابتها أو مذهبها. التخطيط أداة وليس هدفاً، وبالتالي يفترض فيمن يستخدم الأداة أن يعيها وأني يعي سبل التنفيذ. التخطيط الاقتصادي يتطلب معرفة تفصيلية بواقع الاقتصاد الراهن وإمكانيات البلد المادية والبشرية والموارد الأولية والمالية المتوفرة وحاجات الاقتصاد الوطني والمجتمع، ليخرج منها بخطة تحدد الأوليات التي لا بد من العمل عليها من جهة، والتي لا تعني بأي حال إهمال التوازن المنشود في بنية الاقتصاد الوطني وعلى مدى عدة خطط خمسية ووفق رؤية بعيدة المدى وآفاقية. التنمية المستدامة والمتوازنة لا تعني عدم التركيز على قطاع الطاقة لأهميته الكبرى في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وإشباع حاجات السكان منها في الصيف والشتاء، بل تعني تطوير الفروع والقطاعات الاقتصادية الإنتاجية منها والخدمية على وفق الحاجة الفعلية لها ودورها ومكانتها في عملية التنمية بالارتباط مع الإمكانيات المالية والطاقات البشرية المتوفرة والتطويع المناسب للتقنيات الحديثة لصالح تنمية الاقتصاد الوطني والمجتمع، إضافة إلى التنسيق فيما بين الفروع واقطاعات الاقتصادية. كما لا بد من دور مهم وملموس لمنظمات المجتمع المدني والشعب عموماً في تبني مثل هذه التنمية والخطط الاقتصادية ومتابعة ومراقبة التنفيذ.
إن تحقيق التوزان في بنية الاقتصاد الوطني ليست فقط ضرورية بل وأساسية، إذ تعني بالضبط عدم نسيان القطاعات الإنتاجية ذات الأهمية الفائقة لعملية التنمية والقاعدة المادية لتطور الاقتصاد والمجتمع وتقدمهما، وقطاع الطاقة الكهربائية هو القطاع الأكثر أهمية ضمن القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، الذي يفترض أن يولى الاهتمام، دون نسيان التطوير المرافق له في القطاعات الأخرى لكيلا نقع في اختلالات أخرى في عملية التنمية الشاملة. فالاختلال والتخلف الراهنين في الاقتصاد العراقي يزال فقط عبر التنمية الاملة والمستدامة والاستفادة الفعلية من النفط الخام وموارد النفط المالية، المتأتية من تصدير النفط الخام للخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي المتخلف. أما السياسة الراهنة وحتى الآن فهي تعمق التشوه ووحدانية الجانب في بنية الاقتصاد العراقي وتشوه وتخلف بنية المجتمع الطبقية، وتزيد من دور ومكانة الريع النفطي في الاقتصاد العراقي، وما تنشأ عنه من عواقب الفساد والاستبداد والاستغلال.
النظرة الشمولية للاقتصاد والمجتمع ضرورية وحتمية، وليست عيباً، لمن يريد تنمية الاقتصاد الوطني على وفق ما هو متاح ومتوفر من موارد مالية وطاقات بشرية، بل العيب يكمن في غياب الرؤية الشمولية للاقتصاد الوطني وعدم رؤية مجمل الاقتصاد الوطني في مشكلاته وسبل معالجته وأسبقيات التنمية للوصول إلى التوازن المنشود في الاقتصاد والخلاص من الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع.
إن سياسة الحكم الراهن أسوأ بكثير جداً من سياسة صدام حسين ونظامه الشوفيني في العقد الثامن، فهو على الأقل طور بعض الصناعات الكيمياوية والنسيجية والغذائية ومصافي النفط، إضافة إلى مشاريع الطاقة الكهربائية والماء والصحة ... الخ، ولكن المقتل الأساسي لهذا النظام برز في سياسة التنمية الانفجارية التي اتخذها نظام البعث ضمن قرارات المؤتمر الثامن للقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1974 من جهة، والموارد المالية الهائلة التي تساقطت على رأس النظام وأعمت بصيرته وبصره من جهة ثانية، وسمحت بنشوء أهداف توسيعية للنظام على حساب دول الجوار وتفاقم روح العسكرة والعنف التي ميزت سياساته من جهة ثالثة، والتوسع في الإنتاج الحربي وصرف المليارات لإقامة ترسانة من أحدث الأسلحة التقليدية والتهيئة لحروب دموية، من جهة رابعة، والاستبداد والقهر للمجتمع والتمييز الشوفيني والطائفي في الداخل من جهة خامسة. والتي كلها ساهمت في المحصلة النهائية إلى تدمير المؤسسات الاقتصادية وخراب المشاريع الخدمية وعودة العراق إلى ما قبل التصنيع في البلاد.
أما النظام السياسي الطائفي الحالي، وعبر الأعوام الخمسة عشر المنصرمة، فقد برهن على هدفه الصارخ: إملاء الجيوب وتكوين الحسابات في الخارج وبناء القصور وسرقة أموال الدولة على أوسع وأبشع نطاق ممكن وبلا ذمة أو ضمير. ومثل هذا النظام لا يبني العراق، ولا يحقق التنمية، ولا يقيم مشاريع الطاقة الكهربائية، ولا يلبي حاجة الناس لكل الخدمات الأساسية/ بل يمارس العكس من كل ذلك.
إن انتفاضة الشعب ضد سياسات النظام وطائفيته ليست صراخاً في وادٍ، صراخاً غير نافع، وليست فوضوية تقلق النظام أكثر مما تدفعه إلى الإصلاح، بل ما سميته صراخاً عبثياً هو النضال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الشجاع وبمختلف أشكاله السلمية والديمقراطية، وهو المطلوب تماماً والمرتجى أيضاً، إذ بدون هذا الحراك المدني المتواصل والانتفاضة الشعبية، لما تحرك صوب المحافظات التي تعاني من الرثاثة وشظف العيش والتخلف في كل مجالات الحياة، إضافة إلى الفساد والإرهاب. وهي سياسة لا تزال بعيدة عن رغبة وحاجة المجتمع، فالمجتمع يريد تغيير النظام الطائفي والخلاص منه وإقامة النظام الديمقراطي العلماني. والهمس بالأذن من قبل مستشار مالي، مهما كانت فائدته، لا تعادل جزءاً من تأثير حركة الشعب ونضاله من أجل التغيير، رغم أننا لا نعرف مدى علاقة الحاكم بالمستشار ومدى استعداده لسماع رأيه في خضم هذا الجهل السائد بين كثرة من المستشارين والخبراء الذين اختضنهم نوري المالكي ولا زالوا يواصلون دورهم حول الحاكم الجديد، حيدر العبادي.
من حقك أن تخوض في موضوعات السياسة والاقتصاد، كما من حق كل مواطنة ومواطن عراقي ذلك، ولكن لا بد من معرفة المجال الذي تخوض فيه وتتحدث عنه، لكيلا ترتكب أخطاءً غير مبررة تفسح في المجال لنقدك. لم اتحدث عن المرجعية الدينية الشيعية إلا عن علم بتفاصيل عمل المرجعية، ولاسيما مرجعية السيد السيستاني، والأموال الكثيرة التي يصرفها مما يأتيه من مقلديه في العالم، في إيران وغيرها، ولكن لم يصرف فلساً واحدا في الأعمال الخيرية في العراق، إن لم تصدق ذلك فأذهب إلى الموقع الإلكتروني للسيد السيستاني لتتيقن بنفسك من ذلك. وحين انتقدت الأفعال المضرة بأتباع المذهب الشيعي من أمثال التطبير والضرب بالسلاسل والسكاكين الصغيرة (الزناجيل) على الظهر والتمرغ بالتراب والطين (التمرغل بهما) من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، كنت على علم تام بمواقف علماء الدين الشيعة والمسلمين العقلاء منهم، وعلى علم بموقف السيد السيستاني وطالبته باتخاذ موقف شجاع سيذكر له ضد هذه البدع التي جاءتنا من بعيد وعبر إيران وفي القرن التاسع عشر على نحو خاص، في حين إن إيران لا تمارس ذلك.                       
في المقطع الأخير من مقال السيد علي الشرع جاء ما يلي: "وأتمنى ان تكون انتفاضة الأستاذ كاظم حبيب هذه خالصة نظيفة خالية من اية شائبة من قبيل مصلحة يرتجيها من نصرته ودفاعه هذا. لكون المقال يشرح مظلومية الشعب العراقي ومحنته ومع ذلك لم يقف السيد حبيب مع المقال ولو بكلمة واحدة، وتبين لي ان ما ينشره من مشاعر الأسى والحزن على وضع الشعب العراقي المزرى هو مجرد كلام ليل يمحوه النهار."
كم كنت أتمنى أن يحترم هذا الرجل نفسه ويبتعد عن الإساءة، ولو جاءت عبر التمني، فمن قضى عمره في النضال من أجل " وطن حر وشعب سعيد"، من أجل الشعب ودخل السجون والمعتقلات وناضل مع الأنصار الشيوعيين ضد نظام البعث ورفض الاستمرار في التعليم الجامعي المجزي في العراق والجزائر ليناضل في إقليم كردستان مع الكرد والعرب وغيرهم من أجل الحرية والديمقراطية والخلاص من سجن البعث وصدام حسين الكبير ورفض المغريات لنظام البعث، لا يمكن أن يعتمد المصالح الشخصية والانتهازية في طرح أفكاره أو مناقشة اراء الآخرين. فليس هناك ما ارتجيه من دفاعي عن أستاذ اقتصادي شريف اعتقل لعدة شهور وأسيء له عمداً وقسراً من قبل المستبد بأمره نوري لمالكي، ثم جاء مقال للسيد علي الشرع ليربط بينه وبين سياسة رئيس الحكومة الدكتور العبادي، والتي شعرت بوجود خطأ في المنهج والأسلوب وعدم التمييز بين المسؤول والمستشار.
يقول الشرع في هذا المقطع الأخير "... لكون المقال يشرح مظلومية الشعب العراقي ومحنته ومع ذلك لم يقف السيد حبيب مع المقال ولو بكلمة واحدة"، ثم يواصل فيقول: "وتبين لي ان ما ينشره من مشاعر الأسى والحزن على وضع الشعب العراقي المزري هو مجرد كلام ليل يمحوه النهار". 
لقد كان هدف مقالي هو تبيان الخلل في وجهة السيد الشرع في معالجة العلاقة بين الحاكم والمستشارين ومدى التزام الحاكم بأفكار وملاحظات وآراء المستشارين أو بعضهم، وليس الكتابة عن مظلومية الشعب العراقي الذي يقول هو نفسه بأن كاظم حبيب كتب الكثير عن المآسي والتي يمر بها الشعب العراقي. يمكن للشرع أن يتصفح موقع الحوار المتمدن ففيه ما يقرب من 2000 مقال ودراسة، وكذلك جريدة "العالم" العراقية، منذ أن بدأت الكتابة فيها قبل عدة أعوام وبدون مقابل مادي، ليدرك بأني لم أكن بحاجة لكي أؤكد وأعلق وأؤيد بوجود مظلومية على الشعب العراقي في المقال الذي كتبه بعنوان "العبادي ومستشاره الاقتصادي". ولم أكن انوي مناقشته لولا شعوري بوجود خلل في هذا المقال يستوجب الإشارة إليه. ولو كان السيد الشرع قد فكر قليلاً بالواقع الذي يعيشه النزهاء والمخلصين العاملين ضمن هذا النظام الطائفي المقيت، لابتعد عن تلك المقارنة وبالطريقة التي عالج فيها الموضوع ولشكرني على ملاحظتي. من الممكن أن يطلب من السيد الدكتور مظهر محمد صالح أن يستقيل من مركزه لأن المستشارية لا تنفع مع مثل هذه الحكومة، أو أن ينتقده في موضوع التصريحات بشأن القروض والعلاقة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مثلاً، لما كان لي أن أناقشه في هذا الصدد، فهو نقاش في مجال حيوي وفيه وجهات نظر عديدة. كما أني لم أنتقده بهذا الشأن، بل توجه نقدي لموضوع العلاقة بين الحاكم والمستشار.   
وأخيراً إن محاولة الإساءة لي في المقطع الأخير من مقال السيد علي الشرع تجعلني أكف عن مناقشته بعد هذا المقال، إذ يمكن أن ينحدر النقاش إلى مستوى إساءات جديدة لا يمكن القبول بها وكان المفروض أن ترفضها هيئة تحرير الجريدة.     
انتهت الحلقات الأربع والأخيرة.
14/08/2018

202
كاظم حبيب
نقاش هادئ مع السيد علي الشرع بشأن واقع العراق الراهن (3-4)
السياسة الاقتصادية للحكومة العراقية ودور المستشارين
كتب السيد علي الشرع في مقاله الموسوم "العبادي ومستشاره الاقتصادي" ما يلي: “أما مقال العبادي ومستشاره الاقتصادي، فلم يفطن الدكتور كاظم حبيب الى ان الهدف الأساس منه ليس تثقيفياً كي يستفيد منه طلبة العلوم الاقتصادية، كما هو حال مقالات زميله مظهر محمد صالح، بل الغرض منه تقويم أداء العبادي ومستشاره الاقتصادي. وان كان قد تضمن مقترحات لسياسة اقتصادية تتعلق بكيفية توزيع شواغر حركة الملاك وخطأ استيراد الكهرباء، لكن كاظم حبيب أغمض عينيه عنها، ليقفز الى اتهامي بعدم الموضوعية التي تعني أني كنت متحيزاً في وصف انجازات الرجل وحاقد عليه بل وضده."
في هذا النص خلط غير مبرر ومقصود بين المسؤول عن السياسة الاقتصادية للدولة العراقية، وهو رئيس الوزراء العراقي، وبين مستشارٍ مالي يعمل لدى رئيس الوزراء. وكلنا يعلم بأن السياسة الاقتصادية والمالية، وكذلك السياسة الاجتماعية لا يرسمها الخبراء والمستشارون، بل ترسمها الحكومة العراقية بمختلف وزاراتها ومؤسساتها، وعلى مسؤولية مباشرة لرئيس الوزراء، ومن ثم مجلس النواب العراقي الذي يفترض أن يصادق على هذه السياسة. وبهذا المعنى الدقيق فالسياسة الاقتصادية والمالية لا يحددها الخبراء والمستشارون، بل تتحدد استراتيجيتها وأهدافها البعيدة والمتوسطة المدى وذات الأمد القصير، ومعها السياسة الاجتماعية، في مجلس الوزراء، ولاسيما في وزارة التخطيط وبالتعاون مع الوزارات الإنتاجية والخدمية، ولاسيما وزارة المالية، والتي تقر في مجلس الوزراء. وعلى امتداد السنوات الـ 15 المنصرمة لم تكن للحكومة العراقية سياسة اقتصادية اجتماعية واعية وهادفة وموضوعية ونابعة من مصالح الاقتصاد الوطني ومعبرة عن مصالح الشعب بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية، بل سارت سياسات الحكومات المتعاقبة على هدى المخطط الذي وضعه بول بريمر، معبراً في ذلك عن إرادة اللبرالية الجديدة وما اقترحه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من شروط تلتزم بها الحكومة العراقية. وكان هدف هذه السياسة الواضح إبعاد الدولة كلية عن الشؤون الاقتصادية وتصفية قطاع الدولة دون أن يتوجه العمل الجاد لتطوير القطاع الخاص وتوفير مستلزمات نهوضه وتطوره وزيادة حجم استثماراته في القطاعات الإنتاجية والخدمية الضرورية. بل ما يزال الجهد متوجهاً صوب تصفية ما هو موجود من منشآت عامة عائدة للدولة كقطاع الكهرباء أو قطاع النفط الاستخراجي ومشتقاته لصالح القطاع الخاص غير القادر حقاً على النهوض الفعلي حالياً بمهماته الصغيرة في مجال التوظيف في القطاعات الإنتاجية. إذ إنه ما يزال يسعى للحصول على أقصى الأرباح بسرعة وبعيداً عن المخاطر، ولاسيما في النشاط التجاري والمضاربات العقارية ودور السكن وفي بعض الخدمات المربحة. ولم يكن إهمال الكهرباء عفوياً بل كان سياسة متفقة مع رغبات إيران في استيراد الطاقة منها وبأسعار خيالية. كما إنها اقترنت بنهب حقيقي للأموال التي قدرت بأربعين مليار دولار أمريكي دون ان يحصل الناس على تيار كهربائي في حرّ الصيف وبرد الشتاء. إنها سياسة حكومات تابعة وليست مستقلة!   
يعاني الاقتصاد العراقي من تشوه في بنيته وتخلف في مستوى تطور قواه المنتجة، فهو اقتصاد ريعي نفطي واستهلاكي وحيد الجانب. وينعكس هذا الواقع على البنية الطبقية للمجتمع العراقي، في تراجع شديد في حجم الطبقة العاملة ودورها الاقتصادي والاجتماعي، وفي حجم ودور البرجوازية المتوسطة الصناعية على نحو خاص في الاقتصاد والمجتمع وفي الحياة السياسية، وتعاظم دور الفئات أشباه البروليتاريا والفئات غير المنتجة والطفيلية والمستهلكة للدخل القومي دون أن تساهم في إغنائه. وقد أثر كل ذلك وغيره على الوعي الفردي والجمعي في المجتمع بشكل عام. وإذا كانت هذه السمات قديمة في الاقتصاد العراقي والمجتمع، فأن ما حصل في الفترة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية الغاشمة، وفي ظل نظام المحاصصة الطائفي المقيت، برز في تفاقم هذه السمات السلبية، وزاد في الطين بلة، سيادة الفساد والإداري وتحولهما من ظاهر هنا وهناك إلى نظامٍ (System) متكاملٍ، تمارسه سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها والعاملين فيها، مع وجود من هم يتسمون بالنزاهة والإخلاص، ويمارسه المجتمع لتمشية معاملاته اليومية تحت واقع " أخاك مجبر لا بطل"، إضافة إلى تفاقم البطالة المكشوفة والمقنعة وارتفاع نسبة الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر, ونسبة أخرى تتحرك على الخط أو فوقه بقليل. إن هذا الواقع المرير لا تعالجه حكومة طائفية قائمة على المحاصصة والفساد والسكوت المتبادل على النهب والسلب، ولا يمارسه رئيس وزراء يخشى من حزبه ورئيس حزبه في اتخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهة الواقع الاقتصادي العراقي، بل يستوجب حكومة وطنية غير طائفية وديمقراطية، حكومة تحترم إرادة الشعب وتلتزم بمبدأ المواطنة وتعمل لتحقيق مصالحه. ومثل هذه الحكومة غير قائمة في العراق منذ سقوط الدكتاتورية البعثية، وبالتالي فأن خيرة المستشارين، وليس كلهم خيرّ وفاهم، لا يستطيع عمل شيء يستحق الذكر، حتى لو قدم ملاحظات قيمة على سياسات الحكومة الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية. وفي هذه الحالة على المستشار أن يقرر مدى صواب استمراره في العمل، أو إحالة نفسه على التقاعد. وهي مسألة لا أقررها أنا ولا غيري، بل يقررها الشخص المعني ذاته، أي كيف يرى سير الأمور، وما مرّ به من عسف في وزارة سلف العبادي، المستبد بأمره والطائفي حتى النخاع نوري المالكي.
حين كنت عضواً في المجلس الزراعي الأعلى كتبت مقالات في مجلة وزارة الزراعة كشفت فيها عن طبيعة السياسة الزراعية السيئة لحزب البعث والحكومة العراقية التي كان يرأسها فعلياً صدام حسين، ثم كشفت عن سياسة البعث الاقتصادية المؤذية للاقتصاد والمجتمع والمتعارضة مع القوانين الاقتصادية الموضوعية في مقال نشرته في طريق الشعب في تموز عام 1978 وعلى صفحة كاملة. أوعز صدام حسين في اليوم الثاني باعتقالي في مديرية الأمن العامة وتعذيبي ثم إطلاق سراحي بعد أسبوعين وإنزالي درجتين وظيفيتين ثم إحالتي على التقاعد بدون راتب تقاعدي وأثناء وجودي في المعتقل. وفي نقاش مع مدير الأمن العامة فاضل البراك بين الزنزانة وغرفته أثناء اعتقالي، أخرج من جيبه ورقة سلمها لي لأقرأها، سجل فيها صدام حسين بخط يده 11 فقرة في كيفية التعامل معي أثناء الاعتقال والتي تضمنت الإهانة والإساءة ثم التحقيق، وممارسة التعذيب.. الخ. ثم تقديمي للمحاكمة بتهمة إهانة مجلس قيادة الثورة والثورة. وقد نشرت تقريراً كاملاً عما جرى معي في الاعتقال في لقاء مع مجلة المرأة التي تصدر في الإمارات العربية قبل عدة سنوات. مثل هذا الموقف أو غيره إزاء سياسات الدولة يفترض أن يتخذها كل شخص على وفق ما يراه مناسباً له ولعائلته والوضع العام الذي هو فيه. وعلينا ألَّا نحاول فرض رأينا عليه، ونحن لسنا في موقعه وظروفه! من هذا المنطلق وجدت مقالة السيد علي الشرع غير منصفة بحق المستشار المالي لرئيس الوزراء الدكتور مظهر محمد صالح، الذي اعتقل قبل ذاك وعانى الكثير قبل إطلاق سراحه بعد التغيير الوزاري وإزاحة نوري المالكي عن قيادة السلطة. لقد وقفت مع كثيرين، إلى جانب د. سنان الشبيبي ود. مظهر محمد صالح والمجموعة البنكية المعتقلة، دون أن تكون لي صداقات بهم أو معرفة مباشرة بشخوصهم، فيما عدا السيد الدكتور سنان الشبيبي، إذ حصل لقاء لي معه أثناء انعقاد لقاء اقتصادي في فيينا حين دعا له الفقيد الدكتور مهدي الحافظ والسيد أديب الجادر في النصف الثاني من العقد الأخير من القرن الماضي، لأني أدركت بأنهم مظلومون ويراد الانتقام منهم لأنهم لم يستجيبوا لإرادة المستبد بأمره في التصرف بالاحتياطي الموجود في البنك المركزي لصالح إيران ولصالح أهدافه السيئة والبقاء في الحكم. 
لو كان السيد على الشرع مطلعاً على دراساتي وكتبي ومقالاتي الاقتصادية لأدرك بأني من مدرسة فكرية واقتصادية غير التي فيها زميلي الفاضل الدكتور مظهر محمد صالح، وربما نلتقي في رؤية مشتركة لواقع الاقتصاد العراقي وسماته الأساسية، ولكن ربما نختلف في الحلول التي يفترض أن تقدم لهذا الواقع الاقتصادي السيء. ولكن هذا لا يمنعني بأي حال من احترام لآراء الدكتور مظهر محمد صالح والدفاع عنه حين أشعر باحتمال تعرضه للظلم أو الاضطهاد أو عدم الإنصاف. وسيكون موقفي هذا إزاء كل من يواجه مثل هذا الأمر، ومنهم السيد علي الشرع.
إن النظام السياسي الطائفي القائم، يشكل مخالفة صريحة للدستور العراقي المشوه في الكثير من بنوده، وهو المولد للفساد والإرهاب والخراب الاقتصادي والاجتماعي والرثاثة والبؤس والفاقة ولا يرتجى إصلاحه، وهو ما ينبغي السعي لتغييره. وأتفق مع السيد الشرع في فضح سياسة الحكومة العراقية فيما يمس السياسة الاقتصادية والخدمية، ولاسيما الكهرباء والماء والصحة والتعليم والنقل والبناء...الخ، ولكن أهم من كل ذلك ابتعاد النظام عن التثمير الإنتاجي في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية. ولكن هذا لا يرتبط بالمستشار المالي مباشرة بل برئيس الحكومة ووزاراتها المسؤولة ومؤسساتها. ولهذا قلت بأن هناك خلطاً بالأوراق ولا بد من تصحيح الموقف.
أدرك تماماً مخاطر تفاقم المديونية الخارجية للعراق، ولاسيما زيادة ديون صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وشروطهما في الإصلاح الاقتصادي للدول النامية التي تتلخص في "سياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي" التي تلحق أضراراً فادحة بالفئات الكادحة والفقيرة والمعوزة في المجتمع، وهو ما لا اتفق مع من يتبع هذا النهج أو يدافع عنه. وقد نشرت الكثير من المقالات في هذا الصدد ولا أجد مبرراً للتوسع بهذا الصدد.
انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة.
13/08/2018   


203
كاظم حبيب
نقاش هادئ مع السيد علي الشرع بشأن واقع العراق الراهن (2-4)
هل في مقدور المجتمع العراقي بناء الدولة الديمقراطية العلمانية؟

جاء في رد السيد علي الشرع قوله " وكأنه (أي كاظم حبيب) يصور للناس ان المرجعية عامة والسيد السيستاني خاصة هو حجر عثرة في طريق قيام دولة علمانية مدنية ديمقراطية يروّج لها السيد حبيب ظناً منه ان دولته هذه ستنجح في تجاوز محنة المحاصصة الطائفية التي قادت الى الفساد والضياع الاقتصادي والانقسام الاجتماعي. ولكن يغيب عن نظره ان دولته هذه لا يمكن ان تقوم في بيئة اجتماعية متناقضة معها، وحتى تنجح لا بد اولاً ان يسلخها تماماً من تراثها وعقائدها، وانّى له ذلك!" التشوش والتعارض في هذا الطرح واضح. فهو من جانب يقول وكأن كاظم حبيب يصور للناس بأن المرجعية والسيد السيستاني هما حجر عثرة في طريق قيام دولة علمانية مدنية ديمقراطية، ومن جانب آخر يرى بأن المجتمع العراقي غير مؤهل لمثل هذه الدولة لتجاوز محنة المحاصصة الطائفية وما نجم وينجم عنها، وإن الذي يريده لا يقوم في بيئة اجتماعية متناقضة معه. بهذا الطرح يفهم الإنسان بأن الكاتب علي الشرع لا يرى إمكانية بناء الدولة الديمقراطية العلمانية، وهو بهذا من مؤيدي ما هو قائم حالياً في العراق لأنه ينسجم مع البيئة الاجتماعية السائدة في العراق، أي استمرار وجود الطائفية الدينية ومحاصصاتها المذلة. اختلف مع الشرع في هذا الرأي، ولدي ثقة بأن العراق سيبني الدولة الديمقراطية العلمانية، ولكن هذا يستوجب نضالاً دؤوباً ومن قوى وأحزاب تعتقد بذلك وليس من أحزاب إسلامية سياسية لا تسعى إلَّا إلى ملء جيوبها بالسحت الحرام وسرقة لقمة العيش من افواه الشعب وكادحيه.
لقد بدأ النظام الملكي بوضع الدستور الأول لعام 1925 بالخطوات الأولى صوبَ بناء المجتمع المدني الديمقراطي في العراق بجملة من السياسات المهمة التي كرسها الدستور، مع حقيقة أن العراق كان قد خرج لتوه من براثن الهيمنة الاستعمارية الطويلة الأمد وما يقرب من أربعة قرون من التخلف والبؤس والفاقة والاستغلال. وبالتالي كان المجتمع ما يزال في بداية وعيه التنويري، الذي لم يستمر، إذ بدأت الانقلابات العسكرية 1936 و1941 من جهة، وخشية الاستعمار البريطاني من خسارة مواقعه في العراق من جهة ثانية، والمستوى الضعيف للوعي الاجتماعي والسياسي الجمعي، قد ساعدت الحكومة العراقية الملكية على النكوص عن خط التطور المتصاعد للمجتمع المدني والدولة الديمقراطية. فبدأت عمليات تشويه بنود الدستور وتزوير الانتخابات وتزييف إرادة المجتمع والدفاع عن مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين وتفاقم البطالة والفقر وهجرة الفلاحين إلى المدن وامتلاء السجون بمعارضي الحكم.  مما أدى إلى قيام ثورة تموز 1958 التي انتهجت خطاً ديمقراطيا ومدنياً في البداية، ولكنها جوبهت بمشكلات كثيرة وعجزت عن دفع البلاد باتجاه وضع دستور ديمقراطي دائم وإقرار جملة من القوانين المهمة بما فيها القانون رقم 80 وقانون الإصلاح الزراعي وقانون العمل والعمال، وكذلك قانون الأحوال الشخصية الذي عبأ ضده كل القوى المناهضة للديمقراطية والتقدم الاجتماعي وحقوق المرأة ولاسيما قوى الإسلام السياسي الشيعية والسنية وبالتعاون الوثيق مع الإقطاعيين والرجعيين والبعثيين، إضافة إلى الكرد بسبب خلافهم مع عبد الكريم قاسم، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فتم الانقضاض على هذه الثورة الديمقراطية التي اقترنت بجملة من الأخطاء التي ارتكبتها قيادة الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم، ولاسيما تأخير إقرار دستور مدني دائم واجراء انتخابات عامة حرة وأطلاق حرية التنظيم والحياة الحزبية الحرة وتسليم الحكم لحكومة مدنية في ضوء الانتخابات والابتعاد والمطالبة بالكويت ..الخ. ومن ذلك الحين بدأت سلسلة الانقلابات والتدهور المستمر في أوضاع الشعب والتي تجلت في حروب النظام البعثي الدموية نحو الخارج ودكتاتوريته الشرسة نحو الداخل. ولم يتعلم من جاء بعد الدكتاتورية الصدامية من تجارب العراق خلال القرن العشرين. لقد سلمت السلطة بعد 2003 تسليماً بيد الأحزاب الإسلامية الشيعية وبتعاون هزيل مع أحزاب سنية وقوى كردية، وبمساومة معادية للتطور الديمقراطي في العراق بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وبدعم من المرجعيات الشيعية في العراق. ولكن هل يمكن لهذا الوضع أن يستمر؟   
لا يمكن للعراق أن يستمر دون فوضى وصراع وقتال دموي وموت وخراب إن أصر حكامه الحاليون على الأستمرار بنهجهم السياسي الطائفي المدمر للبلاد. فالعراق بلد التعدد الديني والمذهبي والقومي والفكري، ولا بد لنظام الدولة أن يكون ديمقراطياً وعلمانياً، أي دولة حيادية بسلطاتها الثلاث إزاء الديانات والمذاهب العديدة والقوميات، ترفض ربط الدين بالدولة والسياسة، وتتعامل مع الإنسان العراقي، رجلاً كان أم امرأة، على أساس المواطنة لا على أساس الدين والمذهب والقومية. فالدولة الدينية الطائفية تمارس التمييز بين الديانات والمذاهب وأتباعها، ومن هنا تخلق شروخاً كبيرة في المجتمع وفي كيان الوطن.
لقد مر حتى الآن عقد ونصف العقد وبرزت اختلالات شديدة ومدمرة في كيان الدولة العراقية. فدستورها الراهن يصر على أن الإسلام هو دين الدولة باعتبار المسلمين يشكلون الأكثرية، وسلطات الدول الثلاث موزعة على أساس المحاصصة الطائفية المذلة لمبدأ المواطنة المتساوية والكفاءة في العمل واحتلال المراكز. المآسي التي نجمت عن هذا النظام السياسي الطائفي المتخلف لا حصر لها، ابتداءً من الفساد المالي والإداري إلى التمييز بين المواطنين، وإلى تشكيل المليشيات الطائفية المسلحة، سنية وشيعية وخوض صراع دموي على اساس الهوية وهجرة مئات الألوف من المسيحيين والإيزيديين والصابئة وإلى الإبادة الجماعية، إضافة إلى الشبك والتركمان في نينوى، بعد اجتياح داعش للموصل ونينوى وقبل ذاك المحافظات الغربية وديالى والحويجة.. الخ بفضل السياسة الوحشية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي ورهطه.   
لقد تيقن  الكثير من بنات وأبناء العراق بأن النظام الطائفي غير مناسب للعراق ولا بد من تجاوزه وتغييره. وأن النظام المناسب هو النظام الديمقراطي العلماني الذي يأخذ على عاتقه بناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث. حتى أولئك الذين رفضوا الدولة المدنية والديمقراطية بدأوا قبل الانتخابات الأخيرة (2018) يتمسحون بالمدنية ويدعون لها، ولاسيما من هم في بعض الأحزاب الإسلامية السياسية وفي سلطات ومؤسسات الدولة. بل إن الشيخ عبد المهدي الكربلائي، ممثل السيد السيستاني، تحدث عن الدولة المدنية وطالب بالإصلاح، ولكن إلى حد ما بعد "خراب البصرة!"
إن المجتمع العراقي مجتمع متدين، ولكنه متحرر أيضاً. وهذا التدين لا يمنعه أبداً من العمل لبناء الدولة الحديثة على أساس المواطنة واحترام الحريات الشخصية ومحاربة الطائفية التي شطرت الشعب إلى قوى متصارعة ومتقاتلة، ولاسيما بين السنة والشيعة، في حين أصبح أتباع الديانات الأخرى عرضة للنهب والسلب والقتل والتشريد والتهجير على ايدي الميليشيات المسلحة والإرهابية الشيعية منها والسنية، وسكتت الحكومات المتعاقبة على هذا الأمر، مما كان يعني تأييدها لمثل هذا النهج التدميري.
فالدولة الديمقراطية العلمانية لا ترفض الديانات والمذاهب ولا تعاديها، بل تعترف بوجودها وتحترمها وتحترم طقوسها الإنسانية، وترفض أي إساءة تلحق بأتباعها. وهي في الوقت ذاته ترفض تدخل الدين في السياسة وشؤون الدولة، فالدين له حقوله واختصاصه الاجتماعي ويتحمل مسؤولية التنوير الديني والتفاعل مع اتباع الديانات الأخرى والاعتراف المتبادل والتسامح. الدولة الديمقراطية العلمانية تسعى لبناء مجتمع مدني ديمقراطي حديث على أسس دستورية ديمقراطية ومجلس نيابي وانتخابات حرة ونزيهة, وتلتزم بالتداول السلمي والديمقراطي للسلطة، وترفض إقامة أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي، بل يتوجب بناء الأحزاب السياسية على أساس المواطنة بغض النظر عن الدين أو المذهب أو القومية.
الدولة الديمقراطية العلمانية تفسح في المجال للشعب أن يمارس دوره ومشاركته في رسم سياساتها وفي الرقابة عليها ومنع التجاوز على الحقوق والحريات العامة للأفراد. وعبر الرقابة على سياسات الحكومة ومجلس النواب والقضاء العراقي يمكن أن تكتشف حالات الفساد والتزوير والتزييف للإرادة وتحارب، وتنشأ عوامل إيجابية تسمح بمحاربة الإرهاب والانتصار عليه. نعم، إن الدولة الديمقراطية العلمانية إن وجدت ستتمكن من تجاوز محنة الطائفية ومحاصصاتها وكذلك الفساد والإرهاب والتدخل الخارجي. في حين أن الدولة الطائفية تفتح أبواباً واسعة أمام الفساد والإرهاب، وهما صنوان، أو وجهان لعملة واحدة ، وأمام التدخل الخارجي الإقليمي والدولي في الشأن العراقي. ودور إيران وأدوار السعودية ودول الخليج وتركيا لا تغيب عن بال العراقيات والعراقيين ودور الأولى المشؤوم في كل شاردة وواردة في العراق. المجتمع العراقي لا يختلف عن باقي مجتمعات العالم في إمكانيته على التطور وقبول التنوير والتجديد والتغيير، شريطة أن تكون هناك حكومة ومجلس نواب وقضاء قادرة كلها بعملها المستقل والمشترك على توجيه هذه العملية والسير فيها وأخذ المجتمع معها. خمسة عشر عاماً هيمنت الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، وبتحالف مهزوز مع الأحزاب الإسلامية السنية المستفيدة، على حكم البلاد وعلى الاقتصاد والمال، وبسبب سياساتها حلّت المآسي والكوارث التي عاشها العراق ولا يزال يعاني منها وسيبقى كذلك، إن استمرت هذه الأحزاب في السلطة ومارست الطائفية والمحاصصة المذلة للشعب. وبالتالي لا خيار للعراق في المحصلة النهائية غير الدولة الديمقراطية والعلمانية والمجتمع المدني الديمقراطي الحديث.           
يشير بول بريمر في كتابه عن ذكرياته في العراق
أنه تباحث كثيراً مع السيد السيستاني عبر وسطاء عديدين ونسق معه كل الخطوات بما في ذلك الدستور المشوه في الكثير من مواده، وتحديد موعد مبكر للانتخابات الأولى، (راجع: السفر باول بريمر، عام قضيته في العراق، النضال لبناءِ غدٍ مرجو، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان 2006، ص 364/365)، وتسليم السلطة بيد القوى الإسلامية وبالتنسيق بين الولايات المتحدة وإيران وبعلم وموافقة المرجعية الشيعية. من غير المعقول أن نسكت على كل ذلك دون أن نشير إلى انه لم يكن من واجب المرجعية التدخل في هذه الشؤون وكان عليها أن تنأى بنفسها عن التدخل في دعم قوى الإسلام السياسية التي خربت البلاد وأساءت للعباد ومرَّغت كرامة الإنسان العراقي بالتراب وجوعت المجتمع وحرمته من ثروته عبر النهب والسلب والسرقة من الباطن، ثم أساءت بدورها للمرجعية التي زكتها ودعمتها ومنحتها الثقة ودعت الجماهير لانتخابها.     
نعم أنا من مدينة كربلاء ومن مواليد 1935 ومتابع جيد لوقت مبكر لعدد غير قليل من شيوخ الدين المسؤولين عن المرجعية الشيعية في حوزة النجف، وأعرف تماماً دورها وواجباتها الدينية والاجتماعية وخلافاتها مع إيران وموقفها من ولاية الفقيه وعدم تدخلها في السياسة لسنوات طويلة. وهذا الموقف لا يمنع حين يواجه الشعب أو الدولة مخاطر معينة لا يدعو الناس إلى الدفاع عن الوطن أو الدعوة ضد المستبد بأمره مثلاً. إن هذا ليس سياسة بالمعنى التقليدي بل في جانبه الاجتماعي والوطني العام. كما كان حرياً بالسيد علي الشرع أن يبتعد عن تقديم النصح للسيد الدكتور مظهر محمد صالح بالابتعاد عن الكتابة الاقتصادية التثقيفية المهمة، ولي بالكف عن الكتابة السياسية وعن المرجعية، في حين أنهما أمران ضمن الشأن العام يمسان الجميع ويتطلبان من الجميع المشاركة فيهما.
12/08/2018
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة.


204
كاظم حبيب
نقاش هادئ مع السيد علي الشرع بشأن واقع العراق الراهن (1-4)
جاء ردّ السيد علي الشرع على مقالي حول موقفه من المستشار الاقتصادي السيد الدكتور مظهر محمد صالح متوتراً وفيه الكثير من الشخصنة التي لا تنفع النقاش، بل يفترض أن نركز على المسائل المركزية، وهو في ردّه اتبع نفس الأسلوب في الهجوم والنصيحة بعودتي إلى الاقتصاد وترك السياسة ونقد المرجعية والاهتمام بقضايا الشعب لأني أعيش في ألمانيا خارج العراق ولأن الناس لا تهتم بمقالاتي ورسائلي. أدرك إن الجهل بالشخص ليس عيباً، ولكن العيب حين يتوجه كاتب ما بالنقد لشخص دون أن يحاول معرفة هذا الشخص وكتاباته وتاريخه السياسي مثلاً. إذ لا يكفي أن يعرف أن كاظم حبيب من مواليد كربلاء، وهو ليس سراً، ولا يكفي ان يعرف أنه يعيش في ألمانيا، أو يكتب مقالات سياسية ورسائل للمرجعية لا يقرأها أو يهتم بها أحد. هذا غير كافي أخي السيد علي الشرع. سأحاول توزيع مناقشتي على وفق النقاط التي وردت في مقاله الموسوم "مع كاظم حبيب في دفاعه عن المستشار الاقتصادي للعبادي".
1.   كاظم حبيب والكتابة السياسية ونقد المرجعية
الكتابة السياسية ليست حكراً على أحد، بل يفترض أن يشارك فيها جميع أبناء الشعب، ويبقى السؤال مستوى المشاركة والاحتراف وتأثيرها. وبالتالي من حقي ومن حق كل إنسان أن يكتب في السياسة لأنها تؤثر على حياة الشعب ووجوده ومستوى معيشته ودوره ومستقبل العراق. ورغم ذلك فأنا من سياسي الخمسينيات من القرن الماضي وعضو في الحزب الشيوعي منذ العام 1952 وسجين ومُبعد سياسي في العهد الملكي لسنوات أربع، ومعتقل ومعذب في العهد البعثي في العام 1978، ونصير في حركة أنصار الحزب الشيوعي العراقي لسنوات خمس في النضال ضد نظام البعث. كما كنت لسنوات كثيرة عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ولسنوات عدة عضواً في المكتب السياسي للحزب. وبعدي عن العراق لم يمنعني من زيارة العراق باستمرار والتعرف على أوضاع الشعب، ومنهم أهلي، وأعرف بعمق معاناة الشعب والجوع والحرمان والموت المستمر بسبب سياسات الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها المسلحة ومن يدافع عنها وعن تدخل المرجعية في السياسة، التي نتج عنها الوضع المأساوي الذي يعيش تحت وطأته الشعب العراقي طيلة السنوات الـ 15 المنصرمة. فأنا سياسي ولست طارئاً عليها ولا من سياسيي الصدفة. أما في مجال الاقتصاد، حيث كنت أستاذاً في الجامعة المستنصرية وفي جامعة الجزائر، وصدر لي الكثير من الكتب في هذا المجال، ولي مقالات بالمئات حول الاقتصاد العراقي واقتصاديات البلدان العربية والنامية وعن الوضع الاقتصادي الخرب في فترة حكم البعث الإجرامي والفترة المظلمة الراهنة ومنشورة في الحوار المتمدن وفي الكثير من المجلات والمواقع والكتب. والجهل بها ليس عيباً، ولكن العيب في أن يُعيَّر الشخص لأنه يكتب بالسياسة ولا يكتب بالاختصاص. لقد طرحت مشروعاً متكاملاً حول تطوير الاقتصاد العراقي وحول اقتصاد كردستان العراق قبل الغزو والاجتياح الداعشي، ونشرته على نطاق واسع. وكم كنت أتمنى لو قرأت مناقشاتي مع الأستاذ الدكتور سيار الجميل أو الدكتور محمد علي زيني أو الدكتور بارق شبر أو غيرهم والتي هي منشورة في المواقع، وربما ينفع أن تقرأ الكتاب الموسوم الرثاثة في العراق: أطلال دولة ... رماد مجتمع، نصوص تشريحية للوظيفة الهدمية للإسلام السياسي"، الذي صدر في العام 2015 عن دار ميزوبوتاميا لمجموعة من الكتاب وتحرير الدكتور فارس نظمي، يتصدر الكتاب مقالي الموسوم: "الاقتصاد السياسي للفئات الرثة الحاكمة في العراق" بقلم أ. د. كاظم حبيب.
أما نقدي للمرجعية، فهو حق مشروع لمن يعي دور الدين ودور المرجعية في المجتمع. وليس غريباً رفضك لموقف، إذ أن هناك فريقين، فريق يريد ربط الدين بالسياسة والدولة وفريق يرفض ذلك وأنا من الفريق الثاني، لأن مجتمعا مثل المجتمع العراقي حيث تتعدد فيه الديانات والمذاهب لا يمكن أن يربط أحد الديانات بالدولة حتى لو كان دين الأكثرية. فالدولة لا دين لها لأنها شخصية معنوية، ويتوجب على الدولة أن تكون حيادية إزاء جميع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية غير العنصرية والشوفينية والطائفية، وأن تعامل كافة المواطنات والمواطنين على أساس المساواة في المواطنة الحرة والمشتركة وليس على أساس الدين والمذهب أو القومية. بغير ذلك يبدأ التمييز بين الديانات والمذاهب وأتباعها وهو ما يعيش المجتمع العراق الآن بسبب القول بأن الإسلام دين الدولة وأن المرجعيات الشيعية والمؤسسات الدينية السنية تتدخل بالسياسة من أوسع أبوابها، وكانت أحد أبرز الأسباب فيما يعاني منه الشعب من حكم الأحزاب السياسية الإسلامية، وهو خروج عن المعروف عن دور المرجعية الشيعية في زمن السيد أبو الحسن الموسوي وقبله وبعده بفترة.
المرجعية الشيعية يفترض فيها أن تتخذ موقفاً اجتماعياً إزاء ما يحصل في البلاد ولها الحق في نقد النواقص التي تؤذي الشعب، ولكن لا أن تتدخل في دعم هذا الحزب أو ذاك، أو في دعم الأحزاب الإسلامية السياسية التي خربت البلاد وساهمت في موت مئات الآلاف من البشر.
انتقادي للمرجعية يأتي من باب آخر أيضاً في كونها لا تتخذ الموقف المناسب من البدع التي يمارسها حشد من الشيعة في مناسبات العزاء على الشهيد الحسين بن علي بن ابي طالب وصحبه، والذي هو إساءة كبرى للإسلام والمذهب الشيعي معاً. كما إن هذه البدع ليس فيها أي احترام للشهداء الأبرار، وقد رفضها علماء أخيار في العراق ولبنان وإيران، ولكن لا يتصدى لها السيد علي السيستاني أو المراجع الشيعية الأخرى، وهو أمر غير مقبول. وإليك أراء بعض المراجع الشيعية بشان طقوس عاشوراء: 
1.   آية الله العظمى السيد محسن الحكيم "إن هذه الممارسات (التطبير) ليست فقط مجرد ممارسات... هي ليست من الدين وليست من الأمور المستحبة بل هذه الممارسات أيضا مضرة بالمسلمين وفي فهم الإسلام الأصيل وفي فهم أهل البيت عليهم السلام ولم أرَ أيا من العلماء عندما راجعت النصوص والفتاوى يقول بان هذا العمل مستحب يمكن إن تقترب به إلى الله سبحانه وتعالى إن قضية التطبير هي غصة في حلقومنا".
2.   آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي: في رده على سؤال حول إدماء الرأس وما شاكل يقول "لم يرد نص بشرعيته فلا طريق إلى الحكم باستحبابه)) راجع: المسائل الشرعية ج2 ص 337ط دار الزهراء بيروت.
3.   آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر في جوابه لسؤال الدكتور التيجاني حين زاره في النجف الاشرف " ان ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجُهّالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على منعه وتحريمه" راجع: كل الحلول عند آل الرسول ص 150 الطبعة الأولى 1997 م للتيجاني.
4.   آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني "ان استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم من أمثالها في مواكب العزاء بيوم عاشوراء باسم الحزن على الحسين (عليه السلام) انما هو محرم وغير شرعي". راجع: كتاب هكذا عرفتهم. الجزء الأول لجعفر الخليلي.
5.   آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي "على المؤمنين الأخوة والأخوات السعي إلى إقامة مراسم العزاء بإخلاص واجتناب الأمور المخالفة للشريعة الإسلامية وأوامر الأئمة (عليهم السلام) ويتركوا جميع الأعمال التي تكون وسيلة بيد الأعداء ضد الإسلام، إذ عليهم اجتناب التطبير وشد القفل وأمثال ذلك..."
6.   آية الله العظمى السيد كاظم الحائري "ان تضمين الشعائر الحسينية لبعض الخرافات من أمثال التطبير يوجب وصم الإسلام والتشيع بالذات بوصمة الخرافات خاصة في هذه الأيام التي أصبح إعلام الكفر العالمي مسخرا لذلك ولهذا فممارسة أمثال هذه الخرافات باسم شعائر الحسين (عليه السلام) من أعظم المحرمات".
7.   آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله "... كضرب الرأس بالسيف أو جرح الجسد أو حرقه حزنا على الإمام الحسين (عليه السلام) فانه يحرم إيقاع النفس في أمثال ذلك الضرر حتى لو صار مألوفا أو مغلفا ببعض التقاليد الدينية التي لم يأمر بها الشرع ولم يرغب بها." راجع: إحكام الشريعة ص 247.
8.   آية الله الشيخ محمد مهدي الاصفهي "لقد دخلت في الشعائر الحسينية بعض الأعمال والطقوس فكان له دور سلبي في عطاء الثورة الحسينية وأصبحت مبعثا للاستخفاف بهذه الشعائر مثل ضرب القامات.". راجع: عن كيهان العربي 3 محرم 1410 هـ.
9.   آيه الله العظمى السيد محسن الأمين ".... كما ان ما يفعله جملة من الناس من جرح أنفسهم بالسيوف أو اللطم المؤدي إلى إيذاء البدن إنما هو من تسويلات الشيطان وتزيينه سوء الأعمال." راجع: كتاب المجالس السنية. الطبعة الثالثة ص 7.
10.   آيه الله محمد جواد مغنية ".... ما يفعله بعض عوام الشيعة في لبنان والعراق وإيران كلبس الأكفان وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في العاشر من المحرم ان هذه العادات المشينة بدعة في الدين والمذهب وقد أحدثها لأنفسهم أهل الجهالة دون ان يأذن بها إمام أو عالم كبير كما هو الشأن في كل دين ومذهب حيث توجد فيه عادات لا تقرها العقيدة التي ينتسبون إليها ويسكت عنها من يسكت خوف الاهانة والضرر." راجع: كتاب تجارب محمد جواد مغنية.
11.   آية الله الدكتور مرتضى المطهري "ان التطبير والطبل عادات ومراسيم جاءتنا من ارثودوكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم." راجع: كتاب الجذب والدفع في شخصية الإمام علي (عليه السلام). "
وهناك أسماء كثيرة ضد ظاهرة التطبير وغيرها ومنهم آية الله العظمى الشيخ محمد علي الأراكي  (1312هـ - 1415هـ)، السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، وآية الله الشيخ محمد باقر الناصري، والعديد من كبار المراجع الدينية الشيعية.
وقولك بأن مقالاتي لا يهتم بها أحد، فهو ما لا استطيع تقديره ولك الحق في قول ذلك، وكان الأجدر بهيئة تحرير جريدة العالم أن تخبرني، إن كان حقاً عدم وجود اهتمام بمقالاتي، لكي أكف عن الكتابة لها.
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية. 
12/08/2018               


205
كاظم حبيب
نتائج العدّْ اليدوي وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة
انتهى العدّْ اليدوي للتدقيق في نتائج الفرز الإلكتروني وتبين عن وجود تباينات طفيفة جداً لم تغير من نتائج الفرز الإلكتروني. وهذه الحقيقة لا تغير من واقع ما أجمع عليه المراقبون في العراق من أن الانتخابات في العراق شابها الكثير من عمليات تزييف إرادة الجماهير من خلال شراء أصوات الناخبين، ولاسيما الفقراء منهم والمعوزين والبسطاء والمخدوعين، أو مشاركة جمهرة من شيوخ الدين في التأثير على مسيرة التعبئة للانتخابات لصالح هذا الحزب الإسلامي أو لهذه المليشيا الطائفية الشيعية المسلحة أو تلك، ولاسيما في المناطق التي تعرضت للدمار، إضافة إلى قانون الانتخابات السيء الصيت والتدخل الإقليمي في هذه الانتخابات لصالح قوى بعينها عبر الأموال والدعاية التلفزيونية الأفراد. وبالتالي فالعدّْ اليدوي لا يغير من تلك الحقيقة، ولكن يؤكد إمكانية استخدام الفرز الإلكتروني في استخراج نتائج الانتخابات حين تكون الانتخابات نظيفة وعادلة.
تفتح نتائج العدّْ اليدوي لنتائج الانتخابات الباب على مصراعيه لتشكيل التحالف الأكبر الذي يمكن تكليف أحد مرشحيه لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة. ومنذ بدء الإعلان عن نتائج الفرز الإلكتروني بدأت الحوارات حول تشكيل الكتلة الأكبر، وبدأ الصراع الحقيقي والتدخل الخارجي، ولاسيما الإقليمي في التأثير على مجرى تشكيل الكتلة الأكبر. وإذا كانت قائمة سائرون قد أكدت في برنامجها الانتخابي وفي حديث مقتدى الصدر، أو أعضاء في قيادة سائرون، إلى أنهم يرفضون تشكيل حكومة على أساس المحاصصة الطائفية ويسعون إلى تشكيل حكومة عابرة للطوائف وعلى ضوء برنامج مدني يحمل معه موم الناس، فأن قائمتي فتح ودولة القانون أكدتا بما لا يقبل الشك أنهما يسعيان إلى تشكيل الكتلة الأكبر اعتماداً على ذات الأسس الطائفية ومحاصصاتها في تشكيل الحكومة الجديدة وأن مرشحهما واحداً من اثنين: إما المالكي وإما هادي العامري، وكلاهما مسؤولان بشكل مباشر أو غير مباشر عن الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة وما جرى في العراق خلال السنوات المنصرمة من مآسي وكوارث ودماء ودموع وفساد لا حصر لها. في حين بقي مركز رئيس الوزراء لقائمة سائرون يتراوح بين اسمين أو ثلاثة أكثرهم حظاً في الحصول عليه ولدورة ثانية، كما يبدو، هو حيدر العبادي.
كان هناك أكثر من احتمال لتشكيل القائمة الكبرى، ولاسيما في ضوء الحوارات والتقلبات في الرؤية أو الرغبة أو الاحتمال، ولكن التحالف الذي بدا أكثر حظاً في تشكيل الكتلة الأكبر في الانتخابات هو الذي يستند إل القوائم الانتخابية التالية:
سائرون 54 مقعداً نيابياً، النصر 42 مقعداً نيابياً، الوطنية 21 مقعداً نيابياً، والحكمة 19 مقعداً نيابياً، إذ مجموع القوة التصويتية له هي 136 صوتاً من مجموع 329 صوتاً. يبقى هنا أصوات الأحزاب والقوى الكردية في كردستان العراق. فإذا أضيف لمجموع مقاعدة التحالف المشار إليه في أعلاه عدد أصوات الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، ومجموعهما 35 صوتاً، ستكون القوة التصويتية لهذا التحالف المحتمل 171 صوتاً في المجلس الجديد، وبالتالي يشكل الكتلة القادرة على الحصول على أكثر من نصف أصوات أعضاء مجلس النواب وعددها 165 صوتاً. وهذا الاحتمال هو الأكثر حظاً حتى الآن. من الممكن أن يحصل هذا التحالف على أصوات أخرى من قوائم فازت بعدد قليل من الأصوات وضمن القوى المدنية والديمقراطية، عندها سيمتلك هذا التحالف قوة تصويتية مريحة في التصويت على قرارات مجلس النواب. بيضة القبان لهذا التحالف مرتبطة بأصوات القوائم الكردية ولاسيما قائمتي الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. 
أما التحالف الآخر الذي تضغط إيران بقوة على تشكيله فهو من مكون من قوائم الفتح ودولة القانون والنصر والحكمة، وربما يسعون إلى جر سائرون له لتفليشه، ليبقى في الغالب تحالفاً شيعياً طائفياً بامتياز، وفي حالة رفض سائرون يسعون إلى تشكيل تحالف من القوى الأربع الأخرى، إضافة إلى محاولة كسب الاتحاد الوطني الكردستاني أو قائمتي الكرد وربما قوائم كردية أخرى صغيرة. هذا التحالف لا تصل قوته التصويتية إلى قوة تحالف سائرون مع النصر والوطنية والحكمة والكرد، وبالتالي من الواقعي القول باحتمال قيام حكومة تمثل قوى التحالف الأول، وتكون في الغالب برئاسة حيدر العبادي.
ولكن هذا التحالف يفترض فيه أن يضع برنامجه الانتخابي زائداً الموقف من القضية الكردية ومن مطالب الكرد المشروعة والعادلة والواقعية ضمن برنامجه ليستطيع السير في تشكيل الحكومة وفي الحصول على تأييد أوسع مما هو عليه رئيس الحكومة الحالية من تراجع شديد في تأييد الناس له وللأحزاب الإسلامية السياسية.
هناك افتراض أن يقوم رئيس الوزراء الحالي، وبعد تشكيل التحالف وتشكيل الوزارة الجديدة، بتحويل حزبه أو قائمته إلى حزب مدني، وكذا تيار الحكمة، فهل هما في مستوى الأحداث والتغيرات المطلوبة في الساحة السياسية العراقية؟ لم يبرهن الطرفان على مثل هذا التوجه الفعلي خلال الفترة المنصرمة رغم حديثهما عن المدنية. كما إن المسألة مرتبطة بمدى قدرة مقتدى الصدر وتياره التحول من مجموعة سياسية شيعية، إلى مجموعة سياسية مدنية تتناغم مع التصريحات الكثيرة التي أطلقت قبل واثناء الانتخابات العامة، والتخلص من حالة التقلبات في التصريحات والتي تقع بين مدينتي "نعم" و "لا"، على حدِّ قول الشاعر الروسي افتوشنكو!
الصراعات الداخلية المتأثرة بالصراعات والضغوط الخارجية، الإقليمية منها والدولية، على القوى السياسية العراقية ستكون شديدة الوطأة على الجميع خلال هذه الفترة. ولا بد من حركة جماهيرية واسعة تواصل ضغطها بالاتجاهات التي تبلورت في الحراك المدني وفي مظاهرات الجنوب والوسط خلال شهري تموز وآب، والتي لا تزال لم تتوقف حتى الآن وبصيغ مختلفة، لكي يمكنها فرض برنامجها في الإصلاح والتغيير على مجلس النواب وعلى تشكيل الحكومة الجديدة، إذ بغير ذلك سيتواصل الوضع الطائفي البائس والفساد والإرهاب المدمر لوحدة العراق وشعبه ومستقبل بناته وأبناءه.                     

206
كاظم حبيب
هل قادة حزب الدعوة متماثلون في كل شيء سيء؟
حين انتزع المالكي رئاسة الوزراء من رئيس حزبه السابق إبراهيم الجعفري، الذي رفض تسليم المسؤولية ما لم يمنح أعلى راتب يمنح في العراق، كما اشارت إلى ذلك الصحف في حينها وفيما بعد، أقسم على مكافحة الإرهاب والفساد وتحقيق التقدم. وبقي في السلطة بالرغم من إرادة الشعب، بل بمساومة معروفة في ظهران ومخلة بالدستور العراقي على نواقصه، بين الولايات المتحدة وإيران من جهة، وبين المالكي ومسعود البارزاني وبعض قادة الأحزاب السنية من جهة أخرى، وبموافقة تامة من رئيس الجمهورية حينذاك مام جلال الطالباني لدورة ثانية وبالتالي حكم العراق بين 2006-2014. وحين اُنتزعَ منه موقع رئيس الوزراء انتزاعاً، كان العراق بفضله قد انحدر إلى مستنقع لا قرار فيه، حيث تفاقمت الطائفية المقيتة والعداء لأتباع الديانات الأخرى والإرهاب العنيف واحتلال أجزاء كبيرة من العراق، كما أصبح الفساد المتعدد الأشكال في عهده المشؤوم نظاماً متكاملاً يمارس علانية ودون خجل وبمليارات الدولارات، والتي طرح البنك المركزي حجم الموارد المالية المتحققة خلال الفترة الواقعة بين الفترة بين "خلال السنوات 2005-2017 ما يقرب من 706.23 مليار دولار أميركي، وبلغ مقدار ما أنفق منها 703.11 مليار دولار، أي ما نسبته 99.5% من حجم الإيراد الكلي، والمتبقي كما في 31/12/2017 دُوِّر إلى رصيد افتتاحي لحساب وزارة المالية في بداية عام 2018". (راجع، عدنان حسين، تقرير البنك المركزي جيد، لكنه ناقص.."، 01/08/2018). ولم ينشر البنك ولا وزارة المالية كيف صرف هذا المبلغ وكيف سرق وفرط به، دع عنك نهب النفط الخام والآثار وقوت الشعب وما إلى ذلك. وكانت وعود الملاكي بمحاربة الفساد والكشف عن الفاسدين بمثابة اللازمة التي يذكرها باستمرار ولا يكشف عنها، ولكن المثل العراقي النابت "اللي جوه أبطه عنز يبغج" كان متطابقاً مع سلوكه تماماً، وكأنه قيل بشأنه. أي أنه ترك العراق أسوأ مما سلم له في فترة إبراهيم الجعفري.
وحين أصبح الأمر لا يطاق استبدل المالكي بعضو قيادته ومكتبه السياسي وقائمته حيدر العبادي. وكما أقسم سلفه اليمين الدستوري، اقسم العبادي يمينياً دستورياً غليظاً بمكافحة الطائفية والفساد وتحقيق الإصلاح. فرح حسنو النية كثيراً في الخلاص من المالكي أولاً، وبالوعود التي أغرق العراقيات والعراقيين بها على مدى سنوات حكمه المنصرمة ثانياً. فما أن يتقدم بخطبة عصماء في محفل لشيوخ العشائر، وهي كثيرة جداً، أو يدلى بتصريحات، زادت كلها على خطب وتصريحات رئيس حزبه المالكي بمرات، إلا وتحدث عن الفساد والتصدي له ومحاربته. ولكنه لم يتقدم حتى ربع خطوة على هذا الطريق، بل راوح في مكانه، وكأنه أصيب بشلل الحركة. ولكن العبادي طلع علينا يوم أمس بتصريح جديد قال فيه بأنه سينشر أسماء الفاسدين ويطلب تقديمهم للمحاكمة! عفارم على هذا التصريح، إنها محاولة للوصول إلى ترشيح جديد لرئاسة الوزراء دون أن يقدم للناس تلك الحيتان الكبيرة التي التهمت أموال العراق النقدية ونفطه وقوت الشعب، عفارم عليك رئيس وزراء العراق سنسمع بعد أيام أسماء حيتان صغيرة ممن هم وسطاء للحيتان الكبيرة تُستخدم ككبش فداء لوعوده الكثيرة ويترك الحيتان الكبيرة التي هي في حزبه وفي الأحزاب الإسلامية السياسية وفي بقية الأحزاب الحاكمة على مستوى العراق كله بعيدة عن ان تصاب بأذى! إن وعوده ومواعيده بالكشف عن الفساد لا تبتعد عن قول الشاعر كعب بن زهير في قصيدته "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول"، ومعذرة للشاعر لتغييري المؤنث بالمذكر:
مواعيدُ عُرقوبٍ له مثلاً          وما مواعيدهُ إلَّا الأباطيلُ
أتحدى رئيس وزراء العراق إن يتجرأ ويعلن عن الحيتان الكبيرة الفاسدة في قيادة حزبه والأحزاب الأخرى وفي الحكومة ومجلس النواب والقضاء العراقي، أتحدى رئيس الوزراء إن تجرأ بقول الحقيقة ووضع اليد على من تسبب في كل الوارث التي وقعت في العراق منذ وصول المالكي، دع عنك فترة الخائب إبراهيم الجعفري الذي يعتبر أول من حول أجهزة الدول الأمنية والجيش والشرطة إلى أجهزة مليئة بقيادات وكوادر وأعضاء الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة حتى يومنا هذا، والتي كانت السبب وراء احتلال الموصل ونينوى وقبلها المحافظات الغربية، وما وقع فيها من إبادات جماعية ومجزرة سپايكر .. الخ.
لنرى كيف سيتصرف بهذا الوعد الجديد الذي لم يحدد تاريخ إعلان أسماء الفاسدين وتركها ربما للمساومات القادمة لتشخيص اسم رئيس الوزراء والتحالفات الكبيرة لتشكيل الحكومة القادمة، ثم ينسى بعدها، كما نسي نوري المالكي قوله في عام 2014 بـ"ان لديه ملفات فساد لو كشفها لأنقلب عاليها سافلها، .."!!!   
يبدو لي، وارجو ألّا أكون متفائلاً جداً، بأن الشعب لم يعد قادراً على تحمل من يضحك على ذقنه ويمارس اللعب بالكلمات ليتجاوز تنفيذ ما تطالب المظاهرات التي انطلقت مع أوائل تموز/ يوليو 2018 ولا تزال مستمرة حتى الآن رغم التآمر الصارخ على وأدها!!   
01/08/2018

207
كاظم حبيب
طوق نجاة المرجعية الشيعية يناقض طبيعة النخب الإسلامية الحاكمة!
ما كان ينبغي للمرجعية الدينية الشيعية في النجف أن تتدخل في السياسة وتزج نفسها فيما لا يعنيها، وأن تحافظ على موقعها الديني والاجتماعي من كل العراقيات والعراقيين من مختلف الديانات والمذاهب، كما كان عليه الموقف الممتاز والمتقدم الذي اتخذه السيد أبو الحسن الموسوي في أربعينيات القرن العشرين ورفض التدخل في الحية السياسية. ما كان ينبغي أن تخوض المرجعية المذهبية في السياسية من أوسع أبوابها وتؤيد بحرارة وقوة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية إلى الحد الذي جعلها وتلك الأحزاب في موقع واحد ومسؤولية واحدة إزاء ما جرى ويجري في العراق منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية – الصدامية في العام 2003 حتى يومنا هذا (صيف عام 2018)، لتبدأ من جديد ف محاولة منها لتوفير طوق نجاة لهذه القوى الإسلامية السياسية الشيعية، ومع قوى وأحزاب سنية طائفية مماثلة، والتي أذلت مجتمعة كل الشعب العراقي وداست على كرامته وساهمت في قتل أبناءه وبناته وتشريدهم وتهجيرهم، وجوعت الملايين من البشر وسرقت المئات من المليارات من الدولارات الأمريكية من خزينة الدول العراقية وفرطت بالكثير منها بصور شتى. نعم، ما كان لهذه المرجعية الدينية والمذهبية، التي كانت لها هيبة في نفوس مقلديها وبقية الناس، أن تسمح باستخدامها من قبل أحزاب إسلامية سياسية لا هم لها سوى ملء الجيوب وسرقة اللقمة من أفواه الفقراء والمعوزين واليتامى والأرامل وكل الكادحين. لقد كان المفروض ومنذ اليوم الأول ان تنأى المرجعية الشيعية، وكل المرجعيات الشيعية الأخرى، والمؤسسات الدينية السنية، بنفسها عن الولوج في نفق السياسة المظلم الذي خلقته الأحزاب التي ساندتها ومنحتها بركاتها!!     
واليوم تواجه المرجعية الخراب والدمار والموت والهجرة الواسعة التي حلت بالعراقيات والعراقيين نتيجة سياسات هذه الأحزاب وتأييدها لها، إذ خطب الشيخ عبد المهدي الكربلائي، ممثل مرجعية السيد على السيستاني، فقال ما يعرفه ويعيشه كل الشعب يوميا: "يعلم الجميع ما آلت اليه اوضاع البلاد وما تعاني منه هذه الايام من مشاكل متنوعة وأزمات متشابكة، وكانت المرجعية الدينية تقدّر منذ مدة غير قصيرة ما يمكن ان تؤول اليه الامور فيما اذا لم يتم اتخاذ خطوات حقيقية وجادة في سبيل الاصلاح ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية،..". وفي هذا المقطع إدانة صريحة للحكم وأسلوبه وعواقبه، ولكنه في الوقت نفسه يذكرنا بمن أيد أولاً بأول هذا الحكم وسانده في أربع دورات انتخابية بين 2005-2018. ولا يمكن أن يلغي ذلك التأييد قول الخطيب: "ومن هنا قامت (المرجعية، ك. حبيب) على مرّ السنوات الماضية بما يمليه عليها موقعها المعنوي من نصح المسؤولين والمواطنين لتفادي الوصول الى الحالة المأساوية الراهنة." أقول مرة أخرى القضايا المطروحة كلها إدانة صارخة لنظام الحكم الطائفي المقيت ولأركانه وأحزابه السياسية الإسلامية الحاكمة، سواء من تولى الحكم بعد إسقاط الدكتاتورية ومن هم في الحكم حالياً، ولكنه لا يطالب بتخلي هؤلاء عن الحكم، بل يدعوها له شرط إجراء بعض الإصلاحات.
ولكن ماذا يراد من هذه الخطبة؟ من يطالع هذه الخطبة سيجد نفسه أمام بعض المسائل المهمة التي لا بد من ذكرها لنفهم حقيقة الموقف وما يجري في العراق ودور هذه النخب الحاكمة وكذلك دور مرجعية السيد السيستاني. فالخطبة المعبرة عن موقفه تعتبر من حيث المبدأ:
** بمثابة طوق نجاة، أي محاولة لإنقاذ أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة من خسارة الحكم، وهي التي لا تستحق النجاة بأي حال، لأنها غاصت في دماء ودموع ومآسي العراقيات والعراقيين ودمار بلدهم ونهب خيراته وموارده على مدى 15 عاماً، بحيث لا يمكن أن يغفر لها الشعب، علماً بأن هناك من عمل باستمرار على غلق بصيرة وبصر الشعب عن الجرائم التي ارتكبتها الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة حتى الآن بحق الشعب.
** وهي بمثابة طوق نجاة لنظام الحكم الطائفي السياسي، الذي ليس في الخطبة ما يدين الطائفية السياسية والسياسات التي انتهجها النظام باسم "المظلومية الشيعية" بشكل مباشر، وليس فيها دعوة حقيقية لنظام حكم مدني ديمقراطي، رغم الحديث العام عن " الاصلاح ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية"!
** وهي محاولة، وعبر التدخل في السياسية، تبرئة ساحة المرجعية من الالتصاق السابق الكبير وغير المنقطع مع هذه الأحزاب المخالفة في نشأتها للدستور العراقي الذي يرفض إقامة أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي، والتي وضعت العراق في مستنقع الفساد والإرهاب والموت والدمار. والتي وجهت نار غضبها ضد الشعب المنتفض باستخدام الرصاص الحي وقتل وجرح الكثير من المتظاهرين في البصرة والسماوة والديوانية وكربلاء والنجف وذي قار وبابل وبغداد وغيرها من المدن المنتفضة. إن ممارسة العنف من حكومة تصريف أعمال، أدى إلى تفاقم غضب الناس فاستخدم البعض العنف الذي لا يجوز استخدامه، فالمظاهرات كانت وما تزال سلمية وديمقراطية.
** إن من واجب المرجعية الاجتماعي، وليس السياسي، إدانة الفساد ونهب موارد الشعب وتجويعه ونقص الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء والنقل والصحة ...الخ. وهذه الأمور ليست سياسية مباشرة بل ذات خلفية سياسية، بسبب طبيعة الحكم الذي قاد إلى هذه العواقب. وهو الذي وجد تعبيره الصحيح في خطبة الشيخ عبد المهدي الكربلائي.
** إن من واجب المرجعية الأساسي إدانة الأحزاب الإسلامية السياسية التي استخدمت وادعت إنها تحكم باسم الدين والمذهب الشيعي والمرجعية، وبالتالي أساءت إلى هذه الجهات كلها دون أن يصدر عن المرجعية إدانة مباشرة لهذه الأحزاب التي ما تزال تحكم ويراد إنقاذها من السقوط تحت ثقل التجاوزات الفظة على الدستور وحقوق الإنسان في العراق وحقوق أتباع الديانات الأخرى وحقوق القوميات والحق في التنمية والتقدم والازدهار. وقد أدى كل ذلك إلى رفع المتظاهرين الشعارات الكثيرة المنددة بهذه القوى الحاكمة ومنها "باسم الدين باگون الحرامية"، و "باسم الله هتكونة الشيلاتية".30/07/2018



208
كاظم حبيب
لو تسنى لحزب الدعوة ان يحكم العراق بمفرده، فماذا سيحصل؟
من تابع قيادة حزب الدعوة الإسلامية للحكم التحالفي بين "أطراف ثلاثة"، هي الأحزاب الشيعية والأحزاب السنية والأحزاب الكردية، على أساس المحاصصة في توزيع السلطات الثلاث والمؤسسات والمناصب والغنائم، لتيقن، بما لا يقبل الشك، بأن هذا الحزب قد تصرف منذ أن تسلم إبراهيم الجعفري رئاسة الوزراء منذ العام 2005، ومن ثم نوري المالكي منذ العام 2006 حتى العام 2014 بشكل خاص، ثم حيدر العبادي منذ أب/أيلول 2014، بصورة استبدادية مريعة في مختلف المجالات ومارس أبشع أشكال التمييز الديني والمذهبي والقومي إزاء أتباع بقية الديانات والمذاهب والقوميات، كما هيمن على الثروة الوطنية وتصرف بها وكأنها بيت ماله يعطي من يشاء بغير حساب ويحرم من يشاء بغير حساب. وهو ما كان يفعله معاوية بن أبي سفيان حين كان والياً ثم خليفة في الشام، إذ قال: "إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه" (أميل توما: الحركات الاجتماعية في الإسلام، دار الفارابي بيروت 1981، ص 58). أما أبو جعفر المنصور فقد وقف يوم عرفة خطيباً وأعلن برنامجه السياسي بقوله: "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني". (إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية، دراسة فلسفية في صور الاستبداد السياسي، سلسلة عالم المعرفة 183، الكويت، ص 219). إلا أن المستبد بأمره في فترة حكمه نسى الله والأنبياء والأولياء
  ورغم إن صاحبنا نوري المالكي لا يرقى إلى جزء من قدرات وإمكانيات وحنكة هذين الحاكمين الأموي والعباسي على التوالي، فأنه حاول أن يتشبه بهما فعلياً حين تصرف بالشعب ومال الشعب على وفق مشيئته ورغباته وسادية حكمه وشخصه. كما أنه مارس ذات السياسية التي مارسها أبو جعفر المنصور في موضوع الانتقام حين توجه أبو جعفر المنصور ضد الأمويين قتلاً وتشريداً، مارس نوري المالكي ذات السياسية إزاء أبناء الشعب العراقي من السنة، ولا سيما في محافظات غرب بغداد والموصل، إضافة إلى افعاله التمييزية الأخرى المناهضة للقيم الإنسانية إزاء أتباع الديانات من غير المسلمين. وعلى الشعب أن يتذكر خطبته بكربلاء حين صرخ قائلاً: " الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد!".
لقد مارس هذا الحزب وهو في السلطة، وهنا الحديث لا يشمل بالضرورة كل أفراد حزب الدعوة الإسلامية، إذ فيهم من هو نظيف، ولكن أتحدث هنا عن مؤسسة حزبية وعن قيادة وعن كوادر حزبية، كل ما ألحق ويلحق الضرر بالشعب والوطن، وكان في طليعة من لعب دوراً أساسياً في تنشيط الفساد والرشوة وإغراء الناس بالسحت الحرام ليصوتوا له ولقادته أو ليسكت الآخرين عن الاحتجاج على سياساته.. لقد مارس كل ما هو مساعد على تشتيت وحدة الشعب العراقي ونسف مبدأ المواطنة وإعلاء قاعدة المحاصصة الطائفية والهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية والمواطنة. هذا علماً بأن هذا الحزب لم يكن وحده في الحكم، ولكن هيمن على الحكم وسيرَّه على وفق رؤية رئيسه وأسكت بقية قادة حزبه أما بالجزرة أو بالعصا غير المرئية للإنسان الاعتيادي. فماذا يمكن ان يحصل لو تسنى لهذا الحزب أن يحكم بمفرده بلاد الرافدين وبسياسي مثل نوري المالكي؟ لن يكون العراق، بأي حال من الأحوال، أفضل مما كان عليه في فترة حكم البعث والدكتاتور صدام حسين. ولزاد في الطين بلة خضوعه الكامل للمرشد الإيراني علي خامنئي وسياسة جعل إيران هي المسيِّرة والموجهة والمقررة لسياسات العراق الداخلية والخارجية ولتحول العراق، وأكثر مما هو عليه اليوم، ولاية من ولايات إيران المترامية الأطراف، تماماً كما تحدث قبل شهور بعض قادة إيران عن العراق وموقعه من الإمبراطورية الإيرانية المنشودة منهم ومن نوري المالكي.
إن من يريد التحالف مع حزب الدعوة، الذي يترأسه نوري المالكي، سواء أكان من القوى العربية أم الكردية أم غيرهما، ومع هادي العامري وقيس الخزعلي، معناه إنه يريد تسليم العراق إلى إيران جملة وتفصيلاً، ومعنا أنه يريد بناء دولة مستبدة وتابعة وخاضعة لإرادة إيران ولإرادة ولاية الفقيه ووليهّا، وهو ما يفترض أن يفهمه كل من يفكر بتشكيل كتلة كبرى بقيادة رئيس قائمة "دولة القانون ومن معه من قادة المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة!!!".
لو تسنى للمالكي أن يحكم العراق ثانية، أو من يتحالف معه كهادي العامري مثلاً، سيتغير وجه العراق نحو الأكثر سوءاً ويستكمل هؤلاء ما مارسوه بين عامي 2006-2014 وذلك عبر الإمعان بسياساتهم الطائفية والتمييز الحاقد ضد أتباع الديانات الأخرى ونشر أوسع لأوجه الفساد كافة في البلاد ولتفاقم الوجه الثاني للفساد وأعني به الإرهاب والحرب على أساس الهوية الطائفة والدينية والقومية.
لو تسنى لرئيس حزب الدعوة الراهن ورئيس قائمة دولة القانون، نوري المالكي، أن يحكم العراق، لأصبح العراق الدولة الأولى في الطائفية والفساد والإرهاب على صعيد المنطقة والعالم، وهو ما يفترض أن ينتبه له كل مواطنة شريفة ومواطن شريف في العراق المبتلى بهذه الأمراض الاجتماعية والسياسية القاتلة.               
29/07/2018

209
كاظم حبيب
جرائم بشعة ترتكب في العراق تحت حكم أحزاب الإسلام السياسي!
من يتابع ما يجري في العراق خلال السنوات التي أعقبت إسقاط دكتاتورية البعث وصدام حسين في العام 2003، سيجد نفسه أمام أبشع الغرائب والعجائب وأكثرها دونية وتدميراً للقيم الإنسانية العامة والشاملة وللشعب العراقي ونسيجه الاجتماعي، سيجد نفسه أمام جرائم لا يمكن تصور حصولها في مجتمع عراقي قبل سبعين أو ستين عاماً وفي العهد الملكي، رغم سوأته المعروفة وطبيعة حكامه والنظام السياسي - الاجتماعي الذي ساد حينذاك. يكفي أن يطالع الإنسان الصحف المحلية أو التقارير التي تنشرها الكثير من منظمات المجتمع المدني ذات المصداقية والموثقة أو منظمة الشفافية العالمية ليتعرف على حجم وسعة التنوع والقسوة والسادية في ارتكاب تلك الجرائم. لا شك، إن من يقف وراء أو يوجه أو يشارك مع مرتكبي تلك الجرائم هم جمهرة واسعة من النخبة الحاكمة ومن العاملين في قيادات وكوادر وأعضاء الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم، ولاسيما الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة، الشيعية منها والسنية، وحواشيهم، إضافة إلى قوى الإرهاب الأخرى. إليكم بعض ما جرى ويجري في العراق:
-   نهب مليارات الدولارات الأمريكية من ميزانية الدولة العراقية عبر ما يسمى نهبها من الباطن، إضافة إلى التفريط الهائل بالموارد المالية عبر مشاريع وهمية، أو عبر مشاريع فعلية، ولكن لم تنجز وسرقت أموالها ومعداتها، كما في قطاع الكهرباء، على سبيل المثال لا الحصر.
-   نهب نفط العراق من جميع أبار استخراجها وفي جميع أنحاء العراق دون استثناء، إضافة إلى إلحاق أكبر الضرر بالمصالح العراقية نتيجة تمرير جولات تراخيص العقود النفطية في فترة حسين الشهرستاني وغيره، أو الحصول على رشاوي بالملايين لمنح شركات أجنبية عقود المشاركة في الإنتاج أو عقود الخدمة وعلى مستوى العراق كله.
-   نهب المليارات من الدولارات عبر بيع الدولار في المزاد عبر البنك المركزي، ولا يعرف حتى الآن حجم المليارات التي هربت إلى إيران في فترة الحصار ضدها.
-   نهب موارد العراق المالية عبر العقود التجارية وعقود المقاولة، وكذلك عبر استيراد المشتقات النفطية والتيار الكهربائي، وهو أحد العوامل التي تسببت في تأخير إنجاز مشاريع الكهرباء.
-   سيادة نظام الفساد Corruption system في الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها والاقتصاد الوطني والمجتمع، بحيث لا يمكن أن تجري عملية إدارية أو محاكمة أو مراجعات حكومية أو حتى تسجيل زواج أو عقار أو ...الخ دون دفع رشوة، الذي لم يعد كما في العهد الملكي يقتصر على "الواشر" (خمسين فلساً لا غير) الذي يدفع لأبي إسماعيل" (الشرطي)، بل بمئات وملايين الدولارات الأمريكية.
-   والفساد لا يقتصر على الجانب المالي بل الجانب الإداري وبشكل واسع كالتعيين والترقية والدرجات الوظيفية وفي الوزارات والمؤسسات والقضاء والمدراء العامين والمدراء بل وحتى الفراشين من ذوي الرواتب الواطئة جداً.
-   انتشار ظاهرة الاغتيالات المدفوعة الثمن، سواء عبر الميليشيات الطائفية المسلحة الشيعية أم عبر المنظمات التكفيرية السنية وما يماثلها، وعبر مؤسسات أمنية أجنبية، سواء أكانت تابعة لحزب الله اللبناني، أم للحرس الثوري وجهاز الأمن الإيراني، أم لإسرائيل والموساد، أم لدول الجوار الأخرى. كما يشار إلى تلك المليشيات التي تأتمر بأوامر وقرارات أحزابها في تصفية المناوئين لها، كما حصل في المئات من الاغتيالات السياسية، ولاسيما بين 2006-حتى اوقت الحاضر، ومنها اغتيال المناضل المثقف والكاتب والشيوعي كامل عبد الله شياع، والصحفي والكاتب هادي المهدي وغيرهما.
-   رغم الأموال الكبيرة المصروفة والمهدورة عجزت الحكومات المتعاقبة عن توفير الخدمات الأساسية والضرورية للشعب، وليس السبب في عدم وجود كفاءات في العراق بل بسبب الفساد والنهب وعدم احترام الشعب ومصالحه.   
-   عجز الحكومات المتعاقبة على التصدي لعمليات التفجير الانتحارية أو إشعال الحرائق أو نهب دور ومحلات عمل أصحاب الأعمال، ولاسيما محلات الصابئة المندائيين ودور وكنائس المسحيين ومناطق الإيزيديين في نينوى ...الخ.
-   أما الجريمة الأكبر والأبشع هي تلك وقعت في الموصل، حين ترك الحكم الطائفي المقيت أبواب العراق مشرعة أمام جحافل القتلة الداعشيين في غرب العراق ومحافظة نينوى، وما تعرض له السكان بسبب سياسات النظام السياسي الطائفي المحاصصي المنتجة للفساد والإرهاب والخراب، والتي سمحت للإرهابيين اختراق الجبهة الداخلية وممارسة الإبادة الجماعة في نينوى.
ولم يقتصر الفساد على هذه المجالات بل شمل أيضاً:           
-   اتساع ظاهرة زواج القاصرات اللواتي بعمر تسع سنوات، ومن أزواج يتجاوزن عمر أباء القاصرات أو حتى أجدادهن.
-   استمرار بيع أعضاء من جسم الإنسان، ولاسيما من أبناء وبنات العائلات الفقيرة التي تعيش في عوز دائم لا يمكن تصوره. وهناك مجموعة من الأطباء ومساعديهم التي تتعامل مع قوى الجريمة المنظمة (المافيات) في الحصول على تلك الأعضاء وتسويقها في دول الخليج على نحو خاص مقابل مبالغ طائلة.
-   استمرار واتساع ظاهرة العهر بين الصبايا والصبيان بسبب الحاجة القاهرة لتوفير لقمة العيش وبسبب التشرد والعيش في الشوارع في جميع محافظات العراق تقريباً، وكذلك بين الأرامل لأسباب مادية.
-   تفاقم عمليات الاغتصاب والمتاجرة بالجنس النسوي والولادي من قبل مافيات تتعامل بذلك وعلى نطاق غير محدود، بما في ذلك تصديره الضحايا إلى الخارج.
-   انتشار ظاهرة وكلاء بيع المخدرات في أنحاء العراق والتي كلها تأتي من أفغانستان وإيران لتسوق في العراق وفي الخليج وغيرها من البلدان. إلا إن استهلاكها في العراق آخذ بالاتساع نتيجة الأوضاع المتزايدة تعقيداً وصعوبة. والكثير من العاملين في أجهزة الدولة والأحزاب يتعاملون بذلك وعبر جماعات في إيران، وغالباً ما تصل المواد المخدرة أثناء الزيارات للأماكن المقدسة أو عبر شط العرب ومنافذ حدودية أخرى بسبب الفساد الواسع النطاق.
-   تفاقم ظاهرة الرشوة أو الوساطة في عمليات نجاح وعبور الطلبة الفاشلين في الامتحانات في مختلف مراحل الدراسة، ولاسيما الثانوية والجامعية والدراسات العليا.
-   تفاقم فعلي واستمرار في تزوير الشهادات أو الحصول عليها من إيران أو لبنان أو غيرها من الدول، إيطاليا مثلاً، أو حتى وجود مكاتب لعمليات تزوير الشهادات التي يرغب بها الشخص ومقابل مبالغ غير كبيرة وحسب الشهادة. والكثير من هؤلاء احتلوا مراكز عليا في سلطات الدولة العراقية منذ وصول الأحزاب الإسلامية السياسية إلى قيادة الحكم. ومن يزور شهادته يمكن أن يزور كل شيء ايضاً.
-   تفاقم عليات الانتحار بين البنات والشباب، سواء كان انتحاراً فعلياً أم قتل من قبل العائلة والادعاء بالانتحار بذريعة حماية "الشرف!".
وهناك الكثير من الجنح والجرائم الأخرى التي يعاقب عليها القانون، ولكن مرتكبيها لا يعاقبون في العراق. وأبرز وأكثر تلك الجرائم خطورة تلك التي تمارسها مجموعة ممن بيدها السلطة وتمثل أحزابها فيها وفي أجهزة الدولة المختلفة وحواشيها ووسطائها، ولاسيما في مجال النفط وسرقة أموال الدولة من الباطن وغسيل الأموال ومزاد بيع الدولار من جانب البنك المركزي العراقي، وما تمارسه المصارف التجارية الخاصة من تعامل غير شرعي في هذا المجال، تهريب العملة الصعبة إلى البنوك الأجنبية، العقود التجارية للحكومة وعقود المقاولات والبناء.
ثم أخطر من كل ذلك ادعاء الحكومة ورئيسها الحالي بمحاربة الفساد، في حين يسكت أو يحجم عن تقديم أكبر الفاسدين في السلطات الثلاث إلى الادعاء العام أو القضاء لمحاسبتهم، في حين تتوفر لديه، كما ادعى سلفه أيضاً، ملفات كاملة عن الفاسدين الكبار. والحكمة تقول الساكت عن الحق شيطان أخرى، أو الساكت عن الجريمة مشارك فيها.
وبدلاً من أتخاذ الإجراءات لتغيير كل هذه الأوضاع مارس رئيس الحكومة سياسة ضرب المظاهرات باستخدام السلاح والرصاص الحي وسقوط ضحايا وممارسة الاعتقال والتعذيب وأخذ البراءات، وأخيرا وليس آخر محاولات الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية إغراء العشائر العراقية بالمال لتتخلى عن التظاهر، أو تدير ظهرها للمتظاهرين، وتسعى إلى تفليش المظاهرات الجارية في جنوب ووسط العراق وبغداد. وهذه الحالة تذكرنا بما لجأ إليه الاستعمار البريطاني حين تسنى له شراء مجموعة من شيوخ العشائر بالمال لتتخلى عن النضال ومواجهة الظلم الاستعماري. وكثيراً ما يشار إلى دور المستشارة البريطانية في العراق "مس غيرترود بيل" (1886-1926م) في هذا الصدد الحاكم البريطاني العام حينذاك، ولاسيما علاقتها مع شيوخ العشائر ومع وجهاء بغداد. كما عادت حليمة إلى عادتها القديمة في اغتيال الشخصيات الحقوقية والاجتماعية التي تلتزم جانب الشعب ونضاله ومظاهراته وتتبنى الدفاع عنه في المحاكم العراقية عند الاعتقال، والذي بدأ باغتيال المحامي جبار محمد كرم في البصرة والذي جاء بأوامر عراقية-إيرانية، حيث النفوذ الإيراني في البصرة في أعلى مستوياته، رغم الهتافات الشعبية التي ارتفعت في البصرة: "إيران بره بره وبغداد تبقى حره"، أو "... البصرة تبقى حرة"، و "باسم الدين باگونة الحرامية"!
كما اشتدت ظاهرة مطاردة الصحفيين والإعلاميين العراقيين بسبب نشرهم المعلومات والحقائق عن تظاهرات الشعب والشعارات التي ترفعها تلك المظاهرات ضمن انتفاضة شعبية أخرست النخب الحاكمة والقمتهم أحجارا. إن الانتفاضة الشعبية ستنتصر في خاتمة المطاف رغم التآمر عليها، لأن حضارة العصر الراهن التي يتميز بها العالم لا يمكنها أن ترتضي بوجود مثل هذا النظام السياسي الطائفي المحاصصي المتعفن والمولد للخراب والدمار والفساد والإرهاب والتمزق والذي يعود لماضٍ سحيق.
إن المظاهرات الشعبية، هذه الانتفاضة الشجاعة، تمثل الضوء الذي يشع في نهاية النفق، الذي زج فيه العراق من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والدول التي تحالفت معها وإيران وبقية دول الجوار، إنها الأمل في التغيير المنشود عاجلاً أم آجلا!           

210

ملحق للرسالة المفتوحة إلى رئيس وزراء العراق
السيد رئيس وزراء العراق د. حيدر العبادي
لم يعد الإنسان قادراً على ملاحقة الإجراءات القمعية التي تتخذها حكومتكم والحكومات المحلية في جنوب ووسط العراق، وكذلك الأجهزة الأمنية وجهاز مكافحة الإرهاب والكثير من الميليشيات الطائفية المسلحة التي تمارس الدور القمعي ضد المتظاهرين في مختلف مدن العراق. لقد تجاوزتم على الدستور العراقي حين أوقفتم استخدام الإنترنيت وقطعتم الاتصال الخارجي لتمنعوا حركة التواصل الاجتماعي ودورها في تعبئة التظاهرات الشعبية الموجهة ضد الطائفية السياسية والفساد والإرهاب وتدهور الخدمات من جهة، ولتمتعوا وصول المعلومات عن التظاهرات وعن الأساليب الوحشية التي تواجه بها القوى القمعية الرسمية والتشكيلات خارج القانون الجماهير الشعبية المحتجة والمنتفضة ضد النخب الحاكمة الفاسدة من جهة ثانية والتي زاد تعريها بسلوكها العدواني الجديد الذي عرفته في العام 2011 بشكل صارخ.
ثم أعطيتم الأوامر بتوجه الرصاص الحي وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع إلى صدور وعيون الجماهير المتظاهرة لا في المدن الجنوبية والوسط فحسب، بل وفي ساحة الحرير في بغداد وغيرها أيضا، حيث استخدمت الصوندات والهراوات وكل أساليب القمع والضرب الوحشية ضد المتظاهرين والمتظاهرات الشجعان أيضاً. فسقط شهداء وجرحى ومعوقين بأعداد كبيرة، وأنتم الذي أدعيتم حماية المتظاهرين والمتظاهرات والدفاع عن حقهم في التظاهر!، وإذا بكم أنتم بالذات تصدرون الأوامر بضرب المتظاهرين بالحديد والنار. لقد تجاوزتم كل الخطوط الحمراء، التي تدعون أن الشعب قد تجاوزها، لقد تجاوزتم على الدستور العراقي وعلى لائحة حقوق الإنسان الدولية، وخر4قتم مباد عدم استخدام العنف في مواجهة مطالب الشعب الملحة. على شعبنا والمنظمات الحقوقي والأحزاب الديمقراطية أن تدرس إمكانية إقامة الدعوى على شخصكم وحكومتكم في محكمة حقوق الإنسان في هولندا، لأنكم استخدمتم مركزكم الحكومي كرئيس للوزراء ومركزكم العسكري كقائد عام للقوات المسلحة العراقية في عدم حماية المتظاهرين والمتظاهرات، بل تجاسرتم على الشعب بإصداركم الأوامر بضرب المظاهرات بالحديد والنار وبخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والهراوات. وكان الأسلوب الذي مورس عدوانياً صارخاً ومليئاً بالكراهية والحقد على الشعب، ولاسيما ضد المتظاهرين والمتظاهرات، وراغباً في إلحاق أكبر الأذى بهم.   
ولم يكفكم كل ذلك، بل كما يبدو من أسلوب عملكم الذي يتميز بوجهين أصبحا مكشوفين للمزيد من الناس. فقد أعطيتم الأوامر باعتقال أكثر من خمسين صحفياً وإعلامياً عراقياً والتعرض لهم ومطاردتهم واعتقالهم، كما اعتقلت أجهزة الأمن والأجهزة السرية مجموعة من الصحفيين ومن المواطنين وعرضتهم للتعذيب وسعت إلى نزع البراءة منهم ومن المتظاهرين، وفرض التوقيع على ورقة تؤكد بعدم مشاركتهم في المظاهرات الشعبية أو الكشف عن مفاسد الحكومة وقمعها للمظاهرات. أي إعطاء صك بالبراءة!!! هذه الأساليب الوحشية التي ابتدعها مجلس حلف بغداد في أعوام 1955-1958، في فترة ترأس د. عبد العزيز الدوري لجنة مكافحة الشيوعية في حلف "السنتو"، في فترة حكم نوري السعيد ووزير داخليته سعيد قزاز ومدير أمنه العام بهجة العطية، والتي مارسها نظام الحكم القومي الشوفيني والبعثي الدموي في العراق فيما بعد. وها أنتم، رئيس وزراء العراق، تسيرون على درب المستبدين السابقين نوري السعيد وعبد السلام عارف وصدام حسين ونوري المالكي، وتستلهمون ذات الأساليب التي تستخدمها الأجهزة الأمنية الإيرانية في زمن الشاه (السافاك)، والأجهزة الأمنية الحالية (وزارة الاستخبارات والأمن القومي لجمهورية إيران الإسلامية، إطلاعات) والحرس الثوري الإيراني وبسيج.
انكم تغامرون ضد الشعب وإرادته ومصالحه، وتتراجعون خطوات متسارعة جداً إلى الوراء عن الوعود التي قطعتموها أمام الشعب والرأي العام العالمي، وتتفوقون على رئيس حزبكم نوري الملاكي فيما فعله بالشعب العراقي، إن واصلتم هذه المسيرة الخطيرة الموجهة ضد الشعب ومصلحة الوطن.
ما أن أعلن أحد المحامين الشرفاء السيد جبار كرم عن استعداده للدفاع عن المعتقلين حتى اغتيل في أحد شوارع البصرة في حي الهادي من قبل مسلحين قتلة "مجهولين!!" وفي وضح النهار. وهي محاولة مجرمة لبث الخشية في فوف من يتبنى أو يدافع عن قضايا المعتقلين في أحداث الانتفاضة الشعبية الجارية. لقد وصل صراخكم إلى عنان السماء بأنكم تؤيدون المظاهرات السلمية، ولكنكم في الوقت نفسه تعاقبون حتى من يريد الدفاع عن المتظاهرين!!
كفوا عن قمع المظاهرات، أطلقوا سراح المعتقلين، كفوا عن ملاحقة الصحفيين واعتقالهم، استجيبوا لإرادة المتظاهرين والمتظاهرات بنزع سلاح المليشيات الشيعية التي تشكل جسد الحشد الشعبي الراهن وقياداته من الميليشيات الطائفية المسلحة، قدموا الفاسدين الكبار إلى المحاكمة، وإلا فأنتم أحدهم، أوقفوا نزيف الدم، تخلوا عن الطائفية ومحاصصاتها المذلة، وأنتم عضو في قيادة حزب طائفي مرغ ويمرغ يومياً كرامة الإنسان العراقي بالتراب ومنذ ثلاثة عشر عاماً.
ليس هناك من يشفع لكم ولأعضاء حكومتكم الذين لا يستقيلوا بسبب سياستكم الخرقاء إزاء المظاهرات ومطالب الشعب، إن واصلتم درب الصد ما رد، إن واصلتم ضرب المظاهرات وقمع المتظاهرين والمتظاهرات وولغت قواتكم الأمنية ومن معها بدماء العراقيين!!
لقد أعذر من أنذر، وغداً لناظره قريب!!!
د. كاظم حبيب
24/07/2018       

211
كاظم حبيب
رسالة مفتوحة إلى رئيس وزراء العراق
السيد رئيس وزراء العراق الدكتور حيدر العبادي المحترم
منذ الثامن من أيلول/سبتمبر 2014 تسلمتم رئاسة مجلس الوزراء العراقي بعد فرض الانسحاب من رئاسة الحكومة على رئيس حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي. أي ان قيادة الحكم بقيت بيد حزب الدعوة باعتباركم عضوا في قيادة هذا الحزب وعلى أساس المحاصصة الطائفية. وأديتم القسم القانوني بأنكم ستعملون على إصلاح الأوضاع والتغيير ورفض المحاصصة الطائفية التي رفضها الشعب وأدانها بشدة. لقد كان رفض الشعب لنوري المالكي الدور الأساس في إزاحته عن السلطة التي أساءَ استخدامها ومارس سياسات طائفية متشددة ومقيتة، واستخدم المال لإرشاء وإفساد المزيد من القوى والناس في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، وجعل من الفساد نظاما سائدا ومعمولاً به في العراق، مما أسهم بتنشيط وتوسيع ونشر المزيد من الإرهاب في البلاد. وما حصل في المحافظات الغربية ولمدينة الموصل محافظة نينوى من اجتياح تدميري لها من قبل تنظيم القاعدة الإرهابي ومن ثم تنظيمات داعش الإرهابية والتكفيرية لدليل على طبيعة سلطة نوري المالكي والقوى المشاركة معه في السلطة. وبالتالي فنوري المالكي هو المسؤول الأول عن كل ما حصل في العراق بين عامي 2006-2014 من فساد وإرهاب واجتياحات وموت ودمار وتفريط هائل بأموال البلد والتجاوز الفظ على الدستور العراقي وعلى سلطات ومؤسسات الدولة الأخرى. وتشارك في هذه المسؤولية الأحزاب التي شاركته الحكم ولم تعمل لإيقافه ووضع حد لسياسات التدميرية للشعب ووحدته ووحدة الوطن.
ها انتم تحكمون العراق منذ أربع سنوات عجاف وقاسية على الشعب، إلى الحد الذي أُجبر على الانتفاض للخلاص ممن تسببوا في أوضاع العراق الراهنة. والسؤال هو: هل أدركتم بعمق ومسؤولية حقيقة ما يريده الشعب؟ سؤالي ليس استفزازاً لدرجتكم العلمية ولا لموقعكم الحكومي، بل ارتباطاً بخطابكم الأخير في 20/07/2018 في إحدى قاعات مجلس الوزراء وبحضور شيوخ العشائر وبعيدا عن ممثلي المتظاهرين الآخرين من مدن العراق المنتفضة، وما جاء في هذا الخطاب الاستفزازي الذي لا شك وأنه يَصْبُ الزيت على نار الانتفاضة والغضيب المتصاعدين ويؤجج المشاعر ويؤكد لهم بأنكم بعيدون كل البعد عن تنفيذ ولو مطلب أساسي واحد من مطالب الشعب الأساسية، واعني به محاربة الفاسدين الكبار، دع عنك التخلي عن الطائفية في النظام والمحاصصة في توزيع المسؤوليات في الدولة العراقية وسلطاتها الثلاث. جاء في خطابكم ان هناك من الفاسدين من يحاول اتهام الجميع بالفساد. هذا ممكن تماماً، ولكن ما هو دوركم في وضع اليد على هؤلاء الفاسدين الكبار الذين يتهمون الجميع بالفساد، ولماذا لا تقومون بشخيص الفاسدين ولديكم جميع الملفات، ولماذا لا تقدمون هذه الحيتان الكبيرة إلى المحاكمة لتؤكدوا للمجتمع بأنكم جادون في ذلك ولا تتسترون على رفاق حزبكم والاحزاب المماثلة لحزبكم من حيث الإيديولوجيا والسياسة؟ التقارير الدولية وتقارير هيئة النزاهة ومنظمات المجتمع المدني وصوت الشعب الهادر يؤشر بصواب إلى الجماعة الفاسدة وأبرز الفاسدين في البلاد، فلماذا لا تتخذون أي إجراء بهذا الصدد؟ أنتم بسياستكم هذه تسمحون بخلط الأوراق بحيث لا يتم التمييز بين الفاسد الكبير وبين الإنسان النبيل غير الفاسد!
كل المؤشرات تؤكد بما لا يقبل الشك بأنكم جزء من الحزب الحاكم، من حزب الدعوة الإسلامي، وهو حزب سياسي طائفي، وليس حزباً مدنياً ديمقراطياً ووطنيا يضم ف صفوفه أبناء وبنات الوطن من كل القوميات والديانات والمذاهب، بل يقتصر على جزء من الشيعة. ومن هنا يبرز طابع الطائفي! حزبكم هذا حكم العراق منذ العام 2004/2005 حتى الوقت الحاضر (2018) بشكل مباشر، وأنتم ساهمتم في الحكم بشكل مباشر كوزير وكرئيس وزراء وغير مباشر أيضاً كقيادي في حزب الدعوة. وبالتالي يمكن أن تكونوا  وأنك متورطين في كل ما حصل في العراق خلال الفترة المنصرمة، وأنكم، كما يبرهن الواقع وليس الحدس، لا تمتلكون الاستعداد الذاتي لاتخاذ أي إجراء حقيقي ضد الفاسدين وضد أعضاء حزبكم والاحزاب الشيعية الأخرى المؤتلفة ولا حتى السنية، وأنتم لا تمتلكون الجرأة والشجاعة الضروريتين لإصلاح، دع عنك التغيير، النظام السياسي الطائفي المحاصصي المقيت. انتم تخشون الفاسدين في حزبكم وفي الاحزاب الاسلامية الاخرى وميليشياتهم الطائفية المسلحة، ومن يقف وراءهم خلف الحدود العراقية الشرقية، ولأي سبب كان، ولهذا فأنتم غير مؤهلين عمليا لحمل راية الإصلاح والتغيير، كما اعتَقَدَ البعض من حسني النية، وإلا لماذا هذا الموقف غير العقلاني والسيء من الفاسدين وعجزكم عن تقديمهم للقضاء أو الادعاء العام لمحاكمتهم، بمن فيهم أولئك الذين كانوا سببا فيما حصل في غرب العراق وفي الموصل ونينوى.
لا استغرب أبداً إن بادر المتظاهرون إلى رفع شعار إسقاط الحكومة القائمة، كما أُسقطت حكومة المالكي، لأنكم تزوغون في خطاباتكم عن وضع اليد عما يريده الشعب، الشعب الذي يريد الخلاص من الطائفية والمحاصصة السياسية ومن الفاسدين والميليشيات الطائفية المسلحة والسلاح الذي بأيدي العاملين فيها، ومن الإرهاب والإرهابيين الآخرين، يريد التغيير والخدمات والخلاص من رثاثة الدولة وسلطاتها ومؤسساتها. لم يعد مناسبا مجاملتكم من أي حزب سياسي أو سياسي مدني وديمقراطي، إذ إن هذا سيكون على حساب الشعب ومصالحه واستمرار كل الظواهر المدمرة التي نشأت في ظل حكم الجعفري والمالكي وتواصلت في فترة حكمكم منذ أربع سنوات حتى الآن.
تطالبون الأحزاب ان لا تحل مشاكلها وخلافاتها مع الحكومة في الشارع! ولكن هذه المظاهرات يا رئيس الوزراء ليست من صنع الأحزاب الإسلامية السياسية الفاسدة التي تحكم العراق والمتصارعة على الحكم والمال والجاه معكم ومع غيكم، بل هي مظاهرات شعب لم يعد قادراً على تحمل المزيد من الضيم والجور والطائفية المقيتة والفساد وتدهور الخدمات والجوع والحرمان وفقدان الحقوق ولقمة العيش، لم يعد قادرا على السكوت، ويرى جزءاً أساسياً من النخب الحاكمة "خاتلة" وراء الأسوار الحديدية، في الخضراء، خشية من المتظاهرين الغاضبين من القهر والتركيع الذي يفرض عليهم بكل السبل الدنيئة من جانب النخب الحاكمة. الاحزاب الحاكمة ترسل مجاميع من المندسين، وعبر جهاز الاستخبارات من اجل الاساءة للمظاهرات وطابعها السلمي. إما أنكم تعرفون وتغلّسون فتلك مصيبة، وإما أنكم لا تعرفون فالمصيبة أعظم!
ليس هناك في اجهزة الشرطة والأمن من يستطيع توجيه الحديد والنار إلى صدور المتظاهرين ما لم يكن لديه أوامر من المسؤول الأول عن الحكومة والقوات المسلحة، وأنتم وحدكم تحتلون هذين المركزين. وبالتالي فأنتم المسؤول عن القتلى والجرحى الذين سقطوا في المظاهرات الأخيرة، ٌوليس من رمى الرصاص الحي القاتل سوى الأداة التي نفذت القرار، والذي يجب محاسبته ايضا، ولكن أنتم أول من يجب محاسبته على إصدار هذه القرارات الهمجية التي تسمح باستخدام السلاح والرصاص الحي في فُض المظاهرات ولو بقتل وجرح أو حتى اعتقال المتظاهرين الذين يكفل لهم الدستور الحق في التظاهر. إنها سياسة ليست خرقاء فحسب، بل مجنونة وجريمة لا يمكن غفرانها. إليكم ما جاء في تصريح المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي عن القمع الوحشي والحقد والكراهية والعنف التي تلبست الأجهزة الأمنية وهي تمارس عملية فض مظاهرة ساحة التحرير يوم السبت 21/07/2018، والتي لا يمكن أن تدعوا وتقولوا إنكم لا تعرفون بها:
"ما حصل يوم امس يدعونا الى التأكيد مجددا على ادانة ورفض استخدام العنف أيا كان نوعه، وتحميل الحكومة والوزارات والهيئات المعنية والاجهزة ذات العلاقة كامل المسؤولية عن وقوع ضحايا، وعن استمرار الملاحقات والاعتقالات للناشطين وللمتظاهرين والعودة الى اسلوب اخذ التعهدات السيء والمرفوض قانونا ودستوريا، وكذلك استخدام الضرب المبرح والماء الحار والغازات المسيلة للدموع بهدف الايذاء ، ونطالب بوقف كل هذه الممارسات المدانة فورا واطلاق سراح المعتقلين، واحالة المسؤولين عن اصدار تلك الأوامر الى التحقيق والمساءلة القانونية." (راجع: طريق الشعب، 22/07/2018، ص2).
 
 



212
كاظم حبيب
اليقظة والحذر من دموع التماسيح، فدموع الطائفيين الفاسدين خديعة كبرى!!!
من تسنى له الاستماع إلى الكلمة التي ألقاها هادي العامري، رئيس منظمة ميليشيا بدر الطائفية المسلحة، ورئيس قائمة فتح، في الحفل الخطابي بمناسبة الذكرى السنوية لثورة العشرين، يدرك بأن قادة المليشيات الطائفية المسلحة والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية، مثل بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله وعشرات غيرها زرعتها إيران بالعراق في فترات مختلفة، يشعرون بضيق كبير من نتائج الانتخابات العامة، رغم إنها لم تغير الكثير من الأمور، ومن المظاهرات الشعبية المستمرة والمتصاعدة منذ فترة في جميع مراكز محافظات وأقضية جنوب العراق ووسطه، ويتلمسون بوضوح بأن وعي الناس أخذ يغتني ويتبلور تدريجيا ويتعرف أكثر فأكثر على طبيعة وسلوكيات الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة ويكتشف كل المخزيات فيها والتي مورست  خلال السنوات الـ 15 المنصرمة وهم على رأس السلطة والفساد والإرهاب، ويدركون أنهم، وليس غيرهم، المقصودون بقوة وزخم واستمرارية هذه المظاهرات التي ارتفعت فيها شعارات "باسم الدين باگونة الحرامية" و"باسم الله هتكونة الشيلاتية"، إلى جانب المطالبة الملحة بالتغيير لنظام سياسي طائفي محاصصي مقيت، مرَّغ كرامة الشعب بالأرض وتَسَببَ في هدرِ دماء مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين، إضافة إلى جرحى ومعوقين اكثر من ذلك بكثير، وإلى احتلال مدن وقرى وأراضي عراقية واسعة يعيش فيها الملايين من البشر، وحرمهم من خدمات أساسية مثل الكهرباء والماء الصافي للشرب والنقل وفرص العمل ومعالجة الفقر ومحاكمة الفاسدين والمفسدين والإرهابيين بمختلف أصنافهم، كما لم يوفر لهم والأمن والاستقرار. أدرك هؤلاء الحكام، إلى حدود واضحة، جعلتهم يذرفون الدموع الكاذبة، التي يطلق عليها "دموع التماسيح"، ويعلنوا توبتهم عن الجرائم التي ارتكبوها خلال العقد والنصف من السنين العجاف والمريرة المنصرمة، وعن "القصور والتقصير" اللذين صاحبا عملهم، بأمل أن يقبل الشعب توبتهم ويصدق كذبهم ودموعهم. إنهم في سرهم يضحكون بملء الأشداق ويعتقدون بأن هذا الشعب قصير الذاكرة وينسى بسرعة الجرائم والأخطاء الفاحشة التي ارتكبوها خلال الفترة المنصرمة، ويغفر لهم ذلك ويسكت عنهم ويؤيد استمرار وجودهم في حكم العراق، هذا الحكم الذي لم يعرف العراق مثيلاً له خلال العصر الحديث، بسبب استخدامه المفرط وبكل وقاحة للدين الإسلامي والأنبياء والأولياء الصالحين، وهم منهم براء، ثم براء، ثم براء، ليتمتعوا بثلاث مسائل: السلطة والمال والجاه وبصورة غير شرعية! "يا ذئاباً فتكت بالناس ألاف السنين اتركيني أنا والدين فما أنت وديني!!
لقد قال واحداً من أبرز وأكبر وأخطر مجرمي العصر الحديث، الذي تسبب في الحرب العالمية الثانية، والتي راح ضحيتها بين 62-78 مليون قتيل، عدا الجرحى والمعوقين والخسائر المالية والتراثية والحضارية، إنه أدولف هتلر، وردد معه غوبلز وهملر وكل الجوقة النازية: "اكذبوا، ثم اكذبوا، ثم اكذبوا، لعل بعض أكاذيبكم تعلق بأذهان الناس!". إن العامري يتحدث، وأنا أعتذر قبل غيري، ولكنه يسعى بوضوح إلى رمي ثقل القضية وما حصل في العراق على عاتق الآخرين فتباً لك ولأمثالك من الفاسدين!   
لقد تعرف هادي العامري على مسألتين هما: أن نسبة عالية من الشعب العراقي لم تذهب للتصويت في الانتخابات العامة الأخيرة عقابا لهم، أولاً، وأن المظاهرات هي ضدهم بشكل مباشر ثانياً. ولكن هذا الرجل لم يفهم ولا يريد أن يفهم بأن الشعب جزع من أعمالهم وهو غاضب أشد الغضب عليهم ولا يريدهم، بل هو يعلن توبته واعتذاره، باسمه وباسم اتباعه ومن معه، عما فعله وفعلوه بالشعب المستباح بطائفيتهم وفسادهم وإرهابهم خلال الأعوام المنصرمة، لا ليكف عن السياسة ويركن إلى إراحة الشعب العراقي منه وممن معه، بل لكي يستمر في الحكم ويواصل ذات السياسة، تماماً كما أعلن قبل ذاك رئيس وزراء العراق السابق نوري المالكي حين قال المستبد بأمره في لقاء صحفي متلفز ما يلي نصاً:
"المتصدين من السياسيين، والشعب يعلم، وأنا أعتقد بأن هذه الطبقة السياسية، وأنا منهم، ينبغي ألا يكون لها دور في رسم خريطة العملية السياسية، لأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وأنا منهم. ينبغي أن يبرز جيل آخر بخلفية الوعي لما حصل وبخلفية الأخطاء التي ارتكبوها..،". والسؤال العادل: هل تخلى هذا المفتون بنفسه عن العمل السياس وانتحى جانبا ليريح الشعب من ويلاته؟ كلا، فهو لا يزال يصول ويجول ويسعى إلى تشكيل الكتلة الأكبر ليعيد الأجواء التي ارتكبت في "عهده الميمون!!!" أبشع الجرائم والتجاوزات على الدستور وحقوق الإنسان والحق في الحياة. إنه يريد أن يعود ومعه قادة المليشيات الطائفية المسلحة وكل الذين يعتذرون اليوم ليكذبوا على الشعب المستباح بهم، ليمارسوا ذات السياسة التي مارسوها طيلة السنوات المنصرمة، وليسمحوا لدول الجوار على التدخل الفظ في الشأن العراقي ومصائر الناس فيه.
أتمنى ألا تمر هذه الأكاذيب، وهذه الادعاءات بالتوبة والاعتذار عما ارتكبوه من جرائم وما سرقوه من أموال وما اقترفوه من تجاوزات، حتى على الدستور الذي وضعوه ووقعوا عليه، على الشعب العراقي أو على الغالبية العظمى منه لكيلا يفسحوا لهم المجال لممارسة ما مارسوه في السنوات المنصرمة. إن قصة توبة هادي العامري، وقبل ذاك نوري المالكي، تذكرني بتوبة الثعلب الذي جاء بلباس الواعظين وأعلن بأنه تاب عن التهام الدجاج والخراف، واقسم بأنه بنى بيتاً له ولهم وسقفه قوي يضمهم جميعاً ويحميهم من كل المخاطر، في حين أنه كان قد هيأ كل شيء ليلتهمهم على وجبات بعد أن يدخلوا بيته، لأنه هو الذي يشكل الخطر الأكبر على الدجاج والخراف!! قال أحمد شوقي بهذا الصدد ما يلي:
برز الثعلب يوماً      في شعار الواعظينا
فمشى في الأرض يهدي       ويسبُّ المـاكرينـــا
ويقول: الحمد للـــ      ـه إله العالمينـــــا
يا عباد الله توبوا       فهو كهف التائبينا
مخطيٌّ من ظن يوماً    أنَّ للثعلب دينــــا
في الوقت الذي يتحدث رئيس الوزراء عن حق الشعب في التظاهر السلمي على وفق الدستور العراقي، تقوم المليشيات الطائفية المسلحة، وفي مقدمتها ميليشيا عصاب الحق ورئيسها قيس الخزعلي بحملة اعتقالات للمتظاهرين في النجف وفي عدد آخر من مدن العراق ويمارسون بذلك دور قوات الأمن العراقية دون وجه حق، إن هذه المليشيات تشكل خطراً مباشراً على الأمن والاستقرار في العراق.، إن للمتظاهرين مطالب عادلة ومشروعة، سواء كان بتغيير النظام المحاصصي الطائفي أم بتوفير الخدمات الأساسية المتدهورة. فهل هذا هو "عربون الصدق!"، على وفق العهد الذي قطعه العبادي إلى الشعب بحماية المتظاهرين. هل هو استمرار لعمليات القتل التي طالت 18 مواطناً من المتظاهرين في أكثر من مدينة في جنوب ووسط العراق، أم إنها البداية لقمع أوسع على أيد المليشيات الطائفية المسلحة؟ لنرفع صوت الاحتجاج ونطالب بإطلاق سراح جميع من اعتقل من المتظاهرين في الفترة الأخيرة لأنها اعتقالات غير شرعية وظالمة ومخالفة للدستور!

213
  كاظم حبيب
ما هي السمة المميزة لانتفاضة الشعب في العراق، وما الموقف منها؟
بعد ان نُشر مقالي الموسوم هل يتعلم حكام العراق من تجارب الماضي المريرة للمستبدين؟ في موقع الحوار المتمدن وفي جريدة "العالم" العراقية، وردتني رسالة من اخ فاضل تضمنت النص التالي:
"أودّ التعليق بخصوص مقالتك بجملتين فقط " ليس قطيع الشعب والمتظاهرين ذهب 24 قيراط فبينهم من يقوم بخبط الماء لإيجاد أسباب فتنة . " و " ليس جميع الحكام من 2003 إلى الآن كتلة صلبة واحدة لنبقى نحكم عليهم بنفس الحكم ". أعتقد أن الوتر الذي يجب علينا العزف عليه : الدعوة إلى تنظيف المتظاهرين من الأدران ، واستغلال التناقضات بين صفوف الكتل المتسلطة ، وكشف الذئاب منهم عن الداعين بحقوق الجماهير." انتهى التعليق. لا شك أني احترم كل الآراء والملاحظات النقدية التي تصلني من القارئات والقراء الكرام، ولكن ليس بالضرورة أن اتفق مع بعضها أو جميعها. وسأحاول في هذا المقال مناقشة هذه الملاحظات.
خلال الأيام المنصرمة تسنى لي نشر ثلاثة مقالات حول الوضع بالعراق والتظاهرات المتصاعدة. وهي مقالات من حيث الفكر والمضمون يكمل بعضها الأخر، وتشير إلى ما أراده الأخ الفاضل في ملاحظاته، منها:
•   المظاهرات كلها عموما سلمية وبعيدة عن التشنج، رغم وجود كل مسببات الغضب!   
•   وجود من يعمل على تشويه المظاهرات والإساءة للمتظاهرين بممارسة العنف والتخريب ليعطي الذريعة للحكم والقوات الأمنية بضربها.
•   سيادة الفساد في السلطات الثلاث للدولة العراقية ومؤسساتها، ولكن هذا لا ينفي وجود موظفين بمستويات مختلفة غير فاسدين، رغم قلتهم، والفاسدون يعتبرونهم مجانين أو سذج في أحسن النعوت!
•   لا شك بوجود تناقضات وصراعات بين النخب الحاكمة المستبدة، ولكن كلها تصب في مجرى الصراع على السلطة والمال والجاه أو النفوذ الاجتماعي، وليس من اجل تحقيق مصالح الشعب والوطن.
•   الدعوة الى فضح من يحاول الإساءة لأهداف المظاهرات والمتظاهرين من جهة، ولحق الشعب في التظاهر المكفول دستوريا من جهة أخرى.
•   المطالبة بمحاكمة كبار الفاسدين والمفسدين والذين يتصدون لأي تغيير في طبيعة النظام الطائفي القائم، وهو يعني في جوهره ان هناك من هم غير فاسدين ويفترض التمييز بينهم وبين الفاسدين. وكبار الفاسدين كانوا أو ما زالوا يحتلون أعلى المناصب والمسؤوليات في الدولة وفي الأحزاب الحاكمة.
ولكن السؤال العادل هنا هو: هل ينبغي للكاتب ان يعيد ويصقل ظواهر سلبية محدودة ومدانة شعبيا ومن قبل القوى المدنية والديمقراطية العلمانية، أم يستوجب التركيز على ما هو أساسي في نضال الشعب العراقي وأهدافه العادلة والمشروعة والمهدورة في المرحلة الراهنة، والتي تتلخص في النضال للخلاص من النظام السياسي الطائفي المحاصصي الذي أذل ويذل الشعب يومياً، والذي تدافع عنه النخب الاسلامية السياسية الحاكمة والبعض الأخر، وضد الفساد، ومن اجل توفير الخدمات المتدهورة دوما.
لدي القناعة الشخصية، وهو ما تؤكده المظاهرات السلمية المستمرة والمتصاعدة، بأن علينا ان نتجنب ما يسعى حكام العراق الحاليون جرّنا إليه، وذلك بالحديث عن العنف والتخريب في المظاهرات لتشويه سمعتها، تماماً كما فعل حاكم العراق المستبد رئيس الوزراء السابق.  رئيس الوزراء العراقي الحالي تحدث في خطابه الأخير عن "مظاهرات سلمية ومظاهرات مدسوسة" ثم يتحدث عن خط أحمر!!". وقد انبرى إلى مناقشته وتخطئته بوضوح وصواب الدكتور علي الرفيعي، رئيس التيار الديمقراطي الاجتماعي في العراق، في رسالته المفتوحة الموجهة الى رئيس الوزراء حيدر العبادي، والتي أعدتُ نشرها في موقعي على الفيسبوك لأهميتها وصواب ما جاء فيها. كل المظاهرات الجارية سلمية وجادة وتطرح مطالب عادلة اولاً، وهي مطروحة منذ سنوات دون ان تحاول النخب الحاكمة الفاسدة الاستجابة الجزئية لها وكانت وعودها ومواعيد إنجازها كاذبة يصح عليها قول الشاعر:
مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
ثانياً، ثم كل المظاهرات الجارية في العراق جيدة وسلمية، واندساس البعض لا يغير من طبيعتها السلمية ومطالبها العادلة، ومن مهمات الحكومة كشف هذا البعض المندس والمُسيء للمظاهرات الشعبية الحاشدة والمتصاعدة، بسبب انعدام الثقة كلية بين الحاكم المستبد والفاسد والمحكوم، كما يقع على عاتق الحكومة مهمة حماية المتظاهرين ثالثا. لقد نسى رئيس الوزراء الحالي ومن سبقه بأنهم قد تجاوزا الخطوط الحمراء في مصالح الشعب أميالاً وأميال وداسوا على كرامة الإنسان وحقوقه وصلاحياته، وما أن انبرى للتظاهر حتى برز الخط الأحمر يتهدد المظاهرات السلمية، رغم تأييد رئيس الوزراء لها شكلياً، إذ لولا ذلك لما أعطيت الأوامر بضربها بالرصاص الحي واستشهاد الكثير من المواطنين.
ان التركيز على بعض التجاوزات الحاصلة من بعض العناصر هو ما تسعى إلى ترويجه النخب الحاكمة الفاسدة، لكي يتسنى لها توجيه الرصاص الحي الى صدور أو ظهور المتظاهرين، كما حصل في اكثر من مدينة جنوبية وفي وسط العراق وأدى الى استشهاد 18 مواطنا من إعمار شتى، بمن فيهم صبية وشبيبة وجرح اكثر من 100 مواطن على أيدي اجهزة الأمن القمعية. علينا ان نطالب بإلحاح وبلا كلل:
•   إيقاف التصدي الهمجي للمتظاهرين السلميين فوراً، لأن الجماهير تمارس حقها الشرعي المكفول دستوريا وفي لوائح حقوق الإنسان الدولية.
•   الاستجابة الفورية لمطالب الجماهير في رفض الطائفية ومحاصصاتها في الحكم والمجتمع ومحاربة الفاسدين الكبار واعوانهم ومحاكمتهم والتصدي للإرهاب الجاري في البلاد على أيدي داعش والميليشيات الطائفية المسلحة.
•   إطلاق سراح معتقلي الانتفاضة الشعبية المتصاعدة وتعويض عائلاتهم ومعالجة الجرحى منهم وتعويضهم ومحاكمة من أعطى الأوامر باستخدام الرصاص الحي لضرب المتظاهرين.
إن من تابع اجتماع رؤساء الكتل السياسية المشاركة في الحكم بدعوة من رئيس الجمهورية والبيان الصادر عنه يدرك تماماً بأن:
•   النخب الحاكمة لا تريد بأي حال الاستجابة الفعلية لجوهر المطالب الشعبية الأساسية التي تؤكد رفض الطائفية ومحاصصاتها كلية، ومحاكمة الفاسدين والمفسدين الكبار فورا، ومحاربة الإرهاب وتفكيك المليشيات الطائفية المسلحة ونزع سلاحها ومحاكمة من استخدم السلاح منهم في ضرب المتظاهرين، والاستجابة لمطالب الشعب في توفير الخدمات المتدهورة، ولاسيما الكهرباء والماء ومعالجة البطالة والفقر المتفاقمين، رغم زيادة واردات العراق من نفطه الخام المصدر، وإيقاف دفع الرواتب الهائلة والمخصصات لكبار موظفي الدولة والنواب وغيرهم ، والتي كشف عنها مؤخراً ومن جديد عادل عبد المهدي، التي يتسلمها هو أيضا، وتصل الى 12 مليون دولار أمريكي سنوياً عدا الرواتب والمخصصات الاخرى، ... إلخ.
•   إن الحديث عن المندسين القلة يخدم النخب الحاكمة وليس المظاهرات، لأنهم يريدون ذلك لتشويهها، رغم انهم يعرفون جيداً من هو هذا البعض المندس، إنه بالأساس من اتباع بعض القوى المشاركة في الحكم والمتصارعة على الدور الأول في الحكم، أو تلك العناصر القادمة من وراء الحدود او بتوجيه منها، أو بعض اللصوص والمافيات التي تريد نشر الفوضى وتوفير الأجواء للإجهاز على المتظاهرين وكسر شوكتهم وإرادتهم والالتفاف على المطالَب المشروعة الداعية للتغيير، إذ ان التغيير ليس في مصلحتها بأي حال بل في مصلحة الشعب!!!
19/07/2018



214
كاظم حبيب
هل يتعلم حكام العراق من تجارب الماضي المريرة مع المستبدين؟
من يتصفح تاريخ العراق المديد، دع عنك من يدرسه بعناية، سيدرك بجلاء وجود ظاهرة سلوكية مشتركة تبرز في تجنب حكام العراق، وجلهم عتاة، التعلم والاستفادة من دروس الماضي ومن الحكام الذين سبقوهم في الحكم والعواقب الوخيمة التي نشأت بفعل سياسات الاستبداد والهيمنة وسلب حرية وحقوق الشعب الأساسية وتجويعه. لم يتعلموا، وغير مستعدين على التعلم، من دروس الهبَّات والوثبات والانتفاضات والثورات الشعبية على النظم التي أرادت تركيع الشعب وسلب حريته وقوته. كما لم يتذكروا، ولا يسمعون لمن يريد تذكيرهم، بأن "الحكم لو دام لغيركم ما وصل إليكم"، وإن "الظلم إن دام دمر". وهذه الظاهرة السلوكية هي نتيجة لتفاعل عوامل اجتماعية ونفسية وتاريخية، خاصة بالأفراد وعامة بالمجتمع، إنها نتيجة لوجود وفعل علاقات إنتاج استغلالية متخلفة سائدة في العراق، ومن افرازات البنى الفوقية الناشئة عنها ومن بنية المجتمع الطبقية المشوهة، وكذلك من التركة الثقيلة لمئات السنين والمستوى المتدني للوعي الفردي والجمعي في المجتمع العراقي، إضافة إلى الخصائص الفردية التي تبرز عند المستبدين أنفسهم ودور وعاظ السلاطين المرتزقة والحاشية المفسدة والفاسدة في تنشيط عملية تحول الحاكم صوب السلوك الاستبدادي وقهر المجتمع باسم الدفاع عن المجتمع!
يتصور الحكام المستبدون إن المجتمع ليس سوى قطيع من الماشية يمكن السيطرة عليه والتحكم به وفرض الخضوع عليه. وهذا التصور لم يكن بعيداً عن الواقع في فترات معينة، إذ بدا لهم وكأن هذا التصور صحيح تماماً لطول فترات الظلم والسكوت عنه. ولكن ما أن يشتد الاضطهاد والجور والبؤس والحرمان والجوع حتى يتصاعد الغضب تدريجاً ويغلي كما يغلي الماء حين تصل درجة حرارته إلى 100 درجة، عندها يتفجر الغضب. حين تنضج الحالة الثورية، حين يرفض الشعب المظلوم العيش في ظل وهيمنة وجور الحاكم وحرمانه من الحقوق والعيش الكريم، وحين يعجز الحاكم عن فرض قوانينه التي أصدرها وهيمنته على المجتمع، ومع ذلك يرفض تغيير الأوضاع التي دفعت بالبلاد إلى الحالة الثورية، أي حين تلتقي الظروف الذاتية وتتفاعل مع الظروف الموضوعية، عندها لا يمكن كبح جماح وثبة الشعب أو انتفاضته أو حتى ثورته، وربما تكون سلمية أو عنيفة، إنه شكل من أشكال قانون تحول الكم إلى كيف. ومن يقرر سلمية أو عنف الاحتجاج والوثبة أو الثورة هو الحاكم وأجهزته على وفق الطريقة التي تعاملون بها مع الأحداث. 
لقد طالب الشعب العراقي بالإصلاح والتغيير منذ السنوات الأولى ورفض المحاصصة الطائفية واحتج على شق وحدة الصف الوطني والنسيج الاجتماعي نتيجة ممارسة سياسية مناهضة لأتباع الديانات الأخرى والسياسية الطائفية المتصارعة والسياسة القومية الشوفينية. ولكن غاص الحكم في مستنقع الطائفية والعداء لأتباع الديانات الأخرى ورفض أي إصلاح أو تغيير لحالة الفساد السائدة والتصدي الصارم للإرهاب القاتل للبشر والمدمر للبنية التحتية والمعطل لعملية التنمية. فكان أن وجه المستبد بأمره حاكم العراق بين 2006-2014 نار غضبه ضد المدنيين الديمقراطيين وضد من يطالب بالإصلاح في العام 2011 على وجه الخصوص وضرب المطالبين بالتغيير، فسمح ببروز أكبر وأشد لتيارين متصارعين هما التطرف الإسلامي السني المتمثل بالقاعدة وداعش وبناتها وأخواتها وكل ما أسسته ودعمته السعودية وقطر وبعض دول الخليج من جهة، وبالتطرف الشيعي المتمثل بالميليشيات الشيعية المسلحة من أمثال بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله وكل ما أسسته إيران وحزب الله في لبنان بالعراق من جهة ثانية. فكان الصراع والموت والدمار ومن ثم الاجتياح للموصل ونينوى، وقبل ذاك صلاح الدين والأنبار وديالى وبعض مناطق كركوك مثل الحويجة...الخ.
إن النظام السياسي الطائفي في العراق هو الحاضن الرئيسي لثلاث ظواهر مدمرة هي: 1) تمزيق وحدة الشعب، 2) نشر الفساد على أوسع نطاق في الدولة وسلطاتها الثلاث والمجتمع، 3) ونشر الإرهاب الدموي والخراب العام. وهي الحالة التي سادت العراق منذ العام 2004/2005 حتى الوقت الحاضر، وكانت ولا تزال قيادة السلطة بيد حزب الدعوة الإسلامية وبقية الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية وبدعم من المرجعيات الشيعية وبمشاركة القوى والأحزاب السنية وبعض الأحزاب الكردية بصورة هامشية، ولكنها كلها سعت لفترة طويلة منح الحكم الشرعية الرسمية في حين لا يمتلك الشرعية الدستورية، إذ أن النظام القائم ضد الدستور الذي يرفض الطائفية ووجود أحزاب إسلامية سياسية تقود البلاد نحو الهاوية.
لقد مرَّغت النخب الحاكمة كلها دون استثناء جبين الشعب بالتراب، ودفعت بالبلاد إلى مستنقع نتن من الثلاثي السابق، الطائفية والفساد والإرهاب، وكانت الحصيلة: جوع وحرمان وغياب خدمات وفقر وبطالة وتفريط إجرامي بأموال الشعب وسرقتها جهارا نهارا، فصالَ الردى بالشعب جهارا نهارا، على حد قول الشاعر صفي الدين الحلي (صالَ فينا الرّدى جهاراً نهارا ... فكأنّ المنونَ تطلبُ ثارَا).
إن هذه الأوضاع قد دفعت حتى بأولئك الناس الطيبين الذين أيدوا نظام الحكم الطائفي من منطلق ديني -طائفي بدأوا ينقلبون عليه لأنهم يعيشون المأساة والمهزلة مع هذا الحكم البائس والجائر بأنفسهم.
هذا هو الواقع، وغيره كثير، هو السبب وراء انتفاضة أبناء وبنات جنوب العراق ووسطه، وبضمنهما بغداد، على هذا الواقع المرّ والجنوني. وسيلتحق بهم بنات وأبناء المحافظات الأخرى التي لا تزال تعاني من مرارة النزوح والتهجير القسري والعيش في خيام لا عيش أدمي فيها. إن المتظاهرين السلميين يطالبون بحقوقهم، وهم يتجنبون أولئك الذين يسعون إلى تخريب المظاهرات للسماح بضربهم، بعضهم قادم من وراء الحدود وبعضهم يتحرك بأوامر من وراء الحدود، وبعضهم ممن يشارك منذ العام 2004/2005 بحكم البلاد وينافس الحاكم الراهن العاجز عن تحقيق ما وعد به الشعب من محاربة الفساد والإرهاب والبطالة والفقر وفشل في ذلك!!! 
للمظاهرات أسباب لا يمكن أن تنتهي حتى وأن قمعتموها اليوم فستنهض غداً وهلمجرا، تماما كما قمعت عام 2011 وانطلقت عام 2016 مرة أخرى لتتواصل حتى اليوم بحراك مدني ديمقراطي سليم ومؤثر. كوني على ثقة أيتها النخب الحاكمة في العراق بأن حكماً طائفيا في بلد تعدد القوميات والديانات والمذاهب لن يستقيم ابداً ولن يعيش طويلاً حتى باستخدام القمع والإرهاب والإفساد والقتل والاعتقال. والشعب في طريقه إلى وعي أفضل للواقع وللقوى والأحزاب التي حكمته طيلة السنوات المنصرمة وأذاقته شتى المآسي وعرضته لشتى المهازل، وسيرفض العيش في ظلها وتحت وطأتها!!!
إن طريق خلاص العراق من مستنقع العفونة الراهن يتم عبر الخلاص من الثلاثي الأخطر، من الطائفية ومحاصصاتها في الحكم والمجتمع، ومن الفساد السائد والفاسدين الكبار أولاً وقبل كل شيء، ومن الإرهاب الدموي المتواصل بكل أشكاله، إضافة إلى وضع حد لتدخل الجوار العراقي والدولي في الشأن العراقي.
                   

215
كاظم حبيب
أيتها النخب الحاكمة الفاسدة... الشعب يمهل ولا يهمل!!
هل امتلأ كأس الشعب بالحرمان والبؤس والمرارة من سلوك النخب الإسلامية السياسية الحاكمة والفاسدة والسادرة في غيّها ورفضها الاستماع إلى صوت العقل والتخلي عن الحكم بدلاً من تزييف الانتخابات وسرقة الأصوات وممارسة الغش للبقاء في الحكم. هل امتلأ كأس الشعب بالكذب والخداع والضحك على الذقون والوعود الفاحشة بمكافحة الفساد بالفاسدين أنفسهم من سلوك هذه النخب الحاكمة التي تسلمت السلطة عبر تحالف مخزي بين الولايات المتحدة وإيران ودول الجوار لتجاوز مجتمع مدني ديمقراطي ودولة ديمقراطية علمانية حديثة تستجيب لمصالح اشعب وإرادته الحية، بعد أن أسقطوا عبر الحرب الخارجية أعتى دكتاتورية عرفها تاريخ العراق الحديث لينصّبوا على أنقاضها دكتاتورية جديدة باسم الدين. لقد هبّ الشعب في ذات المدن التي جاء منها الحكام الجدد، حكام الصدفة البائسة، ليحكموا باسمهم وهم بعيدون عنهم بعد السماء عن الأرض، وليهتفوا بصوت وصل إلى عنان السماء "باسم الدين باگونة الحرامية". نعم لقد امتلأ الكأس وفاض!!!
التظاهرات لا تطالب بالماء الصافي للشرب، ولا بالكهرباء ليحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء ولا من البطالة المستفحلة، ولا من الجوع والحرمان من بقية الخدمات والعيش تحت خط الفقر لنسبة عالية من سكان العراق فحسب، بل ضد حكم طائفي شرس فكك بالقوة والقسوة والغش النسيج الوطني والاجتماعي للشعب العراقي، ضد حكم فاسد سرق المليارات من الدولارات الأمريكية من خزينة الدولة العراقية ومن قوت الشعب ولقمة عيشه، ضد من أساء لجميع القيم والمعايير الإنسانية والأخلاقية التي تبجحوا بها طيلة سنوات حكمهم البغيض وهم منها براء، ضد نخبة لا تعرف غير توجيه النار وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع إلى المتظاهرين الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة والعادلة منذ سنوات، ضد أولئك الذين يقطعون إمكانيات التواصل الاجتماعي بين المتظاهرين وبقية أبناء الشعب عبر الانترنيت لأنهم يخشون الشعب ويعيدون ما فعله عدو الشعب الأجوف رئيس الوزراء العراقي السابق والطائفي الشرس حتى النخاع في مواجهة مظاهرات المجتمع المدني في العام 2011. الخزي والعار لحكام لا يعرفون غير لغة السلاح دفاعاً عن حكمهم السيء، مما جعل البعض، الذي ضاق ذرعاً، يترحم على من سبقهم من مستبدين وفاسدين في حكم العراق.
لن يكون في مقدوركم خداع الشعب ولا تخويفه بميليشياتكم المسلحة التي أذاقت الشعب سنوات طويلة ولا تزال مرّ الإساءة والعذاب والاغتيال والتشريد والنهب، وسوف يواصل نضاله حتى يحقق ما يسعى إليه، فالشعب، كما تعرفون جيداً، ونذكركم به أن كنتم قد نسيتم ذلك، يُمهل ولا يَهمل، وله صبر أيوب، ولكن حين يتفجر الغضب فيه فلا يرحمكم كما لم ترحموه طيلة 15 عاماً، وأن لم تتراجعوا فالغضب آتٍ لا ريب فيه عاجلاً أم آجلاً.
لن ينفعكم دس عناصر وسط المتظاهرين ليحرقوا أو يسرقوا أو يدمروا بنايات حكومية ليتسنى لكم اتهامهم بالعنف والقوة، لتوجهوا نيران حقدكم وكراهيتكم للشعب إلى صدور أبناء الشعب المتظاهرين بدعوى التجاوز على التظاهر السلمي. المتظاهرون سلميون وتظاهراتهم سلمية ومطالبهم عادلة ومشروعة، والمتجاوز على تلك الحقوق هو أنتم أيتها النخب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، الحاكمة في البلاد. من هنا جاءت مظاهرات الأمس في بغداد تؤكد حق الشعب بالتظاهر السلمي وهو ما ينظمه الدستور العراقي ولائحة حقوق الإنسان الدولية، وتطالب الالتزام بمواد الدستور في مواجهة المظاهرات السلمية والاستجابة لمطالب الشعب.
وهنا أردد مع الشاعر الفقيد كاظم السماوي قوله: وإذا تكاتفت الأكف فأي كف يقطعون، وإذا تعانقت الشعوب فأي درب يسلكون!!! 
لكم المجد يا شهداء العراق الجدد والقدامى، شهداء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، شهداء النضال في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي ودولة ديمقراطية علمانية.
لكم المجد أيها المتظاهرون النشامى، ولكم النصر في خاتمة المطاف
16/07/2018       

216
الإشاعة الكاذبة والتآمر على مصالح الشعب ديدن النخب الحاكمة في العراق
كاظم حبيب

ليس هناك شيء ما في العراق يسير في، وعلى، الطريق الصحيح، ليس هناك في العراق شيء اسمه الدولة، وليس لشبه الدولة هذه سلطات نزيهة أو تمتلك ضميراً حياً يؤنبها حين ترتكب خطأ ما أو تمارس تقصيراً بحق مصالح الشعب والوطن، كل شيء في هذه الدولة خطأ في خطأ، ابتداءً من قمة الهرم إلى أسفله. كله فاسد كدولة وكنظام حكم وكمؤسسات، ومن في هذه الدولة غير فاسد، وهم ليسوا قلة كأفراد بالضرورة، يعتبر مجنوناً، ويعامل كمجنون ترك عقله في مكان ما ونساه!! هكذا هو العراق، وهذه حقيقته الراهنة، مهما حاولنا تزويق وتلميع صورته الحالية، ومهما هتفنا بعظمة العراق وشعبه، فهتافاتنا كلها لا صدى لها ولا يمكنها أن تمسح حقيقة الواقع الذي يعيش تحت وطأته هذا الشعب المستباح بأديانه ودنياه، بدمه ودموعه، فهو يلعق جراحه دوماً ولا يشفى منها!!

إنها ليست دولة رثة بسلطاتها الثلاث فحسب، بل نشرت الرثاثة في كل مكان، في كل شبر من أرض العراق، نشرت البؤس والفاقة والنفايات بين الملايين من بنات وأبناء هذا الشعب، الذي نطلق عليه باعتزاز كبير، صانع واحدة من أغنى حضارات العالم القديم، أو أحد مهود الحضارة والثقافة القديمة!

حكام اليوم فازوا بالسبق بالمقارنة مع حكام الأمس والأمس الأول، في مجال الكذب والخديعة والتآمر والنهب والسلب وسرقة اللقمة من أفواه الكادحات والكادحين، بزّوهم في كل شيء، ولاسيما في الرذيلة. فليس هناك أسوأ مما صنعوه في العراق، لقد وضعوا نظاماً متكاملاً للفساد الداخلي على مستوى المال والإدارة والاقتصاد والمجتمع، نظاماً متكاملاً للفساد المرتبط عضوياً بدول الجوار كلها دون استثناء، رغم تفوق إيران وتركيا من جهة، والسعودية وقطر والبعض الآخر من دول الخليج من جهة أخرى، إضافة إلى ارتباط ذلك الفساد عضوياً مع نظام الفساد العالمي الذي تديره مؤسسات المال والمال الموازي على الصعيد العالمي.

كل يوم تظهر إشاعة في بغداد وتنتشر إلى جميع ارجاء العالم ثم تُكذب، ويبدو إنها وضعت لهذا الغرض لإشاعة الفوضى والشك في كل شيء وفي كل إنسان بالعراق، وهو أمر بالغ الوضوح والضرر. مكائن الإشاعة تعمل بحيوية بالغة في بغداد وطهران وأنقرة والرياض والدوحة وواشنطن، وربما لندن وباريس وبرلين، إنها مؤسسات سياسية وبحثية وإعلامية ودينية ومذهبية، إنها مؤسسات لا تريد الخير للشعب والوطن. تبدأ بنشر تشكيل تحالفات سياسية وحكومات واتفاقات، ثم يظهر إنها من صنع الخيال المريض أو المطلوب حصوله!!

هناك تفاعل بين الأحزاب الإسلامية السياسية، شيعية كانت أم سنية، بالعراق وبغض النظر عن قوميتها، وبين حكام وشيوخ دين دول الجوار والمنظمات الإسلامية العاملة على الصعيد العالمي، يهدف إلى تحديد مسيرة العراق المطلوبة منهم، ورغم التعارض والتصارع فيما بينهم، إلا إنهم في المحصلة النهائية يسعون لأن يكون العراق في دائرة مصالحهم وليس مصالح الشعب العراقي.

هذا الوضع قاد ويقود إلى مزيد من الخراب والبؤس والتخلف في توفير الخدمات للشعب العراقي، ولاسيما الأساسية منها كالكهرباء والماء والغذاء والعمل، وهو ما يعيشه الناس اليوم، رغم توفر المزيد من المال بالعراق الرسمي الفاسد، بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام في السوق العالمي وزيادة صادرات العراق من النفط الخام. المناطق التي تخلصت من إرهاب داعش، تعيش اليوم إرهاب الخراب والدمار وروائح الموتى والطائفية الغاشية والفساد المرعب والتدهور في الأخلاق والقيم العامة.

الظرف الراهن في العراق، رغم مصاعبه الكبيرة، يساعد على كشف أوراق الحكام ومن يقف خلفهم ويساند مسيرتهم المدمرة للعراق وشعبه وفضح ألاعيبهم وألاعيب من يساندهم من وراء الحدود. العملية معقدة وصعبة، وكما قال العزيز الكاتب رضا الظاهر بصواب: علينا أن ننحت في الصخر، ولكن لا بد من القيام بهذا العمل النبيل. إنه قدر الناس الطيبين الذين يريدون انقاذ العراق من مؤسسات وأحزاب وحكام الصدفة والخسة والدناءة، إنه قدر قوى التيار الديمقراطي، قوى تقدم ومن يقف معها ومن يؤيد مسيرتها، فهو ستعود إلى سابق عهدها لتواصل المسيرة النضالية في سبيل عراق أفضل وشعب يستحق الأفضل!!

13/07/2018


217
شكر وامتنان واعتزاز
الأخوات والأخوة، الصديقات والأصدقاء، الرفيقات والرفاق الأعزاء
تحية ودٍ واعتزاز
ابتداءً أقدم شكري وامتناني لكل من بعث برسالة أو اتصل هاتفياً يستفسر عن سبب انقطاعي عن الكتابة والنشر خلال ما يقرب من شهر. لقد حاولت المواصلة، ولكن اضطراري إجراء الفحوصات المكثفة ودخولي المستشفى وبقائي فترة فيها وإجراء عملية إزالة جزء من الرئة المصاب بالسرطان الخبيث، هو الذي منعني عن الكتابة أو اللقاء بالأصدقاء أو الإجابة على مراسلاتهم، وتجنبت إخبار أي من أفراد العائلة سوى زوجتي لتجنيب الأهل والأصدقاء والأحبة تحمل مشقة القيام بزيارتي في المستشفى.
لقد أجريت العملية بنجاح بتاريخ 02/07/2018 في مستشفى البروتستانت في بوخ/برلين، والآمل في أن ينتهي كل شيء بعد تنفيذ بقية العلاجات الضرورية، والتي ستستغرق بعض الوقت.
مرة أخرى اطمئن الأصدقاء والأحبة وأشكرهم على حسن اهتمامهم
كاظم حبيب
12/07/2018
 

218
أدب / كابوس
« في: 23:13 18/06/2018  »

كابوس

                                         
يحيى علوان

 مُثقلاً بحنينِ لَقْلَقٍ إلى عِشٍ فوقَ مِئذنَةٍ .. يتدفَّأُ فيه بالأذان ،
يستيقظ "رأسه" من رماد النسيان ، لمّا ينامُ ،
لا يسقطُ في غواية الأحلامِ ..
يقطعُ تذكرةً لقدميه ، يتسكّعُ على شاطيءِ الذكرى ..
 في زمنٍ ما جادَ عليه بيدٍ تُرتِّقُ مِزَقَ أناه اللائب ..
مثل غجريٍّ ضالٍ في غاباتِ العصورِ ، يطاردُ فتاتَ خبزِ ذكرياته ، كي لا يضلّ الطريقَ
إلى "الكوما" الروحية ! وسطَ بُرَكٍ من الهراء الرقراق !! يروحُ عندها يحصي جراحه
، مثل لصٍّ يجلس ليُحصي غنائمه !
رجلاه تقودانه في شوارعَ مصدورةٍ بدخانِ عوادمِ السياراتِ والحافلات ...
في طرقاتٍ وأزقّةٍ ، عارياً إلاّ من اشواق "إبن زُريق" البغدادي ...
............................
منذُ زمنٍ أوغَلَ في البَعاد، ما عادَ يتذكره ،عرفَ الكهولةَ، وإنحناءةَ ظهرِ الطفولة ،
ظلَّ يحملُ رأسه بين كتِفيه ، وأيامه على ظهره ... 
يمشي فوقَ نفسه ،
جسَده أمسى ذِكرى زمانه، دروبه مستديرة ، مُلتَفَّةٌ على حالها ...
حُلمُه يقودُ خطاه ،
ما تبقى له من عمرٍ أمسى مثل صالة إنتظار فى محطة قطاراتٍ مهجورة ،
ترعى بها الريح ، يتربَّعُ فيها الصمتُ على مقاعد مُترَعةً بالغبار ...
يُقامرُ منذُ سنينَ من أجلِ "بيدرِ فَرَحٍ ليلةَ الحصاد"!
يتلهَّفُ لفرحةٍ ، كلهيبِ موقدٍ يلوحُ ، من خلف  الشباك ،
لتائهٍ في صحراء من الثلجِ ...
أحبَّ بلاداً رَحلَ عنها ، يُريد زيارَةَ أمسِه... ليُقوِّمَ ظهرَ ذاكرته المُقوَّس!
.........................
بضعُ خطواتٍ تفصله عن مكانٍ ظلَّ يؤجِّلُ العودة إليه دهراً،
قلبه يَنُطُّ مثلما كانَ في أوّل موعدٍ غراميٍّ ، 
ما عادَتْ له غيرَ عينٍ واحدة ، تركها مفتوحةً ترصدُ أحلامه العابرة ..
إرتدى نسيانه/ ذاكرته ، رَشَّ شيئاً من عطره الأثير،
خرج لايلوي على شيءٍ ، ولا يدري كيف يُريحُ الظلَّ من شمسِ الظهيرة ،
في سكونٍ فَرّت الأصواتُ منه ... وعافَه الصدى ،
مثلَ جرحٍ يَصدحُ بالأنين ...
..........................
متردداً أمسى أمام دهليز ذاكرةٍ تحرسُها "ليثي"* ، حين شَعرَ كأنَّ شفّاطةً رهيبةً شَفَطَتْه ،
لم يَقوَ على مقاومتها ... أرخى قواه مُتزحلقاً ...
أحسَّ بأنه خفيفٌ ، ربما لأنه تَرَكَ ظلَّه مُعلَّقاً على شماعة خلفَ باب الدار .. 
في نهاية الدهليز قومٌ بوجوهٍ من نحاس ، مُتماثلةٍ ، تفيضُ إبهاماً ..
لاتَشي بفرَحٍ  أو بحزنٍ ،
أيدٍ مبتورة تُصفِّقُ لصفاقةِ الوطن !
رهطٌ "بابليٌّ"، الكلُّ يصرخ .. ولا أحد يفهمُ الآخر ...
مدينةٌ مُسَوَّرةٌ بالطوف**والعَجاج ، والقمامة ...
ساعة "القُشلَة" ، وحدها تعملْ !
إرتعبَ ! حاوَلَ العودةَ من حيث إنتهى .. لمْ يفلح .
تحلَّقَ القومُ من حوله كأنه "تسومبي!" ،
صرخَ بهم :" أنا إبن هذه الأرضُ ، التي طَشَّتْ في الدُنى الحرفَ ،
وما جَنَتْ غير الحروب !!
جئتُ لـ ــ أكتبَ بدمٍ أسود ، حِبر الغراب ــ "
* نحن ، قاتَلنا ولم ننتصرْ... جرّبنا " الممكنات !"كلِّها ...
 لا ندري أنَفرحُ الآنَ أم نَحزن ؟!                                                       
ــ هذا سؤالٌ ساذجٌ ! أتنتظرونَ فَتْوَى بالحزنِ وأُخرى بالفرحِ ؟!
* ماذا تريدُ ، يا غريب ؟! فنحنُ لانملكُ إلاّ الوفاءَ وإجسادٍ من قمح وشمس !!
ــ جئتُ إذ طوَّحَ الحنينُ بي ،
  جئتُ لعلَّ شيئاً فيَّ يَنبُذُني .. أو لعلّي أصيرُغيري !
  قد جئتُ من قبلُ ، وربما من بعدُ ... لم يكنْ أحدٌ بأنتظاري،
  ولم أجد أحداً يُصدِّقُ ما أرى ...
فالكلُّ منشغلٌ بأعلان "براءة" الخطأ !
 أنا البعيدُ .. مَنْ أنتَ يا أنــا ؟!
في أيِّ سِركٍ تُراني ؟!
مَنْ خَلَطَ أوراقَ اللعبةِ علينا ، فلم نَعُدْ نعرفُ "الثُوّارَ" من"كِلِدّار" اليسارِ ؟!!
سأكُفُّ عن الكتابةِ كي لاتصلَ رسائلُ إستغاثتي إلى مَنْ لايهمه الأمر..!
وحين لن يسمعني أحد .. أروحُ أنتحبُ حتى لا أختنق ..!
............................
هذه أشباحكم تلعنُكم ...
نساؤكم حِلٌّ لغيركم ما دامَ في المحرابِ منافقٌ ، دجّالٌ يَؤُمُّكم !!
جئتُ لا لأُصلِحَ أيَّ معنىً خارجيٍّ أو إشتقاقيٍّ ،
بل كي أُرمِّمَ داخلي الخاوي إثرَ جفافٍ عاطفي ..
وأعرفُ أنَّ "العامّةَ" تموتُ بِبَهجةٍ مَجّانيةٍ ،
فلا يعطيهم الوطنُ غير الحق في الموتِ أيامَ  الحرب !
والذلَّ أيامَ السِلم لـ"بناءِ" الوطنِ من جديد !!
....................
* تَمهّلْ! لاتَتَورّطْ كثيراً بالعاطفةِ والحماسة !! قالوا ،                                                                 لَمْ نَرهنْ سوى طيبتنا، كي لا نتأخرَ عن " الزَفَّةِ" ونُرمى بسِهامِ "الأنعزالية"!
  فها نحن مَنْ نحنُ !
  لنا ما تبقّى لنا من الأمس ،
 علوُّ النجمِ عاليةٌ أرواحنا ،
 أَبيَّةٌ نفوسُنا كالطير طليقاً يُحلِّقُ أبعدَ من مدى الرصاص ..!   
 هكذا وُلِدنا كسائرِ الخلقِ سواسية ! 
 لنا ما لنا .. ولنا ما لغيرنا من سماء ، 
لَهُمْ ما لَهُمْ .. ولهم ما لنا من هواء ،       
لَهم دينهُم .. ولنا "ديننا"!
لنا ما لنا.. وليس لهم ما لنا من أيادٍ بيضٍ وجبَاهٍ ناصعةٍ !
لَهُمْ ما ليسَ لنا من السحتِ الحرام .. وما يندى له الجبين !
لنا تبتسمُ المرايا .. ولهُم الذُعرُ من صورهم فوقَ الماء !
........................
........................
ثمَّ أننا نحتكمُ إلى البرامج ، دونَ النوايا، التي لاتعرفها إلاّ الآلهة !

ــ الكلُّ ضد الفساد ، والجميع يريد مصلحة الناس والديمقراطية والشفافية ..إلخ!!
   مَنْ المسؤول إذاً ؟!
  هل أكونُ أنا المسؤول وعليَّ أنْ أعتذر؟!
  عنْ ماذا؟!
  عن الخراب العميم ، الذي طال كل شيء؟!
  عن ملايينِ القتلى والمسبيين واليتامى والمفقودين ؟!
   فقد صادروا الله ،
   قَتلوه في الكتب ، فوقَ المنابرِ، صيَّروه "سيافاً"في بلاطِ الحُكّام !   
  الكلُّ تَبرّأ ، فلا أثَرَ لِمَنْ غرزَ مخالبه في صدورنا  ونجا ..!
  أيكونُ الكذبُ الصفيقُ أعلى مراتب الحقيقة ؟!
 إذ غدت الأخيرةُ مؤجلةً إلى حياةٍ غير هذه ..
  والذكرياتُ إلى أَعمارٍ أخرى ..
  وما عادَ الإخلاصُ ذا نفعٍ ..!
  أيتحتَّمُ عليَّ الآنَ ، أَنْ أُحكِمَ بناءَ عبارتي [ أقولُ لمُغرضٍ قد يقراُها عمارتي ، أنا لا أملكُ
حتى حجارة واحدة في خربة بأيٍّ من بقاع العالم، ناهيك عن عمارة !] كي لا تُغضبَ "القومَ"؟!


  كمْ هيَ ساديةٌ همومُ الناس !!
 لذلك سأرسمُ وجه إيديت بياف فوقَ صخرِ الروح ، تُسلّيني ، تعويذةً كي لاتُغريني
الآفاقُ المُلبَّدةُ بالكآبةِ والرحيلِ من جديد ... 
.......................
.......................
أَفاقَ إذْ سقطَ عن السرير.. يلهثُ مُقطَّعَ الأنفاسِ .. يتصبَّبُ عَرَقَاً بارداً ...!!!                                                                                       
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ليثي إلهة النسيان في أساطير الأغريق .
** جدار من الطين والتبن ، لا تدخل الحجارة ولا الطابوق في قوامه . 


219
كاظم حبيب
التحالفات العراقية والدور الإيراني
حين دخل الحزب الشيوعي العراقي في تحالف مع قوى التيار الصدري باسم "سائرون"، سجلت مع عدد من الأخوات والأخوة المناضلين رأياً واضحاً ومكثفاً حول الموقف من هذا التحالف، وأشرنا فيه باختصار شديد إلى خسارتنا لوحدة قوى التيار الديمقراطي، التي كانت تتشكل من الحزب الشيوعي العراقي، وكان العمود الفقري في التيار، والحزب الاجتماعي الديمقراطي الجديد وثلاثة عشر حزباً آخر وشخصيات ديمقراطية علمانية عراقية كثيرة. وقد أطلق على هذا التحالف المدني الديمقراطي اسم "تقدم". ونشط أتباع "تقدم" في الداخل والخارج لصالح هذا التحالف الجديد. ولعبت الحركة المدنية الاحتجاجية دوراً مهماً في تكوين رصيد شعبي واسع نسبياً لصالح تحالف "تقدم"، وكان من المؤمل أن يحرز مقاعد في المجلس أكثر مما تحقق له في تحالف "سائرون". وكان في مقدوره أن يتحالف بعد ذاك مع التيار الصدري أو مع غيره على وفق البرامج المطروحة والفعلية للقوى السياسية التي تمت تجربتها خلال الأعوام المنصرمة.
اكتفيت بهذا الراي الذي صدر عن "لجنة المبادرة لتوحيد الحركة الوطنية الديموقراطية في العراق". وسكت عن إبداء الرأي بشأن "سائرون"، ورجوت الآخرين أن يكونوا في نقدهم موضوعيين وبعيداً عن التجريح، إذ من حق الحزب الشيوعي أن يتخذ المواقف التي يراها مناسبة في العمل السياسي، على أن يستفيد بأقصى ما يمكن من تجارب العقود المنصرمة في مثل هذه التحالفات والموقف من نقد سياسات القوى التي يتحالف معها حين ترتكب تلك القوى أخطاءً، أو تبتعد عن الالتزام بالخط المتفق عليه في التحالف. وفي الدعاية الانتخابية دعوت لانتخاب ممثلي الحزب الشيوعي العراقي وقوى التيار الديمقراطي.
خلال الفترة التي تشكل تحالف "سائرون وحتى اليوم وصلتني رسائل واتصالات هاتفية كثيرة عن موقفي وسبب سكوتي عن إعطاء الرأي بشأن ما يحصل بالعراق في إطار "سائرون" ومجرى التحالفات مع القوى الأخرى والمقالات والتصريحات التي نشرها الحزب، ولاسيما الرفاق في قيادة الحزب الشيوعي العراقي. أقول مرة أخرى، أي شخص يحق له أن يتخذ رأياً في قضية ما ويمكن أن يكون الراي خاطئاً، ولكن هذا لا يشكل مشكلة كبيرة، فهو رأي فرد، ولكن حزب سياسي، كالحزب الشيوعي العراقي، حين يتخذ موقفاً سياسياً يفترض أن يحسب نتائجه أو عواقبه جيداً، إذ الوقوع في خطأ تكون له عواقب سلبية على الحزب والمجتمع. من هنا تكون مسؤولية الحز السياسي أكبر بكثير من مسؤولية الفرد، على أهمية وضرورة أن لا يقع الفرد في أخطاء مؤذية
تحالف سائرون استفاد من الحملة الشعبية الاحتجاجية الواسعة إلى أبعد الحدود الممكنة، التي بدأت عام 2011 وتوقفت بشرسة وعنف النظام السياسي الذي كان يقوده المستبد بأمره نوري المالكي وبإسناد شديد من إيران، ثم بدأت الحركة الاحتجاجية ثانية في العام 2014، في كسب أصوات الشيوعيين والكثير من المدنيين الديمقراطيين والمحتجين على السياسات الطائفية المحاصصية والفساد والإرهاب، ورفعت من رصيد التيار الصدري في الانتخابات الأخيرة إلى نسبة تتراوح بين 40-50% من عدد الأصوات التي حصل عليها هذا التيار في انتخابات عام 2014.
في التحليل السياسي يمكن القول بأن الحزب الشيوعي في تحالفه" مع التيار الصدري في "سائرون"  قد استطاع التحرك بحيوية أكبر وولج مجالات لم يلجها في السابق ووصل إلى جماعات كان يصعب الوصول إليها قبل ذاك. ولكنه لم يحقق النتائج المرجوة من العملية الانتخابية، وكان رصيده من النواب، على وفق قناعتي، أكبر لو كان قد استمر في تحالفه مع بقية قوى التيار الديمقراطي في تحالف "تقدم". 
ما هي المسائل التي تثار في تحالف حزب شيوعي مع التيار الصدري في "سائرون"؟
التعاون مع شخصيات دينية ليس غريباً على عمل الحزب الشيوعي العراقي، فهناك شخصية عبد الكريم الماشطة من الحلة، وشخصية محمد الشبيبي من النجف، وكان للحزب خط حزبي خاص لرجال الدين (خط الموامنة)، ولاسيما في كلية الشريعة ببغداد مثلاً. ولكن تلك الشخصيات الدينية كانت مدنية وعلمانية ترى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وهي مسألة مركزية لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
التيار الصدري، حركة دينية سياسية اجتماعية، تعتمد على زعامة أو قيادة شخص واحد، إذ له يعود القرار الأول والأخير، وليس هناك من يستطيع اتخاذ أي قرار آخر، إن قراراته فتاوى لتابعيه أو مريديه أو مقلديه، الذين كانوا في الغالب الأعم يقلدون والده قبل استشهاده على أيدي النظام البعثي الدكتاتوري.
ومثل هذه الحركة الدينية الشيعية قد ارتبطت طويلاً بإيران، ورغم بروز محاولات الابتعاد عنها، كان الحبل السري قوياً إلى حد يصعب الانفكاك عنها، أو يمكن العودة إليها تحت ظروف وضغوط معينة. وبالتالي لا يخضع الصدر في قراره على المتحالفين معه بل لموقفه الشخصي الخاضع بهذا القدر أو ذاك لعوامل كثيرة. ويمكن أن تختلف قرارات بين ليلة وضحاها دون أن يحتاج إلى تفسير أسباب تغيير مواقفه. قال لن يتحالف مع المالكي والعامري، وهنا نحن أمام تحالف محتمل من هذا النوع هو الذي تحدث عنه!
والمسالة الثالثة في هذا الصدد تبرز في طبيعة الجماهير الواسعة المؤيدة لمقتدى الصدر، فهي مؤيدة بالأساس من موقع ديني، وليس اجتماعي، وهي بالأساس بسيطة وتقبل بما يقرره الصدر ولا تناقش في ذلك، إلا القليل الذي تأثر بالحركة المدنية الاحتجاجية وتفاعل مع شعاراتها المناهضة للطائفية والفساد والإرهاب ويمتلك شيئاً من الوعي الفكري والاجتماعي والسياسي. وهم الذين برزوا في فترة الاحتجاجات وكفلوا التواصل مع الحركة المدنية الاحتجاجية.
من هنا فأن التفاوض مع القوى الأخرى من جانب التيار الصدري لم ولن يخضع للقوى المشاركة في تحالف "سائرون"، بل لقرار مقتدى الصدر الشخصي وحده لا غير. وحين قال سأتحالف مع النصر أو الائتلاف الوطني أو مع الكرد ...الخ، كان قراراً فردياً، وحين قال الآن مع فتح، هو قرار فردي أيضاً ولم يرجع به إلى الحزب الشيوعي العراقي أو إلى بقية القوى المتحالفة معه. إنها الإشكالية التي تضع القوى الأخرى في حرج دائم من أمرها. وكان بيان الحزب الشيوعي التوضيحي الأخير بتاريخ 13/06/2014 يعبر عن هذا الحرج الذي برز في موقف الذي "لا يطير ولا ينكض باليد"! في حين كان موقف الدكتور فارس نظمي أكثر وضوحاً وجرأة في تحديد المسيرة: رفض التحالف مع فتح، الأفضل أن يكون تحالف سائرون في المعارضة من أن يكون في تحالف محاصصي طائفي جديد...الخ.
لا شك إن مقتدى الصدر قد تعرض لضغوط مباشرة تجلت في تهديد مباشر باغتياله أولاً، وتفجير مستودع الأسلحة التابع لسرايا السلام التابعة له في مدينة الثورة ثانياً، وإرسال تحذيرات مباشرة من قاسم سليماني المقيم حاليا بالعراق لصهر التحالف الجديد، الذي أشار المالكي بأنه يجد التأييد من جانب إيران! كما إن إيران تضغط على الكرد وعلى قوى كثيرة وحركت قواها وأموالها وما عندها من عيون لتعمل على ذلك!
ومع ذك فالأمور لم تنته حتى الآن، والاحتمالات القادمة عديدة، ولكن لا بد للحزب الشيوعي أن يكون له موقفه الواضح الذي لا لبس فيه، رغم صعوبة وتعقيدات الوضع، لا لأعضاء الحزب فحسب، بل وللجماهير المؤيدة له وللقوى المدنية والديمقراطية الأخرى التي تنتظر عودته لها وعمله معها. لا بد أن يكون له الموقف الرافض لأي تحالف طائفي خاضع لسطوة وسيطرة إيران التي يمثلها هادي العامري والمالكي والخزعلي ومن لف لفهم، فهؤلاء يمثلون القطب الأكثر طائفية وعنفاً ورفضاً لمصالح الشعب العراقي والأشد رغبة في ربط العراق بعجلة إيران ومصالحها وهيمنتها الكاملة على العراق وعلى قراراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الداخلية منها والخارجية.                       
   

220


كاظم حبيب

الرؤية المريضة للبروفيسور سعد الفاضل حول العرب وأهل السودان!
تسنى لي، من خلال الصديق الدكتور حامد فضل الله، أن أقرأ قبل ثلاثة أيام مقالاً للسيد البروفيسور سعد الفاضل من السودان تحت عنوان طويل "... عروبة السودانيين الزائفه هي السبب في التمادي و التطاول عليها في الاعلام العربي بشكل عام". تضمن المقال عدداً من الأفكار التي وجدت ضرورة مناقشتها لسببين مهمين هما: 1) الأحكام المطلقة التي ساقها لنا مقال البروفيسور سعد الفاضل، والتي لا يجوز التغاضي عنها حين يكون كاتبها بدرجة استاذ؛ و2) ارتكاب البروفسور جملة من الأخطاء الفكرية التي لا يجوز تركها تمر دون مناقشة وتبيان خَطلها، على وفق قناعتي.
يبدأ المقال بتوجيه نداء إلى السودانيين باعتبارهم ليسوا أقل شأناً من الأعراب. وهي لعمري مسألة لا يأتيها الباطل بأي حال، فكلنا بشر، وهي السمة الأساسية التي تميزنا جميعاً وليس غيرها. وبالتالي فأي تفكير آخر يضع المسألة في خانة العنصرية والتمييز العنصري، يضعها بين ألـ "أنا" وألـ "أخر"، أنا الجيد وهو السيء ...الخ. وهنا في تعريف الإنسان لا يلعب حالة الفقر والبؤس المالي والتخلف أي دور في تحديد سمة الإنسان.   
ثم يشير إلى تفاخر العرب في الأنساب أو تحقير بعضهم البعض الآخر بسبب النسب ...وهلمجرا. وهذا الأسلوب في المفاخرة الفارغة كان وما يزال قائماً في سلوك القبائل العربية سابقاً وحالياً، وفي جميع الدول العربية التي ما تزال تعيش في الماضي ولم ترتق إلى حضارة القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، فهم يعيشون الماضي في الحاضر. ولكن وجود هذه الظاهرة لا تنحصر بالعرب أو العربان أو القبائل العربية، بل مارستها وربما ما تزال تمارسها الكثير من البلدان النامية التي ما تزال متخلفة في تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وفي وعيها الحضاري، كما لم تتخلص منها بعض الشعوب المتقدمة في تطورها الاقتصادي والاجتماعي، والذي مارس لديها في الماضي وقبل انتقالها إلى العصر الصناعي الحديث، ورغم ذلك فهي ما تزال موجودة حتى في الدول الأوروبية التي قطعت شوطاً كبيراً في تقدمها والذي نجده أحياناً في الصراع المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بين المحافظات التي كانت في السابق اقطاعيات. إنها ظاهرة غير حضارية ومتخلفة لا شك في ذلك. في فترة العباسيين صدرت فتوى عن دار الخلافة تقول بأن لا يجوز أن يكون خليفة على المسلمين ما لم يكن من آل قريش، باعتبار أن النبوة قد ظهرت بينهم، وادعوا أن النبي قال "الأئمة من قريش". لهذا التزم سلاطين الدولة العثمانية بهذه الفتوى تقريباً!
لا شك لديَّ بأن البروفيسور سعد الفاضل يطرح نصف الحقيقة حين يقول بأن العرب حاولوا وما زالوا يحاولون فرض عروبتهم على شعوب أخرى، وهو ما نراه في دول شمال أفريقيا أو الموقف من الشعب الكردي، ولكن ليس كل العرب من قام بذلك، بل الحكام العرب والجماعات الشوفينية والعنصرية من العرب، وهو ما نجده أيضاً لدى حكام آخرين مثل حكام تركيا وحكام إيران إزاء الكرد أو ما نعيشه حالياً من صراع بين كاتالونيا وإسبانيا. أي ليس الحكام العرب والعنصريين من العرب وحدهم بهذه الحالة السيئة، بل هي ظاهرة عنصرية ومتخلفة لا تزال ترفض الاعتراف بحقوق الإنسان وحقوق القوميات والشعوب في تقرير مصيرها بنفسها أو فرض هويتها على الشعوب الأخرى، أو ترى إنها أفضل منها!!
ثم يؤكد البروفيسور سعد الفاضل بأن هذا السلوك يجسد ثقافة العرب. وهذا القول يمثل نصف الحقيقة أيضاً، إذ إن هذه الثقافة هي ثقافة الحكام العرب والأفارقة، ومنهم حكام السودان، سواء أكانوا عرباً أم أفارقة أم الاثنين معاً، ثقافة الإسلام السياسي المتخلف، ثقافة الفئات الاجتماعية المهيمنة على الشعوب العربية وليست ثقافة القوى الديمقراطية والتقدمية بالعالم العربي. التمييز بين الاثنين ضروري حقاً. أؤكد ثانية هناك جمهرة من العرب تمارس سياسات حكامها في التمييز العنصري أو في الشوفينية العربية، ولكن لا يجوز تعميم ذلك.
ولكن الأخطر في مقال البروفيسور سعد الفاضل يبرز في اعتماده النظرية العنصرية البائسة والمتخلفة والعدوانية التي تتحدث عن الأجناس الثلاثة" التي تقترن بأبناء نوح الثلاثة الأساسيين، وهم: يافت وسام وحام. وهي رؤية دينية عنصرية متخلفة تؤكد ما يلي:
"ينحدر الأوروبيون البيض، وهم من الجنس الآري من يافت  (Japhet)؛ في حين ينحدر العرب واليهود وبقية الآسيويين من سام (Sem)، الذين يشكلون معا الجنس السامي؛ أما الأفارقة فينحدرون من حام ((Ham. وإن أبناء وأحفاد سام وحام يعتبرون من المغضوب عليهم الذين حكم عليهم بخدمة أبناء وأحفاد يافت حتى الأزل، باعتبارهم سادة وبسبب نقاوة دمهم وكونهم لم يرتكبوا خطايا أو ذنوب، في حين اعتبرت دماء أبناء سام وحام ملوثة وغير نقية، علما بأن هؤلاء الأخوة، إضافة إلى الأخ الرابع جانيثون (Ganithon) هم جميعا، وفق تلك الأساطير، من أبناء آب واحد هو نوح ((Noah المنحدر من آدم وحواء. وكان الحكم على أبناء وأحفاد كنعان (جانيثون) بالعبودية الأبدية، وأن يكونوا عبيدا للعبيد، كما جاء في ميثولوجيا الديانة اليهودية والمسيحية." (أنظر: د. كاظم حبيب، الهجرة المغاربية وواقع العنصرية والعداء للأجانب في بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، كتاب بثلاثة أجزاء موجود في مكتبة التمدن في موقع الحوار المتمدن، 2000. قارن أيضاً: Poliakow، Leon، Der arische Mythos، 1. Auflage، Junius Verlag- Hamburg،1993، S. 22).
لقد اعتمد الأوروبيون على هذه النظرية لا لغزو دول العالم واستعمارها فحسب، بل ولتحويل سكان آسيا وأفريقيا عبيداً لهم، ولنا في تاريخ اسبانيا والولايات المتحدة وهولندا وألمانيا خير تعبير عن هذا السلوك الاستعماري الإجرامي الشائن بحق الشعوب الآسيوية ولاسيما الشعوب الأفريقية. وقد شارك العرب في فترة الإمبراطورية الأموية والعباسية والعثمانية، بل وفي فترة الفتوحات الأولى، فيما أطلق عليه بالفتوحات الإسلامية، والتي كان هدفها استعمار الشعوب الأخرى واستغلالها واستخدامها لمصالحهم، وهي تجسيد لذات العقلية الاستعمارية، علماً بأن العرب وغيرهم قد مارسوا العبودية لا بحق السود وحدهم بل وبالأسرى الآخرين من البيض. ويمكن العودة بهذه الرؤية العنصرية إلى تاريخ الرومان واليونان أيضاً وتاريخ بعض الدول الأوروبية حتى الأمس القريب في جنوب أفريقيا وغيرها. ويمكن أن نجد شواهد على هذا السلوك في عدد من الدول الخليجية كالسعودية وقطر والإمارات وغيرها. كما إن الإسلام لم يحرم العبودية وامتلاك العبيد والجواري، وهي إشكالية كبيرة لا بد من إدانتها بقوة والمطالبة بمنع حصولها في أي زمان ومكان. 
إن النظرية العرقية، نظرية خاطئة وخطيرة ومهمتها اضطهاد الشعوب لصالح الدول الاستعمارية ولصالح الحكام والمسؤولين وكبار الإقطاعيين والرأسماليين، وهي ما تزال كذلك، ولهذا فالعربي الاعتيادي لا يميز بينه وبين الأفريقي أو السوداني، فكلاهما إنسان. ولكن التمييز يكون عند الحكام ومالكي وسائل الإنتاج والفئات الغنية التي تحاول اضطهاد واستغلال الإنسان. وعلينا أن نميز بين الحالتين.   
لا شك في أن للشعب السوداني تراث وتاريخ إنساني مشرف، إذ ساهم في بناء حضارة الإنسان في عهود مختلفة، ولا يختلف في ذلك عن أي شعب آخر. ولكن ليس كل تاريخ شعب السودان واحد. فالشعب السوداني خضع لاستغلال حكامه أيضاً، ومنهم الحاكم الحالي، تحت واجهات كثيرة بما فيها الدينية، وبالتالي لا يجوز القول إن تاريخ السودان أو العرب كله جيد أو كله سيء، بل فيه الغث والسمين، وكذا تاريخ كل الدول ومناطق العالم المختلفة.
من حق الإنسان أن يتبنى القومية التي يعتقد إنه منها، أو يعتنق الدين الذي يعتبره مناسباً، أو أن لا يعتقد بأي شيء من هذا القبيل، ويكتفي بكونه إنساناً يحمل رأيه وفكره ولا يتدخل أحد بشأنه في هذا الصدد. وبالتالي لا أجد ضيراً في أن ترى جمهرة من السودانيين في كونها عربية الهوية، ولكنها في الوقت ذاته أفريقية الهوية وشرق أوسطية الهوية ...الخ. أو أنها لا ترى كونها عربية الهوية بل أفريقية، كما في حالة البروفيسور سعد الفاضل. ولكن لا يجوز إهانة من يعتقد بهذا أو ذاك، إذ في ذلك محاولة لاستلاب حق الإنسان في الانتماء القومي أو الديني أو المذهبي. كما لا يجوز مخاطبة الشعب السوداني بهذه اللغة السمجة والخشنة.       
أنتم سودانيون، سواء أكنتم عرباً أم أفارقة، أم كنتم عرباً وأفارقة في آن واحد، فهذا لا يغير من الأمر شيئاً لدى الإنسان الاعتيادي، ولكنها تصبح مشكلة عند القوميين اليمينيين المتطرفين أو العنصريين، وبغض النظر عن الفقر أو الغنى، وبغض النظر عن الدين أو لون البشرة. نحن كلنا بشر وتجمعنا الإنسانية ويفرقنا الفكر المتطرف أياً كان هذا الفكر، ولاسيما الفكر العنصري أو التمييز الديني أو المذهبي.
أشعر إن في هذا المقال استهانة كبيرة وإهانة غير مباشرة وغير مقبولة لشعب السودان، سواء أراد الكاتب ذلك أن لم يرد، وهو إجحاف غير مبرر لا يجوز ممارسته مع شعب السودان وبكامله، إضافة إلى كون إصدار حكم مطلق على جميع السودانيين وبهذه الصورة السمجة غير مقبول بأي حال، كما هو غير مقبول حكمه على كل العرب. أتمنى على الكاتب، وهو أستاذ، أن يراعي في هذا الصدد جوانب عديدة بما في ذلك علم النفس الاجتماعي والسياسي!       
أما بصدد كون أبناء السودان يتحدثون، وربما يكتبون العربية، بفصاحة وسلامة أفضل من العرب، ففيه حكم مطلق. فهناك من السودانيين، سواء أكانوا عرباً أم أفارقة أم الاثنين معاً، ممن يتحدثون العربية بطلاقة ويجيدون كتابتها باعتبارها لغة الأم، كما هو الحال بين بقية العرب. كما يوجد بين أبناء العرب ومن السودان من لا يتحدث العربية بطلاقة أو يكتبها بصورة سليمة. والأمر يتعلق هنا بمستوى تعليم الإنسان وثقافته... وقدراته الفكرية.. إلخ، وليس لكونه سودانياً أم لبنانياً أم مصرياً أم عراقياً. وليس من باب الإساءة بأي حال أقول بأن الأخ البروفيسور سعد الفاضل قد وقع بأخطاء نحوية واملائية كثيرة حقاً ما كنت أتمنى أن يقع فيها، لكي يبرهن على حكمه المطلق. جرى تأشير مجموعة من الأخطاء باللون الأحمر وليس كلها. لم أعمد إلى تصحيحها.
ملاحظة: ارفق مع مقالي مقال السيد البروفيسور سعد الفاضل ليتسنى للقارئ والقارئة معرفة سبب مناقشتي لبعض مضامين المقال المذكور.

عروبة السودانيين الزائفه هي السبب في التمادي و التطاول عليها في الاعلام العربي بشكل عام ...*

*بروفسور سعد الفاضل.*

ايها السوداني ، ايها الأبنوسي ، قد تكون شديد السواد ، مفلس ، فقير ، تعيش في بلد متأخر جداً ، لكنك لست اقل من الاعراب في شئ و ليسوا أكرم منك في شئ ..

العربان امّم و قبائل ، فتجدهم في شبه جزيرتهم يتفاخرون بأصلهم و فصلهم ، فمن هو (عتيبي) يرى نفسه أفضل من (القحطاني) و من هو قحطاني يرى نفسه أفضل من (الشمري) و من هو شمري يرى نفسهم أفضل من (المطيري) و من هو مطيري يرى نفسه أفضل من (المري) ..الخ ، ثم تجد (قبائل نجد) يتفاخرون على (أهل الحجاز) و أهل الحجاز يتفاخرون بأصلهم على (اهل اليمن) .. و يجتمعون كلهم ليقللوا من أصل (عرب الشام و العراق الفينيقيون و الاشوريين) و يقولون ان نسبهم لا ينتهي الي معد بن عدنان و لا فهر و لا عمرو بن لحي و ثم يأتي في مؤخرتهم (المصريين) الذي يراهم العرب على انهم ليسوا من العربان تفصيلاً و يجتمع كل هؤلاء في التندر و التطاول على (اهل السودان) ...

هذه هي ثقافة العرب منذ (جرهم) و (خزاعه) و (قريش) و (قطفان) و (عاد) و (ثمود) .... تفاخر و تطاول و هجاء و ذم و حروب و شجاعه فارغه و سبي للنساء و غير ذلك ...

شأءت الاقدار ان يتناسى السودانيين اصلهم الحامي الممتد الى كوش بن حام بن نوح ، العرق الحامي الضارب في القدم ثم يعتنقون فكره غير مثبته علمياً لدرجة الإيمان و اليقين عن هجره عربيه ضخمه غيرت ديمغرافيا المنطقه و حولت السودانيين الي عرب ينتمون الي العباس عّم النبي عليه أفضل الصلاة و السلام ...

النتيجه :-

ايها السودانيون ؛ ماذا تنتظرون من شعوب تنتنفس عنصريه و تعيش في ماضٍ شديد القبليه ؟!

لن يعترفوا بكم كأخوة في نفس العرق أبد الدهر ، فهم لا يعترفون ببعضهم البعض ، أنتم في تاريخهم عبيد يستخدمونهم لرعاية الإبل و خدمة الحجيج و جمع الأخشاب فقط و لم تكونوا يوم ساده او أنداد لهم ...

و في المقابل تناسيتم ان اجدادنا في كوش و نبته و مروي اسسوا حضارات قديمه ذُكرت في مشاهد منها في الكتب المقدسه و اهتم بها اهل الغرب اهتماماً شديد فاق اهتمام اَهلها بها ، حتى ان المصريين شعروا بخطوره شديده من ذلك مما سيؤثر سلباً على حضارتهم الفرعونية ..

يؤسفني اننا لا نمتلك دراما ملهمه تبعث في السودانيين حب الانتماء لهذا الوطن الغالي ، لدينا فنون مآسيه لا تقل روعه عن فنون العرب ، فنون تحكي عن النوبه و البجه و العنج و الانقسنا و الفور ، تعبر عن تاريخ غني بالتجارب الإنسانيه و الحضارات القديمة ، تعكس الجمال النقى و الرهيب الموجود في تلك الوجوه السوداء الابنوسيه شديدة الطيبه و سريعة الغضب ...

نعلم ان السودان هو البلد الوحيد في المنطقه الذي لم تطاله الفتوحات الاسلاميه و إنما انتشر الاسلام عن طريق التجاره في الغالب الاعم ...

الحمد لله رب العالمين نجيد اللغه العربيه بفصاحه أفضل من اَهلها و نقرأ القران و متمسكون بكتاب الله و سنة النبي الكريم عليه أفضل الصلوات وازكى التسليم ...

اشعر بالاشمئزاز عندما اجد سودانيون يسبون و يلعنون من يصفهم بالدونيه و عدم العروبه بألفاظ نابيه قبيحه ، اعزائي ، ترفعوا عن النزول لهذا المستوى ، لا تشعروهم بأن لهذه الاعمال قيمه كبيره ..

قولوا لهم لسنا عرباً و نحن سودانيون ، لنجرب مره ان نجتمع في سودانيتنا ...

نعم نحن مفلسون ، فقراء غير متعلمين ، نعيش في بلد شديد الفقر ، لكن و الله لسنا اقل من اي شخص في هذا الكوكب

لننهض بفنوننا و نعكس عمقها الدافئ و الحقيقي للجميع ليس من اجل إثبات الذات و لكن لتكريم حضارات و ثقافات قامت و ترسخت في هذه البلاد ، لننهض بالدراما ، الأدب ، الغناء ، المسرح ، الكوميديا ، السينما و حتى الرياضه ، فتلك القوى الناعمة صارت اكثر تأثيراً من الاسلحه النوويه .. عندها لن نضطر ان ندافع عن شئ ، و لن يحاول اي رخيص ان يتربص بتاريخنا و اصلنا ..

ما دمنا نستهلك فنونهم و دراماتهم و أعمالهم سوف نتبعهم الي الابد ...

*منقول من صفحة بروفسور سعد الفاضل على الفيس بوك*


   


________________________________________

221
د. كاظم حبيب
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادية الحاكمة بالعراق!

انجزت هذه الدراسة بهدف عقد مؤتمر خاص لمناقشة أوضاع أتباع المكونات الدينية الأخرى المضطهدة بالعراق بمشاركة
المنتدى العراقي لمنظمات حقوق الإنسان
هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق
منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق، ألمانيا (أمرك)

برلين – بغداد
 2018


لقراءة الموضوع كاملا انقر على الرابط التالي
http://www.ankawa.com/sabah/Study.pdf

222
سبيل التعامل الديمقراطي بين الرأي والرأي الآخر!!

صديقي العزيز

قرأت رسالتك الكريمة المليئة بالآلام والشجون والخشية على العراق القادم، التي تزيد كثيراً ما تزيد من ألام الجسد المنهك الذي نحمّله الكثير. لا شك في أن لك رأي، ولي رأي، وللآخر أو الآخرين رأي آخر، وليس هناك من يحكم على صواب هذا الرأي أو ذاك سوى الأيام. المنهج والتجربة والواقع يساعدان على التحليل السليم شريطة ممارسة المنهج التحليلي بشكل صائب، وكذلك القراءة السليمة للواقع والفهم المدقق للتجربة. وهي مسائل تختلف من واحد إلى آخر، ومن حزب إلى حزب، وعلى وفق الكثير من المؤشرات. يتعذب البعض لأن الآخر أو الآخرين لم يأخذوا برأيه ومارسوا رأيهم، وربما تنشأ عن ذلك كارثة. ولكن الآخر أو الآخرين، الذين لهم رأي آخر، ربما يفكرون بنفس الطريقة، وبالتالي، من هو الصحيح؟ لا يمكن البت بذلك سوى الواقع الحياتي التي يمكن ان يدلل على صواب أحد الرأيين أو يقع بين بين! 
غالباً ما كنت في حياتي السياسية والعامة أفكر بطريقة أشعر بأنها ضرورية بعد مرور 83 عاما من عمري وما يقرب من 70 عاما في الحركة الطلابية والوطنية والشيوعية. أفكر باني على صواب والآخر مخطئ، ولكن أضع مجالاً في ان يكون الآخر على صواب وانا المخطئ، ولو بقدر معين! أشعر بأن ليس هناك لونين فقط أسود وابيض، بل هناك أطياف لونية اخرى بينهما، وعليّٓ ان لا اعتقد بأن رأيي هو الأصوب دوماً، رغم وجود دلائل تشير الى صواب الرأي الذي أتبناه إزاء هذه القضية أو تلك، وليس دوماً. لقد مررنا بتجارب مريرة، ولكن الحياة ما تزال أكثر غنىً من تجاربنا الشخصية. ففيها الكثير من المفاجئات التي تجعلني لا أقطع بصواب رأيي، رغم قناعتي بصوابه!
كنت حين أُعتقل، أفكر كثيرا كيف سأواجه الجلادين وأساليبهم الوحشية في التعذيب اليومي؟ هل أنا قادر على الصمود أمام وحشية الجلادين؟ كنت لا أقبل باليقين، بل أقبل بالشك لأتغلب عليه بالصراع نحو الصمود. كان هذا في الخمسينيات من القرن العشرين، حيث كان التعذيب شرساً وموجعاً في أقبية التحقيقات الجنائية، وفي سجن بغداد وسجن بعقوبة، وكان هذا في الأمن العامة مع الجلادين البعثيين وأساليبهم الأكثر وحشية في التعذيب النفسي والجسدي في العام 1978. وأدركت في حينها وحتى الآن أهمية النظرة الشكية للأمور الإنسانية، وهي التي ساعدتني على الصمود والحفاظ على كرامتي وكرامة الحزب الذي أنتمي له والفكر الذي اقتنعت به وأحمله معي دوماً.
في سني النضال المديدة تعرفت أيضاً على بعض، وليس الكل، من كان واثقا من نفسه وسقط تحت وطأة الخوف حتى قبل التعذيب، رغم إعلانه الشجاعة التي كان يرغب في تحقيقها إنسانيا، وكان يطالبنا بالصمود ونحن في الطريق إلى سجن بعقوبة، ولكنه كان أول وآخر من وقع على البراءة من بيننا، نحن العشرة الذين تمّ نقلهم في العام 1958 إلى سجن بعقوبة وقبل ثورة تموز بعدة شهور. أنا واثق من الفكر الذي أحمله ومن رأيي، وأثق بنفسي، ولكن اترك للنفس البشرية، بضعفها وقوتها، ان تعيش الامتحان وتتغلب على الضعف وتعزز قدرتها على الثبات. يشعر الإنسان وهو بين أيدي الجلادين بالسرور، رغم أوجاع التعذيب، حين يرى الفشل والخزي في وجوه الجلادين بعد أن عجزوا عن كسر إرادة الإنسان المناضل!   
وضع العراق ليس عاديا، فهو مليء بالتعقيدات الكبيرة والمصاعب الجمة. لا يمكن ان نركن لرأي واحد وتحليل واحد أو تفسير واحد، بل لا بد من رؤية كل الاحتمالات الأخرى، وأن نستمع إلى كل الآراء، تلك التي نتفق معها أو نختلف، نؤيدها أو لا نرفضها، إذ من حق الآخر أو الآخرين أن يروا غير ما تراه أو أراه، خاصة وأنهم ليسوا أفراداً، بل هم حزبا سياسيا له نضاله المجيد وخبرته وقيادته ورأيه ومسؤوليته. لقد أبديت رأيك واوضحت تفاصيله وعواقبه، ولكنه لم يقنع جمهرة كبيرة من الآخرين أو الحزبيين، في حين هناك من أيد رأيك. فلنرى كيف تسير الأمور!
تعذيب النفس في مثل هذه الأحوال غير نافع، بل له عواقب سلبية. من جانبي التزم بالقاعدة الفقهية القائلة "رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ."!
لا أؤيد كتابة مقالات حادة لأنها توتر الأمور مع قوى لا نريد لها الأذى ولها رأيها. الحوار بيننا ضروري والسؤال هو: بعد ان حصل ما حصل، كيف نمنع وصول الأكثر وحشية وعدوانية الى دست الحكم ولاسيما رئيس الوزراء السابق، أو أحد المسؤولين عن المليشيات الطائفية المسلحة التي ساهمت بإغراق البلاد بالموت والفساد. يفترض، كما أرى، أن ندين النظام الطائفي المحاصصي، ندين إيران وكل من يقف معها، ندين كل القوى الأجنبية التي تتدخل بالشأن العراقي، ولاسيما الولايات المتحدة وقطر والسعودية، ونطالب بإقامة دولة ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي حديث، ونلح في ذلك ونفضح الفساد والفاسدين ونطالب بمحاكمتهم. علينا أن نعمل من أجل وحدة وتمتين وتعزيز وحدة القوى المدنية والديمقراطية والعلمانية لمواجهة أوضاع جديدة، ربما تحمل معها مفاجئات جديدة، وربما أكثر صعوبة مما هي عليه الآن.
كاظم حبيب
06/06/2018

223
المنبر الحر / الحركة القرمطية
« في: 21:10 04/06/2018  »
د. كاظم حبيب

الحركة القرمطية
نشر الكاتب السيد الدكتور رضا العطار بتاريخ 29/05/2018 مقالاً في موقع (صوت العراق) تحت عنوان " دولة القرامطة تماهت بالشريعة الاسلامية وطبقت الاشتراكية البدائية وتغزلت بالمجوسية من بعيد! ح 7"، تحامل فيه بقسوة على الحركة القرمطية مستنداً في ذلك إلى بعض الكتاب العرب الذين اتخذوا أساساً موقف العداء من كل الحركات الفكرية والسياسية والاجتماعية المادية في التاريخ والفكر العربي والإسلامي، ومنها الحركة القرمطية وحركة الزنج مثلاً، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر علي أحمد باكثير، في كتابه الموسوم "الثائر الأحمر. أنشر هنا ما ورد في كتابي الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين في المجلد الأول منه (11 مجلداً) الصادر بتاريخ 2013 عن دار أراس -أربيل- كردستان العراق-العراق، وتحت عنوان "الحركة القرمطية" النص الآتي. وبعد الانتهاء من نشر هذا النص، سأبدأ بمناقشة ما نشره الدكتور رضا العطار بهذا الصدد. كاظم حبيب

كانت الحركة القرمطية واحدة من بين مجموعة مهمة من الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية المعارضة التي ظهرت في العهد العباسي في العراق وفي مناطق أخرى من الدولة العباسية، مثل البحرين واليمن والأحساء والشام1، التي عبرت في اتجاهاتها الأساسية عن حيوية فكرية وثقافية متميزة وعن تطلع مشروع نحو العدالة الاجتماعية وعن استعداد كبير لمقاومة الطغيان والظلم. واستندت أكثر هذه الحركات الفكرية والسياسية إلى أرضية الدين الإسلامي في بلورة افكارها وصياغة مهماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إلا أن هذه الحركة كانت متميزة، بالقياس إلى بقية الحركات الفكرية والسياسية في العراق، بسبب اتخاذها أبعاداً اجتماعية أكثر شمولية وعمقا وأكثر التصاقاً بحياة الغالبية الواسعة من كادحي الريف والمدن العراقية في الوسط والجنوب، وأكثرها تأثرا بالفكر الفلسفي اليوناني المتحرر، وأكثرها استفادة من الحضارات التي مرَّ بها أو عاشها العراق القديم، أو الثقافات المجاورة التي تأثر بها المجتمع العراقي حينذاك، وخاصة الثقافة الفارسية. وعند متابعة أفكار هذه الحركة ونشاطاتها السياسية والاجتماعية وما قامت به وما كانت تنوي تحقيقه، أو بتعبير آخر برنامجها البديل للمجتمع والدولة العباسية، سواء كان ذلك في العراق، أم كانت امتداداتها في البحرين، على وجه الخصوص، وفي بلاد الشام واليمن والأحساء، يجد الباحث من الأدلة ما يؤكد أنها كانت قد تجاوزت عصرها، من الناحيتين الفكرية والسياسية، وكذلك في الجوانب التنظيمية، بقرون عديدة. ويمكن أن يلاحظ ذلك بوضوح فيما طرحته حركة القرامطة من أفكار واتجاهات وآفاق سياسية واقتصادية واجتماعية ذات مضامين إنسانية استطاعت في ضوئها على تعبئة كثرة كاثرة من الأنصار والأتباع حولها، كما تسنى لها ممارسة تلك الاتجاهات على أرض الواقع الفعلي، في البحرين ولعقود كثيرة. والحركة القرمطية تلتقي في بعض أبرز أهدافها مع الحركة البابكية في إيران وحركة الزنج في العراق مثلا، رغم وجود ما يميزها عنهما أيضا.
إن دراسة الفكر القرمطي وأفكار الكثير من الحركات الفكرية في ذلك العصر تشير إلى أن أغلبها انطلق من بانوراما فكري-سياسي شيعي واسع ومن مواقع سياسية ودينية معارضة للنظام السياسي وللدين الرسمي اللذين كانا قائمين حينذاك. فقادة الحركة القرمطية انحدروا من صفوف الحركة الإسماعيلية أو تبنوا أفكارها ثم اختلفوا معها2. كما أن أرضيتهم الشيعية لم تجعلهم متطابقين مع الشيعة في العديد من وجهات النظر. اختلفوا عنهم في الموقف الثوري المتحرر واتسامهم بروح التسامح إزاء الأديان والمذاهب الأخرى، كما أنهم بنوا موقفهم الفكري والسياسي على أرضية الواقع الاجتماعي وانطلاقا من مصالح الفئات الأكثر كدحا وحرمانا في المجتمع، كأبناء العشائر العربية الفقيرة والفلاحين الأنباط والزنوج الكادحين في المناطق الواقعة بين الكوفة والبصرة، أي على فلاحي الريف وسكان البادية وحرفيي المدن الأكثر تعرضا للاستغلال والاضطهاد والحرمان. وتميزت حركة وأفكار القرامطة لا برؤية واقعية للمجتمع فحسب، بل وبنزعة مادية عقلانية لا تهدف إلى شرح الواقع السيئ القائم ورفضه والتبشير ضده فحسب، بل كانت تسعى أيضا إلى تغييره وإقامة بديل عنه. وإذا كان هذا الاتجاه الاجتماعي والسياسي المغلف بمواقف دينية ذات اتجاهات معتزلية وإسماعيلية أو شيعية عامة غير واضح في بداية الدعوة للحركة وأفكارها، مما ساعد على إهمال مكافحتها من جانب الدولة العباسية والولاة في مناطق نشاطها، فأنها واجهت فيما بعد حملات واسعة من جانب أعدائها لتشويه طبيعتها واتجاهاتها الفكرية والسياسية ومضامينها الاجتماعية والاقتصادية والدينية في محاولة من هؤلاء الأعداء للإساءة البالغة لسمعة ونشاط الحركة وقيادتها والعاملين فيها، إلى جانب ممارسة الإرهاب الدموي المتواصل ضد دعاتها والملتزمين بأهدافها والمدافعين عن أفكارها. ويستشف من مصادر كثيرة تبحث في وتتحدث عن الحركة القرمطية بأنها كانت من أكثر الحركات الفكرية في الإسلام تحررا وثورية ودعوة لإقامة العدالة الاجتماعية بين الناس وإرساء الحكم على تلك الأسس. وكان القرامطة مقتنعين بأن الحكام العباسيين الذين يتحدثون باسم الإسلام كانوا أبعد الناس عن المبادئ التي بشر بها الإسلام.
لم تكن الدولة العباسية وحدها تحارب القرامطة وتحاول القضاء على حركتهم السياسية، بل شاركت معها جماعات وشخصيات دينية بارزة سعت إلى استخدام الأساليب المعروفة في مكافحة مثل هذه الحركات، باعتبارها حركة خارجة عن الدين الإسلامي وتقف ضده، وهي في نظرهم ذات أهداف الحادية ومزدكية أو مجوسية أو مانوية أو حركة زنادقة. وكان أبو حامد الغزالي من أكثر المتطرفين في مناهضتهم ورفض توبتهم3 ، والذي كان لا يعني سوى حل سفك دمهم، في حين تشير بعض المصادر إلى أن أبا حنيفة قد أفتى بالقتال إلى جانبهم حينذاك، وأن أخرين رفضوا اعتبارهم خارجين عن الإسلام. ويمكن فيما يلي ايراد نماذج من أساليب الإساءة للقرامطة:
•   أورد ميكال يان دي خويه في كتابه عن القرامطة، نقلا عن المقريزي، ما يلي: "وأقام الدعاة في كل قرية رجلا مختارا من ثقاتها يكلف بجمع كل ما يملكه أهل القرية من ماشية وحلي ومتاع وما إليها... لم يعد أحد منهم يملك شيئا سوى سيفه وسلاحه. فلما ترسخت هذه المؤسسة، أمر قرمط دعاته بجمع جميع النساء ذات ليلة ليختلطن بجميع الرجال من غير تمييز. كان ذلك في نظره منتهى الصداقة والاتحاد الأخوي. وإذ آنس من نفسه السيطرة التامة على نفوسهم وتيقن من طاعتهم له، أباح لهم النهب وكل ما شابهه من التجاوزات، وعلمهم ان يخلعوا نير الصلاة والصوم وسواهما من تعاليم الإسلام، قائلا لهم إن معرفة المعلم والحقيقة التي أطلعهم عليها تكفيهم مؤونة كل ذلك. وأنهم إن ثبتوا في الأيمان فلا خوف عليهم من المعصية والعقاب"4. ويؤكد الكاتب نفسه إلى أنه ليست هناك أية دلائل تؤكد مثل هذه السلوكية إزاء النساء عند القرامطة، وهي تهم وردت في كتابات أعداء القرامطة، إذ أن كل الدلائل تشير إلى أنهم كانوا يشكلون فرقة من الفرق الإسلامية الأكثر وعياً وتقدماً واجتهاداً والتي كانت قد تصدت بحماس ومسؤولية ضد حكم الظلم والفساد. ومن الممكن أن تكون للقرامطة اجتهادات معينة إزاء الصوم والصلاة أو إزاء الحجر الأسود في الكعبة وغيرها من القضايا الدينية، ولكن من غير المعقول والصعب حقا اتهامهم في ظروف المجتمع العراقي او البحريني أو الإسلامي حينذاك وبشكل عام بإشاعة أو إباحة المرأة بين الرجال وبالطريقة التي تحدث عنها أعداء الحركة القرمطية. ولكن هذا لا يعني أن المرأة لم تتمتع بالحرية في عهد القرامطة والتي كانت تشارك في الإنتاج وفي تقديم الدعم المالي والعيني للحركة. جاء في كتاب محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي الموسوم "كتاب كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة" حول سلوك القرامطة ما لا يعقل في ظروف العراق حينذاك، إذ كتب حول طريقة الدعوة وكسب المريدين الجدد، إذ بعد أن يبلغ "المخدوع الجديد" الدرجات الأربعة، أي التخلص من الصلاة، ثم السماح بشرب الخمر ولعب الميسر، ثم التحرر من الصوم، ثم التخلص من الطهارة، ولم يبق له سوى درجة واحدة ليصل إلى مبتغاه فيقول: "يا مولانا إن عبدك فلان قد صحت سريرته، وصفت خبرته، وهو يريد أن تدخله الجنة، وتبلغه حد الأحكام وتزوجه الحور العين، فيقول له: قد وثقته وأمنته؟ فيقول يا مولانا قد وثقته وأمنته وخبرته فوجدته على الحق صابراً ولأنعمك شاكراً، فيقول علمنا صعب مستصعب، لا يحمله إلا نبي مرسل، أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان فإذا صح عندك حاله، فاذهب به إلى زوجتك، فاجمع بينه وبينها، فيقول سمعا وطاعة لله ولمولانا، فيمضي به إلى بيته، فيبيت مع زوجته، حتى إذا كان الصباح، قرع عليهما الباب، وقال: قوما قبل أن يعلم بنا هذا الخلق المنكوس، فيشكر ذلك المخدوع، ويدعو له، فيقول له: ليس هذا من فضلي، هذا من فضل مولانا، فإذا خرج من عنده تسامع به أهل هذه الدعوة الملعونة، فلا يبقى أحد إلا بات مع زوجته، كما فعل ذلك الداعي الملعون ثم يقول له: لا بد لك أن تشهد المشهد الأعظم عند مولانا، فادفع قربانك، فيدفع اثنى عشر دينارا5، ويصل به ويقول يا مولانا، إن عبدك فلان يريد أن يشهد المشهد الأعظم، وهذا قربانه، حتى إذا جن الليل ودارت الكؤوس، وحميت الرؤوس وطابت النفوس، أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم، فيدخلن عليهم من كل باب، وأطفأوا السرج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه في يده، ثم يأمر المقتدي زوجته أن تفعل مفعل الداعي الملعون، وجميع المستجيبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل له فيقول: ليس هذا من فضلي، هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين فاشكروه ولا تكفروه، على ما أطلق من وثاقكم ووضع من أوزاركم، وحط عنكم آصاركم ووضع عنكم أثقالكم، وأحل لكم بعض الذي حرم عليكم جهالكم (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)"6. من قراءة هذا النص الطويل الذي أوردته يدرك الإنسان مدى الكراهية التي كانت تتحرك في صدور جمهرة من المسلمين المتزمتين المرتبطين بالسلطة حينذاك إزاء هذه الحركات التي استطاعت أن تكسب تأييد جمهرة الكادحين وأن هؤلاء عجزوا عن محاربة الحركة فكريا وسياسيا فتوجهوا صوب الدس الرخيص عليها بطريقة تعبر عن مرض نفسي يعاني منه هؤلاء الكتاب أو رجال الدين المتزمتين7. اتُهم القرامطة بالإباحية والكفر والارتداد عن الإسلام. واتفق أكثر الكتاب المسلمين حينذاك على توجيه هذه التهم إليهم لا لأنها صحيحة أو اختبروها بأنفسهم، بل كانت ترديدا لما قاله عنهم بعض رجال الدين من أصحاب السلطة حينذاك والمدافعين عن الخلافة العباسية بغض النظر عن مظالمها وعن عدالة القضية التي كانت هذه الحركة تدافع عنها. لقد كان البعض منهم يأخذ عن البعض الآخر ما ورد في كتاباته دون تمحيص أو تدقيق. وليست هناك حركة معارضة جادة ظهرت في تلك الفترات إلا واتهمت بمروقها عن الإسلام والإباحية والكفر وتوجهت نيران الإسلام الرسمي ضدها. إنها الأداة التي تستخدمها القوى الظلامية والمحافظة لمهاجمة حركات التحرر الفكري والتنويري في كل مكان وزمان، وهي ما تزال تواجه قوى التغيير في المجتمعات المختلفة حتى الوقت الحاضر، وخاصة في المجتمعات التي ينتسب أكثر أفرادها إلى الإسلام.               
•   يورد هادي العلوي عن اغتيال أبو سعيد الجنابي منشئ الحكم القرمطي في البحرين ما يلي:
"منشئ الحكم القرمطي في شرق الجزيرة العربية. قتله خادمه في الحمام. ولم يذكر سبب مباشر لقتله لكن أبن العماد يقول إنه راود الخادم في الحمام فاضطره إلى قتله. وهذا أتهام مندرج في عداد التشنيعات التي روجها الإعلام السني ضد الباطنية ولم يعرف زعماء القرامطة مجون أو فجور يجيز الشك في سلوكهم. إذا استثنينا الحسن الأعصم حفيد أبو سعيد الذي حكم بعده بستين عاما وكان سيء السلوك والسياسة معا وبسببه اضطر القرامطة إلى إبعاد أسرة الجنابي عن الحكم"8. وتشير الكثير من المصادر إلى أن مؤامرة كانت قد حيكت لقتل زعماء القرامطة، إذ أن الخادم قد استدعى آخرين بحجة دعوتهم من قائدهم أبو سعيد الجنابي ثم اغتالهم حتى انتبه إلى ذلك أحدهم وقام بمساعدة آخرين بالقبض على الخادم9. ويعتبر الكاتب علي أحمد باكثير أكثر الكتاب العرب المعاصرين حقدا وكرها وتشنيعا بالقرامطة. ويمكن للإنسان أن يطلع على تشنيعاته المبتذلة وغير المعقولة والمسيئة للحركة القرمطية في كتابه الموسوم ب "الثائر الأحمر" الصادر في القاهرة. ولعب الحنابلة، والغزالي على نحو خاص، دورا كبيرا في السعي من اجل تشويه سمعة القرامطة والإساءة لهم. كما كانوا أشد خصوم المعتزلة، باعتبارهم جماعة كافرة، وساهموا مساهمة كبيرة في اضطهادهم10.
كانت تجربة القرامطة في العراق غنية جدا وذات قيمة تاريخية من جوانب ثلاثة، هي: الجانب الفكري والجانب الاجتماعي والسياسي-الإعلامي والجانب التنظيمي.
ظهرت الحركة القرمطية في نهاية النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، أي في فترة نمت فيها ونشطت الاتجاهات الشيعية وحركة المعتزلة والمتصوفة وإخوان الصفا وخلان الوفا. واتسع نشاط هذه الحركة وتعززت مواقعها وبدأت أولى فعالياتها ضد الدولة العباسية في فترة كانت الحركة البابكية قد سبقتها، ثم تزامنت مع حركة الزنج بقيادة على بن محمد في العقدين السادس والسابع من القرن الثالث الهجري. وكان ظهورها الأول في الكوفة وفي المنطقة الممتدة حتى البصرة وبين أوساط النبط والزنج من الفلاحين وبين أفراد العشائر العربية في المنطقة التي كانت تعاني من الحرمان ومن استغلال بشع. كما انتشرت أفكار الحركة في أوساط الحرفيين في الكوفة والبصرة. وكانت هذه المناطق بشكل عام مواقع تعرفت قبل ذاك على أفكار ونشاطات الحركات الشيعية والمعتزلة والإسماعيلية والمتصوفة. وكان لهذا الواقع تأثيره البارز على الجانب الفكري لحركة القرامطة، إذ كان فكرا متفردا جمع بين بعض أبرز مقولات المعتزلة مثل خلق القرآن واعتماد التأويل في تفسير القرآن والسنة، إضافة إلى الأخذ بمبدأ العدالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا. كما أنها أخذت عن الشيعة، وبحرية نسبية، مفهوم الإمامة، وكذلك القول بالمهدي المنتظر. ومن الجدير بالإشارة إلى أن "المنتظر" الذي يتحدث عنه الشيعة لا يبرز عند المسلمين الشيعة بمختلف فرقهم فحسب، بل يبرز عند أديان اخرى وتحت أسماء أخرى، تحدثت وآمنت بعودة "منتظر" ما، وإن كان رؤيتها له والمهمات التي يعود من أجلها متباينة نسبيا، كما هو الحال مع "الديانات السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية.“ فالقول بالمنتظر جاء ليعبر عند المسلمين الشيعة، على نحو خاص، رفضهم للواقع الفاسد القائم وسعيهم من خلال "المنتظر القادم" إلى تغيير ذلك الواقع، إنها صرخة المستقبل عند العاجزين عن تغيير الواقع الذي يعيشون فيه والمرفوض منهم، إضافة إلى أنه يفتح باب رزق أمام تلك الحركات لتأمين موارد مالية للحركة. ويبدو أن قادة الحركة كانوا يدركون الطابع الرمزي والشعبي لفكرة المنتظر والتي تجلت فيما أوصى به أبو سعيد أتباعه في البحرين للتعرف على شخصية المنتظر القادم من أجل إبعادهم عن محاولات الذين يدّعون النبوة والإمامة ويقدمون أنفسهم على أنهم المنتظر الذي طال انتظاره.
اعتمد الفكر القرمطي على الموقف العقلي المشحون بنزعة مادية، سواء عن وعي فلسفي من جانب قادة الحركة أم عن تعامل عفوي لا يخلو من وعي نسبي في كل الأحوال. وهذه النزعة العقلانية والمادية من جهة، وتحدر قادة الحركة من أوساط شعبية كادحة من جهة أخرى، هي التي ساعدت الحركة في أن تكون قريبة من الواقع ومن الناس ومن معاناتهم اليومية، وبالتالي في تبني برنامج ثوري طموح ومتقدم. ويبرز فهمهم للواقع الاجتماعي والديني والسياسي حينذاك من الاسم الذي أطلقوه على حركتهم وليس الاسم الذي اطلق عليهم والذي عرفوا به حتى الآن، واعني به "القرامطة11" نسبة إلى حمدان القرمطي، إذ كانوا يسمون أنفسهم، كما يشير إلى ذلك حسين مروة عن عليان في (القرامطة في العراق)، "المؤمنون المنصورون بالله والناصرون لدينه والمصلحون في الأرض.“
وكانت الحركة في منهجها العقلي - التأويلي تسعى لا إلى فهم الواقع ونقده، بل إلى تغييره، أي إلى إقامة سلطتها السياسية وإلى تنفيذ برنامجها الاجتماعي والاقتصادي. ومع أن قرامطة العراق عجزوا عن تحقيق هدف الوصول إلى السلطة، فأن أكثر من ظاهرة وممارسة تشير إلى وجهتهم الاجتماعية، سواء في طريقة تعاملهم مع بعضهم في المناطق المحيطة بالكوفة وفي "دار الهجرة" وفي المناطق الأخرى التي وجدوا فيها، أم في طبيعة الدولة التي أقامها قرامطة البحرين. من هنا يمكن الإشارة إلى أن الحركة القرمطية لم تكن مجرد حركة فكرية تنويرية مجددة فحسب، بل كانت حركة سياسية اجتماعية ثورية أو انقلابية تطمح إلى إقامة العدل والمساواة بين الناس وترفض الظلم والطغيان وتتصدى لهما. ويبدو للباحث أن عوامل خمسة ساعدت على انتشار أفكارهم بين الكوفة والبصرة حينذاك، ومن ثم في مناطق أخرى من الدولة العباسية وهي:
•   انتشار الظلم والفساد على نطاق واسع وغياب العدالة الاجتماعية في مجتمع الدولة العباسية، إضافة إلى ابتعاد الخليفة العباسي والولاة عن الحكم وفق ما أمر به الدين.
•   تعرض النبط والزنج والموالي وكذلك بعض العشائر العربية إلى استغلال بشع من جانب المستحوذين على الأراضي الزراعية في هذه المناطق وفي عموم العراق وبقية مناطق الدولة العباسية، إضافة إلى التمييز بين الناس في غير صالح الكادحين والفقراء والموالي.
•   التزام قادة الحركة القرمطية بمبادئ اجتماعية وأخلاقية سامية، واستنادهم إلى أرضية دينية واقعية يفهمها الكادحون المعرضون للاستغلال والظلم على نحو خاص. يقول الدكتور عبد العزيز الدوري، نقلا عن ابن الأثير، بأن الدعوة القرمطية انتشرت "بين الفلاحين الجهلة الذين كانوا يئنون من جشع الجباة واستغلال الملاكين"، كما "انتشرت الحركة بين اهل الحرف وعوام المدن، وقد كان مستوى معيشتهم واطئا،..."12. ومنه يتبين للإنسان بأن هذه الفئات الكادحة لم تكن فقيرة ومستغلة فحسب، بل وكانت محرومة من كل خدمات الدولة العباسية، وكانت تئن تحت وطأة الجهل والتخلف. إلا أن هذا لم يمنعها من وعي أوضاعها المزرية ورفضها ومقاومتها بقوة السلاح لتلك الأوضاع. فالقرامطة لم يرفضوا الوضع القائم فحسب، بل قدموا للناس بديلا فكريا وسياسيا معقولاً يقوم على مبدأ التعاون والألفة فيما بينهم. وقد كان أبو حامد الغزالي يستخف بهذه الفئات الاجتماعية الكادحة التي كانت تلتحق بهذه الحركات السياسية والاجتماعية نتيجة إدراكها لواقعها التعس والحيف النازل بها، وكان يعتبرهم جهلة لا يفقهون حيث يقول عنهم "والعامي الجاهل يظن أن التلبيس بالأديان والعقائد مثل المواصلات والمعاقدات الاختيارية، فيصلها مرة بحكم المصلحة ويقطعها أخرى"13. وهو في هذا يدل عن ابتعاده عن حياة الناس وسكناه في برجه العاجي حينذاك.   
•   استعدادهم الكامل لخوض النضال ضد الظلم والطغيان والبرهنة عليه من خلال خوض المعارك المسلحة ضد الدولة العباسية والولاة بشجاعة فائقة وحفظهم لأسرار العاملين معهم نتيجة إيمانهم بالقضايا التي كانوا يناضلون في سبيلها، واستعدادهم الثابت على الموت في سبيلها.
•   التسامح الديني الذي تميزوا به. فهم من جانب كانوا مؤمنين بقضايا ورافضين لقضايا أخرى تبعدهم عن بعض الفرق الإسلامية الشيعية أو عن اهل الحديث، ولكنها في الوقت نفسه كانت لا ترفض أداء اولئك الناس لطقوسهم الدينية وفي الجوامع. وهي في هذا أيضا تقدم ظاهرة جديدة ومهمة في الحركات الفكرية الإسلامية في العصر العباسي لم تظهر بالضرورة لدى الكثير من تلك الحركات السابقة لها أو التي تلتها. وترد أكثر من إشارة في المصادر التاريخية إلى أن القرامطة قاموا بهدم المساجد، إذ يؤخذ ذلك عليهم باعتباره الدليل على كفرهم وبعدهم عن الإسلام. يشير الكاتب عارف تامر في كتابه الموسوم "القرامطة: أصلهم-نشأتهم-تاريخهم- حروبهم"، وانسجاما مع رأي الدكتور حسن إبراهيم وطه أحمد شرف، إلى ما يلي: " وأما عن تهديم المساجد فقد نرى أنه من الجدير تكرار القول: بأنه لم يكن ذلك إلا بعد أن يسمع القرامطة في هذه المساجد إقامة الخطبة باسم العباسيين على ما هم عليه من الفسق والفجور. هذا بالإضافة إلى مسبة أهل البيت الفاطميين"14. وهو في هذا لا يقدم الحجة على سلامة مثل هذه الأعمال. إذ إنها تبقى مرفوضة في كل الأحوال.
ويؤكد عدد من الباحثين تأثير القرامطة الملموس على مشاعر الناس ووعيهم وتنامي عدد أتباع الحركة واتساع رقعة نشاطهم الدعائي وتشكيلهم خطرا على سلطة الدولة العباسية. ويشير حسين مروة في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية إلى هذا التأثير فيقول: “.. ويدلنا على مدى هذا الخطر عمقا واتساعا ما ذكره أبن الاثير من أن أحد قواد جيش المعتضد فاجأ القرامطة في أحد مراكزهم من منطقة الكوفة عام 287 هجرية، فقتل رؤساءهم وأسر الآخرين ولكنه اضطر إلى تسريحهم جميعا لأنهم كانوا من الفلاحين، ولأن قتلهم أو إبقاءهم في الأسر يومئذ يعني تعطيل الأرض هناك من الزراعة. ففي هذه الواقعة دلالة على الجانب الطبقي من القضية أولا، وعلى كثرة الفلاحين الداخلين في الدعوة القرمطية ثانيا، إلى حد أن غيابهم عن الأرض كان يؤدي إلى شلل حركة الزراعة في المنطقة"15. إن اتساع القاعدة الشعبية للحركة وتعزز مواقعها بين الفلاحين في ريف الفرات الأوسط والجنوب من جهة، وعدالة القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي طرحتها الحركة في حينها من جهة ثانية، وشدة الظلم الذي ساد المجتمع ونزل على نحو خاص بالكادحين من الفلاحين والكسبة والحرفيين في العصر العباسي من جهة ثالثة، والأساليب الهمجية الشرسة التي مارسها الحكم العباسي ضد القرامطة، وضد الأسرى منهم على نحو خاص، من جهة رابعة، دفعت بأبي حنيفة، كما يشير إلى ذلك اللاذقاني نقلا عن تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، إلى أن يصدر فتواه التي دعا فيها إلى القتال إلى جانب القرامطة.16 كما رفض القاضي، أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، طلب تخطئة الوزير علي بن عيسى الذي لم يحكم بتكفير القرامطة حين قال: "إذا لم يصح عنده كفرهم وكاتبوه بالتسمية لله ثم الصلاة على النبي محمد (ص) وانتسبوا إلى أنهم مسلمون وإنما ينازعون في الإمامة فقط لم يطلق عليهم الكفر"17. إذ أن الدولة العباسية كانت تريد اتهامهم بالكفر لتستطيع تعبئة الناس حولها في القضاء عليهم. ويبدو لي أن السيد اللاذقاني كان مصيبا في تقديره للعوامل التي دفعت العباسيين إلى تشديد الخناق ضد القرامطة، حين التقط ملاحظة الغزالي وأوردها كما يلي: "إن الخلافة العباسية لم تحاربهم لتشيعهم لآل علي بل لظهورهم بالطعن على سلاطين الزمان كما يقول الغزالي.“18. وكان الغزالي يضمر الكراهية للإسماعيلية ولكل من كانوا يدعون أنهم من الباطنيين، وكذلك لكل من كان يكافح الخليفة، منطلقا في ذلك من القاعدة التي تقبل بالإمام الفاسق بدلا عن الفتنة في المجتمع الإسلامي. 
امتلكت حركة القرامطة حسا رفيعا في تحديد المهمات النضالية الصائبة للمرحلة التي كانت تمر بها، كما تميزت بالقدرة على اختيار أسلوب التنظيم المناسب وطريقة توجيه الدعاية للدعوة وقوة الاقناع، إضافة إلى الابداع في قيادة الأتباع والمريدين. فالمعلومات التي وصلتنا تشير إلى أن قرامطة العراق بقيادة حمدان القرمطي قد التزموا في نشاطهم السياسي والاجتماعي والدعائي بعدد من الأسس المهمة لتنمية الحركة وتوسيع قاعدتها وضمان سرية أعضائها نشير إلى بعضها فيما يلي:
•   الأخذ بمبدأ القيادة الجماعية للحركة وليس الاعتماد على قائد واحد بمفرده. وشاركتهم في ذلك الحركة الإسماعيلية وحركة الزنج أيضا، إذ اعتمد علي بن محمد، صاحب الزنج، على مجموعة العقداء ووزع عليهم المهمات بين أعضاء القيادة وفق الاختصاصات التي تميز بها العقداء. فمثلاً اختار حمدان القرمطي اثنا عشر نقيبا من بين أتباع الحركة شكل منهم مجموعته القيادية؛
•   بادر حمدان إلى إرسال أفضل دعاة الحركة إلى بعض مناطق الدولة العباسية من أجل نشر أفكار الحركة وتأمين الدعم السياسي والمادي لها، حيث وصل دعاته إلى البحرين والشام واليمن وغيرها وكسبوا الكثير من الأتباع والأعوان؛
•   ضمان الدعم المالي للحركة وأتباعها من خلال إلزام الأتباع بدفع ضريبة معينة من جهة، والقيام بتوزيع تلك الأموال على شؤون الحركة ولمصلحتها بين الأتباع وعلى مختلف النشاطات من جهة أخرى، والذي أطلق عليه نظام (الألفة)19. حتى أن بعض الأتباع كان يتنازل عن بعض الأموال الإضافية والممتلكات التي في حوزته لصالح الحركة. ويشير حسين مروة نقلا عن الطبري إلى أن القرامطة استطاعوا بتلك الأموال بناء قلعة حصينة لهم قرب الكوفة سميت "دار الهجرة"، وبتسليح الأتباع20. ويشير عبد العزيز الدوري إلى علاقات العمل والتوزيع الممتاز والمنصف بين القرامطة فيقول: " وأخذ كل فرد يشتغل بجد وإخلاص لخير المجموع، وذلك ليحتل المركز الذي يليق بخدماته. فالنساء يأتين بما يحصلن عليه من الغزل، وحتى الأطفال يقدمون الجعل الذي يحصلون عليه من نظارة الحقول، وليس لأحد ملك عدا سيفه وسلاحه. وقد قال حمدان لأتباعه أنهم في غنى عن المال لأن الأرض لهم"21. ويتابع الدوري قوله في مكان آخر منوها عن علاقة الثقة المتبادلة بين القائد والأتباع والحماسة التي استقبلوا بها تعليمات حمدان القرمطي مشيرا إلى ما يلي: "وقد قبل أتباع حمدان تدابيره بكل حماس، ولا سيما وأنه جعل ما يعطى للفرد يتناسب وحاجاته، بينما جعل مركزه الاجتماعي يتناسب وقابلياته لخدمة المجموع"22. اذ كان حمدان يعتقد، كما يرى الدوري، ب "أن سبب التذمر هو الشقاء المادي والحطة الاجتماعية، وأنه لا يمكن تحقيق المساواة الاجتماعية دون المساواة المادية. ولذلك كان لا بد من قطع دابر الفقر..."23.       
•   قدّم قرامطة البحرين نموذجا متميزا وغير معهود في ذلك الزمان حين أقاموا جمهوريتهم أو دولتهم المستندة إلى بنية اجتماعية جديدة وتنظيم جديد للعمل وعلاقات إنتاج غير معهودة، وخاصة في موقفهم من الأرض كوسيلة إنتاج أساسية وكذلك من الإنتاج وتوزيعه بين افراد المجتمع القرمطي، وكذلك في موقفهم من تربية الأطفال ورعاية الشيوخ أو العجزة والمعوقين.
وساهمت حركة القرامطة في البحرين في توضيح بعض القضايا الفكرية والاجتماعية التي لم تستطع حركة القرامطة في العراق تحقيقها بسبب عجزها عن الوصول إلى السلطة في الكوفة او في البصرة او في بغداد، ولكنها كانت تقف معها على ارضية واحدة. فالرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي زار البحرين في فترة وجود هذه الدولة القرمطية يشير إلى الدور الذي لعبته الدولة الجديدة في تنظيم الاقتصاد وحياة الناس. كتب ناصر خسرو الذي زار الأحساء سنة 445 هجرية / 1052 م، كما جاء في كتاب تاريخ الفلسفة العربية للكاتبين حنا الفاخوري وخليل الجر، يقول: "إنّ في الأحساء طواحين تخصُّ الحكومة وهي تطحن للناس مجانا لأن الحكومة نفسها تنقد الفعلة اجورهم وتقوم بجميع نفقات الطواحين"24. ويورد السيد عارف تامر مؤلف كتاب القرامطة نصا مقتبسا من كتاب سفر نامة أيضا للرحالة الفارسي ناصر خسرو علوي حول تنظيم الإنتاج وزيادة إيرادات الدولة حينذاك بقوله: "كان في الأحساء أكثر من عشرين ألف محارب، ولما توفي أبو سعيد الجنابي انتقلت الحكومة إلى مجلس شورى مؤلف من ستة من الدعاة كانوا يحكمون بالعدل والانصاف، وكان لهذه الحكومة ثلاثون ألف عبد زنجي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين، وليس عندهم ضرائب ولا أعشار، وإذا افتقر أحدهم أو استدان، أعانه الآخرون ليستعيد وضعه، فليس للدائن غير رأسماله، وكل غريب ينزل المدينة وله صناعة، يعطى ما يكفيه من المال ليشتري ما يلزم صناعته من عدد وآلات، وهناك بيوت معدة لسكنى الفقراء على حساب المجموع، وقد شاهد في الأحساء أيضا طواحين تملكها الدولة وتدير شؤونها، وهذه الطواحين مهمتها طحن الحبوب للرعية مجانا"25. جاء في كتاب سفر نامة لصاحبه ناصر خسرو بهذا الصدد النص التالي: "وفي الحسا مطاحن مملوكة للسلطان تطحن الحبوب للرعية مجاناً، ويدفع فيها السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين، وهؤلاء السلاطين الستة يسمون السادات، ويسمى وزراؤهم الشائرة، وليس في مدينة الحسا مسجد جمعة، ولا تقام بها صلاة أو خطبة، إلا أن رجلا فارسيا اسمه علي بن أحمد بنى مسجداً، وهو مسلم حاج غني كان يتعهد الحجاج الذين يبلغون الحسا، والبيع والشراء والعطايا، والأخذ يتم هناك بواسطة رصاص في زنبيل بزن لك منها ستة ألاف درهم، فيدفع الثمن عدداً من الزنابيل، وهذه العملة لا تسري في الخارج، وينسجون هناك فوطا جميلة، ويصدرونها للبصرة وغيرها"26.       
•   إن لجوء القرامطة في تنظيم اتباعهم في الحركة إلى السرية في العمل انطلق من الرغبة في حماية أتباع الحركة من الإرهاب الذي كانت تتعرض له الحركات الفكرية والسياسية المعارضة حينذاك، خاصة وأن المسؤولين العباسيين كانوا قساة على معارضيهم وخصومهم ومن كان يعمل ضدهم لا تعرف الرحمة طريقها إلى قلوبهم ولا يتورعون عن ممارسة التعذيب والتمثيل بضحاياهم ودفنهم وهم أحياء. وفي هذا الموقف تجلي نسبي لمفهوم التقية عند المسلمين عموما والشيعة منهم بوجه خاص، ولكنهم كانوا يدافعون عن مبادئ حركتهم عند الأسر بثقة عالية بالنفس والمعتقد، رغم أنهم كانوا يتعرضون للتعذيب والموت على أيدي أتباع الخلافة العباسية. والتقية أو سرية العمل التي التزموا بها هي التي دفعت أبو حامد الغزالي إلى رفض توبة قادتهم بشكل خاص باعتبارهم لا يظهرون ما يبطنون. كما تطرف بفتواه إلى حد "القول بعدم جواز الزواج منهم وعدم ائتمانهم على وظائف الدولة"27. كتب الغزالي يقول: "وأما إبضاع نسائهم فإنها محرّمة، فكما لا يحلّ نكاح مرتدة لا يحلّ نكاح باطنية معتقدة لما حكمنا بالتكفير بسببه من المقالات الشنيعة التي فصلناه. ولو كانت متدينة ثم تلقفت مذهبهم انفسخ النكاح في الحال إن كان قبل المسيس، ويوقف على انقضاء العدة بعد المسيس…"28. كما حرم الغزالي أن يرث بعضهم بعضا واعتبر جميع الباطنيين كفرة أو مرتدين29.       
ويبدو أن القسوة البالغة التي تعرض لها قرامطة العراق من جانب الخلافة العباسية والمحاربة الفكرية من جانب الفكر الديني الرجعي والمحافظ والرسمي، وعلى رأسهم الإمام الغزالي، قد دفع بهم إلى مواجهة العنف بالعنف، أو السن بالسن والعين بالعين، مما دفع المؤرخين إلى اتهامهم بالقسوة أيضا. الا أن قسوة الخلافة ومحاربتهم المستمرة قد شملت قرامطة البحرين والشام وغيرهم. مما دفع بقرامطة البحرين إلى ممارسة أعمال عنف وقتل غير مبررة ضد الحجاج إلى مكة والتي أضرت بالحركة وسمعتها وتأثيرها. كما أن نقل الحجر الأسود من مكة إلى البحرين واستمرار وجوده هناك 22 عاما يعبر في جوهره عن عدة مسائل مهمة هي:
•   أن الحركة القرمطية في البحرين كانت كما يبدو لا تعتقد بسلامة العبادة لله عبر الحجر الأسود، فهو في وعيها لا يعدو كونه صنما من الأصنام التي كانت تقوم بعبادته الأعراب في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام؛
•   الجانب التجاري الذي كانت تهتم به دولة القرامطة أذ كانت تريد "تحويل مكاسب الحج إلى حكام هجر" كما يشير إلى ذلك اللأذقاني30.
•   رفض الخليفة العباسي المقتدر منح أبو سعيد الجنابي شؤون الولاية على البصرة والأهواز31.
•   للتدليل على عجز الدولة العباسية عن حماية رعاياها، وبالتالي يمكن أن يتعرض كل إنسان فيها لمخاطر غير معروفة العواقب، إذ أن الدولة ضعيفة ومشتتة.     
تشير المصادر التي تحت تصرف البحث إلى أن حركة القرامطة خاضت في العراق معارك دامية وتلقت ضربات قاسية من قوات الخلافة العباسية، إلا أنها حملت قوات الخلافة العباسية خسائر كبيرة أيضا، كما إنها كانت بعد كل ضربة تبرز مرة أخرى قوية وقادرة على المنازلة. وهكذا استمرت حركة القرامطة في كفاحها وعملياتها العسكرية والإعلامية ضد الدولة العباسية حتى قيامها بالثورة في عام 316 هجرية/928 م، حيث خاضت قوات القرامطة في سواد واسط وفي مناطق عين تمر معارك قاسية لم تستطع الصمود في وجه قوات الخلافة وانتهت إلى اندحارها في تلك المعارك، وإلى تراجع نشاط الدعوة في العراق. وتحتل أهمية بالغة تلك الرايات التي رفعتها الحركة في ثورتها حيث كتب عليها، كما يشير إلى ذلك الدكتور عبد العزيز الدوري نقلا عن أبن الأثير: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"32.
إن الدراسة المتأنية للحركات الفكرية الثورية في العراق تؤكد جملة من الاستنتاجات المهمة التي نحن بحاجة إليها لا لفهم الماضي فحسب، بل ومعرفة مدققة للواقع الراهن وسبل التعامل مع المستقبل ايضا. فالحركات الفكرية التي شهدها العراق في العهدين الأموي والعباسي أكدت على أن الأرضية التي استندت إليها المعارضة كان الإسلام ذاته، ولكنه لم يكن الإسلام الرسمي الذي التزم به الخلفاء ودافع عنه، بل انطلق من مواقع المعارضة السياسية التي رفضت الطريقة التي تعامل بها الخلفاء والولاة أو رجال الدين الذين ارتبطوا بالحكم وأخضعوا فتواهم لمصلحة السلطة السياسية منطلقين من كون ما هو قائم يستند إلى إرادة الله التي لا يمكن تبديلها، إنها قدر الحكام والرعية في آن واحد. وبرهن الإنسان العراقي على ممارسة عقلية حيوية قادرة على التفاعل مع الواقع القائم ومع حاجات الناس، وترفض الانصياع للقاعدة القائلة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، أو لا يمكن تغيير القدر. ولهذا كانت برامج بعض تلك الحركات ينطوي على فهم للواقع ورغبة في تغييره وسعي لذلك في آن واحد. وبرهنت قوى المعارضة الفكرية والسياسية على قدرتها على فهم سبل الدعاية والتنظيم ودور الدعاة في نشر الدعوات بين الناس وأهمية تقديم النموذج الصالح لما يسعون إليه. وهذا لا يعني بأن الحركات الفكرية كانت متكاملة ولم تبتلى بنواقص وأخطاء أو إساءات. فهذه الحقيقة تشمل ثورة الزنج، كما تشمل حركة القرامطة أو غيرها من الحركات الفكرية التي كان عليها أن تحارب دولة كبيرة ذات إمكانيات مالية وبشرية وعسكرية غير قليلة. فعلى سبيل المثال لا الحصر وعد صاحب الزنج علي بن محمد أتباعه الثوار في أن يكون لهم عبيدا حالما تنتهي الثورة بالانتصار، في حين أنهم كانوا يناضلون ضد عبوديتهم. وهذا يدلل على أن قائد الثورة المؤمن بالإسلام لم يكن قد تخلى عن النص القرآني الذي لا يحرم وجود واقتناء العبيد، وبالتالي يسمح بوجوده أيضا لدى العبيد الذين سيحررهم. ولا يعرف ما إذا كانت هذه النقطة من بين العوامل التي منعت حصول اتفاق بين قائد ثورة الزنج وقائد الحركة القرمطية. ويمكن أن يورد الإنسان أخطاء أخرى لثورة الزنج ومنها تعذيب الأسرى أو القسوة في التعامل، وهكذا بالنسبة إلى حركة القرامطة. ولكن لا يمكن تصور أن حركة من هذا النوع وفي تلك الظروف وفي مستوى الوعي الذي كان عليه القادة والأتباع والمعين الذي استقوا منه أفكارهم ما كان في مقدورهم تجنب مثل تلك الأخطاء أو غيرها، ولكن لا يجوز القبول بها أو تبريرها.       
•   يضاف إلى كل ذلك حقيقة أن الدولة العباسية كانت تمارس سياسات الاستبداد الفكري والسياسي على نطاق واسع وفي مختلف العهود التي مرت بها، وكانت سببا آخر في وقوع الثورات ضد العباسيين. كما جوبهت تلك الحركات الفكرية بالعنت ومحاولة تصفيتها بدلا من التفكير في الأسباب التي قادت إلى وقوعها وسبل تجاوزها ومعالجة آثارها. 
•   ولا شك في أن الطبيعة الاستبدادية للحكم وسياسات الإرهاب ضد المثقفين والمتنورين والمفكرين وغياب العدالة الاجتماعية وتحكم فئة صغيرة بمصائر الناس قد ساعدت كلها على بروز مناورات ومؤامرات ليست داخلية فحسب، بل وخارجية أيضاً. بمعنى آخر كانت العوامل الداخلية سببا في تزايد الأطماع الخارجية بالدولة العباسية والتي كانت في المحصلة النهائية سبباً إضافياً في قبرها، إذ كانت الجبهة الداخلية مهورة من الداخل وغير قادرة على المقاومة ومواجهة العدوان الخارجي. 

المصادر والهوامش


1 أنظر: زكار، سهيل د، أخبار القرامطة في الأحساء واليمن والشام والعراق، دار حسان للطباعة والنشر، دمشق، سوريا، 1982، المدخل ص 5-77. 

2 ملاحظة: تُنسب الحركة الإسماعيلية إلى إسماعيل، الأبن البكر لجعفر بن محمد الصادق، الأمام السادس عند الشيعة، وتوفي إسماعيل ووالده كان ما يزال على قيد الحياة، واعتبر بعض أتباع جعفر الصادق بأن إسماعيل، رغم وفاته المبكرة وفي أثناء وجود أبيه على قيد الحياة، أنه الوارث للإمامة، وليس الهادي الأبن الثاني لجعفر الصادق، والذي يعتبر عند الشيعة الإمامية الإمام السابع، نشأت هذه الحركة من أتباع له بعد وفاته وفي إطار الفكر والمذهب الشيعي الذي بناه وقوّمه وكرسه جعفر الصادق على نحو خاص، ولكن الأتباع اجتهدوا ونمو عددياً، ثم اختلفوا ونشأت منهم وعنهم حركات كثيرة، كلها اقترنت باسم الإسماعيلية، وأطلق أتباع المذهب السني على هذه الحركة بالباطنية بسبب اعتمادهم على التفسير والتحليل المعمق لبواطن الأمور بدلا من الاستدلال عليها من ظاهرها فقط، وأطلق عليهم بالسبعية ايضا، باعتبار إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق هو الإمام السابع بعد والده، أشار أبو حامد الغزالي إلى السبعية بما يلي: " وأما "السبعية" فإنما لقبوا بها لأمرين: أحدهما: اعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة، وأن الانتهاء إلى السابع هو آخر الدور، وهو المراد بالقيامة؛ وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر لها قط، والثاني: قولهم إن تدابير العالم السفلي، أعني ما يحويه مقعر فلك القمر منوطة بالكواكب السبعة التي أعلاها زُحل، ثم المشتري، ثم المرّيخ، ثم الشمس، ثم الزهرة، ثم عطارد، ثم القمر، وهذا المذهب مسترق من ملحدة المنجمين وملتفت إلى مذاهب الثنوية في أن النور يدبر أجزاؤه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة، فهذا سبب التلقيب،،“ راجع في هذا الصدد: فضائح الباطنية مصدر سابق، ص 12، واعتبر الغزالي الإسماعيلية من الباطنية التي تسري عليها أحكامه على بقية الجماعات التي سميت بالباطنية، ومنها الحركة القرمطية والبابكية والعديد غيرها من الحركات الفكرية في ا لإسلام حينذاك أو فيما بعد أيضاً.         
3 أنظر: اللاذقاني، محي الدين، ثلاثية الحلم القرمطي، ص62.
4 أنظر: يان دي خويه، ميكال، القرامطة، ترجمة حسني زينة، دار أبن خلدون، القاهرة، 1960، ص 36.
5ملاحظة:  جاء في هذا الكتاب (كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة) أن الداعية كان يطلب من المريد الجديد أن يدفع له بعد نهاية كل درجة وقبل بلوغها مبلغا قدره اثنى عشر دينارا، وهكذا يكون عند بلوغه نهاية الدرجات قد دفع 72 دينارا للداعية، ص 205-210.
6 أنظر: زكار، سهيل د، أخبار القرامطة في الأحساء والشام واليمن والعراق، مصدر سابق، ص 27-210.
7 ملاحظة: إن من يقرأ هذه الكتابات والدس الرخيص على تلك الحركات ويتذكر الدس الرخيص الذي ملأ أكداسا من الكتب التي صدرت في عقود القرن العشرين لتشويه سمعة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية من خلال الادعاء بأنها ذات اتجاهات وأفكار إباحية، وهي محاولة خائبة استهدفت أبعاد الناس عن تلك الأحزاب التي استقطبت جمهرة واسعة جدا من الكادحين والمثقفين باعتبارها ضمن حركات ثورية مدافعة عن حقوق وحريات العمال والفلاحين وسائر الكادحين وضد أشكال الاستغلال والقمع التي كانوا وما زالوا يتعرضون لها في المجتمعات العربية والإسلامية وفي غيرها أيضا.   
8 أنظر: العلوي، هادي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، الكتاب الثاني، الاغتيال السياسي في الإسلام، ط 1، مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، نيقوسيا-قبرص، 1995، ص 249.
9 المصدر السابق نفسه، ص 249.
10 أنظر: يشير د، سهيل زكار، صاحب كتاب "أخبار القرامطة في الأحساء والشام واليمن والعراق"، إلى ما يلي بشأن أصل كلمة القرامطة:
"في المصادر المبكرة والمعاجم اللغوية نجد معنى القرمطة: اللون الأحمر أو مقاربة الخطوة، أو دقة الكتابة وتداني الحروف والسطور أو النقص، هذا ومن أفضل ما قيل في تعريفها ما أورده أبن العديم في كتابه بغية الطلب حيث قال: "وإنما سموا القرامطة: زعموا أنهم يدعون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بن علي، ونسبوا إلى قرمط، وهو حمدان بن الأشعث، ما كان بسواد الكوفة، وإنما سمي قرمطاً لأنه كان رجلا قصير، وكان رجلاه قصيرتين، وكان خطوه متقارباً، فسمي بهذا السبب قرمطاً… وذكر بعض  العلماء أن لفظة قرامطة، إنما هي نسبة إلى مذهب يقال له القرمطة خارج عن مذاهب الإسلام، فيكون على هذه المقالة عزوه إلى مذهب باطل لا إلى رجل"، وذكر  بعض آخر إنما هو نسبة إلى "بني قرمطي بن جعفر بن عمرو بن المهيأ … بن عامر بن صعصعة،“ ثم يقول: "… بأن كلمة "قرمطة" هي كلمة آرامية تعني "العلم السري،“"  ص 44-45.
11 أنظر: الدوري، عبد العزيز د، تاريخ الاقتصاد العراقي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 96.
13 المصدر السابق نفسه، ص 96.
14 أنظر: تامر، عارف، القرامطة أصلهم-نشأتهم-تاريخهم-حروبهم، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
15 أنظر: مروة، حسين، النزعات المادية في الإسلام، الجزء الثاني، مصدر سابق، ص 19.
16 أنظر: اللاذقاني، محي الدين د، ثلاثية الحلم القرمطي، مصدر سابق، ص 82.
17 المصدر السابق نفسه، ص 71.
18 المصدر السابق نفسه، ص 63.
19 أنظر: الدوري، عبد العزيز د، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 98.
20 أنظر: مروة، حسين، النزعات المادية في الإسلام، مصدر سابق 19.
21 أنظر: الدوري، عبد العزيز، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 98.
22 المصدر السابق نفسه، ص 98.
23 المصدر السابق نفسه، ص 98.
24 أنظر: فاخوري، حنا والجر، خليل، تاريخ الفلسفة العربية، في جزئين، ط 3، دار الجيل، بيروت، 1993، الجزء الأول، ص 219.
25 أنظر: عارف، تامر، القرامطة- أصلهم - نشأتهم،، ، مصدر سابق، ص 99/100.
26 أنظر: خسرو، ناصر، سفر نامة، في كتاب زكار، سهيل د، أخبار القرامطة… ، مصدر سابق، ص 196.
27 أنظر: اللاذقاني، محي الدين، ثلاثية الحلم القرمطي، مصدر سابق، ص 62.
28 أنظر: الغزالي، أبو حامد، فضائح الباطنية، مصدر سابق، ص 96.
29 المصدر السابق نفسه، ص 96.
30 المصدر السابق نفسه، ص 72/73.
31 المصدر السابق نفسه، ص.
32 أنظر: الدوري، عبد العزيز، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 99,


224
كاظم حبيب
الانتخابات في الدولة الفاسدة بسلطاتها ونخبها الحاكمة
حين كان الشعب يعيش في ظل الحكم الملكي بالعراق، ولاسيما بالخمسينيات من القرن العشرين كان يمارس عملية الانتخابات البرلمانية بغضب وانزعاج شديدين، لأنه كان يدرك تماماً بأن الحكومات العراقية المتعاقبة تمارس التزوير والتزييف العلنين لصالح مرشحي حزب الاتحاد الدستوري (تأسس 1951، الذي كان يتزعمه نوري السعيد (1988 – 1958م) أولاً، وللحزب المماثل له من حيث الفكر والسياسة الاقتصادية والاجتماعية، حزب الأمة الاشتراكي (تأسس 1951)، الذي كان يتزعمه صالح جبر (1896 – 1957م).  كان أحدهما يضم في عضويته أكثرية سنية، وقلة شيعية ومسيحية، والثاني كان يضم في عضويته أكثرية شيعة وأقلية سنة ومسيحية. وكان نوري السعيد يتحدى أتباعه وخصومه الذين يترشحون لعضوية مجلس النواب بأنهم لا يستطيعون الفوز بمقعد في المجلس النيابي لولا تأييد الحكومة لهم، وبتعبير آخر لولا تزوير الحكومة لنتائج الانتخابات لصالح من تريد فوزه. ولم يجرأ أي نائب في مجلس النواب الرد على هذا التحدي لأنهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المرة. لقد كان نوري السعيد في ذلك صريحاً وشفافاً جداً، فهو يعرف ما يجري ويوجه العمل بما يريد وما يرضي نهجه الفكري والسياسي. كان السعيد صديقاً مخلصا لبريطانيا، وكان يعتقد بأنها الدولة الوحيدة القادرة على حماية العراق من أطماع تركيا وإيران أساساً، ومن غزوات السعودية التي كان يتعرض لها العراقيون في الوسط والجنوب بين فترة وأخرى، ولاسيما في نهايات "الرجل المريض"، الدولة العثمانية. وكان مؤمناً بالرأسمالية على الطريقة التي تشتهيها بريطانيا للعراق!!
وحين فازت الجبهة الوطنية في العام 1954 بـ 11 نائباً لا غير من مجموع 135 نائباً، استفز هذا النجاح الجزئي النخبة الحاكمة ونوري السعيد والبلاط الملكي والاستعمار البريطاني، فتقرر أن يقدم أرشد العمر استقالة وزارته، التي أجرت الانتخابات، وأن يكلف نوري السعيد بتشكيل وزارته الثانية عشر (12) في العام 1954، وكان شرط نوري السعيد لتشكيل وزارته الجديدة حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة ليتخلص من النواب الديمقراطيين. وكان له ما أرد. فبعد تشكيل الوزارة أصدر مجموعة من المراسيم الاستبدادية، بضمنها: حل مجلس النواب وحل جميع الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزبه، ومنع وحبس من يمارس النشاط الطلابي والشبابي والنسائي والسلام وما شاكل ذلك، إضافة إلى إسقاط جنسية كوكبة من المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين العراقيين حينذاك. ثم أجرى الانتخابات في ظل تلك المراسيم والاعتقالات والتوجه صوب عقد حلف بغداد الذي تم له ذلك في العام 1955. وحين أجرى الانتخابات الجديدة فاز 121 نائباً بالتزكية، وهم من مجموعات النخب الحاكمة الملكية، و14 نائباً فازوا بشكل صوري، كما يشير إلى ذلك المؤرخ عبد الرزاق الحسني في الجزء التاسع من كتابه تاريخ الوزارات العراقية، وأغلبهم كان من مؤيدي الحكم. وأصبح النواب الديمقراطيون ألـ 11 خارج قبة البرلمان. وفي العام 1956 هتف نوري السعيد في إذاعة وتلفزيون بغداد "دار السيد مأمونة"، وجاءه الجواب في ثورة تموز 19058.
لقد أسس الحكم الملكي الأرضية الفاسدة لكل ما حصل لاحقاً من مآسي ونكبات بالعراق، فهو النظام الذي بدأ الإخلال ببنود الدستور العراقي لعام 1925 تشريعاً ونهجاً وسياسة، مما أدى إلى بروز كراهية شديدة ورفض تام للحكم الملكي الإقطاعي الرجعي، الذي يحن له البعض حالياً، بسبب ما عانوه لاحقاً ومازالوا، من النظم السياسية الأكثر بشاعة وفاشية!
اما البرلمان العراقي في عهد البعث وأحمد حسن البكر وصدام حسين فكان ألعوبة بيد قوى النظام الشمولي، بيد مجلس قيادة الثورة وقيادة حزب البعث، ولاسيما بيد الدكتاتور صدام حسين. وكان الفوز لقائمة البعث مضموناً أكثر من 100%، ولا يمكن أن يترشح شخص ما، ما لم تصدر موافقة عليه من قيادة حزب البعث. وكانت عدد الأوراق الموضوعة في الصناديق أكثر من عدد من يحق لهم التصويت والمقترعين. وأخيراً تم انتخاب صدام حسين مدى الحياة لرئاسة الجمهورية، وأنهوا بذلك مسرحية انتخاب الدكتاتور السمجة! وكانت الكراهية والحقد والرغبة في الخلاص من النظام البعثي قد وصلت مداها الأقصى، ولكن ضعف المعارضة، التي كان الاستبداد قد قصم ظهرها، لم تستطع إسقاطه، فاستعان أغلبها بمن لا يجوز الاستعانة به لإسقاط الدكتاتورية، فكان لها ما أرادت، فشُنّت حرب خارجية عبر تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة وخارج إطار الأمم المتحدة وأسقط النظام، وأقيم على أنقاضه النظام السياسي الطائفي المحاصصي الذي مازال يُذيق الشعب العراقي الأمرين.   
وبالدولة العراقية الزاخرة بالطائفية والفساد والإرهاب، جرت أربعة انتخابات عامة، ثلاثة منها في 2006 و2010 و2014 وكانت مزورة 99%، ومن فاز بشخصه وخلقه كان لا يتجاوز عدد أصابع اليدين. وحين اتهمت المعارضة الانتخابات بالتزوير احتج الحاكمون والفائزون فيها، عدا أولئك القلة الذين فازوا بسبب التزامهم برنامجاً للتغيير، إذ أكدوا على كون الانتخابات مزورة فعلاً. والمزورون السابقون يعرفون كيف تزور الانتخابات من حيث الأساليب والأدوات والتقنيات ...الخ.
لم تختلف انتخابات 2018 كثيراً أو قليلاً عن الانتخابات السابقة من حيث ممارسة التزوير وتزييف الإرادة وتقديم الرشاوى، ولكن أول من انبرى بالحديث عن التزوير والتزييف هم من شاركوا دوماً بذلك، هم من حكموا البلاد وما زالوا يحكمون، هم من خسر الكثير من قادتهم الانتخابات الأخيرة، وهم أدرى بما جرى ويجري في الانتخابات من تزوير وتزييف لإرادة الناخبين واستغلال فقر الناس وجهلهم ودينهم. هذه الانتخابات التي أطهرت النتائج تغيير 70% من أعضاء المجلس الحالي، هي التي جعلت المجلس المزور نفسه يعقد جلسة ليعلن عن قرارات تطالب بإلغاء أو إعادة النظر بصناديق الاقتراع وحساب ما تبقى منها باليد، إضافة إلى إعادة حسابها بالمكائن الحديثة أيضاً.
ما هي الخشية التي تراود المجلس الحالي الذي تنتهي ولايته في نهاية هذا الشهر، حزيران/يونيو 2018؟ إنهم يعتقدون، وهم في الغالب الأعم من أتباع أو من مؤيدي الوجود الإيراني الكثيف والحاسم بالعراق، وهم من خسر جزئياً في الانتخابات، لأنه قد تحالف مع إيران أيضاً، كما في حالة رئيس مجلس النواب وقائمته، بأن المجلس مقبل، إذا تشكلت أكثرية من "سائرون" ومن يتحالف معها، ستغير بعض أوجه المعادلة في غير صالح إيران والولايات المتحدة، وهم يستندون في ذلك إلى البرنامج الانتخابي لـ"سائرون". وهم يخشون على مصالحهم الشخصية وعلى ما مارسوه من نهب وسلب لثروة العراق وموارده النفطية والمالية وقوت الشعب. إنهم يعتقدون، بالرغم من خسارة الكثير منهم، إنهم ما زالوا في الحكم وهم يهيمنون على أجهزة الدولة وهم قادرون على الدفع بالاتجاه الذي يريدون، فهل سيغير التحالف الجديد هذا الاعتقاد، ولا يسمح بمجيء الزمر التي قادت البلاد إلى جحيم داعش والموت والخراب والفساد والجوع والحرمان والتشرد والنزوح والهجرة؟
لم تشر الانتخابات إلى تغيير كبير في النتائج، ولكنها أشارت إلى مسألة مهمة، هي أن النظام الطائفي مرفوض بالعراق، فهل سينجح الشعب في وأد حلم الجماعة التي تسببت في آلام الشعب طيلة 15 عاماً، ترأس مجلس الوزراء؟ لا يمكن التنبؤ بشيء واضح، فالأرقام مختلطة، والقوى الخارجية، ولاسيما إيران تلعب دوراً سيئاً مستمراً لتشكيل تحالف يحاول أن يغري الكرد وبعض القوى ليعود من سلَّمَ العراق إلى داعش، أو من يماثله في النهج والممارسة، إلى رئاسة الوزراء، وهو الأمر الذي سيشكل استمرار نكسة ونكبة العراق الجارية حتى الآن!!
إن ما ينبغي الانتباه له والاهتمام به في هذه الفوضى "الخلاقة!!!"، التي دعت لها وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس، والتي يعيشها شعب العراق وبقية شعوب منطقة الشرق الأوسط عموماً. هي أن وحدة وتعاون وتنسيق القوى المدنية والديمقراطية العراقية التي يمكن ويفترض ان تكون الضمانة الفعلية لإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية التي تعتمد مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والعدالة الاجتماعية باعتبارها القواعد الثابتة لحكم العراق وبعيداً عن التمييز الديني والمذهبي والقومي أو أي شكل من أشكال التمييز الأخرى، التي عاش الشعب العراقي تحت وطأتها وظلمها طيلة ما يقرب من ستين عاماً عجافاً ويبابا، عذا فترة قصيرة من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم.
             

225
كاظم حبيب

سيبقى الحزب الشيوعي العراقي شوكة في عيون أعداء الشعب والوطن!
قبل أشهر قليلة أحتفل الحزب الشيوعي العراقي بعيد ميلاده الرابع والثمانين، وسيبقى يشعل شموع ميلاده المتجدد عقوداً وعقوداً قادمة، وفي أجواء يناضل من أجلها، من أجل سيادة الشعار الذي رفعه ونادى به سكرتير عام الحزب الشيوعي العراق للعراق وشعبه، الرفيق فهد، "وطن حر وشعب سعيد"، هذا الشعار الذي أرّق ويؤرّق دوماً كل أعداء الشعب والوطن منذ ولادة الحزب، بل ومنذ أن تشكلت أولى الخلايا الشيوعية بالبصرة والناصرية في العام 1929، ومنذ أن أصدر فهد بيانه الأول في 13 كانون الأول/ديسمبر عام 1932 حاملاً "شعار المطرقة والمنجل، ويا عمال العالم اتحدوا، ويعيش اتحاد جمهوريات عمال وفلاحي البلاد العربية"، ثم وقع البيان باسم "عامل شيوعي" وتم تعليق البيان في 18 مكاناً بالناصرية.
لقد واجه الحزب عنت واضطهاد وقمع الحكومات المتعاقبة. ففي حينها لم تتحمل الحكومة الملكية القومية الشوفينية حينذاك، حكومة ناجي شوكت الأولى، التي تشكلت في تشرين الأول 1932 واستقالت في اذار/مارس 1933، هذا البيان ونشاط الخلايا الشيوعية وفهد بالناصرية، فاشتكت لدى الشخصية الوطنية والاجتماعية المعروفة ورئيس الحزب الوطني محمد جعفر أبو التمن بأن مساعد رئيس فرع الحزب في الناصرية شخص "هدام"، والمقصود هنا فهد، فرد عليهم أبو التمن بكلمة جديرة بالتذكير لمن لا يتحلى بالوطنية وحب الشعب، إذ قال إنه ليس هداماً، بل انه بناء يحاول ان يبني مع الفلاحين والضعفاء حياة سعيدة للناس وانني اعضده بما املك من طاقة". وحين تشكلت حكومة رشيد عالي الگيلاني الأولى بادرت إلى اعتقال فهد بالناصرية في العشرين من شباط/فبراير 1933 وقدمته إلى المحاكمة، فكان أول مواطن عراقي يدافع عن الشيوعية ويعترف بأنه شيوعي امام المحاكم، حيث أعلن في المحكمة أمام القاضي والحاضرين "انا شيوعي وهذا معتقدي". وأطلق سراحه بتدخل من الزعيم جعفر ابو التمن، إذ لم يكن قد صدر حينذاك قانون تحريم الشيوعية السيئ الصيت، بل صدر في العام 1938، وفق المادة (89 أ) من ق. ع. ب. والذي نص على ما يلي:  نحن ملك العراق وبموافقة مجلس الأعيان والنواب أمرنا بوضع القانون الآتي :- مادة 1، 1- يعاقب بالأشغال الشاقة أو الحبس مدة لا تزيد على سبع سنين أو بالغرامة أو بهما كل من حبذ أو روج بإحدى وسائل النشر المنصوص عليها في المادة 78 من هذا الـ (القانون) أيا من المذاهب الاشتراكية البلشفية الشيوعية والإباحية وما يماثلها التي ترمي إلى تغيير نظام الحكم والمبادئ والأوضاع الأساسية للهيئة الاجتماعية المضمونة بـ (القانون) الأساسي". وكان نص القانون ضد مضمون الدستور العراقي لعام 1925!!
لقد جرب النظام الملكي وجرب القوميون والبعثيون في العام 1963، ومن ثم البعثيون في العام 1970/1971 وفي 1978، والسنوات اللاحقة إلى حين إسقاطهم، تصفية الحزب الشيوعي العراقي باعتقال وسجن وقتل قياداته وكوادره والآلاف من أعضاء وأصدقاء ومؤيدي الحزب، ولكنهم جميعهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً، بل انتهوا إلى قير وبئس المصير، في حين لا يزال الحزب الشيوعي وسيبقى صامداً رافعاً راية النضال في سبيل الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، الدولة الحديثة، بوجه كل أعداء الشعب والوطن، أعداء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أعداء حقوق القوميات والأمن والسلام والعدالة الاجتماعية بالعراق.
وخلال الأعوام المنصرمة، ومنذ قيام النظام السياسي الطائفي والشوفيني في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة، حاول هؤلاء الأوباش أعداء الشعب والوطن من جديد الاعتداء على الحزب ومقراته واغتيال العديد من خيرة كوادره ورفاقه محمين بغطاء المتنفذين في السلطة وخارجها، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الرفيق الشهيد سعدون (وضاح حسن عبد الأمير) والرفيق الشهيد كامل عبد الله شياع، إضافة إلى عمليات تدمير وتخريب واغتيال جرت على أيدي هؤلاء الأوباش ضد كل الشعب العراقي.
وفي مساء 25/05/2018 "تعرض مقر الحزب الشيوعي العراقي في شارع الأندلس بوسط بغداد إلى عدوان آثم بعبوة محلية الصنع ألقيت في حديقة المقر، من دون أن توقع خسائر بشرية، عدا بعض الاضرار المادية جراء الانفجار"، كما جاء في تصريح للمكتب السياسي للحزب. إن هذا العمل الجبان لم يكن بهدف قتل بعض الشيوعين فحسب، بل وبالأساس بهدف الترويع وإشاعة الخوف من العمل مع الحزب، بعد أن برز نشاط الحزب ورفاقه وأصدقاء الحزب بشكل واسع قبل وأثناء فترة الانتخابات العامة الأخيرة، رغم إمكانيات الحزب المالية الشحيحة.
لم يكف من قام بهذا العمل ومن يقف وراءه بما فعلوه بالعراق خلال الأعوام المنصرمة من قتل وتدمير وترويع ونزوح وتهجير للسكان الآمنين، ولم يكفهم ما مارسوه من فساد هائل وتفريط كبير بأموال الشعب ونهب خيراته وتجويع النسبة العظمى من بنات وأبناء الشعب، ولم يكفهم بسبب تلك السياسات الغادرة والطائفية حتى النخاع، السماح باجتياح العراق وما فعله التكفيريون بأتباع الديانات والمذاهب بنينوى، من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان ومسلمين مخالفين لنهج التكفيريين، وضد أبناء وبنات بقية محافظات العراق الغربية، لم يكفهم جعل العراق واحداً من أكثر الدول فساداً ورثاثة وإرهاباً، بل هم يحاولون اليوم إشعال الفتنة من جديد والبدء بعمليات تستهدف نشر الفوضى والعبث بأمن المواطنات والمواطنين وتوفير فرصة فرض الوضع الذي يريدونه، خشية من أي تغيير أو إصلاح جذري يسعى إليه الشعب.
لن تستطيعوا النيل من الحزب الشيوعي العراقي ومن الشعب، ولن ترعبوه أيها الجبناء، يا من تعملون في الظلام كالخفافيش، رغم انكم مسندون داخلياً وإقليمياً، لا تملكون القدرة والكفاءة على مقارعة الحجة بالحجة، بل ديدنكم هو ديدن الفاشيين في كل مكان وزمان، الحقد والكراهية وممارسة الإرهاب والعنف وإشاعة الفوضى بالبلاد، ليحلوا لكم نهب البلاد وإملاء جيوبكم بالسحت الحرام!!! خسئتم يا من يحق لنا القول عنكم "عادت حليمة إلى عادتها القديمة، فبئس العودة وبئيس المصير!
 26/05/2018

226
كاظم حبيب
العراقيون الزرادشتيون


الزرادشتية ديانة قديمة يبلغ عمرها قرابة 3500 سنة، ظهرت بمنطقة أذربيجان بإيران والمنطقة التي يعيش فيها الكرد (أورمية) والتي يطلق عليها الفرس "الرضائية" أيضاً، إذ كانت ضمن دياناتهم القديمة، ولا زال هناك من يعتنقها بإيران والعراق، إضافة إلى دول أخرى مثل الهند. وهي ديانة توحيدية تؤمن بـ "الخالق غير المخلوق"، وتؤمن بوجود إلهين، أهورا مزدا "إله النور والخير"، إله العقل والحكمة والمعرفة، وأهريمان "إله الظلام والشر"، الإله الذي يرفض العقل والحكمة والمعرفة، وهما في صراع دائم. والزرادشتيون يقدسون العناصر الأربعة النار والماء والهواء والتراب، ويحرّمون تدنيسها، باعتبارها عناصر طاهرة. وعند الصلاة يتوجهون صوب النور ولاسيما الشمس. وقد شرح غاستون بلاشر العوامل التي دفعت الديانات القديمة إلى التركيز على هذه العناصر الأربعة ذات الأهمية الفائقة في حياة الإنسان، التي أدركها وعبر عنها زرادشت، على النحو التالي:
" - النار: تُضيء وتُدفئ، انها عُنصر قوة الانسان وسموه على العالم الحيواني ولكنها يمكن ان تنقلب ضده، فالنار تحرق، وهي على علاقة مع الشمس.
-  الماء يُطهر: إضافة إلى ذلك يعتبر مصدر الحياة أو التجدد، ومن هنا كان طقس الينابيع المنتشرة جداً، والشعائر الكثيرة في كل الديانات تقريباً.
-  الهواء: هو العنصر السماوي، ومن هنا يكون الارتفاع في المسيرة الروحية.
 - الأرض: رمز الخصب والخصوبة كذلك. ولها علاقتها مع الولادة والموت، والحيٌة هي رمز هذه الثنائية."1
 
الديانة الزرادشتية سبقت الديانات الكتابية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، وانتشرت في منطقة واسعة من آسيا، ولم تتجاوزها، وهي ما تزال تجد بقايا لها في عدد من دول العالم الآسيوي، بما فيها إيران. كما برزت مجدداً بإقليم كردستان العراق، رغم إنها لم تختف يوماً.
ظهرت الزرداشتية كديانة في فترة بدأت فيها الديانة المثرائية بالأفول. وكان زرادشت أول من وضع أسسها وبدأ بنشرها، وتبنى بعض الجوانب المهمة من الديانة الميثرائية، وحلّت عملياً محلها. وتدريجاً اندثرت الديانة الميثرائية، وانتهت عبادة الإله العظيم مثراس Mithrasوحلت عبادة الإله "أهورا مزدا" محلها. وقد جاء ذكر الإله ميثرا "في أقدم الكتب المقدسة (ريك فيدا) باسم (ميثرا) وفي الآفستا باسم (ميثرا) بأنه اله النور حامي حمى الحقيقة وعدو الكذب والخطيئة ، وورد في (الآفستا) عن (ميثرا) بأنه يعاقب كل من حلف يمينا كذبا أو ينحرف عن الحق والصواب والنزاهة ، انه يحطم القبائل والجماعات المناهضة له، ويهب الصحة والصداقة والرجاء للذين يمجدونه ويكون حليفا مؤيدا لمن ينذرون أنفسهم له."2 فمن هو زرادشت؟

زرادشت
يعتبر زرادشت إحدى الشخصيات الإصلاحية التي ظهرت في منطقة الشرق الأوسط أو جنوب غرب آسيا. ويعتبره أتباع نبياً ضمن مجموعة الأنبياء الذين وضع كلا منهم ديناً يحمل الكثير من عقائد وطقوس وتقاليد الديانات السابقة، مع إضافة تعاليم وطقوس وعقائد دينية جديدة أو متقاربة. وحين الاطلاع عل جوهر الدين الزرادشتي سيجد فيه الكثير جداً من قيم وسمات وخصائص وطقوس أو عقائد الديانات السابقة له او تلك التي وجدت في ذات الحقبة الزمنية. كما إن العديد من الديانات التي ظهرت بعد ذاك أخذت من الزرادشتية أو غيرها جملة من القيم والأفكار والعقائد والطقوس الدينية، كما هو حال الدين الإسلام مع الديانة اليهودية والمسيحية أو هاتين الديانتين مع الديانات البابلية، والتي يمكن الاطلاع عليها في الرقم التي وجدن في حفريات بابل ونينوى وغيرها أو في التلمود البابلي الذي يعتبر أهم كتاب مقدس لدى يهود العالم بعد التوراة، والذي كتب ببابل. وكان الدين الزرادشتي أحد أهم الديانات التي مثلت القطيعة الفعلية مع تعدد الآلهة والأخذ بمبدأ الإله الواحد، كما هو حال الديانات الإبراهيمية أو قبل ذاك بالنسبة للديانة المندائية مثلاً.         
 الدراسات والأبحاث والكتب الكثيرة المنشورة عن زرادشت تشير إلى وجود تباين في مسالتين:
المسألة الأولى: يبرز التباين في أن البعض من الباحثين يعتبر شخصية زرادشت أسطورية ولم تكن موجودة أصلاً، في حين هناك الغالبية العظمى من الباحثين، ولاسيما من الشرق، يؤكدون وجود مثل هذه الشخصية والشواهد على ذلك كثيرة ومهمة، ويمكن متابعة نموذج للنقاش في هذا المجال في كتاب الباحث زهير كاظم عبود، الزرادشيتة، الذي يؤكد فيه وجود مثل هذه الشخصية الدينية فعلاً بالاعتماد على الكثير من الدلائل الملوسة وما اكتشف من أثار بإيران تؤكد وجوده ودوره في وضع الدين الذي سمي باسمه، إضافة إلى الكتب القديمة التي تأتي على ذكره وعن أعماله ودوره في نشر الدين ومثله وقيمه الإنسانية.3
 المسالة الثانية: التباين في تحديد فترة ولادته وعمله، فهناك من يشير إلى أنه ولد وعمل خلال الفترة الواقعة بين 1000 – 500 ق.م.، وهي الفترة التي ظهر فيها بوذا وكونفوشيوس.4  ويشير الباحث زهير كاظم عبود إلى فترة ولادة زرادشت بقوله: "ويقدر الباحثون ان زرادشت ولد في حدود 628 قبل الميلاد، وأنه توفى في العام 551 أو نحوهما، وهناك من يذكر أنه ولد في الفترة 660 – 583 قبل الميلاد ومسقط رأسه بلاد الماديين بأذربيجان..".5 وأن ولادته كانت بمدينة أورمية والتي يطلق عليه الإيرانيون "رضائية"، وتتلمذ على يد الحكيم الشهير "بوزين كوروس"، إذ اهتم والده بتعليمه منذ كان في سن السابعة من عمره وظل الابن معه ثمانية أعوام درس فيها عقيدة قومه، ودرس الزراعة وتربية الماشية وعلاج المرضى، ثم عاد إلى موطنه بعد هذه الأعوام الطوال.6  وتشير الباحثة آمنة محدادي في مقال لها منشور في الحوار المتمدن بهذا الصدد ما يلي: "تنسب الديانة الزرادشتية إلى "زرادشت" بن "يوشارب"،الذي ظهر في زمن "كشتاسف" بن "لهراسب" الملك،وأبوه من "أذربيجان"،وأمه من "الرى". ولد عام 598 أو 599 ق م، وتوفي في 522 أو 521 ق م، وفي فترة ظهور زرادشت كان ظهور"بوذا" في الهند وظهور "كنفشيوس" في الصين، وظهور الفلاسفة الإغريق،.. ."7
وخلال هذه الفترة امتلك الحكمة والطب ومعرفة الأعشاب واستخداماتها، ومعرفة معمقة بالأحجار الكريمة، إضافة إلى كونه أصبح فلكياً مرموقاً. إن دراسته ومعرفته بالديانات القديمة، ومنها الميثرائية، واطلاعه على الديانة اليهودية، مكنته من أن يضع لنفسه، ومن ثم للمؤمنين بدينه، فلسفة أو عقيدة دينية جديدة تأخذ من الماضي وتستلهم الحاضر والمتغيرات الحاصلة في المجتمع الزراعي الذي كان يعيش فيه. يؤمن الزرادشتيون بأن زرادشت نبي، وهو نبي آخر الزمان، أي لا يأتي من بعده نبي آخر، وهو الأمر الذي نجده لدى أتباع أكثر من دين واحد. يؤكد زرادشت في صلواته على وحدانية الإله فهو يقول، كما "جاء ذلك على صفحات الـ(أفت) حيث ينبعث صوت زرادشت عبر سطور الـ(جاتها يآسنا) يناجي الإله ( أهور مزدا).
إنّي لأدرك أنّك أنت وحدك الإله وأنّك الأوحد الأحد، وإنّي من صحة إدراكي هذا أوقن تمام اليقين من يقيني هذا الموقن أنّك أنت الإله الأوحد.. اشتدّ يقيني غداة انعطف الفكر مني على نفسي يسألها: من أنتِ؟ ولفكري جاوبت نفسي؛ أنا؟ إنّي زرادشت أنا، وأنا؟ كاره أنا الكراهية القصوى الرذيلة والكذب، وللعدل والعدالة أنا نصير! من هذه أتفكّر الطيبة التي تحوم في خاطري، ومن هذا الانعطاف الطبيعي في نفسي نحو الخير، ومن هذا الميل الفطري في داخلي إلى محق الظلم وإحقاق الحقّ أعرفك. من هذه الانفعالات النفسية والميول الفكرية التي تؤلّف كينونتي وتكوّن كياني ينبجس في قلبي ينبوع الإيمان بأنك أنت وحدك أهورا مزدا، الإله وأنّك الأوحد الأقدس الخيّر الحقّ."8
 
الديانة الزرادشتية
ينطلق زرادشت في دينه من وجود إله واحد كلي القدرة وموجود في كل مكان وعلى الناس أن يعبدوه. ولكن هذا الإله الواحد يظهر في الدين الزرادشتي بثنائية، بإلهين منفصلين عن بعضهما ومتصارعين دوماً، إنهما: الإله أهورا مزدا، إله الخير والنور، والإله أهريمن، إله الشر والظلام. وإن إله الخير والنور هو المنتصر في المحصلة النهائية. كما يطرح الدين موضوعة أن العالم منقسم إلى عالمين: عالم النور وعالم الظلام، عالم الخير وعالم الشر. ويشار إلى مسائل الزرادشتية تستند إلى قاعدتين اثنتين: أولاهما بيان امتزاج النور بالظلمة، وثانيهما بيان سبب خلاص النور من الظلمة وجعل الامتزاج مبدأ والخلاص معاداً. كما إن النور هو الأول بالظهور. 
وفي هذا تتجلى رؤية التناقض الفلسفية التي تجد تعبيرها في الوجود كله في الديانة الزرادشتية. وإذ يدفع اهورا مزدا اتباع الدين والبشر صوب أسس أو ثلاثة مبادئ هي: الفكر الصالح والقول الصالح والعمل الصالح، يسعى أهريمن إلى معاكسة هذه الثلاثية، بالفكر الطالح والقول الطالح والعمل الطالح. ويعتقد الزرادشتيون بأن الإنسان غير مجبر على اختيار طريق الشر والظلام، إذ أنه يقف أمام طريقين طريق الخير والنور وطريق الشر والظلام وعليه أن يختار أحدهما، وبالتالي فهو مسؤول عن افعاله ويحاسب أمام الله، فأما يمنح الثواب أو يواجه العذاب! ويؤمنون بعذاب القبر وأن اختلف أسلوب عذاب القبر في الديانة الزرادشتية عن عذا القبر في الإسلام مثلاً.   
ويرى زرادشت بأن الإنسان يتكون من جسد وروح، ويرى إن الروح نقية وطاهرة، وإن الجسد غير نقي أو غير طاهر لأنه يموت ويتعفن. ومن هنا تأتي الطقوس الخاصة التي يمارسها الزرادشتيون لكيلا تدنس الأرض الطاهرة بأجساد متعفنة. فالزرادشتيون "يكرهون فكرة اختلاط الجسد المادي بعناصر الحياة؛ الماء والتراب والهواء والنار حتى لا يلوثها، لذا فهم يتركون جثامين الموتى للطيور الجارحة على أبراج خاصة تسمى أبراج الصمت أو (دخنه) باللغة الفارسية، حيث يقوم بهذه الطقوس رجال دين معينون، ثم بعد أن تأكل الطيور جثة الميت توضع العظام في فجوة خاصة في هذا البرج دون دفنها."9
تستند الديانة الزرادشتية إلى عناصر أربعة تعتبر أساس الحية، وهي عناصر طاهرة ونقية ومقدسة لا يجوز تدنيسها، إنها: النار والما والهواء والتراب. ولا تختلف الديانات الأخرى عن ذكر هذه العناصر أيضا، والاختلاف في أنها مقدسة ولكنها غير معبودة، لأن العبادة للإله الواحد. أما في الديانات الأخرى فهذه العناصر غير مقدسة، باعتبارها من خلق الله، والمقدس هو الله وحده. هنا نجد التوافق في الإله الواحد، والاختلاف في العناصر الأربعة من حيث التقديس وعدم التقديس. كما إن هناك اختلافاً أخر هو: في الديانة الزرادشتية نجد إلهاً واحداً بثنائية الإله أهورا مازدا والإله أهريمن، في حين إن الديانات التوحيدية الأخرى تعبد وتقدس إلهاً واحداً أيضاً، وأن ابليس (الشيطان) ليس سوى من مخلوقات الله، وأن كان من نار وليس من نطفة البشر أو الملائكة، كما ورد في القرآن. فقد جاء في سورة الأعراف (مكية) ما يلي: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ.10 والطين هو التراب، ولهذا فأن الطين، أو التراب والنار هما سواسية من حيث الطهارة والنقاوة. وجاء في بحث عن الزرادشتية بشأن أبراج الصمت ما يلي: "أبراج الصمت هو اسم أطلقه الرحالة الغربيون على الأبنية التي يستعملها الزرادشتيون للتخلص من جثث موتاهم و التي يسموها بلغتهم "دخمه"، وهي بناء دائري الشكل يبنى على جبل صغير أو تلة عالية في موقع بعيد عن المدينة، ويدير المبنى مجموعة من الكهنة ولا يحق لسواهم الدخول اليه، وعندما يموت شخص ما من أتباع الديانة الزرادشتية يؤتى بجثته الى البرج حيث يرفعها الكهنة ويضعوها على سطح المبنى الدائري الشكل و الذي يكون محاطا بسياج مرتفع حتى لا يشاهد الناس الجثث وهي تؤكل وتتحلل، والسطح يتكون في العادة من ثلاث حلقات متداخلة، يوضع الأطفال وصغار السن في الحلقة المركزية من الدائرة اما النساء فتمدد جثثهن في الحلقة الوسطى في حين يوضع الرجال في الحلقة الخارجية، وما ان توضع جثة جديدة على السطح حتى تنقض عليها وتمزقها النسور(3)  المتواجدة بكثرة حول سياج البرج لتعودها على تناول لحوم الموتى هناك، وتترك الجثة قرابة السنة لتتحلل أجزائها بشكل كامل ولا يتبقى منها سوى العظام التي يجمعها الكهنة فيما بعد ولا يدفنوها وإنما يضعوها في تجاويف خاصة لحفظ العظام موجودة داخل البرج و تحاط هذه التجاويف بالجير الذي يساعد على تحلل العظام خلال عدة سنوات."11 
تلعب النار دوراً مهماً في الديانة الزرادشتية، باعتبارها ناراً مقدسة ويسعون للاحتفاظ بها مشتعلة، ولاسيما في معابدهم، كما أنهم يتوجهون بصلاتهم صوب الشمس حيث مصدر النور. يمارسون الصلاة في أوقات خمسة، تمام كما يمارسها المسلمون من حيث التوقيت، ولكنهم يمارسونها وقوفاً ويتلون التراتيل الدينية. ويحتفل الزرادشتيون بعيد نوروز في الحادي والعشرين من شهر أذار/مارس من كل عام ولمدة 13 يوماً، ويكون الاحتفال كبيراً في اليوم السادس حيث يعتبر يوم ميلاد زرادشت.   
إن التعاليم التي وضعها زرادشت لمتبني دينه في مخطوطات كثيرة ومهمة، جمعت وأحرق الكثير منها في العام 331 ق.م بعد سقوط الدولة الأخمينية وانتصار الإسكندر الكبير بعد أن فرض حكمه على البلاد. جاء في مقال مهم للسيد صبري المقدسي بعنوان " الزرادشتية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية" حول حرق المخطوطات ما يلي: "331 ق.م، انتصار ألكسندر المقدوني على الملك داريوس الثالث، واخضاعه للبلاد الايرانية بعد معركة(اربيل). وإنهائه لحكم السلالة الأخمينية وتدميره للعاصمة(بيرسيبوليس)، التي كانت العاصمة المهمّة للإمبراطورية منذ 550 ق.م. وحرق عدد كبير من الكتب المزدية والزرادشتية المقدسة. والغاء تعاليم (آفيستا) وشرائعها القانونية، ومحاولة فرض الديانة الإغريقية على سكان المنطقة الذين بقوا ملتزمين خفية على دين اجدادهم."12
للديانة الزرادشتية كتاب مقدس هو "الأفيستا"، ويطلق عليه أيضاً بـ "الأبستاق"، أي الأصل أو المتن باللغة الفارسية القديمة، ويشتمل على تعاليم الفيلسوف أو النبي زرادشت. وللكرد نسخة من الأفيستا مكتوبة باللغة الميدية، الكردية القديمة، ويقال بأن تعاليم هذا الكتاب دونت أساساً بهذه اللغة.13             
يعتبر زرادشت فيلسوفاً كبيراً وحكيما ومبشراً استطاع وضع تعاليم جلبت لها ملايين البشر ودعت إلى إمعان العقل والتمييز بين الخير والشر، بين النور والظلام. كتب الأستاذ زهير كاظم عبود في مقدمة كتابه الموسوم "الزرادشتية" ما يلي: "ترك زرادشت بصماته الواضحة على مجتمع، وعلى حضارة إنسانية، وتبين أنه كان متماسكاً على نشر فضائله وقيمه، غير عابئ بمباهج الدنيا ومغريات السلطة، عاش عفيفاً ومات عفيفاً، وكان اسماً كبيراً في صفحات التاريخ الإنساني. قاد عملية التنوير الإنساني في فترة حالكة، وجاهد من أجل إثبات القيم الخيرة التي تمسك بها، وأسس فلسفة انتشرت على مساحة ليست بالقليلة، وآمنت بها ملايين من البشر ولم تزل حاضرة وقائمة حتى اليوم. زرادشت كان اسماً حاضراً من بين أسماء بناة القيم والفلسفة والحِكم ولم يزل."14  وجاء في كتاب خليل عبد الرحمن الموسوم "أفستا: الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية" عن مضامين هذه الكتاب ما يلي: "أفستا، الكتاب المقدس للديانة الزرادشتيه يتجاوز عمره ثلاثة آلاف سنة. إنها موسوعة الحضارة، الثقافة، الأخلاق والأنتروبولوجيا للشعوب الآرية. بل إنها تشهد على عظمة روح وثقافة الشعوب الآرية، حيث تمثل أقدم وثيقة تاريخية، ثقافية، دينية وقانونية مكتوبة تعكس المراسم والطقوس الدينية، الأفكار الفلسفية، الأخلاق، علم الفقه، الشرائع الطب والفلك في المجتمع البدائي الإيراني. أفستا، طفولة الشعوب الآرية: الكردية، الأرمنية، الفارسية، الطاجيكية، الأفغانية...إلخ وهي صفحة مشرقة في تاريخ تطور الأديان والثقافة الإنسانية، وأحد المصادر المكتوبة المبجلة في تاريخ الحضارة البشرية، التي تناقلتها الأجيال عبر آلاف السنين شفاهة وكتابة فهي غنية بالأساطير الجميلة، مفعمة بحب الخير والكفاح من أجله، والإيمان بنصره على قوى الشر، كما أنها متخمة بالتغني بالصدق والحقيقة، فالحقيقة فيها أفضل الخيرات."15
يتوزع كتاب الأبستاق (أفستا) على واحد وعشرين جزءاً، لم يبق منها سوى خمسة أجزاء هي:
" * يسنا: يعني نوع من الأناشيد أو التراتيل، وهي عبارة عن ادعية ومعلومات حول الدين وينسب إلى الرسول زرادشت، ويقع في  72 يسناهات وكل يسنا يشتمل على مجموعة ادعية. * ويسبر: يضم مجموعة من ملحقات الـ "يسنا" وهي أكثر من 23 كَرده. * ونديداد: يصف هذا الجزء الاشكال المختلفة للأرواح الشريرة، وهي تدور حول الحلال والحرام، الطاهر والنجس، ويتضمن الكثير من القوانين الدينية، ومعها القوانين ضد الابالسة. * يشتها: ويعني الاناشيد والتسابيح وكل يشت باسم أحد الاجسام النورانية. * افيستا: بجوك (خردة افيستا) وهي الصلوات اليومية وتضم تراتيل في بيان عظمة الإله."16 يؤمن الزرادشتيون بوجود الملائكة، وهي لا تختلف في أعمالها عن الملائكة التي يؤمن بها المسلمون، فـ "هم لا يتناسلون ولا يأكلون ولا يشربون ولا يمكن رؤيتهم، وتتطابق نظرة الزرادشتية مع الإسلام الذي حل بعدها بزمن طويل حول قضية الملائكة، وهم موكلون بأوامر الله."17 والكثير من الكتاب يرى بأن الكثير من الأفكار والطقوس الدينية في الإسلام مأخوذة من الديانة الزرادشتية، وهي الأقدم من حيث ظهور نبي الزرادشتيين.18
فكرة تناسخ الأرواح
الزرادشتيون يؤمنون بتناسخ الأرواح والتي تعني انتقال الأرواح من أجساد الموتى إلى أجساد أخرى لتعيش حياة ثانية. وهم ليسوا وحدهم من آمن بهذه الرؤية الميتافيزيقية، بل الكثير من الشعوب التي آمنت بالديانات القديمة، ومنها الزرادشتية والإيزيدية والهندوسية. يقول الباحث محمد ياسين: "هناك الكثير من الديانات التوحيدية القديمة و الوثنية تذعن بالتناسخ حتى إنه يعتبر ركنا أساسيا وواحدا من أهم ثوابت الديانة “البوذية” و“الهندوسية”، ويجد له قالبا في ما يطلق عليه “السامسارا”، وتعني عجلة الولادة و الموت، ومقتضاها أن الأجسام البشرية لا تكون شيئا، عدا أنها ثوب تلبسه الروح ذاتها في كل ولادة وتخلعه عند كل وفاة، ونفس الأمر بالنسبة لشعوب وديانات كثيرة مثل الطاوية، والمايا، والانكا…"19. وهو يشير في الوقت ذاته إلى ما يلي: "أما الديانات الإبراهيمية فإنها ترفض عقيدة التناسخ جملة وتفصيلا، بينما جادلت بعض طوائفها ذات الخلفية الفلسفية و الغنوصية -التي لا تأبه بالعالم المادي و تعطي أولوية للروح- جادلت بمشروعية الفكرة وتهالكت في سبيل الذود عنها، خاصة في التراث الصوفي اليهودي المتمثل في مبدأ “القبالة” أو “الكابلا”، هذا الاتجاه الذي عرف النور فعليا في القرن 12.م وظهر أول مرة كاتجاه مستقل في الجنوب الأوروبي، وبات ما يعرف حاليا: ”بالتجديد اليهودي."20، كم إن الإسلام بمذاهبه السنية والشيعية "تقف موقف المصادم المنافح لمثل هكذا معتقد، بينما تؤمن الطائفة “الدرزية” غاية الإيمان بتناسخ الأرواح ،لدرجة أنه يمنع في طقوس الموت عندهم البكاء على الميت أو حتى تأبينه!!"21 هناك تباين فيما بين الديانات المؤمنة بتناسخ الأرواح في موضوع انتقال الروح من جسد إلى جسد، فبعضها يعتقد بانتقالها من جسد إنسان إلى جسد إنسان آخر، وبعضها الآخر يعتقد بانتقالها إلى جسد إنسان أو حيوان/ بل وإلى جماد أيضاً. ومن هنا أطلقت على تنوع عملية التناسخ والتقمص بما يلي:   
"النسخ: انتقال الروح من {{بدن انسان الى بدن انسان آخر}}.
الرسخ: انتقال النفس الناطقة من بدن انسان الى نبات.
المسخ: انتقال النفس المذكورة من بدن انسان الى الحيوانات.
الفسخ: انتقال النفس الناطقة من بدن انسان الى الجمادات."22
وتعتقد الديانة الزرادشتية بأن "الشخص الصالح ترجع روحه لجنين صالح، أما الفاسد تذهب لشخص فاسد."23
أما العلم وأغلب العلماء، ولاسيما الأطباء، فهم يرفضون بوضوح هذه الرؤية المثالية، إذ أن توقف وصول الدم إلى دماغ الإنسان ينهي وجود الحياة في جسمه، إنه الموت ولا حياة بعد الموت. 
يشير الكاتب زهير كاظم عبود إلى وجود خطأ شائع وخلط حاصل لدى شيوخ الدين المسلمين وجمهرة من الباحثين والسياسيين بين الزرادشتية والمجوسية. والمجوسية هي الديانة التي ذكرت بالقرآن، حيث ورد بشأنها "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" 24. وهي ديانة تختلف عن الزرادشتية وأن كانت قد انطلقت منها واختلفت معها. يشير إلى ذلك الكاتب زهير كاظم عبود في كتابه السابق الذكر حين كتب ما يلي: "هناك من يذكر بأن المجوس هم أعضاءٌ بالوراثة، في طبق كهنوتية في ميديا، وهي مملكة قديمة كانت تقع في المنطقة التي تسمى الآن شمال إيران، ويسمى العضو في هذه الطبقة مجوسياً، اشتهر المجوس بممارسة السحر، وبتفسير البشائر والنذر والأحلام وتقديم القرابين التنجيمية، وه غير كهنة الزرادشتية".25 وفي الوقت الذي حرمت الديانة الزرادشتية الصيام، ألزمت المجوسية أتباعها بالصيام لأيام محددة.       
وتلتقي الزرادشتية مع الكثير من الديانات، سواء تلك التي يطلق عليها "سماوية" أو التي تسمى "وضعية"، في عدد كثير من المحرمات، وبشكل خاص: الكفر بالله، والقتل والسرقة وشهادة الزور والزنى والغيبة والنميمة وخيانة الأمانة، والسحر وأكلة الميتة والربا والانتحار والإجهاض عمداً، والزواج بالمحرمات،.."26   
الزرادشتيون بالعراق
وجد الزرادشتيون منذ القدم بإيران والعراق في فترة حكم الأخمينيين، واعتبر الدين الرسمي للإمبراطوريات الثلاث: الأخمينية والبارثية والساسانية. إذ كانت الديانة الزرادشتية، كما أشير سابقاً قد ولدت في مدينة أرمية مع ولادة مؤسسها زرادشت (زارا)، والتي تعتبر جزءاً من كردستان، وكانت خاضعة للدولة الساسانية. ويرجع أسم هذه الإمبراطورية إلى الكاهن الزرادشتي ساسان، الذي كان جد أول ملوك الساسانيين، الملك أردشير الأول (أردشير بن بابك بن ساسان.، باعتباره مؤسس الدولة الساسانية (الإمبراطورية الفارسية الثانية).27
بدأت "الفتوحات" الإسلامية للسواد في عهد الخليفة الأول أبو بكر الصديق، واستكمل في عهد عمر بن الخطاب، وتم للجيش الإسلامي إسقاط الدولة الساسانية بعد حروب دامت عشر سنوات، قتل فيها الكثير من الفرس ممن كانوا يدينون بالزرادشتية. وقد أُجبر الناس بعدها على دخول الإسلام أو الهروب من إيران إلى الهند أو دفع الجزية. فتراجع وجود الدين الزرادشتي لهذه السبب في عموم المنطقة ومنها المنطقة الكردية، التي هي الأخرى لم يدخل سكانها الإسلام بسهولة بل على حد السيف، فكان القرآن بيد والسيف باليد الأخرى! وهذا ما يؤكده التاريخ حيث وضع السكان أمام ثلاثة احتمالات: إما القبول بالإسلام ديناً لهم وترك دياناتهم القديمة، ومنها الزرادشتية والإيزيدية، أو الهجرة من الأرض المحتلة، التي هي أرض أجدادهم، أو دفع الجزية، حيث اعتبروا من أهل كتاب، كما جاء بشأنهم في القرآن. وهذا ما حصل أخيراً حين اجتاح واحتل عصابات الإسلام السياسي المتطرف، تنظيم داعش الإرهابي والتكفيري الموصل وبقية مناطق محافظة نينوى وتعاملوا مع الناس من غير المسلمين بطريقة مماثلة لما حصل في الفتح الإسلامي، والذي هو في الجوهر نوع من احتلال أراضي شعوب أخرى بالقوة وفرض الهيمنة أو الاستعمار عليها. جاء في خطبة للخليفة الثاني عمر بن الخطاب بصدد الفتوحات الإسلامية، كما ورد في كتاب "تاريخ الطبري" ما يلي:
فـ " بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلا أمتان أمة مستعبدة للإسلام وأهله يجزون لكم يستصفون معايشهم وكدائحهم ورشح جباههم عليهم المؤونة ولكم المنفعة وأمة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة قد ملأ الله قلوبهم رعبا فليس لهم معقل يلجؤون إليه ولا مهرب يتقون به قد دهمتهم جنود الله عز وجل ونزلت بساحتهم مع رفاغة العيش واستفاضة المال وتتابع البعوث وسد الثغور بإذن الله مع العافية الجليلة العامة التي لم تكن هذه الأمة على أحسن منها مذ كان الإسلام والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد فما عسى أن يبلغ مع هذا شكر الشاكرين وذكر الذاكرين واجتهاد المجتهدين مع هذه النعم التي لا يحصى عددها ولا يقدر قدرها ولا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفه فنسأل الله الذي لا إله إلا هو الذي أبلانا هذا أن يرزقنا العمل بطاعته والمسارعة إلى مرضاته واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم واستتموا نعمة الله عليكم وفي مجالسكم مثنى وفرادى.." 28
جاء في كتاب وعاظ السلاطين للدكتور علي الوردي عن الأسلوب الذي تمت فيه عمليات الفتح الإسلامي اعتماداً على ما ذكره أبن الأثير في "الكامل" وعباس محمود العقاد في كتابه "أبو الشهداء"، ما يلي:
"يقول المؤرخون أن الجيش الأموي الفاتح عندما دخل المدينة بعد واقعة الحرة أباحها ثلاثة أيام "فاستعرض أهل المدينة بالسيف جزراً كما يجزر القضاب الغنم حتى ساخت الأقدام في الدم وقتل أبناء المهاجرين والأنصار".29 ثم يواصل قوله: "يروى أن جندياً من جنود ذلك الجيش الفاتح دخل على امرأة نفساء من نساء الأنصار ومعها صبي لها فطلب منها مالاً. فقالت له: "... والله ما تركوا لنا شيئاً!" فغضب الجندي وأخذ برجل الصبي والثدي في فمه فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض... ."30 ثم يقول علي الوردي: وليس في هذا غرابة. فالفتح هو الفتح في كل زمان ومكان. جرى الفتح الأموي في المدينة فعرفنا خبره. ولكننا لا ندري كيف جرى في بلاد بعيدة، وماذا قاسى الناس هنالك منه. فالجنود الذين يفعلون في مدينة الرسول لا يبالون أن يفعلوا مثله في بلاد الأعاجم أو الكفرة. ولا غرو بعد هذا أن نرى موسى بن النصير يجر وراءه من السبايا ثلاثين ألف عذراء بعد فتح الأندلس. ولا أظن بأن أولئك العذارى وقعن في الأسر طوعاً واختياراً. إن المجاهدين الفاتحين لا بد قد خطفوهن من البيوت بعد أن قتلوا رجالها ونهبوا ما فيها. فليس من المعقول أن يذهب المجاهدون إلى بيوت المدن المفتوحة فيطرقون الباب ويقولون: "أعطونا عذراء في سبيل الله". إن سبي كل فتاة وراءه قصة طويلة من النهب وسفك الدماء وانتهاك الحرمات."31         
 هكذا كان الفتح الإسلامي، وهكذا هو أسلوب كل الفاتحين المستعمرين للبلدان الأخرى، عرفناه لا في نشر الديانة الإسلامية، بل وفي نشر الديانة المسيحية في أوروبا الاستعمارية التي توجهت صوب القارة الأمريكية، ولاسيما الجوبية، وأفريقيا، على سبيل المثال لا الحصر.   
الزرادشتيون بالعراق الحديث
 
مارست القلة الموجودة من الزرادشتيين طقوسهم الدينية بشكل سري في فترة الدولة الملكية العراقية أو العهد الجمهوري، وكذلك فيما بعد، ولم تكن لهم معابد رسمية. ولكن لا توجد شواهد على اضطهادهم بالعراق. اعترفت حكومة إقليم كردستان العراق بعد الإطاحة بالنظام البعثي في العام 2003، وكذلك البرلمان الكردستاني بالديانة الزرادشتية وحق أتباعها في ممارسة طقوسهم. فقد جاء في مشروع دستور إقليم كردستان في المادة 65 النص التالي بشأن حرية الأديان:

"المادة: 65
لا إكراه في الدين، ولكل فرد حرية الفكر والدين والعقيدة وتتكفل حكومة الإقليم بضمان حرية مواطني كوردستان من مسلمين ومسيحيين وإيزيديين وغيرهم لممارسة عباداتهم وشعائرهم وطقوسهم واحترام الجوامع والمساجد والكنائس وأماكن العبادة الأخرى وتطويرها."32 وقد وأشار مدير إعلام وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في حكومة اقليم كردستان مريوان نقشبندي، إن قانون الوزارة أعطى حرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع، وأضاف: "قانون وزارة الاوقاف يستند الى عدة مبادئ اهمها حرية الاديان والمعتقدات في اقليم كردستان، ولهذا فإن أي ديانة، إن كانت في الإطار القانوني، مرحب بها ونساعدها ونقدم لها التسهيلات".33
 على وفق المعلومات المتوفرة لم يعلن حتى الآن عن أية ممارسات مناهضة لأتباع هذا الدين بإقليم كردستان العراق، ولهم اليوم معبد بمدينة السليمانية. ومن المعروف إن هذا الدين من الأديان التبشيرية، وبالتالي يسعى اتباعه إلى كسب المريدين والمعتنقين له. ويمكن أن تثير هذه المسألة القوى الإسلامية السياسية المتطرفة التي لا ترفض الأديان الأخرى فحسب، بل وترى ضرورة أن يدخل جميع الناس في الإسلام، شاءوا ذلك أم ابوا! وقد برزت اتجاهات متباينة في الموقف من الاعتراف الرسمي بهذا الدين بالإقليم، كما ورد في مقال للسيد عبد الجبار العتابي. فهناك من رحب بذلك حين قال:
"باتت الظواهر الفكرية والاجتماعية كثيرة، وبخاصة فيما بعد زلازل التغيير وشعور المواطن انه امام مفهوم جديد، لم يألفه من قبل". وتابع قوله: "الزرادشتية مبدأ اخلاقي وقيمي فاعل، وهو الاقرب الى روح التصوف الاسلامي، والسؤال كيف ولماذا التجأ الشباب الى هذا الدين، ما الذي وجدوه مغايرًا عمّا هو سائد في كردستان وربما العراق كاملًا؟ لابد من بحث واجابة".34 وهناك عالم دين مسلم اعتبر "مسألة التحدث في الموضوع نوعاً من الهذيان، قائلاً إن التحدث فيه كفر والحاد، مشددًا على قول الله سبحانه وتعالى (ان الدين عند الله الاسلام).354
أكد لقمان الحاج كريم، رئيس المجلس الأعلى للزرادشتية (منظمة زند)، وجود 100 ألف شخص يعتنق هذا الدين بالإقليم. كما أكد بأن المنظمة لن تمارس السياسة، بل ستركز في عملها على الجانب الديني فقط.31 ومع ذلك يمكن أن يصطدم هذا التوجه بالقوى الإسلامية السياسية بالإقليم أو بالعراق عموماً، كما هو الحال في الموقف من اتباع الديانات الأخرى التي تتعرض إلى الكثير من المصاعب والمتاعب والتهديدات والتشريد والتهجير والقتل بالعراق والتي تقف وراءها المليشيات الطائفية المسلحة وقوى الإرهاب التكفيرية، شيعي وسنية، كما تطرقنا إليها في الصفحات السابقة. إن من واجب المسلمين والمسلمات أن يفكروا بثلاث مسائل هي:
1.   الأهمية القصوى لضمان حرية العقيدة واعتناق الدين الذي يراه الفرد مناسباً له، أو لا يعتقد بأي دين أو مذهب. فهذا الموثق يشكل جزءاً أساسياً من حقوق الإنسان التي لا يجوز المساس بها بأي حال.
2.   لماذا تتخلى جمهرة من الشبيبة من أتباع الدين الإسلامي عن دين الإسلام والتحول صوب إلى الإلحاد، كما تشير إلى ذلك أخبار العراق، أو ما يطرحه بعض الوعاظ المتشددين في مجالسهم الدينية، في الفترة الأخيرة، والتي بدأت جمهرة من شيوخ الدين المتخلفين تثير الضجة حول هذا الموضوع ولا يسألون أنفسهم، لماذا يتحول هؤلاء الشباب، إن صح ذلك، إلى ملحدين؟
3.   إن من حق الإنسان أن يتحول من دين إلى دين آخر، ولا يجوز المساس بهذا الحق بأي حال، ولا يجوز استخدام العنف في كسب أو فرض الدين الإسلامي على الناس، أو من جانب أي دين آخر، ولا يجوز ممارسة التشريد والقتل والسبي والاغتصاب، كما حصل بالعراق من جانب قوى الإسلام السياسي المتعصبة والمتطرفة والإرهابية منذ العام 2003 حتى الوقت الحاضر لفرض الدين الإسلامي على الناس.
المصادر والهوامش
1.   أنظر: فيليب سيرنج، رمزية العناصر الأربعة، ترجمة عبد الهدي عباس، موقع غاستون باشلار Gaston Bachelard.
2.   أنظر: مثرا، موقع المعرفة الإلكتروني، أخذ المقتطف بتاريخ 17/05/2018. 
3.   أنظر: زهير كاظم عبود، الزرادشتية، بغداد، 2015، دون ذكر دار النشر، ص 20/21.
4.    Siehe: Heiko Diadesopulus, Zoroaster: Urvater der Religion des Umbruchs,
Philognosie, Wissen gestaltet die Welt, 08.09.2017.
5.    أنظر: زهير كاظم عبود، الزرادشتية، مصدر سابق، ص 42.
6.   أنظر: زرادشت Zoroaster (ZOHR-oh-as-tər)(Avestan: Zaraϑuštra)، موقع المعرفة، 17/05/2018.
7.    أنظر: آمنة محدادي، فلسفة الدين الزرادشتية، موقع الحوار المتمدن، المحور: الفلسفة، علم النفس، وعلم الاجتماع العدد 4744، 10/03/2015.
8.   أنظر: الزرادشتية، موقع الميثولوجيا والتاريخ، (الآي 44 من الجاتها ياسنا)، مدونة تعنى بعرض ودراسة الميثولوجيا والتاريخ والأديان،
9.   أنظر: الديانة الزرادشتية، موقع آريايى أم، أخذ المقتطف بتاريخ 21/05/2018.
10.    أنظر: القرآن، سورة الأعراف، مكية، الآية 12.
11.    أنظر: أياد العطار، أبراج الصمت.. تنشر جثث الموتى لتأكلها النسور!، موقع كابوس، أخذ المقتطف بتاريخ 21/05/2014.
12.     أنظر: صبري المقدسي، الزرادشتية: المنشأ والجذور والعقائد الروحية، موقع الحوار المتمدن، المحور: دراسات وأبحاث في التاريخ والتراث واللغات، العدد، 4083، في 05/05/2013.
13.    أنظر: زهير كاظم عبود، الزرادشتية، بغداد، 2015، دون ذكر دار النشر، ص 123.
14.    أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 4.
15.     أنظر: خليل عبد الرحمن، "أفستا: الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية، روافد للثقافة والفنون، 2008.
16.    أنظر: أبستاق، موقع الموسوعة الحرة، ويكبيديا. 21/05/2018.
17.     أنظر: زهير كاظم عبود، الزرادشتية/ مصدر سابق، ص 86.
18.   حامد عبد الصمد، باحث في الإسلام، هل الإسلام مقتبس من الزرادشتية؟ ستصدم عندما تعرف الحقيقة عقائد وشرائع الاسلام مسروقة من الزرادشتية.. معقول!، youtupe، بتاريخ 11/04/2018. 19
19.    أنظر: محمد اسين، فكرة عن تناسخ الأرواح وإمكانية التجسد من جديد، موقع أصوات مهاجرة، شؤون ثقافية، 08/07/2016.
20.    أنظر: المصدر السابق نفسه.
21.    أنظر: المصدر السابق نفسه.
22.    أنظر: خالد علوكة، تناسخ الأرواح، موقع الحوار المتمدن، محور العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني، العدد 3890، في 24/10/2912.
23.    أنظر: زهير كاظم عبود، الزرادشتية/ مصدر سابق، ص 181.
24.    أنظر: القرآن، سورة الحج، الآية 17. السورة مدنية، وأربع آيات منها مكية.
25.    أنظر: زهير كاظم عبود، الزرادشتية/ مصدر سابق، المدخل، ص9.
26.    أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 197.
27.    أنظر: ساسانيون، الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، أخذت المعلومات بتاريخ 23/05/2018.
28.    أنظر: محمد بن جرير الطبري أبو جعفر، تاريخ الطبري، تاريخ الأمم والملوك المؤلف، صدر بخمسة أجزاء، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ/ 1987م.
29.    أنظر: الدكتور علي الوردي، وعاظ السلاطين، دار كوفان-لندن، 1995. ص 209. 
30.    أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 209/210.
31.    أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 2010.
32.   أنظر: مشروع دستور اقليم كوردستان – العراق، المجلس الوطني الكردستاني، بتاريخ 24/09/2006.
33. أنظر: عبد الجبار العتابي من بغداد، جدل في العراق حول تأسيس مجلس الديانة الزرادشتية، إيلاف، 06/05/2015.
34. أنظر: المصدر السابق نفسه.
35.  أنظر: الزردشتية تعود إلى كردستان بسبب التطرف الديني، موقع السومرية نيوز، بتاريخ 2 حزيران/يونيو 2015.
   
برلين في 24/05/2018



227
كاظم حبيب
دانا جلال، ما كان ينبغي لك أن تموت مبكراً أيها المناضل الحالم!

في خضم الحياة النضالية المديدة والشديدة التعقيد والمصاعب، المليئة بالدماء والدموع، والمصحوبة أيضاً بالكثير من السعادة الداخلية والفرحة وراحة الضمير، يلتقي الانسان بعدد هائل من المناضلات والمناضلين الشجعان والأوفياء والمخلصين لقضية شعبهم، لقضية الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية، بمفهومها الإنساني العميق والشامل، والسلام والازدهار. يتعلم المناضل منهم الكثير من الفضائل والقيم الإنسانية العامة والشاملة، ومنها فضيلة الاستعداد الفعلي للتضحية بالنفس والنفيس وقبول الموت بصفاء ونقاء تامين، إذا ما وضُع هذا المناضل أو المناضلة أمام أحد أمرين: إما الخيانة للشعب والوطن، أو الموت في سبيل قضية الشعب والمبادئ التي اعتنقها عن قناعة، وليس إيماناً أعمى. وقد برهن على ذلك عشرات الألوف من خيرة المناضلين والمناضلات حين مرّوا بتجربة من هذا النوع، سواء أكانوا قد فقدوا حياتهم فعلا، ام نجوا من موت محقق بشرف وواصلوا النضال بعزم وحزم وصلابة فائقة.
دانا جلال، هذا الإنسان الطيب والمتوتر دوماً، الحالم أبداً..، كان واحدا من هؤلاء المناضلين الشجعان الذين ماتوا واقفين كشجرة السنديان المعمرة والنخلة الباسقة، مدركا بوضوح انه سائر الى نهايته، حين أوصى بنشر صورته الهادئة والمفعمة بالمحبة والسلام مع النفس بعد موته، مات الإنسان الحالم بالحرية والديمقراطية والاشتراكية والسلام والاستقلال لوطنه كردستان وللعراق وكل البلدان الأخرى، لشعوبها، الذي نذر نفسه لها وناضل بإصرار وعناد وحزم من أجلها!     
كان لدانا جلال تأثير بيّن على جمهرة من محبيه ورفاق دربه، بسبب فكره ومبادراته وحيويته ونشاطه الكثيف والود الذي يحمله للجميع، برز بعد وفاته عبر هذه الموجة الجميلة من الرسائل والكلمات التي عبرت عن هذا الود الكبير له وللقضية التي خسرته بوفاته. ترك دانا جلال أثراً كبيرا في الرفيقات والرفاق المناضلين الذين رافقوه في مسيرته النضالية، ترك اثرا بإصراره على النضال، بمواقفه المبدئية، باستقراره ودفاعه عن المبادئ التي اقتنع بها، وعلى الجرأة والشجاعة التي تميز بها في مواجهة العدو والصديق في قول ما يفكر به ولا يبالي بالعواقب المحتملة دون اي نزعة من مغامرة أو طيش. ترك اثرا بنقاء الفكر الذي يحمله، ونقاوته النضالية في الدفاع عن القضايا العادلة التي آمن بها وشارك في حمل رايتها.
كان دانا جلال مناضلا أمميا، لم تحركه الروح القومية الضيقة ولا الإقليمية الأكثر ضيقا وسوءاً، بل ربط نضاله القومي الكردي بنضال بقية شعوب الأمة الكردية من جهة، وبنضال الشعب العراقي والشعب الإيراني والشعب التركي، من جهة اخرى. إنها الرؤية الأممية الصادقة والفاعلة، ولذلك لم يكن هناك بالضرورة ذلك الإطار الحزبي الضيق الذي يحمل همه ويتسع لنضاله، اذ وجد في العملية النضالية المشتركة لهذه الشعوب من النظم الاستبدادية القهرية طريق الخلاص الفعلي لكل شعوب المنطقة. لقد شارك في النضال الحزبي، ولكن أفق تفكيره وعمله كان أرحب بكثير، وهو ما ميّزه، ولم يكن مريحاً للبعض القليل! 
عاش مناضلا وفي احضان عائلة شيوعية مناضلة، وساهم في النضال منذ ان كان طالبا، ومن ثم في الحركة الأنصارية ضد النظم الدكتاتورية وضد جلادي شعبه الكردي وعموم الشعب العراقي. ناضل بالبندقية وبالقلم، كإعلامي تميَّز بأسلوبه وشراسة قلمه في مقارعة المستبدين والفاسدين ومصادري الحريات العامة وحقوق الإنسان، وسارقي أموال الشعب ولقمة عيشه والمتحكمين بحياته ومستقبل أجياله. رفض التمييز والعنصرية والشوفينية وضيق الأفق القومي، رفض التمييز ضد المرأة وحمل مع المرأة راية النضال في سبيل حقوقها الكاملة والتامة. لقد كان دانا جلال مناضلاً عضوياً على وفق رؤية ومفهوم غرامشي للمناضلين العضوين الشجعان..
لقد كان دانا جلال ابناً باراً للشعب الكردي وأصيلا في نضالاته والمبادئ الي حملها في مسيرته النضالية حتى النفس الأخير حين توقف القلب عن الخفقان ... له الذكر الطيب دوماً وله مكان في قلوب محبيه الذين سيحملون الراية التي واصل رفعها طيلة حياته القصيرة والمفعمة بالحياة...
كاظم حبيب
برلين في 12/05/2018






228
العراقيون البهائيون

لا أدافع عن هذا الدين أو ذاك، ولا عن هذا المذهب أو ذاك، كما لا أطرح هنا صواب أو خطأ ما ورد لدى هذه الديانات والمذاهب من معتقدات وطقوس وتقاليد، بل أدافع هنا بلا هوادة عن حق الإنسان أينما كان وحريته التامة في الاعتقاد وفي تبني هذا الدين أو ذاك وهذا المذهب أو ذاك، وهذه الفلسفة أو تلك أو بلا دين أو مذهب. إنه الحق الذي لا يجوز المساس به بأي حال. لقد ناضلت البشرية عشرات القرون لتكريس هذا الحق والتمتع بهذه الحرية، فلا يجوز التفريط بهما أو السماح بالتجاوز عليهما! 

البهائية ديانة حديثة ظهرت بإيران في القرن التاسع عشر وعلى يد المبشر الأول بقيام هذا الدين التاجر الشاب علي محمد الشيرازي الملقب بـ "الباب" (1819 – 1850م)، الذي أشار بوقت مبكر إلى من التزم بهذا الدين الجديد والذي سيأخذ على عاتقه نشر الدين والدعوة له وإعلاء شأنه، إنه الشيخ ميرزا علي حسين النوري والملقب بـ "بهاء الله" (1817- 1892م)، المولود بمدينة نور بطهران/إيران. عانى هذا الرجل قرابة أربعين عاماً من الملاحقة والنفي إلى الدولة العثمانية، ثم الاعتقال والسجن، ثم الموت في السجن. عاش عشر سنوات من عمره ببغداد، كما استقر لمدة سنتين بالسليمانية. وقبل مغادرته بغداد أعلن "حضرة بهاء الله في نيسان من عام ١٨٦٣ انه مبعوث من الله، وان هدف رسالته هو تحيق الوحدة والاتحاد بين بني البشر. ومنذ ذلك الحين ارتبط البهائيون العراقيون بروابط الالفة والصداقة مع باقي مكونات المجتمع العراقي.
أوصى حضرة بهاء الله قبل موته بخلافة أبنه عباس أفندي له، والذي لُقب بـ "عبد البهاء" (1844 - 1921م)، المولود بطهران إيران. ولكن اختلف عباس أفندي مع أخيه غير الشقيق محمد علي. وبالتالي أصبح للبهائية طائفتان. أطلق على الأولى بالعباسيين تيمناً بعباس أفندي وعلى الثانية بالموحدين. ويبدو إن الثانية لم تعد كبيرة بعد أن مورس ضدها الطرد والمنع من الوصول إلى مرقد بهاء الله في حيفا.
مارس عبد البهاء التجوال في العالم للتبشير بدينه وكتابة الرسائل وما يسهم في توسيع دائرة المعتنقين له. وقبل أن يتوفى أوصى بخلافة أكبر أحفاده المدعو شوقي أفندي (1897 – 1957م) له في قيادة أتباع الدين. وبعد وفاته اقيم المجلس الذي أطلق عليه "بيت العدل الأعظم" في العام 1963 على وفق ما ورد في كتاب الشريعة البهائية، الكتاب (الأقدس)، البيت الذي يشرف ويدير شؤون أتباع الدين البهائي. رفضت مجموعة من البهائيين الاعتراف ببيت العدل الأعظم واعتبروا البهائي الأمريكي الولادة تشارلز ميسون ريمي Charles Mason Remey  (1874-1974م) ولي أمر البهائيين. وقد أطلق على هذه المجموعة اسم البهائيون الأرثوذكس ولها مريدون في بعض المدن الأمريكية.
يشير موقع الموسوعة الحرة إلى أن عدد معتنقي الديانة البهائية بالعالم وصل في العام 2012 بحدود 7,8 مليون نسمة من مجموع سكان العالم البالغ في نفس العام أكثر من 7 مليار نسمة.
يؤمن أتباع هذا الدين الحديث بالإله الواحد، وهم بهذا توحيديون. كما يدعون إلى دين واحد، على اعتبار أن كل الأديان جاءت من مصدر واحد هو الخالق، وأن لها رسالة واحدة، وأن الناس أخوة في الإنسانية وهم متساوون. ولهم كتاب مقدس يطلق عليه بـ "الأقدس"، كما لديهم كتب عرفانية كثيرة أخرى منها كتاب "الإيقان".
برز عداء شيوخ الدين المسلمين لهذا الدين واتباعه، ولاسيما شيوخ الدين الإيرانيين حيث ظهر في إيران دعاة هذا الدين لأول مرة، لسبب أساسي هو قولهم بمجيء نبي بعد النبي محمد، في حين أن المسلمين يعتقدون بأن النبي محمد هو آخر الأنبياء والمرسلين، وبالتالي فهي ضد الرؤية الإسلامية بشأن النبوة. ولهذا حوربوا بغيران وبتركيا في حينها، كما هم محاربون بالعراق واليمن ومناطق أخرى من العالم العربي.
وضع البهائيين بالعراق 
في الوقت الذي عانى البهائيون من اضطهاد السلطات الإيرانية، اعترفت سلطات الاحتلال البريطاني بالعراق بالدين البهائي وفق كتاب (بيان المحاكم رقم 6 في 28/12/1917). ويعتبر هذا الكتاب أول اعتراف رسمي للبهائيين قبل تشكيل الدولة العراقية الملكية. وواصلت الحكومة العراقية الملكية الاعتراف بهذا الدين وأتباعه، لهذا كانت عقود زواج البهائيين تصدر عن محاكم الأمور الشخصية لغير المسلمين. كما تم تثبيت البهائية في السجل الأساسي لإحصاء 1957 كواحدة من العقائد الدينية المثبتة في استمارة التعداد والسجل الأساسي، وكان البهائيون يثبتون في حقل الديانة (بهائي) للوثائق الرسمية. وكان لهم مركز ومقبرة كما كان للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في العراق (المؤسسة الروحانية على المستوى الوطني) مساهمات على الصعيد المجتمعي. وخلال تلك الفترة تم تشكيل العديد من المؤسسات المحلية في مختلف مدن العراق كالسليمانية وكركوك والموصل وخانقين ومختلف مناطق بغداد إضافة الى مناطق محافظة ديالى والنجف وكربلاء والبصرة وغيرها.
وبسبب خصوصية الدين البهائي يمتنع معتنقو هذا الدين عن التدخل في الاعمال السياسية والحزبية اضافة الى وجوب احترام وتقدير واطاعة السلطات الحاكمة في اي دولة يعيشون فيها فان تعاقب السلطات الحاكمة لم يؤثر على تعايش البهائيين مع ابناء وطنهم او على علاقة البهائيين بالدولة" كما جاء في وثيقة مكتوبة أرسلها لي أحد المعتنقين لهذا الدين. لم يجر أي تغيير في أوضاع البهائيين في فترة الحكم الجمهوري الأول بعد ثورة تموز 1958. ولكن أول الإجراءات المناهضة للبهائيين برزت في أواسط الستينيات من القرن العشرين، إذ تم وضع اليد على مبنى (حضيرة القدس) المركز البهائي في بغداد عام 1965. وفي العام 1970 ارتكب انتهاك صريح ضد حقوق البهائيين بصدور قانون 105 /1970 حرم بموجبه النشاط البهائي وتم حل مؤسساتهم ومصادرة الكتب والأموال والممتلكات. وما يزال يعاني البهائيون من أثار وعواقب هذا القانون، ومع صدور هذا القانون جرى في العام 1974 الحكم على عشرات البهائيين بالعراق بالحبس لمدد تتراوح بين عشر سنوات والمؤبد. وبتاريخ 24/07/1975 صدر القرار المجحف رقم 358 بحق البهائيين من مديرية الأحوال المدنية الذي تضمن تجميد قيود البهائيين في سجلات الاحوال المدنية، واعطاء الدائرة صلاحية استبدال حقل الديانة، مما ادى الى سلب الحقوق المدنية والقانونية مثل الحصول على هويات الأحوال المدنية وبقية الوثائق الثبوتية وتسجيل بيانات الولادات وتسجيل الزيجات وغيرها، ما لم يُثّبت في حقل الديانة مسلم. كما تم تغيير الكثير من قيود البهائيين في دوائر الاحوال المدنية. وبالرغم من كل هذه التقييدات للحرية الا ان العلاقة التي تربط البهائيين بجيرانهم واصدقائهم استمرت بكونها علاقة منفتحة مبنية على الاحترام والتقدير من الجميع. 
وقد وصلتني وثيقة من واحد من دعاة الدين البهائي أشار فيها إلى ما يلي:
"بعد عام 2003، تم الغاء سريان القوانين الجائرة ومنها قانون 105 لسنة 1970، والذي لا ينسجم مع الشرعة الدولية ولا مع دستور العراق الجديد، الذي يضمن معاملة متساوية لجميع العراقيين في جميع النواحي ومنها الدين، فأعاد البهائيون تشكيل مؤسساتهم الروحانية التي تقوم بإدارة ورعاية شؤون البهائيين في العراق في اندماجهم وخدمتهم لمجتمعهم. ومنذ ذلك الحين والبهائيون يمارسون نشاطاتهم المعنية بالاهتمام بتربية الاطفال وإطلاق طاقات الشباب بكل حرية يشاركهم فيها أبناء وطنهم من المكونات الاخرى. كما اعادت هيئة نزاعات الملكية بعض الاملاك البهائية المصادرة بقرار محكمة الثورة المنحل. كما ألغى وزير الداخلية قرار مديرية الاحوال المدنية 358 بتاريخ 24/7/1975 الذي تم بموجبه تجميد قيود البهائيين واستبدال حقل الديانة من بهائي الى مسلم، بصدور كتاب وزارة الداخلية 5441 في 19/3/2007 والذي تم تعميمه على كل دوائر الاحوال المدنية بموجب كتاب المديرية العامة للسفر والجنسية المرقم 5708 في 04/04/2007، وعلى إثر هذا القرار تم عملياً رفع التجميد عن القيود، وصدرت لعدد من البهائيين هويات مثبت فيها حقل الديانة (بهائي).
لقد تم الاعتراف الرسمي بإقليم كردستان العراق بـ "المجلس البهائي لإقليم كوردستان العراق" بموجب الأمر الوزاري الصادر عن وزير الداخلية بالإقليم المرقم 5292 والمؤرخ في 26/ 2/ 2012، حيث تم تثبيت ممثل رسمي للبهائيين في وزارة الاوقاف والشؤون الدينية بالإقليم بموجب الامر الوزاري المرقم 180 والمؤرخ 11/10/2015، اسوة بباقي الاديان من غير المسلمين. وشارك البهائيون رسمياً بمناقشات حراك دستور الإقليم ومشاريع صياغة وتعديل القوانين ذات العلاقة، ومنها قانون 5 لسنة 2015 لحماية حقوق مكونات كوردستان، حيث مازال البهائيون ومع العديد من الجهات المهتمة يحاولون إضافة اسم البهائيين ضمن مكونات الإقليم في القانون.
أما ببغداد، ورغم عدم وجود اضطهاد مباشر للبهائيين، فما زال معتنقو هذا الدين يناضلون من أجل إلغاء القانون رقم 105 لسنة 1970، إضافة إلى إلغاء الكتاب الذي صدر عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي بتاريخ 26/07/2007 وبرقم 1215 الذي تضمن منع دوائر الأحوال المدنية عن تثبيت (بهائي) في حقل الديانة في هوية الأحوال المدنية وتسجيله مسلم. وهو تراجع صارخ في فترة رئيس الوزراء السابق وبتأثير مباشر من الحوزة الدينية بقم/إيران، وهو إجراء مناقض للدستور العراقي. كما خلت الدراسة التي أعدتها دائرة الرصد والأداء وحماية حقوق الإنسان في وزارة حقوق الإنسان بالعراق تحت عنوان "أطياف العراق مصدر الثراء الوطني" في العام 2011 عن ذكر البهائيين ضمن هذه الأطياف. وهذا الموقف يتناغم مع القرار الصادر عن مجلس الوزراء بعدم تثبيت في حقل الدين (بهائي) للمواطنات والمواطنين البهائيين. وتناغماً مع هذا الاتجاه المناهض للبهائيين تم هدم دار تاريخي للبهائيين بقرار من الإدارة المحلية ببغداد، تحت ذريعة كونه داراً قديمة آلية إلى السقوط. وقد قُدمت اعتراضات واحتجاجات ضد الهدم، ولكنها لم تنفع. كما وجهت هيئة الدفاع عن ابتاع الديانات والمذاهب في العراق رسالة إلى مديرية الآثار بالعراق طالبة منها الحفاظ على هذا الأثر التاريخي لأتباع الديانة البهائية، ولكن كلها لم تجد نفعاً مع القوى الإسلامية السياسية الحاكمة والمتنفذة.     
إن من واجب العراقيات والعراقيين الأحرار أن يتضامنوا مع مواطناتهم ومواطنيهم اتباع الديانة البهائية لنيل حقهم المشروع للتمتع بحرية العبادة، وإقامة دور العبادة الخاصة بهم، وممارسة الطقوس والشعائر الدينية دون عوائق أو عقبات. إنه الحق الذي لا يجوز المساس به والذي ما تزال الحكومات العراقية المتعاقبة تمتنع عن رفع الحيف الذي وقع عليهم في عهد الدكتاتورية البعثية والصدامية الغاشمة، وذلك بإلغاء القانون رقم 105 لسنة 1970، إضافة إلى إلغاء الكتاب الذي صدر عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي بتاريخ 26/07/2007 وبرقم 1215، الذي تضمن منع دوائر الأحوال المدنية عن تثبيت (بهائي) في حقل الديانة في هوية الأحوال المدنية وتسجيله مسلم.


229
د. كاظم حبيب
محن وكوارث الشبك بالعراق
إلى بنات وأبناء شعبنا العراقي، إلى إخوتنا في الإنسانية، إلى المواطنات والمواطنين الشبك، أقدم لكم جميعاً خالص تعازي لمن سقط منكم شهيداً أو جرح وعوق لأسباب سياسية، أو دينية، أو مذهبية، أو عنصرية وشوفينية، على امتداد الفترات المنصرمة ولاسيما في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية والصدامية الغاشمة وقيام نظام سياسي طائفي مقيت ومحاصصة مذلة للإنسان العراقي، رجلاً كان أم امرأة، بإصرار من الإدارة الأمريكية وولاية الفقيه بإيران وشيوخ الدين والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية بالعراق، ومن ثم، وبشكل أبشع، بعد اجتياح الموصل وعموم محافظة نينوى حيث وقعتم ضحية سهلة في أيدي الدواعش الأوباش، بسبب السياسات الرجعية والمشوهة التي مارستها القوى الطائفية الحاكمة بالعراق، والتي سمحت لولوج هذه الجماعات الإسلامية السياسية المتطرفة والمتوحشة من ثغرة النظام السياسي المركزية، من الطائفية في الفكر والممارسة اليومية، إلى العراق. أنتم، كغيركم من أبناء وبنات محافظة نينوى والمحافظات الغربية والحويجة وديالى عانيتم الأمرين تحت الاحتلال الداعشي وسطوته، أو أجبرتم على النزوح إلى مناطق أخرى، وعانيتم بقسوة كبيرة منها ومن الهجرة القسرية والتمييز. أحييكم بحرارة وأشد على أيديكم، فأنتم وغيركم جزء من هذا الشعب، وأبناء وبنات هذا الوطن المستباح حتى الآن بالطائفية والفساد والإرهاب!!!       

الشبك مكون عراقي يعتنق الإسلام ديناً، وأفراده على مذهبين: الشيعي الجعفري أو الإمامي، وهم يشكلون الأكثرية، والسني الشافعي، وهم يشكلون الأقلية. والعيش المشترك بين معتنقي المذهبين في الإسلام لم تنغّصه الصراعات المذهبية.
اختلف الباحثون والكتاب بثلاث مسائل جوهرية بشأن الشبك، وهي:
1. الموطن الأصلي للشبك ومتى قدموا إلى العراق؛ 2. الديانة والمذهب الذي يعتنقه الشبك؛ و3. وهل يشكلون قومية خاصة بهم أم أنهم جزء من قومية أخرى، وما هي اللغة التي يتحدثون بها. لقد ذهب الباحثون مذاهب كثيرة في تشخيص الإجابة عن هذه الأسئلة.     
 لقد تسنى لي قراءة عشرات المقالات والكتب التي بحثت في موضوع الشبك والمناقشات التي جرت حتى الآن بين الباحثين، والكتاب والتي في الغالب الأعم لم تتوصل إلى وحدة الرأي. ويبدو إن هذه المسألة ستبقى محوراً للنقاش في الفترة القادمة أيضاً. ولكن لا بد للباحث، إضافة إلى سعيه في التحري عن مصادر قديمة تشير إلى وجهة الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من الحوار مع أصحاب الشأن وذاكرة عائلاتهم وما سجل لديهم بشأن الإجابات المطلوبة. وفي الآونة الأخيرة التقيت مع السيد يوسف محرم، المقيم مع عائلته ببرلين واستمعت لوجهة نظره ورؤيته للمسائل المطروحة، كما اطلعت على الدراسة التي أعدها أثناء دراسته الجامعية، ومن ثم دراسة الأستاذ سعد سلوم1 والأستاذ زهير كاظم عبود عن الشبك2، وكذلك دراسة الدكتور رشيد الخيون3، واللقاءات التي أجريت مع الباحث والسياسي والنائب الدكتور حنين گدو وما نشره بصدد الشبك، باعتباره أحد أبناء الشبك وممثلاً عنهم في المجلس النيابي العراقي في الوقت الحاضر.
لقد استخلصت من كل ذلك المسائل التالية:
الشبك قوم قدموا إلى بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) من منطقة حوض بحر قزوين بنهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر ضمن الحملة التي قادها تيمور لنگ (تیمور الأعرج) (1336  -1405 م) على المنطقة في الفترة بين 1397/1398-1405م)، بما فيها مدينة الموصل. لقد كان جيش المغول لا يتكون من جنود مغوليين فحسب، بل من جنود ينتسبون إلى أقوام أخرى كانت تحت سيطرة المغول والقائد المغولي تيمور لنگ في اجتياحه العسكري صوب العراق والشام ...الخ. وقد استقرت مجاميع مختلفة من الجنود والعوائل التابعة لقوات المغول بالعراق، ومنهم عائلات من الشبك. كما إن الحملات العسكرية اللاحقة من جانب الصفويين أو غيرهم قد جلبت معها الكثير من الأقوام إلى العراق لتقطن فيه، ومنهم الفرس أيضاً. وهم بهذا المعنى قوم ضمن الأقوام التي كانت خاضعة لسيطرة المغول على حوض بحر قزوين، وأن اسمهم "الشبك" متأتي من اسم الملك والقائد العسكري الذي كان الشبك تحت أمرته، واسمه الشاه بگ، والتي تحورت لتصبح الشبك. وفي مناطق الشك هناك قرية باسم المنارة شبك أصبحت منذ القدم مقبرة لموتى الشبك، والتي يقال أن الشاه بگ مدفون فيها. هم يعتقدون جازمين بأنهم ليسوا من القومية التركية أو الكردية أو الفارسية، بل قومية خاصة بهم، إنها القومية الشبكية. وويبدو أنهم منذ أن كانوا في حوض بحر قزويني قد تبنوا المذهب الشيعي، ولكن قرب قرى بعينها من الموصل بأكثريته السنية قد أثر على مذهب هذه القرى وحولها إلى المذهب السني، كما إن جوارهم لكدستان قد ساهم بتبني المذهب السني الشافعي. وما زال الشيعة منهم حتى الآن على التقاليد الإمامية، رغم دخول الكثير من الطقوس البكتاشية بحكم وجودهم ضمن العراق وتحت الهيمنة العثمانية، وهي طقوس قريبة من طقوس الشيعة الإمامية مع بعض المغالاة في موضوع الحسين وأهل البيت. ويشار إلى أن كبار السن, وجمهرة من الشباب، من الشبك ما زالوا يمارسون التقاليد والطقوس البكتاشية المعروفة عن الطائفة البكتاشية بتركيا وبعضهم بالعراق. إلا أن اقترابهم من الحوزة الدينية الشيعية، إضافة إلى هيمنة الأحزاب الشيعية على الحكم بالعراق قد ساعدت على تغلغل الأحزاب الشيعية في صفوفهم وكسب المزيد منهم إلى التقاليد والطقوس الشيعية، ولاسيما الشباب منهم.
وللشبك لغتهم الخاصة، التي هي ضمن اللغات الهندو-أرية المستقلة التي دخلت عليها كلمات تركية وفارسية وربما بعض الكلمات الكردية، ولكنها خاصة بهم ويستخدمون الحروف العربية، ولكنها تكتب بشكل أفضل بالحروف اللاتينية. وبهذا المعنى فهم مكون قومي شبكي وديني إسلامي بمذهبين شيعي جعفري متشابك مع الطريقة البكتاشية، وسني شافعي.
يذكر السيد يوسف محرم إلى أن " للشبك عادات وتقاليد خاصة متميزة من حيث إقامة الاعياد و المناسبات الدينية والاعراس، وممارسة باقي التقاليد الاجتماعية... لأقلية الشبك زي خاص تراثي فلكلوري ذات قيمة تاريخية خاصة بهم. يوجد في مناطق الشبك مزارات ومقامات دينية مقدسة مثل مقام الامام زين العابدين ع ومقام امام الرضا وامام العباسية ومرقد قلورش ومزارات دينية اخرى."4 من هنا فهم يرفضون محاولات جعلهم جزءاً من القومية الكردية، كما يرفضون الادعاء بكونم جزءاً من القومية التركية، إضافة إلى إنهم يرفضون الادعاء لكونهم من القومية الفارسية أو جاءوا مع الصقويين إلى العرق، كما إنهم قاوموا محاولات تعريبهم من جانب النظام البعثي، بالرغم من أن جوازاتهم وهوياتهم الشخصية ما تزال تحمل الأسماء أو الألقاب العربية التي فرضت عليهم. يشير تقرير كتبه يوسف محرم بشأن أوضاعهم بالعراق إلى ما يلي:
"مع تعاقب الحكومات في العراق أستمر مسلسل تهميش الشبك حتى سيطرة حزب البعث على الحكم بالعراق، حيث استخدم النظام سياسة التعريب ضد الشبك ومسخ هويتهم ومحاولة إنهاء وجودهم بشكل نهائي في العراق واجبارهم على التسجيل في الهويات الشخصية بأنهم عرب والانتساب الى القبائل العربية. ولم يكتف بسياسة التعريب في محاولة انهاء وجود الشبك فحسب، بل قام النظام بين عامي 1987 و1988 بعمليات أنفال ضد عائلات الشبك في منطقة سهل نينوى، وذلك بهدم منازلهم وقراهم واعتبارهم تبعية إيرانية وليسوا عراقيين. كما تم اعتقال الكثير من الشخصيات الشبكية المعروفة ومن رجال الاعمال لأسباب طائفية، وإجبار رجال الدين الشبك على تطبيق منهاج البعث في ممارسة الطقوس الدينية."4 تشير المعلومات المتوفرة إلى إن الشبك يستوطنون 56-72 قرية وناحية ومدينة تقع في شرقي الموصل وعلى الجانب الشرقي من نهر دجلة وتتبع إلى أربعة أقضية هي: قرقوش، والموصل وتلكيف، والحمدانية. قدَّرت سلطات الاحتلال البريطاني نفوس الشبك في العام 1925 بـ 10000 نسمة، وبلغ نفوسهم على وفق إحصاء العام 1977 بحوالي 80000 نسمة.5 كما قدر في العام 2002 بحدود ربع مليون نسمة.
عاش الشبك أوضاعاً طبيعية في العهد الملكي حيث اعترف بهم النظام السياسي حينذاك في كونهم يشكلون قومية بذاتها هي القومية الشبكية، وأنهم يتبعون مذهبين الشيعي والسني. يتحدث الشبك عن حالتين في أوضاعهم بالموصل في العهد الملكي:
أولاً: علاقات تعايش سلمي متميز وتعاون وتضامن وحسن جوار بعيدا عن أي شكل من أشكال العنف أو استخدام السلاح بين المكونات القاطنة في سهل نينوى، وهم المسيحيون والإيزيديون والتركمان والشبك.
ثانياً: علاقات تمييز وتهميش من جانب إدارة الموصل وأهل الموصل السنة، باعتبارهم شيعة روافض: فكان التعامل يجري عملياً على النحو التالي: أهل الموصل السنة درجة أولى، العائلات المسيحية درجة ثانية والعائلات الإيزيدية درجة ثالثة، والشبك درجة رابعة. وكانوا يعانون من العزلة وعدم التعامل الاقتصادي معهم.
أما في فترة البعث الثانية فقد تعرضوا لعملية تعريب صارخة. لقد أصدر النظام أوامر تقضي بتسجيل العراقيين في شمال العراق أما عرباً أو كرداً، فسجل عدد يتراوح بين 300-400 شخص كأكراد، وسجل بقية الشبك كعرب. وأعطيت لهم في التسجيل ألقاباً عربية أو حورت أسماؤهم. مثال على ذلك يوسف محرم سلمان البو حيْو، أصبح يوسف محرم سلمان النعيمي، في حين أنه من عائلة شبك معروفة في أوساط الشبك.
أما الذين سجلوا بأنهم كرد، وهم من قرى الشبك، فقد أصبحوا ضمن الفرسان (الجحوش)، وهجَّروا من مناطقهم إلى دشت حرير بإقليم كردستان، حيث أقيم لهم حينذاك مجمع سكني. وعلى العموم فقد عاشوا في هذه الفترة تحت وطأة التمييز المشدد، نورد هنا على سبيل المثال لا الحصر ما كانوا يعانون منه في محافظة نينوى. 
** النظرة الدونية للشبك باعتبارهم روافض وعدم التعامل الاقتصادي من باب التعالي، ** منع الزواج معهم، والابتعاد عن إقامة علاقات اجتماعية معهم، ** عدم السماح لهم بالعمل في الإدارة أو في الأمن أو التعليم، ** وجود تحفظ على الشبك عموماً من منطلق خاطئ أنهم جاءوا مع الغزاة وساهموا في الحملات التي تعرضت لها الموصل!! ** وقد أدى هذا إلى انغلاق الشبكيين على أنفسهم ومحاولة العيش في اكتفاء ذاتي من خلال نشاطهم الاقتصادي في قطاعي الزراعة ورعي الماشية. ويشير السيد يوسف محرم إلى هذا الموقف بما يلي:
"كانت النظرة التي تجعل الآخر في مرتبة أدنى اجتماعيا موجودة في البيئة الموصلية التي عشت فيها، فقد كان المجتمع الموصلي ينظر نظرة دونية إلى الإيزيدي والشبكي وفي بعض الأحيان إلى الكردي أيضاً". وبعدها بدأت مظاهر التمييز تنتقل إلى المجتمع الكردي بوصفه مجتمعا أكبر، فأخذ الشبكيون يواجهون هذا التمييز في المحيط الكردي بعد أن كانوا يعانون منه في محيطهم العربي."6
بعد سقوط الدكتاتورية البعثية استبشر الشبك خيراً، وتمنوا أن تنتهي أيام التمييز والعزلة والحرمان. وقد بدأ فعلاً بعض الانفراج. إلا إن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، إذ في أعقاب تفجير مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في مدينة سامراء، بدـأت حملة ظالمة ضد الشبك بالموصل وسهل نينوى، وبدأ القتل على هوية الشبك باعتبارهم شيعة روافض وبكتاشية. وتم قتل أكثر من 1500 إنسان من الشبك الذكور وبعض النساء بين 2005-2014، أي حتى اجتياح الموصل من تنظيمات القاعدة وداعش التي كانت لها مواقع قوية بالموصل ودور كبير في تصفية الكثير من الناس. كما حصلت عملية تهجير واسعة بلغ عدد الذين هجروا 1200 نسمة من الشبك من مدينة الموصل ومن أيسر الموصل، أي من أحياء نينوى الشرقية والميثاق والتأميم والبكر وأربچیة والوحدة. كما تعرض الإيزيديون إلى قتل واسع بالموصل وفي المناطق التابعة لمحافظة نينوى في ذات الفترة. ولكن الشبك تعرضوا لمعاملة سلبية من جانب الأحزاب الكردستانية، إذ يشير التقرير الذي أمتلك نسخة منه إلى ما يلي: 
"مارست الاحزاب الكردية وبأخص منها الحزب الديمقراطي الكردستاني وكذلك الاتحاد الوطني الكردستاني أبشع انواع سياسات إذابة هوية الشبك من خلال سياسة التكريد وفرض الهوية الكردية على الشبك والضغط على أبناء الشبك من خلال حملات الاعتقال والتهديد والترهيب. كما أن قسماً من الأحزاب الكردية فتح مقرات حزبية له داخل قرى الشبك واجبارهم على الانتماء للحزب الديمقراطي الكردستاني، وكذلك تغيير ديمغرافية مناطق الشبك من خلال توطين عوائل كردية في مناطق الشبك ومنع الشبك من بيع وشراء وحرية التصرف بممتلكاتهم وفرض عليهم اللغة الكردية والتدخل في حياتهم الاجتماعية والتدخل في مناسبات الشبك الدينية وافتتاح مراكز ثقافية تابعة لحزب الديمقراطي الكردستاني من اجل مسخ ثقافة الشبك وتكريدها، إضافة إلى منع الشبك من حق التمثيل السياسي من خلال السيطرة على كوتا الشبك في مجلس النواب العراقي."8 أما بعد اجتياح داعش للموصل وسهل نينوى ابتداء من حزيران 2014 فقد وقعت أبشع الكوارث والمآسي وعمليات الإبادة الجماعية بالمكونات الدينية والقومية بالموصل ومحافظة نينوى ولاسيما ضد المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان الشيعة من أهالي تلعفر. يشير التقرير السابق ذكره إلى أوضاع الشبك تحت الهيمنة الداعشية إلى ما يلي:
"بعد احداث 10. 6. 2014 وسيطرة تنظيم داعش الارهابي على مدينة الموصل وقبل دخوله منطقة سهل نينوى سيطر التنظيم على ما يقارب 9 قرى من أقلية الشبك وهي تقع على الحدود بلدية مدينة الموصل، حيث ارتكب التنظيم أعمالاً إرهابية فيها من قتل وخطف. فقد ذبح تنظيم داعش الإرهابي في قرية "سادة بعويزه"، التي تقع شمال شرق مدينة الموصل، أكثر من 4 عوائل من الشبك بجميع أفرادها واختطف أكثر من 50 شاباً وشيخاً من قرية "عمر كان" الشبكية، التي تقع جنوب شرق مدينة الموصل، ومصيرهم مجهول لحد الآن. كما قام باختطاف العشرات من الشبان من أهالي قرية "بازوايا" وقرية "كوجلي" وتم قتلهم جميعاً. وبسبب انسحاب قوات البيشمركة الكردية من منطقة سهل نينوى وسيطرة داعش على مناطق وقرى أقلية الشبك في سهل نينوى، نفذ الدواعش تهجير جميع المواطنين والمواطنات الذين ينتمون الى اقلية الشبك ويقدر عددهم بحدود 350 ألف نسمة اي ما يعادل 20 % من اجمالي سكان مدينة الموصل. وكذلك نفذ تنظيم داعش عمليات اختطاف لأكثر من 300 شخص من أقلية الشبك، قسم منهم وضع في سجن بادوش والذي كان تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، وقسم اخر في سجون مدينة الرقة السورية. عثر في الفترة الماضية على ثلاث مقابر جماعية تتكون كل مقبرة على مجموعة كبيرة من المدنيين من أقلية الشبك في منطقة "الحاوي" وقضاء "سنجار" وناحية "الگوير". لم يقف سلسلة جرائم تنظيم داعش الارهابي الى هذا الحد، بل قام بتفجير جميع المقامات الدينية والمواقع الاثرية الخاصة بأقلية الشبك في قرية "علي رش" وقرية "تيس خراب" وقرية "العباسية" وقرية "بازوايا" و"خزنة تبة" و"منارة شبك"، كما قامت بتفجير المواقع الاثرية في قرية "طبرق زيارة". نشر تنظيم داعش الارهابي وعلى صفحات التواصل الاجتماعي بتاريخ 19.3.2015 صور يصف بها كيفية تفجير الحسينيات والمراقد والمراكز الدينية الخاصة بأقلية الشبك، وقدر ذلك بأكثر من 8 مواقع. بعد تهجير جميع المدنيين من أقلية الشبك الى محافظات وسط وجنوب العراق وإقليم كردستان يعاني المدنيون من أقلية الشبك أصعب الظروف المعيشية وقلق مع انعدام الامن وانعدام الرعاية الصحية والتعليم، وكذلك تفشي الكثير من الأمراض بين الأطفال والنساء وكبار السن مع ارتفاع عدد الوفيات، كلها بسبب سوء الظروف المعيشية وارتفاع مستوى الأمية والبطالة بين المواطنين والمواطنات، ووصل الإرهاب إلى حد الإبادة الجماعية ضدهم، حسب المعايير والقانون الدولي للإبادة الجماعية."9
المصادر والهوامش
  أنظر: سعد سلوم، مائة وهم عن الأقليات الدينية في العراق، مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية، بيروت-بغداد، 2015.
2 أنظر: زهير كاظم عبود، الشبك، سلسلة كتب سرمد، ط أولى، السليمانية، إقليم كردستان العراق. 2006م.
3 أنظر: رشيد الخيون د.، الأديان والمذاهب في العراق: ماضيها وحاضرها، مركز المسبار، دبي، 2016.
4 تقرير خاص ليوسف محرم موجود في أرشيف د. كاظم حبيب).
5 المصدر السابق نفسه.
6 قارن: ديوان أوقاف الأديان المسيحية والإيزيدية والصابئة المندائية، العراق نصرت مردان 4 كانون الأول/ 2010).
7 في لقاء خاص مع السيد محرم بتاريخ 26/03/2018، الساعة 14 بعد الظهر، ك. حبيب.
8 تقرير خاص ليوسف محرم موجود في أرشيف د. كاظم حبيب.   
9 المصدر السابق نفسه.


230
كاظم حبيب
لم ينته توزيع الأدوار بين المرجعية وأحزاب الإسلام السياسي الطائفية!!
ما كان للنظام السياسي الطائفي أن يتكرس بالعراق لولا العوامل التالية:
1.   الطريقة التي تم بها إسقاط الدكتاتورية الغاشمة والقوى التي شاركت فيها والعواقب الوخيمة التي نشأت عنها من تدمير شامل للبنية التحتية ومؤسسات الدولة العراقية وفرض الاحتلال الدولي على العراق وفتح الباب أمام القوى الإرهابية للإسلام السياسي بالولوج إلى العراق ونقل المعركة معها إليه.
2.   الدور الذي لعبته المرجعية الشيعية في التعجيل بوضع الدستور وإجراء الانتخابات العامة في ظل الاحتلال، ودستور أعرج ومشوه، وبداية صارخة لإقامة نظام سياسي طائفي محاصصي مقيت، بدعم مباشر وتنسيق صارخ مع المحتل، مما أسهم بدعم جهود المحتل في توزيع السلطة مبكراً على أسس طائفية محاصصية مناهضة لمبدأ الوطن والمواطنة.
3.   التدخل السياسي المباشر الذي لعبته إيران ليس في دعم القوى والأحزاب السياسية الطائفية لتكريس حكم الطائفة فحسب، بل وفي تشكيل الميليشيات الطائفية المسلحة وتمويلها وتسليحها وتنفيذ برامج مدمرة لتنفيذ عمليات إرهابية ضد أتباع الديانات الأخرى وتنشيط الصراع الطائفي والاختطاف والقتل، وكذلك القتل على الهوية، وزيادة عدد القنوات التلفزيونية الدعائية الخاصة الممولة من إيران لتكريس الطائفية والوجود الأمني والمليشي والاقتصادي والاجتماعي والمذهبي الإيراني بالعراق. وقد وجد هذا الوضع تأييداً واضحاً من المرجعية الشيعية بالنجف، إضافة إلى دورة حوزة قم بذلك.
4.   الدور غير العقلاني للقوى السياسية الكردية في الابتعاد عن التعاون وتنسيق العمل والعلاقة مع القوى الديمقراطية العربية وغيرها العربة بالبلاد، والمساومة الفظة مع القوى الإسلامية الطائفية بدعوى مظلومية الكرد والشيعة، ومع النظام السياسي الطائفي، للحصول على مكاسب آنية معينة، ولكن كانت لها عواقب وحصيلة مأساوية على الكرد خضوصاً وعلى الشعب العراقي عموماً. وقد كان كل ذلك متوقعاً. أضافة إلى إغراق المحافظات الكردستانية بالقوى والنشاط الإيراني والتركي في آن واحد والأسواق بسلع البلدين ومقاولاتهم في البناء والمشاريع الخدمية الأخرى.
5.   الضعف الواضح والمساومة المضرة التي أبدتها القوى المدنية والديمقراطية وبعض القوى اليسارية في السكوت عما يجري بالبلاد، إلى حد قيام البعض بتقديم أكاليل الزهور لشخص وحكومة نوري المالكي ووزراءه، ومداراة الوضع بما ساعد على تكريس القوى والنهج الطائفي بالبلاد. كما إن التحرك المدني ضد الطائفية السياسية ونظامها السياسي واستبدادها الفكري وفسادها بدأ متأخراً، مع نهوض وانفجار ما أطلق علي بـ "الربيع العربي"، واستمراره حتى الآن.
6.   ولا شك في أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتشوه البنيتين الاقتصادية والاجتماعية (الطبقية) بالعراق، وكذلك تشوه وتخلف الوعي المنبثق عنهما قد ساعدا على قبول المحتالين والفاسدين والسطحيين والطارئين والرثين ف السلطة واستمرار هيمنتهم عليها حتى الآن. وقد عجزت القوى المدنية والديمقراطية واليسارية عن الاستفادة من ضعف وأخطاء وبشاعة ما حصل بالعراق بفعل وجود هذه القوى السياسية المتخلفة على رأس السلطة والنظام السياسي بالعراق. ولم تكن عملية التنوير الفكري والسياسي سهلة بل معقدة جداً، بسبب القدرات المالية والإعلامية التي وجدت السند والدعم والتأييد من جانب المؤسسات والمرجعيات الدينية والمحتلين الأجانب والمتدخلين الأفظاظ في الشن العراق، ولاسيما إيران، ومن ثم السعودية وتركيا ودول الخليج.
  لم يكن تدخل المرجعيات الشيعية والمؤسسات الدينية السنية بالحياة السياسية العراقية مقبولاً، بل كان وما يزال مضراً وألحق أفدح الأضرار بقضية الشعب العراقي والدولة العراقية. وكان هناك منذ البدء توزيع الأدوار فيما بينها وما يزال هذا مستمراً. وما الرسالة الأخيرة التي أُعدت باسم المرجع الديني السيد على السيستاني والتي قرأها عبد المهدي الكربلائي بتاريخ 04/05/2018، سوى تأكيد فعلي وحقيقي ليس بشأن التدخل المستمر منذ 14 عاماً في السياسة العراقية ومن أوسع أبوابها فحسب، بل وبتأييد مستمر واستثنائي لقوى الإسلام السياسي الشيعية الحاكمة الفاسدة وحليفتها السنية الفاسدة أيضاً، التي ألحقت الدمار الشامل ووفرت مستلزمات اجتياح داعش للمحافظات الغربية ومحافظة نينوى واحتلاله وممارسة السبي والاغتصاب والنزوح والتهجير والقتل والفساد والإرهاب والبؤس والفاقة بالبلاد. إن الرسالة الأخيرة تعلن عن مواصلتها التدخل غير المشروع الذي يرفضه الدستور بالشأن العراقي.
حتى الآن، ورغم انتهاء مهمة تحرير الموصل، ما يزال السيستاني الذي دعا للجهاد الكفائي وأسس للحشد الشعبي، لم يطلب حل الحشد العشبي وإنهاء دوره، بل تركه يشكل أحزاباً سياسية ذات نهج ووجهة إيرانية صرفة، ليدخل معها الانتخابات لصالح إيران. إنها البشاعة بعينها، سواء اعترفت المرجعية بها أم لم تعترف، وكذا المؤسسات الدينية السنية وأحزابها السياسية الطائفية والفاسدة.
إن من واجب كل إنسان غيور على وطنه وشعبه أن يفضح هذه الأدوار ولا يسكت عنها ولا يسمح ببقاء هؤلاء بالسلطة وعبر الانتخابات، لأنهم سيمارسون السياسة ذاتها ولكن بصورة أبشع من السابق. أتمنى على الناخبين أن يصوتوا لمن لم تلطخ يديه بدماء العراقيات والعراقيين ولم تلوث يديه وجيوبه بالفساد والمال الحرام!
 

231
د. كاظم حبيب
محن وكوارث المندائيين في وطنهم العراق
إلى أحبتنا، أخواتنا وأخوتنا المندائيين، مواطناتنا ومواطنينا في الوطن المستباح بالطائفية والفساد والإرهاب، إلى من عانوا من ظلم الحكام وجمهرة من شيوخ الدين المسلمين العرب وغير العرب أثناء الحكم العثماني والفارسي وقبلهما وبعدهما بالعراق حتى الوقت الحاضر، إلى الشهداء الذين سقطوا لعقيدتهم الدينية أو لأفكارهم ومواقفهم السياسية الوطنية والديمقراطية، إلى من أجُبروا على ترك أرض وطنهم ومياههم، مياه دجلة والفرات، والمندي، إلى من يحنون دوماً للعودة إلى أرض الأجداد، إلى الأرض التي ساهموا بحراثتها وزراعتها والصناعة الفضية التي مهروا حرفتها وأبدعوا فيها، إلى أولئك الأبطال الذين رغم كل ذلك استمروا صامدين على أرض الوطن لأنهم ملحها ونور دنيانا، اليكم يا من أنتم بالوطن أو بالمهجر، هذه اللوحة المكثفة عن دوركم وواقعكم والمحن التي كابدتم منها والكوارث التي عشتم تحت وطأتها وعانيتم منها، يا من تمارسون دوركم في الخلاص من النظام السياسي الطائفي وقوى الفساد والإرهاب وتعملون من أجل بناء عراق ديمقراطي علماني لا تمييز فيه على أساس القومية أو الدين أو المذهب أو الفكر الإنساني الحر!!   

المندائيون يشكلون جزءاً أصيلاً من سكان وداي الرافدين، ميزوبوتاميا، منذ أن بزغت الحضارة السومرية على هذه الأرض الطيبة، وهم لا زالوا بالعراق وسيبقون فيه، رغم الكوارث والمحن المستمرة التي تعرضوا لها عبر تاريخهم الطويل، ورغم التهجير القسري الذي لم يتوقف حتى الآن. وقد لعبوا وما زالوا يلعبون دوراً حيوياً ومهماً في الحياة الفكرية والروحية العراقية. وبهذا الصدد يشير الكاتب الفقيد عزيز سباهي إلى ما يلي: "لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دوراً ملحوظاً في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد ما بين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية-الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية-الإسلامية. ولكنهم بعد تدهور هذه الحضارة، والغزو المغولي، والفتح العثماني من بعد، وتعرضهم إلى الاضطهاد في العهود المختلفة، انكمشوا على أنفسهم في القرى المنتشرة عند البطائح الممتدة من جنوب نهر الفرات حتى نهر كارون في جنوب غرب إيران، ..".1
يختلف الباحثون حول أصل الدين المندائي. إلا أن الكثير من الدراسات المقارنة المهمة لأبرز الباحثين الذين بحثوا في الدين المندائي تشير إلى أن هذا الدين رافديني الأصل، إذ أن هناك روابط أو وشائج قوية بين الدين المندائي والدين السومري العراقي القديم. وهنا يبدو لي بأن من المجدي حقاً أن نفكر بالاتجاهين التاليين، وهما:
أ‌.   هل إن السومريين، كمجموعة بشرية، كانوا مجاورين للمندائيين، كمجموعة بشرية أخرى، في جنوب العراق، وبالتالي كانت المجموعتان متأثرتين بأصول دينية ذات جذر واحد مع تباين في تفاصيل الدين.
ب‌.   أم إن المندائيين هم الاستمرار لما تبقي من السومريين، وبالتالي فأن دينهم يتطلق من جذر واحد، ولكنه، كأي دين آخر، عرف بعض التحولات والتغيرات عبر القرون اللاحقة، ولاسيما في مجال تعدد الآلهة في الدين السومري، في حين تسود وحدانية الحي العظيم في الدين المندائي، وتحول الآلهة المتعددة في الديانة السومرية إلى ملائكة (إثري) في الدين المندائي تخوض ذات الصراعات التي كانت تخوضها في الدين السومري أو البابلي بشكل عام، إضافة الى تميز الدين المندائي بالغنوصية (المعرفية).
في أغلب دراسات الباحثين تجري المقارنة بين الدينين ولا تنطلق من احتمال كونهم كمجموعة بشرية من أصل واحد. ولكن الباحث عزيز سباهي أثار في بحثه القيم تساؤلاً مشروعاً بهذا الصدد، حيث كتب ما يلي: "يثار هنا تساؤل مشروع. هل كان المندائيون قد تأثروا بشكل مباشر بأفكار الجماعات البابلية التي كانت تجاورهم، أو أن يكونوا هم ذاتهم من بقايا البابليين وطوروا معتقداتهم من خلال تفاعلهم مع الجماعات اليهودية والفارسية وغيرها التي كانت تعيش بجوارهم، أو أن يكونوا من الجماعات الآرامية التي تطورت أفكارها كثمرة للتفاعلات المختلفة، أو أن يكونوا جماعة صغيرة هاجرت إلى جنوب العرق من الغرب وهي تحمل فكراً غنّوصياً فطورته بتأثير الفكر البابلي والفارسي محولة إياه إلى تيار غنّوصي ذي مزايا شرقية خاصة؟" 2مع إنه لا يقطع بأي من هذه الاحتمالات، إلا إنه يميل، وأنا معه في ذلك، واستناداً إلى تراثهم الأدبي في مختلف المراحل إنهم من جنوب العراق.3
إن تتبع الكثير من الدراسات والكتب الصادرة عن باحثين مختصين بالشأن المندائي، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب هنري أوستن لايارد الموسوم "نينوى وما تبقى"4، وكتاب الباحثة المختصة الليدي دراور الموسوم "الصابئة المندائيون"، وكتابها الثاني الموسوم "أساطير وحكايات صابئية"5، وكتاب مارك ليدزبارسكي الموسوم "كتاب يوحنا عن المندائيين6، ثم كتاب عزيز سباهي الموسوم "أصول الصابئة (المندائيين) ومعتقداتهم الدينية"7، وكتاب خزعل الماجدي الموسوم "جذور الديانة المندائية"8، التي تعتبر دراسات جادة ومهمة أجرت مقارنة بين الدين السومري والدين المندائي، وهي تشير إلى التماثل الكبير في الجواهر الإلهية الثلاثة التي برزها الباحث خزعل الماجدي: جوهر الماء وجوهر النور وجوهر الظلام9، إضافة إلى التقارب الكبير في المندي، وتراتبية الكهنة، ومراسيم دفن الموتى والطقوس الدينية، ورمز الديانة الدرفش أو (الراية)، مع الأساس الفلسفي لهذا الدين وجوهره ومدى تأثير الغنّوصية العرفانية أو المعرفية عليه لاحقاً. إضافة إلى الأساطير والحكايات الشعبية. وتجدر هنا الإشارة إلى تركيز الباحث عزيز سباهي أولاً ومن ثم الباحث خزعل الماجدي على مسألة أساسية في الدينين هي التماثل الكبير في أسطورة الخلق أو الكون. كتب عزيز سباهي في كتابه القيم بهذا الصدد ما يلي:
"1. إن كلا الأسطورتين تقرّان بوجود عالمين من البداية.: عالم الظلام، العالم الأسفل، تسكنه كائنات معينة (تي آمت وأبسو) والوحوش الأخرى في البابلية (والروها وكاف وأور وكرون والوحوش الأخرى في المندائية من جهة،. .. وعالم النور، عالم السماء، العالم العلوي من جهة أخرى. إن أهمية هذه المسألة تكمن في كون الأسطورة البابلية (ذات الأصل السومري) قد أشارت بوضوح تام إلى هذا التناقض منذ البداية. وبالتالي فهي أصل القول بعالمي الظلام والنور وليست المعتقدات الفارسية. إن الفرس هم الذين استقوا هذا المعتقد من بابل وطوروه من بعد إلى صراع بين أهريمان وأهورا مازدا، وبالتالي فأن المندائيين يأخذون معتقدهم في الظلام والنور من البابليين مباشرة وليس من خلال الفرس كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين..." 10 وهنا يمكن أن ترد الملاحظة التالية: يقول عزيز سباهي إن المندائيين يأخذون معتقدهم من البابليين مباشرة وليس من الفرس، ولكن الوقائع التاريخية تشير وتؤكد إلى أن المندائيين هم بابليون أيضاً، أي أنهم جزء من الحضارة البابلية ومعتقداتها، وإن معتقداتهم هي جزء عضوي من معتقدات البابليين، مع الأخذ بالاعتبار تطورها والإضافات الي حصلت على الديانة المندائية.
"2. كلا الأسطورتين تقومان على أساس أن تمرداً ما يحدث في عالم الظلام ضد عالم النور، وأن عالم النور يعمد إل قمعه فتتم بعدها عملية الخلق. وكلاهما يصف الاستعدادات التي يتخذها كلا الطرفين استعداداً للصدام.
3. كلاهما يختار شاباً لقمع التمرد ويمنح كل الوسائل الضرورية لاكتساب قوة جبارة يستطيع بها أن يحقق النصر على قوى عالم الظلام ...
4. وفي الأسطورتين يبدو الإنسان مزيجاً من عنصرين: أرضي، طين الأرض، وما ينشأ عنه من خلق وطباع وغرائز مستمدة من العالم الأسفل، عالم الشر، وسماي: مرة يبدو في صورة دم إلهي، وتارة في صورة نفس سماوية، وما يرتبط بها من عقل ومعرفة وحكمة."     
وفي ضوء ذلك، هناك من الدلائل ما يؤكد أصلهم الرافديني البابلي العراقي، رغم وجود بعض الآراء التي ترى أن أصل وجودهم متوسطي شامي مصري، وبعضهم الآخر يرى كونه فارسي وهندي الديانة. إذ جاء في الكاتب الموسوم "جذور الديانة المندائية للكاتب الدكتور خزعل الماجدي بهذا الصدد ما يلي: إلا أننا نرى ان أصول الديانة الصابئية المندائية تمتد بجذورها راسخة في أرض العراق القديم، وتحديداً أرض سومر.. حيث نرى ان الدين الصابئي المندائي هو ما تبقى من الدين السومري (الذي طواه الزمن منذ زمن بعيد) .. ولكنه أصبح مغلفاً بالكثير من الأديان التي أتت من داخل أو خارج العراق القديم". ثم يؤكد ذلك مباشرة بقوله: "إن الدين المندائي دين توحيدي شأنه في ذلك شأن الديانات الموحدة المعروفة ولكن عمقه الروحي والتاريخي ضارب في الجذور القديمة لأقدم ديانات وادي الرافدين."11
تعتبر الديانة المندائية أقدم الأديان التوحيدية التي يطلق عليها المسلمون بالديانات الكتابية (المندائية والمجوسية واليهودية والمسيحية والإسلام)، وكتابهم المقدس "كنزا ربا" إضافة إلى كتب دينية عديدة أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر نشير إلى "دراشة اديهيا"، و "ديوان أباثر"، وديوان "حران كويثا". والدين المندائي مغلق غير تبشيري، وغير معروف تماما ما إذا كان منذ البدء غير تبشيري، أم حصل هذا لاحقاً بسبب المضايقات والاضطهاد والقمع الذي تعرض له المندائيون، إذ إن الأديان من حيث المبدأ تبشيرية عموماً، وبالتالي، فأتباع هذا الدين لا ينافسون أتباع الأديان الأخرى في دينهم، ولا يسعون إلى كسب أتباع الأديان الأخرى لدينهم. دين الصائبة المندائيين، وبخلاف الكثير من الأديان، فالدين المندائي مسالم، يدعو إلى المعرفة، بحكم غنوصيته، وليس لهذا الدين من نبي أو مؤسس محدد، كما في الأديان الكتابية الأخرى، وهو أمر إيجابي، فاتباع هذا الدين، الناس، كلهم هم الذين مارسوا هذا الدين ووضعوا طقوسه وسجلوا تراتيله. كتب الشيخ الترميذة علاء النشمي إجابة عن سؤال من هو مؤسس الدين، ما يلي: "إن الديانة المندائية تختلف عن باقي الأديان، بكونها ليس لديها مؤسس بشري .. أن المندائية ببساطة هي شرعة الحياة الفطرية (شرشا اد هيي) التي عرفها والتزم بها آدم أبو البشر (أول إنسان عاقل) .. فقد ورد في ك/ي، عندما أمر الخالق العظيم، رسول الحياة والنور (هيبل زيوا) (أ.س) بما يلي: ((اذهب، ناد بصوتك آدم وامرأته حواء وجميع ذريتهم بصوت عال ناديهم واجمعهم وخذ على نفسك أن تعلمهم كل شيء. أعطهم دروسا عن ملك النور السامي ذو القوة الواسعة العظيمة دونما حد أو عدد وعرفهم بعوالم النور الأبدية))، وأيضا ورد في ك/ي ((لقن آدم وزوجته العلم والمعرفة)). فهذا الأمر من الخالق العظيم لملاكه الطاهر، بان يعلم آدم وزوجته حواء (العلم والمعرفة).. فهذه المعرفة هي المندائية، ويقصد بها معرفة وجود الرب الحي العظيم. فالمندائية امتداد لشريعة عوالم النور (عوالم الله).. فهي تعني المعرفة.. ويقصد بها معرفة الرب وتوحيده، الحي العظيم (هيي ربي) مسبح اسمه، وتنظيم الصلة ما بين رب الأكوان والإنسان، وهذا هو أهم شيء وجوهر الدين المندائي.. وأول من عرف، وكان مندائي بسبب معرفته، هو آدم (مبارك اسمه).. المندائية هي معرفة الحياة وهي ليست وليدة عصر، وإنما وليدة كل العصور."12 من هذا يمكن القول بأن الدين المندائي يقترن بأدم ونوح وسام وشيت وبعدد آخر من المصلحين (الأنبياء) الذين ذكروا في القرآن أيضاً، ولاسيما إبراهيم ويحيى وزكريا، بالتالي فهم يحترمون جميع "أنبياء" الأديان الأخرى.
رغم هذا التوضيح، اختلف الكهنة وشيوخ الدين من جميع الأديان الأخرى بشأن المندائيين. ويعود هذا إلى حد ما إلى الانغلاق المندائي على الذات من جانب شيوخ الدين المندائيين ومنذ القدم، باعتباره ديناً باطنياً لا يجوز كشف أسراره. ونشأ عن ذلك، إضافة إلى عوامل أخرى لا دخل للمندائيين فيها، ومنها محاولة احتوائهم وإدخالهم في دين الآخرين، كما لحقت بهم إساءات كثيرة وتفسيرات خاطئة، وتعرضوا إلى محن وكوارث كثيرة عبر تاريخهم الطويل.
فعلى سبيل المثال لا الحصر جاء في كتاب (حران كويثا) (حران السفلى) ( Inner Harran ) ، وهو أحد الكتب الدينية الذي يتحدث عن تأريخ الصابئة المندائيين، إلى تعرضهم في القرن الميلادي الأول وفي بداية الدعوة المسيحية الى الإرهاب والمجازر وحملة إبادة جماعية للمندائيين في مدينة أورشليم سنة 70م التي كان يسيطر عليها الحكم الروماني حيث تمت إبادة آلاف المندائيين ومن بينهم 360 رجل دين مندائي وكانت هذه المذبحة العامل الأساسي في هجرتهم الأولى من اورشليم والعودة الى موطنهم الاصلي في وادي الرافدين ووقف التبشير بالدين المندائي مما أثر على أعدادهم لاحقا".13 يمكن هنا العودة إلى مواعظ وتعاليم (دراشة أديهيا) ليحيى بن زكريا الذي يشير فيه إلى العلاقة مع اليهود حينذاك.14
كما كتبت الليدي إي. أس. دراوور في كتابها (الصابئة المندائيون) عن الإبادة التي تعرض لها المندائيون في القرن الرابع عشر في مدينة العمارة حين كان السلطان محسن بن مهدي حاكما عليها، وكان ابنه فياض حاكما على شوشتر حيث تعرض بعض العرب على امرأة مندائية لغرض اغتصابها وعلى أثر ذلك أعلنت الحرب على المندائيين فتم قتل رجال الدين والرجال والنساء والاطفال وبقيت الطائفة بلا رجال دين لعدة سنين.15 بالنسبة للمسلمين، من حيث المبدأ، يفترض أن يأخذوا بما جاء في القرآن بشأن المندائيين، إذ اعتبرهم أهل كتاب، وبالتالي فلا يجوز الإساءة لهم أو قتلهم بأي حال. فهل تصرفوا باستمرار على هذا الأساس؟ واقع الحال يشير إلى غير ذلك! فقد تصرف الكثير من الحكام وشيوخ الدين المسلمين بخلاف ذلك، ونقلوا موقفهم أحياناً كثيرة إلى أوساط المسلمين، مما أدى إلى تعرضهم للكثير من الكوارث والمحن على امتداد تاريخهم في ظل الدول ذات الأكثرية المسلمة.
فالواقع يشير إلى أن شيوخ المسلمين لم يختلفوا عن كهنة وشيوخ بقية الأديان الكتابية بشأن الديانة المندائية وأتباعها. فمنهم من رأى ضرورة فرض الجزية عليهم باعتبارهم من الذميين وأهل كتاب، ومنهم من رأى أنهم كفارا يجب قتلهم. كتب د. رشيد الخيون في كتابه الموسوم "الأديان والمذاهب بالعراق" في الجزء الأول منه بهذا الصدد ما يلي: " إن الجهل في تاريخ هذا الدين، بسبب باطنيته جعل الطبري ينقل عن المفسر عبد الرزاق الصنَّعاني (ت 211ه) عن سفيان الثَّوري (ت 161ه) "الصابئون قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين).16 ومثل هذا التقدير ليس خطأً فادحاً فحسب، بل يعرض أتباع هذه الديانة إلى خطر القتل على ايدي المسلمين. كتب الخيون بصواب ما يلي: لا نعتقد أن في الشرق منبع الأديان، هناك قوماً لا دين لهم. ومن يطلع على كتاب "كنزا ربا" وترجمات كتب المندائيين الأُخر مثل "ديوان أباثر" ورسوم الأفلاك، والكائنات النورانية قد يعذر الزمخشري (ت 538ه) على الشطر الأخير من عبارته التالية: "قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة".17 التفسيرات الخاطئة وبعيداً عن معرفة الدين وأصوله وطقوسه كان سبباً في الكثير من الاجتهادات الخطيرة التي عرضت أتباع الديانة المندائية إلى الكثير من الكوارث والمحن. فعلى سبيل المثال لا الحصر صدرت فتاوى تعتبرهم مشركين، وبالتالي يحل على المسلمين قتلهم، منها مثلاً ما أفتى به محتسب بغداد والقاضي والفقيه الشافعي ابي سعيد الحسن بن يزيد الإصطخري (ت328هـ) أيام القاهر العباسي، روى الخطيب البغدادي (ت 463ه) في سياق ترجمة الإصطخري: أفتاه بقتلهم، لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنصارى، وأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، حتى جمع بينهم مالاً كثيراً له قدر فكف عنهم."18
تؤكد جميع المصادر التي تحت تصرفي إلى العراق وإيران هما موطنا المندائيين. كتب الباحثان نعيم بدوي وغضبان الرومي في مقدمة كتاب الليدي دراوور الموسوم "الصابئة المندائيون" الذي قاما بترجمته ما يلي: "حول ضفتي الرافدين وبخاصة في المناطق السفلى من النهرين فيما يسمونه البطائح منهما حيث يصب النهران العظيمان مياههما في الأهوار وحيث يلتقيان في مدينة القورنة قبل أن يفرغا مياههما في الخليج العربي، وفي بطائح عربستان من بلاد إيران حول نهر كارون الذي يصب هو أيضاً مياهه في الخليج ذاته، في تلك الأصقاع عاش ولا يزال يعيش بقايا طائفة يطلق عليها الصابئين أو الصابئة أو الصبة وتطلق هي على نفسها اسم (المندايي). وكان الصابئون المندايي هؤلاء يقطنون تلك الأصقاع حين فتحت الجيوش الإسلامية بلاد الساسانيين وكانوا بأعداد كبيرة تكفي لأن يذكرهم القرآن الكريم باعتبارهم ديناً كتابياً ويمنحهم الحماية ويسميهم (الصابئين)، هذه التسمية التي لا يزالون يُعرفون بها اليوم والتي تضمن لهم وجودهم وعيشهم بين المسلمين كدين كتابي متسامح معه." 19 لغة المندائيين هي الآرامية- المندائية، وهم آراميون.
سنحاول فيما يلي أن نتطرق إلى واقع المندائيين بالعراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتى الآن.   
أشرنا سابقاً إلى أن المندائيين يتسمون بخصائص إنسانية كالرغبة الجامحة في السلام والمحبة والتعاون والتضامن والابتعاد عن الصراعات وحب العراق، باعتباره وطن الآباء ولأجداد الذي شاركوا في بناء حضارته على امتداد تاريخ العراق بكل صمت وتواضع، وهم من محبي العلم والمعرفة. ومن هنا انطلقت تلك الحكمة المندائية التي تقول "ويل لعالم غير منفتح على غيره، وجاهل منغلق على نفسه". جنبهم هذه المواقف الكثير من المصاعب والآلام، رغم بروز مواقف غير ودية من جانب الحكام في فترات مختلفة من تاريخ العراق. وفي العراق الحديث، حيث وضع الدستور والقوانين ونظم العمل الحديثة، ابتعد المشرع العراقي عن ذكر أتباع الديانة المندائية في الدستور أو في القوانين والأنظمة، كما حصل بالنسبة لليهود والمسيحيين، وأهمل الجانب الشرعي في ديانات الآخرين في أحين أهمل ذلك في ديانة المندائيين، وبشكل خاص موضوع الزواج والطلاق والوراثة والزواج بغير المندائي ...الخ.
كما تجلى أيضاً في اعتبارهم يعبدون النجوم والكواكب في بعض كتب التعليم المدرسية والتي تتنافى مع موقفهم التوحيدي والذي لا يختلفون به عن المسلمين في موقفهم من الإله الخالق. كتب الكاتب العراقي المندائي يقول: "فقد جاء بإحدى الكتب التدريسية لمادة (الدين) لجميع مدارس العراق للصف الثاني متوسط، والذي عرف بموجبه الصابئة بانهم قوم يعبدون الكواكب والنجوم، وبهذا تكون الدولة طرفا بالموضوع، وقد ساهمت بتثقيف الشباب وتحريضهم على ممارسة العنف والقتل اتجاه أفراد هذه الطائفة، بشكل غير مباشر باعتبارهم ملحدين كفرة، رغم أن وزارة الاوقاف والشؤون الدينية على إطلاع تام بمحتوى كتب الصابئة الدينية، التي قام بترجمتها الى اللغة العربية أساتذة وعلماء من الجامعات العراقية، وبإشراف الوزارة نفسها وباقي دوائر الدولة المعنية بما فيهم صدام حسين نفسه. وبمعنى آخر أن الدولة أباحت جريمة قتل أبناء هذه الطائفة عمدا مع سبق الاصرار مع الاسف الشديد. وهناك وقائع مادية وأمور سلبية أخرى عديدة مدونة بشكل رسمي أمام القضاء لا يسمح المجال لطرحها جميعها الان." 20 وإذا كان هذا الأمر قد أساء لهم كثيراً خلال الفترات المنصرمة وقبل إسقاط دكتاتورية البعث وإقامة النظام السياسي الطائفي على أنقاضه من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة، فأن الدستور العراقي الجديد قد جاء على ذكر المندائيين مرة واحدة في الفقرة ثانياً من المادة الثانية، إذ نصت:
"ثانياً: يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والإيزيديين، والصابئة المندائيين."21
"كما إن البطاقة التموينية الجديدة قد تضمنت ما يسيء إلى المندائيين على وفق ما جاء في بيان لرئاسة الطائفة، نرفق هنا نصه:

 
راجع: مجلس شؤون الصابئة المندائيين العام في العراق، 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.

وفي الواقع العملي لا يتمتع الصابئة المندائيون بأي حرية فعلية، لأنهم يعيشون في تهديد دائم من قبل قوى الإسلام السياسي المتطرفة، كم إن الحكومة لا توفر لهم أي وضع أمن، بل ربما بعض القوى الحاكم ترتاح لهجرة بقية المندائيين من العراق، تماماً كما هو الموقف من بقية أتباع الأديان والمذاهب الأخرى ومنهم المسيحيون. فقد تعرض المندائيون بالعراق، سواء أكان في موطنهم الأصلي جنوب العراق، أم ببغداد، إلى شتى صنوف الاضطهاد والمطاردة والتشريد والقتل والتهجير، إضافة إلى سلب دورهم ومحلات عملهم وما فيها من جانب المليشيات الطائفية المسلحة التابعة للأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية بشكل خاص في مناطق الجنوب وبغداد، إضافة إلى التنظيمات الإرهابية السنية، كالقاعدة وداعش أو غيرها.   
ليست لدينا معلومات تفصيلية عن عدد السكان المندائيين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وأول المعلومات المتوفرة تعود إلى الإحصاء الرسمي لعامي 1957 و1965، إذ لم يذكر عن أتباع الديانة المندائية قبل ذاك بشكل مستقل عن بعض الأديان الأخرى، بل كان أتباع الديانة المندائية يدمجون مع الإيزيديين وأتباع ديانات أخرى، وتذكر تحت باب "آخرون".
والجدول التالي يشير إلى عدد نفوس المندائيين في هاتين السنتين 12957 و1965:         
المنطقة    السنة   عدد سكان الصابئة المندائيين بالعراق في عامي 1957 و1965   نسبة المندائيين إلى نسبة السكان العراق والمناطق%
العراق
العراق   1957
1965   11.825             
14.262                 0,03%
0,18%
المحافظات الشمالية
المحافظات الشمالية   1957
1965   359
305   3,0
2,1
المحافظات الوسطى
المحافظات الوسطى   1957
1965   5.421
7.492   45,1
52,5
ومنها بغداد
ومنها بغداد   1957
1965   3.768
6.271   31,9
43,9
المحافظات الجنوبية
المحافظات الجنوبية   1957
965   6.305
6.465   52,2
45,3
      المصدر: د. فاضل الأنصاري، مشكلة السكان، مصدر سابق، ص 31 و32.

ورغم هجرة جمهرة غير قليلة من المندائيين إلى خارج العراق في فترة حكم البعث، بسبب مواقف المعارضة من استبداد النظام وبطشه ومن ملاحقة أجهزة الأمن لهم وابتزازهم، فأن عدد السكان الصابئة قد قدر بـ 70000 نسمة في نهاية عام 2002 وبداية 2003. وتشير آخر المعطيات المتوفرة إلى إن عدد المندائيين بالعراق لا يزيد عن عدد يتراوح بين 7000 - 10000 نسمة، ونسبة مهمة من هذا العدد تعيش بإقليم كردستان، ولاسيما أربيل حيث بنوا معبدهم المسمى "المندي". وبهذا يكون عدد المهجرين قسراً يصل إلى رقم خيالي بالنسبة للأقلية الدينية السكانية المندائية، إذ بلغ بحدود 60000 نسمة أو ما يعادل 85% من المندائيين. وهم يعيشون اليوم بأوروبا، ولاسيما بالسويد والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والأردن، حيث تعتبر الدولة الأردنية موقع العبور لهم إلى دول العالم الأخرى. إنها جرائم بشعة تلك التي ارتكبت بحق الأفراد والعائلات المندائية خلال الفترة الواقعة بين 2003-2016، إذ بلغ عدد القتلى على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة والإرهابية بـ 193 شهيداً. 22 ولا بد من الإشارة إلى أن الجرائم ضد المندائيين ما تزال ترتكب حتى الآن بهدف إشاعة الرعب في صفوفه ودفعهم للهجرة من وطنهم والسيطرة على أملاكهم، إنها جريمة مستمرة ولم يوضع لها حد حتى الآن.   


المصادر
  أنظر: عزيز سباهي، أصول المندائية (المندائيين) ومعتقداتهم الدينية، دار المدى للثقافة والنشر، منشورات المدى، دراسات 18، ط 1، دمشق -1996.

2 أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 77/78.
3 المصدر السابق نفسه.
4 Henry Austin Layard, Ninevah and its Remains, John Murry, London1849.
5 أنظر: الليدي دارور، الصابئة المندائيون، ترجمة نعيم بدوي وغضبان الرومي، دار المدى للثقافة والنشر، ط 2، بغداد 2006.
أنظر أيضاً: الليدي دراور، أساطير وحكايات شعبية، ترجمة نعيم بدوي وغضبان الرومي، دار هيفي، أربيل، ط 2، 2009. 
6 Siehe: Mark Lidzbarski, Das Johannesbuch der Mandäer, Verlag von Alfred Töpelmann, Giesen 1915.
7 أنظر: عزيز سباهي، أصول المندائية (المندائيين) ومعتقداتهم الدينية، مصدر سابق.
8 أنظر: خزعل الماجدي، جذور الديانة المندائية مطبعة صفاء حسين الناصر، بغداد، 1997.
9 أنظر، خزعل الماجدي، جذور الديانة المندائية، مصدر سابق، ص 10-22.
10 أنظر: عزيز سباهي، أصول الصابئة .. ، مصدر سابق، ص 76.
11 أنظر: خزعل الماجدي، جذور الديانة المندائية، مطبعة صفاء حسين الناصر، ط 1، 1997. ص 1.
12 أنظر: الشيخ الترميذة علاء النشمي، أسئلة وأجوبة عن الديانة المندائية على موقع الهوية الآرامية، أخذ المقتطف بتاريخ 21/03/2018.
13 أنظر: فائز الحيدر، الصابئة المندائيون والإرهاب عبر التأريخ، موقع اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر، 7 شباط/فبراير 20139.
14 أنظر" يحيى بن زكريا، دراشة أديهيا، مواعظ وتعاليم، بغداد، الطبعة الأولى، 2001م.
15 أنظر: الليدي دراوور، الصابئة المندائيون/ مصدر سابق.
16 أنظر: رشيد الخيون، د.، الأديان والمذاهب بالعراق، مصدر سابق، ص 115.
17 أنظر: المصدر السابق نفسه.
18 أنظر: المصدر السابق نفسه ص 116/117.
19 أنظر: الليدي دراوور، الصابئة المندائيون، ترجمة نعيم بدوي وغضبان الرومي، دار المدى للثقافة والنشر، بغداد، 2006، ص 7.
20 أنظر: عربي فرحان الخميسي، المركز القانوني للصابئة المندائيين في العراق، الجمعية المندائية في المهجر، بتاريخ 21 نيسان/أبريل 2013.
21. الدستور العراقي لسنة 2005.
22 أنظر: التقرير السنوي عن حالة حقوق الإنسان في العراق لعام 2016 الصادر عن الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية. 



232
كاظم حبيب
المشاركة في الانتخابات خطوة على طريق تغيير النظام الطائفي بالعراق
الانتخابات هي معركة واحدة من معارك النضال بالعراق، وليست خاتمة المطاف، من أجل تغيير النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد حتى النخاع، ومن الواقع المزري الرَّث الذي يعيش تحت وطأته شعب العراق. الانتخابات هي جزء من عملية نضالية معقدة وطويلة ولكنها ضرورية جداً، باعتبارها خطوة هامة على طريق، طال أم قصر، سيصل بالعراق إلى نتيجته المرجوة في التغيير الجذري وفي إزاحة الطائفية السياسية والحفنة الفاسدة الحاكمة من الحكم، إنها الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية التي مزقت وحدة الشعب العراقي وسعت إلى تدمير نسيجه الوطني، وفرطت بأتباع الديانات والمذاهب الأخرى، وعمقت الصراعات والنزاعات القومية والدينية والمذهبية، وتسببت بموت مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين، وأكملت ما عجزت عن تحقيقه الدكتاتورية البعثية والصدامية الجائرة بالعراق ووحدة نضاله الوطني.
إن هدف المشاركة في الانتخابات ليس الحصول على عدد من المقاعد النيابية من جانب القوى المدنية والديمقراطية والعلمانية، زاد أو قل هذا العدد، فحسب، بل وبالأساس خوض معركة فكرية وسياسية ضد الوضع القائم، خوض معركة فضح القوى التي حكمت العراق طيلة الأعوام المنصرمة وقادت البلاد إلى الموت والنزوح والهجرة والخراب والسبي والاغتصاب للنساء وبيعهن في سوق النخاسة الإسلامي السياسي وخطف الأطفال، وخنق العراق بمزيد من الديون الخارجية والمزيد من البطالة والجوع والحرمان للغالبية العظمى من بنات وأبناء العراق. إنها معركة يجب أن نخوضها بكل ما أوتينا من قوة لصالح مرشحي الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية والمدنية العراقية، وكل من يطرح بإخلاص ونزاهة برنامجه الانتخابي الوطني والمدني الديمقراطي، ولا يكون كالحرباء يبدل جلده كلما وجد غنيمة جديدة، أو من برهن على إن وجوده في الحكم وحوله كان من أهم وارأس الأسباب التي قادت البلاد إلى الحضيض الذي فيه الشعب حالياً، ملايين من النازحين، وملايين أخرى من المهاجرين، ونصف المجتمع يعاني من الفقر ونسبة عالية جداً من البطالة، ونسبة أعلى من البطالة المقنعة، وأحزان دائمة وعطل دينية عن العمل لا مثيل لها في جميع بلدان العالم، والتي تقود إلى المزيد من التخلف والفاقة المالية والاجتماعية. يجب أن نناضل من أجل منع هؤلاء النهابة والمرتزقة من دخول مجلس النواب العراقي وحكم البلاد.
إن معركة الانتخابات هي معركة واحدة من مجموعة معارك نضالية سلمية تخوضها القوى الديمقراطية والمدنية وكل من يؤمن بفصل الدين عن الدولة والسياسة، والعمل من أجل بناء دولة ديمقراطية حديثة وعلمانية، ومجتمع مدني ديمقراطي تُحترم فيه الهويات الفرعية، ولكنها لا تشكل أساس المواطنة، بل المواطنة العراقية المتساوية أمام القانون والمشتركة في السراء والضراء، هي أساس وحدة العراق وتقدمه وتطوره وازدهار حياة شعبه، فأتباع كل القوميات والديانات والمذاهب يشتركون في هذه الهوية العراقية مع كل الاحترام والاهتمام الهويات الفرعية.
إن الدعوة لمقاطعة الانتخابات حق مشروع لكل إنسان أو مجموعة أو حزب أو منظمة، ولكن السؤال الأساسي هو: لمن تخدم الدعوة لمقاطعة الانتخابات؟ إنها، وكما أرى، سوف تخدم الأحزاب والقوى الحاكمة الفاسدة التي ما تزال تقود البلاد من كارثة إلى أخرى. فهل هاذ ما يريده الداعون إلى مقاطعة الانتخابات؟ لا شك بأن بعضهم، في أحسن الأحوال، يعتقد بان هذا الموقف يخدم فضح النظام! ولكن هذا غير كاف وغير واف بأي حال، بل إن المقاطعة ستقود إلى عكس ذلك، إلى مجيء السيئين والفاسدين إلى هذا المجلس، ولهذا أرى ضرورة المشاركة في الانتخابات لعزل القوى والأحزاب الإسلامية السياسية التي حكمت العراق 15 عاماً وفرطت بـ 800 مليار دولار من أموال النفط العراقي ورفعت من مديونية العراق الخارجية وخلفت الدمار والرثاثة والبؤس، واخضعت البلاد في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية إلى الشروط غير الإنسانية وغير النافعة في وصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وصفة التثبيت والتكيف الاقتصادي في الاقتصاد العراقي، على غرار ما يجري بمصر حالياً. يجب أن نمنع عبر برامجنا الوطنية والديمقراطية وصول هؤلاء إلى مجلس النواب ومن ثم حكم البلاد.
إن من واجب الوطنيين والمدنيين والديمقراطيين العلمانيين المشاركة في الانتخابات لانتخاب العناصر والقوى والقوائم النظيفة والنزيهة والمخلصة للعراق والتي لم تتلطخ أيديها بدماء العراقيات والعراقيين، ولا مدّت أيديها بالنهب والسلب في جيوب العراقيات والعراقيين لسرقة لقمة العيش من أفواه اليتامى والأرامل والكادحين من شعبنا المكابد، ولا نهبت خزينة الدولة والنفط الخام وكل ما يمكن أن ينهب من هذا الوطن المستباح بالطائفية والفساد والإرهاب. لننتخب من وقفوا إلى جانب الشعب، وهم منه وإليه، منذ 84 عاماً وهم يناضلون بلا هوادة مع القوى المدنية والديمقراطية والعلمانية الأخرى من أجل إقامة الوطن الحر والشعب السعيد، إنه الشعار الذي يمكن أن تلتقي عنده اقوى الساعية إلى إنقاذ هذا الوطن من شرور من يريد الشر لهذا الشعب والوطن، سواء من هم بالداخل أو من القوى الخارجية والدول الطامعة بالعراق وخيراته!             

233
د. كاظم حبيب
كوارث ومحن الإيزيديات والإيزيديين (دسنايا) بالعراق

إلى أحبتنا وأخوتنا الإيزيديين والإيزيديات، إلى مواطناتنا ومواطنينا، إليكم يا من عانيتم من ظلم وعدوان وحقد وكراهية الحكام المسلمين وجلاوزتهم بالعراق وغير العراق، يا من تحملتم الكوارث وحملات الإبادة الجماعية في ظل الدولة العثمانية والدولة العراقية، يا من صبرتم على الضيم والبلوى وقاومتم الاستبداد والاضطهاد والتمييز الديني، ويا من برهنتم أنكم أبناء هذا العراق وبناة حضارته القديمة والحديثة، إليكم يا من تحملتم قسوة الإرهابيين التكفيريين من الدواعش وغيرهم وممن يحاول فرض دينه عليكم ومن الحكام الذين لا يستحون ولم يقدموا حتى الآن الاعتذار لكم، رغم المطالبة، لما مارسته دولهم وحكوماتهم السابقة والراهنة بحقكم، اليكم في عيدكم النيساني، رغم كل الكوارث والمحن، هذه الورقة المتواضعة لتعبر عن التضامن الإنساني لما تحملتموه من مصائب وكوارث ومحن وإبادة جماعية، من دماء ودموع، إليكم تحية وألف تحية وأطيب التمنيات، والعمل من أجل عراق آخر غير العراق الطائفي المحاصصي الفاسد والإرهابي والمريض الراهن، عراق ديمقراطي علماني حديث!!!     

يعود تاريخ الديانة الإيزيدية (دسنايا) بالعراق إلى الفترة التي برزت في هذه المنقطة من العالم مجموعة من الأديان التي وضعتها شعوب المنطقة أو تبنتها، منها: المندائية، والزرفانية، والمثرائية، والمانوية والمزدكية والزرادشتية، أي في الفترة التي سبقت وجود العرب في المنطقة وقبل أو أثناء دخول اليهودية إلى بلاد ما بين النهرين، وقبل دخل الديانتين المسيحية والإسلام إليها. وقد تبنت واحدة من المجموعات السكانية في هذه المنطقة من العالم (إيران، العراق، سوريا، وتركيا، ومناطق أخرى) الدين الإيزيدي. ويشار إلى إن الإيزيديين يشكلون جزءاً من الشعوب الهندو-آرية، كالفرس والكرد، وغالبيتهم يتحدثون بالكردية، في حين إيزيدية بعشيقة وسوريا يتحدثون العربية، ويجيدون الكردية أيضاً. ينتشر العراقيون الإيزيديون في مدن عديدة منها: الشيخان وبعشيقة وبحزاني ومنطقة سنجار وباعذرة، كما إن مجاميع أخرى تعيش في سُمّيل وزمّار.
والإيزيدية من الأديان الطبيعية والموحدة، وكان اسمهم القديم دسنايا1، ولها مزار رئيسي واحد يأمه إيزيديو العالم ويقع في لالش وعلى مقربة من عين سفني، مركز قضاء الشيخان، الذي يبعد 40 كم عن دهوك و60 كم عن الموصل. ويمكن أن نجد للديانة الإيزيدية صلة ما في الفترة السومرية بالعراق وما بعدها، ويتجلى في عدد من المسائل بما في ذلك يوم الأربعاء الذي يعتبر يوم العطلة أو العيد الإيزيدي. 
تعرض الإيزيديون على امتداد تاريخ وجودهم بالعراق، ولاسيما منذ الفتح الإسلامي لهذه المنطقة من العالم، ولاسيما في ظل الإمبراطورات العربية والعثمانية، إلى الكثير من المضايقات والاضطهاد والقتل والتهجير. لقد نفذت مجازر كثيرة بحقهم دون أن يرتكبوا جرماً يستوجب مثل هذه الجرائم البشعة التي تعرضوا لها، سوى إصرارهم على التمسك بدينهم غير التبشيري. والسبب في هذا الموقف العدائي من الإيزيديين يكمن في النهج الخاطئ والخطير ضد الأديان الأخرى وأتباعها عموماً من جهة، وضد الإيزيديين بشكل خاص من جهة أخرى لاعتبارين: 
1- اعتبارهم من الكافرين وعبدة إبليس. ومثل هذه الفتوى تفرض على المسلمين منازلتهم وإخضاعهم للإسلام حتى لو تم ذلك بشن الحرب وممارسة الاضطهاد بحقهم؛
2- اعتبارهم يشكلون واحدة من تلك الفرق الإسلامية الخارجة على أسس وقواعد الإسلام أو مرتدة عنه، والتي يحل دم أفرادها على المسلمين، أو توبتهم وعودتهم إلى الإسلام. وقد اتهموا مرة بأنهم من أتباع يزيد بن معاوية، وأخرى كونهم من الخوارج أو الأباضية، ومرة ثالثة على أنهم من الشيعة الرافضة.
وأولى تلك الفتاوى التي صدرت بهذا الصدد، كما يشير إلى ذلك المؤرخون، كانت في القرن التاسع الميلادي أو الثالث للهجرة ونسبت إلى الإمام محمد بن حنبل والإمام أبى الليث السمرقندي.2
كتب الباحث العراقي صباح كنجي بهذا الصدد وبصواب يقول:
"والتاريخ يتحدث عن جرائم بشعة ارتكبها الولاة والسلاطين والحكام المسلمون بحق الإيزيدية في سنجار وبعشيقة وبحزاني والشيخان وغيرها حيث قامت تلك الجيوش بالهجوم على قراهم ومدنهم والحقت بهم الدمار والخراب وقد حللت الفتاوي الإسلامية سبي نساؤهم وقتل شيوخهم واطفالهم ونهب ممتلكاتهم. واهم الفتاوي التي صدرت من قبل شيوخ وائمة المسلمين التي اباحت قتلهم هي فتاوي الامام احمد بن حنبل في القرن التاسع الميلادي والامام ابي الليث السمرقندي والمسعودي والعمادي و عبدالله الربتكي التوفي في عام1159 والمتواجدة في مكتبة السليمانية وهي مهدات الى نعيم بك بابان ولم تقتصر الحملات العسكرية على الأتراك المسلمين فقط حيث يحدثنا التاريخ القريب عن حملة الامير الكردي الاعور (الأمير محمد الرواندوزي) الذي ارتكب ابشع الجرائم بحق الإيزيدية في عام1832 . وجميع هذه الحملات كانت تبحث عن ذرائع واسباب واهية لكي تنطلق الجيوش المعبئة بالحقد والكراهية لتقوم بدورها في القصاص من الأبرياء (الكفار) ولتنشر الإسلام في المناطق التي استعصت عليهم وهكذا كرر التاريخ نفسه لأكثر من مرة وبنفس المحتوى ضد الإيزيديين والأرمن والسريان والكلدان وبقية الأديان بما فيهم اليهود والمسيحيين." 3
لقد جاء في نص "الفتوى الدينية!" الصادرة عن الشيخ عبد الله الربتكي المتوفي سنة 1159 هجرية الموجودة في المكتبة السليمانية، المهداة من نعيم بك آل بابان إلى إسماعيل حقي بك الأزميري. ما يلي: "إعلم أنهم متفقون على أباطيل من عقائد وتأويل كلها مما يوجب الكفر العتيد والضلال العنيد. فمنها أنهم ينكرون القرآن والشرع ويزعمون أنه كذب وأن مثل هذيانات الشيخ فخر هي المعتمد عليها والتي يجب أن يتمسك بها ولهذا يعادون علماء الدين ويبغضونهم بل إن ظفروا بهم يقتلونهم بأشنع قتل… ولا خفاء في أن هذه المذكورات كلها مما يوجب أشنع الكفر وأقبحه فهم إذن كفرة أصلية كما نقل عن بعض كتب المذهب ونسب إلى أصل المذهب فانه نقل عن كتاب المتفق والمختلف إن الظاهر من مذهب مالك أنه إذا ظهر أحكام الكفر في بلدة تصير دار حرب وهو مذهب الشافعي وأحمد (رض) واتفقوا على أموالهم. … قال في الأنوار: "توبة المرتد وإسلام الكافر أن يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويتبرأ من كل دين يخالف الإسلام ويرجع من كل اعتقاد هو كفر" هذا معلوم لو أجبروا وأكرهوا وأوعدوا بكل مكروه لم يتبرأوا عن معتقدهم في آدي ويزيد ولالش وغير ذلك من شيوخهم، ومنه رأيهم على أنهم زنادقة وتوبة الزنديق لا تقبل في وجه. (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) الآية".4
وجاء في كتاب أبن الفوطي الموسوم ب "الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة" بأن بدر الدين لؤلؤ قام في عام 1254 م 652 هجرية، أي قبل غزو المغول لبغداد بأربع سنوات، بنبش قبر الشيخ آدي بن مسافر وأخرج جثمانه وأحرق عظامه. 5
يشير المؤرخ عباس العزاوي في كتابه "تاريخ اليزيدية وأصل معتقدهم" نقلا عن كتاب تقي الدين أحمد بن علي المقريزي الموسوم " السلوك لمعرفة دول الملوك" إلى حملة الإبادة التي تعرض لها الإيزيديون في عام 1414 م 817 هجرية بما يلي: "في هذه السنة قد حُرق قبر الشيخ آدي الكائن في حكار من بلاد الكُرد. قد تجمع هؤلاء على قبره وقد سموا بالعدوية فاتخذوه قبلة لهم. وهم كثيرون … وصار يتهافت الناس لزيارته. وهؤلاء عقبوا سلوك هذا الشيخ. وصار محل اعتمادهم واحترامهم …ولما تجاوزوا الحد… قام عليهم جلال الدين محمد بن عز الدين يوسف الحلواني من الشافعية، من فقهاء إيران فأغرى الأمراء بالقيام عليهم ودعاهم لمحاربتهم. وأجاب دعوته كل من حاكم جزيرة أبن عمر (أمير عز الدين البختي) وجماعة من الكُرد السندية مع حاكم قرية شرانش وأمير توكل الكُردي. وأيضا أرسل حاكم حصن كيفا جيشا لمساعدتهم وكذا التحق بهم أمير شمس الدين محمد الجردقلي. بهذه القوة العظيمة هاجموا جبل هكار وقتلوا الكثير من أتباع الشيخ آدي، وقد أسر جماعة من أتباع الشيخ آدي ممن يسمى (بالصحبتية) ثم جاؤا إلى قبر الشيخ آدي لأجل هدمه فوصلوا قرية شرالق (وفي الكتب الأخرى يسمى لالش أو ليلش) فهدموا قبته وحفروا القبر فأخرجوا عظامه وأحرقوها بمرأى من القوى الصحبتية وقالوا لهم انظروا عظام من تدعون ألوهيته كيف تحترق ولا يستطيع أن يمنعنا واغتنموا غنائم كثيرة. ولما عادوا عن النهب اجتمع الصحبتية وعمروا القبة من جديد وعادوا إلى ما كانوا عليه من عاداتهم القديمة".6
 لم تكن مثل هذه الفتاوى والإعمال المخزية سوى تعميقاً للخلافات وإساءة متعمدة وخطيرة ودعوة المسلمين لقتل أتباع الديانة الإيزيدية وحرمانهم من حقهم المشروع في أن تكون لهم طقوسهم وشعائرهم الدينية وتقاليدهم وقبور أوليائهم الصالحين يقومون بزيارتها والتبرك بها، كما يفعل أتباع الكثير من الأديان والمعتقدات في العالم منذ آلاف السنين.
لقد تعرض الإيزيديون في فترة الحكم العثماني إلى عشرات المجازر الدموية التي صدرت على ضوء الفرمانات التي أصدرها شيوخ الإسلام في ظل الدولة العثمانية المنافية لكل ما هو إنساني نبيل. وقاد ذلك إلى موت نسبة عالية من بنات وأبناء أتباع الديانة الإيزيدية، أو تحول بعضهم قسراً إلى الدين الإسلامي، أو هروبهم إلى خارج حدود الدولة العثمانية.7
يشير الكاتب العراقي أمين فرحان جيجو في كتابه الموسوم " القومية الإيزيدية جذورها – مقوماتها – معاناتها " إلى الأسباب الكامنة وراء هذا الموقف العدواني لبعض الأطراف ضد أتباع الديانة الإيزيدية، إضافة إلى ما ذكر سابقاً، إلى ما يلي:
١ – الحصول على الغنائم والممتلكات الإيزيدية .
٢ – اجتثاث الامتداد التاريخي والحضاري السومري البابلي للشعب الإيزيدي .
٣ – محو اللغة الإيزيدية.
٤ – اجتثاث الديانة الإيزيدية التي هي امتداد للديانة البابلية .
٥ – القضاء على المعالم الحضارية والتاريخية والتراثية للشعب الإيزيدي .
٦ – الاستحواذ على المناطق والجغرافية الإيزيدية بأكملها .
٧ – استغلال الطاقات البشرية من الإيزيديين الذين يقعون تحت رحمة الغازين لمهنة العبيد وتجنيدهم في صفوف الجيوش الغازية .
٨ – سلب الأطفال واختطاف النساء .
٩ – القضاء على الشعب الإيزيدي بهدف عدم تنامي قدراته البشرية والجغرافية والفكرية والإدارية."8
لقد قادت هذه الهمجية الفكرية والسياسية والاجتماعية إلى ارتكاب جرام بشعة بحق الإيزيديين على امتداد تاريخ الدولة العباسية والعثمانية، وكذلك في الدولة العراقية الحديثة ابتداءً من عام 1935 حين رفض الإيزيديون، ارتباطاً بتعاليم دينهم، التجنيد الإجباري في الجيش العراقي، وخاضت قوات الشرطة معركة ضدهم أدت إلى قتل عدد كبير منهم وجرح الكثير إضافة إلى اعتقال 244 شخصاً منهم وإيداعهم السجن. كما تعرض الإيزيديون إلى مجزرة أخرى وقعت ضمن حملات الإبادة الجماعية ضد شعب كردستان والكرد في العام 1988 حيث استشهد منهم في هذه الحملات 193 شخصاً من النساء والرجال والأطفال.9 وفي فترة الجمهورية الرابعة (البعثية) فقد ارتكب النظام البعثي الكثير من الجرائم البشعة بحق الإيزيديين بما في ذلك التعريب، أي تسجيلهم عرباً قسراً. وقد سعى الزميل صباح كنجي على جمع معلومات مهمة حول ما حصل لهم في فترة الحكم الدكتاتوري البعثي حيث ورد ما يلي:
"وفي عام 1975 إثر انهيار الحركة الكردية المسلحة شمل التغيير والتهجير أكثر من 300 قرية ومدينة في سنجار بالإضافة الى تهجيرهم من مركز القضاء وتدمير محلة البرج وبقية بيوتهم بالكامل وتم اجبارهم على السكن في مجمعات سنجار القسرية الـ 12 التي منحت اسماء عروبية وإسلامية:
اولا : مجمعات الشمال: 1ـ  خانه صورـ  مجمع التـأميم، 2ـ  سنوني ـ مركز ناحية الشمال، 3ـ  دو كري ـ مجمع حطين، 4ـ  دهولي ـ مجمع القادسية، 5ـ  بورك ـ مجمع اليرموك، 6ـ   كوهبل ـ مجمع الاندلس، 7ـ   زورافا ـ مجمع العروبة،
ثانيا: مجمعات القبلة ـ  جنوب جبل سنجار: 1ـ  سيبا سيخ خدرـ  مجمع الجزيرة، 2 ـ كر عزير ـ تل عزيرـ  مجمع القحطانية، 3ـ  كر زه رك ـ مجمع العدنانية، 4ـ  تل قصب ـ  مجمع البعـــث، 5ـ تل بنات  ثالثاً: ـ  مجمع الوليــد   
كما تم تهجير الكثير من الإيزيديين من أهالي سنجار ايضا إلى منطقة باعذرة ومجمع خانك في دهوك .. كذلك جرى تهجير المتواجدين منهم في مناطق زاخو وغالبيتهم من عشيرة الهويرية الى مجمع خانك ومنطقة سينا وشيخ خدر وشاريا .. والقرى المهجرة من ضفاف نهر دجلة بسبب ملابسات الثورة الكردية ومشروع بناء السد في منطقة الدنانية هي :1ـ زينافا، 2ـ كبرتو، 3ـ ديربون، 4ـ بيبزن، 5ـ زينية، 6ـ خيرافا، 7ـ كمونة، 8ـ قسر يزدين، 9ـ سوركا، 10، ـ مام شفان، 11ـ جه م بركات، 12ـ كوتبة، 13ـ ربيبي، 14ـ مشكل.
وبعد ترحيل اهالي هذه القرى تم تجميعهم في مجمع (خانك) التابع لقضاء سُمّيل وأصبح نفوسه بحدود 30 ألف نسمة.. استقبل أكثر من 65 ألف لاجئ ومشرد من اهالي سنجار بعد اجتياحها من قبل الدواعش عام 2014. وفي العام ذاته 1975 .. جرى تهجير عدد آخر منهم من مناطق سهل نينوى والشيخان الى الفلوجة والحلة والناصرية وبقية المدن العربية في وسط وجنوب العراق.. ومن القرى المهجرة في منطقة الشيخان التي اجبر سكانها على تركها والسكن في مجمع مهت.. وتم اسكان القبائل العربية فيها عام 1975: 1ـ قرية مام رشان، 2ـ  مقبلي، 3ـ  محمودة، 4ـ جروانا، 5ـ  مهمد رشان.
وفي المرحلة الثالثة من عهد حكم البعث تم تهجير سكان العديد من قرى الإيزيدية في دشت سينا وجرى تجميعهم في مجمع شاريا والقرى والمدن المهدمة عام 1987 قبل الانفال والتي لا يتحدث عنها السياسيون والمؤرخون للأسف هي : 1ـ تدمير قرية سينا كاملة وتفجير بيوتها الإسمنتية ومن كان معهم من مهجرين سابقين من عشيرة الهويرية المرحلين من زاخو وكانوا يسكنون في بيوت طينية بين سينا وشيخ خدر..، 2ـ تدمير قرية شيخ خدر كاملة وتفجير بيوتها الإسمنتية، 3ـ تدمير قرية شاريا وتفجير بيوتها الاسمنتية، 4ـ تدمير قرية كله بدرة وتفجير بيوتها الاسمنتية، 5ـ تدمير قرية خرشني وتفجير بيوتها الاسمنتية، 6ـ دمير قرية ركافا وتفجير بيوتها الاسمنتية.
أما في محور الشيخان ـ القوش فقد تم تدمير القرى التالية في نفس الفترة أي في عام 1987 قبل الانفال أيضاً:
1ـ قرية كرسافة ونقلهم الى مجمع النصيرية وشيخكا، 2ـ قرية خورزان ونقلهم الى مجمع النصيرية وشيخكا،
3ـ قرية طفطيان ونقلهم الى مجمع النصيرية وشيخكا، 4ـ قرية بيوس العليا ـ ملا جبرا ودمج سكانها بسكان باعذرة،
وفي الانفال عام 1988 تم تغييب اكثر من 200 فرد إيزيدي من اهالي بحزاني وبعشيقة وسنجار وخورزان وبوزان وباعذرة وملجبرا والشيخان ومجمع خانك ودوغات وختارة..". 10 ما في فترة الجمهورية الخامسة، حيث أقيم النظام السياسي الطائفي، التي بدأت بعد إسقاط النظام الدكتاتوري العراقي في العام 2003،
 فقد تعرض الكثير من الإيزيديين إلى القتل على ايدي الميليشيات الإسلامية السياسية المسلحة من أتباع القاعدة في محافظة الموصل إذ نفذ بحق العمال الإيزيديين جرائم بشعة حقاً وبأعداد كبيرة، ولم يلقوا الحماية من حكام الموصل والدولة العراقية والحكم الطائفي السياسي بالعراق. كما جوبهوا بنهج تمييزي مدمر لكرامة الإنسان وعيشه بالعراق. كتب صباح كنجي ف إجابة عن سؤال حول أحوال الإيزيديين بعد سقوط النظام البعثي ما يلي:
"بعد سقوط نظام صدام حسين تعرض الإيزيديون الى هجمات المتطرفين الاسلاميين ومنعوا من العمل في بغداد والمحافظات الجنوبية وتم حرق محلاتهم ومن ثم جرت عمليات مستمرة لقتلهم وقد ذهب ضحية العمليات الاجرامية للإرهابيين اكثر من ( 400 ) فرد إيزيدي وهناك ايضا ميول لمقاطعة الإيزيديين وعدم التعامل معهم ولذلك انقطع الطلبة الإيزيديين عن الدراسة في جامعة الموصل وعدده حوالي ( 1600) طالب وطالبة في مختلف الاختصاصات كما هناك صعوبة في تسويق بضاعة الإيزيديين في مختلف مدن العراق بما فيها مدن كردستان رغم وجود حكومة علمانية بسبب الميول الاسلامية التي تتفشى بشكل يؤدي الى مقاطعة غير المسلمين، ويشمل هذا عدم التردد على عيادات الاطباء الإيزيديين ومقاطعة المنتوجات الزراعية والحيوانية والالبان والطرشي وغيرها من البضاعة التي كان يتاجر بها الإيزيديون".11
ثم كانت الطامة الكبرى باجتياح الموصل من قبل عصابات داعش المجرمة بعد انسحاب القوات المسلحة العراقية بشكل انهزامي وكذلك قوات البيشمركة من سنجار وغيرها في سهل نينوى والتي أدت إلى حصول كارثة إنسانية رهيبة ونفذ بحق الإيزيديين عمليات إبادة جماعية تجلت في نزوح عشرات الآلاف منهم من مناطق سكناهم إلى جبل سنجار ومنه إلى دهوك وأربيل وغيرها من مناطق العراق، وفي اعتقال الآلاف منهم وتعريضهم للقتل والسبي والاغتصاب والنهب والسلب. لقد كانت جريمة بشعة.
إذا كان تنظيم داعش الإرهابي قد وضع أمام المسيحيين واحداً من أربعة خيارات هي: 1) التحول صوب الإسلام والقبول بالختان للرجال؛ 2) دفع الجزية والخراج؛ 3) ترك البلاد بما على جلودهم من ملابس فقط؛ و4) قطع الرؤوس، إلا إنه لم يضع أمام الإيزيديين سوى خيارين أما 1) الدخول في الإسلام أو 2) قطع الرؤوس، أما نصيب النساء فكان السبي والبيع في سوق النخاسة الإسلامي والاغتصاب والقتل بمن فيهن البنات القاصرات، وكان نصيب الأطفال إدخالهم في الدين الإسلامي وتدريبهم على العنف وقتل من هم من ديانات أخرى. وقد مارسوا ذلك حقاً، إذ لم يدخل من الإيزيديين في الإسلام إلا بضعة أفراد سقطوا في أيديهم وفرض عليهم عنوة ومن رفض قتل فعلا بقطع رأسه.
إن المعلومات المتوفرة لدينا عما فعله القتلة الداعشيين تشير إلى ما يلي:
تعرض الإيزيديون الى أبشع جرائم العصر بسبب اقتحام تنظيم داعش الى قضاء سنجار في 3/آب/2015.. حيث تم سرقة وحرق (25) مجمعا تابعا لأبناء هذا المكون.. وحجز (1500) طفل، وزجهم في معسكرات خاصة لتدريبهم على العمليات الانتحارية والقتالية.. وحرق وسليب (25) مجمعا تابعا لأبناء المكون الإيزيدي.. وغادر (18) ألف منهم الى تركيا.

عدد النازحين من مناطق الإيزيديين
عدد النازحين   عدد القتلى   عدد المختطفات   عدد المفقودين   عدد الجرحى
430ألف   4541   5422   841   890
   المصدر: كاظم حبيب، الإيزيدية ديانة عراقية شرق أوسطية قديمة، دار نينوى، دمشق 2017.
   المزارات وأماكن عبادة الإيزيديين التي تم الاعتداء عليها وتدميرها من تنظيم داعش
1      شقسىَ باتىَ   مجمع بابيرة   13/8/2014
2      شيَخ بابك   مجمع بابيرة   13/8/2014
3      شيَخ مخفي   مجمع بابيرة   13/8/2014
4      ملك شيَخ سن   مجمع بابيرة   13/8/2014
5      ست حبيبة   بعشيقة وبحزانى   16/8/2014
6      ست خديجة   بعشيقة وبحزانى   16/8/2014
7      شيَخ حسن   بعشيقة وبحزانى   3/8/2014
8      شيَخو بكر   بعشيقة وبحزانى   16/8/2014
9      سجادين   بعشيقة وبحزانى   16/8/2014
10      شيَخ شمس   بعشيقة وبحزانى   16/8/2014
11      ملك ميران   بعشيقة وبحزانى   -
12      شيَخ بابك   بعشيقة وبحزانى   -
13      قبة ابو ريش   بعشيقة وبحزانى   -
14      شيَخ مندبال   سنجار   24/8/2014
15      ئيَزى   سنجار   22/8/2014
16      مزار ناسر دين   بعشيقة وبحزانى   16/10/2014
17      ئامادين   سنجار   20/10/2014
18      مزار الشيخ شرف الدين الشيخ عدي   سنجار   20/10/2014
19      مهمد رشان   سنجار   27/10/2014
    المصدر: كاظم حبيب، الإيزيدية ديانة عراقية شرق أوسطية قديمة، دار نينوى، دمشق 2017.

ويشير الباحث صباح كنجي إلى عواقب داعش الإجرامية بحق الإيزيديين إلى ما يلي:
"وفي مرحلة داعش تم اجتياح منطقة سنجار كاملة المكونة من مركز القضاء واربعة نواحي و12 تجمعاً، بالإضافة الى مدينتي بحزاني وبعشيقة في سهل نينوى.. وكانت نسبة التدمير في مركز قضاء الشيخان تتجاوز 95% من مجموع ما فيها من بيوت ومنازل ومنشآت ودوائر حكومية، كما ارتكبت أبشع الفظاعات.. وتم فرض الدين الاسلامي على من وقع في الاسر من الاطفال والنساء، وجرى استعبادهم، والتشنيع بهم، باعتبارهم كفار، كذلك جرى قتل واعدام الكثير منهم.. وفي بحزاني وبعشيقة تم تدمير البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية ونهب المعامل والمؤسسات، وحرق وتدمير بساتين الزيتون، إضافة الى وجود أسرى ومفقودين وقتلى ومسبيين من اهالي المدينتين.. وقد تسببت هذه الاوضاع في تفاقم الهجرة والتهجير.. حيث نشأت عدة مخيمات لهم في مناطق زاخو ودهوك وشاريا وباعذرة وايسيان، إضافة الى وجودهم وانتشارهم في المدن ابتداء من دهوك والعمادية وسرسنك واربيل والسليمانية..، مع اضطرار لجوء الاخرين الى سوريا وتركيا ومن ثم الهجرة إلى أوروبا.. ويقدر عدد المهاجرين الإيزيديين الى ألمانيا وبقية دول اللجوء بأكثر من 70 ألف مواطن ومواطنة لحد الآن منذ اجتياح داعش لسنجار في3/8/2014.. كما جرى استقدام اكثر 1500 من طفلة وفتاة وامرأة اسيرة ومغتصبة الى المانيا للعلاج النفسي والطبي .. وعموماً يمكن القول ان الهجرة شملت لأول مرة شرائح اجتماعية جديدة شملت.. التجار والاغنياء الذين قرروا مغادرة العراق، وكذلك المهندسين والاطباء والمعلمين وحاملي الشهادات العالية في مختلف الاختصاصات العلمية ومن المثقفين..".12 وللاطلاع على تفاصيل الخسائر المادية التي لحقت بالإيزيديين ومدنهم ومؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية الدينية يمكن العودة إلى مقال مهم للباحث صباح كنجي نشر في موقع الحوار المتمدن بعنوان " تقديرات أولية لخسائر بحزاني وبعشيقة على يد الدواعش"، العدد 5178 بتاريخ 35/2016 في محور الإرهاب والحرب والسلام. 
الهوامش والمصادر
   كتب لي أحد الباحثين من أبناء المنطقة ما يلي: ما يخص المكون الإيزيدي.. بلا شك هذا المكون عريق وهم من بقايا السكان الأصليين في العراق.. تسمية الإيزيدية تعتبر تسمية حديثة ذات طابع إسلامي.. ولكن حقيقة وجودهم أعرق وأقدم بكثير من الحقبة الإسلامية.. لايزال يطلق عليهم من جيراهم في بلدات والقرى المسيحية في سهل نينوى مثل (القوش ، تللسقف ، باطنايا، بغديدا (قرقوش)، كرمليس ، برطلة الخ ) تسمية (دسنايا) اسمه التاريخي القديم وهي كلمة  آرامية – سريانية ( تعني عبدة الاله سين (اله القمر ) مكونة من مقطعين سريانيين ( سين يعني قمر .. ئيل يعني الاله ) ، فهم تاريخيا ليسوا لا كردا ولا عربا ، انهم مكون عراقي عريق يطلقون على انفسهم بـ (دسنايا) ، وجميعهم  يعرفون حقيقة أصولهم ، إلا ان الاضطهادات المتتالية وعبر التاريخ جعلهم ينكرون أصولهم وقاية أولا ، اضافة إلى الطمع في الحصول على مكاسب و مناصب من الجهات المتنفذة  (كردا أو عربا) انقطاعهم عن اصولهم التاريخية كان له تأثير على لغتهم و ثقافتهم الرافدينية الأولى ( هنالك كتاب اسمه (الإيزيدية عقيدة و دين) على شكل بحث فيه الكثير من الاستنتاجات عن أصل و فصل الإيزيدية للكاتب والباحث يوسف زرا من اهالي القوش). ك. حبيب

2 صباح كنجي، اسئلة عن الإيزيدية، موقع بحزاني، 28/02/2012. 
3 سامي سعيد الأحمد: اليزيدية: أحوالهم ومعتقداتهم، الكتاب في جزأين، مطبعة الجامعة، بغداد، 1971، الجزء الأول، ص 27-41). 
4 أنظر: العزاوي، عباس. تاريخ اليزيدية وأصل عقيدتهم. بغداد. مطبعة بغداد. منصف الثلاثينات من القرن العشرين. ص 84-90.
5 توفيق زرار، موضوعات حول تاريخ اليزيدية واليزيديين، مجلة لالش. العدد 5/ 1995. دهوك ص 83.
 6 العزاوي، عباس. تاريخ اليزيدية وأصل عقيدتهم، مصدر سابق، ص112/113.
7 ملاحظة: يمكن متابعة تلك المجازر البشعة في كتب كثيرة صادرة عن كتاب إيزيديين وغير إيزيديين بحثوا بعمق ومسؤولية في هذه المسألة منها على سبيل المثال لا الحصر السادة: عدنان زيان فرحان، قادر سليم شمو، لكتابهم المشترك بعنوان عنوان (مأساة الإيزيديين) وعنوان فرعي (الفرمانات وحملات الإبادة ضد الكورد الإيزيديين عبر التاريخ) الصادر عن مطبعة خاني في دهوك في سلسلة كتبها عام 2009، وكتاب أمين فرحان جيجو الموسوم حملات الإبادة الجماعية (الفرمانات ) التي تعرض لها الشعب الإيزيدي، وكتاب الأستاذ زهير كاظم عبود عن الإيزيديين، وكتب أخرى ومقالات كثيرة بهذا الصدد. ك. حبيب

8 أنظر: أمين فرحان جيجو، القومية الإيزيدية جذورها – مقوماتها – معاناتها، بغداد، 2010.
9 أنظر: كاظم حبيب، الإيزيدية ديانة عراقية شرق أوسطية قديمة، دار نينوى، دمشق، 2017. القائمة للتي
10 أنظر: كاظم حبيب، الإيزيدية ديانة عراقية شرق أوسطية قديمة، دار نينوى، دمشق، 2017. القائمة للتي نشرتها في كتابي المذكور أعدت من قبل الصديقين صبحي حجو وصباح كنجي كل على انفراد.
11. أنظر: صباح كنجي، الاحصاء والمعلومات عن الإيزيدية والاقليات منذ تشكيل الدولة العراقية..، مصدر سابق. 12. أنظر: صباح كنجي، عن الاحصاء والمعلومات عن الإيزيدية والاقليات منذ تشكيل الدولة العراقية.. أوائل نيسان 2018).


234
د. كاظم حبيب
الكوارث وحرب الإبادة ضد الآشوريين والكلدان والسريان
إلى أحبتنا، إلى مواطناتنا ومواطنينا الآشوريين والكلدان والسريان، في الذكرى السنوية الحزينة والأليمة نقدم التعازي القلبية لما حل بعائلاتكم في منطقة حكاري بتركيا من مجازر بشعة وإبادة جماعية مماثلة لما تعرض لها الأرمن مع بدء الحرب العالمية الأولى وكذلك في الفترات اللاحقة، مما أُجبر الأجداد والآباء والأمهات على مغادرة مناطق سكناهم والهجرة الواسعة إلى العراق وإيران. وبالعراق الحديث تعرض السكان الآشوريين والسريان إلى مجازر بشعة في ديرابون وسهل سُميل بنينوى. في الرابع والعشرين من شهر نيسان/أبريل من كل عام يحيي الآشوريون السريان ذكرى هذه المجزرة الأليمة. نشاركهم الحزن ونطالب الحكومة التركية لا الاعتذار لهم فحسب، بل وتعويضهم، كما نطالب الحكومة العراقية بالاعتذار لهم لما حل بهم من محنٍ ومآسٍ وكوارث. ثم كانت مجزة الكلدان في صوريا/العراق في العام 1969. إنها مجازر ومآتم متلاحقة!! 
تبنى الآشوريون، الكلدان، والسريان، وهم من أحفاد أقدم شعوب العراق بعد السومريين والآموريين والأكديين، الدين المسيحي منذ القرن الأول للميلاد وساهموا في بناء الحضارة العراقية القديمة، حضارة أشور وبابل، وكذلك الحضارة العربية في عراق الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، رغم ما عانوه من تمييز وتهميش وإقصاء من جانب أغلب الخلفاء والسلاطين والحكام العرب. وكانت الفترة الأموية اقل وطأة على المسيحيين من الفترات اللاحقة ولعوامل كثيرة. الكثير من القرى والأرياف والمدن بالعراق التي يسكنها النبط قد تبنوا المسيحية أيضاً وانتشرت بينهم، وأقيمت الكثير من الكنائس والأديرة في وسط وجنوب العراق، إضافة إلى شماله وغربه. كما تبنى الكثير من العرب في الحيرة مثلاً المسيحية. كان أغلب المسيحيين والمسيحيات الذين وجدوا بالعراق قبل الحرب العالمية الأولى هم كلدان وسريان مسيحيون وأرمن. ومع بداية الحرب العالمية الأولى تعرض السكان الآشوريون والكلدان والأرمن من رعايا الدولة العثمانية، ومنها منطقة حكاري، إلى عمليات اضطهاد جديدة، تحولت إلى حملات إبادة جماعية. تشير الأبحاث التي تعرضت لحملات الإبادة التي نظمت ونفذت ضد المسيحيين بمختلف طوائفهم أثناء وجود الدولة العثمانية، إلى أن الآشورويين والسريان قد تعرضوا في العقد الأخير من القرن العشرين إلى حملة عسكرية نفذت فيها مجزرة رهيبة راح ضحيتها الآلاف من الأشوريين والسريان الأبرار. وثد شارك في هذه الحملات القوات التركية والجندرمة وفرق الفرسان الحميدية. وهذه الفرق شكلت بالأساس بمرسوم صدر عن السلطان عبد الحميد الثاني في كانون الثاني/يناير عام 1890 ونص على تشكيل فرسان (خيالة) من الكُرد في كُردستان. وقد نفذ هذا القرار في كانون الثاني/يناير من عام 1891.1 وهذه الفرق ساهمت في المجزرة التي نظمها السلطان عبد الحميد الثاني ضد الآشوريين والسريان في الفترة الواقعة بين 1895-1898، في المدن ذات الأغلبية المسيحية التالية: آورهوي (أورفه أو الرها) وآميد (ديار بكر) وماردين وغيرها من القصبات التابعة لهذه المدن الرئيسية. وقد راح ضحيتها الآلاف من رعايا الدولة العثمانية.
أما الحملة الثانية فقد وقعت بين عامي 1914 و1915 في منطقة حكاري باعتبارها المنطقة الرئيسية للسكان الآشوريين.2 وتشير التقديرات إلى أن عدد ضحايا الإبادة الجماعية ضد الآشوريين تجاوز النصف مليون من النساء والرجال والأطفال الآشوريين السريان. وف ذات الفترة نفذا حملة الإبادة الجماعية ضد الأرمن، وهم من أصل أهل البلاد، واسعة جداً وشاملة وهمجية، إذ بلغ عدد ضحاياها أكثر من مليون إنسان أرمني مسيحي ومسيحية. ولم ينج منهم إلا القليل الذي فرّ إلى العراق ايضاً.
ورغم الوعود التي قطعت للآشوريين والسريان من جانب الدولة البريطانية في إسكانهم بالعراق، لم يتم الإيفاء بها. وعانى الآشوريون بشكل خاص الأمرين، مما دفعهم إلى رفض الحلول التي طرحت عليهم، وطرحوا حلولاً رفض الحكم العراقي تنفيذها، مما أدى إلى حصول صدامات هنا وهناك بسبب احتجاجاتهم. وقد استغل الحكام القوميون العرب الموقف المتشدد للآشوريين فشنوا حرباً شعواء ضدهم أدت إلى تنفيذ مجزرتين بشريتين نفذتا غدراً في العام 1933 في قرية "سُمَّيل" بسهل نينوى والأخرى بـ "ديرابون" على الحدود العراقية السورية، أدت إلى قتل غادر للمئات من الرجال والنساء والأطفال، كما أصيب الكثير من الآشوريين، ولاسيما الرجال الآخرين بجروح في المجزرتين.   
وقبل ذاك، وفي فترة وجود فيصل الأول على عرش البلاد، لم يتعرض المسيحيون الكلدان والسريان والأرمن إلى تمييز ملموس، وكانوا يعملون بشكل طبيعي وفي مجالات كثيرة كباقي المواطنين. إلا إن تنامى ذلك بعد وقوع المجزرتين ضد الآشوريين، وفي فترة وجود فيصل ملكاً على عرش العراق، رغم وجوده للمعالجة في سويسرا، وبسبب التحاق الآشوريين في العام 1920/1921 بقوات الليفي، التي شكلها البريطانيون بالعراق في العام 1915، وكان أغلبهم في البداية من الهنود والعرب، ومن ثم من الكرد وغيرهم. وغالباً ما يجري الحديث عن الآشوريين في قوات الليفي بهدف الإساءة لهم، في حين إن أول مجموعة من الليفي كان أفرادها من اليهود، وكذلك مجموع من العرب، ومن ثم الكرد.3 المشكلة الكبيرة التي عانى منها المسيحيون بالعراق ناتجة عن موقف أيديولوجي قومي شوفيني وديني متخلف وغير متنور إزاء أتباع الأديان الأخرى ورفض الآخر من قبل الحكام المسلمين. وكان هذا السلوك المناهض لأتباع الدين المسيحي يُنقل إلى أوساط الشعب أيضاً مقروناً بالتحريض ضدهم، مما كان يعرضهم إلى التهميش، ومنه قلة التعيينات في المواقع المهمة من أجهزة الدولة والسلك الدبلوماسي والمدارس العسكرية على سبيل المثال لا الحصر، أو ما يقرر عن الدين المسيحي وبقية الديانات الأخرة غير الإسلام في المناهج والكتب المدرسية...
في أثناء وبعد فشل محاولة انقلاب شباط عام 1959 بالموصل التي قام بها العقيد عبد الوهاب الشواف، ومعه القوى القومية الناصرية والبعثية والإخوان المسلمين والرجعيين، تعرض المسيحيون إلى الملاحقة والاضطهاد والقتل والتهجير، حيث أجبر الآلاف منهم على ترك الموصل والهجرة إلى بغداد أو البصرة أو نحو الخارج بذريعة تأييدهم لعبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي العراقي. وبعد انقلاب شباط عام 1963 تعرض المسيحيون إلى الاضطهاد ثانية، للأسباب السابقة، مما أدى إلى هجرة جديدة لهم إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا واستراليا. ثم نفذ البعثيون مجزرة جديدة ضد السكان المسيحيين الكلدان في قرية صوريا والتي استشهد فيها عدد كبير من المسيحيين والمسيحيات على أيدي نظام البعث الفاشي في العام 1969. جاء في مقال عن هذه المجزرة في موقع ن ما يلي: "في السادس عشر من ايلول من كل عام تستذكر الأمة الآشورية مذبحة صوريا ففي مثل هذا اليوم قبل أكثر من سبعة واربعين سنة وجهت فوهات البنادق والرشاشات إلى ابناء أمتنا من أهل صوريا نساءً ورجالاً كباراً وصغاراً ولم ينجُ منها حتى كاهن القرية ومختارها فذبح وقتل أبرياء لا ذنب لهم سوى كونهم اناسا فقراء آمنين يعيشون في قريتهم الوادعة لم يؤذوا أحداً ولم يكونوا ضد أحد." ويشير الكاتب إلى أن السبب في ارتكاب هذه المجزرة البشعة التي كان فيها مسلمون أيضاً إلى جانب أكثرية مسيحية، هو "انفجار لغم أرضي تحت إحدى العجلات العسكرية للقافلة ولم يتسبب بأية أضرار بشرية. وكانت القافلة بقيادة "الملازم عبد الكريم خليل الجحيشي المعروف بوحشيته وسلوكه العدواني تجاه القرويين من أهالي القرى الواقعة تحت رحمة أو إدارة هذا الفوج العسكري."4
وإذا كان التمييز والتهميش والإقصاء قد تعرض له المسيحيون في فترة حكم البعث في الثمانينات والتسعينيات والتي فرضت عليهم هجرة واسعة حقاً، ولاسيما في فترة الحروب العديدة التي خاضها النظام العدواني والتوسعي العراقي في الداخل والخارج، فأن أكبر اضطهاد وقمع وتهجير قسري تعرض له المسيحيون والمسيحيات برز في فترة الحكم الطائفي، الذي أقيم بالعراق في العام 2003/2004، أي بعد إسقاط دكتاتورية البعث وصدام حسين الغاشمة، حيث لوحق المسيحيون والمسيحيات في الوسط والجنوب وبغداد والموصل من قبل المليشيات الطائفية المسلحة من جهة، وسكوت مطبق، وتأييد فعلي من الأحزاب الإسلامية السياسية، التي كانت تمتلك تلك الميليشيات الطائفية المسلحة من جهة أخرى، إضافة إلى قوى القاعدة حينذاك، كما تعرضت أغلب كنائسهم إلى التفجير وإشعال الحرائق فيها وقتل الكثير من المصلين أثناء تأديتهم الصلاة، مما أُجبر على اثر ذلك الألوف منهم للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا وأوروبا والأردن. ثم كان الهروب الواسع نتيجة إرهاب وقمع الدواعش الذين اجتاحوا الموصل ومن ثم بقية مناطق سهل نينوى منذ منتصف عام 2014 وحتى تحرير الموصل ونينوى عموماً في نهاية العام 2017. وقد نزح من الموصل قسراً جميع المسيحيين وتوجهوا إلى دهوك وعنكاوة وأربيل بإقليم كردستان العراق، وإلى مناطق أخرى من العراق هرباً من قتل الدواعش، ومن محاولة فرض الإسلام عليهم عنوة، إضافة إلى سلب ونهب كل ما يملكون من أموال منقولة وغير منقولة.
لم يكن اجتياح الموصل عملية معقدة، إذ كان الفساد، ولاسيما في صفوف القوات المسلحة والشرطة وأجهزة الإدارة المحلية، والإرهاب، قد عمَّ الموصل وبعض مناطق سهل نينوى على أيدي الداعشيين والقوى المتطرفة في المدينة والمحافظة من جهة، وانسحاب القوات المسلحة العراقية بقرار من أعلى سلطة في القوات المسلحة العراقية، من رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، قد جعل مدينة الموصل ومن ثم محافظة نينوى، تسقط في ساعات ودون مقاومة في أيدي الداعشيين القتلة. بيد هؤلاء الأوباش الذين مارسوا عمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي وديني وسبي واغتصاب وبيع النساء الإيزيديات بسوق النخاسة الإسلامي، شملت أتباع جميع الأديان والمذاهب، ولاسيما الإيزيديون والمسيحيون والشبك والتركمان بالموصل وعموم محافظة نينوى، كما أنهم مارسوا الاضطهاد والقسوة والعدوانية في التعامل مع المواطنين والمواطنات السنة ممن رفض الاستجابة لفكرهم المتطرف والعدواني أو لم يتناغم مع سياساتهم.
من المشكلات الكبيرة الأخرى التي تعاني منها العائلات المسيحية من مختلف الطوائف بالعراق تبرز في ادراج بلدات ومناطق مسيحية خاصة في سهل نينوى ضمن المناطق المتنازع عليها بين حكومة بغداد وحكومة الإقليم (والتي أشير إليها بالمادة 140 في الدستور العراقي).. مما جعلها منطقة تنافس وصراع.. وعقد الصفقات المعلنة والمستورة..، ولا شك في أن ضحيتها دائما كانوا وما زالوا هم أهالي هذه المناطق، والمناطق كلها مازالت منكوبة. وقد ترك هذا الصراع، ومازال، تداعيات خطيرة جدا على وجود هذا المكون الأصيل. وكما في جميع الشعوب والقوميات قوى قومية متطرفة، فأن المعلومات المتوفرة تشير إلى معاناة المسيحيين من تطرف قوى قومية كردية ايضاً بإقليم كردستان العراق، إذ لا يقل خطورة في بعض مراحله وممارساته عن التشدد الديني.. والامثلة كثيرة عن التداعيات الخطيرة على هذا المكون، لاسيما على أولئك الذين تقع جغرافيتهم ضمن جغرافية الإقليم. وقد كتب لي أحد المثقفين المسيحيين البارزين حول أوضاع المسيحيين ومعاناتهم يقول:
" كما أن هناك سبباً آخر في هذا الصدد يتمثل في جعل الكنيسة ورجال الدين المرجعية الفعلية للمكون المسيحي، خاصة في الاقليم، وعادة هذه الطبقة الدينية، التي لا تمتلك خبرة سياسية وإدارية ولا دراية بالحاجات الحقيقية للمكون المسيحي، لأن هذه الامور هي خارج خبرتها وتخصصها، وهي في معظم الاحيان تراعي مصالحها الكنسية الخاصة وتحابي السلطة وتخضع لرغباتها. بعيدا عن مصالح المكون المسيحي، مما يؤدي الى تهميش الإرادة الحقيقية لهذا المكون."5
والمعلومات المتوفرة تشير إلى المعاناة الكبيرة للمسيحيين بالعراق خلال الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية وفي ظل الدولة الطائفية الهشة التي أقامها التحالف التساومي بين الولايات المتحدة وإيران بالعراق. فالمعلومات التي وفرتها الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية تشير إلى استشهاد "عدد كبيرٍ من الشعب المسيحي بلغ 2220 شخصاً بين عام 2003 ولغاية شهر آذار من عام 2018". أما عدد الكنائس والمزارات والأديرة التي جرى الاعتداء عليها في العراق فقد بلغ 167 كنيسة بين عامي 2003 -2018. منها 35 كنيسة دُمرت على أيدي الداعشيين المجرمين بين سنة 2014 – 2017. 6
وخلال الفترات العصيبة من تاريخ العراق الحديث برز نزوح السكان المسيحيين من مناطق سكناهم أو اضطرارهم للهجرة إلى خارج العراق على وفق ما ورد في الجداول الإحصائية الرسمية. ويمكن للجدول التالي ان يوضح ذلك.
جدول رقم (4)
جدول يشير إلى أعداد ونسب السكان المسيحيين في إجمالي سكان العراق
السنة   إجمالي سكان العراق/نسمة   عدد السكان المسيحيين   نسبة المسيحيين %
1890   1.830.000   39.850   2،2

1914   2.200.000   32.493   1،5
1920   2849.282   79.779   2،8
1927   2.968.000   148.400   5،0
1934   3.293.740   164.687   5.0
1947   4.564.000   149.656   3،28
1957   6.206.017   204.226   3،3
1965   8.067.230   250.084   3،1
1977   12.129.497   606.474   5.0
1987   18.644.000   932.200   5،0
1997   22.046.000   734.131   3،3
2003   24.683.313   814.549   3،3
2005   28.000.000   560.000   2،0
2006   29.041.753   580.835   2،0
2007   29.682.000   593.640   2،0
2008   30.680.190   613.603   2،0
2013   34.000.000   450.000   1،3
2016   36،000.000   350.000   0،97
2017 /2018     37.139.519   300.000   0،8
قارن: كاظم حبيب، مسيحيو العراق.. أصالة.. انتماء، مواطنة، دار نينوى للطباعة والنشر، دمشق 2018.
أنظر أيضاً: هرمز النوفلي، الإحصائيات الرسمية للسكان وعدد المسيحيين بالعراق عبر التاريخ، في الثلاثين من أيلول 2009. بلا ذكر الموقع.

والجدول يكشف بوضوح إلى أن العراق فقد، خلال الفترة الواقعة بين 2003 – 2018، عدداً كبيراً من سكانه العراقيين المسيحيين والمسيحيات ومن مختلف طوائفهم الدينية، إذ بلغ 514000 نسمة، وهو أمر بالغ الخطورة على وجود ومستقبل مسيحيي ومسيحيات العراق. ويشعر المتتبع بأن هذا الواقع المزري لم يحرك الحكومة العراقية ولا مجلس النواب، بل استقبلوا كل ذلك بدم بارد وارتياح كبير، حيث يشكل الإسلاميون السياسيون الطائفيون من شيعة وسنة الأكثرية الكبرى فيهما، ولم يتخوا أية إجراءات فعلية لمواجهة هذا النزوح الكارثي، وكأن ما حصل هو بالضبط ما كانت تسعى إليه فعلاً وتبتغي وقوعه، إذ لم تبدأ عمليات ملاحقة المسيحيين وتشريدهم على أيدي داعش أولاً، بل بدأت قبل ذاك على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة الشيعية أساساً، ومن ثم السنية، ولاسيما تنظيم القاعدة ومن ثم داعش ومن لّف لفّها. 
وقد جرت عمليات قتل لعدد غير قليل من رجال الدين المسيحيين نشير لهم فيما يلي:
"- الشهيد المطران بولص فرج رحو - رئيس اساقفة الكنيسة الكلدانية في محافظة نينوى خطف بتاريخ 29 \ شباط - وقتل في الموصل بتاريخ 13\ آذار \2008
- الشهيد القس يوسف عادل عبودي - راعي الكنيسة السريانية في بغداد - اغتيل بمسدس كاتم صوت امام عائلته - بتاريخ 5 \ نيسان \ 2008
- الشهيد الاب بولص اسكندر بهنام - من كنيسة السريان الارثوذكس - خطف ثم قتل وقطع الى اربع قطع - في الموصل بتاريخ 12 \ 10 \ 2006
- الشهيد الاب منذر السقا - من الكنيسة البروتستانتية - خطف ثم قتل في الموصل - بتاريخ 11 \ 11 \ 2006
- الشهيد القس رغيد عزيز متي كني - راعي كنيسة روح القدس الكلدانية في الموصل - بتاريخ 3 \ حزيران \ 2007 - قتل مع ثلاثة من الشمامسة .. وهم:
الشهيد الشماس وحيد حنا ايشوع
الشهيد الشماس بسمان يوسف داود
الشهيد الشماس غسان عصام بيداويد
الشهيد سمير عبد الاحد - استشهد في مدينة الموصل اثر عملية اختطاف سيادة المطران بولص فرج رحو - بتاريخ 29 \ شباط \ 2008
الشهيد فارس جرجيس خضر - في نفس التاريخ
الشهيد رامي حكمت بولص - في نفس التاريخ
الشهيد الاب متي يوسف ونجله فادي - استشهد اثر حادث انفجار - في مدينة الموصل - بتاريخ 2 \ 12 \ 2008.
الشهيد الشماس الشاب عبد الخالق بـاكوس موسى- استشهد بتاريخ 7 \ 2 \ 2007".

المصادر
  أنظر: هوكر طاهر توفيق، الكُرد والمسألة الأرمنية 1877-1920. دار الفارابي - بيروت، ودار أراس -أربيل، إقليم كردستان العراق، 2014.
2 أنظر: جميل حنا، مذابح إبادة الآشوريين في هكاري، الحوار المتمدن، العدد 4472 بتاريخ 03/06/2014.
3 راجع: أبرم شيبرا، قوات الليفي العراقية في الوثائق البريطانية العسكرية، موقع عنكاوة، 18/10/2010.
4 مجزرة صوريا، موقع Nala4U.com، 17 أيلول/سبتمبر 2016.
5 المصدر: موجود في أرشيف الكاتب.
6 أنظر: حميد مراد، شهداء سميل .. شهداء الوطن، موقع عنكاوة، بتاريخ. .04/08/2008 ».
أنظر أيضا: (راجع: كاظم حبيب، مسيحيو العراق، أصالة.. انتماء.. مواطنة.. دار نينو، دمشق، 2018."، إضافة إلى استشهاد أكثر من 65 امرأة بأعمار مختلفة خلال ذات الفترة. (المصدر السابق نفسه). 



235
كاظم حبيب
في الذكرى السنوي 103 للإبادة الجماعية للأرمن في الإمبراطورية العثمانية
على الدولة التركية الحالية أن تعترف بالإبادة الجماعية التي نفذتها الإمبراطورية العثمانية في العام 1915 ضد الأرمن، التي كلفت هذا الشعب عدداً يتراوح بين مليون ومليون ونصف إنسان من الرجال والنساء والأطفال الأرمن. إنها ذكرى حزينة ومؤلمة. إن عدم الاعتراف بها من جانب الحكومات التركية المعاقبة وعدم إدانتها يسهم في ممارسة الحكومة التركية الحالية ودكتاتورها الجديد نفس النهج الدموي ضد الشعب الكردي في كردستان تركيا. التعازي إلى أحبتنا الأرمن بالعراق والمواساة لما اصابهم في ظل النظام الطائفي المحاصصي المستبد بالعراق...
يمتلك الأرمن تاريخاً طويلاً بالعراق، حيث يشار إلى وجودهم منذ العهد البابلي، وكذلك في العهود الأموية والعباسية والعثمانية اللاحقة. وساهموا مع بقية بنات وأبناء بلاد الرافدين في بناء وتطوير الحضارة الرافدينية. وفي العهد العثماني بالعراق كان الأرمن من الأوائل الذين أدخَلوا المدارس التعليمية الحديثة إلى العراق. تبعهم العراقيون اليهود، ومن ثم الطوائف المسيحية الأخرى. وقد سبقوا مدحت باشا في إقامته مدارس بالعراق منذ توليه ولاية بغداد عام 1869 وأنشأ أول مدرسة صناعية فيها عام 1871، كما أقيمت في عام 1896م أول مدرسة ابتدائية للبنات.1 وكان الحكم العثماني قد أقَّر حق كل طائفة من الطوائف الدينية بإقامة مدارسها الخاصة.
يشير البحث الموسع عن "نشأة المدارس بالعراق" للأستاذ طه العاني إلى الدور الطليعي للأرمن في فتح المدارس الحديثة بالعراق، إذ كتب ما يلي: " تعد مدرسة الأرمن للذكور في بغداد من أقدم هذه المدارس، إذ يرقى تاريخ تأسيسها إلى سنة 1270 هـ/ 1853م. وفي السنة نفسها تم افتتاح مدرسة الأرمن الأرثوذكس (للبنات). تلاها افتتاح مدرسة الاتفاق الشرقي الكاثوليكي سنة 1296 هـ/ 1878 م حيث افتتحتها الطوائف الكاثوليكية الثلاث، إلا أن الدراسة في هذه المدرسة واجهت صعوبات عديدة أدت إلى اغلاقها سنة1311 هـ/ 1893، حيث بادرت كل طائفة من الطوائف المسيحية الثلاث بافتتاح مدرسة خاصة بها."2 أما الطائفة اليهودية فقد فتحت أول مدرسة لها بالعراق في العام 1864، كما يشير إلى ذلك الكاتب أميل كوهين إذ كتب: في10 كانون الأول سنة 1864 افتتحت مدرسة الأليانس الأولى في بغداد وقررت أن يكون منهجها علمانيا فقط بعيدا عن التعليم الديني وشغلت مبنى صغيراً في محلة تحت التكية وكانت أول مدرسة أليانس في المشرق العربي.."3
وكانت للطائفة الأرمنية بالعراق العديد من الكنائس، إذ تشير المعطيات المتوفرة إلى ان الأرمن بنوا عدداً من الكنائس في كل من بغداد والبصرة والموصل. إذ وجدت ببغداد أربع كنائس هي: كنيسة القديس گريگور المنور قرب ساحة يونس السبعاوي- الطيران سابقا، وهي الكنيسة الأم ومقر المطرانيه، وكنيسة مريم العذراء في منطقة الميدان، وكنيسة القديس گرابيت ضمن مجمع دار العجزة في منطقة الرياض (كمپ ساره)، وكنيسة القديسين الشهداء ضمن حدود مقبرة الأرمن الجديدة في حي خان بني سعد. وكانت هناك كنيسة الثالوث المقدس التي شيدت عام 1857م في منطقة الشورجة، وظلت قائمة لفترة مائة عام، ولكنها توقفت عن خدمة المؤمنين عام 1957م، وتم بناء بناية سوق الأرمن التجاري في الشورجة مقابل البنك المركزي على قطعة ارض تابعة للكنيسة.4 ويشير السيد هامبرسوم أغباشيان إلى إن الأرمن بنوا ثلاث كنائس لهم بالبصرة، ولكن، وعبر العقود المنصرمة، لم يبق منها سوى كنيسة واحدة بنيت في عام 1736، وأعيد إعمارها في أعوام 1905 – 1909، ثم رممت مرة أخرى في عام 1931. أما بالموصل فقد بنيت كنيسة أجميازين المقدسة عام 1857 واستمرت قائمة حتى العام 1968، إذ أقيم على أنقاضها كنيسة جديدة وبالاسم نفسه. ثم بنيت كنيسة أخرى في أحد احياء الموصل، ولكن نهبت وسرق ما فيها بما في ذلك المرمر، حتى قبل تدشينها، في أعقاب حرب الخليج الثالثة عام 2003، وفي أجواء الفوضى التي سادت البلاد برغبة صارخة من جانب الولايات المتحدة مباشرة بذريعة "ليتنفس الشعب نسيم الحرية!". وبنيت في عام 1932 أول كنيسة للأرمن بمدينة كركوك النفطية وكنيسة جديده عام2016 ،5 وهناك كنائس للأرمن في زاخو ودهوك وقرية افزروك في شمال العراق ويتم حاليا بناء كنيسة في اربيل.
وأثناء الحرب العالمية الأولى تعرض الأرمن في الإمبراطورية العثمانية إلى حرب إبادة من جانب السلطات العثمانية أدت، على وفق التقارير الصادرة عن الكثير من مراكز ومعاهد البحث العلمي والمؤرخين، إلى استشهاد عدد يتراوح بين 1000000 - 1500000 أرمني من "رعايا" الإمبراطورية العثمانية. 6 أما الكتاب الأزرق الذي أصدرته الحكومة البريطانية في العام 1916، والذي كتب مقدمته المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي فيشير إلى إن عدد القتلى بلغ حتى ذلك الحين 600000 أرمني.7 وتقدر الحكومة التركية إلى إن عدد القتلى يتراوح بين 300000-500000 أرمني، ورغم ذلك فهي لا تعترف بأن ما حصل على الأراضي التركية، وفي مناطق سكن الأرمن الأصلية، باعتبارهم من اصل سكنة هذه الأرض، كان إبادة جماعية!! وبالتالي فأن الحكومات التركية المتعاقبة تلجأ إلى مقاطعة تلك الدول دبلوماسياً، إذا ما اعترفت بأن ما ارتكبته الإمبراطورية العثمانية ضد الأرمن كان إبادة جماعية.8
لقد حقق الحكام العثمانيون ليس مجزرة بشرية ضد الأرمن فحسب، بل مارسوا وحققوا عملية "تطهير عنصرية" ضدهم، إن من تبقى منهم على قيد الحياة هرب باتجاه سوريا والعراق طالباً النجاة بنفسه. كتب الدكتور سيّار الجميل يقول: "لقد دفع الأرمن العراقيون أسوة بغيرهم من العراقيين النجباء، أثمان باهظة من حياتهم ودمائهم وتشرّدهم على امتداد تاريخ طويل من وجودهم. ولعل مأساتهم التاريخية تشكّل خصوصيتهم التراجيدية ليس في العراق وحده، بل امتدت مع وجودهم عبر التاريخ.. وكان تشرّهم التاريخي ديسابورا حقيقية عند مفصل القرنين التاسع عشر والعشرين. قاد موجات كبرى منهم إلى الفناء حتى وصلت بقاياهم نحو الجنوب، ليستقر من بقي منهم على قيد الحياة في العراق، إذ رحب بهم العراقيون ترحيبا خاصا، وشاركوهم عواطفهم ومآسيهم، فوجد الأرمن في العراق أهالي لهم، وملاذا مطمئنا، ووطنا خصبا بديلا، وبلدا آمنا، ومجتمعا راقيا حماهم من كل غوائل التمزق والضياع..".9 وقبل أن يستقبل العراق جمهرة ممن تبقى من الهاربين الأرمن من جحيم الإبادة الجماعية، كان هناك مواطنون ومواطنات أرمن بالعراق، وهم من أحفاد الأرمن الذين وصلوا العراق منذ مئات السنين وفي فترات مختلفة، بما في ذلك الفترة العباسية في حكم العراق، الذين شكلوا جزءاً عضوياً مهماً من الشعب العراقي وعاشوا بسلام وعلاقات طيبة وإنسانية مع بقية السكان من مختلف القوميات والديانات والمذاهب. وقد ساهم العرقيون الأرمن باستقبال الأرمن الهاربين من الدولة العثمانية وسعوا للعناية بهم. وقد توزعت المجموعة على أربع مدن أساسية هي بغداد والموصل والبصرة وكركوك، إضافة إلى وجود عائلات قليلة في مدن أخرى مثل أربيل وكرمنليس، أو مدن أخرى في وسط العراق. وكان الأرمن في بدايــات وجودهــم بالعــراق "مقسمين بالنسبة الى تبعيتهم للسلطات الكنسية، فقد كان أرمــن البصرة يتبعــون مطرانية (أبرشية) اصفهان، أما أرمن بغداد فكانوا يتبعون الكرسي الرسولي في أيجميازين في أرمينيا.10 ثم اصبحت الكنيسة الرسولية الارمنية - الارثودوكسية في العراق بعد فترة تابعة بجميع كنائسها الى الكرسي الرسولي في أيجميازين من ناحية الامور الدينية والطقوس والشعائر وغيرها الى يومنا هذا. وتشير السفارة الأرمنية إلى إنه و"نتيجة للإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الأرمني عام 1915، فقد هاجر عشرات الألوف من الأرمن الى العراق. في عشرينيات القرن الماضي سكن العراق، وبالتحديد حوالي 90 ألف أرمني، بعد فترة من الزمن "عاد قسم منهم الى أرمينيا، بينما هاجر القسم الاخر الى اماكن اخرى"11. وعلى وفق المعلومات المتوفرة عن مخيم اللاجئين الآشوريين والأرمن بالقرب من مدينة بعقوبة في شهر نيسان/أبريل من عام 1918 فقد بلغ عدد الأرمن 41583 نسمة من النساء والرجال والأطفال، وتقلص العدد في المخيم في أيلول من نفس العام إلى 39191،12 أي قبل تشكيل الدولة العراقية الملكية. وتشير سفارة الجمهورية الأرمنية ببغداد إلى أن عدد نفوس الأرمن بالعراق بلغ في العام 2003 وقبل إسقاط الدكتاتورية عبر حرب الخليج الثالثة 25 ألف نسمة.13 وهذا يعني بأن هجرة الأرمن من العراق حصلت في فترات مختلفة، وبشكل خاص في فترة حكم البعث، ولكن ليست هناك إحصائيات عن عدد الأرمن الذين تركوا العراق وهاجروا إلى أرمينيا أو إلى أوروبا وأمريكا الشمالية بين تشكيل الدولة العراقية في عام 1921 وسقوط الدكتاتورية البعثية في عام 2003.   
عاش العراقيون الأرمن ضمن المجتمع العراقي كجزء منه له خصوصيته، واندمجوا فيه وأصبحوا جزءاً من نسيجه الوطني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والرياضي. عاشوا كمجموعة قومية أرمنية وكمجموعة دينية مسيحية محترمة. ساهموا في الحياة العامة كباقي العراقيات والعراقيين، وزج منهم في السجون العراقية بسبب انتمائهم للأحزاب السياسية، ولاسيما للحزب الشيوعي العراقي، وبسبب مواقفهم الوطنية دفاعاً عن استقلال وسيادة العراق وضد الرجعية ومصادرة الحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية للمواطن والمواطنة بالعراق، سواء أكان ذلك في العهد الملكي أم في العهود الجمهورية اللاحقة في أعقاب سقوط الجمهورية الأولى عام 1963. إلا إن أبشع ما أصابهم جاء في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة، بعد احتلال العراق وإقامة النظام السياسي الطائفي فيه عام 2003.
لقد تعرضت كنائس الأرمن في كل من مدينتي بغداد والموصل إلى التدمير، وإلى اختطاف القساوسة الذين لم يتم العثور عليهم حتى الآن. وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالعداء لأتباع الديانات الأخرى والفوضى والإرهاب التي سادت بالعراق، أجبر أكثر من 3000 مواطنة ومواطن من الأرمن على مغادرة العراق باتجاه أرمينيا أو الغرب أو الأردن. وفي العام 2007 تم قتل سيدتين أرمنيتين على أيدي قوات أمن أسترالية في منطقة المسبح ببغداد، إضافة لمن قتل على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة والدواعش وعصابات الجريمة المنظمة، إذ بلغ عدد قتلى الأرمن 45 شخصاً، إضافة إلى اختطاف 32 شخصاً أخر منهم بين عامي 2003 - 2007. جاء في المقال الدكتور سيار الجميل السابق الذكر بهذا الصدد ما يلي:
"كانت هناك 225 عائلة ارمنية تسكن الموصل قبل 2003، أما بعد 2003، فلم يبق إلا حوالي 10 عوائل فقط قبل ثلاثة أعوام. ولقد حصلت على معلومات خاصة من أعلى المصادر الارمنية في العراق تقول بأن إحصائية عن الأرمن الموجودين حاليا فعليا في الموصل هم 45 عائلة فقط وكل عائلة تتكون من 2 شخص في البيت... أما الباقون، فقد آثروا الهجرة إلى خارج العراق والقسم الآخر أصبح متشتت بين القرى المسيحية في سهل نينوى... هذه الإحصائية من رئيس طائفة الأرمن... وبخصوص الحلة!!! هناك لدى الأرمن أراضي خاصة لهم من قديم الزمان وقبل الهجرة، اذ سكنوا في تلك المناطق آنذاك واليوم أصبحت للوقف لان كل اهلها وناسها سافروا إلى خارج العراق وبقيت الأراضي وقف. ويقول الارشمندريت ناريغ اشكانيان (63 عاما) بينما كان أحد الكهنة يسجل آخر الولادات والوفيات في صفوف الطائفة، "نحن هنا لنبقى فهذه أرضنا أيضا، رغم ما نواجهه من مصاعب في بعض الأحيان". ويبلغ عدد أفراد الطائفة حاليا نحو 12 ألفا بينهم سبعة إلى ثمانية آلاف في بغداد، فيما يبلغ عدد السكان في العراق 29 مليون نسمة."14
المصادر والهوامش
1. أنظر: طه العاني، نشأة المدارس بالعراق/ شبكة زدني للتعليم، 8 شباط/فبراير 2015.
2. المصدر السابق نفسه.
3. أنظر: أميل كوهين، مدارس الأليانس اليهودية في العراق، مؤسسة الحوار الإنساني، لندن، في 7 شباط/فبراير 2017.   
4. أنظر: هامبرسوم أغباشيان. تاريخ الأرمن بالعراق، مصدر سابق.
أنظر أيضاً: الكنائس الأرمنية بالعراق، موقع أزتاك العربي للشؤون الأرمنية، 5 شباط/فبراير 2013.
5. أنظر أيضاً: بدر الرحال، الأرمن تاريخ عريق بالعراق، موقع ستار تايمز، 29/01/2009
6. أنظر: هامبرسوم أغباشيان. تاريخ الأرمن بالعراق، مصدر سابق.
7. أنظر: مجدي خليل، القضية الأرمنية بعد مائة عام من الإبادة، الموقع الإلكتروني للتنظيم الأرامي الديمقراطي"، 1/1/2017.
8. وجدير بالإشارة الى ان الدول التالية تعترف بالتطهير العرقي "الإبادة الجماعية" ضد الشعب الأرمني حتى الآن وهي: اوروغواي (1965)، قبرص (1982)، روسيا (1995)، يونان (1996)، بلجيكا (1998)، ايطاليا (2000)، الفاتيكان (2000)، لبنان (2000)، فرنسا (2001)، سويسرا (2003)، كندا (2004)، سلوفاكيا (2004)، هولندا (2004)، ليتفانيا (2005)، فنزويلا (2005) ، شيلي (2007)، الارجنتين (2007)، السويد (2010)، وليفيا (2014)، النمسا  (2015)، المانيا (2015).
كما إنه ماعدا المجالس النيابية لهذه الدول، فقد اعترف البرلمان الاوروبي ايضا عام 1987 بالإبادة الجماعية ضد الشعب الأرمني** . أنظر: موقع رووداو، دول اعترفت بالإبادة الجماعية ضد الأمن. 1/1/2017. ** كذلك تعترف بها 43 ولاية أمريكية، وأقاليم مثل إقليمي الباسك وكتالونيا في إسبانيا، إقليم القرم المنضم حديثاً إلى روسيا، نيوساوث ويلز وجنوب أستراليا في أستراليا، وكيبيك في كندا. أيضاً، تعترف بها الأمم المتحدة، البرلمان الأوروبي، ومجلس أوروبا. أنظر: موقع رصيف 22، عشر حقائق حول الإبادة الجماعية. مصدر سابق.
9. سيّار الجميل، بروفيسور دكتور، الأرمن العراقيون: الخصوصيّة والجاذبيّة والأسرار الحيويّة، الحلقة الثالثة: دياسبورا وطن بلا بديل!، طيف اجتماعي عراقي حيوي، الموقع الإلكتروني للدكتور سيار الجميل، في 31/10/2010. 
10. أنظر: موقع سفارة جمهورية أرمينيا بالعراق، معلومات عامة عن الجالية، بتاريخ 1/1/2017.
11. المصدر السابق نفسه. وإيجميازين مدينة في جمهورية أرمينيا.
12. جي. كلبرت براون، قوات الليفي العراقية 1915-1932، مصدر سابق، ص 287.
13. المصدر السابق نفسه.
14. سيّار الجميل، بروفيسور دكتور، الأرمن العراقيون: الخصوصيّة والجاذبيّة والأسرار الحيويّة، الحلقة الثالثة، مصدر سابق.
 


  


236
كاظم حبيب
ما الهدف وراء العدوان الثلاثي الجديد على سوريا؟
(1)
لا أختلف مع المطالبين برحيل الدكتاتور بشار الأسد، ولا عن طبيعة نظامه البعثي الاستبدادي، ولا عن تسببه في أغلب المآسي والكوارث التي عانى ويعاني منها شعب سوريا منذ سنوات حتى قبل بدء الحرب الأخيرة التي بدأت قبل ثماني سنوات، ولا أرى إمكانية العيش الكريم لشعب سوريا مع هذا الدكتاتور الأرعن والنظام البعثي المجرم في المستقبل. ولكني أختلف مع مجموعات أساسية من قوى المعارضة السورية التي تخلت عن الأسلوب السلمي في قارعة النظام البعثي وقررت البدء باستخدام السلاح في مواجهة عنت النظام السياسي السوري المقيت منذ العام 2011 لوعي عبثي وقرار غير مدروس مفاده قدرتها عبر هذا الأسلوب في الكفاح يمكنها الوصول إلى إقامة الدولة المدنية الديمقراطية. ولكنها، وحال تحولها صوب السلاح، فتحت الباب على مصراعيه للتدخل الإقليمي والدولي، فسقط أغلب قوى المعارضة السياسية المسلحة في أحضان الدولة العثمانية الجديدة وتحت إرادة وهيمنة السلطان الجديد رجب طيب أردوغان، وكذلك في أحضان دول الخليج، ولاسيما السعودية وقطر، وهما دولتان كانتا وما تزالان تطمعان في أن يكون لهم دورهم التابع للولايات المتحدة في المنطقة العربية وعموم منطقة الشرق الأوسط. عندها تسلمت قوى الإرهاب الإسلامية الهيمنة الفعلية على ساحة المعارك ضد النظام السوري. ويمكن الإشارة هنا إلى بعض هذه التنظيمات بمسمياتها المختلفة جيش الإسلام، ولواء الإسلام والجبهة الإسلامية وأحرار الشام وجبهة النُصرة وفلق الرحمن وهيئة تحير الشام وأنصار الإسلام، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وأمكن للعملة الرديئة أن تطرد من الساحة السياسية والعسكرية السورية العملة الجيدة وتحتل مكانها في جميع مواقع المعارك بما في ذلك الغوطة الشرقية قبل انسحابها الأخير بيوم واحد من توجيه الضربة الصاروخية الجديدة من دول العدوان الثلاثي، وكأنه أحد عوام الانتقام لخسارة هذه القوى الإرهابية للغوطة الشرقية، رغم الأموال الكبيرة التي صرفت من الدول الغربية وتركيا والسعودية وقطر لتبقى وتقاوم ضغط قوات النظام السوري. 
من المؤلم والمؤسف حقاً أن قوى المعارضة السورية المدنية لم تمنح الفرصة الكافية لتمارس نضالها السلمي للتخلص من استبداد النظام السوري وأن تتمتع بتأييد الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، قبل أن يسقط هذا النظام المتعفن في أحضان القيادة الإيرانية الرجعية الراغبة في الهيمنة على سوريا وجعلها جزءاً من الإمبراطورية الفارسية، كما تريد ذلك للعراق، وهي التي تحلم بذلك وتتمنى تحقيقه، إضافة إلى سقوط النظام السوري في أحضان روسيا الرأسمالية التي كانت وما تزال تفتش عن مجال حيوي لنفوذها تحت شمس الشرق الأوسط والدول العربية، علماً بان سوريا بدأت علاقاتها بالاتحاد السوفييتي في العالم 1955 حيث كانت أول دولة عربية تعقد اتفاقية استيراد السلاح السوفييتي. ومنذ ذلك الحين يرتبط النظام السوري بعلاقات خاصة مع روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي. لم تدخل روسيا الصراع منذ بدايته، بل تدخلت في العام 2013 حين أصبحت دمشق مهدد بالاحتلال من قبل قوى الإرهاب الإسلامية السياسية المتطرفة، والتي كانت تسنى لها في العام 2014 الزحف إلى العراق واجتياح الموصل وهددت أربيل وبغداد أيضاً.   
(2)
بعد مرور ما يقرب من ثماني سنوات من النزاع الدموي تحولت سوريا إلى مركز للصراع والنزاع الدولي والإقليمي على المجالات الحيوية ومناطق النفوذ لأربع دول من الدول الخمس الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، (عدا الصين)، ومجموعة من الدول الإقليمية، ابتداءً من إسرائيل، التي تحتل جزءاً كبيراً من الجولان السوري منذ العام 1967، والتي توجه باستمرار ضربات صاروخية ضد مواقع سورية في سعي منها لتدمر القدرات العسكرية ودعم قوى الإرهاب الإسلامي السياسي، ومن إيران وتركيا، وكذلك من السعودية وقطر، وانتهاء بحزب الله الإيراني بلبنان. إنها معارك دموية ضحيتها الشعب السوري على أيدي التشكيلات العسكرية لقوى الإسلام السياسية المتطرفة التابعة لداعش والقاعدة وقوى معارضة مرتبطة وتابعة لتركيا وأخرى لإيران ومحكومة بمصالح دولية وإقليمية غير مصالح اشعب السوري. لقد اختلط الحابل بالنابل وضاع الهدف المركزي لنضال القوى المدنية والعلمانية الديمقراطية السورية التي بدأت في حينها النضال السلمي لتغيير هيمنة حزب البعث على السلطة والمجتمع، ولاسيما بعد موت الدكتاتور الأب، حافظ الأسد، وتسليم السلطة لأبنه الدكتاتور الصغير بشار الأسد، بعد إجراء تغيير النص الدستوري حول عمر رئيس الجمهورية!   
(3)
كل الدلائل التي يمكن الاطمئنان إليها تشير إلى أن النظام السوري، ورغم كل جرائمه المعروفة بحق الشعب السوري، لم يوجه ضربة كيمياوية إلى موقع في مدينة دوما أولاً، وكل الدلائل تؤكد أيضاً بأن ليست هناك أي ضربة كيمياوية وجهت لهذه المنطقة من أي جهة كانت ثانياً، وبالتالي فالعملية كلها مفتعلة. ولكن لماذا؟ ومن المستهدف من هذه العملية؟ وما العواقب المترتبة عليها؟
لنترك العوامل الكامنة وراء الوضع المتأزم في منطقة الشرق الأوسط جانباً، ونتحرى عن العوامل المباشرة والفعلية التي تسببت في الضجة المفتعلة حول الكيمياوي بمدنية دوما السورية. إن أي متتبع حيادي يمكن أن يتوصل إلى تسجيل العوامل التالية:
1) يخوض العالم الغربي حرباً باردة جديدة ضد روسيا في الوقت الحاضر، وسبب ذلك يبرز في:
** بروز روسيا كدولة نووية كبرى في السياسة الدولية، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذ إن اعترافهما بذلك ينهي القطبية الأحادية للولايات المتحدة في العالم، ويؤشر بروز أقطاب أخرى، ومنها الصين إلى جانب روسيا. وهو واقع قائم شاء الغرب أم أبى!
** رفض روسيا التعاون مع حلف الأطلسي وعدم السماح له بالاقتراب من أوكرانيا، على وفق الاتفاق المبرم مع الحلف الأطلسي بعدم اقتراب الحلف من الدول المحاذية لحدود الاتحاد السوفييتي. وقد أدى اقتراب الحلف من أوكرانيا إلى النزاع الدموي في هذه الدولة الهشة وانشطارها إلى جزئين.
** استعادة روسيا لجزيرة القرم، التي كان قد وهبها خروتشوف عام 1964 إلى أوكرانيا، والتي كانت قبل ذاك جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وفيها قاعدة عسكرية بحرية ضخمة لروسيا الاتحادية.
** الخسارة الفادحة التي تعرضت لها الدول الغربية في مواقعها بسوريا، والتي حلت مكانها الدولة الروسية، والتي تحقق، بدعمها للقوات السورية الرسمية، نجاحات في التخلص من الدواعش وتعزز مواقع النظام السياسي الاستبدادي بسوريا والمتحالف مع روسيا وإيران وحزب الله المهيمن على السياسة اللبنانية.
** الدور الذي لعبته روسيا في دعم إيران وفي الوصول إلى الاتفاق النووي معها وبموافقة الولايات المتحدة، في فترة رئاسة أوباما، والاتحاد الأوروبي. إن هذه الاتفاقية كانت وما تزال تؤرق وتغيظ إسرائيل والسعودية، ومن ثم الحزب الجمهوري وترامپ، الناطق الجديد باسم إسرائيل عملياً، والمدافع عنها، والذي صادق على نقل سفارة بلاده إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل فقط!!!، والراغب في ألغاء ذلك الاتفاق أو تعديله، في حين أن روسيا والاتحاد الأوروبي وإيران يرفضون أي تعديل أو إلغاء للاتفاقية. وقد أدى ذلك إلى تقارب علني، كان قبل ذاك سرياً بين السعودية وإسرائيل بذريعة مواجهة إيران! 
(4)
إن هذه العوامل أو بعضها قد دفعت الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا إلى حدما، باعتبارها الدولة المستعمرة السابقة لسوريا وذات المصالح فيها، إلى الانتقام من سياسات ومواقف روسيا المناهضة لسياسات الغرب عموماً أو المتخلفة معها من خلال عمليتين بائستين ومفضوحتين هما: عملية تسميم الجاسوس الروسي وابنته في سالزبوري، علماً بوجود اتفاق جنتلمان دولي لا يجوز قتل أي جاسوس يتم تبادله بجاسوس أخر، وهو ما تحرص عليه دول العالم ولم يحصل أي خرق لهذا الاتفاق عالمياً حتى الآن، والادعاء الثاني بضرب مدينة دوما بالسلاح الكيمياوي. وتؤكد روسيا بأنها بعيدة عن تسميم الجاسوس وأن ليس هناك أي تسمم لسكان دوما.
(5)
وفي الجانب السوري فأن الغرب، الذي خسر مواقعه في سوريا، يتشبث بإزاحة بشار الأسد عن السلطة. وهو طلب معقول من حيث المبدأ، ولكن إزاحته في هذه الفترة وبهذه الفوضى السائدة بسوريا يمكن أن تقود إلى أوضاع مماثلة لما حصل بالعراق في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية عام 2003. وعلينا هنا أن نتذكر إن الحرب التي نظمتها الولايات المتحدة بتحالف دولي خارج إطار الشرعية الدولية ضد النظام الدكتاتوري بالعراق قد اقترنت بكذبة دولية كبرى لفقتها الإدارة الأمريكية وتحدث بها وزير الخارجية الأمريكية كولن پاول في مجلس الأمن الدولي، والسياسي العراق الحليف للولايات المتحدة الدكتور أحمد الچلبي (1944-2015م)، وأجزاء من المعارضة العراقية. وبالتالي فهي محاولة للانتقام من الأسد لأنها غير قادرة على إزاحته.
يبدو مناسباً أن نتابع المسالة من جانب آخر، أي في أوضاع كل من ترامب وماي. فالمعلومات المنشورة عالمياً تشير إلى أن دونالد ترامپ وتيريزا ماي يعانيان بشكل مرهق ويومي من أزمات داخلية شديدة ومشكلات متفاقمة الأثر السلبي على سلوكهما على الصعيد الدولي، أي باتجاه صرف النظر عن الأزمات والمشكلات الداخلية وإشغال الناس بمثل هذه المشكلات المفتعلة. وهو أمر تؤكده الأحداث الأخيرة والكثير من المحللين السياسيين والنفسيين بكل من الولايات المتحدة وبريطانيا. ولكن سوف لن يعينهما ذلك في التغلب على المصاعب الداخلية، بل سيزيد من تعقيدها بالتعقيد السياسي على صعيد العلاقات الدولية.
(6)
لقد وقفت دول الاتحاد الأوروبي إلى جانب تيريزا ماي ودونالد ترامپ من منطلق التضامن لدول حلف شمال الأطلسي مع الدولة القائدة لهذا التحالف، والذي يعني في المفهوم الشعبوي "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، وهو مفهوم خطير جداً إذا ما ساد في العلاقات الدولية وجرى ابتعاد الدول الكبرى عن المعايير والأسس الدولية في التحقق من الاتهامات المثارة دولياً ضد هذه الدولة أو تلك. لقد أصدر الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية ضد روسيا، كما قامت 14 دولة أوروبية بطرد دبلوماسيين روس من بلدانها ومجموعة من الدبلوماسيين المراقبين في الحلف الأطلسي، إضافة إلى إعلانها الوقوف إلى جانب الدول الثلاث في عدوانها وتأييد الضربات الصاروخية ضد سوريا صبيحة يوم السبت المصادف 14/04/2018، رغم إعلان ميركل إنها لن تشارك في الضربات العسكرية، ولكن ميركل ذاتها اعتبرتها استجابة ضرورية للرد على استخدام الكيماوي بدوما، في حين لم يثبت حتى الآن استخدام سوريا للسلاح الكيمياوي بدوما ولا أي جهة أخرى. وسيبقى على هذه الدول أن تبرهن على مصداقية ادعاءاتها!
(7)
لقد نسقت الدول الكبرى الثلاث، الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، واتفقت بتوجيه 103 ضربة صاروخية من بوارج حربية وطائرات وقاعدة العديد الجوية الأمريكية بقطر والقاعدة الجوية البريطانية بقبرص، استمرت 50 دقيقة. استهدف القصف الثلاثي عددا من القواعد والمطارات والمقرات العسكرية ومركز للبحث العلمي بدمشق العاصمة ومحيطها وموقع عسكري بحمص، ثم اعتبر وزير الدفاع الأمريكي إن الضربات قد انتهت ولن تتواصل. استطاعت سوريا أن تصد 71 صاروخاً من المجموع الكلي للصواريخ التي أطلقت عليها، وهو نجاح كبير للنظام السوري، ولكنه ساهم في تدمير بعض البنى التحتية وقتل وجرح جمهرة من السوريين.     
لقد اعتبر الكثير من المحللين إن هذه الضربات غير موجهة ضد سوريا وبشار الأسد بقدر ما هي موجهة ضد روسيا ووجودها بسوريا غير المرغوب فيه من جانب هذه الدول. إضافة إلى كونه تحذيراً شديد اللهجة لإيران التي تلعب دوراً كبيراً بسوريا، وربما لحزب الله أيضاً. ولهذا جاء تصريح سفير روسيا في واشنطن، بأن هذه العملية تعتبر إهانة مباشرة لفلاديمير بوتين، إضافة إلى إنها تجاوزاً على الشرعية الدولية.
من احتمالات هذه الضربات تفليش ما وصلت إليه مفاوضات الحل السلمي بسوريا أولاً، وتوسيع قاعدة القتال وإشاعة الفوضى بسوريا والمنطقة ثانياً، وتوجيه ضربات انتقامية من إيران وحزب الله وروسيا ضد وجود القوات الأمريكية بسوريا والمنطقة. كما كان في مقدور روسيا مواجهة ذلك برد مباشر. ولم يحصل ذلك حتى الآن. يبدو لي إن جميع الأطراف لا تريد توسيع الصراع والنزاع الدموي في المنطقة، رغم شراسة الضربة الثلاثية على سوريا. وهو أمر أيجابي. 
فقد أعلن البنتاغون انتهاء العملية العسكرية الثلاثية بضربات محدودة، وأنه قد ابلغ الروس بأنها ضربات لا تستهدف التصعيد، كما أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية إنها أعلمت الروس بهذه الضربات وتوقيتها ومحدوديتها، في حين أعلنت روسيا إنها لم تشارك في مواجهة الضربات الصاروخية. وبهذا المعني يراد القول بأن تنسيقا بصيغة ما قد تم بين الولايات المتحدة وروسيا وأن الضربات سوف لن تستهدف النظام السوري أو القوات الروسية وستكون محدودة ولا تستوجب الرد الروسي.
(8)
ما هي التداعيات المحتملة لهذه الضربات الصاروخية الثلاثية؟
أغلب دول العالم وشعوبها قد استنكرت هذه العملية واعتبرتها تجاوزاً على الشرعية الدولية وعدم إعطاء فرص للتحقق من استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي بدوما. وفي هذا إدانة صريحة للدول الثلاث التي تجرأت على المجازفة باحتمال المزيد من التداعيات الخطرة لهذه العملية. وعلى وفق المعلومات المنشورة فقد أعترض 300 من أعضاء الكونغرس الأمريكي على هذه الضربات واعتبروها مخالفة للدستور الأمريكي وتجاوزا من جانب الرئيس الأمريكي على صلاحيات الكونغرس البالغ 535 عضواً، منهم 435 نائباً و100 شيخاً.
لقد كان في مقدور هذه العمليات أن تقود إلى تداعيات خطيرة على صعيد المنطقة والعالم، وأن تعرض السلام العالمي إلى مخاطر جدية، وهو تعبير عن عجز العالم ومجلس الأمن الدولي في إيجاد حلول سلمية للمشكلات القائمة، وعن عدم كف الدول الاستعمارية الكبرى عن استخدام قدراتها العسكرية ضد شعوب البلدان النامية، وحيثما شعرت بتهديد "مجالها الحيوي!" ومصالحها الاستعمارية! والجدير بالإشارة إن الشخصية الاستبدادية العثمانية الجديدة، رجب طيب أردوغان، قد أيد تلك الضربات الصاروخية واعتبرها ضرورية، وهو المعتدي الكبير على شعب سوريا في منطقة عفرين، وعلى شعب العراق بإقليم كردستان العراق، كما ايدتها كل من السعودية وقطر، واعترض عليها كل من العراق ولبنان ومصر والإمارات العربية وتونس.. ودعا العراق إلى مناقشة الضربات الصاروخية في القمة العربية التاسعة والعشرين التي ستعقد يوم 15/نسيان/أبريل بالظهران بالمملكة السعودية.
لم تزعزع هذه الضربات الصاروخية النظام الدكتاتوري السوري، بل يبدوا وكأنها ستساهم في تكريسه وتساعد على موقف أقوى في مفاوضات الحل السلمي بمدينتي سوچي وجنيف.   
             

237
سخونة الحرب الباردة الجديدة ومخاطر سياسات حافة الحرب!

د. كاظم حبيب

منذ أن تولى دونالد ترامپ رئاسة البيت الأبيض وأجواء ساخنة تؤشر اشتعال حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية. ولم تقف الدول الغربية الأخرى متفرجة على هذا الصراع بل سارعت إلى تأييد تهديدات الرئيس الأمريكي، سواء أكان بمزيد من العقوبات الاقتصادية، أم طرد الدبلوماسيين الروس، أم بتوجيه ضربة "صواريخ حديثة وذكية وجديدة" ضد مواقع سورية محمية من قبل القوات الروسية الاتحادية. هذا التصعيد الجديد أعقب الضجة المفتعلة التي نظمتها بريطانيا في قضية تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال (66 عاماً) وابنته يوليا (33 عاماً) في مدينة سالزبوري، ببريطانيا، واعتبرت روسيا هي المسؤولة عن ذلك، لأن هذه النوع من المادة السامة أُنتجت بالاتحاد السوفييتي، علماً بأن مكتشف هذا النوع من السموم يعيش بالولايات المتحدة. ولم تتمكن بريطانيا أن تأتي حتى الآن بأي دليل على تورط روسيا بهذه العملية غير الإنسانية، بل إن بريطانيا رفضت دخول روسيا ضمن لجنة تحقيقية لتشخيص المسؤول عن عملية التسميم، كما رفضت الدول الغربية في مجلس الأمن الدولي قيام اللجنة الدولية المسؤولة عن حظر استخدام الأسلحة المحرمة دوليا بالتحقيق في مزاعم قيام الحكومة السورية بضرب مدنية دوما بالسلاح الكيمياوي، علماً بأن هذه المهمة هي من اختصاصات هذه اللجنة. علماً بأن كل الظروف المحيطة لا تسمح حتى لنظام دكتاتوري وقح مثل النظام السوري وشخصية مستبدة هزيلة مثل بشار الأسد، على استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه. والأسئلة التي تطرح عن العوامل الكامنة وراء هذا التصعيد في توتير العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية المتنفذة وروسيا الاتحادية، وهل إن هذه الحرب الباردة يمكن أن تنتهي إلى صدام عسكري بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا الاتحادية على الأراضي السورية، وبالتالي احتمال إشعال حرب مدمرة في منطقة الشرق الأوسط وبعيداً عن الدول المشعلة لهذه الحرب المحتملة، أم سينتصر العقل وتعود الدبلوماسية والحوارات السياسية إلى المقدمة لتجد حلولاً معقولة لمشكلة سوريا وعموم مشكلات الشرق الأوسط؟
حين يتتبع الباحث مجرى الأحداث وتطوراتها على الصعيد العالمي وبمنطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، يمكنه تسجيل بعض الظواهر المقلقة لشعوب العالم المحبة للأمن والسلام على الصعيد العالمي والمناهضة للحروب والهيمنة الأجنبية، نشير إلى أبرزها فيما يلي:     
1. تواجه شعوب العالم الرأسمالي المتقدم، بما في ذلك روسيا الاتحادية، أزمة سياسية حقيقة تبرز في تراجع الحياة الديمقراطية والتمثيل البرلماني ومصداقية الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية التي تحكم في هذه الدول. وتعاني غالبية الحكومات فيها من تراجع في شعبيتها، عدا روسيا رغم شمولية النظام، وتأييد سياساتها الداخلية. ويمكن أن نورد هنا أمثلة كثيرة في المقدمة منها بريطانيا وإيطاليا وألمانيا الاتحادية وفرنسا. ويقدم الوضع بالولايات المتحدة الأمريكية النموذج الساطع على حقيقة الوضع الداخلي بالولايات المتحدة حيث فقد الشعب ثقته بالقوى السياسية المهيمنة وبالإدارة البيروقراطية التقليدية المحافظة الفاقدة للتأييد والتي قادت إلى صعود شخصية غير سياسية ومليونير غير محسوب العواقب إلى قيادة البيت الأبيض على حساب شخصية من صلب الإدارة البيروقراطية المحافظة الحاكمة، بعد أن وعد ناخبيه:
أ) أن تخدم سياسته أولاً وقبل كل شيء الولايات المتحدة الأمريكية أمريكا أولاً America first، وكأنها قبل ذاك لم تكن كذلك. وتشمل هذه السياسة الحقل الاقتصادي أيضاً؛
ب‌.   أن يفرض أجندته السياسية على الصعيد العالمي وفي محاور الصراع في مناطق العالم المختلفة، ومنها منطقة الشرق الأوسط، على حكومات وشعوب تلك المناطق، بما يحقق مصالح أميكا أولاً؛   
ت‌.   أن يبتز العالم مالياً من خلال التدخل في شؤون الدول الأخرى وفرض إرادته عليها، شريطة أن تدفع للولايات المتحدة تكاليف ما تمارسه الولايات والدبلوماسية الأمريكية من أفعال.
ث‌.   أن يحد من اللجوء إلى الولايات المتحدة وأن يبني سوراً مانعاً على حدود المكسيك وبأموال مكسيكية!
ج‌.   تعديل الميزان التجاري الأمريكي بفرض ضرائب على السلع الواردة إلى الولايات المتحدة بخلاف شروط منظمة التجارة الدولية الحرة.
2. الدور المحدود والضعيف لشعوب هذه الدول في التأثير على سياسات حكومية الدول الغربية  الداخلية منها والخارجية، مما أدى إلى أن تكون بعيدة عن مصالح شعوبها الفعلية.
3. كما إن السياسات الاقتصادية الدولية، التي ما تزال تتحكم بها اللبرالية الجديدة، تلعب دورها في تعميق الصراعات الداخلية والتوترات بسبب تفاقم الفجوة في الدخول ومستوى المعيشة والبطالة من جانب، وسعي تلك الدول على معالجة مشكلاتها الداخلية عبر تصديرها نحو الخارج، لتخفف من أزماتها الداخلية المؤقتة، في حين إن هذه السياسات تعمق من تلك المشكلات الداخلية على المدى المنظور.
4. ويبدو إن حكام الدول الرأسمالية المتقدمة عادت بحنينها للماضي لفرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية والتقنية وتعزيز مناطق النفوذ الحيوي الأكثر حداثة لكل منها في إطار السياسات العولمية للنظام الرأسمالي الدولي وصراع المصالح المتجدد.
5. كما لا يخلو هذا الواقع من نهج جديد لدى حكام الدول المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة إلى الشعور بالعجز عن السيطرة على شعوبها أو التحكم التام بأوضاع المنطقة، مما يجعلها تسعى إلى طلب الدعم من حكومات الدول التي استعمرتها في السابق أو دولاً إقليمية لنجدتها في مواجهة شعوبها أو في صراعها ونزاعها مع الدول الأخرى في المنطقة. ويتجلى ذلك باليمن وسوريا والعراق مثلاً.
6. وفي هذا السياق يلاحظ بوضوح تخلي الغرب عن الحديث والادعاء بدفاعه عن حقوق الإنسان وحقوق القوميات والديمقراطية، لأنها أصبحت تهدد مصالحها بالدول النامية ومنطقة الشرق الأوسط. ويتجلى ذلك في تأييدها المبطن لقوى الإسلام السياسي بالمنطقة واستمرار تسليح النظم الاستبدادية بالسلاح، رغم كونها مناطق نزاع ساخنة، كما هو حال تسليح السعودية وبقية دول الخليج او تسليح تركيا أو تسليح روسيا لإيران وسوريا.
7. الارتفاع الشديد في مبيعات السلاح والعتاد على الصعيد العالمي وبدء عملي لسباق تسلح في المنطقة والعالم، وتراجع شديد في الرقابة الدولية وعبر الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية على إنتاج أجيال جديدة من الأسلحة النووية، التي تهدد العالم بحرب طاحنة ومدمرة لكوكبنا الأرضي. وبحسب آخر تقرير لمعهد أبحاث السلام سيبريس أرتفع إجمالي حجم صادرات السلاح على الصعيد العالمي خلال الفترة 2012-2016 بنسبة 16%، ونسبة عالية منها وصلت إلى دول الشرق الأوسط، ولاسيما السعودية.
ونشير هنا إلى ثلاث مسائل مهمة مارستها الدول الغربية ودول المنطقة التي تحاول الهيمنة على سياسات دول المنطقة:
أ‌.   تشكيل وتأييد القوى الإسلامية السياسية المتطرفة، ابتداء من القاعدة ومروراً بداعش وانتهاءً بتنظيمات منشقة على داعش أو تابعة لها بأسماء أخرى. فنحن أمام ممارسات الولايات المتحدة لهذه السياسة وكذلك كل من تركيا والسعودية ودول الخليج وإيران.
ب‌.   تأييد النظم السياسية المستبدة بالمنطقة والمناهضة لشعوبها بمختلف السبل المتاحة لها، وبالتالي فهي تقف بالضد من مصالح شعوب هذه الدول.
ت‌.   تشكيل تحالفات سياسية مؤقتة وأخرى دائمية، بما يسهم في خدمة أهدافها ومصالحها ومصالح إسرائيل بالمنطقة، كما يلاحظ من تأييد التحالف السعودي الخليجي ضد اليمن، بسبب الوجود الإيراني الواضح باليمن والمتحالف مع الحوثيين. أو تأييد التحالف الجديد بين إسرائيل والسعودية ضد إيران. 
  إن هذه الوقائع والظواهر الصارخة وما تحمله من إشكاليات وموت ودمار لشعوب ودول المنطقة يمكن أن يؤشر الهدف المركزي من هذه السياسات على الصعيد العالمي والمنطقة، وأعني به الهيمنة على شعوب ودول المنطقة وفرض سياساتها ومصالحها والتحكم بخيراتها، ولاسيما المواد الخام الاستراتيجية فيها ولاسيما النفط الخام والتحكم بالتجارة الخارجية الدولية. 
إن سياسة ترامپ الانفعالية الراهنة تضع العالم على حافة حرب جديدة، لما يمكن أن ينشأ عن تصرفاته الفردية وسياسة ردود الفعل الهستيرية بعيداً عن بصيرة الإنسان العاقل والمدرك لمخاطر حرب جديدة بمنطقة الشرق الأوسط أو على الصعيد العالمي. وهو اليوم يعيش تحت ضغوط داخلية شديدة الأثر على تصرفاته غير المحسوبة، وفي المقدمة منها أتهام فريقه الانتخابي بالتنسيق مع روسيا، والفضيحة الجنسية مع ستورمي دانيلز الممثلة في صناعة الافلام الإباحية، والمظاهرات الحاشدة لتلاميذ وطلاب المدارس ضد حرية اقتناء وحمل السلاح  والتي بلغ عدد المشاركين فيها أكثر من نصف مليون إنسان وحصلت في 800 مدينة أمريكية، إضافة إلى مناهضة الاتحاد الأوروبي لسياسته التجارية وفرض رسوم جمركية على واردات الحديد والالومنيوم لبلاده، وبدء حرب تجارية مع الصين الشعبية، وكذلك شجب العالم لتأييده لحرب التحالف الخليجي ضد اليمن والموت المتفاقم والنزوح والهجرة والأمراض الفتاكة والدمار الشامل للمدن اليمنية، وهو متورط أيضاً بوعود انتخابية ضاغطة عليه وغير واقعية على الصعيد العالمي.   
إن أي ضربة صاروخية ضد سوريا من جانب التحالف الغربي، ستجابه بتصدي روسي، كما صرح بذلك پوتين، مما يمكن أن يقود ذلك إلى توسيع الحرب بسوريا وتورط دول المنطقة كلها بحرب لا يمكن التنبؤ بعواقبها المدمرة على شعوب وحياة واقتصاد المنطقة والعالم. ولهذا لا بد من العمل على منع حصول ذلك، والسعي لإيجاد حل سلمي وديمقراطي للقضية السورية وإنقاذ الشعب السوري من حرب مدمرة تجاوز عمرها سنوات سبع عجاف. المفاوضات والحلول الدبلوماسية والسلمية عبر الأمم المتحدة هو الطريق الوحيد لحل معضلات دول المنطقة والعالم، وبدونها ستكون الشعوب وحدها هي الخاسرة من هذه السياسات المتعارضة مع الحضارة الإنسانية ومصالح الشعوب ومستقبلها.
[/center]

238
الأخ الفاضل السيد شلاما رابي أبرم،
تحية طيبة.
إن من يريد أن من يريد أن يجتث الأشوريين من العراق لا يمكن إلا أن يكون سوى شخص عنصري وفاشي، هذا أولاً، وثانياً يبدو أنك لا تقرأ ما أنشره منذ سنوات كثيرة، أو غير متابع لمؤتمرات حقوق الإنسان العراقية بالعراق والخارج، ولا حتى مؤتمر برطلة ضد التغيير الديمغرافي لمناطق المسحيين، حيث كنت رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر ورئيس المؤتمر أيضاً، عندها كنت قد تعرفت على الفارق النوعي والجذري بين من طالب باجتاث الآشوري وبين كاظم حبيب.
أتمنى عليك أن تطلع على الكتاب الجديد الذي ألفته عن مسيحيي العراق، وهو الكتاب الرابع بشأن المكونات القومية والدينية بالعراق ، كان الأول عن الكرد بالعراق، والثاني عن الإيزيديين، والثاث عن يهود العراق. لو حاولت أن تقرأ مقالاتي التي نشرت في موقع عنكاوة أو حضرت محاضراتي في نادي الجمعية الثقافية الكلدانية بعنكاوة لعرفت وجهة نظري بالمسيحيين، ليس قبل مئة عام، بل قبل أن يصبحوا مسيحيين، أي قبل الآف السنين، ومن ثم بعد أن خلت المسيحية لبلاد ما بين النهرين في القرن الأول الميلادي وعبر بوابات عديدة وكذلك أوضاع المسيحيين في فترة الإسلام الأولى، أي فترة محمد، ومن ثم في فترة الأمويين والعباسيين والعثمانيين وأخيرا الدولة العراقية الحديثة، الملكية ومن ثم الجمهوريات المتتالية، وفي الوقت الحاضر.
اتمنى عليك أن تقرأ، ولا عذر لك في النقد أو التشكيك لانك لم تتابع ما يكتب عن مسيحيي العراق أو الكلدان والآشوريين والسريان أو كلهم مجتمعين.
مع الود والتحية
د.
كاظم حبيب


239
رسالة مفتوحة إلى السيد على السيستاني ووكلاءه بالعراق
سماحة آية الله العظمى السيد على السيستاني المحترم/ الحوزة الدينية بالنجف

تحية طيبة،

وبعد، كُنتُ قد وجهت في السنين المنصرمة أكثر من رسالة إلى جنابكم حول عدد من الأمور التي تمس المجتمع العراقي بالصميم، ومنها ما يمس أتباع الدين الإسلامي والمذهب الشيعي أو ما تعرض له أتباع الديانات الأخرى بالعراق وفي ظل حكومات تترأسها وتقودها أحزاب إسلامية سياسية حظيت بتأييدكم وبركاتكم. ولم احظ بجواب منكم. وكان من المفترض، وأنتم في المقام الديني الرفيع، أن تجيبوا على رسائلي ذات المضامين غير الشخصية والتي تمس الشأن العراقي الديني والاجتماعي العام مباشرة. ومع ذلك فأن من فوائد رسائلي المفتوحة أنها تُقرأ من عدد كبير من القارئات والقراء بالعراق وبدول عربية أخرى وحيثما وجد قراء بالعربية. إذ إن لها بعداً تنويرياً يعالج العيوب التي يعاني منها المجتمع والتي لا تجد أذاناً صاغية لدى الغالبية العظمى من شيوخ الدين بالعراق، لأن عدداً كبيراً منهم منشغل بأكتناز وتكديس الأموال والتعاون مع جمهرة من سياسيي الصدفة من رجال الدين والأحزاب الإسلامية السياسية. وفي الغالب الأعم، فأن هذه الأموال هي من السحت الحرام، إضافة إلى العقارات ودور السكن التي احتلوها وسكنوا فيها أو حولوها إلى مراكز لعملهم الحزبي و"الديني!". وهذا ليس ادعاءً أهوجاً أو غير مسؤول من جانبي، بل هو التعبير الصارخ عن حقيقة دامغة تحدثَ البعض من وكلائكم عنها، ومنهم الشيخ عبد المهدي الكربلائي. ولم يهتف الشعب عبثاً أو رغبة في الإساءة إلى أحد، حين قالوا "باسم الدين باگونه الحراميه"، و"باسم الله هتكونة الشلايتية"!!، بل كان هذا الشعار المزدوج واقعاً يعيشه الناس يومياً وفي كل شبر من أرض الدولة العراقية دون استثناء.

السيد المحترم

لقد تدخلتم، وما زلتم، بالسياسة من أوسع أبوابها، وهي ليست من صلب مهمات موقعكم ومركزكم الديني، وتسببتم بوصول أشخاص وأحزاب سياسية إسلامية طائفية مريضة بكراهية الشعب والفساد والرغبة في إيذاء أوسع دائرة ممكنة من الناس، ولاسيما أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، وتسببتم في هيمنتهم على سلطات الدولة الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، ودعمتم أسوأ هذه الشخصيات التي تسببت بمآسي وكوارث العراق خلال السنوات الـ 15 المنصرمة، التي سرقت وسهلت نهب أموال الشعب وقوته اليومي ، كما سلَّمَتْ، بعدوانيتها وطائفيتها المقيتة، مدينة الموصل وسهل نينوى، وكل محافظة نينوى، ومحافظات غرب العراق، إلى المحتل الدموي، تنظيم داعش المجرم، والذي أدى إلى موت مئات الآلاف من أبناء وبنات العراق ومن كل الأعمار وإلى جرائم الإبادة الجماعية.

ومن موقع المسؤولية الدينية التي في أيديكم وعنقكم لم تقفوا بوجه البدع الدخيلة على الإسلام التي تمارس سنوياً في عشرة عاشوراء أو أربعينية الشهيد الحسين وصحبه الكرام، ولا في المناسبات الأخرى التي أصبحت تشمل ثلثي أيام العمل بالعراق. كما لم تساهموا في مساعدة فقراء العراق من خلال تبيان رأيكم الديني، وليس السياسي، في واقع الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء، بين "بحبوحة" شيوخ الدين ومعممي السياسة من جهة، والعوز الشديد الذي يلف نسبة عالية جداً من سكان العراق من جهة أخرى.

لا أدعوكم هنا إلى التدخل في السياسة أبداً، أو الوقوف إلى جانب هذا وضد ذاك، بل أدعوكم إلى الالتزام بمهامكم الدينية، تلك التي تخليتم عن الكثير منها منذ سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة وقيام النظام السياسي الطائفي المقيت على أنقاضه، وتدخلتم في مهمات ليست ضمن واجباتكم الدينية،من خلال:

** عدم التدخل في السياسة والالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، وبين الدين والدولة، وهو مبدأ لصالح الدين وأتباعه، ولصالح الدولة ومواطناتها ومواطنيها في آن واحد.

** أن توجهوا أنظاركم وجهودكم صوب الدفاع الديني عن الإنسان، أياً كان، دينه أو مذهبه، قوميته أو لغته أو جنسه، أي الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، الذين تعرضوا للعسف والاضطهاد والقتل على الهوية والسبي والاغتصاب وبيع النساء الإيزيديات في سوق النخاسة الإسلامي وممارسة العبودية بحق الإنسان غير المسلم!!!

** أن تلعبوا دوركم الديني في الاستعداد الفعلي للكشف دون رحمة عن الذين استخدموا وما زالوا يستخدمون الدين للخديعة والكذب وتشويه العقول وسرقة المال العام، سواء أكانوا من شيوخ الدين، أم من العاملين في الأحزاب الإسلامية السياسية وفي السلطة، لأنهم باسم الدين يمارسون كل ذلك.

** أن تساهموا من موقعكم الديني في الدفاع عن الأيتام والأرامل والمعوقين من ذوي الحاجات الخاصة، والابتعاد عن الدفاع عن كل مَن ارتدى العمامة، لكن جيوبه مليئة بالسحت الحرام، فهؤلاء ذئاب وليسوا بشراً. وكم كان أبن النجف الشاعر محمد صالح بحر العلوم محقاً حين قال وهو يخاطب تلك الذئاب بالذات:

يا ذئاباً فتكت بالناس ألاف القرون      اتركيني أنا والدين فما أنت وديني       

أمن الله قد استحصلت صكاً في شؤوني         وكتاب الله في الجامع يشكو اين حقي!

** أن تقوموا بتوزيع الأموال التي في حوزتكم، ولاسيما الخمس، لإعمار العراق، ومنها إقامة بيوت للأرامل والفقراء ودور حضانة ومدارس لليتامى من الأطفال، بدلاً من توجيه تلك الأموال إلى بناء ما يشاء ويريد حكام إيران، على حسب ما قرأته في موقعكم على الإنترنت، وما يتحدث به اقرانكم.

** إن تبحثوا مع شيوخ الدين بإيران ليتخلوا حقاً وصدقاً عن التدخل الفظ في الشأن الديني العراقي، وأن يكفوا عن تصدير الجمعيات والبدع التي تشوه الدين والمذهب بالعراق، في حين لا يمارس كل ذلك بإيران.

** أن تطلبوا من إيران الكف عن تمويل المليشيات الطائفية المسلحة بالأموال والسلاح والعتاد والخبراء والقياديين والجواسيس الذي يتولون العمل في الحشد الشعبي برموزه المعروفة التي لا تلتزم بالإرادة العراقية، بل بإرادة المرشد الإيراني السيد علي خامنئي، وهو ما يصرح به أغلب قادة المليشيات الطائفية المسلحة. إن هذه المهمة واحدة من مهماتكم وواجباتكم الدينية وليس السياسية.

** ومن واجبكم الديني والاجتماعي أن تمنعوا شيوخ الدين من وكلائكم أو غيرهم، من شتم المدنيين والديمقراطيين والشيوعيين والإساءة لسمعتهم باسم الدين وباسمكم وبأسماء مراجع دينية أخرى بالنجف. لأنهم بذلك يسيئون بقصد التشويه إلى أناس شرفاء لم تتدنس أيديهم بالسحت الحرام أو خطايا الكذب والتزوير والتهريب والقتل.. ألخ. وهو ما يعرفه الإنسان العراقي جيداً.

** كم أتمنى عليكم أن تمنعوا رفع صور شيوخ الدين الإيرانيين والعراقيين في الساحات العامة وفي الدعاية الانتخابية مستثمرين بساطة الناس لتشويه إرادة العراقيات والعراقيين باسم الدين وباسمكم.

** من واجبكم الديني، وليس السياسي، تحريم الرشوة وشراء وبيع أصوات الناخبين أو ممارسة التزوير والغيبة لأنها كلها مخالفات تتناقض ما هو ملزم ومطلوب من المسلم والمسلمة عموماً، فـ "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده!".

** ومطلوب منكم أن تحرموا مثلاً شراء أعضاء من جسم الإنسان، ولاسيما الأطفال، بسبب حاجة العائلات للمال، أو عهر الأطفال من الذكور والإناث الذي أصبح تجارة رابحة بالعراق، أو تصدير المخدرات من افغانستان وإيران إلى العراق وتدمير صحة أطفال وشباب العراق، والتي أصبح موسم الزيارات الحسينية أحد الأبواب المهمة في تهريب المخدرات إلى العراق!

لديّ، سماحة السيد، قائمة طويلة بما هو مطلوب منكم باعتباركم تحتلون الموقع الأهم والأول بين مراتب شيوخ الدين بالعراق، إذ يمكن أن يُسمع صوتكم الديني من قبل المسلمات والمسلمين الشيعة بجانبه الديني وليس السياسي. فما ذكرته في أعلاه يعتبر جملة من المجالات التي يمكنكم أن تخدموا الإنسان العراقي والحياة الدينية والاجتماعية العراقية، وأن تدعوا للتآخي بين اتباع جميع الديانات والمذاهب بالعراق وتحرموا الصراع والنزاع الديني والمذهبي والقومي، فقد سالت بالعراق دماء ودموع كثيرة وكثيرة جداً لا طاقة لهذا الشعب في تحمل المزيد منها، والظلم، كما تعرفون، إن دام دمّر. لم يكن البعثيون وحدهم من تسبب بسيول الدماء في الحروب وفي الاستبداد، بل الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية بميلشياتها الطائفية المسلحة وسياساتها التي مزقت النسيج الوطني العراق أكثر فأكثر.   

ارجو لكم الصحة والعمر المديد للقيام بالواجبات الدينية والاجتماعية الملقاة على عاتقكم، على حسب اجتهادي وقناعتي.

مع خالص التقدير

د. كاظم حبيب


240

كاظم حبيب

نقاش متعدد الجوانب مع أفكار كريم مروة حول اليسار

منذ أن تعرفت على كريم مروة، ومعه الرفيق غسان رفاعي، في منتصف الستينيات من القرن العشرين ببيروت، وأنا في طريقي إلى بغداد بصورة سرية ، ومنذ أن بدأ حوارنا بشكوك مشروعة حينذاك حول مدى صواب ما طرحه الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وتبنته الحركة الشيوعية العالمية عن إمكانية ولوج طريق التطور اللارأسمالي وتجاوز مرحلة الرأسمالية صوب الاشتراكية، أو ما سمي بطريق التوجه الاشتراكي، ونظريات الانتقال إلى الاشتراكية في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، وحين تمادى البعض، (والتر أولبريشت)، وأطلق على مصر بأنها تسير في الاتجاه الاشتراكي، منذ ذلك التاريخ بدأت متابعتي لنشاط الحزب الشيوعي اللبناني ولكتابات ومواقف كريم مروة. كنا جميعاً من مدرسة واحدة هي المدرسة الماركسية–اللينينية. وكنا نشترك بذات الأحلام، والكثير منها كان أوهاماً يجمعها نوايا حسنة. كان ينقصنا إدراك مخاطر تلك الأخطاء. ومع ذلك فقد كانت تلك الفترة مليئة بالحركة الدائبة وبالتضحيات الجسام والبطولات النادرة التي اجترحها الشيوعيون والتقدميون والديمقراطيون في البلدان العربية، رغم الحصيلة الضعيفة لذلك النضال التي اقترنت بانتكاسات سياسية واجتماعية كبيرة على صعيد الحركة الشيوعية العالمية والمنظومة الاشتراكية، طاولت عموم منطقة الشرق الأوسط، ومنها البلدان العربية.
ومنذ ما يقرب من عقدين، وقبل وقوع الزلزال الكبير الذي هزَّ العالم المتمثل بسقوط الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الاشتراكية. وهو زلزال شببيه، في شروط تاريخية مختلفة، بالزلزال الذي هز العالم لدى قيام الدولة السوفييتية في أعقاب انتصار ثورة أكتوبر في عام 1917، منذ ذلك التاريخ الجديد المشار إليه بدأ التفكير لدى مجموعة من مناضلي الحركة الشيوعية والحركة اليسارية في البلدان العربية بضرورة التمعن في ماضي الحركة الشيوعية وأحزابها السياسية وماضي حركة اليسار وحاضرها وآفاق المستقبل، ومتابعة جادة للتحولات الكبيرة الجارية في العالم والتغيرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط واستيعاب الواقع المتحرك والمتغير سلباً أو إيجاباً في البلدان العربية.
لا شك في أن حركة البريسترويكا في الاتحاد السوفييتي منذ العام 1984/1985 قد حركت المياه الراكدة في أوساط وأحزاب الحركة الشيوعية العالمية، ودلت على عمق الأزمة التي يعاني منها الفكر الماركسي-اللينيني وتعاني منها حركة اليسار على الصعيد العالمي. وهي الأزمة التي دفعت برفاق في الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية إلى التفكير بعقلية نقدية لماضي وحاضر الحركة الشيوعية والعمالية ولسياسات أحزابها ولممارساتهم الفعلية، ومنها الحزب الشيوعي اللبناني- وإلى التطلع في مشروع جديد نحو المستقبل. في هذه الفترة بالذات كنا في الحزب الشيوعي العراقي نتابع أوضاع الحزب الشيوعي اللبناني والصراعات الفكرية والسياسية التي كانت تجري داخله، والمواقف المتباينة إزاء الكثير من الأحداث، وبروز تيار تجديدي فيه يحمل رؤية جديدة ويطرح أفكاراً جديدة للمشكلات التي تعاني منها البلدان العربية. ولم تكن كل تلك الرؤى والأفكار موضع ارتياح أو تقبل من جانب العديد من الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي. ولم يكن ذلك الجديد في الفكر وفي السياسة كله على صواب، إذ لم يكن قد بني على أسس وقواعد متينة وواضحة حينذاك.
كان كريم مروة واحداً من أبرز وأنشط من اجتهد لتكوين رؤية جديدة نقدية للكثير من مواقع الفكر القديم الذي كان راسخاً في أذهان غالبية الرفاق في الحركة الشيوعية في لبنان وفي سائر البلدان العربية. وكان يستند في عرض أفكاره تلك إلى معرفة جيدة بالنظرية، وإلى استيعاب لمكونات المنهج المادي الجدلي وسبل استخدامه، وإلى قراءة مدققة للواقع المتحرك وتجربة غنية ومتراكمة عبر عقود من العمل الفكري والسياسي ومن العلاقات الواسعة مع قوى حركة اليسار على الصعيدين العربي والعالمي.
ومنذ ما يقرب من 15 سنة، وأنا أتابع كتابات الأستاذ كريم مروة ومواقفه الجديدة من الحزب الشيوعي اللبناني وفي الحركة الشيوعية في البلدان العربية ومن محاولاته في بث روح التجديد في الحركة اليسارية في بلداننا، كما كنت أتابع الرفض والمقاومة الشديدة التي كان يواجهها من قوى متنفذة في الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية من جهة، والرضا والقبول من جانب قوى يسارية تتطلع للجديد وللتجديد من جهة أخرى.
علينا باستمرار أن نتذكر بأننا كنا، كشيوعيين، نعمل في حركة شديدة التماسك والانغلاق الإيديولوجي على الذات والانضباط الحديدي الذي لم يفسح في المجال للفكر من الانطلاق بحرية ومبادرة حيوية. كانت المدرسة قد التزمت بالنظرية الماركسية–اللينينية التي تحولت بمرور الزمن إلى أشبه ما يكون بـ"دين"، وإلى قيد شديد على فكر وحركة وحرية الإنسان الشيوعي وقدرته على ممارسة الاستقلال الفكري. كما كانت التربية وحيدة الجانب ومتعالية على المدارس الفكرية الأخرى. بعكس ما كان يفترض أن تكون عليه. ولهذا كنا، نحن أعضاء هذه المدرسة الفكرية، شديدي القناعة بنظريتنا دون أن يكون لدينا أدنى شك وقلق حول تحليلاتنا واستنتاجاتنا، بعكس ما كان يتطلبه الموقف العلمي الرصين من الغوص في أعماق الأحداث وتحليلها بعناية واستخلاص الاستنتاجات الواقعية والموضوعية. كنا نستهلك ما ينتجه السوفييت من مقولات واجتهادات، دون أن نمتلك الحق عملياً في المبادرة الفكرية وطرح ما نفكر به. ومن هنا نشأ الجمود في حركتنا وفي وعينا للواقع. وبدأت مظاهر الأزمة الفكرية والسياسية في الحركة الشيوعية وفي حركة اليسار على الصعيد العالمي منذ زمن بعيد. ثم تراكمت وتشابكت وتفجرت تلك الأزمة في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وأحدثت ذلك الزلزال، الذي لا تزال مفاعيله تبرز بصيغ مختلفة، وستبقى مؤثرة لفترة طويلة.
لا شك في أن الحركة الشيوعية بالبلدان العربية قد لعبت دوراً متميزاً وملموساً في النضال ضد الإمبريالية وضد السيطرة الأجنبية ومن أجل تعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية وتنشيط عملية التنوير الديني والاجتماعي والدفاع عن مصالح الكادحين والمحرومين. وقدمت في نضالها الكثير من التضحيات الجسام قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها. لكنها كانت في الوقت نفسه قد ارتكبت الكثير من الأخطاء التي خلفت عواقب غير قليلة على الصعيدين الفكري والسياسي وعلى صعيد الممارسة العملية. ويبدو لي إن واحدة من أبرز تلك الأخطاء الفكرية والسياسية للمدرسة الماركسية–اللينينية، التي كنا جزءاً منها، هي القناعة الإيمانية غير المبررة بأننا كنا دوماً على حق، وأن الحقيقة كانت إلى جانبنا، وأن الصواب كان يقترن بتحليلاتنا وتقديراتنا للواقع وللمهمات التي كانت تواجه شعوبنا. واستندنا في تلك القناعة إلى إننا كنا نستخدم المنهج المادي الجدلي بشكل صحيح، ولم يكن الأمر هكذا دائماً. بل كنا في صيغة تلك القناعة على خطأ كبير. لقد كانت رغباتنا وطموحاتنا تسبق تحليلاتنا وتؤطرها. وكانت هي الموجهة الفعلية لتلك التحليلات وليس الواقع القائم باعتباره أساس وقاعدة التحليل الفعلية. أورد مثالاً واحداً على ذلك. لقد توصلت الحركة الشيوعية في وقت مبكر إلى القناعة بأن الرأسمالية كانت تقترب من نهايتها، إنها كانت في المرحلة الثالثة من أزمتها العامة، وأنها كانت قاب قوسين أو أدنى من مرحلة لفظ أنفاسها ممهدة بذلك لمرحلة جديدة في حياة البشرية، مرحلة الاشتراكية الخالية من الاستغلال والحرمان والعبودية لرأس المال. وقد بلغ الأمر بسكرتير عام الحزب الشيوعي السوفييتي، نيكيتا خروتشوف، أن طرح مقولة وهمية خادعة مفادها "أن أفق بناء الشيوعية في الاتحاد السوفييتي لم يعد بعيداً، بل هو أصبح قريباً جداً!، في وقت كانت الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد بدأت منذ سنوات العقد السابع من القرن العشرين تشدد من خناقها على رقاب شعوب الاتحاد السوفييتي وتلقي بظلالها على الحياة اليومية للإنسان السوفييتي. لقد تم إنكار واقع وجود تناقضات وصراعات اجتماعية وسياسية في المجتمع السوفييتي، باعتبار أن الاشتراكية لا تعرف التناقضات، وبالتالي لم يتحركوا باتجاه حلها، مما زاد من فعلها وعمق من تلك التناقضات وشدد من الصراعات وكاد يحولها إلى نزاعات. وسرنا مع الاتحاد السوفييتي في ذلك التصور الحالم. وكنا واهمين وارتكبنا بذلك، كحركة وكأحزاب وكأفراد، سلسلة من الأخطاء الفادحة كان يفترض فيها، ومنذ فترة غير قصيرة، أن تدفعنا إلى إعادة النظر بحركة اليسار عموماً، وبالأحزاب الشيوعية منها بشكل خاص، من أجل استخلاص الدروس والعبر من الماضي واستيعاب حركة الحاضر واستشراف المستقبل. ولا بد لنا أن نعترف هنا مرة أخرى بأننا كنا مستهلكين للتنظير السوفييتي الذي كان في الغالب الأعم إرادي النزعة وسطحي التحليل في التعامل مع المادية التاريخية. لم نشغّل عقولنا وأصبنا بكسل التفكير، ولم نكن مبادرين وفعالين في التحليل المطلوب لأوضاعنا المحلية وللأوضاع على الصعيدين الإقليمي والدولي، مما أوقعنا في أخطاء ومطبَّات كثيرة وكبيرة.
والآن وللأسف الشديد نلاحظ حراكاً ضعيفاً في صفوف الشيوعيين باتجاه إعادة النظر الجادة بالماضي وبسياسات الأحزاب الشيوعية، مما ساهم بتقسيم حركة اليسار إلى جزء قديم وآخر يطمح للتجديد. وإذ يتمثل القديم بتلك الأحزاب التي تعيش بين مدينتي "نعم ولا" وفق تعبير جميل للشاعر الروسي يفجيني افتوشنكو، أي بين الخشية من التغيير والتعثر فيما جرى تحديده، وهو قليل، وبين عدم القدرة على متابعة التغيرات الكبيرة الجارية في عالمنا الراهن، والعجز بالتالي عن فهم ضرورات إجراء التغيير والتجديد الفكري والسياسي والتنظيمي والتجديد في العلاقة مع فئات وقوى المجتمع داخل حركة اليسار في البلدان العربية. أما الجديد في اليسار فلا يزال في بداياته. فهناك تيار التجديد الذي يتمثل بإفراد وجماعات صغيرة أخذت على عاتقها طرح رؤيتها الجديدة حول الأفكار والإحداث والسياسات السابقة، قدمت تحليلاتها للواقع الجاري ومهمات المرحلة الراهنة والسعي لاستشراف المستقبل. ولا شك في أن كل ما هو جديد لا يصطدم بالقديم فحسب، بل ويُحارب بقوة من جانب حاملي المشروع القديم. إذ يتهم أصحاب المشروع الجديد باليمينية وبالمساومة مع الإمبريالية والبرجوازية وما إلى ذلك. ومثل هذا التوجه يلحق الضرر البالغ بعملية التجديد المنشودة في حركة اليسار ويعطلها، ولكن الجديد سيفرض في المحصلة النهائية نفسه عاجلاً أم آجلاً.
نحن اليوم أمام محاولات واجتهادات جادة لتجديد فكر ومشروع اليسار في البلدان العربية. ونجد لذلك نواتات في الكثير من البلدان العربية، ومنها لبنان والعراق على سبيل المثال لا الحصر.
يحتل كريم مروة (ولادة 1930م) مكانة مرموقة ومتميزة بين دعاة التجديد في فكر ومشروع اليسار الديمقراطي بلبنان والبلدان العربية. ويتجلى ذلك في النشاط الدؤوب، وهو ابن 88 عاماً، في مجموعة الكتب والمقالات واللقاءات الغنية التي نشرت والتي يتحرى فيها الكاتب بجهد مثابر ومسؤولية عالية عن سبل تجديد حركة ومشروع اليسار. ومن بين أبرز ما كتبه إلى الآن يتصدر كتابه الأخير "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". وهو كتاب يستحق القراءة والمناقشة بجدارة. (دار الساقي، بيروت، 2010).
إن الانطلاق بحركة اليسار نحو آفاق جديدة وتجديد فعلي لفكرها ومشروعها السياسي يتطلب الالتزام بالقواعد التالية:
1-   ضرورة الاستخدام السليم والعلمي للمنهج المادي الجدلي في البحث والتحليل والتدقيق في الظروف الملموسة لواقع هذا البلد أو ذاك؛
2-   الانطلاق من واقع الحياة اليومية للناس ومن المتغيرات الجارية على الاقتصاد والمجتمع، وعلى فكر ووعي الفرد والمجتمع أولاً، وكذلك التغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي ثانياً، من أجل تحديد المهمات والأهداف المرحلية والابتعاد عن محاولة القفز فوق المراحل أو حرقها؛
3-   تأمين الربط العضوي بين عملية التغيير في البنية الاقتصادية والاجتماعية في هذا البلد أو ذاك، وبين تطور وعي الفرد والمجتمع وسعيهما المشترك لصالح حرية الإنسان وحقوقه المشروعة وسعادته والعدالة الاجتماعية، واستخلاص مدى الاستعداد الفعلي للمشاركة في عملية التغيير.
4-   تشخيص دقيق وسليم للقوى الاجتماعية التي يهمها إنجاز مهمات المرحلة التي يفترض أن تتبلور في مجالين أساسيين: أ- مجال تحديد المهمات في إطار برنامج تستوجبه طبيعة المرحلة؛ ب- أن تكون المهمات المطلوب تحقيقها متطابقة مع القوى الاجتماعية والسياسية المعنية بالنضال لتحقيق المشروع الوطني والديمقراطي.
في هذا الاتجاه يحدد كريم مروة بعض المرتكزات العامة التي يفترض أن تسود في العلاقات السياسية، بعد أن غابت عنها طويلاً، مثل الأخلاق والصدق والشفافية واحترام الرأي والرأي الآخر ورفض العنف وسياسة القوة، والتحول صوب التنافس الديمقراطي في تحقيق المهمات، والتداول الديمقراطي السلمي والبرلماني للسلطة، وفصل الدين عن الدولة، وحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة...الخ، ثم يخلص إلى تأكيد مرتكزين أساسيين. في المرتكز الأول يؤكد مروة أن المفاهيم العامة في الفكر السياسي والاجتماعي، وفي الفكر عموماً، هي مفاهيم متغيرة، أي غير ثابتة عنده (ص 74). في حين يتلخص المرتكز الثاني في كون ".. بلداننا هي جزء من عالم يتغير وتجري فيه تحولات كبيرة، وأن علينا أن نكون جزءاً من هذه التحولات، في الاتجاه الصحيح فيها، ضد الاتجاهات النقيضة لمصالح بلداننا ولمصالح البشرية عموماً." (ص 74/75). وهما مرتكزان يفترض ألا يغيبا عن ذهن من يعكف على دراسة الأوضاع السائدة في بلداننا وفي العالم المعاصر.
إن الاستناد إلى المنهج المادي الجدلي في دراسة أحداث السنوات المنصرمة تجعلنا وجهاً لوجه أمام جملة من المسائل المهمة التي يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:
1.   القفزة الهائلة في مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية على الصعيد العالمي. وهي نتاج الثورة العلمية-التقنية، ثورة الإنفوميديا، التي ساهمت في نقل الرأسمالية إلى مرحلة جديدة في تطورها، هي مرحلة العولمة في جميع مجالات الحياة باعتبارها عملية موضوعية لا مرَّد لها، حولت العالم إلى قرية كونية متلاصقة في دورها ودروبها. وقد أسهمت هذه الثورة في توفير إمكانية أفضل للرأسمالية على الصعيد العالمي في معالجة مشكلاتها وأزماتها الاقتصادية بمستويات جديدة ترمي بثقل عواقبها على الفئات الأكثر ضعفاً عند شعوب الدول الرأسمالية المتقدمة، وعند شعوب البلدان النامية على نحو خاص. وهو ما تشير إليه وتؤكده الأزمة المالية والاقتصادية الجديدة الجارية، التي تفجرت في نهاية العام 2008، وتفاقمت في بداية 2010 ولم تصل إلى نهايتها حتى الآن. لكنها توفر، في الوقت نفسه، إمكانية جديدة لدفع عملية التطور في البلدان النامية، إن أحسن تجاوز السلبيات التي تنشأ عن السياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء البلدان النامية، وهي سياسات موغلة بوحشية الاستغلال.
2.   إن الانهيار الكبير للاتحاد السوفييتي وبقية بلدان مجلس التعاضد الاقتصادي قد نشأ بفعل عوامل داخلية وتراكمات كثيرة ارتبطت بالواقع الذي انطلقت منه تلك البلدان، ومن التراكم الذي كان يتم على ذلك الأساس الهش من البناء، إذ لم تتوفر لروسيا القيصرية في حينها القاعدة المادية ولا الوعي الفردي والاجتماعي الكافيين والضروريين للتوجه صوب بناء الاشتراكية. وهو ما حصل بالفعل في البلدان الأخرى التي لحقت بالاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتبنت نموذجه للاشتراكية. وعليه فأن العوامل الخارجية لم تلعب سوى الدور المساعد والمهم في تعجيل الانهيار.
3.   الانتكاسات المتلاحقة لحركة التحرر الوطني العربية التي اقترنت بعدد كبير من العوامل، بما في ذلك مشروع الأحزاب الشيوعية وحركة اليسار عموماً، إضافة إلى الحركات القومية والدينية المتشددة، التي يعود بعض أسبابها لطبيعة المهمات التي رفعتها تلك الحركات التي لم تكن متناغمة مع طبيعة المرحلة ومع مهماتها ولا مع أساليب وأدوات النضال.
4.   تبلور قراءة جديدة أكثر واقعية وفهماً وأكثر تدقيقاً في مسألتين مهمتين، هما: سبل التعامل مع الفكر الماركسي ومنهجه المادي الجدلي من جهة، والاستناد إلى الواقع الذي تعيش فيه شعوب البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، عند استخدام هذا المنهج المادي الجدلي لإعادة النظر في الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل من جهة أخرى.
نحن إذن أمام قوى لا تزال تحمل القديم وتتشبث به وترفض التنازل عنه ولا تريد أن ترى الجديد أو هي عاجزة عن رؤيته لأي سبب كان، وأخرى قرأت الجديد واستوعبت ضرورة وعي القوانين الموضوعية المحركة لعمليات التحول الاقتصادي والاجتماعي في هذا البلد أو ذاك، التي على ضوئها يمكن رسم المهمات التي يفترض النضال من أجلها في المرحلة الجارية.
في هذا الإطار يضعنا كريم مروة أمام مجموعة من القضايا الجوهرية التي ربما ليس عليها خلاف كبير في الظاهر، ولكن الاختلاف حولها يبدأ في الممارسة العملية.
إن الدراسة التي يقدمها لنا كريم مروة غنية ومتعددة الجوانب سأحاول أن التقط منها بعض النقاط المهمة لإبداء الرأي بشأنها:
1) طبيعة المرحلة والموقف من بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. ذلك السؤال الذي يواجهنا في المرحلة الراهنة هو تحديد المهمة المركزية في النضال الذي تخوضه شعوب الشرق الأوسط بشكل عام وشعوب البلدان العربية على نحو خاص؟ هنا أجد نفسي متفقاً مع الكاتب حين يؤكد أن المهمة التي تواجه شعوبنا ليست تحقيق الاشتراكية، بل هي مهمات وطنية وديمقراطية، تقع في إطار مرحلة انتقالية تتطلب إقامة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في اقتصاديات ومجتمعات البلدان العربية، رغم الاختلاف في مستويات تطورها. إننا إذن أمام مهمات التخلص من بقايا العلاقات ما قبل الرأسمالية وبناء الرأسمالية التي يفترض أن تكون غير منفلتة لكي تشكل القاعدة المادية لتطور جديد مناسب للقوى المنتجة المادية والبشرية، إضافة إلى ربط ذلك بمستوى تطور وعي الإنسان الفردي والجمعي المجتمعي. فشعوب البلدان العربية لا تزال تعيش في ظل علاقات إنتاجية واجتماعية متنوعة تتراوح بين البداوة والفلاحة، علاقات أبوية وعلاقات إنتاج شبه إقطاعية متخلفة وعلاقات عشائرية، وبين مجتمعات نمت لتوها علاقات إنتاج رأسمالية حديثة التكوين وفي مجالا ت التجارة والعقار، وأخرى نمت فيها علاقات الإنتاج الرأسمالية نسبياً، كما في كل من مصر وسوريا والمغرب والعراق، وأخرى قائمة على الاقتصاد الريعي النفطي السعودية والعراق وليبيا ودول الخليج. وفي جميع هذه البلدان يلاحظ وجود نظم سياسية غير ديمقراطية واستبدادية وغياب الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. كما تلعب المؤسسات الدينية دورها البارز في التأثير على فكر الإنسان وعلى الكثير من سلوكياته وتصرفاته إزاء نفسه وإزاء الآخر.
2) نستخلص مما تقدم استنتاجاً جوهرياً يؤكد بان مهمة شعوب هذه البلدان، مهمة أحزابها اليسارية على وجه الخصوص، لا تكمن في رفع شعارات اشتراكية تتجاوز حدود المرحلة الديمقراطية، بل يفترض لهذه الشعارات أن تتطابق مع طبيعة المرحلة ومهماتها الأساسية، التي بلورها كريم مروة في المشروع الذي طرحه كبرنامج مرحلي لليسار العربي، رغم التباين الذي يمكن أن يحصل حين يجري الحديث عن كل بلد بشكل ملموس.
إن هذا الإقرار يقود إلى الرؤية التالية:
1-   إن المرحلة الراهنة ليست مرحلة انتقالية من الرأسمالية إلى الاشتراكية أو تجاوز المرحلة الرأسمالية، بل هي بالتحديد مرحلة انتقال من علاقات ما قبل الرأسمالية، وهي علاقات متشابكة، علاقات رأسمالية حديثة التكوين وضعيفة، الانتقال إلى علاقات إنتاجية رأسمالية متقدمة. 2- هذه الرؤية الواقعية لا تعني بأي حال إيقاف النضال من أجل مواجهة ومناهضة محاولات تشديد استغلال العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين والمثقفين في هذه البلدان، بل يفترض أن يتواصل النضال من أجل الحد من هذا الاستغلال بقوانين اقتصادية واجتماعية ملزمة. إن النضال من أجل الاشتراكية يمر عبر الصراع بين الطبقة العاملة والحلفاء الأساسيين، وبين المستغلين في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالي وتأمين الأرضية والقاعدة المادية للتحولات المنشودة صوب مجتمع العدالة اجتماعية.
2-   إن هذا الواقع يطرح علينا سؤالاً مشروعاً: إذا كانت المهمة الراهنة ليست اشتراكية ولا شيوعية، وإذا كانت ذات طابع وطني وديمقراطي، تقود إلى إرساء قواعد ومبادئ الحرية الفردية وحرية المجتمع وسيادة الديمقراطية ودولة القانون والحق والمؤسسات الدستورية.. الخ، فأن هذا يفترض أن يتجلى في ثلاث مسائل جوهرية بعيداً عن الهروب إلى أمام: أ- إن على البرامج الجديدة التي يفترض أن تطرحها قوى اليسار للنضال مع قوى الشعب من أجل تحقيقها مرحلياً التي يفترض أن تتناغم مع فهم الواقع واستيعاب مهمات وأساليب وأدوات تغييره. ب- إن اسم هذا الحزب اليساري أو ذاك ينبغي أن ينسجم مع طبيعة المهمات المرحلية. جـ- إن تحديد الأدوات والأساليب السلمية والديمقراطية التي تختارها قوى اليسار للنضال من أجل تحقيق تلك الأهداف، ينبغي أن تكون بعيدة عن العنف والقوة والسلاح وعن الانقلابات. وحين تحاول القوى المستقلة والحاكمة مواجهة الجماهير ونضالها بالنار والحديد، عندها تتبلور وتنضج ظروف ومستلزمات الخلاص من تلك النظم موضوعياً وعبر التحولات الثورية التي يفرضها الواقع السياسي والاجتماعي بالبلاد.
إن هذا التوجه يُحصّن قوى اليسار من الهروب إلى أمام، كما حصل في بداية ثورة أكتوبر 1917. ففي الوقت الذي استنتج فيه لينين في كتاب "الدولة والثورة" في العام 1916 بأن روسيا غير جاهزة للبناء الاشتراكي بأي حال، فإنه سرعان ما قرر بعد الثورة مباشرة السير بالبلاد تحو بناء الاشتراكية! ثم عاد عن ذلك في العام 1921 في "برنامج السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) انطلاقاً من قناعته بعدم واقعية ذلك البرنامج. وكان ستالين منذ العام 1922 تقريباً قد هيمن على قيادة وسياسة الحزب والدولة ودفع بهما صوب تنفيذ النهج المتطرف الأول في بناء الدولة السوفييتية الجديدة بعد أن فرض العزلة الفعلية على لينين المريض حتى مماته. وقد انتهت هذه الدولة في العام 1989/1990 إلى النهاية المأساوية المعروفة لنا جميعاً. وعلينا أن نتذكر البرامج الطموحة التي طرحتها الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية خلال العقود المنصرمة التي عجزت عن تحقيق الكثير والأساسي منها، وساهمت عملياً، في خلق أجواء الإحباط السائدة في الوقت الراهن، بسبب انهيار التجربة الاشتراكية. وكانت الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية تنطلق في وضع برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من المقولة التي سادت حينذاك بأن العالم يعيش مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وكان الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية هو المؤثر المباشر على تفكيرنا وتحليلنا، في حين أن الرأسمالية كانت ولا تزال تمتلك مقومات البقاء متجاوزة أزماتها الدولية. إذ هي كانت ولا تزال ضرورة موضوعية لاقتصاديات مجتمعاتنا. ولهذا يمكن القول بوضوح إن برامجنا في العديد من القضايا الجوهرية والأساسية لم تكن متطابقة مع واقع بلداننا حينذاك ومع الواقع القائم في العالم. لا شك في أن العالم سوف يتجه في المحصلة النهائية صوب الاشتراكية، وإن الرأسمالية توغل في استغلال شعوب العالم، وبالتالي فهي في مرحلة نضالية معقدة وطويلة الأمد يمكن أن يقال عنها مرحلة انتقال، ولكنها ليست قصيرة، لأسباب ترتبط بامتلاك الرأسمالية إمكانيات ما تزال تسمح لها بالبقاء فترة لا يمكن تحديدها حالياً، إلا إنها إذا ما لفظت أنفاسها، فالاشتراكية هي البديل الواقعي والموضوعي لها. 
ومن هنا جاء مشروع البرنامج الذي طرحه كريم مروة في كتابه " نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" مطابقاً بخطوطه العامة والأساسية، كما أرى، لمهمات المرحلة والواقع الراهن في البلدان العربية، مع ضرورة جعل فقراته أكثر ملموسية بالارتباط مع واقع كل بلد. لقد هربنا إلى أمام في برامجنا السابقة ولا بد من العودة إلى أرض الواقع بعيداً عن الأوهام، ولا بد أن تكون لقوى اليسار أن تبني أحلامها التي تعطي لنضال الإنسان حيويته والمجتمع وتشبع طموحاته المشروعة، أحلام العيش في أجواء الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والسلام. لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون أحلام، ولكن لا بد للأحلام أن تكون واقعية وتتطابق مع الواقع الموضوعي والقدرات النضالية لكل شعب من الشعوب ونضوج الظروف الموضوعية للتحولات المنشودة.
ماذا يقدم لنا كريم مروة في مشروع برنامجه الجديد؟
ابتداءً يمارس كريم مروة، وقبل تقديمه مشروعه، نقداً موضوعياً وواعياً لتجربة الحركة الشيوعية في العالم العربي خلال العقود المنصرمة، التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبشكل أكثر ملموسية منذ العقد السابع من القرن الماضي. إذ بدون مثل هذه الرؤية النقدية للتجربة المنصرمة بما لها وما عليها، لا يمكن التقدم خطوات ثابتة وقوية نحو الأمام لتحقيق نهضة جديدة في حركة اليسار. فمن يعجز عن القيام بدراسة نقدية لماضي الحركة وحاضرها بجرأة ومسؤولية واستخلاص دروسها، يصعب عليه تحقيق التجديد ووعي مهمات الحاضر والدفع السليم باتجاه مستقبل أفضل. ومن الجدير بالإشارة إلى أن كريم مروة لا ينسى بأنه كان من المشاركين الفعالين في وضع تلك البرامج القديمة ومن مواقع القيادة أيضاً، وبالتالي فهو ينتقد نفسه من موقع المسؤولية في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني حينذاك. ويؤشر ذلك إلى مصداقية النقد الذي يمارسه.
بعد ذلك يقدم لنا كريم مروة مشروع برنامج نضالي ديمقراطي متوازن يتضمن عشرين بنداً يعالج فيها قضايا النضال في ظروف المرحلة الراهنة التي تستهدف بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي يتمتع فيها الفرد بحقوق الإنسان والمواطنة الحرة والمتساوية، سواء أكان رجلاً أم امرأة، دولة حق وقانون ديمقراطي، دولة مؤسسات ديمقراطية، دولة ينمو في إطارها المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، وليس المجتمع الأهلي القديم. دولة مدنية تفصل بشكل واضح بين الدين والدولة وتحترم جميع الأديان والمذاهب. ويطرح مروة في هذا الجزء من الكتاب بقية بنود البرنامج الذي يقترحه بجوانبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، من دون أن يغفل الموارد الطبيعية وسبل استثمارها. كما يعطي مكاناً خاصاً للضمانات الاجتماعية، ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات القومية في البلدان العربية، ويشدد على ضرورة النضال لتحرير بلداننا من أنظمة الاستبداد ومن المظالم التي تفرضها على شعوب البلدان التي تسود فيها هذه الأنظمة.
ولم ينس مروة القضية الفلسطينية، إذ أفرد لها فقرة خاصة باعتبارها واحدة من ابرز القضايا التي تشكل مصدر القلق والتوتر والحروب في منطقة الشرق الأوسط. ومن حقه أن يحمل أربعة أطراف مسؤولية الوضع في فلسطين، وهي إسرائيل وسياسات الاحتلال والقمع والغطرسة التي تمارسها بإصرار وعناد، وعجز الدول الكبرى والمجتمع الدولي عن المساهمة في حل هذه المعضلة، وكذلك الحالة المزرية السائدة في معسكر القوى الفلسطينية والبلدان العربية. كما يفترض أن يضاف إلى ذلك عامل التدخل الفظ في شؤون الشعب الفلسطيني من جانب دول المنطقة وبشكل خاص إيران وسوريا والسعودية التي ساهمت في نشوء الواقع الراهن عموماً والمشكلة الناشئة عن سياسات حماس في غزة ورفضها حل الخلاف مع الحكومة الشرعية في الضفة الغربية.
ويتطرق مروة إلى موضوع التكامل الاقتصادي بين البلدان العربية والتنسيق السياسي لصالح الدفاع عن القضايا العربية الملحة والعادلة، ثم يطرح بصورة دقيقة أهمية العلاقة بين الدول العربية والعالم، إنطلاقاً من أن بلداننا هي جزٌء من هذا العالم ولنا فيه مصالح ولنا قضايا يستوجب حلها وجود مثل تلك العلاقات مع جميع دول العالم لمساعدتنا في حل الإشكاليات الإقليمية التي لم تحل إلى الآن، ومنها القضية الفلسطينية ومشكلة الإرهاب.. .الخ. وأخيراً يضع كريم مروة أمامنا بوضوح الموقف الذي يفترض أن تتخذه قوى وحركة التغيير الديمقراطي في العالم العربي من قوى وحركة التغيير على الصعيد العالمي، داعياً إلى تحقيق التعاون والتنسيق في النضال من اجل الوصول إلى قواسم مشتركة فيما بينها لتعمل من اجل تحقيق تغيير فعلي في سياسات الدول الكبرى في الكثير من القضايا الملحة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية، ورفض التهديد باستخدام القوة أو الحروب الاستباقية من جانب الدول الكبرى وحل المعضلات بالطرق السلمية الديمقراطية، ورفض الإرهاب الدولي المتصاعد الصادر عن قوى الإسلام السياسية المتطرفة وإدانته ومعالجة العوامل التي تتسبب في بروز ظاهرتي التطرف والإرهاب على الصعد الإقليمية والدولية.
في الختام أود أن أشير إلى ثلاث نقاط مهمة:
1-   حول العولمة: علينا أن نميز بوضوح، بخلاف ما يطرح من جانب بعض قوى اليسار، بين العولمة كعملية موضوعية باعتبارها مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية لا مرد لها، وهي مرتبطة عضوياً بالتطور الهائل الحاصل في القوى المنتجة المادية والبشرية على الصعيد العالمي، وهي ذات طبيعة رأسمالية استغلالية وتسري عليها قوانين المرحلة الرأسمالية في تطور المجتمع البشري، وبين السياسات العولمية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الرأسمالية المتقدمة التي تعبر عن محاولة جادة للهيمنة على الاقتصاد العالمي والتحكم بتطور البلدان النامية واستغلال شعوبها. وإذ تشكل بلداننا جزءاً من العالم المعولم موضوعياً حيث يفترض في هذه البلدان الاستفادة القصوى من الجوانب الإيجابية في هذه العولمة لصالح تطورها المستقل، فأن على شعوب هذه البلدان العمل الجاد للتخلص من الجوانب السلبية الناشئة عن سياسات الدول الرأسمالية المتقدمة التي تسعى باستمرار إلى التضييق على وجهة تطور هذه البلدان ورمي ثقل أزماتها على عاتق الفئات الكادحة من شعوبها وشعوب البلدان النامية.
2-   حول الأحزاب الشيوعية، لقد تشكلت الأممية الثالثة في العام 1919 جاء في أعقاب ثورة أكتوبر 1917 ونشوء الاتحاد السوفييتي ومحاصرته من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة حينذاك والحرب التي شنت ضده من قبل 22 دولة رأسمالية وحاجته إلى دعم دولي من جانب حركة شيوعية جديدة في مواجهة أحزاب الحركة الاشتراكية للأممية الثانية. وإذ انتقلت بعض الأحزاب الاشتراكية أو أجنحة فيها إلى الأممية الثالثة، فقد تأسست في سنوات لاحقة مجموعة من الأحزاب الشيوعية في العالم العربي بقرار من الأممية الشيوعية. وعبر تشكيل الكومنترن الذي لعب دوراً كبيراً في هذا المجال وربط الحركة الشيوعية بمركز توجيهي واحد هو الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، أصبحت الحركة الشيوعية عموماً مستهلكة للفكر السوفييتي بدلاً من أن تقوم تلك الحركة بأحزابها المختلفة بإنتاج أفكارها انطلاقاً من واقعها الخاص. لقد تمت روسنة الفكر الماركسي في فترة مبكرة من تأسيس الحركة وجرى تعميمها وترويجها، وبشكل خاص في فترة هيمنة ستالين على مركز الحركة الشيوعية العالميةً تحت مصطلح الماركسية-اللينينية. إن تأسيس الأحزاب الشيوعية في العالم العربي جاء استجابة لحاجة تضامن دولية بين ملتزمي الماركسية-اللينينية من جهة، والذي وجد استجابة محلية حينذاك بسبب السيطرة الاستعمارية والتخلف الشديد والبؤس الواسع النطاق في البلدان العربية والدور السلبي للمؤسسة الدينية في التنوير الديني والاجتماعي من جهة ثانية. إن إدراك هذه المسألة والسعي للتخلص من احتمال إقامة أي مركز قادم للحركة اليسارية هو السبيل لتطور الحركة وتقدمها فكراً وممارسة. إن هذه الوجهة تحقق استقلالية الحركة في كل بلد من البلدان، وهي ضرورية لوضع سياسة تتطابق مع، أو تقترب جداً من، الواقع وهي لا تتعارض مع الحاجة الفعلية إلى التضامن والتشاور والتعاون والتفاعل فيما بين الأحزاب والقوى اليسارية على الصعد المحلية والإقليمية والعالمية.
3-   القضية الثالثة التي تهمنا نحن الذين نعاني من تراجعات حادة وانكسارات شديدة في حركة التحرر الوطني وبناء الدول الوطنية الديمقراطية الحديثة التي يثيرها بوعي ومسؤولية عالية كريم مروة، هي العلاقة الجدلية بين النضال من أجل الحرية والحياة السعيدة في الماضي، منذ عهد سبارتاكوس مروراً بثورة الزنج في العراق وانتهاء بالواقع الراهن، وبين الفشل الذي أصيبت به تلك الحركات الذي تعود بعض أسبابه إلى عدم توافر الشروط الموضوعية للنجاح، إضافة إلى عدم امتلاك الوعي الضروري لدى تلك الحركات بالواقع الذي لم تدركه تلك الحركات جيداً ولم تستوعب حركة التاريخ وسبل التعامل الواعي مع القوانين الموضوعية. إن العالم يتحرك بمجمله نحو الأمام والارتدادات الحادة التي تصيب أجزاء من هذا العالم لا تؤثر كثيراً إلا بمقدار ما تساهم في تعديل المسيرة العامة. ومن هنا فأن انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية يجسد مجموعة من الحقائق التي تؤكد بأن البدايات اقترنت بارتكاب أخطاء، وإن الواقع لم يكن مدركاً بشكل جيد وأن ما كان قد جرى قد تناقض مع ما كان يفترض أن يكون، وبالتالي اصطدم الفكر الانتقائي بواقع الحال. كل ذلك يستوجب من قوى اليسار الجديد إعادة النظر في دراسة التجربة والعوامل التي تسببت في انهيارها وسبل الخلاص منها من خلال دراسة واقع العالم والمتغيرات فيه في ضوء المنهج العلمي المادي الجدلي.
أ‌)   إن انهيار النظام السياسي في الاتحاد السوفييتي وفي غيره من الدول الاشتراكية لا يعني ثلاث مسائل جوهرية: لا يعني بأي حال انتصار الرأسمالية على الاشتراكية أولاً؛ ولا يعني فشل الفكر الاشتراكي أو فكر العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية للإنسان الفرد والمجتمع ثانياً؛
كما لا يعني أن على قوى اليسار في العالم، ومنها قوى اليسار في البلدان العربية، أن تتوقف عن الحلم بعالم جديد خال من الاستغلال والبؤس والفاقة شريطة أن تعي مراحل تطور المجتمعات التي تعيش فيها وتنأى بنفسها عن الأوهام وتشخص المهمات والأهداف بصورة دقيقة وتستفيد من دروس التجارب السابقة منذ كومونة باريس في العام 1871 إلى الوقت الحاضر ثم تواصل النضال من أجل الأهداف الإنسانية النبيلة وفق تلك المراحل وليس بالقفز فوقها.
لقد كان الفضل الكبير لماركس وإنجلز أنهما وضعا أو استكملا وضع منهج علمي للبحث والتدقيق واستخلاص الاستنتاجات الضرورية للممارسة السياسية من قبل الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب السياسية، إنه المنهج المادي الجدلي. واستخدام هذا المنهج بوعي ومسؤولية في دراسة الواقع القائم في كل بلد من البلدان أو على الصعيدين الداخلي والخارجي أو الإقليمي والدولي، يساعدان على معرفة الماضي وفهم الواقع القائم والعوامل الفاعلة والمؤثرة فيه والمتغيرات الحاصلة عليه والسياسات التي يفترض انتهاجها على وفق المرحلة التي يمر بها هذا المجتمع أو ذاك. إنه الطريق الأسلم لوضع المقولات وتحديد المهمات والأهداف بعيداً عن الاتكاء على النظرية التي هي ليست بالأساس سوى تجريد وتجسيد الواقع القائم وصياغته في مقولات. من هنا جاء تشخيص إنجلز حين قال "الماركسية ليست عقيدة جامدة، بل نظرية مرشدة". فحين يتغير الواقع الذي نعيش فيه، تتغير المقولات النظرية أيضاً. لا بد إذن من صياغة مقولات جديدة في ضوء العلاقة بين الظواهر الجديدة الفاعلة. ومن هنا يمكن القول بأن الكثير من المقولات النظرية التي تحدث بها ماركس وإنجلز في حينها لم تعد سارية المفعول حالياً أو شاخت، ولكن دراستها تساعد في فهم طريقة التعامل مع الواقع وتحليله ليس أكثر. لكن القوانين التي تم اكتشافها بصدد الرأسمالية مثلاً فهي لا تزال فاعلة لأنها مرتبطة بالتشكيلات الاقتصادي والاجتماعية، رغم أن فعل هذه القوانين متباين من بلد إلى آخر وفق مستوى تطور البلدان وعوامل أخرى.
وإذا كان الجزء الأول من كتاب كريم مروة يتمتع بهذا الغنى الفكري والسياسي، فأن الجزء الثاني منه يتضمن نصوصاً منتقاة من ماركس وإنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي. وهي نصوص مهمة يطرح أصحابها في زمانهم رؤية جديدة ومهمة يتبناها ويلتقي عندها الكثير من قوى اليسار في البلدان العربية. لكنها لا تزال غير مؤثرة في الساحة السياسية العربية والشرق أوسطية، وهي مهمة جداً من أجل تحريك المياه الراكدة في هذه المنطقة من العالم، رغم حركتها السريعة في أماكن أخرى من العالم. إن المشكلة التي يمكن تشخيصها بالنسبة لقوى اليسار في العالم العربي هي أن ساعة بعض هذه القوى، لا تزال متوقفة تقريباً، في حين أن الزمن يجري وبسرعة، ولا يقتصر الأمر على عدم تقدمنا خطوات إلى أمام، بل إلى واقع تراجعنا عن حركة الزمن وعن المسيرة والتقدم والحضارة العالمية.


241
في الذكرى الرابعة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي
تحية ودٍ واعتزاز، تحية النضال والمواصلة للحزب الشيوعي العراق
إلى رفاقي، رفاق الحزب الشيوعي العراقي، إلى صديقاتي وصديقاتي أعضاء ومؤيدي ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي، أقدم أجمل التهاني، وأطيب التمنيات، وأحر التحيات، وأصدق مشاعر الود، بمناسبة حلول الذكرى الرابعة والثمانون لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، أقدم وأعرق حزب وطني عراقي نشأ وواصل مسيرته المديدة والنضالية على هذه الأرض الطيبة، أرض الرافدين، في كل الظروف الإيجابية والسلبية المليئة بالمصاعب والتضحيات، وسقى تربتها بدماء شهداء الحزب والوطن، وحقق الكثير من المنجزات على طريق التنوير والتعبئة النضالية على مدى العقود المنصرمة. الحزب الشيوعي كان ولا يزال مدرسة نضالية مجيدة في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية والسلام، تخرج منها عشرات الألوف من المناضلات والمناضلين الشجعان الذين واصلوا المسيرة في صفوف الحزب، أو استشهدوا، أو واصلوا النضال في صفوف القوى الوطنية الأخرى. فالكثير من الأحزاب السياسية العراقية، العربية منها والكردية أو غيرها، قد اغتنت ببعض المناضلين الشيوعيين السابقين في صفوفها الذين حافظوا على وعيهم الديمقراطي والاجتماعي وساهموا في بناء علاقات حميمة مع الحزب الشيوعي العراقي
وكانت صحافة الحزب الباسلة مدرسة أخرى تخرج منها المئات من خيرة الصحفيين البواسل الذين لا زالوا يواصلون المسيرة النضالية بالفكر والقلم، أو استشهد أو توفى منهم أحبة رائعين، كما يعمل آخرون في صفوف أحزاب وطنية أخرى، أو هم مستقلون، ولكنهم غير مستقلين عن أماني وحاجات وطموحات الشعب وحقوقه المشروعة وضد التجهيل والفساد والإرهاب. لتكن الذكرى الجديدة حافزاً للنضال في سبيل تحقيق شعار الشعب العراقي من كل القوميات، شعار وطن حر وشعب سعيد
كاظم حبيب
 
في 30 أذار/ مارس 2018
نشر على فيسبوك كاظم حبيب بالتاريخ أعلاه



242
كاظم حبيب
هل الإسلام ينتمي إلى المانيا؟، هل هو جزء منها؟
(1)
ألقى رئيس الجمهورية الألمانية الأسبق كريستيان فولف في العام 2010 خطاباً أشار فيه لأول مرة في تاريخ المانيا إلى أن "الإسلام جزءٌ من ألمانيا". وكان يريد بذلك التغلب على الأجواء السلبية التي نشأت بسبب مواقف قوى اليمين واليمين المتطرف من المواطنين الألمان المسلمين، أو من اللاجئين القادمين من دول عربية أو ذات أكثرية مسلمة، لاسيما حين كان، ولا يزال العداء للأجانب يستخدم بإصرار ومتعمد في الحملات الانتخابية المحلية والعامة. وقد أثار هذا الرأي الصريح والواضح نقاشاً واسعاً بين مؤيد له ومعارض، كما هوجم رئيس الجمهورية بقوة من المناهضين لهذا الرأي. ثم خفت حدة النقاش لفترة غير قصيرة حين أزيح عن المسؤولية. ولكنها عادت بفعل اللجوء الواسع النطاق وغير المتحكم به الذي شمل أوروبا الغربية، ولاسيما ألمانيا، في ضوء الأحداث الدامية والحروب بسوريا والعراق, ومشكلات الدول العربية الأخرى والأفريقية وأفغانستان، حين منع رئيس وزراء هنغاريا دخول أي لاجئ إلى بلاده، وحصر اللاجئون على  الحدود وفي أوضاع كارثية، مما دعا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى التصريح الاستثنائي  بتاريخ 30/08/2015 قالت فيه "نحن قادرون على ذلك"، أي على استيعاب اللاجئين، وبهذا فتحت، بتاريخ 04/09/2015، حدود ألمانيا أمام مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والعراقيين والآخرين القادمين من دول تعاني من حروب وأزمات سياسية واقتصادية. وأدى ذلك، وبسبب ضعف الاستعداد لاستيعاب هذا العدد الهائل الذي زاد عن المليون نسمة، إلى خلق أزمة سياسية وصراعات فكرية وسياسية حادة بألمانيا، استغلها اليمين واليمين المتطرف بشكل خاص ضد الحكومة الألمانية وضد ميركل مباشرة، وكذلك ضد اللاجئين. وقد وجد هذا التعقيد تجسيده في تنامي أصوات اليمين المتطرف في انتخابات أيلول/سبتمبر عام 2017 ، حيث دخل حزب اليمين المتطرف "البديل لألمانيا" لأول مرة إلى البرلمان الاتحادي منذ تأسيس الدولة الألمانية الاتحادية وحصل على نسبة أصوات قدرها 12,6% أو ما يعادل 94 نائباً ونائبة في البرلمان من مجموع 709 نائباً. لم يكن سبب ذلك عدد اللاجئين المرتفع الذين دخلوا ألمانيا هو الوحيد في الوصول إلى هذه النتيجة، التي اقترنت بخسارة كبيرة للأحزاب الثلاثة المؤتلفة في الحكومة الاتحادية، الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU) والحزب المسيحي الاجتماعي (CSU) والحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD)، ,لاسيما الأخير، بل كانت ولا تزال هناك أسباب عديدة ومهمة أخرى، منها مثلاً اتساع الفجوة في الدخل والمعيشة بين الأغنياء والفقراء، وتنامي عدد الفقراء والمعوزين بألمانيا وتراجع مستوى معيشة الكثير من المتقاعدين، أو ضعف الرعاية لكبار المسنين والمصابين بمرض الشيخوخة والعجز .. في أغنى بلد أوروبي.
وأثناء النقاشات حول الأجانب والمسلمين صرح رئيس الجمهورية السابق يواخيم غاوك في العام 2016 قائلاً "المسلمون المقيمون في ألمانيا هم فقط الذين ينتمون إليها"، وبمعنى واضح: إن "الإسلام لا ينتمي إلى المانيا". وبذلك خالف كريستيان فولف وجدد النقاش حول هذا الموضوع.
وخلال الفترة المنصرمة استمر النقاش الموضوعي والشعبوي يدور بين هاتين الصيغتين: "الإسلام ينتمي إلى المانيا" أو إن "المسلمين جزءٌ من المانيا"، وأن "الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا"، على حد تعبير وزير الداخلية الألماني الجديد ورئيس الحزب المسيحي الاجتماعي في بافاريا، الذي أطلقه في أول يوم تسلم فيه مسؤولية وزارة الداخلية الألمانية في 16/03/2018. ومع هذا التصريح الأخير تفجر النقاش واحتدم من جديد، إذ تصدت له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في اليوم التالي مباشرة (17/03/2018) وقالت:
“الإسلام ينتمي إلى ألمانيا“. وأضافت أن “البعض قد يجد مشكلة في قول ذلك، وهذا حقهم”، إلا أن “مسؤولية الحكومة الفيدرالية تتمثل في تعظيم التماسك داخل المجتمع، وليس إضعافه“. ثم واصلت قولها "إن ألمانيا كانت مسيحية ويهودية، ولكن 4.5 ملايين مسلم يعيشون فيها حاليا، ولذلك فإن دينهم الإسلام بات الآن جزءاً من ألمانيا" (الأردن تايمز، 22/03/2018). ثم توالت النقاشات في المقابلات الصحفية ونشر المقالات الصحفية بين مؤيد لزيهوفر ومعارض له، أو مؤيد لميركل ومعارض لها. ولقد أيد الحزب اليميني المتطرف، البديل لألمانيا، رأي زيهوفر بحرارة وفي مجلس النواب.
(2)
يشير القانون الأساسي الألماني (الدستور) إلى مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل القيم والمعايير والأسس والنظم التي تعتمدها الدولة الألمانية ومجتمعها في العلاقات الداخلية والخارجية. ومن أبرز تلك المبادئ التي تضمنها الدستور الألمانية والتي تمس موضوع البحث، يجدها المتتبع في المواد 1-19 التي تشكل الفصل الأول من القانون الأساسي الألماني، نشير هنا إلى بعض مضامينها:
1)    تقوم الدولة الألمانية على الفصل بين الدين والدولة، وهذا يعني بأن الدول الألمانية، كأي دولة بالعالم، لا دين لها لأنها شخصية معنوية، وهي علمانية، والدين فيها يخص الفرد.
2)    كرامة الإنسان مصانة ولا يجوز المساس بها، وهو نص جامع لكل البشر ومانع لأي تجاوز. وهو نص قاطع وأساسي لم يحدد هوية فرعية لهذا الإنسان أو ذاك، وبالتالي، فالمسيحي واليهودي والمسلم والهندوسي والبوذي أو من أي دين أو مذهب مقيم بألمانيا، هو إنسان محترم ولا يجوز المساس بكرامته ويحاسب وفق القوانين المرعية حين يرتكب أية مخالفات.
3)    يتمتع المواطن والمواطِنة بألمانيا، ومنهم كل حاملات وحاملي الجنسية الألمانية من أصل غير الماني، بحقوق وواجبات متساوية بغض النظر عن الدين أو المذهب أو الفكر والفلسفة التي يتبناها، وهم متساوون أمام القانون.
4)    فكل من يعيش على الأرض الألمانية يتمتع بحرية العقيدة والضمير والإيمان، وله الحق في ممارسة دينه وطقوسها وإقامة شعائره الدينية، وبناء دور العبادة أو أن يكون بلا دين.
5)    ويحرم القانون الأساسي أي تمييز بين البشر، سواء أكان بين الرجل والمرأة، أم بين البشر على أساس البشرة أو اللغة أو القومية.. الخ.
6)    ويفرض القانون الأساسي احترام بنوده والالتزام بها، بغض النظر عن موقف الفرد من هذه المادة أو تلك، إذ لا بد من الالتزام بكل المواد، كما يحق لكل الفرد العمل السلمي والديمقراطي من أجل إجراء تغيير على أي مادة لا يتفق مع مضمونها وعبر مجلس النواب أو الاستفتاء الشعبي العام. وإلى أن يتحقق له ذلك، عليه أن يلتزم بالقانون الأساسي جملة وتفصيلاً ودون أي موقف انتقائي من مواده.
7)    يضمن الدستور الحق في اللجوء السياسي، كما يمكن أن يقبل اللجوء لأسباب أخرى على وفق قوانين تنظم ذلك.
8)    ويجري هنا تأكيد أهمية العمل على تحقيق الاندماج بالمجتمع الألماني من خلال تعلم اللغة الألمانية والاطلاع الجيد على ثقافته وتاريخه وتقاليد شعبه وعاداته.
(3)
هذه المضامين وغيرها الواردة في القانون الأساسي الألماني تعني فعلياً بأن الدولة الألمانية، التي تفصل بين الدين والدولة، ليست دولة مسيحية، بل هي دولة حيادية، لا دين لها، ولا يدخل الدين في هويتها كدولة، ولا في سياساتها ولا في مواقفها إزاء المواطنات والمواطنين على وفق انتماءاتهم الدينية والمذهبية. وبالتالي، فالمسيحية لا تنتمي للدولة الألمانية، كما لا تنتمي إليها اليهودية أو الإسلام، ولا أي دين آخر، فكلها ديانات لا تنتمي للدولة الألمانية، إذ أن الدين يعتبر مسألة فردية ومرتبطة بالفرد ذاته، وليس بالدولة التي يعيش فيها. وعليه فأن التعبير القائل بأن الإسلام جزءٌ من المانيا، هو تعبير خاطئ وبعيد عن الواقعية، كما هو غير واقعي القول بأنها دولة مسيحية. إنها دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة، ولا يغير من هذه الحقيقة أن الدستور الألماني متأثر بالحضارة والثقافة والتقاليد المسيحية الأوروبية، ولكنها حضارة وثقافة متنورة، ويستند قانونها الأساسي على القيم الحضارية وتلاقح الثقافات للمجتمعات البشرية التي تحققت عبر القرون المنصرمة. فمن غير المعقول ولا المقبول أن نقول بأن الإسلام ينتمي إلى ألمانيا، إذ إن هذا، يعني، شاء الإنسان أم ابى، إن على الدولة الألمانية أن تأخذ بالقيم والمعايير والأحكام الواردة بالقرآن من جهة، وبشرائع المسلمين بمختلف مذاهبهم، إذ لا يمكنها أن تنتقي مذهباً إسلامياً واحداً دون غيره، من جهة ثانية. فهل هذا يتوافق مع الدستور الألماني، هل يجوز أن يأخذ الألمان بتعدد الزوجات كما هو وارد في القرآن "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" (سورة النساء، الآية 3)، أو أن يأخذ بتوزيع الأرث الوارد في القرآن على أساس التمييز بين الذكر والأنثى: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ"، (سورة النساء، الآية 11)، أو أن يأخذ بزواج القاصرات اللواتي لتوهن بلغت التاسعة من طفولتها، كما جاء في شرائع المسلمين على وفق الآية القائلة : "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا "، (سورة الطلاق، الآية 4)، بل ويحلل روح الله الخميني عملية التفخيذ الجنسي مع الرضيعة، حيث ورد في كتابه الموسوم "تحرير الوسيلة" قوله: "12- لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين ، دواماً كان النكاح أو منقطعاً ، وأمّا سائر الاستمتاعات كاللّمس بشهوة والضمّ والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة ، ولو وطئها قبل التسع ولم يفضها لم يترتّب عليه شيء غير الاثم على الأقوى"، (ص 221 )، أو هل يجوز تحريم الزواج المثلي، الذي لا يحرم ببلداننا، رغم انتشار المثلية فيها، فحسب، بل ويؤدي في الكثير من الأحيان إلى القتل والتمثيل فيهم ... الخ. أعتقد إن كل ذلك غير ممكن في مجتمع قانونه الأساسي متقدم وحضاري وحديث وقوانينه تجيز ذلك.
(4)
منذ أيام والصحف والتلفزة الألمانية مشغولة بنشر الربورتاجات والمقابلات والمقالات والآراء حول ما حصل في واحدة من المدارس الابتدائية ببرلين حيث أساءت تلميذة ألمانية مسلمة إلى بنت ألمانية يهودية بعد أن سألتها عن دينها، كما أساء وتحرش وهدد تلميذ مسلم آخر تلميذ آخر لكونه لا يؤمن بالله، وأنه سيدخل النار. إن هذه المسألة جديرة بالمناقشة من جانب العرب والمسلمين والتصدي لها. إذ إن التلاميذ الصغار لا يميزون بين من يؤمن بالله أو من هو يهودي أو مسلم أو مسيحي، فلا بد أن تكون هذه المسألة مطروحة في بيوت العائلات العربية والمسلمة ومن الوالدين، وليس كلها طبعاً. إن من واجب العائلات العربية والمسلمة أن تلعب دورها بما يسهم في تثقيف وتنوير وتوعية بناتهن وأبناءهم بمبدأ الاعتراف بالديانات والمذاهب كلها، وبأتباعها وأن من حق الإنسان أن يؤمن بهذا الدين أو ذاك، وهي مسألة شخصية بحتة ولا يجوز التدخل فيها أو مساس كرامة من يؤمن بدين أو مذهب أو فكر أو فلسفة أخرى أو اتهامه بالكفر. إن المجتمع الألماني قائم على احترام الديانات والمذاهب دون تمييز، وبالتالي لا بد من الالتزام بهذا المبدأ المثبت في دستور ألمانيا وبغير ذلك سيكبر الأطفال وهم متحفزون ضد أتباع الديانات الأخرى، ومنها ضد السامية أو ضد الملحدين ..الخ، وهو امر بالغ الخطورة على مستقبل العلاقات الاجتماعية بألمانيا، ولاسيما وأن هناك ما يقرب من 4,5 مليون مسلم ومسلمة بألمانيا وبحدود 12 مليون نسمة في دول الاتحاد الأوروبي. 
(5)
لهذا اعتقد وأرى بأن التعبير الصائب والسليم هو القول بـ "أن المسلمات والمسلمين بألمانيا هم جزءٌ من مواطني ومواطنات ألمانيا"، وهذا ينطبق على مسلمات ومسلمي الاتحاد الأوروبي، ما داموا يتمتعون بكامل الحقوق والواجبات ومتساوون أمام القانون، ويحق لهم إقامة دور عبادتهم ويمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية بكل حرية، والتعامل معهم لا يختلف من حيث القانون الأساسي عن التعامل مع المسيحيين أو اليهود أو الهندوس أو البوذيين أو الصابئة المندائيين أو الإيزيديين المقيمين بألمانيا.
حين أطرح هذا الرأي، أدرك تماماً بوجود أفراد وجماعات بألمانيا لهم سياسات ومواقف وسلوكيات مناهضة للأجانب، ولاسيما ضد العرب والمسلمين وضد السامية. ولكن الغالبية العظمى من السكان الألمان ديمقراطيون ويعون تماماً قانونهم الأساسي ويؤيدونه ويرفضون الظواهر السلبية التي تظهر في المجتمع، إذ أن مثل هذه الظواهر السلبية، بل وأكثر منها، موجودة في الدول العربية وذات الأكثرية المسلمة في الموقف من المسيحيين واليهود وأتباع ديانات أخرى. ورغم ذلك هذا لا يبرر وجود مثل هذه الظواهر والكفاح ضدها بطريقة سلمية وديمقراطية أمر ضروري دائماً.
(6)
إن من واجب العرب والمسلمين عموماً، ودون استثناء، إن يدركوا بشكل سليم وواقعي، بأن التعايش العقلاني بين أتباع جميع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والفلسفية بألمانيا أو بأوروبا، يستوجب مجموعة من المتطلبات، منها بشكل خاص:
1.    التعلم الجاد والمسؤول للغة الألمانية، باعتبارها لغة المجتمع الذي أصبحنا نشكل جزءاً منه، مع بعض خصوصياتنا.
2.    الاطلاع الجاد والمعقول على ثقافة هذا البلد وشعبه الذي احتضننا، ومعرفة تاريخه وعاداته وتقاليده وأعياده واحترامها.
3.   الالتزام الثابت بمواد الدستور الألماني كلها، بغض النظر عما يمكن أن يختلف هذا الإنسان أو ذاك مع هذه المادة أو تلك فيه، إذ بدون هذا الإقرار والالتزام بالقانون الساسي لا يمكن أن تنشأ علاقات سليمة في المجتمع.
4.   إن ما يتمتع به الإنسان العربي أو المسلم بألمانيا لا يتمتع ولو بمثقال واحد منه مواطنات ومواطنو البلدان العربية والدول ذات الأكثرية المسلمة، وهذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها أي إنسان عاقل، كما إن ما عانى ويعاني منه أتباع الديانات الأخرى، كالمسيحيين، والإيزيديين والمندائيين والشبك والبهائيين، كما هو حالهم بالعراق وإيران، أو حال المسحيين في مصر وباكستان ... الخ، إضافة إلى الصراعات والنزاعات الطائفية في هذه البلدان، خير دليل على هذا الواقع المزري.
5.   لا يجوز للمسلمين والمسلمات أن يطالبوا بأن يكون الإسلام جزءاً من ألمانيا، بمعنى القبول بما هو وارد في القرآن والشرائع العديدة، إذ سينشأ مجتمعاً متصارعاً ومتنازعاً، كما يجري اليوم بالدول العربية والدول ذات الأكثرية المسلمة، والدور الذي تمارسه القوى السلفية والإسلامية المتطرفة والتكفيرية، التي ترى في بقية الديانات كفرا وأتباعها كفاراً يجب اجتثاهم!!!، بل على المسلمين والمسلمات كأفراد يشكلون أن يؤكدوا بأنهم جزءً من ألمانيا، ولكل فرد منهم الحق، كغيره من المواطنين والمواطنات، في ممارسة الدين الذي يعتنقه والطقوس التي يلتزم بها بحرية تامة، أو من لا يؤمن بأي دين أو إله.
6.    إن ما حصل في مدرسة برلينية، بل وفي مدارس أخرى ببرلين وألمانيا في الإساءة إلى طفلة يهودية الديانة، أو بمن لا يؤمن بالله، من جانب أطفال عرب ومسلمين سيؤدي إلى عواقب وخيمة ما لم نعالجها مبكراً. إن من واجب عائلات العرب والمسلمين أن يربَّوا بناتهم وأولادهم على مبادئ الاعتراف بالديانات وأتباع الديانات الأخرى والقبول بالآخر وتجنب التمييز والأفكار العنصرية التي تناهض الديانات الأخرى، بما في ذلك ضد السامية أو ضد اليهود، وأن الدين مسألة شخصية لا يجوز المساس بها بأي شكل كان، كما أن الإيمان بالله هو الأخر قضية شخصية لا يجوز مس كرامة الإنسان الأخر الذي لا يؤمن بالله. إن هذه المسالة بحاجة إلى عملية تثقيف وتنوير وتوعية مستمرة في البيوت والمدارس وفي وسائل الإعلام لكي ينشأ الأطفال عموماً، ولاسيما أطفال المسلمين والمسلمات، على أسس قويمة وقيم ومعايير إنسانية وحضارية حديثة.



243
كاظم حبيب
العسكرة الفارسية الجديدة وحرب يمنية مماثلة بالعراق!!
لا يمر يوماً واحداً دون صدور تصريحات وخطب نارية ومقالات مشحونة بالعداء للعرب من شخصيات إيرانية من الخط السياسي والديني الأول ومن كتاب سياسيين ودون أن تمتلئ الصحف الإيرانية ونشرات الأخبار العالمية بها، بأمل أن تنعش الوضع الداخلي المتأزم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحقوقياً من جهة، وبهدف إشاعة التشنج والتوتر السياسي والاجتماعي بالعراق ومنطقة الشرق الأوسط من جهة ثانية وإلها العب الإيراني بها أيضاً لينسى أوضاعه المأساوية. ولا يبقى كل ذلك دون ردود أفعال مماثلة من بعض الدول العربية التي تسهم بدورها في زيادة التوتر والتصعيد السياسي. خلال السنوات العشر المنصرمة تشكلت محاور سياسية وتفلشت، ثم تشكلت أخرى وتفلشت أيضاً، وما تزال تتشكل على نحو مخل في غير مصلحة شعوب المنطقة لا يحمد عقباه، لأن كل ذلك ناشئ عن رغبة في الاستحواذ والهيمنة واستغلال الشعوب وإخضاعها لسياسات الدول التي تعتبر نفسها كبيرة أو عظمى بالمنطقة، ومن حقها أن تقود المنطقة دون غيرها. فنحن أمام النظام الدكتاتوري والعنصري التركي، الذي يعيد إلى ذاكرتنا العهد العثماني البغيض من جهة، وأمام النظام الثيوقراطي الاستبدادي الفارسي، الذي يعيد بدوره إلى ذاكرتنا العهد الصفوي البغيض من جهة أخرى، وكذلك أمام الدولة السعودية التي تشكل محوراً خليجياً لتفرض إرادتها على الدول العربية، بدعوى الصراع المذهبي، من جهة ثالثة!!! أما مصر، فرئيسها "الأوحد" والمستبد بأمره وبشعبه، تخلى حالياً عن الهيمنة على المنطقة، فهو مشغول بسبل إخضاع الشعب المصري لإرادته وإرادة حفنة من العسكر لا غير، وليشبع الشبع المصري من الفول والبصل ومن الحرمان والبؤس والفاقة والسكن في المقابر. الحرب الطاحنة بسوريا والحرب الأكثر طحناً باليمن "السعيد!!" ما تزال مستمرة ويراد إشعال حرب منشودة من جانب إيران وتركيا بالعراق أيضاً!!
القادة الإيرانيون، السياسيون وشيوخ الدين في حوزة قم وغيرها، ولليس الشعب الإيراني، يحملون البغض والكراهية والحقد ضد الشعب العراقي، وهم يتمنون في السيطرة الكاملة والمكشوفة والمعترف بها من العراقيات والعراقيين على العراق كله. وهم يرون بالعراق ولاية من ولايات الدولة الفارسية، كما حصل في فترة الساسانيين ، أو في فترة الصفويين (إسماعيل الصفوي). وليس عبثاً إن ألقى وزير الدفاع الإيراني العميد حسين دهقان أخيراً في ذكرى معركة ديزفول خطبة نارية ذات أهداف استعمارية صارخة وعدوانية ضد الشعب العراقي والعرب ومن أجل احتلال العراق في آن، حين قال:     
"..، ان العراق بعد 2003 أصبح جزءاً من الامبراطورية الفارسية، ولن يرجع الى المحيط العربي، ولن يعود دوله عربيه مرة أخرى، وعلى العرب الذين يعيشون فيه ان يغادروه الى صحرائهم القاحلة التي جاءوا منها.. من الموصل وحتى حدود البصرة.. هذه اراضينا وعليهم إخلائها.."!!! هل هناك يا ترى وقاحة أكثر من هذه الصلافة، هل هناك إنسان عراقي شريف يستطيع أن يتحمل مثل هذه الإساءة الوقحة لكل الناس العراقيين والعراقيات، ولا يشعر بالإساءة الشديدة لكرامته وعزة نفسه!! لم يكتف وزير الدفاع الإيراني بذلك بل أضاف ما كنا نعرفه قبل هذه الخطبة العدوانية" بقوله:
" لدينا في العراق قوة الحشد الشعبي الشيعي، ستُسكِتَ اي صوتٍ يميل الى جعل العراق يدور حول ما يسمى بمحيطه العربي.. إن العراق عاد الى محيطه الطبيعي الفارسي"!! لم نشك يوماً بأن الحشد الشعبي وقادته هم عراقيون بالاسم، ولكنهم إيرانيون بالفعل، عدا أولئك الذين التحقوا في القتال بناءً على نداء السيد علي السيستاني للتطوع في ضوء مفهوم الجهاد الكفائي، إذ إن الآخرين هم من تلك المليشيات الشيعية التي تشكلت إما بإيران، كما بالنسبة لمنظمة بدر ورئيسها هادي العامري، وإما تلك البقية التي شكلها الإيرانيون بالعراق دون استثناء. وولاء هذه التشكيلات المسلحة ليس للعراق ولا تحت أمرة رئيس الوزراء، رغم القانون الصادر بهذا الصدد، بل يتلقون أوامرهم من العميد قاسم سليماني ومن وزير الدفاع الإيراني ومن الخامنئي، وليقل رئيس الوزراء العراقي ما يشاء في هذا الصدد، فهو ليس القائد الفعلي لهذا "الحشد الشعبي!". والغريب بالأمر أن ليس هناك واحداً من العراقيين والعراقيات العرب الشيعة، ولا من الحوزة الدينية بالنجف أو شيوخ دين شيعة أخرين، قد خرج إلى الملأ وصرح بالضد من هذه الخطبة الوقحة لوزير الدفاع الإيراني، والمضامين الاستعمارية التي جاء فيها، إذ إن السكوت علامة القبول والخضوع، بل حتى الركوع للقادة الفرس بإيران.   
لم يكتف حسن دهقان بذلك، بل أشار إلى تنامي القوة العسكرية الإيرانية وإلى قدرة إيران في التصدي لكل العرب وإسقاط نظمهم السياسية، وأضاف: وسيلقون نفس مصير صدام حسين الذي قتلناه، انتبه يا شعب العراق، ليس الشعب العراقي من أعدم صدام حسين ورهطه، بل هم بالإمبراطورية الفارسية الجديدة حيث قال: كما "قتلناه!!!
يقول دهقان: " إيران اليوم وصلت الى مرحلة تصمم وتنتج فيها حاجتها من الصواريخ البالستية وكروز بمدى 3000 كيلومتر، .. لقد عدنا دوله عظمى كما كنّا سابقا، وعلى الجميع ان يفهم هذا، نحن أسياد المنطقة، العراق وافغانستان واليمن وسوريا والبحرين، عما قريب كلها تعود الى أحضاننا وهو مجالها الحر الطبيعي" ثم يضيف: “اليوم كل المحاولات في المنطقة تهدف الى اضعاف إيران، لكن إيران تقف بعزم وصلابة.”
كلنا شهود على نمو الروح العسكرية الانتقامية، والاستعدادات العسكرية، ونمو ترسانة الأسلحة الهجومية الإيرانية، وعديد القوات المسلحة الإيرانية والحرس الثوري الإيراني من جهة، وصرف المليارات من الدولارات الأمريكية من خزينة الشعب الإيراني على الحرب التي يشارك فيها الحرس الثوري الإيراني في كل من اليمن وسوريا من جهة ثانية، والاستعداد لحرب جديدة ربما بالعراق أيضاً، كلها تأتي على حساب حياة ومصالح ومعيشة وجوع وحرمان الشعب الإيراني، وإن هذا الشعب الأبي الذي أطاح بشرطي المنطقة، بشاه إيران ونظامه السياسي، لن يسكت، كما سكت حتى الآن، عما عاني منه خلال العقود التي مرت عليه، منذ الإطاحة بنظام الشاه عام 1979.
 إن على العراقيين أن يرفعوا رؤوسهم عالياً، أن يصونوا كرامتهم من عبث العابثين، ممن يريدون الهيمنة على العراق وشعبه، واستغلال خيراته، وسلب حقوقه وحرياته، سواء أكان الغزاة قادمين من إيران أو تركيا. لن يصبح العراق جزءاً من الإمبراطورية الفارسية الجديدة أو تابعاً، كما لن يكون جزءاً من الإمبراطورية العثمانية الجديدة أو تابعاً لها، فهي أضغاث أحلام، وعلى الشعب العراقي أن يبرهن لهم ذلك.
إن تصريحات القادة بإيران تدفع بالأمور إلى حافة الحرب مع بقية الدول العربية وتركيا بالعراق، إنها تريد أن تحول العراق إلى ساحة حرب جديدة، كما هو حال سوريا واليمن، ساحة نفوذ لها، وهو ما يجب مقاومته ورفض الوجود الأجنبي الإيراني والتركي وأي نفوذ أجنبي آخر بالعراق. سوف لن يغفر الشعب العراقي لأتباع إيران بالعراق حين يسعون لتكريس إرادة إيران ونفوذها ووجودها ومصالحها بالعراق، ولا يستنكرون تلك التصريحات غير اللائقة وغير الحكيمة بل الاستفزازية لمشاعر وكرامة الشعب العراقي بكل قومياته واتباع دياناته ومذاهبه. كما سوف لن يسكت عمن يسكت عن التدخل العسكري الهمجي لتركيا لسوريا أو بشمال العراق وكردستان، إنه الوهم الذي سيسقطهم إن واصلوا الارتهان لإيران أو تركيا أو لأي دولة أجنبية أخرى.     



244
كاظم حبيب
هل أصبح أردوغان شرطي المنطقة ومجرم حرب في آن؟

لم يطرح هذا السؤال على بساط البحث قبل 15 سنة، بسبب ادعاءات اردوغان بالديمقراطية وتقديمه نموذج الإسلام الديمقراطي التركي. رفضت القبول بهذا الرأي وبما أطلق عليه حينذاك بالظاهرة الإسلامية التركية الجديدة، النموذج الإسلامي الاردوغاني. وقد تجلى موقفي هذا في ندوة مشتركة عقدت في مدينة كولون بألمانيا، وشاركت فيها الفقيد الأستاذ الدكتور جلال صادق العظم في الحديث عن حرب العام 2003 بالعراق والتجربة التركية. وقد تبنى الدكتور العظم تجربة أردوغان الإسلامية وسعى إلى إبراز جوانب إيجابية وعناصر ديمقراطية في نهجه الإسلامي. وقد كتب ونشر بعض المقالات بذات الاتجاه. أبديت رأيي المخالف وأشرت إلى إنها فورة سياسية مؤقتة سرعان ما تتغير، وأن السياسة الأردوغانية الحقيقية قادمة لا ريب في ذلك، كما عارضت رأيه بشأن حرب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وخارج إطار قرارات مجلس الأمن الدولي ضد النظام الدكتاتوري البعثي بالعراق، لما توقعت أن يحصل بالعراق في أعقاب الحرب مع قناعتي التامة بأن النظام لن يصمد أمام تلك الحرب غير المتكافئة وما يمكن أن ينجم عنها، والتي ذكرها بندوات أو كتبتها ونشرتها في مقالات كثيرة في حينها. ومن المؤلم القول بأن المسألتين قد برهنتا على صواب موقفي. لقد بنيت موقفي بصدد تركيا استناداً إلى ثلاث مسائل جوهرية: 1) طبيعة النظام السياسي التركي وتغييبه للحريات العامة والحياة الديمقراطية عن الشعب بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، 2) والأيديولوجية الإسلامية المتشددة التي تبناها أردوغان حين كان عضواً في حزب الرفاه الإسلامي ومحافظاً لمدينة إسطنبول حين اعتقل وأبعد عن منصبه وحكم عليه ثمانية شهور بالسجن بسبب تطرفه السياسي وتحريضه على الكراهية الدينية في تركيا في العام 1998، 3) ومواقفه المناهضة لحق تقرير المصير للشعب الكردي وتأييده الحرب التي كانت تخوضها النظم التركية العسكرية منذ الثمانينيات ضد الشعب الكردي المطالب بحقوقه الإدارية والثقافية، والتي واصلها هو أيضاً حين أصبح مسؤولاً عن قيادة الدولة التركية، ثم أجبر على إيقاف الحرب بسبب أوضاعه المالية المعقدة وكثرة القتلى واحتجاج العالم ومطالبة الاتحاد الأوروبي بممارسة تركيا للمعايير أوروبية بشأن حقوق الإنسان إن كان يريد حقاً الدخول إلى عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الشعب الكردي في كردستان تركيا يشكل أكثر من 20% من إجمالي سكان تركيا، وهناك ما يقرب من 10% من أقليات قومية أخرى، وبحدود 70% ترك وبهويات مذهبية وفرق إسلامية عديدة، ولاسيما المذهب الحنفي، إضافة إلى العلويين والبكتاشيين... ومن المعروف عن تركيا إن التثقيف الفكري والسياسي فيها ينحاز بقوة إلى جهة العنصرية والتمييز القومي والديني والمذهبي، إذ ما تزال في الذاكرة النشطة لشعوب العالم جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية التي ارتكبها النظام العثماني مع بداية الحرب العالمية الأولى، ولاسيما في العام 1915 وما بعده، ضد الآشوريين والسريان في "مجازر سيفو" أو "بشاتو دسيفو" أي "عام السيف"، و"مجازر الأرمن"، الذين كانوا يشكلون أكثرية المسيحيين في الدولة العثمانية.  وأشير إلى إن عدد قتلى الآشوريين والسريان حينذاك بين 250-500 ألف شخص، وعدد قتلى مجازر الأرمن بأكثر من مليون قتيل، وهي مذابح يندى لها جبين البشرية كلها، والتي لم تعترف الدولة التركية حتى اليوم بهذه المذابح التي قامت بها الدولة العثمانية، وتحاول مقاطعة الدول التي تعترف بوقوع الإبادة الجماعية دبلوماسياً.     
واليوم يمارس أردوغان سياسة عدوانية وتدخل عسكري فظ في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، ولاسيما بالعراق وسوريا، حيث أقام قاعدة له في بعشيقة بالعراق، ويسعى اليوم إلى إقامة قاعدة أخرى في سلسلة جبال قنديل العراقية بدعوى موافقة الحكومة العراقية على مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، في حين أعلنت الحكومة العراقية ووزارة الخارجية العراقية رفضها وشجبها لأي تدخل عسكري في شؤون العراق الداخلية وطالبت بانسحاب القوات التركية من بعشيقة. وبالأمس ضربت طائرات حربية تركية منطقة كردستان العراق بصواريخ أودت بحياة أربعة شبان كرد. وإذ احتجت حكومة إقليم كردستان، فأن الحكومة العراقية ووزارة خارجيتها لم تحتج حتى الآن على هذه الجريمة النكراء. وكذلك تمارس الآن تركيا التدخل العدواني العسكري وتجتاح سوريا وتحتل عفرين وتشرد أكثر من 120 ألف مواطن كردي سوري من هذه المنطقة، إضافة إلى قتل المئات من السكان المدنيين، واستشهاد مقاتلين كرد ضد المحتل الجديد. وهم الآن يهددون بالولوج أكثر فأكثر بالعمق السوري وصولاً إلى منبج حيث توجد قوات حماية الشعب الكردي. فهل يا ترى تحول أردوغان إلى شرطي شرير في المنطقة وإلى مجرم حرب؟ إن الدلائل كلها تشير إلى هذا التحول الفعلي، إذ لم يكن مندوب الدنمرك في مجلس الأمن الدولي مخطئاً حين أعلن بـ: أن تركيا دولة مجرمة والرئيس أردوغان مجرم حرب في ظل المجازر التي يقوم بها الجيش التركي في عفرين". واحتج المندوب التركي وهدد بقطع العلاقات مع الدنمرك!!! ويوم أمس 22/03م2018  شجبت المستشارة الألمانية بشدة ونددت بأشد العبارات، في الحديث عن سياسة حكومتها في مجلس النواب الألماني، الاعتداء العسكري التركي على عفرين وقتل الأبرياء وتشريد الآلاف من الكرد.
إن الولايات المتحدة، حليف تركيا في حلف شمال الأطلسي، التي التزمت في الدفاع عن قوات حماية الشعب الكردي وسلحتها، أثناء المعارك ضد عصابات داعش في الرقة، عاصمة القتلة الداعشيين، وتطهير الأرض من رجسهم، وأبدت شجاعة فائقة في القتال في مناطق أخرى من سوريا أيضاً، تخلت بكل نذالة عن هؤلاء المقاتلين الشجعان وتركتهم وحدهم دون ان تمولهم حتى بالسلاح، وسمحت لتركيا وطيرانها الحربي ودباباتها وقواتها البريد باجتياح المنطقة وتحويل عفرين وضواحيها إلى أنقاض. إنها المساومة الدولية القذرة بين الحكومات الخمس المشاركة في العدوان على الشعب السوري بكل قومياته، إنها (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وسوريا)، والأخيرة شجبت التدخل التركي، ولكنها لم ترسل قوات مسلحة حكومية دفاعاً عن مدينة عفرين السورية وتركتها تسقط بأيدي المحتل التركي ومجرم الحرب اردوغان. إن السكوت عن هذه الجرائم التي ترتكب اليوم، ستدفع بهذا الدكتاتور المغامر إلى المزيد من التهور والعنجهية والعفترة العثمانية في سعيه العدواني والتوسعي. وهو يمارس منذ عدة سنوات سياسة داخلية استبدادية متشددة ضد كل القوميات بتركيا وضد الشعب التركي ذاته، حيث تحتض سجون تركيا ومعتقلاتها عشرات الألوف من المناضلين ضد نظامه والذين يتعرضون لأبشع صور التعذيب النفسي والجسدي، والمئات من الصحفيين الترك ايضاً، وهو يعمل بدأب للهيمنة على السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والسلطة القضائية والإعلام ويمركزها كلها في قبضته الحديدية. إذ سمح الدكتاتور أخيراً لحليفته دولة قطر، التي تشاركه في العدوان على دول المنطقة، ولتلك الجماعة القريبة من أردوغان وسياساته، على شراء مجموعة دوغان الإعلامية وشراء الكثير من الأسهم في شركات إعلامية أخرى بما يسمح لأردوغان عبر الشركة القطرية في الهيمنة التامة على كامل أجهزة الإعلام التركية تقريباً، لتوظيفها لصالح سياساته الاستبدادية والعدوانية والإخوانية (جماعة الأخوان المسلمين) بتركيا والمنطقة. علماً بأن الحليفين التركي والقطري يقفان في صف واحد مع التنظيم الدولي الإرهابي للإخوان المسلمين. 
إن من واجب الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي لا أن يرفض سياسات تركيا العسكرية والتوسعية في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل وأن يقاومها ويفشَّل جهود أردوغان في التحول الفعلي إلى شرطي إرهابي في المنطقة، وأن يمارس بهوس المجنون الحروب ضد الدول المجاورة وضد من يختلف معه بذريعة تهديد تركيا وحدودها ونظامها السياسي.

245
الأخوات والأخوة الكرد
الأخوات والأخوة جميعاً
تحية طيبة
أُحيي بحرارة وأقدم أطيب وأحر التهاني والتمنيات للشعب الكردي بالعراق ولبقية أبناء وبنات الأمة الكردية في جميع أقاليمهم الكردستانية بمناسبة الذكرى السنوية لعيد نوروز، عيد الربيع والزهور والحب والحياة، وأتمنى أن ينتهي ليل الظلام والآلام والماسي التي تعرضوا لها خلال القرون والعقود المنصرمة، والتي لا زالوا يتعرضون لها، كما في عفرين، وان يحققوا آمالهم وتطلعاتهم العادلة والمشروعة. لنقف حداداً وإجلالاً على أرواح شهداء الشعب الكردي وأخرهم شهداء عفرين المقدامة التي احتلتها يوم أمس قوات الدولة الدكتاتورية والدكتاتور أردوغان، والتي راح بعض العرب من عملاء الترك ومن يسمون بـ "الجيش الحر!" ينهبون بخسة ودناءة بيوت واسواق ومحلات النازحين الكرد. نشد على أيدي المناضلين الكرد اينما كانوا، كاظم حبيب
تهنئة وتحية للشعب الكردي
بمناسبة عيد نوروز المجيد
في الحادي والعشرين من اذار من كل عام يحتفل الشعب الكردي في كردستان وعدد من دول المنطقة والعالم بحلول عيد نوروز القومي التحرري من نير الظلم والاضطهاد وبحلول موسم الربيع وتفتح الزهور والأشجار في السهول الوديان والجبال مع بداية السنة القمرية الجديدة .
ويسر المنتدى العراقي لمنظمات حقوق الانسان ان يرفع اسمى التحيات وازكى التبريكات للشعب الكردستاني في العراق وبقية اجزاء كردستان الاخرى ، املين ان تعود هذه الذكرى وقد عم السلام والآمان والمحبة والتسامح من اجل تحقيق حقوقه المشروعة والعادلة في تقرير مصيره وما يصبون اليه من حرية وعزة وعيش كريم ، وأسوة ببقية شعوب المنطقة والعالم ، بعيداً عما يتعرض اليه من قمع وقتل واضطهاد وإذلال وإقصاء وتهميش في سائر اماكن تواجد الكرد وخصوصاً ما يجري من احتلال وقتل وتشريد ونهب في مدينة عفرين من قبل القوات التركية الغازية والتي راح ضحيتها اكثر من ( الف شهيد وآلاف الجرحى من المدنين واضطرار 150 الف مواطن للنزوح من المدينة ) ، اضافة لاجتياحها للحدود العراقية بمسافة اكثر من خمسة عشر كيلو متر عمقاً ، بتواطؤ اقليمي ودولي .
اننا في المنتدى العراقي لحقوق الانسان في الوقت الذي ندين ونشجب الاعمال والمجازر والانتهاكات الفضة الوحشية التي ترتكب بحق المواطنين الابرياء نطالب بوقف الهجوم العدواني على سيادة الاراضي العراقية والسورية والتي تعد خرقاً لميثاق الامم المتحدة في هذه السنة 2018 والمعتمدة من قبل الجمعية العامة للامم المتحدة باعتبارها عاماً لحقوق الانسان .
نكرر تهانينا الصادقة بمناسبة عيد نوروز المجيد للشعب الكردي .
المنتدى العراقي لمنظمات حقوق الانسان
20/3/2018
 


246

كاظم حبيب
لا لجرائم الإبادة العنصرية والفاشية، لا للدكتاتور أردوغان في عفرين...!!!
تعرض الشعب الكردي على امتداد العقود المنصرمة إلى الكثير من الجرائم البشعة التي مارستها نظم سياسية عنصرية وفاشية، نظم دكتاتورية لا قيمة للإنسان عندها. ففي سنوات الفترة 1961-1991 تعرض الشعب الكردي بإقليم كردستان العراق إلى العديد من الحروب الهمجية من الحكام العراقيين، وكانت أبشع تلك المجازر حرب الإبادة القذرة التي مارسها نظام البعث الفاشي والعنصري بزعامة الدكتاتور المجرم صدام حسين بين شباط/فبراير 1988 وتشرين الأول/أكتوبر من نفس العام، والتي راح ضحيتها أكثر من 180 ألف قتيل ومغيب، ودمار واسع وتلويث كبير للبيئة، كما كانت قمتها قصف المدينة التاريخية البطلة حلبچة بالسلاح الكيماوي الذي أودى بحياة وجرح وتعويق ما يزيد عن 10 ألاف مواطن  ومواطنة من إقليم كردستان العراق، بمن فيهم الأطفال الرضع والنساء الحوامل وكبار السن والمرضى. وحيث تمر علينا الذكرى الثلاثون لمجزرة حلبچة الأليمة، يمارس المستبد العثماني والدكتاتور الأهوج رجب طيب اروغان، وأمام أنظار العالم كله، وبمساومات دولية وإقليمية قذرة، أبشع مجزرة جديدة بحق شعب عفرين بسوريا، فمنذ ما يزيد عن شهرين والطائرات التركية والمدافع ترمي بحممها على هذه المدينة وضواحيها وتقتل يومياً وفي كل ساعة المزيد من الكرد ومن أولئك الكرد والعرب الذين لبّوا الدعوة وجاءوا من مناطق أخرى دفاعاً عن مدينة عفرين البطلة وشعبها الأبي أمام جحافل الغزاة العثمانيين الجدد. وتشير المعلومات الواردة إلى نزوح هائل يقدر بعشرات الالاف من مدينة عفرين، كما يؤكد القتلة الترك بأنهم قتلوا أكثر من 3000 مقاتل كردي عدا قتلى المدنيين الذين لا يذكروهم.
لقد جربت النظم التركية العسكرية والمستبدة خلال ثلاثة عقود خنق صوت الشعب الكردي في كردستان تركيا وتجرعت الفشل الذريع وتحمل الشعبان التركي والكردي خسائر بشرية فادحة، إضافة إلى خسارة مادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات الأمريكية، كما تعطلت عملية التنمية، فأُجبر النظام التركي على المساومة الموقتة في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكنه عاد مرة أخرى بزعامة الدكتاتور العثماني الجديد رجب طيب أردوغان ليشن حرباً عدوانية ضد الكرد في كردستان تركيا. وأن يدعي كذباً بأن كرد عفرين ومنبج بسوريا يهددون سيادة الدولة التركية، وعليه لا بد من إخضاعهما لسيطرة تركيا. ولكن هذا الدكتاتور الأرعن ينسى أو يتناسى وقائع تاريخ نضال الشعوب ومقاومتها للغزاة والمحتلين والمستبدين، فحتى لو حقق نجاحاً موقتاً في هذه الحملة العسكرية الهمجية الواسعة والظالمة، مع ما حملته وتحمله معها من خسائر بشرية وعمرانية فادحة، فأن الفشل سيكون، في المحصلة النهائية، من نصيب هذا الدكتاتور الجديد، وسوف لن تختلف نهايته عن نهاية الدكتاتور صدام حسين ورهطه.   
إن الحرب التي يخوضها اردوغان وقواته المسلحة ضد شعب عفرين الكردي السوري تعتبر تجاوزاً فظاً على القانون الدولي والشرع الدولية وعلى اللوائح المثبتة في العلاقات الدولية للأمم المتحدة. ورغم ذلك فأن الطاغية هذا الطاغية دأب بخطبه يستهزئ بالعالم كله، بالأمم المتحدة، بمجلس الأمن الدولي، وبكل دول العالم والرأي العام العالمي وكل الذين طالبوه بإيقاف القصف الجوي والمدفعي على شعب عفرين والتخلي عن تطويق ومحاصرة سكانها وقطع الماء والكهرباء عنهم. وفي إحدى خطبه الرعناء إن الولايات المتحدة لم تتعرف بعد على الصفعة العثمانية!! هكذا وبكل وقاحة يتحدث باسم الدولة العثمانية!! ومن المآسي الفعلية أن تتعاون فصائل مسلحة تدعي معارضتها للنظام السوري وتدعي إنها حرة "الجيش السوري الحر!!!"، ولكنها في واقع الحال تحولت إلى قوة عميلة تخدم الطاغية العثماني ومصالحه وأغراضه الخبيثة بسوريا، كما إن طاغية سوريا، بشار الأسد، هو الآخر رفض نجدة سكان عفرين بقوات عسكرية سورية مسلحة تتصدى للقوات التركية والمرتزقة السوريين الذين يحاربون مع القوات التركية لتطويق سكان عفرين ومحاصرتها واحتلالها، لقد حصلت مساومة قذرة بين سوريا وإيران وروسيا والولايات المتحدة وتركيا في السكوت الفعلي عما يجري بعفرين لتقطيع أوصال قوات حماية الشعب الكردي وتسليمها رؤوسهم هدية لأردوغان من أجل ضرب مطالبة الكرد بحقوقهم المشروعة بسوريا.
وما يجري في الغوطة السورية ليس سوى الدليل الثابت على حجم المناورات الوقحة التي تمارسها الدول الكبرى والإقليمية في المنطقة المشاركة في هذه الحرب والجارية على حساب حياة ومصالح سكان الغوطة والشعب السوري عموماً، فقد تحولت سوريا إلى ساحة صراع دولي وإقليمي منذ سبع سنوات بعيداً عن مصالح الشعب وعن سوريا التي يريدها الشعب السوري دولة ديمقراطية وعلمانية ومجتمعاً مدنياً ديمقراطياً لا يسود فيه البعث الفاشي الحاكم ولا سلطة دكتاتورية مقيتة.
إن من واجب ذوي الضمائر الحية والنظيفة في كل أنحاء العالم أن يقفوا معنا إجلالاً لشهداء حلبچة البطلة في الذكرى الثلاثين للمجزرة الكيماوية التي ارتكبها نظام البعث المجرم وصدام حسين بحق الشعب الكردي وسكان حلبچة، وإجلالاً للشهداء الذين يتساقطون يومياً وفي كل ساعة في معارك عفرين وضواحيها، وكذلك في الغوطة وبقية أنحاء سوريا، وأن يقدموا معنا الدعم الشديد والتضامن الإنساني مع نضال المقاتلين في سبيل حرية الكرد وحقوقهم المشروعة وحرية سوريا، وأن يحتجوا بشدة ويعلنوا عن إدانتهم الشديدة للحرب العدوانية والكارثية التي تنفذها القوات العسكرية التركية بقرار مباشر من الدكتاتور أردوغان.
ليندحر غزو وعدوان الدولة التركية ضد عفرين وسوريا، لتندحر الحرب الظالمة بسوريا، ولينتصر الشعب الكردي وعموم الشعب السوري على الغزاة والمحتلين والمستبدين.
   



247
د. كاظم حبيب
حوار بين كاتبين حول فكر وأبحاث علي الوردي وفالح عبد الجبار
قرأت بعناية واهتمام المقال القيم الذي كتبه الدكتور حميد الكفائي، حيث بذل جهداً متميزا في إبراز الأعمال الفكرية المميزة للفقيد الدكتور فالح عبد الجبار ودوره الثقافي المعمق والعضوي ونشاطه الذي لم يكل حتى اللحظة الأخيرة من عمره، في هذه المرحلة المعقدة والصعبة من حياة ونضال الشعب العراقي، وكان بعنوان: "فالح عبد الجبار: عاش فاعلاً ومات واقفاً1. وقد أعجبت بالمقال حقاً، وعبرت له عن ذلك برسالة شخصية قصيرة. ثم قرأت المقال القيم الذي كتبه الدكتور عبد الخالق حسين بعنوان: "علي الوردي وفالح عبد الجبار: هل فاق التلميذ أستاذه؟"2، سجل فيه إعجابه بكتابات ونشاط فالح عبد الجبار الفكرية وانخراطه في الحياة السياسية العراقية وتحولاته الفكرية المهمة والمعبرة عن تطور وعيه وتقدمه. وينقل لنا الدكتور عبد الخالق حسين في مقاله المذكور في أعلاه حواراً شيقاً ومهماً جرى بينه وبين الدكتور حميد الكفائي تضمنت مقارنة مهمة بين الأستاذ الدكتور علي الوردي (1913 – 1995م)، والدكتور فالح عبد الجبار (1946-2018م). أحاول هنا أن أبدي رأيي المتواضع بالمفكرين الكبيرين اللذين برزا في مرحلتين وفترتين زمنيتين مختلفتين نسبياً من تاريخ العراق الحديث، لعب كل منهما دوره المميز في الحياة الاجتماعية وفي البحث العلمي الاجتماعي، والأخير في الحياة السياسية العراقية أيضاً. كما إن علينا أن نشير إلى باحثين اجتماعيين أخرين بروزا في ذات الفترتين، منهم على سبيل المثال لا الحصر الباحث الاجتماعي والأكاديمي الدكتور شاكر مصطفى سليم، والباحث الاجتماعي والأكاديمي المميز في الفترة الحالية واللصيق بهذه المرحلة، الدكتور إبراهيم الحيدري، المعروف بأبحاثه العلمية وكتبه الكثيرة والرصينة التي يفترض أن تجلب انتباه الباحثين في حقول علم الاجتماع، والذي يقترب كثيراً من المدرسة الفكرية لفالح عبد الجبار، كما في أبحاثه ملامح مهمة من مدرسة علي الوردي.     
إن دراستي لكتب الأستاذ علي الوردي، وكذلك كتب ودراسات ومقالات فالح عبد الجبار، اقنعتني شخصياً بإن الفارق بينهما نوعي ومتنوع ومتعدد الجوانب لصالح فالح عبد الجبار، رغم الأهمية الكبيرة والريادية والطليعية للدكتور علي الوردي، في البحث العلمي والنشر والتنوير في العراق في حقل علم الاجتماع على وفق المنهج الوضعي. وأحاول هنا أن أُشيرَ إلى عددٍ من المسائل المفيدة في تشخيص التمايز بين الباحثين:
** ولد علي الوردي قبل الحرب العالمية الأولى بعام واحد، في حين ولد فالح عبد الجبار بعد الحرب العالمية الثانية بعام واحد، وهي فترة زمنية طويلة نسبياً، وشهدت أحداثاً كثيرة ومتباينة من حيث تأثيرها على الفرد والمجتمع العراقي، كما برزت وتبلورت فيها، بعد نضوج كل منهما في دراساته، الكثير من الأبحاث والتقدم في مناهج ونظريات علم الاجتماع.
** هناك تباين كبير بين طبيعة المرحلة والفترة الزمنية التي عالجها وبحث فيها وكتب عنها علي الوردي والتي حملت الكثير من سمات مجتمع الدولة العثمانية وصراع البداوة والحضارة، وتلك التي عالجها وبحث فيها ونشر عنها فالح عبد الجبار، والتي تميزت بمحاولات جادة ولكنها بطيئة ومتعثرة في بناء المجتمع المدني والدولة التي كانت ما تزال خاضعة للهيمنة البريطانية، ثم في أجواء ثورة تموز 1958 وما أعقبها من أحداث وتطورات لاهبة، أي إن التباين النسبي في الزمان وفي الظروف السياسة والاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت بكل منهما بالعراق كان مهماً وملموساً، بما في ذلك التغير النسبي الملموس في بنية المجتمع العراقي الطبقية ووعيه الاجتماعي.
** وإذا كان علي الوردي بعيداً عن النشاط السياسي الحزبي أو المباشر، فقد كانت له خلفية سياسة واضحة ومواقف سياسية مهمة، في حين كان فالح عبد الجبار جل حياته يعيش في خضم الحياة السياسية والحزبية اليومية وفاعلاً فعلياً فيها، من خلال ممارسته الصحافة التي برع في تحليلها أيضاً، إضافة إلى قدراته البحثية العلمية. وبصدد الخلفية السياسية للأستاذ علي الوردي أشير هنا إلى ما ورد له في كتابه وعاظ السلاطين بصدد الانتخابات البرلمانية بالعراق عام 1954 ودخول القوى الديمقراطية والقومية في جبهة سياسية مشتركة في تلك الانتخابات، إذ كتب: "لو كنت من أرباب العمائم لأفتيت باعتبار التصويت واجباً دينياً، ولجعلت التقاعس عنه ذنباً لا يغتفر ... إنني أعرض هذا الرأي على رجال الدين، وأتحدّاهم أن يقبلوه أو يحققوه."3، أو في موقفه من الإقطاع، وهو موقف سياسي من نظام الحكم الذي كان مؤيداً للإقطاع والعلاقات الإنتاجية الإقطاعية التي كانت تهيم على الاقتصاد والمجتمع بالعراق في الخمسينيات من القرن الماضي، إذ كتب يقول: "ومن عجيب أن نرى نظام الإقطاع يختفي في العالم الثالث قبل مئات السنين، بينما هو في ظهور وتزايد في العراق الحديث، إذ يكدح آلاف الفلاحين في الأرض كالعبيد، ليأتي بعد ذلك رجل واحد فيأخذ ما أنتجوه بعرق الجبين، ويذهب حيث ينعم بالملذات بدون حساب." 4 وعلينا هنا أن نستعيد بذاكرتنا إلى ما حصل في مظاهرات الفلاحين التي واجهت الشرطة التي جاءت لإخماد المظاهرة بهوستهم الشهيرة التي قارنت بين حياة ومعيشة الإقطاعي كريم، وحياة ومعيشة الفلاح الكادح: "كرَّيم يأكل عنبر وأنا بليه دنان اسمع يا مفوض، كرَّيم يركب كاديلاك وأنا بليه نعال اسمع يا مفوض"! ثم تحدث عن اقتصاد النفط وكيف كانت تنفق إيراداته، وهو الذي كان يستمع إلى هوسات الناس حيث تقول: "خمسة بالمية من النفط ما طاح بدينة..!" كتب الوردي: "يخيل لي –ولعلني مخطئ- أن هذه الأموال التي أنعم الله بها على العراق في الآونة الأخيرة، تجري في أخاديد معينة، وهي في نهاية المطاف تصب في جيوب أفراد معدودين ... الخ."5
وحين نتتبع دراسات فالح عبد الجبار وكتبه سنجد ما يؤكد شجبه الصريح والواضح للنظام السياسي القائم حينذاك، ودعوته الشديدة للديمقراطية باعتبارها الأفضل والأنسب للعراق. وكان صريحاً وواضحاً في نقده للنظم السياسية التي حكمت العراق طيلة وجوده على قيد الحياة، وسواء أكان في صفوف الحزب الشيوعي العراقي أم قريباً منه ومحسوباً عليه. لقد كان فالح عميق الفهم للعلاقة الجدلية بين السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية للفرد العراقي وللمجتمع، وهو ما تجلى في جميع كتاباته.
** وأود هنا الإشارة إلى ثلاث مسائل جوهرية في حقل البحث في علم الاجتماع لدى الباحثين الكبيرين: علي الوردي وفالح عبد الجبار:   
المسألة الأولى: التباين في المنهج الذي استخدمه كل منهما في دراساته الاجتماعية
التزم الدكتور علي الوردي في دراساته للمجتمع العراقي بالمنهج الوضعي في علم الاجتماع. واعتمد في ذلك على مزيج من أفكار ومناهج أبرز أربعة علماء في حقول علم الاجتماع، ابتداءً من القرن الرابع عشر للميلاد حتى الربع الأول من القرن العشرين، وهم 1) عبد الرحمن بن محمد أبن خلدون (1332 – 1406م) المغربي في كتابه الأهم "المقدمة ومدرسته في التاريخ والاجتماع الذي صدر في العام 1377م، و2) وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت (1798-1857م)، و3) وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858-1917م)، و4) وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864- 1920م)، مع واقع وجود تمايز بين هؤلاء الأربعة، ولاسيما لدى ماكس فيبر، الذي استفاد مما حصل من تقدم في هذا المجال، ولاسيما في أبحاث أستاذه الألماني أدموند هرسل (1859 – 1938م)، وفيه تأكيد لدور علم النفس في البحوث الاجتماعية. وتجلى ذلك في أبحاث ماكس فيبر وتطوير نظريته الوضعية الفينومينولوجيا. وقد أبدى اهتماماً كبيراً في دراسته للمجتمع، كما برز عند الأخرين من ذات المدرسة، في تحييد الدين والفكر اللاهوتي عن التأثير في دراساته العلمية ومحاولة الاستفادة من الأسس العلمية التي حاول العلماء قبله وضعها، والتي استهدفت التخلص من فكرة القوى الخارقة وإحلال فكرة القوانين الموضوعية الفاعلة في الطبيعة، وتلك التي تفعل في المجتمع.6 أي أن هؤلاء الأربعة اعتمدوا في دراساتهم على متابعة الظواهر الاجتماعية ودراستها بدلاً من الوقوع في حبائل الغيبيات، وبتعبير أدق، فصل الدين عن البحث العلمي، (الدين شيء والعلم شيء آخر)، أي البحث في الظواهر التي تبرز في حياة الإنسان والمجتمع، وتشذيب علم الاجتماع من الخرافات والأساطير. وهو ما سعى إليه علي الوردي أيضاً في فترة معقدة حيث كانت تنتشر مثل هذه الخرافات والأساطير، وما تزال. وإذا كان ماكس فيبر قد أبدى اهتماماً خاصاً بالجانبين الاقتصادي والديني، فأن الآخرين كانوا أقل اهتماماً بهذا الموضوع، والذي انعكس إلى حد ما على دراسات الدكتور علي الوردي. كما إن المنهج الوضعي أبعد كلية الصراع الطبقي عن المجتمع وقلل من أهمية الاقتصاد. وهو ما يمكن تلمسه بشكل واضح في كتابات ماكس فيبر. وقد التزم الدكتور علي الوردي بهذا المنهج، ولم يقدم شيئاً إضافياً لتطوير المنهج الوضعي لعلم الاجتماع، ولكنه أغنى علم الاجتماع بأبحاثه الميدانية والنقدية ودراساته العلمية عن المجتمع العراقي. ويتجلى ذلك إلى حد ما أو جزئياً بدور المادية التاريخية في كتابات علي الوردي كتابه الأساسي "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، بمجلداته الستة، حيث وظف تاريخ المجتمع العراقي قبل ذاك وبشكل عقلاني لدراسة الواقع الاجتماعي العراقي خلال الفترة الواقعة بين تكوين الدولة العراقية والخمسينيات من القرن العشرين.7 وعلى وفق قناعتي ودراستي لكتاب المقدمة لابن خلدون، ولاسيما الجانب الاقتصادي المهم فيه، لاحظت إن الدكتور علي الوردي لم يستفد من مكونات منهج ابن خلدون ولم يربط بين جوانب بنية الإنتاج الاجتماعي والبناء الفوقي، وهو نقص بارز في الغوص في عمق المشكلات الاجتماعية والعوامل المسببة لها والنتائج أو العواقب المحتملة. لابن خلدون قول مهم جداً لكل الباحثين، أياً كان مجال بحثهم، ورد في المقدمة:
"إنه لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر.. لا بد لك أن تفهم ما في القاع.. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً.. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور". 8       
أما الباحث الدكتور فالح عبد الجبار فقد اعتمد منهجاً آخر تماماً، اعتمد المنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي، وأخذ بقواعد البحث العلمي القائمة على "التجريد والتجسيد المتعاقب والتدقيق"، للوصول إلى النتائج والاستنتاجات التي يحققها البحث العلمي وليس اية أحكام مسبقة. لقد تسنى لفالح التعمق في المنهج المادي الديالكتيكي من خلال دراساته المكثفة والمعمقة والمتواصلة لكتاب "رأس المال" وترجمته له، وهي أفضل ترجمة تحققت لهذا السفر الجليل لكارل ماركس حتى الآن، والذي يعتبر أهم دراسة قام بها ماركس مستخدما فيها منهجه العلمي في دراسة المجتمع الرأسمالي، إضافة إلى كتاب "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، الذي طرح فيه بوضوح منهجه في البحث. وقد احتل الاقتصاد والصراع الطبقي والتغريب موقعاً أساسياً في هذا التحليل، ولكن ليس الاقتصاد وحده، كما يدعي المروجون المناهضون للتحليل المادي الديالكتيكي، من جهة، ولا الصراع الطبقي وحده، الذي يتجلى ايضاً في التغريب الفعلي بين العامل والجزء المهم مما ينتجه، أي فائض القيمة، كما يروج هؤلاء أيضاً من جهة ثانية، بل هما الحقلان اللذان يؤثران بشكل أساسي ورئيسي على بنية المجتمع وتطوره، إضافة إلى عوامل عديدة أخرى لا يمكن ولا يجوز إغفالها. يؤكد المنهج المادي الديالكتيكي على إن الوعي الاجتماعي انعكاس للواقع المادي، وليس العكس. وهذه المقولة هي التي لعبت وما تزال تلعب دورها الجوهري في التمايز ما بين المثالية والمادية. المنهج المادي الديالكتيكية ينطلق في دراسته للمجتمع من العلاقات الإنتاجية السائدة ومستوى تطور القوى المنتجة والعلاقة بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وما ينشأ عنها من بناء فوقي يشكل الظواهر الاجتماعية المنبثقة عن أسلوب الإنتاج السائد في المجتمع، وما يمكن أن ينشأ عن ذلك من استغلال، سواء أكان في ظل العلاقات الإنتاجية الإقطاعية أم في ظل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية. وعلم الاجتماع المادي الديالكتيكي لا يتوقف عند دراسة هذه العلاقات والظواهر الناشئة عنها فحسب، بل يتحرى عن التناقضات والصراعات الناشئة عنها وما الدور الذي تلعبه في التحولات النوعية اللاحقة. يلخص ماركس منهجه على النحو التالي:
"إن العمل الذي قمت به لتبديد الشكوك التي كانت تراودني هو العرض الانتقادي لفلسفة الحق لهيجل.. وأدى بحثي هذا إلى إن العلاقات القانونية والأشكال السياسية لا يمكن فهمها من ذاتها ولاسيما بالتطور العام للعقل البشري، وإنما على الأصح لها جذورها في الظروف المادية للحياة.. والنتيجة العامة التي توصلت إليها.. يمكن صياغتها باختصار كما يلي: يدخل الناس خلال قيامهم بعملية الإنتاج الاجتماعي في علاقات محددة لا يمكن الاستغناء عنها ومستقلة عن إرادتهم. وعلاقات الإنتاج هذه تتوافق مع المرحلة المحددة لتطور القوى المادية المنتجة يشكل المجموع الكلي لعلاقات الإنتاج هذه البنية الاقتصادية للمجتمع، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه البنية الفوقية السياسية والقانونية والتي تتوافق معها أشكال محددة للوعي الاجتماعي. إن أسلوب إنتاج الحياة المادية هو الذي يحدد عمليات الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بشكل عام. فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وإنما العكس من ذلك فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم."9 
إن الدراسات الأساسية والمهمة التي كتبها ونشرها فالح عبد الجبار، بغض النظر عن مدى توفيقه في التحليل لهذه المسألة السياسية أو تلك، استند إلى المنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي، وكان في الغالب الأعم موفقاً ومتقدما على اقرانه في العلوم الاجتماعية وفي الكثير من تحليلاته السياسية.             
المسألة الثانية: العلاقة بين النظرية والممارسة لدى كلٍ من الباحثين
يبدو لي بأن الباحثين الوردي وعبد الجبار كانا متحررين من الدوغماتية والجمود العقائدي في ممارستهما لمنهجيهما، وكانا منفتحين على المناهج الأخرى، والنظريات في هذا الصدد، دون أن يعيق ذلك أو يؤثر سلباً على ابحاثهما العلمية في قضايا المجتمع. فكلاهما نهلا بمسؤولية وعمق من المناهج والنظريات التي التزما بها وابدعا فيها، ولكنهما لم يساهما في إغناء وتطوير تلك النظريات أو مناهج البحث العلمي الاجتماعي، ولكنهما أغنيا البحث العلمي الاجتماعي التطبيقي بما أنجزاه من أبحاث ودراسات اجتماعية. وبالنسبة لفالح عبد الجبار فقد ساهم بفعالية وحيوية كبيرتين في المجالات السياسية والاقتصادية أيضاً. كتبت الدكتورة ناهدة عبد الكريم حافظ في بحث لها عن "فكر الوردي في طبيعة المجتمع العراقي" بهذا الصدد ما يلي: "لقد كان فكر د. الوردي فكراً انتقادياً لكنه لم يحفل بتقديم بدائل أو مقترحان يمكن الاستفادة منها في حياتنا اليومية." 10، وهي على حق في ذلك، في حين كان فالح ناقداً ثورياً للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي من جهة، وطارحاً لبدائل في مختلف المجالات التي بحث فيها، أي طرح موقفه ووجهة نظره بشأنها من جهة ثانية. كتب ماركس في الموضوعة 6 عن فيورباخ ما يلي: "كل ما قام به الفلاسفة في السابق هو تفسير العالم بطرق مختلفة، بيد أن المطلوب هو تغييره".11
وإذ كان الباحثان قد أقاما علاقات وطيدة بالأوساط الشعبية وأوساط المثقفين، فأن علاقات فالح كانت أوسع وأكثر عمقاً بكثير، سواء أكان في الحياة السياسية العراقية والعربية أم في بعض دول منطقة الشرق الأوسط، أم مع الأحزاب والشخصيات السياسية والاجتماعية العراقية والعربية وخارج إطار العالم العربي أيضاً. وقد ساعد ذلك على توسيع مدارك وأفق نظر ونشاط الدكتور فالح عبد الجبار بالمقارنة مع الدكتور علي الوردي، الذي حصر أبحاثه بالعراق فقط.
لقد كان علي الوردي يؤمن بالصدمة التي يفترض أن يجابه بها المجتمع، ولاسيما الأوساط المثقفة، أن يستفزهم ويثيرهم، أن يدفع بهم للتفكير والبحث، وكانت هذه مسألة مهمة حقاً وصعبة أيضاً في الخمسينيات من القرن العشرين، رغم ما تحمله معها من مشاكسات مع أقرانه ومع أوساط معينة في المجتمع، ولاسيما شيوخ الدين. كتب الدكتور سليم الوردي في محاضرة له عن أطروحات علي الوردي بهذا الصدد ما يلي: " أدرك الوردي أن أطروحاته لا تتمكن من شق طريقها في فضاء معرفي يعجّ بالمسلّمات والمحرّمات والثوابت المألوفة. فتعمّد أسلوب الصدمة في محاولة منه تحرير الوعي الاجتماعي من أسر تلك المسلّمات. وكلّفه ذلك تحمّل سهام النقد الحاد من كل صوب وحدب."12 ويمكن أن يلاحظ ذلك في كتبه العديدة ولاسيما لمحات اجتماعية ووعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري وأسطورة الأدب الرفيع وشخصية الفرد العراقي.
ويبدو لي أيضاً إن الدكتور علي الوردي لم يعمل بما يتطلبه منهج ابن خلدون من مقارنات للبرهنة على الاستنتاجات التي كان يخلص إليها، بل اقتصر على مجتمع واحد هو العراق والمقارنة مع النموذج المثالي للفرد والمجتمع الذي مارسه واضعو المنهج الوضعي. تشير الباحثة العلمية السعودية الدكتورة زهرة الخضاب بصواب بصدد منهج أبن خلدون إلى ما يلي:
"1- ملاحظة ظواهر الاجتماع لدى الشعوب التي أتيح له الاحتكاك بها والحياة بين أهلها. 2- تعقب هذه الظواهر في تاريخ الشعوب نفسها في العصور السابقة لعصره. 3- تعقب أشباهها في تاريخ شعوب أخرى لم يتم الاحتكاك بها والحياة بين أهلها. 4- الموازنة بين هذه الظواهر جميعا. 5- التأمل في مختلف الظواهر للوقوف على طبائعها وعناصرها الذاتية وصفاتها العرضية واستخلاص قانون تخضع له هذه الظواهر في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع."13 وهذا ما يؤكد الفكرة الأساسية التي أشار لها ابن خلدون حول البحر وما فيه مثلاً. أما أبحاث علي الوردي فقد اقتصرت على العراق ولم يتوسع في بحث الجوانب الاجتماعية للدول المجاورة، بما يسهم في تأكيد استنتاجاته، كما لم يحاول رؤية الأمر على إنه ليس صراعا بين البداوة والحضارة فحسب، بل أن هناك صراعاً جوهرياً، لم يَعره كثير اهتمام أو انتباه، ولاسيما الصراع الاجتماعي المرتبط بواقع العراق الاقتصادي-الاجتماعي حينذاك، أي بطبيعة علاقات الإنتاج التي سادت العراق أثناء حياة وعمل د. علي الوردي، رغم إنه أشار بشكل سريع إلى استغلال الإقطاعيين للفلاحين بالعراق.   
المسألة الثالثة: سعة أو محدودية المواضيع التي كانت موضع اهتمام الباحثين.
اشرت في النقطة الثانية إلى إن الوردي قد اقتصر في أبحاثه وموضوعاته على الفرد والمجتمع بالعراق، وهي موضوعات كبيرة ومهمة وأساسية بالنسبة لحياة الشعب العراقي ولأي باحث في علم الاجتماع. وهذا التخصص والتركيز على العراق لا يعتبر نقيصة بالنسبة للباحث الرائد والكبير علي الوردي، ولكنه يختلف في هذا عن الباحث الاجتماعي الحديث والماركسي المتميز فالح عبد الجبار، الذي اتسع وتنوع في أبحاثه لتشمل العراق والدول المجاورة، إيران وتركيا، والدول العربية وكذلك البلدان النامية، كما امتدت لتشمل الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالقاعدة الاقتصادية الإنتاجية للمجتمع وبالبناء الفوقي الناشئة عنها في آن واحد. فالعلاقات الإنتاجية والقوى المنتجة، المادية منها والبشرية، في ظل العلاقات الإنتاجية الإقطاعية، ومن ثم في فترة تطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية المحدود بالعراق والتغريب الناشئ عن هذ العلاقات في واقع الاستغلال ومصادرة فائض القيمة في قطاع النفط الاستخراجي وفي غيره، كما شملت قضايا السياسة والدين والفكر الديني والتشريع والدولة المستبدة وأجهزتها الإدارية والقمعية، وما يتمخض عن كل ذلك من عنف الدولة والعنف المضاد والمشكلات النفسية وازدواج الشخصية في المجتمع، مما يشير إلى بانوراما بحثية في المجتمع العراقي والبلدان المجاورة، وإلى تشريح تلك المجتمعات ليلتقط منه ويشخص طبيعة العلاقات والظواهر الناشئة عنها والعلاقة فيما بينها.
من الملاحظ إن اهتمام الكتاب وأوساط المثقفين وأوساطاً أخرى قد ازداد بأبحاث وكتب علي الوردي بعد وفاته، والآن نلاحظ هذه الظاهرة مع الدكتور فالح عبد الجبار بعد وفاته حيث يزداد الإقبال على كتاباته وكتبه أكثر بكثير على ما كان عليه حين كان حياً، وسيزداد هذا الاهتمام أضعاف ما كان عليه في حياة أبي خالد بعد أن انتهى بتلك اللوحة الدرامية الخالدة، وهو يتحدث لنا ومعنا من على شاشة التلفزة، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. كم أتمنى علينا جميعاً أن نبدي اهتماماً أكبر بباحثاتنا وباحثينا الإجلاء وهم أحياء قبل أن يلفظوا انفاسهم الأخيرة، لكي نناقش أفكارهم وابحاثهم، ولكي ندفع بهم إلى المزيد من البحث والإبداع في مختلف المجالات. وأنا هنا لا أتحدث عن الحكومات، على امتداد تاريخ العراق الحديث، التي لم تبد يوماً أي اهتمام بالكتاب والكاتبات والبحث العلمي والباحثين والباحثات في جميع الاختصاصات، بل أركز على الكتاب والباحثين والمثقفين من النساء والرجال أولاً وقبل كل شيء.
برلين في 12/03/2018
الهوامش
1 د. حميد الكفائي، فالح عبد الجبار: عاش فاعلاً ومات واقفاً، جريدة الحياة بتاريخ 4/03/2018.
2  د. عبد الخالق حسين، علي الوردي وفالح عبد الجبار: هل فاق التلميذ أستاذه؟، الحوار المتمدن، محور الفلسفة، علم النفس وعلم الاجتماع، في 8 أذار/مارس 2018.
3 د. علي الوردي، "وعّاظ السلاطين"، الطبعة الثانية، سنة 1995 دار كوفان لندن، صفحة 108.
4 د. سليم الوردي، الاستاذ الدكتور سليم الوردى: كيف نقرأ على الوردى؟، مركز علي الوردي للدراسات والبحوث. 13 تموز/ يوليو 2010.
5 المصدر السابق نفسه.
6 د. إبراهيم بايزو، مدخل موجز إلى علم الاجتماع (3): الاتجاهات الكلاسيكية في علم الاجتماع ـ موقع أنفاس.نت من أجل الثقافة والإنسان، 17 أذار/مارس 2014.
7 كان الفقيد مهدي الحافظ قد حدثني في أحد لقاءاتنا عن الدكتور علي الوردي وزيارته لهفي المستشفى حين كان مريضاً وحين كان مهدي الحافظ يعمل في اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، أه أشار له بأنه استفاد من الماركسية ومن المنهج المادي التاريخي في دراساته. كاظم حبيب
8 عبد الرحمن بن محمد أبن خلدون، المقدمة، أو كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الصادر ف 1377 م. تحقيق مصطفى الشيخ مصطفى، مؤسسة الرسالة، دمشق، بدون تاريخ.   
9 د. أحمد القصير، منهجية علم الاجتماعي بين الماركسية والوظيفية والبنيوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012. يستكمل ماركس ما توصل إليه بحثه بقول: " وعندما تبلغ القوى المنتجة المادية في المجتمع درجة معينة من تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة أو مع علاقات الملكية – وليست هذه سوى التعبير القانوني لتلك – التي كانت إلى ذلك الحين تتطور ضمنها، فبعد أن كانت هذه العلاقات أشكالاً لتطور القوى المنتجة، تصبح قيوداً لهذه القوى، وعندئذ ينفتح عهد الثورة الاجتماعية، ومع تغير الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الأعلى الهائل بهذا الحد أو ذلك من السرعة." 
10 د. ناهدة عبد الكريم حافظ، فكر الوردي في طبيعة المجتمع العراقي، ضمن أبحاث عن "الملامح المستقبلة للمجتمع العراقي، كلية الآداب-جامعة بغداد، منشورات المجمع العلمي العراقي، مطبعة المجمع العلمي، بغداد، 2002، ص 59.   
11 كارل ماركس، أطروحات حول فيورباخ، كتبها ماركس في العام 1845 ونشرت لأول مرة في العام 1888 في ملحق خاص لكتاب فريدريك أنجلز الموسوم "لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية". 
12 د. سليم الوردي، الاستاذ الدكتور سليم الوردى: كيف نقراء على الوردى؟ جريدة المدى، مجتمع مدني، 28 أيار/ميس 2008.   13 د. زهرة الخضاب، منهج أبن خلدون في دراسة التاريخ. المنتدى العربي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، علم الاجتماع- العلوم الاجتماعية- دراسات علم الاجتماع، 16/شباط/فبراير 2010.   

248
نظرات في كتاب "مسيحيو العراق.. أصالة.. انتماء.. مواطنة" للدكتور كاظم حبيب

اسم المؤلف: د. كاظم حبيب

دار النشر: دار نينوى، دمشق
سنة الإصدار: 2018
يتضمن الكتاب ثلاثة أجزاء و17 فصلاً ومجموعة من المباحث في كل فصل. كما يتضمن 30 ملحقاً، إضافة إلى مجموعة من الصور وفهرس بالأسماء، ويقع الكتاب في 1072 صفحة.

يعالج الكتاب بمجمله واقع العراقيين المسيحيين منذ دخول المسيحية إلى وادي الرافدين (ميزوبوتاميا) في القرن الأول الميلادي حتى العام 2016/2017.
يتوزع الجزء الأول على فصلين: يبحث الفصل الأول في البوابات التي دخلت المسيحية منها إلى العراق، ومنها الرسل الأوائل، ودورهم الريادي في نشر المسيحية في هذه المنطقة من العالم وتبني المسيحية على نطاق واسع من سكان العراق ومعاناتهم في مواجهة الديانة الزرادشتية، قبل دخول الإسلام إلى العراق. ويشخص الدور الثقافي للكنيسة الشرقية في مدن ومدارس عديدة منها الرها ونصيبين وحدياب والحيرة في نشر التعاليم واللغة والآداب السريانية. وفي الفصل الثاني يبحث في الصراعات التي نشبت حينذاك بين الكنيستين الغربية والشرقية وعواقبها على جموع المسيحيين في المنطقة. وكذلك الانشقاقات التي حصلت حينذاك ونشوء الطوائف المتصارعة وعواقبها على المسيحيين. إن الاستعراض المكثف والسريع للدين المسيحي في هذه المدن القديمة في بلاد ما بين النهرين كان الهدف منه التحري عن الفترات الزمنية التي وصل خلالها الدين المسيحي إليها والشخصيات أو الجهات الدينية أو الأسرى الذين أمنوا بالدين المسيحي ونشروه في هذه الديار. ويتبين من الدراسة أن الدين المسيحي لم ينقل دفعة واحدة إلى كل أنحاء بلاد ما بين النهرين، بل تم في فترات متباينة وبوسائل تبشيرية عديدة. وإذا كان وصول الرسل الأوائل قد تم في القرن الأول الميلادي، فأن القرون اللاحقة، وإلى حين مجيء المسلمين إلى هذه البلاد، في الثلث الأخير من القرن السابع الميلادي، شهدت وجوداً وقبولاً واتساعاً للدين المسيحي في أغلب مدن وارياف بلاد ما بين النهرين. وأن الكثير من هذه المدن في الشمال أو الجنوب أو الوسط قد أقيمت فيها الكنائس والأديرة المسيحية، والكثير منها قد اندثر ومنها ما يزال دون تنقيب. وما نقب وعثر عليه لا توجد عناية فعلية به حتى الآن. في حين تشكل هذه الكنائس والأديرة ثروة حضارية وتراثاً عراقياً مهماً وأصيلاً يشترك فيه مسيحيو العراق بمختلف طوائفهم، كما يهم المجتمع العراقي بأسره. ويمكن أن يشكل مزاراً لمسيحيي العالم.
أما الجزء الثاني فيتوزع على فصلين أيضاً. يبحث الفصل الثالث منه وبتوسع في موقف القرآن ونبي المسلمين محمد والخلفاء الراشدين من الدين المسيحي والمسيحيين. كما يبحث في المشاكل التي برزت ومواقف التمييز الديني إزاء المسيحيين، رغم العهود التي قطعت لهم، ومن ثم إجراء عمر بن الخطاب المخالف لتلك العهود في تهجير مسيحيي نجران إلى العراق، وعواقب ذلك وتأثيراته حينذاك وفي الفترات اللاحقة، وهي معززة بالوثائق. أما الفصل الرابع بمباحثه الأربعة فيعالج بالوقائع والتحليل موقف الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية من المسيحية والمسيحيين والمشكلات التي واجهتهم رغم دورهم الثقافي والإنساني المميز خلال تلك العهود والعوامل الكامنة وراء تلك المواقف والفوارق النسبية المهمة بين تلك العهود في الموقف من المسيحية والمسيحيين وأسباب ذلك. إضافة إلى العواقب السلبية لمواقف التمييز والتهميش والإقصاء على الإنسان المسيحي ودوره في المجتمع. فرغم اعتراف الإسلام بالمسيح والديانة المسيحية، إلا إن الموقف ينطلق من اعتبار الدين الإسلامي هو أخر الأديان السماوية وعلى أتباع جميع الديانات الأخرى أن يدخلوا في الدين الإسلامي، وهو ما يشكل جوهر الصراع الذي ينشب بين أتباع الديانات ويتناقض مع القول الوارد في القرآن "لكم دينكم ولي دين"! وفي هذا القسم استشهادات كثيرة على صور التمييز والإساءة ولاسيما من جانب الخلفاء والحكام.
أما الجزء الثالث فيبحث في أوضاع العراقيين المسيحيين والمسيحيات في أعقاب الحرب العالمية الأولى والدولة الملكية العراقية الحديثة التي تأسست في العام 1921 والجمهوريات اللاحقة منذ العام 1958. ويتضمن هذا الجزء13 فصلاً.
الفصل الخامس يبحث في تطور الواقع السكاني للمسيحيين وأضاعهم في أعقاب سقوط الدولة العثمانية وفي ظل الدولة الملكية وموقف الدولة الجديدة من المسيحيين وصور التمييز التي ظهرت ضدهم في هذه الفترة. كما يضع الكتاب القراء والقارئات أمام المجزرة التي نظمت ونفذت ضد السكان الآشوريين من النساء والرجال في سهل سُمّيل وكذلك في مجزرة ديرابون وعواقبها على المجتمع المسيحي عموماً، وعلى مناطق سكناهم والعوامل الفعلية،ولاسيما غياب الديمقراطية والحكم الرشيد ، والشوفينية والتمييز الديني، الكامنة وراء ما حصل للمسيحيين بطوائفهم العديدة.وفي هذا الجزء إدانة صارمة وشديدة لتلك الجرائم والأسباب التي أدت إليها، والموقف الخاطئة والسيئة للقوى والأحزاب والعرب والكرد منها.
أما الفصول 6، 7، و8 فتبحث بالتفصيل في أوضاع المسيحيين في الجمهوريات الأربعة اللاحقة وما تعرضوا له من اضطهاد ونزوح وتهجير قسري وتحت ضغط الواقع القائم حينذاك، ولاسيما في الفترة 1959 والفترات اللاحقة، إضافة إلى المجزرة البشعة التي نظمت ضد الكلدان المسيحيين في صوريا عام 1969 وأسبابها وما نجم عنها. وتتضمن أسماء الشهداء في هذه المجرة والمجازر التي سبقتها، وأسماء الجرحى على وفق ما توفرت للباحث.
أما الفصل التاسع فيبحث في الجمهورية الخامسة، جمهورية النظام السياسي الطائفي، وما اقترن بوجود هذا النظام من استبداد ديني وتمييز واضطهاد وملاحقة وتشريد وقتل وحرق الكنائس وتفجيرها وقتل القساوسة والمطارنة من جانب المليشيات الطائفية المسلحة، السنية منها والشيعية، المحلية منها والعربية ومن شذاذ الآفاق، في الوسط والجنوب والشمال، وكذلك التغيير الديموغرافي لمناطق العائلات المسيحية في نينوى وإقليم كردستان العراق. ويورد الكاتب نماذج عما حصل وشهادات نساء ورجال مسيحيين تعرضوا لتلك الجرائم البشعة. وكذلك ما حصل للإيزيديين وغيرهم، من إبادة جماعية على ايدي الدواعش المجرمين، بعد أن سُلمت الموصل دون دفاع عنها من قبل النظام الطائفي والسكوت الدولي عن ذلك طويلاً. وفي هذا يقدم الكاتب الكثير من الوقائع والأرقام والشهادات حول ما حصل للعائلات المسيحية بالعراق.
الفصل العاشر يبحث بشكل خاص في اضطهاد المسيحيين في كل الإمبراطوريات تحت لواء الإسلام والدولة العراقية خلال القرون والعقود المنصرمة وبتفاصيل مذهلة.
الفصل الحادي عشر يتطرق بشكل خاص إلى العراقيين المسيحيين الأرمن منذ بدء وجودهم، ولاسيما بعد الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها في العام 1914-1915 في تركيا، والكوارث الي حلت بهم، ودورهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالعراق، وموقف الأتراك الراهن من تلك المجازر البشعة التي شكل ضحاياها جبلاً يقدر عددهم بأكثر من مليون ضحية.
الفصل الثاني عشر يتطرق في مباحثه الخمسة بالتفصيل وبالشواهد والتحليل إلى العوامل الكامنة وراء التمييز القومي والديني اللذين تعرض لهما مسيحيو العراق،والتغيير الديموغرافي الذي تعرضت له مناطق سكناهم التاريخية والراهنة بالعراق، وتفاصيل عن المؤتمر الذي عقد في برطلة وعنكاوة في مناهضة التغيير الديموغرافي وشجبه والمطالبة باستعادة المسيحيين لمناطق سكناهم. وكان الكاتب رئيساً لهذا المؤتمر ولجنته التحضيرية.
يتطرق الفصل الثالث عشر إلى واقع وعواقب تلك السياسات على وجود المسيحيين بالعراق والهجرة الكبيرة التي حصلت في فترات مختلفة ولاسيما في العام 2014-2016 وآثارها السلبية على مسيحيي العراق أولاً، وعلى المجتمع العراقي بشكل عام. وتشير الأرقام المتوفرة إلى أن مسيحيي العراق قد تقلص عددهم من مليون وربع المليون نسمة إلى حدود 300 ألف نسمة حالياً، ولا تزال الهجرة لم تتوقف، ولاسيما بعد النزوح العام عن الموصل وسهل نينوى في أعقاب اجتياح داعش للمنطقة. ويضع الكتاب شهادات وأرقاماً وإحصائيات مهمة تكشف عن الواقع المرَ للعائلات المسيحية في هذه الفترة العصيبة من تاريخ العراق ومسؤولية النظام السياسي الطائفي والقوى والأحزاب الإسلامية السياسية عن كل ذلك. 
اما الفصلان 14 و15 فيبحثان في دور المسيحيين الريادي والطليعي في مجالات الثقافة، والفنون، واللغة، والأدب والشعر العربي والسرياني،والقصة، والمسرح، والطباعة والصحافة، والطب.. الخ، إضافة إلى دورهم الاقتصادي، الصناعي والزراعي وفي قطاع البنوك والتجارة والتأمين. كما يورد الكاتب أسماء وادوار أعلام المسيحيين الكبار والرواد في هذا المجالات، وكذلك العدد الكبير ومن الوزن الثقيل لمثقفي المسيحيين في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية العراقية. ويتحدث بتوسع عن بعض الأسماء المهمة الحديثة في دورها الثقافي والإعلام والروائي بالعراق.
يبحث الفصل السادس عشر في عواقب الحرب الأخيرة في نينوى والاحتلال والإرهاب على المجتمع العراقي، ولاسيما على مسيحيي العراق من حيث النزوح والمشكلات الناشئة عنها وسبل العيش اللاحق للمسيحيين بالعراق وسبل معالجتها.
الفصل السابع عشر يتطرق إلى آفاق معالجة أوضاع المسيحيين بعد تحرير الموصل وعموم نينوى، وما يفترض أن يحصل، على وفق مطالب المسيحيين، في الموقف من سهل نينوى (محافظة) أو غير ذلك، والمشكلات المعقدة الأخرى المرتبطة بفترة ما بعد التحرير من النواحي الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية.
وباختصار شديد يضع الكتاب أمام القارئة والقارئ بالعربية لوحة بانورامية مكثفة عن حياة ودور ومكانة المسيحيين الطليعي في الثقافة والاقتصاد والحياة الاجتماعية في وادي الرافدين منذ القرن الأول للميلاد حتى السنوات الأخيرة من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من جانب، والمآسي والكوارث التي تعرضوا لها بسبب الفكر الشوفيني والتمييز الديني من جانب آخر، وبسبب غياب الحياة الديمقراطية وهيمنة الاستبداد والقسوة والعنف والفساد في حياة المجتمع من جانب النظم السياسية الحاكمة والفئات الاجتماعية المهيمنة على الاقتصاد ودست الحكم من جانب ثالث. ويحاول ان يطرح الحلول الممكنة والضرورية في هذا الصدد.
لقد وقعت مأساة كبيرة في العام 1949-1951/1952 حين تم تهجير 130 ألف يهودي عراقي إلى إسرائيل، بتعاون تم بين أربع دول هي: بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل والعراق، وكان أغلبهم لا يرغب بالهجرة ويرى العراق وطنه ووطن أجداده. واليوم نحن نواجه حالة مماثلة، وأن كانت من طراز آخر وزمان آخر، ولكن الحقيقة الماثلة تؤكد إن قوى الإسلام السياسي بالعراق والمنطقة لا تريد للمسيحيين أن يبقوا بالعراق والمنطقة، واستمرار النظام الطائفي السياسي بالعراق يهدد باحتمال ذلك، في حين إن العراق وطنهم ووطن أجدادهم وفيه تراثهم الحضاري المديد. ومن هنا يفترض خوض النضال لإبقاء هذه اللوحة الملونة العراقية زاهية بالشعب المسيحي، بالكلدان والسريان والآشوريين والأرمن، وببقية اتباع الديانات. وهذا يتطلب عملاً نضالياً وتنويرياً مشتركاً وطويل الأمد، داخلياً وعربياً ودولياً، لكي نتجنب ما حصل ليهود العراق أو ما يمكن أن يحصل أيضاً للصابئة المندائيين أو حتى للإيزيديين. 
تشكل الملاحق جزءاً مهماً وأساسياً من الكتاب لما فيه من وثائق تاريخية، (قسم منها حذفه الرقيب السوري، كما حذف بعض النصوص من البحث ذاته أيضاً، ولم يتأثر مضمون الكتاب بهذا الحذف التعسفي وغير المسؤول)، وبعض المقالات والإحصائيات كشواهد على ما تعرض له المسيحيون، إضافة إلى أسماء شهداء المسيحيين خلال الفترة الواقعة بين 1933 حتى العام 2016/2017 وما تيسر للكاتب جمعه عبر التعاون النبيل مع أخوة مسيحيين ومنظمات مجتمع مدني مهتمة بشؤون المسيحيين بالعراق. ويتضمن الكتاب فهرس بالأسماء الواردة في الكتاب، ونبذة عن حياة الكاتب.
اعتمد الكاتب واستفاد في إنجاز الكتاب على مجموعة كبيرة من الكتب التاريخية الباحثة في الشأن المسيحي العراقي، سواء أكانت من باحثين وكتاب عرب أم أجانب، وسواء أكانوا من الآباء والكتاب المسيحيين أم من الكتاب والباحثين العلمانيين. كما استفاد من الكثير من الدراسات والمقالات القديمة والحديثة المنشورة في المجلات والصحف أو في المواقع الإلكترونية. وكذلك أجرى لقاءات مكثفة وعديدة ومفيدة جداً مع باحثين قساوسة ومطارنة من عنكاوة والموصل والقوش ودهوك ومع لغويين وباحثين مسيحيين. ويتضمن الكتاب فهرس بأهم وأبرز المصادر، إضافة إلى الهوامش.
نبذة عن الكاتب كاظم حبيب
من مواليد كربلاء 16/4/1935، حامل شهادات بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه PhD،ودكتوراه علوم DSc، أستاذ جامعي سابق، باحث علمي وكاتب وناشر وناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وعن أتباع الديانات والمذاهب في العراق، إضافة إلى كونه سياسي عراقي يعيش حالياً في المهجر. عضو في عدد من منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية.
أصدر حتى الآن ما يزيد عن 30 كتاباً وعشرات الدراسات والأبحاث وبين 2500 ج 3000 مقالاً في حقول الاقتصاد والسياسة والمجتمع والبلدان النامية وقضايا حقوق الإنسان والمجتمع المدني وعن العنصرية والتمييز الديني والمذهبي. وأبرز كتبه "لمحات من عراق القرن العشرين"، ويقع في أحد عشر مجلداً، وكتاب عن "يهود العراق والمواطنة المنتزعة"، وكتاب عن "الإيزيدية ديانة عراقية شرق أوسطية قديمة"، والكتاب الأخير هو "مسيحو العراق.. أصالة.. انتماء.. مواطنة، إضافة إلى كتب: العولمة من منظور مختلف بجزئين، والفاشية التابعة في العراق، والتخطيط الاقتصادي، والاقتصاد الزراعي في العراق....

249
كاظم حبيب
المرأة العراقية والذكورية الجاحدة! 
في الذكر السنوية ليوم المرأة العالمي
ليس هناك من جديد في بلاد ما بين النهرين بشأن المرأة العراقية، سوى مسألتين بارزتين هما: استمرار الذكور على جحودهم الفظ لدور المرأة ومكانتها في الدولة والمجتمع والاقتصاد وإصرارهم على انتزاع حتى ما تبقى لها لما تحقق من حقوق قليلة قبل خمسة عقود في قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 أولاً، وإصرار المرأة الشجاعة على مواصلة النضال بعزم أقوى وأشد من السابق على انتزاع حقوقها المشروعة والعادلة ومساواتها التامة بالرجل ثانياً، ودعم هذا النشاط من جانب المتنورين من الذكور ومنظمات المجتمع المدني والقوى التقدمية، في مواجهة نظام سياسي طائفي مقيت يدعم كل الإجراءات التي تحط من قدر المرأة وتنتزع حقوقها وكرامتها، بما في ذلك البنات القاصرات في قانون أو تعديلات قانونية للقانون السابق أقرها مجلس الوزراء وحولها إلى مجلس النواب لإقرارها، والتي تعبر عن مدى الوضاعة التي وصل إليها النظام السياسي بالعراق وعموم القوى الحاكمة حتى الآن. وقد نهضت حملة إنسانية نبيلة ضد هذه التعديلات المقترحة وأجبر مجلس النواب البائس على تأجيل إقرارها لظرف أخر يمكن عندها فرضها على المجتمع!!
بسبب فداحة الاغتصاب الحاصل على حقوق المرأة العراقية، ينسى الكتاب والإعلاميون التقدميون ما في اللغة العربية من ذكورية مطلقة، وهي لغة القرآن أيضاً. إذ أن جميع المسائل الواردة في القرآن تتحدث إلى ومع الذكور لا غير، وليس مع المرأة. وحين يرد ذكر المرأة فباعتبارها تابعاً وخاضعاً للرجل، نتاج ضلع..، ولأن "الرجال قوامون على النساء..". (راجع هنا المقال القيم للدكتور محمد محمود الموسوم " واضْرِبُوهُنَّ: قراءات الأمس"، الحوار المتمدن بتاريخ 06/07/2018). وهكذا عاش وما زال العرب يعيشون منذ قرون على إنكار حقوق المرأة ودورها المماثل والمعادل لدور الرجل في الدولة والمجتمع والاقتصاد وبقية المجالات، ويتعاملون معها على إنها "ناقصة عقل!". ومن يفكر بهذه الطريقة يؤكد أنه يعاني من نقص في عقله بالمطلق، وليس المرأة. فمن حق الرجل أن يضرب المرأة إن نشزت، كما جاء في سورة النساء 4، الآية 34: " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا"، ومعنى النشوز، كما جاء في معجم المعاني، "نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ بِزَوْجِهَا: تَمَرَّدَتْ عَلَيْهِ ، اِسْتَعْصَتْ ، أَبْغَضَتْهُ". لم يكن الإسلام وحده قد اتخذ هذا الموقف من المرأة، بل سبقته اليهودية ومن ثم المسيحية. إلا أن الديانتين اليهودية والمسيحية قد شهدتا تحولاً في الموقف والممارسة عبر عملية التنوير التي صاحبت التطور الصناعي وبروز البرجوازية في الحياة السياسية والحكم وتبني مبدأ المساواة بين المرأة والرجل وتحرير المرأة من عبودية الرجل وهيمنته البشعة، في حين مازال المسلمون، يعاملون المسلمات، على ما وضع منذ أكثر من 1439 عاماً ولم يعرفوا عملية التنوير الديني والاجتماعي حتى الآن. ورغم كل ذلك استطاعت المرأة في بعض الدول العربية والدول ذات الأكثرية الإسلامية انتزاع بعض الحقوق، ومازلن يناضلن لانتزاع بقية الحقوق من براثن الرجل المستأسد على المرأة والمغتصب لحقوقها. في هذه المقالة القصيرة سوف أعالج مسألة واحدة تبدو هامشية للبعض، ولكنها أساسية في حكم الموقف الذكوري المتخلف من المرأة.
منذ سنوات بدأت استخدم في كتاباتي لغة ذكورية وأنثوية في آن واحد. ووجهت نداءات بضرورة استخدام هذه الثنائية في الكتابة. ولكن القلة القليلة استجابت لهذا النداء حتى الآن. وليس هذا غريباً على بلد مثل العراق أو الدول العربية. فالألمان الذكور يواجهون، رغم تحررهم يواجهون، مثل هذه المشكلة، وتتجلى في مطالبة متزايدة من جانب النسوة بتغيير النشيد الوطني إلى لغة ذكورية وأنثوية في آن واحد، أو التخلي عن بلد الأب Vaterland، واستخدام بيت الوطن،Heimatland . (راجع جريدة برلينر تسايتونك بتاريخ 06/03/2018، ص 8)
إن استخدام اللغة الثنائية، ذكورية وإنثية، من جانب كتابنا وكاتباتنا ومن جانب إعلامينا وإعلامياتنا، من جانب الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ونقابات العمال والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، وفي الكتب الدراسية لجميع المراحل الدراسية، سيلعب دوراً تثقيفاً مهماً جداً، إلى جانب دوره النفسي والاجتماعي، على السامعين والسامعات كافة، وسيساهم تدريجاً في إلغاء اللغة الذكورية المنفردة لصالح اللغة الثنائية. وسيجد تعبيره تدريجاً في السلوك الفردي للمرأة والرجل ويقترن مع النضال المتواصل من أجل انتزاع الحقوق الفعلية الأخرى وليس باللغة فقط. فبدلاً من أن نكتب "أبناء" العراق، لا بد لنا أن نكتب "بنات وأبناء" العراق، رجال ونساء العراق، أو بدلاً من أن نكتب الأستاذ فلانة بن فلان، لابد أن نكتب الأستاذة فلانة بنت فلان، أو المديرة أو القاضية أو الوزيرة أو العالمة أو الدكتورة...الخ.                   
حين وصلني العدد الأول من المجلة الإلكترونية "الأكاديمي" باللغتين العربية والإنكليزية، عن "جمعية الاكاديميين العراقيين في استراليا ونيوزلندا" واطلعت على محتوياتها القيمة حقاً، لفت انتباهي، وهي مجلة أكاديمية ديمقراطية تصدر عن جمعية متقدمة في موقفها من المرأة والرجل ولها فرع يدافع عن حقوق الإنسان، استخدامها اللغة الذكورية عند ذكر المرأة، الأستاذ فلانة بن فلان، (دع عنك خلو هيئة التحرير من أي امرأة في عضويتها!)، رغم وجود عدد كبير من النساء العراقيات المتقدمات في مجال العلم والثقافة والفن في استراليا بشكل خاص، وليست لدي معلومات عن نيوزيلندا. فكتبت لهيئة التحرير ملاحظة بشأن ذكورية الكتابة ورجوتهم التفكير بشأن تغيير ذلك. ومن المؤسف إن هيئة التحرير لم تجبني على استفساري واقتراحي بهذا الصدد!
أتمنى على جميع الأحزاب والمنظمات والشخصيات من كتاب وإعلاميين وعاملين في الشأن العام، أن يبدؤا باستخدام اللغة الإنثوية إلى جانب اللغة الذكورية في الكتابة، لكي نخلق حساً إنسانياً سليماً إزاء المرأة بالعراق، رغم الجو السياسي المغبر والمضبب والمزاج الراهن المناهض لحقوق المرأة، بسبب هيمنة قوى الإسلام السياسية الطائفية على مقاليد الدولة والحكم ومجلس النواب والقضاء العراقي والإعلام الحكومي، وهيمنة واسعة على الإعلام الخاص أيضاً. إنها وفي هذه الظروف يفترض على كل الديمقراطيين المقتنعين بمساواة المرأة بالرجل في جميع المجدالات، بما في ذلك اللغة، أن يبدؤا مقاومتهم للذكورية المستفحلة، وسيكون ذلك هدية متواضعة للمرأة العراقية في يومها العالمي، للأم والأخت والزوجة والبنت والخالة والعمة..، وللإنسانة العراقية المناضلة في كل زاوية من أرض الرافدين، في العراق المستباح حتى الآن!                 

250
كاظم حبيب
تزايد قلق الديمقراطيين من اليمين واليمين المتطرف في أوروبا!

كما تجتاح الدول العربية وغير العربية ذات الأكثرية المسلمة موجة مديدة من الإرهاب الأعمى المدمر من جانب قوى الإسلام السياسي اليمينية واليمينية المتطرفة والتكفيرية، حيث هيمنت بعض قواها على الحكم في عدد من هذه الدول، لاسيما في أسيا وأفريقيا، كما في إيران وتركيا والسودان والسعودية والعراق مثلاً، وتمارس سياسات استبدادية وتفرض إرهاباً فكرياً ضد أتباع الديانات الأخرى وضد أتباع الفكر الآخر والرأي السياسي الآخر، وكذلك ضد أتباع القوميات الأخرى، والتي أدت إجراءاتها حتى الآن، سواء تلك التي في السلطة أم خارجها، إلى موت ما يزيد عن مليون ونصف المليون إنسان خلال الأعوام العشرة المنصرمة، وهي ما تزال تواصل ذات السياسات ولم يردعها إجراءات ما يدعى بالتحالف الدولي ضد الإرهاب، لأنه غير جاد وغير موحد ودون تنسيق ومتشابك ومتداخل مع أجهزة أمنية لبلدان غير قليلة، تجتاح أيضاً الدول الرأسمالية المتقدمة موجة مديدة من السياسات والإجراءات ذات النهج والمضامين اليمينية للقوى والأحزاب الحاكمة من جهة، وتفاقم كبير في نشاطات القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة والقوى النازية الجديدة خارج السلطة من جهة ثانية. وبصدد الصنف الأول يمكن الإشارة بوضوح كبير إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وهنغاريا وبولونيا والنمسا وسلوفاكيا والتشيك وبلغاريا وأخيراً النمسا وإيطاليا حيث فاز اليمين واليمين المتطرف في الانتخابات العامة الأخيرة، قد شكل التحالف اليميني واليمين المتطرف الحكومة في النمسا، وربما سيشكل الحكومة بعد أن فازت أحزاب خمس نجمات وبرلسكوني وحزب الشمال اليميني المناهض للأجانب واللاجئين في إيطاليا في انتخابات شباط/فبراير 2018، أما الصنف الثاني فيمكن تأشير دول مثل فرنسا وهولندا وألمانيا والدنمارك والسويد، على سبيل المثال لا الحصر. هذه الاتجاهات ليست وليدة اليوم، بل بدأت بشكل ملموس في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين وتصاعدت مع انهيار النظم السياسية والاجتماعية "الاشتراكية" في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، وتفاقمت بهيمنة فعلية لسياسات اللبرالية الجديدة وقوى المحافظين الجدد في هذه الدول. وكان الأمير زيد بن رعد بن الحسين على حق وصادق حين أكد في تقريره للأمم المتحدة ما يلي: "اليوم، القمع أصبح مألوفا. لقد عادت الدول البوليسية والحريات الأساسية تتراجع في كل منطقة في العالم. كما ان الخجل ايضا يتراجع". وتابع قوله: أن "كارهي الأجانب والعنصريين يتصرفون دون اي شعور بالحرج. مثل المجري فيكتور اوربان الذي قال في وقت سابق هذا الشهر "لا نريد ان يختلط لوننا ... مع الآخرين.." ألا يعلمون ما الذي حدث للأقليات في المجتمعات التي يسعى قادتها للنقاء الأثني والوطني والعرقي؟". (i24 Europa, News, 26.02.2018). وإذا كانت هذه النزعات الشديدة في توجهها الشوفيني والعنصري والديني المتزمت، فأن من الواجب الإشارة إلى دول مثل تركيا وإيران ومصر والسعودية والعراق على سبيل المثال لا الحصر!
إن تفاقم الموقف السلبي والمتشدد والمعادي لليهود والأجانب في دول الاتحاد الأوروبي وعموم أوروبا، ولاسيما ضد المسلمين، يعتبر جانباً واحداً من السياسات اليمينية واليمينية المتطرفة في هذه الدول، إذ أن الجوانب الأخرى أوسع وأشمل وأكثر عمقاً وخطورة على مجمل أوضاع هذه الدول، منها مثلا ما جرى في هنغاريا وبولونيا بشأن التغييرات الجارية على القوانين ووزارة العدل، وعلى حقوق وحريات الأفراد، أو على طبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية في مجمل الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ومنها السياسات الضريبية التي تزداد تمايزاً في غير صالح العمال وصغار ومتوسطي المنتجين، وفي صالح كبار الرأسماليين والشركات الرأسمالية الاحتكارية. والمؤشر لهذه الخطورة يبرز في نتائج الانتخابات المحلية والانتخابات العامة في أغلب هذه الدول خلال الفترة الواقعة بين 2015-2018، وما يمكن أن يحصل في السنوات القادمة، حيث تشير الكثير من التقارير الصادرة عن مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي إلى احتمال واضح بحصول القوى اليمينية واليمينية المتطرفة والشعبوية على نسبة مهمة من الأصوات والمقاعد النيابية في عدد متزايد من الدول الأوروبية. (راجع أبحاث وتقارير عن مناهضة السامية ومناهضة الأجانب صادرة عن المكتب الاتحادي للتثقيف السياسي بألمانيا (Bundesamt für politische Bildung, in 2014, 2015, 2016, 2017 ( إن هذه الاتجاهات السياسية والاجتماعية، التي امتدت إلى الأوساط العمالية النقابية، بدأت تثير قلق القوى اليسارية والديمقراطية في أغلب الدول الأوروبية، وبدأت تنظم المظاهرات احتجاجاً على هذه الظواهر، ولكنها ما تزال ضعيفة ودون المستوى المطلوب لمواجهة هذه الاتجاهات اليمينية واليمينية المتطرفة، التي أدت سياسات اسلافها إلى نشوب حربين عالميتين في القرن العشرين، والتي كان أحد عوامل نشوبها ضعف التحالفات السياسية والاجتماعية بين القوى المناهضة لهذه الاتجاهات الفكرية والرأسمالية المتطرفة، مما يذكرنا بما حصل في أوروبا في النصف الثاني من العقد الثالث وما بعده في تفاقم الصراعات بين الأحزاب السياسية المناهضة للفاشية والنازية واليمين المتطرف.   
والسؤال المشروع في هذا الصد: ما هي العوامل الكامنة وراء هذا النزوع المتنامي صوب اليمين واليمين المتطرف الشعبويين؟ تجمع تقارير مراكز الأبحاث، ولاسيما في الدول الأوروبية، إلى مجموعة من العوامل المهمة التي يمكن بلورتها في النقاط التالية:
** إن اختفاء دولة المعسكر الاشتراكي عن المنافسة مع المعسكر الرأسمالي، وبشكل خاص في المجال الاقتصادي والاجتماعي، أسس قناعة لدى قادة النظم السياسية في هذه الدول وكبار الرأسماليين تشير إلى أن في مقدورهم الآن ممارسة سياسة رأسمالية جديدة تستبعد المساومة التي أجبرت عليها قبل ذاك مع الطبقة العاملة والفلاحين، وضاغطة على الأجور والمكاسب الاجتماعية التي تحققت عبر نضال الطبقة العاملة والمثقفين والبرجوازية الصغيرة، وتحت ضغط المنافسة الدولية، وباختصار يمكنهم الآن ممارسة سياسة "رأسمالية متوحشة!!" لا تعرف الرحمة والمساومة، على حد قول المثل "غاب القط ألعب يا فأر!".
** قادت هذه السياسة اللبرالية الجديدة إلى خمس عواقب صارخة: أ) ارتفاع حجم البطالة؛ ب) تفاقم استغلال الطبقة العاملة وبقية المنتجين وارتفاع أرباح الرأسماليين؛ وج) اتساع الفجوة في الدخل ومستوى المعيشية بين طبقات وفئات المجتمع في غير صالح الطبقة العاملة وصغار المنتجين وذوي الدخل المحدود والعاطلين عن العمل؛ د) تفاقم أزمة السكن ولاسيما بالنسبة لذوي الدخل المحدود وارتفاع عدد المشردين دون سكن؛ هـ) الهجوم المعاكس على المكاسب الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم ودور الحضانة ورياض الأطفال والرواتب التقاعدية والمعونات الاجتماعية التي تحققت للمجتمع خلال فترة الحرب الباردة في غير صالح الطبقة العاملة وصغار المنتجين وذوي الدخل المحدود.
** تراجع شديد في مصداقية القوى والأحزاب السياسية التقليدية الحاكمة، بما فيها الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (الأحزاب الاشتراكية) والأحزاب الديمقراطية المسيحية، مما فسح في المجال لنشاط أوسع للقوى اليمينية واليمنية المتطرفة الشعبوية، فجميع هذه الأحزاب تبنت سياسات اللبرالية الجديدة وقادت إلى عواقب وخيمة للمجتمع، كما ضاع التمايز بين الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية والأحزاب المسيحية أو المحالفظة.
** ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع إيجارات السكن بنسب عالية وأسعار السلع الاستهلاكية والنقل وغيرها، مما أدى إلى تراجع كبير في القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود في جميع الدول الأوروبية والولايات المتحدة وغيرها.
** كما إن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم الرأسمالي في العام كله 2008 ما تزال عواقبها لم تنته بعد وهي شديدة الأثر على الفقراء والمنتجين في الدول الرأسمالية المتقدمة، وكذلك على شعوب الدول النامية. إذ أن عواقب الأزمة الحادة ألقيت على كاهل الفئات المنتجة والفقيرة في الدول الرأسمالية وشعوب البلدان النامية.
** إن الحروب التي أُشعلت في عدد من الدول، ولاسيما في دول الشرق الأوسط وأفريقيا، بسبب صراع المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للدول الكبرى، والحروب الداخلية والخارجية من جهة، والسياسات الاستبدادية للكثير من حكومات الدول النامية التي تجد التأييد والدعم من الدول الرأسمالية المتقدمة من جهة ثانية، والتغيرات الجارية على البيئة وتدمير الكثير من مناطق سكن جماهير واسعة شعوب عدد من الدول النامية، بما فيها قطع أشجار الغابات والخامات التي استنزفت من قبل الدول الرأسمالية والفئات الحاكمة في ذات البلدان والتغيرات المناخية بسبب تلوث البيئة، من جهة ثالثة، والاستمرار في انتاج وبيع المزيد من الأسلحة التقليدية الحديثة، عبر السوق الرسمي والسوق الموازي، من جانب الدول المنتجة والمصدرة للسلاح مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا الاتحادية وبريطانيا وإيطاليا ..الخ، إلى الدول في المناطق التي فيها صراعات ونزاعات ساخنة من جهة رابعة، قادت كلها وغيرها إلى مزيد من النزوح الداخلي أولاً، وفيما بين الدول النامية ثانياً، وإلى هجرة بشرية واسعة صوب الخارج، نحو الدول الرأسمالية المتقدمة، ولاسيما إلى أوروبا ثالثاً. ويقدر عدد الذين تشملهم الهجرة القسرية والنزوح إلى أكثر من 60 مليون نسمة على الصعيد العالمي. ورغم إن نسبة ضئيلة منهم قادمة إلى أوروبا والولايات المتحدة، تعلن أوروبا، وكذلك الولايات المتحدة ودول أخرى، عن عجزها وعدم استعدادها على استيعاب هذا الجزء الصغير منهم، ولاسيما تلك الدول التي كانت ضمن المعسكر الاشتراكي وكذلك النمسا وإيطاليا والولايات المتحدة. ومع ذلك فأن هذه النسبة الضئيلة قد أججت الصراع الداخلي، بسبب عدم توفير مستلزمات استقبال هذه الهجرة غير المتوقعة من جانب الدول الأوروبية والخطاب غير العقلاني من عدد من الأحزاب الحاكمة إزاء اللاجئين وخوض الانتخابات بشعارات مناهضة لهم. وبدأت القوى اليمينية واليمينية المتطرفة تستخدم شعارات شعبوية لكسب الناس إليها وتعبئتها ضد الحكومات القائمة، والتي تصب في خانة معاداة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة. 
تستخدم القوى والأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة الجوانب الاجتماعية في مشكلات الدول الرأسمالية المتقدمة باتجاهين، فهي تعلن عن عدم وجود مساواة وعدالة اجتماعية في هذه الدول، وهذا صحيح، ولكنها لا تقصد في هذا الجانب التمايز المتسع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة المنتجة للخيرات المادية وصغار المنتجين والفئات ذات الدخل المحدود، بل تشير إلى وجود الأجانب في البلاد الذي، حسب تقديرها المناهض للأجانب، السبب في عدم العدالة والمساواة، أي أن وجود اللاجئين أو الأجانب عموماً في غير صالح أبناء البلاد، ويوردون مسائل مثل ضعف الرواتب التقاعدية والمزاحمة على فرص العمل وعلى السكن. إن هذا المنحى يستهدف تحويل الصراع الطبقي الداخلي بسبب التمايز الطبقي واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، إلى صراع قومي، أي بين شعوب تلك البلدان والأجانب القادمين كلاجئين إليها أو القاطنين فيها. إنها تعمل بإصرار ودأب على تأجيج العداء والصراع ضد الأجانب، إذ أنهم يعرفون تماماً، بأن هذه الذرائع التي يدّعونها لا تصمد أمام الوقائع على أرض الواقع، بل كلها ناتجة عن طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي، الذي يزداد توحشاً في جشعه لتحقيق المزيد من الأرباح على حساب المنتجين، والسياسات التي تمارسها حكومات هذه البلدات ذات النهج النيولبرالي، الذي تدافع عنه القوى اليمينية واليمينية المتطرفة بحماس منقطع النظير. وهي تدعو إلى مزيد من دور الرأسماليين واحتكاراتهم في المنافسة الرأسمالية على الصعيد الدولي ومزيد من استغلال شعوب البلدان النامية، لأنها تعتقد، وفق نظرتها العنصرية، بأن شعوبها هي الأكثر رقياً والأفضل عرقياً من شعوب البلدان النامية ومن حقها أن تقوم بذلك. أنها تستعيد من ترسانة النازية الألمانية، من النظرية التي روج لها الفريد روزنبيرغ وهتلر وغوبلز وغيره، نظرية الشعب الآري المتميز والمفضل عن الشعوب السامية (الآسيويون) والحامية (الأفارقة) السيء الصيت!! وهي بأسلوبها الشعبوي تؤثر على فكر ومزاج الناس من ذوي الوعي الاجتماعي والسياسي المحدود وتؤلب المجتمع ضد الأجانب بشكل صارخ، إذ أصبح العداء لوجود الأجانب رأسمالها الذي تسعى من خلاله إلى غزو المجالس النيابية المحلية والعامة في الدول الأوروبية. إن الدراسة الجيدة لبرامج القوى اليمينية واليمينية المتطرفة في الدول الأوروبية تساعد على معرفة التناقض بين موقفهم الرأسمالي المتطرف النيولبرالي الساعي إلى تعزيز مواقع الاحتكارات الرأسمالية، وبين دعوتهم السطحية والكاذبة للعدالة الاجتماعية، التي لا تعني العدالة الفعلية بل الاستعداء على الأجانب وإلى استبعاد اللاجئين من أوروبا. واليوم، فهذه القوى تستخدم تخويف الأوروبيين بوجود مخاطر أسلمة أوروبا. والقوى الإسلامية السياسية المتطرفة والإرهابية تساعد القوى اليمينية واليمينية المتطرفة والنازية الجديدة في أوروبا على تحقيق نجاحات معينة في دعاياتها المضللة في الأوساط الاجتماعية في المجتمعات الأوروبية، لأنها تعلن عن أن أوروبا هي دار حرب بالنسبة للمسلمين، ولا بد من تحويلها إلى دار سلام أو دار للإسلام!!! إنها ثرثرة وجعجعة فارغة، ولكنها فاعلة في نسبة غير قليلة من الأوساط الشعبية ذات الوعي الضعيف!! 
     
   

251
كاظم حبيب
احتفالية تكريمية في منتدى بغداد للثقافة والفنون ببرلين
اقام منتدى بغداد للثقافة والفنون احتفالاً تكريمياً ممتعاً وبهيجاً للزميلين الفاضلين الأستاذ أحمد عفاني، المهندس والإعلامي والكاتب والمثقف والناشط العربي الفلسطيني في صفوف الجالية العربية بألمانيا، ولاسيما ببرلين، والصديق الدكتور حامد فضل الله، الطبيب والكاتب والمثقف والناشط الحقوقي العربي الأفريقي السوداني، لدورهما المميز في مجال تمتين العلاقات بين أبناء وبنات الدول العربية والشعب الألماني، الذين يعيشون في كنفه وبين أبنائه وبناته ويتمتعون بثقافة هذا الشعب الرائعة، ويسعون إلى تحقيق التلاقح الثقافي بين الثقافات، ولنشرهما الكتب والكثير من المقالات والترجمات من الألمانية إلى العربية ومن العربية إلى الألمانية حول مواضيع مهمة في الثقافة والفنون وقضايا المسلمين والعرب عموماً بألمانيا. إضافة إلى كونهما من المناضلين ضد الشوفينية والعنصرية والتمييز الديني والطائفي وضد النظم الاستبدادية وغير الديمقراطية، وفي سبيل الحرية والحياة الديمقراطية والمجتمع المدني في منطقة الشرق الأوسط وفي سبيل السلام.  وتضمن الحفل كلمة ألقاها الزميل عصام الياسري رئيس المنتدى حول الثقافة والمثقف ودورهما في حياة الشعوب العربية وفي الشتات العربي، وأهمية تنشيط الحياة الثقافية في صفوف الجالية وضرورة إيصالها إلى الألمان أو التمتع بالثقافة الألمانية، مؤكداً على دور المثقف العربي الديمقراطي في نشر الفكر الديمقراطي الحر والثقافة الديمقراطية والدفاع عن القيم الإنسانية والحضارية، ومنها الثقافة والفنون التي تعاني اليوم الأمرين في الدول العربية. وكان التفاتة جميلة أن تقدم الكلمة باللغة الألمانية أيضاً، بسبب حضور مجمعة من النسا والرجال الألمان من أصدقاء الزميلين والمنتدى.
ثم قدم كل من الزميل عصام الياسري ملف التكريم إلى الأستاذ أحمد عفاني، والزميل قيس الزبيدي ملف التكريم للدكتور الطبيب حامد فضل الله. تضمن الملفان كلمات تقييمية ودية من أصدقاء الزميلين بهذه المناسبة، كما تضمنا صوراً عن حياتهما ونشاطهما في الوطن وفي المانيا. ثم قدم الزميلان نبذة عن حياتهما ونشاطهما في الوطن وألمانيا في مجال الثقافة والحياة الاجتماعية للجالية في ألمانيا، إضافة على مجال الطب بالنسبة للزميل حامد فضل الله، ولاسيما في مجال الدفاع عن مصالح الجالية وحقوق الإنسان في بلدانهم.
وقد تخلل الاحتفالية عزف جميل على العود وغناء عربي من عازف العود ذاته. وقد غصت القاعة بالحضور وأجبر العديد منهم على الوقوف احتفاء بالزميلين. كان هذا التكريم هي المبادرة الثانية من جانب المنتدى في تكريم الشخصيات الثقافية والفنية والاجتماعية من مواطني ومواطنات الدول العربية وألمانيا، وكان الأول هو الزميل الفنان التشكيلي المبدع منصور البكري، الراقد حالياً في المستشفى..، نتمنى له الشفاء العاجل والعودة إلى إبداعه في الفن التشكيلي وفي النشاط الثقافي العام. وقد وضع المنتدى مشروعاً لتكريم شخصيات تعيش في المانيا وتساهم في حياة ونشاط الجالية العربية والعراقية. 
وقد شاركت بهذه الاحتفالية بكلمة عن صديقي الفاضل والعزيز الدكتور حامد فضل الله التي وضعت في ملف التكريم مع بقية الكلمات، كما شاركت منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق، ألمانيا/أمرك بكلمة بهذه المناسبة وضعت في الملف أيضا. في أدناه نص الكلمتين:     
الصديق العزيز الدكتور حامد فضل الله   
يعتبر الصديق الدكتور حامد فضل الله واحدا من أبرز أعمدة وشخصيات الحياة الثقافية والاجتماعية العربية بألمانيا، ولاسيما ببرلين. تجمعنا صداقة ما بعد الخمسين من العمر التي غالباً ما تقوم على المبادئ وبعيداً عن المصالح، إذ تعتمد الأخوة والفهم المتبادل عند الاختلاف، والتضامن والتعاون والعمل المشترك في حقول الثقافة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وهموم العالم العربي المتراكمة والمتفاقمة. ومنذ بداية التسعينات أصبحنا أصدقاء لما تبقى من العمر. أرجو له ولعائلته ولكم طول العمر والصحة والعافية.
للصديق والأخ حامد فضل الله خصال لا تفوت على من يتعرف عليه. فهو إنسان متواضع، دمث الخلق وشفاف الطبع، طيب المعشر، كريم النفس، صريح ونزيه اللسان وصادق القلم، يمد يد المساعدة بأكثر من المستطاع، مما يكلفه صحته. له علاقات ودية واسعة مع العرب وغيرهم ببرلين، بغض النظر عن وجهات نظرهم السياسية، فالعلاقات الاجتماعية عنده ذات نكهة إنسانية حميمة يفترض ألَّا تضيع في أجواء اختلاف الآراء أو المواقف السياسية، له رأيه ومواقفه السياسية الإنسانية في الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته، وحقوق القوميات، وحقوق المرأة ومناهضة كل أشكال العنصرية والطائفية، والتمييز الديني والمذهبي، والتمييز ضد المرأة. الصديق حامد من الملتزمين بالحكمة المندائية التي تقول: "ويل لعالم لا ينفتح على غيره، وويل لجاهل منغلق على نفسه".   
حين بدأت أبحث عن شخصيات ديمقراطية من دول عربية تشارك معي في تشكيل منظمة تساهم مع منظمات أخرى في الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية، وبعد أن كنت عضواً في المنظمة العربية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وجدت في حامد فضل الله ونخبة من الأخوة والأخوات من الدول العربية، خير عون وناشط في هذا المجال، وهو ما يزال يناضل على هذا السبيل. وفعلاً أسست "منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية" في العام 1991، وقدمت الكثير من المساعدات للاجئين والمقيمين من الدول العربية، ولكنها أصبحت ميتة سريرياً!
حامد طبيب نسائية، فأضفت عليه مهنة الطب النبيلة، ولاسيما النسائية، الكثير من نكهة المرأة والود الصادق والوفا للأصدقاء والدفء الإنساني في علاقاته مع الآخرين، كما وجدت طريقها إلى كتاباته وقصصه القصيرة، التي تحمل عبق النسوة والطرافة واللقطة المميزة والذكية والمؤثرة.
حامد كاتب مقل ومتميز، كتاباته تتميز بلغة سليمة ورشيقة، يختار كلماته كما يختار الطبيب الدواء الناجع لمريضه. ويمكن للقراء أن يجدوا ذلك في كتابه الوحيد والمهم الموسوم "أحاديث برلينية" وضع فيه خلاصة تجاربه وحياته وعلاقاته منذ أن غادر السودان ليحط بألمانيا ليدرس اللغة والطب والثقافة الألمانية.
حامد مثقف عضوي هادف ومؤثر بالمعنى الغرامشي. يكتب الشعر الشعبي بالسودانية، ومقل فيه أيضاً، ويحفظ الكثير من الشعر السوداني الشعبي، ويبدع في استخدامه.         
حامد قارئ نهم باللغتين العربية والألمانية، أحب الترجمة إلى جانب الكتابة. يختار منها ما يراه نافعاً للعرب، ولاسيما المسلمين، بما يساعدهم على فهم الألمان وثقافتهم، وما يفترض أن يكونوا عليه وبعيداً عن التطرف الديني أو القومي والمغالاة بها، كما يترجم ما يراه نافعاً للألمان لفهم مواقف ونهج العرب بعيداً عن مواقف الذين اكتووا بنار الحروب والإرهاب التي تركت تبعاتها وتداعياتها وأخلاقها على سلوكيات بعضهم المشينة. يقف بوضوح إلى جانب اللاجئين ويطالبهم بالاندماج بالمجتمع الألماني والأوروبي وليس الانصهار فيه، ويثني على مواقف الألمان في استقبالهم للاجئين ويطالبهم بالمزيد من قبول الآخر والتفاعل معه والتلاقح الثقافي وتوفير مستلزمات تنشيط وتسهيل عملية الاندماج بالمجتمع الألماني.
محاولات حامد الفكرية والعملية جادة في إيصال الفكر والأدب الديمقراطيين السليمين في الثقافة العربية إلى الألمان، وهي مشاركة مهمة ومحمودة وتحتاج إلى رعاية للإكثار منها. يمتلك حامد حساً نقدياً رفيع المستوى مدركاً لدور النقد وضروراته وأهميته، صريحاً وجريئاً في ممارسته، ولكنه يرفض الإساءة والتجريح!
همٌ إنساني نبيل يؤرق حامد، إنها العلاقة المتوترة وضعف التعاون والتضامن بين جاليات وأفراد الدول العربية. فالاستبداد الحكومي والحروب والإرهاب والقمع والفساد والحرمان وغياب الحريات والحياة الديمقراطية والدستورية وتفاقم الفجوة بين مستوى حياة ومعيشة الأغنياء المتخمين، والفقراء البائسين، رغم غنى الأوطان، هي الظواهر السائدة منذ عقود بالدول العربية، والتي تركت آثارها السلبية العميقة على العلاقات بين مواطنات ومواطني الدول العربية بألمانيا وعموم أوروبا. وكثيراً ما بذل حامد الجهد لإصلاح ذات البين، ومنها مثلاً دوره النبيل لإصلاح العلاقات المتوترة بين الجماعات العراقية ببرلين، والتي لم ينجح في تحقيقها، وكذا الحال في سعيه للمّ الصف السوداني بعيداً عن السياسة، فالمشتركات الثقافية والاجتماعية والإنسانية أكثر بكثير من دور السياسة في التفريق والتباعد... الود وعدم نسيان الأصدقاء والأحبة والحنين والوفاء لهم هي من أبرز خصاله الطيبة.
لا يغيب حامد عن الندوات الثقافية التي تعقدها المنتديات العربية ببرلين إلا إذا كان في وعكة صحية. ويساهم بحيوية فيها ويدعو الآخرين للمشاركة فيها، لاسيما وهو يلاحظ الإحباط الشديد في صفوف مواطني ومواطنات الدول العربية واحجامهم عن المشاركة في مثل هذه الفعاليات، باعتبارها جزءاً من الكارثة التي تعاني منها شعوب الدول العربية بحكم الاستبداد السياسي والحروب والإرهاب والخراب الاقتصادي والتدخل الأجنبي الدولي والإقليمي والإحباط النفسي والتمييز ضد المرأة، إنها جزءٌ من المهمات التي يفترض أن ينهضوا بها، وهم في الخارج، مواطنات ومواطنو الدول العربية لصالح شعوبهم.   
الشكر الجزيل للأخ عصام الياسري ومنتدى بغداد الثقافي على هذا التكريم الجميل، فهو تكريم صادق لشخصية ثقافية وإنسانية نبيلة، إنه الأخ والصديق الدكتور حامد فضل الله.
كاظم حبيب
برلين في 3 تموز/ يوليو 2018

السيدات والسادة الكرام
الأخ والصديق الدكتور حامد فضل الله المحترم
اسعدنا جداً مبادرة تكريمك من قبل منتدى بغداد الثقافي ورئيسه الأخ السيد عصام الياسري. فهي مبادرة قيمة يشكرون عليها.
منذ أن تعرفنا على الأخ الدكتور حامد فضل الله في حقل النضال في سبيل الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية وعن حقوق الأجانب واللاجئين في ألمانيا في أوائل العقد الأخير من القرن العشرين، كان وما يزال يعتبر مثالاً وقدوة حسنة لأعضاء منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية، وكذلك مسانداً لنضال منظمتنا، منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق/ أمرك المانيا. فمنذ سنوات وهو يتابع، بحرص كبير على شعب العراق، أوضاع البلاد والحروب المدمرة التي خاضها نظام صدام حسين والعواقب الوخيمة التي نتجت عنها، ولاسيما في مجال حقوق الإنسان، ولاسيما حق الإنسان في الحياة والعمل والكرامة. كما كان وما يزال يتابع باستياء كبير التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية في الشأن العراقي، وما نشأ عنها من حروب وصراعات دموية، والتي ما يزال يتعرض لها العراق وما نتج عنها من موت وخراب ودمار، ولاسيما بعد غزو عصابات داعش الإجرامية للموصل ومناطق أخرى من العراق. وأدرك بحس سليم، ومنذ البدء، ما يمكن أن يتعرض له العراق بسبب الحرب التي شنتها الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة في العام 2003 ضد العراق وإقامة نظام طائفي سياسي فاسد في البلاد.
أننا إذ نحيي العزيز حامد في يوم تكريمه، نرجو له الصحة الموفورة والمزيد من العطاء في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني في الدول العربية قاطبة. مع صدق ودنا واحترامنا الكبيرين
الدكتور غالب عبد العزيز العاني
رئيس منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق/ ألمانيا أمرك     
هامبورغ في، 03.03/2018
 
د. حامد فضل الله، برلين 2017

252
كاظم حبيب
فالح عبد الجبار، الإنسان الطيب والمناضل الشجاع والعالم الرصين
مات فالح على غير موعد، اختطفته يد المنون دون وداع، هكذا هو الموت..، يأتي على غير موعد، لا يعلن عن قدومه، زائر غريب ومضني لا يمكن ردّه..، جاء في وقت غير مناسب، لم يمهله لإنهاء الفكرة في المذياع، أتعبه موضوع العراق المنهك وهو يتحدث في فترة قصيرة عن تاريخ العراق المأساوي.. ها هو الموت يختطف من جديد صديقاً ورفيقاً ومناضلاً آخر.. يختطف الأحبة واحداً بعد الآخر.. سعدنا برؤيته على شاشة التلفزيون، وأنهكنا الحزن قبل ان ينهي الموضوع!!   
كان فالح في قمة عطائه الإنساني، وفي حركة دائبة غير قادر وغير راغب على التوقف ولو لحظة واحدة ليريح قلبه المتعب مما جرى ويجري في العراق الجريح وفي المنطقة!! كان شعلة وهاجة ينير درب الآخرين ويشتعل ذاتياً.
  التقيته قبل فترة وجيزة، تجولنا في شوارع برلين اخترنا مطعماً هادئاً، جلسنا وتحدثنا في همومنا المشتركة، وتحاورنا عن المشاريع الكثيرة الواعدة التي كان ينوي القيام بها وإنجازها، وتحدثت له عما أقوم به فيما تبقى من سنوات عمر الشيخوخة. اتفقنا على تنشيط فعاليات بعض منظمات المجتمع المدني التي نعمل فيها، وأن نكرس وقتاً أكثر لها. كان لا يهدأ.. في زحمة أعماله الكثيرة وسفراته المكوكية في أنحاء العالم، كان يحمل حقيبته الصغيرة وأوراقه وأقلامه ونظارته. منذ وفاته شلت يدي عن الكتابة عنه لقسوة المفاجئة، رغم معرفتي بقلبه العليل.. مات وهو لا يحمل غير أوراقه وقلمه، وفي قلبه يحمل زوجته العزيزة فاطمة المحسن وابنته فيروز وولديه خالد وعلي والكثير الكثير من الرفاق والأصدقاء والمحبين والمعجبين بكتاباته.. 
لقد عمل فالح بدأب العالم المفكر، ومنهجية الباحث الجاد والرصين، فهو شديد الذكاء، دقيق الملاحظة، سريع البديهة، قوي الذاكرة وموسوعي المعرفة مع اعتداد بالنفس. عمل فالح بإخلاص على وفق الحكمة المندائية القائلة "ويل لعالم غير منفتح على غيره، وجاهل منغلق على نفسه"!
كانت لقاءاتنا قليلة، ولكن كنا حين نلتقي تكون موضوعات البحث العلمي والمشاريع التي نقوم بها هي مادة الحديث، إلى جانب أوضاع الشعب العراقي والمنطقة وأوضاع العراقيات والعراقيين في الخارج ومشكلاتهم المعقدة بسبب تعقد أوضاع الداخل.
لقد كان رفيق درب نضالي طويل، كان منفتح العقل والقلب، يكره القيود على الفكر والممارسة، يريد أن يكون طائراً حراً يحلق في الأعالي، ليرى بأفق أوسع ما على الأرض وفي السماء، ثم يحط على الأرض، ليتلمس برؤية مباشرة وموضوعية وهادفة ما يمكن أن يكون نافعاً فيما يكتب وينشر.
عشنا فترة معاً، وفي موقع واحد، في الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي، ضمن حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في جبال وارياف وقرى كردستان العراق، كانت واحدة من مراحل النضال الصعبة ضد نظام البعث والدكتاتورية والحرب والعدوان، وفي سبيل عراق ديمقراطي مدني حر، وشعب ينعم بالحرية والرفاه، وقوميات تتمتع بحريتها وحقوقها الأساسية.
مات فالح مبكراً، خسرناه مفكراً ومناضلاً وصديقاً رائعاً.. أنجز أبو خالد العزيز الكثير وبقي الكثير الذي فكر وعمل على إنجازه.. ستبقى صورته في ذاكرتنا وستبقى كتاباته تساهم في إنارة طريق النضال لغد أفضل بالعراق والمنطقة. التعازي القلبية للعزيزة فاطمة المحسن ولبقية افراد عائلته ورفاقه ومحبيه.           

253
كاظم حبيب
هل ستكون الانتخابات القادمة نزيهة في ظل نظام طائفي فاسد؟
منذ سنوات والانتخابات النيابية بالعراق تجري في ظل نظام سياسي طائفي فاسد، فلم يحص العراق من ذلك سوى مجالس نيابية مليئة بالعناصر الطائفية والفاسدة ووظفت سلطة المجلس لتحقيق مصالحها والاستمرار في استمرار وجود النظام الفاسد وإعادة إنتاج الأوضاع الفاسدة التي تسمح للفاسدين في احتلال لا مقاعد مجلس النواب فحسب، بل والسلطة السياسية والمواقع الأساسية في أجهزة الدولة المختلفة والقضاء أيضا.
ويراد للانتخابات القادمة، التي يجري التحضير لها حالياً، أن تجري في ظل ذات الأوضاع والشروط التي جرت فيها الانتخابات في الدورات السابقة. فما هي الشروط الفعلية الراهنة التي أجمعت الأحزاب الإسلامية السياسية والمتحالفين معها، على إبقائها كما هي؟ يمكن تلخيصها، كما أرى، بالآتي:
1. تجري الانتخابات في ظل نظام سياسي طائفي أُعتمد في تشكيل سلطته السياسية، كغيرها من الحكومات التنفيذية السابقة، على المحاصصة الطائفية والأثنية في توزيع الحقائب الوزارية، والتي لا تعتمد مصالح الشعب، بل مصالح الأفراد والأحزاب التي ينتمون إليها. وهذا كلام لا يطلق جزافاً على عواهنه، بل يعتمد على حقائق الوضع بالعراق، والتي يمكن تقديم ألف دليل ودليل للبرهنة عليه، وباعتراف المسؤولين في الدولة.
2. تجري الانتخابات بإشراف المفوضية العليا "المستقلة!" للانتخابات، التي تشكلت على أساس المحاصصة الطائفية السياسية، والتي لم تبرهن قبل ذاك على حياديتها ولا يمكن أن تؤمَّنَ انتخابات حيادية ونزيهة في الجولة القادمة.
3. قانون الانتخابات لا يبشر بالخير ويعتمد طريقة غير سليمة في احتساب أصوات الناخبين والتي تخدم مصالح الأحزاب السياسية الحاكمة أولاً وقبل كل شيء، وضد الأحزاب التي يطلق عليها بالصغيرة.
4. وقانون الانتخابات لا يمنع الفاسدين الذين نهبوا أموال الدولة أو فرطوا بها من المشاركة في الترشح لخوض الانتخابات، بل يلتزم جانبها. وهو تأكيد جديد كون الفاسدين أنفسهم وضعوا قانوناً يسمح لهم بالعودة إلى مجلس النواب، رغم كل أنواع السحت الحرام الذي دخل في جيوبهم وكروشهم وحساباتهم المصرفية في الخارج.
5. والانتخابات تجري في ظل أوضاع ما يزال النازحون في عدد من محافظات البلاد يعيشون في أوضاع رثة ومريرة، ولا تسمح لهم بمشاركة واعية وعقلانية وأجواء سليمة في إعطاء أصواتهم بحرية ونزاهة، كما إن الفساد يحاول اصطيادهم، 
6. والانتخابات تجري في ظل وجود 206 أحزاب سياسية أجيزت لخوض الانتخابات، وهو تعبير لا عن فوضى الحياة السياسية العراقية فحسب، بل وعن فسادها وفساد الحياة السياسية وعن غياب البرامج الحزبية الجادة التي تقنع الجماهير بصواب ترشحها لخوض الانتخابات. وكم كانت سلام خياط صادقة في مقالها الموسوم " وكل حزب بما لديهم، فرحون!!" حين كتبت " يستدل على مرض الملاريا بالحمى والبرداء والتعرق ، يستدل على مرض التايفوئيد بارتفاع درجات الحرارة ، يستدل على مرض الهيضة بالاستفراغ المتكرر .. يستدل على سقوط المطر بتكاثف السحب والغيوم … فبماذا يستدل على كثرة الأحزاب المعلنة في بلد مزقته أحقاد الطائفية وتناهبه الفساد ؟؟" (جريدة المدى، الأعمدة، 21/02/2018).
7) وحين يسيطر الحزب الحاكم والأحزاب المتحالفة معه من قوى الإسلام السياسية الطائفية على أجهزة إعلام الدولة وتسخرها لصالحها، إضافة إلى امتلاكها الكثير من قنوات التلفزة الخاصة بها والممولة من جانب إيران أو قوى أخرى في المنطقة. وهي في الوقت ذات تمتلك الكثير من الموارد المالية التي توظفها لشراء الذمم والداعية الواسعة.
8) وحين يلعب الدين دوره المشوه عبر شيوخ دين غير متنورين ومنحرفين ومتحالفين مع الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي تمارس خداع الناس وتزوير إرادتهم عبر ركوب موجة نشر الطقوس غير العقلانية في صفوف الناس واستخدام المساجد والحسينيات لدعم المرشحين الطائفيين والفاسدين من جهة، ونشر الدعاية المضللة والكاذبة ضد القوى الديمقراطية والتقدمية واللبرالية من جهة ثانية.     
 9) التدخل الإيراني الفظ في الشأن الداخلي العراقي، في فترة التحضير للانتخابات العامة القادمة، حين صرح السياسي الإيراني علي أكبر ولايتي، وهو مدعو للمشاركة في "مؤتمر إسلامي"، بمطالبة "المقاومة الإسلامية!" بـ "عدم السماح للشيوعيين والليبراليين بالعودة إلى الحكم في العراق"، وكأنهم كانوا في الحكم قبل ذاك. كما لا شك في وجود تدخل فظ من جانب الجيران الأخرين كالسعودية وقطر والإمارات.. الخ، والذي ظهر بصور شتى.   
فهل يتوقع في مثل هذه الأجواء والشروط أن تحصل انتخابات جادة وحيادية ونزيهة يصل فيها ممثلو الشعب الحقيقيين إلى مقاعد مجلس النواب؟ اترك الإجابة لكل عراقي وعراقية يحملان وعياً بما جرى ويجري بالعراق، وضميراً نظيفاً، وحساً ديمقراطياً صادقاً، وهم الغالبية العظمى من الشعب العراقي، وهي الغالبية التي كانت وما تزال ساكتة!!! 

254
الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في المجتمع العراقي
الحلقة الأولى
منذ سنوات، العراق يمّرُ بفترة صعبة ومعقدة ومتشابكة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً من ناحية، وداخلياً وعربياً وإقليميا ودولياً من ناحية ثانية، وتعاني مكوناته القومية وانتماءاته الدينية والمذهبية والفلسفية والفكرية من مصاعب جمة ومظالم كبيرة وإخفاقات لا حصر لها. إلا أن هذه الفترة، حيث تهيمن قوى وأحزاب إسلامية سياسية طائفية على الدولة والحكم، لا تنفصل عن الفترة السابقة حيث كانت قوى وأحزاب قومية وشوفينية مستبدة تهيمن على السلطة السياسية طيلة أربعة عقود عجاف، كما لا تنفصل عن معاناة شعب وداي الرافدين من نهج الاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز بمختلف صوره وأشكال ظهوره، وكذلك الاستغلال والحرمان والقهر عبر تاريخه السياسي والاجتماعي المديد. إن هذه المعاناة لم تنزل عليه من آلهة السماء، كما إنها ليست من آلهة العالم السفلي، بل كانت وما تزال نتيجة منطقية لجملة من العوامل الفاعلة والمؤثرة على تكوين البنية العقلية والنفسية للفرد والمجتمع، وهي التي تعيد إنتاج نفسها، وتكون السبب في استمرار بروز تلك الظواهر أو حتى تفاقمها، والتي عاش وما يزال يعيش الإنسان العراقي والمجتمع تحت وطأتها. لا شك في أن المسيرة التاريخية الطويلة للعراق قد شهدت تحولات وتغيرات معينة، ولكنها كانت في المحصلة النهائية غير جذرية وولم تكن قادرة على إزالة تلك العوامل أو الأسباب التي كانت وما تزال بروز تلك الظواهر!
ومن بين أبرز تلك الظواهر السلبية نشير هنا إلى ثلاث أساسية هي: 1) الاستبداد في الحكم، و2) القسوة في التعامل وممارسة التعذيب، و3) التمييز في الموقف من المواطن على أساس قومي أو ديني أو مذهبي أو فكري أو سياسي أو من حيث الجنس.
 وفي هذه الدراسة المكثفة محاولة للولوج إلى صلب هذه المسائل السائدة في المجتمع العراقي بهدف الوصول إلى رؤية موضوعية وعلمية تؤشر الأسس المادية، أي العوامل أو الأسباب الفعلية، التي تكمن وراء بروز هذه الظواهر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العراقية، في حياة الإنسان والمجتمع بالعراق، وفي عملية إعادة إنتاجها.
تشير دراسات وأبحاث وكتب غير قليلة صادرة خلال العقود الخمسة المنصرمة إلى رأي مفاده أن الشعب العراقي عموماً يتميز بالقسوة والشراسة والتطرف والعنف في التعامل فيما بين أفراده ومكوناته ومع الآخرين. وأن هذه الميزة الثابتة فيه منذ القدم، هي التي انتجت وما تزال تنتج المستبدين والنظم الاستبدادية. وأن هذه الخصائص التي ما تزال تميز العراقيين، تتجلى في أفعال الفرد والمجتمع إزاء الأحداث التي يمر بها وردود الأفعال نحوها وطريقة التعامل معها. وهي لا تتجلى في الممارسة اليومية للفرد والمجتمع فحسب، بل تبرز بشكل صارخ في التشريعات التي عرفها العراق القديم حتى يومنا هذا، وخاصة تلك القوانين العقابية التي تنص على أحكام وعقوبات قاسية جداً بحق المخالف أو الجاني التي لا تتناسب مع طبيعة تلك المخالفات أو الجنايات التي ارتكبها الفرد.  وتدخل ضمن تلك العقوبات مختلف الإهانات والإساءات أو أشكال التعذيب الجسدي والنفسي وتنوع وتعدد أساليب القتل والتمثيل بجسم القتيل واضطهاد أفراد عائلته. وتشير أيضاً إلى جرائم القتل التي ارتكبت على مدى تاريخ العراق القديم والإسلامي والحديث، ومنها المذابح التي نظمها القادة العسكريون أثناء الفتح الإسلامي الأول ومن ثم الأمويون والعباسيون والمغول والدويلات التي نشأت بعد المغول حتى الاحتلال العثماني للعراق، ثم العثمانيون والفرس والمماليك وقوات الاحتلال البريطانية والحكم الملكي والحكم الجمهوري، بما فيها وقائع سحل بعض المسؤولين التي حصلت في بغداد في أعقاب ثورة تموز عام 1958، أو أحداث الموصل وكركوك، إضافة إلى ما جرى ويجري في العراق منذ عدة عقود من اعتقال وسجن وتعذيب وتهجير قسري وتعريب وقتل وتذبيح للسكان الأبرياء في كردستان العراق، وبشكل خاص مذابح عمليات الأنفال واستخدام الأسلحة الكيميائية في حلبچة وغيرها، أو عمليات الإعدام الواسعة والجماعية لقوى المعارضة العراقية من مختلف التيارات الفكرية والسياسية في السجون والمعتقلات العراقية خلال السنوات التي أعقبت انقلاب شباط/فبراير عام 1963 حتى سقوط النظام الاستبدادي، أو القتل الواسع النطاق الذي قامت به أجهزة الحكم الأمنية والقوات الخاصة لحزب وحكم البعث ضد المنتفضين في الوسط والجنوب وفي كردستان العراق في ربيع عام 1991، وإجبار مئات الآلاف من المواطنين الكرد، ومن قوميات أخرى على المسيرة المليونية إلى تركيا وإيران هرباً من بطش النظام الصدّامي ودمويته، أو ملاحقته للآلاف من الهاربين بعد الانتفاضة من الوسط والجنوب إلى إيران والسعودية، يضاف إلى ذلك جرائم القتل والتعذيب أثناء عمليات التطهير العنصري ضد الكرد الفيلية وعرب وسط وجنوب العراق، باعتبارهم من أصل إيراني أو تبعية إيرانية. أو ما جرى في أعقاب سقوط النظام في عام 2003 وبروز مجموعات إرهابية همها إثارة الفوضى وعدم الاستقرار وقتل الأبرياء أو إشعال الحرائق والتخريب والنهب والسلب وما إلى ذلك. كما تشير هذه الموضوعة إلى واقع أن القسم الأعظم من ملوك وحكام وادي الرافدين قد قتلوا بصيغ شتى، ونادراً من مات منهم موتاً طبيعياً.  ثم جرائم الإبادة الجماعية الجديدة التي ارتكبت بالموصل وبقية مدن وأرياف وقرى محافظة نينوى وفي مدن عراقية أخرى في أعقاب هروب القوات المسلحة العراقية وقوات الپيشمرگة أمام عصابات داعش الإرهابية والتكفيرية وعمليات القتل والسبي والاغتصاب على أيدي عراقية وقوى إسلامية سياسية من شذاذ الآفاق منذ 2014 حتى نهاية العام 2017 بحق الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، ومجزرة قاعدة سپايكر الجوية على أيدي عصابات داعش.       
تتضمن هذه الرؤية على جملة الوقاع الفعلية. إذ أنها تستعرض وقائع تاريخية ثابتة جرت في العراق ولا خلاف عليها. وهي بطبيعة الحال تعبر عن ممارسات تتسم بالقسوة البالغة والعنف المتطرف لا يمكن ولا يجوز نكرانها أو التخفيف منها ومن آثارها. ولكنها تضع العربة قبل الحصان، إذ تضع النتائج كأسباب، وبالتالي تعجز عن وضع اليد على العوامل الفعلية. والمطلوب هنا هو التحري عن العوامل التي تسببت في بروز تلك الظواهر وفي استمرار إعادة إنتاجها.
يشير البعض من الكُتّابِ والباحثين إلى أن العراق قد عرف في تاريخه الطويل أنظمة سياسية استبدادية ودموية مارست كل الظاهر السلبية، سواء أكانت تلك النظم ملكية أم جمهورية، وسواء أكان الحكام ملوكاً أم خلفاء إسلاميين، أم قادة عسكريين، أم رؤساء قبائل وعشائر أم قوات احتلال أجنبية. أي إن السبب يكمن في هذه النظم. وهذا الأمر صحيح نسبياً أيضاً، ولكنه، هو الآخر نتيجة لعوامل أساسية كانت وراء نشوء أو إقامة مثل هذه النظم السياسية المستبدة. كما إن هذه الموضوعة تتضمن في الوقت نفسه أحكاماً قاطعةً موجهة إزاء شعب بأكمله، لا يمكن قبولها كما هي، بل يفترض مناقشتها والتحري عن العوامل الكامنة وراء ظهورها أو الأسباب المحركة أو الدافعة لها. وتشير الكثير من الوقائع الحياتية إلى أن الغالبية العظمى من الناس في العراق أصبحت تؤمن بهذه الأحكام وكأنها حقيقة ثابتة وترددها دون انقطاع وتنعكس في كتاباتها ونقاشاتها، سواء تم ذلك عن وعي أم عن دون وعي منها، بما تنطوي عليه هذه الأحكام وما تحمله من مضامين وعواقب. وهي تحرم المجتمع من فرصة التحري عن الأسباب من جهة، وعن سبل معالجتها من جهة أخرى، إذ أن جمهرة غير قليلة لا تعتقد بإمكانية معالجة هذه الظواهر أصلاً، باعتبارها جزءاً من طباع العراقيين الثابتة. ويبدو أن هذه الجمهرة قررت سلفاً، أو تعطي الانطباع على الأقل، وكأن العراقيين، نساءً ورجالا، حالما يولدون يحملون معهم "وراثياً" جينات الاستبداد والقسوة والسادية والرغبة الجامحة في التعذيب، والشراسة والتطرف والعنف، وأنهم بسبب ذلك غير قادرين على الخلاص منها واستبدالها بجينات الرحمة والهدوء والاعتدال والدفء وعدم التطرف في التعامل فيما بينهم أو مع الآخرين. فهو بهذا المعنى قدر العراقيين الحتمي الذي لا فكاك ولا خلاص منه.
ولكن العراق، وكما أرى، بحاجة ماسة ودون أدنى ريب إلى خوض نقاش علمي وجاد ومتواصل حول هذا الواقع وتلك الظواهر الفعلية السائدة كالاستبداد والقسوة والقمع والعنف في السلوك العام في حياتنا نحن بنات وأبناء العراق، إذ بدون ذلك يصعب علينا التخلص من هذه الظواهر ومن الأساس المادي الذي نمت فيه وتطورت عليه، وأصبحت وكأنها جزءٌ من السلوكية والشخصية العراقية. كما يمكن أن يشارك إلى جانب الباحثين العراقيين في إنجاز أبحاث متخصصة علماء في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والطب من بلدان عربية وغير عربية لمساعدتنا في فهم هذه الظواهر ومعالجتها.
أصدر بعض الكتاب العراقيين ومن دول أخرى، وفي فترات مختلفة، عدداً من الكتب المهمة والقيمة التي تبحث في موضوع الاستبداد والقسوة والتعذيب والعنف في العراق أو في المجتمع الإسلامي عموماً والعراق خصوصاً. وإذا كان بعضهم استعرض بشكل موسع ومتعدد الجوانب مختلف أنواع القسوة والتعذيب والاستبداد ومعاناة الإنسان، وبذل جهداً كبيراً في جمع وتصنيف وتدقيق الكثير من المعلومات المتناثرة في عدد كبير من الكتب خلال القرون المنصرمة، كما في الكتاب الطليعي المتميز الذي أصدره الباحث والمحامي عبود الشالجي الموسوم "موسوعة العذاب" بأجزائه السبعة،  فأن كتاباً آخرين سعوا ضمن محاولة جادة إلى استعرض (أو) وتحليل العوامل الكامنة وراء بروز ظاهرة القسوة والتعذيب والاغتيال في الإسلام، كما في كتاب عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"[ii]، وفي أبحاث الكاتب الراحل الأستاذ هادي العلوي[iii]، أو كتاب السيد باقر ياسين الموسوم "تاريخ العنف الدموي في العراق"[iv]، أو كتاب "ثقافة العنف في العراق" للكاتب سلام عبود[v]، أو كراس "تشريح الاستبداد: النظام العراقي نموذجاً" للكاتب إسماعيل شاكر الرفاعي[vi]، أو في كتابي السيد كنعان مكية الموسومين "القسوة والصمت"[vii]، و"جمهورية الرعب"[viii]، إضافة إلى أبحاث الأستاذ الدكتور علي الوردي الخاصة بالمجتمع العراقي، ومنها دراسته لـ "شخصية الفرد العراقي"، وكتب "وعاظ السلاطين"[ix]، والمجلدات الستة مع الملحق الغزير بالمعلومات والتحليلات والموسوم "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"
  • ، وكذلك كتابين للدكتور كاظم حبيب، الأول بعنوان "الاستبداد والقسوة في العراق"[xi]، والثاني "الفاشية التابعة في العراق"[xii]، كما صدرت مجموعة أخرى من الكتب المهمة الأخرى التي سجلت ممارسات الإرهاب والقمع في العراق قبل وبعد ثورة تموز عام 1958، التي في مقدورها إنارة الطريق للبحث في هذا الموضوع المهم. منها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب "العبودية الاختيارية"، للكاتب الفرنسي إيتيان دو لا بويسي، حول الحرية والعبودية، أو كتابي الدكتور فالح مهدي المهمين ، وهما "الإحباط الشيعي والخضوع السني"،[xiii]و "البحث عن جذور الإله الواحد"[xiv]، التي ترتبط بدور الدين في التأثير على سلوك الفرد والمجتمع والعلاقات بين البشر.

يعتبر كتاب السيد باقر ياسين محاولة جادة وجهداً طيباً لاستعراض واقع الاستبداد والقسوة وعمليات التعذيب على امتداد فترة زمنية طويلة من تاريخ العراق من جهة، ودراسة العوامل الكامنة وراء بروز هذه الظاهرة في العراق من جهة أخرى، وأجرى مقارنة للتناقض القائم أو للمفارقة الفعلية بين شدة وسعة وعمق وشراسة العنف وديمويته في العراق من جانب، والحضارة الشامخة التي بناها شعب العراق على مر العصور، وخاصة في العصر البابلي، من جانب آخر، فكتب يقول: "إننا لا نريد ولا نرضى الإساءة لبلادنا العريقة - وادي الرافدين الخالد - لكننا نسعى بالتأكيد للتفتيش عن مجموع الدوافع الغريبة التي تقف وراء الأنماط من السلوك المتصف بالعنف الفائق والقسوة البالغة والتطرف والشدة والقهر والميل شبه الدائم نحو سفك الدماء والأعمال اللاإنسانية والنزوع العدواني في فرض الموت القسري على الإنسان في هذه البلاد منذ أكثر من خمسة آلاف سنة والذي ما زالت فصوله المخزية تدور دون توقف حتى يومنا هذا…"[xv]. ثم يواصل قوله مؤكداً ما يلي: "إننا لا نريد أن نبرهن هنا على وجود العنف الدموي والقسوة في حياة العراق ومسيرته التاريخية فحسب، بل نريد البرهنة إضافة إلى ذلك على وجود التطرف والمبالغة في تنفيذ العنف والقسوة والدموية، وسنحاول أن نثبت ذلك بالشواهد والوقائع والأحداث المستمدة من التاريخ العراقي لتسليط الضوء على هذا الموضوع وتشخيص بعض الجوانب المتميزة في طبيعة السلوك الاجتماعي لسكان هذه البلاد /الحكام والرعية/ ورصد مظاهر العنف والدموية كنزعة سيكولوجية ثابتة في حياة المجتمع العراقي"[xvi]. ثم أورد الكاتب سلسلة مرعبة من أحداث العنف والقسوة التي عاشها العراق على امتداد أكثر من خمسة ألاف سنة، إلى جانب العلوم والتقنيات التي اكتشفها أو اخترعها وساهم بها العراق في بناء حضارة الإنسان. ويورد كثرة من الشواهد على ذلك. ثم يكتب محللا ظاهرة العنف والقسوة على النحو الآتي: "إن التحليل المنطقي لهذه الظاهرة والأكثر انطباقاً على الواقع هو ما ينسجم مع منهج بحثنا ووجهة نظرنا عن شيوع العنف الدموي في العراق والتصاقه بتاريخ هذه البلاد على نحو استثنائي غير طبيعي، وإن مناخ العنف السائد في العراق باعتباره الميزة المستديمة لطبائع الأقوام والقبائل والناس إضافة إلى شيوع السلوك المتسم بالقسوة والشراسة والنفور والطباع الحادة وسيادة الأعراف البدوية والتقاليد القبلية الصارمة ذات النزوع الدائم للتمرد والثأر والعنف والتحدي الدموي والذاتية وقوة الشكيمة والعناد لدى سكان البلاد ربما كانت هي العوامل والأسباب التي دفعت خالد[xvii] لتلك التصرفات الدموية الشرسة والتشدد البالغ في العنف والإجراءات المتصفة بالقسوة والصرامة مع أهل العراق كي يستطيع فرض سيطرته على الموقف"[xviii]. ثم يقارن بين ما جرى في العراق وما جرى في بلاد الشام فيقول: "بينما كان غياب تلك العوامل والأسباب وانتفاء وجودها في الشام ربما هو السبب الذي أضفى على شخصية خالد الصارمة تلك الأبعاد الإنسانية من الليونة والمرونة والتسامح والصبغة السلمية التفاوضية التي اتسم بها سلوكه ومواقفه وتصرفاته خلال تنفيذ مهماته العسكرية في بلاد الشام"[xix]. ومن الجدير بالملاحظة أن الكاتب باقر ياسين، وهو عضو قيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي، جناح سوريا، حين أنجز هذا الكتاب، تجاوز بشكل كامل مجازر حزب وحكم البعث والقوميين في أعقاب انقلاب شباط الدموي المشؤوم بالعراق في العام 1963، وكانت أبشع الجرائم السياسية التي شهدها العراق منذ تأسيس الدولة العراقية حتى ذلك الحين. ثم يواصل باقر ياسين قوله مستنتجاً ما يلي: "أما إذا لم تكن تلك الأسباب هي الباعث لهذه الظاهرة فإن التفسير الوحيد لذلك التباين في حجم المعارك واتساعها ودمويتها بين العراق والشام هو أن يكون العنف الدموي القدر الإلزامي الذي يتوجب أن يلازم بلاد الرافدين وسكانها في كل الحقب والعصور"[xx]. وفي فقرة "تطبع المجتمع العراقي بالجدية والتذمر والحزن الدائم" يخلص باقر ياسين إلى القول: "كان من نتائج وانعكاسات تطبيق منهج العنف الدموي لفترات زمنية طويلة في تاريخ العراق، شيوع وانتشار بعض الطباع والعادات والسجايا الأخلاقية والسلوكية التي أصبحت، بمرور الزمن، جزءً من معالم وسمات المجتمع العراقي بعد أن طبعت بطابعها سلوك الفرد العراقي وحددت بدرجة كبيرة تصرفاته وميوله الشخصية بصورة عامة"[xxi]. والطباع هنا لا تعني التقاليد والعادات، إذ أنه يشير إلى العادات بعد الطباع مباشرة. فهل يعني في ذلك أنها غريزة من غرائز الإنسان أي أنها جزء من البنية البيولوجية للإنسان العراقي؟ وهل العنف هو حقاً من طبيعة الإنسان عموماً والعراقي خصوصاً، أم أن العنف والقسوة من جهة، والسلم والرحمة أو الرأفة من جهة أخرى، هما من السلوكيات المكتسبة عند الإنسان؟ ومما رفع من درجة الشك في هذا التصور محاولة السيد باقر ياسين اعتبار تلك النزعة وكأنها سيكولوجية ثابتة وموروثة وغير متغيرة في حياة المجتمع العراقي. وفي مكان آخر من الكتاب يقول السيد باقر ياسين، في معرض مناقشته لفكرة التبدل السريع في السلوكية والمزاج لدى الناس في العراق، ما يلي: "لقد أورد الباحث ستيفن لونگريگ أن سبب هذا التغيير الحاد والسريع في موقف الأهالي في بغداد من قاسم باشا هو "العنف الخالي من الحكمة الذي أبداه قاسم.. وسوء سلوك أحلافه الشمريين العقيل"[xxii]. غير أن ذلك السبب لا يبدو كافياً لإحداث مثل هذا التبدل الحاسم والمصيري في موقف الناس في بغداد بعد بضعة أيام من استقبالهم لقاسم باشا.. ذلك الاستقبال البهيج الحافل بمظاهر الفرح والتأييد والإجلال. إن السبب الذي يورده الباحث لونگريگ لا يمكنه أن ينفي شكوك الباحث المتتبع أو يبعد تفكيره عن الأسباب والمعاني المتعلقة بالجانب السلوكي والنفسي (السيكولوجي) للفرد العراقي ونزوعه الفطري في هذا المسلك خصوصاً إذا وضع في الاعتبار الأرضية التاريخية الغنية بالشواهد والأمثلة والدلائل والأحداث المماثلة التي يحفل بها التاريخ العراقي منذ قرون عديدة"[xxiii]. إن مجرى البحث والمقطع الأخير بشكل خاص، حيث يشير باقر ياسين إلى الجانب الفطري في السلوك العراقي، يؤكد للمتتبع مسألتين في آن، فهي مرة ظاهرة ملازمة لا باعتبارها مكتسبة بل فطرية، ومرة أخرى باعتبارها ظاهرة مكتسبة عبر السلوكية العامة للحكام والمجتمع العراقي في آن. وفي موقع آخر من الكتاب يذكر الكاتب في الفقرة الأولى من الفصل الأول وتحت عنوان: بلاد الرافدين: تاريخ عريق يبدأ بالعنف التصادمي، يقول الباحث ما يلي: "ليس غريباً أن يبدو التاريخ العراقي أمامنا غارقاً بأحداث العنف الدموي عندما نكتشف أن بدايات هذا التاريخ تتحدث للبشرية منذ بدء الخليقة عن قصص الصراع المتواصل القائم على العنف التصادمي بين الإرادات المتناقضة للآلهة المتعددة الأسماء التي عبدتها وخضعت لها الأقوام والحضارات التي قامت في وادي الرافدين منذ الألف الرابع قبل الميلاد، تلك القصص التي أبدعتها وصاغتها التجربة الأولى للعقل البشري والمتمثلة بالأساطير الملحمية لشعوب سومر وبابل وآشور"[xxiv]. ولكن علينا ألا ننسى بأن تاريخ العراق، أو وجود الإنسان في العراق، قد سبق هذا التاريخ بآلاف كثيرة أخرى من السنين، إذ لم يكن الوضع فيه على شاكلة العهد السومري أو حتى على شاكلة سكان تل العبيد قبل ذاك. إذ أن هاتين الحضارتين متقدمتان كثيراً بالقياس إلى حضارات أخرى في العراق سبقت حضارة تل العبيد وحضارة سومر. فالتنقيبات في المناطق المجاورة أو تلك التي أجريت في كردستان وشمال العراق عموماً تؤكد وجود الإنسان منذ ألاف السنين كما تشير إلى حياة وعلاقات تختلف عن حياة وعلاقات العهد السومري، وبالتالي فأن تاريخ سكان وادي الرافدين هو أقدم بكثير من العهد السومري، أي أنه لم يبدأ بالعنف الذي تميزت به عهود سومر وبابل وآشور، وهي تعبر عن حضارة جديدة تحققت في الثورة الثانية عملياً، أي حضارة دويلات المدن التي تختلف إلى حدود كبيرة عن حضارة عهد الصيد وجمع الثمار وحضارة الرعي والزراعة. إذ أن الحضارة الأولى وجزء مهماً من الحضارة الثانية، رغم تشابك الأخيرة مع حضارة دويلات المدن والدولة المركزية فيما بعد، تميزتا بعلاقات وسلوكية وسمات اجتماعية تختلف عن العلاقات والسلوكية الاجتماعية التي تشكلت في المدن ودويلات المدن في الحضارة السومرية والبابلية والآشورية والكلدية، باعتبارها حضارة ارتبطت بوجود دولة وتقسيم عمل اجتماعي وتملك خاص وفائض إنتاج وتنامي دور الدين والحياة المؤسسية للمجتمع والتي اعتمدت على وضع وتنفيذ القوانين والشرائع المختلفة. ومع ذلك تبين الشرائع الأساسية الأربع التي وضعت في العهود السومرية والبابلية والأشورية إلى أن الشريعتين الأولى والثانية لم تكونا تتضمنان عقوبات جسدية بحق من ارتكب مخالفات أو جرائم، بل كانت غرامات بدفع المذنب.[xxv]
والآن، كيف نفهم مضمون مثل هذه الموضوعات والآراء وبعض الأحكام التي تتضمنها إزاء الفرد في العراق، وبالتالي إزاء المجتمع أو الشعب في العراق؟ وما مقدار الحقيقة التي تحملها هذه الآراء والأحكام؟ وكيف يفترض أن نتعامل مع الحكم الرئيسي الشائع والقائل: الفرد العراقي عنيف ومتطرف بالطبع، أو أنه يحمل جرثومة العنف منذ الولادة؟ وما هي العوامل التي تسببت في انتشار مثل هذه المقولات؟ وكيف يمكن تجاوز هذا الأحكام؟ أو كيف يمكن التعامل معها؟ وكيف يمكن الخلاص منها؟
من أجل أن تكون الإجابة واضحة وموضوعية لا بد لنا من متابعة بعض النتائج الأساسية التي توصلت إليها الدراسات التي أنجزت في مجال الأنثروبولوجيا حول الكثير من الجماعات البشرية التي تسمى بدائية لمعرفة مدى وجود جملة من ظواهر العنف والقسوة والعدوانية في السلوك الإنساني عند تلك الجماعات، وتلك الدراسات الاجتماعية التي استفادت منها لطرح استنتاجها بهذا الصدد.
 
عبود الشالجي، موسوعة العذاب، مؤلف في سبعة أجزاء، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لندن، بدون تاريخ. 
[ii] عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهر، مصر.
[iii] العلوي، هادي. فصول من تاريخ الإسلام السياسي. دفاتر النهج. مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي. نيقوسيا. قبرص. 1995.   
[iv]باقر ياسين، تاريخ العنف الدموي في العراق، دار الكنوز الأدبية، بيروت ط 1، 1999.
تشكل دراسة السيد باقر ياسين محاولة جادة للبحث في أصل العنف الدموي في العراق، وهي تثير الكثير من الأسئلة التي يفترض فينا التحري عن إجابات لها. ولدي ثلاث ملاحظات أساسية حول الكتاب، والتي سأتناول بعضها في متن البحث مباشرة، وهي: 1) إن البحث تاريخي ومعاصر في آن واحد، فهو إلى جانب بحثه في تاريخ العنف، يتحرى عن الوقائع والدوافع والحلول أيضاً، كما جاء في عنوان الكتاب. ومع أن الكتاب مكون من 435 صفحة، فأن ما منح للفترة الواقعة بين 1958-1968 لا يزيد عن عشر صفحات فقط لا تتضمن التجربة التي سعى الباحث إلى تجسيدها في دراسته لتاريخ العنف في العراق، كما لم يتطرق إلى جوهر الإشكالية في هذا الصدد؛ 2) تجنب الباحث، علماً بأن البحث قد أنجر في عام 1999 أن يدرس الفترة التي أعقبت انقلاب 1968 حتى الوقت الحاضر، وهي من أكثر فترات العراق ظلامية وظلماً وعدوانية بحق الشعب العراقي؛ 3) ويدا لي أن الباحث حاول أن يعزي تلك الظواهر إلى طبيعة الشعب العراقي، وهي إشكالية سنحاول معالجتها في متن البحث مباشرة. ويمكن أن يكون النقص في معالجة الفترة 1958 وما بعدها ناشئ عن جانب منهجي، أي أن البحث يعالج تاريخ العنف في العراق، ولا يبحث في الحاضر. وإذا كان الأمر هكذا، فمن المفيد أن يواصل هذا البحث ويعالج الفترة التي أعقبت ثورة تموز عام 1958 مروراً بانقلاب شباط عام 1963 وتشرين الثاني عام 1963 وانقلاب عام 1968 حتى الوقت الحاضر. خاصة وأن الكاتب على علم بخبايا الفترة الواقعة بين 158-1968 بشكل خاص وما بعدها بشكل عام (ك. حبيب)   
[v] عبود، سلام. ثقافة العنف في العراق. منشورات الجمل. كولون. ألمانيا. 2002.
[vi] الرفاعي، إسماعيل شاكر. تشريح الاستبداد: النظام العراقي نموذجاً. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 1999. 
[vii] كنعان مكية، جمهورية الخوف، منشورات الجمل، 2009.
[viii] كنعان مكية، القسوة والصمت، منشورات الجمل، 2005.
[ix] علي الوردي، وعاظ السلاطين، دار ومكتبة دجلة والفرات، بغداد، 1954.
  • علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، في ستة أجزاء، طبع في قم، إيران على أساس الطبعة الأولى للكتاب، 1996م.
[xi] كاظم حبيب، الاستبداد والقسوة في العراق، مؤسسة حمدي للطباعة والنشر، السليمانية، كردستان العراق، العراق، 2005.
[xii] كاظم حبيب، الفاشية التابعة في العراق، مؤسسة حمدي للطباعة والنشر، السليمانية، كردستان العراق، العراق، 2008. 
[xiii] فالح مهدي، الخضوع السني والإحباط الشيعي، نقد العقل الدائري، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، القاهرة – جمهورية مصر العربية، طبعة أولى 2015 .   
[xiv] فالح مهدي، البحث عن جذور الإله الواحد، في نقد الأيديولوجية الدينية، دار العودة، بيروت-لبنان، 2017.
 [xv] باقر ياسين، تاريخ العنف الدموي في العراق-الوقائع - الدوافع – الحلول، دار الكنوز الأدبية، بيروت ط 1، 1999،
ص 16/17. 
[xvi] المصدر السابق نفسه، ص 19.
[xvii] المقصود هنا القائد العسكري العربي خالد بن الوليد.
[xviii]  باقر ياسين، مصدر سابق، ص 94. يقصد هنا خالد بن الوليد عند فتحه العراق والجازر التي ارتكبت بحق الأسرى من العراقيين والفرس في دفاعهم عن وطنهم ضد الفاتحين الجدد، لأنهم دافعوا عن وطنهم بحرارة ولم يستسلموا بسهولة.
[xix] المصدر السابق نفسه، ص 94.
[xx] المصدر السابق نفسه، ص 94/95.
[xxi] المصدر السابق نفسه، ص 411، المقصود هنا كتاب ستيفن هيمسلي لونگريگ، أربعة قرون من تاريخ العرق الحديث، ترجمة جعفر الخياط، مأخوذ عن الطبعة الرابع’ طبع انتشارات الشريف الرضي، قم-إيران، 1997.
[xxii] لاحظ هنا أن الكاتب لونگريگ يطرح فكرة مفادها أن العنف يمكن أن يكون حكيماً وعنفاً آخر يمكن أن يكون غير حكيم، وهو تعبير عن التفكير الذي يؤيد العنف على أن يستخدم بحكمة، وهي فكرة مرفوضة من جانبي إن أن العنف بكل أشكاله مرفوضاً ويقود إلى اضطهاد وعنف مضاد في حالات غير قليلة. ك. حبيب.     
[xxiii] ياسين، باقر. تاريخ العنف الدموي في العراق، مصدر سابق، ص 242.
[xxiv]  نفس المصدر السابق. ص 29.
[xxv] الشرائع الأربع الأساسية، والتي تعتبر ضمن الشرائع الكبرى في العالم، إضافة الشريعة الرومانية، هي:
شريعة العاهل السومري أورو كارجينا ((2350-2353 قبل الميلاد)، وشريعة أور ظ نمو الثانية في العهد السومري (2113-2006 قبل الميلاد)، وشريعة لبت عشتار (1934-1924 قبل الميلاد) في العهد الآموري أو البابلي القديم، وشريعة حمورابي (1750-1792 قبل الميلاد) في العهد البابلي. يضاف إلى ذلك اللوائح الآشورية. راجع: كاظم حبيب، لمحات من عراق القرن العشرين، 11 مجلداً، المجلد الأول، دارا ائاراس، أربيل، كردستان العراق، العراق، 2013، ص 344-368.
 



255
كاظم حبب
أينما تمتد الأصابع الإيرانية تشتعل نيران الكراهية ويرتفع دخان الحرائق!!
لم يكتف علي خامنئي أن يكون قائد جيش المقدس الإيراني العميد قاسم سليماني مسؤولاً عن الحشد الشعبي وعن تنظيم الأمور السياسية والعسكرية الإيرانية بالعراق، والتأثير المباشر على التحالفات السياسية لقوى الإسلام السياسي بالعراق، والعمل الكثيف مع أتباع إيران، في هذا الوطن المستباح بالنفوذ الإيراني وعملاء إيران، للتأثير على الوضع السياسي ووجهته، فحسب، بل أرسل أخيراً كبير مستشاريه و "وجه الگباحة" الإيراني إلى بغداد ليقود، ولو ليومين أو ثلاثة، الحملة السياسية والانتخابية بالعراق لصالح الموالين لإيران وأتباعها ضد القوى الوطنية والديمقراطية، ضد الشيوعيين واللبراليين، وضد والمدنيين من المسلمين المتدينين والواعين لما تريده إيران بالعراق، ليقود حملة تدخل وقحة وقذرة باسم جبهة "المقاومة الإسلامية!" وحشده الشعبي ضد سيادة العراق واستقلاله. فهو يقول بملء فمه يجب "عدم السماح للشيوعيين والليبراليين بالعودة إلى الحكم في العراق". من أعطاك هذا الحق لتتحدث في العراق بهذه اللغة الناسخة للدستور العراقي الذي يقر بحق الجميع دون تمييز المشاركة في حكم العراق" ومتى كان الشيوعيون واللبراليون الديمقراطيون في الحكم بالعراق؟ ألم تكن الأحزاب الإسلامية السياسية، التي ساعدتم على تشكيل أبرزها والتأثير الكبير في سياساتها ونشاطها اليومي وساهمتم في تمويلها وتشكيل ميليشياتها الطائفية المسلحة وتزويدها بما تحتاج من دعم إعلامي متنوع، وتزويد بعضها بأسماء من يفترض اغتياله أو اختطافه ونقله إلى إيران ليموت هناك أبشع ميتة إسلامية سياسية على طريقة داعش؟ من منحك يا ولايتي، هذا الحق لتتحدث نيابة عن العراق في علاقاته ومواقفه السياسية والعسكرية، الإقليمية منها والدولية؟ هل اصبحتم سادة العراق، وهل تحولت بغداد عاصمة للدولة الفارسية الطائفية والعنصرية! 
لقد ساهمتم، يا حكام إيران، بنشر الإرهاب الديني بالعراق وساهمتم بنشر الفساد وسرقة الدولار العراقي بدعم من مسؤولين عراقيين كانوا على رأس السلطة وما زالوا في قيادة الدولة العراقية. وها هم الموالون لكم والتابعون لخطكم وخططكم يؤيدون ما تحدثتم به ببغداد، وهم بذلك يقفون بالضد من إرادة الشعب ومصالحه وسيادته. يقول نوري المالكي: أن "أميركا تسعى إلى أن يكون لها موطئ قدم جديد في العراق"، وأن "العراق ليس كاليابان وكوريا الجنوبية، ولن يكون بإمكان الأميركيين الوجود العسكري فيه"، ولكنه يريد أن يكون لإيران ليس موطئ قدم فحسب، بل أن تكون بغداد عاصمة الدولة الإسلامية الفارسية. أما الفلتة العراقية، المفتون بفلسفته والعاشق لصورته، أما إبراهيم الجعفري، فيقول إن "أميركا هي أهم مشكلة في الشرق الأوسط». وقال إن "زيارة وزير الخارجية الأميركي (ريكس تيلرسون) المنطقة ناجمة عن الهزائم الميدانية والعسكرية"، وإن "إيران والعراق وسورية، من خلال تعاونها المستمر، لن تسمح للأميركيين بالنفوذ في مناطق يقطنها الأكراد".، ولكن هذا يعمل على أن يكون لإيران النفوذ المطلق بالعراق!     
يقول ولايتي "على جبهة المقاومة أن تحول دون انتشار القوات الأميركية تدريجياً شرق الفرات". إن ولايتي يريد بذلك أن يحوّل العراق إلى ساحة للقتال ضد القوات الأمريكية. إن منع وجود قوات أمريكية في سوريا أو العراق هي من مهمات الشعبين السوري والعراقي وليس من واجبك تلقين الشعب العراقي والسوري بما يجب أن يفعلوه، فهما أدرى بصالحهما وسبل الدفاع عن سيادة أراضيهما. أنكم تعملون لفرض نفوذكم على العراق وهو ما لا يقبل به أو تتحمله كرامة الإنسان والمجتمع العراقي.   
يحذر ولايتي الشعب العراق من " مخططات أميركا لتقسيم المنطقة وبث الفرقة والخلافات فيها". وإذا كان هذا ديدن الولايات المتحدة منذ عقود، فأنتم الأسوأ في هذا الصدد، فأنتم من عمق الخلاف والصراع في اليمن، وأنتم من زرع حزب الله في لبنان وعمق الخلافات، وأنتم من دفع الدكتاتور السوري الصغير إلى رفض القبول بالحملة المدنية لتغيير الواقع السوري منذ سبع سنوات وشجعتموه على شن الحملة الظالمة ضد القوى المدنية والديمقراطية السورية وتسببتم في حرب ما يزال أوراها مشتعلاً، ويزداد يومياً عدد ضحاياه من قتلى وجرحى ومعوقين ونازحين ومهجرين في شتى بقاع العالم، وأنتم من تعاون وساوم الولايات المتحدة على زرع النظام الطائفي السياسي بالعراق، وساندكم الدكتاتور والنرجسي رئيس الوزراء العراقي السابق الذي حكم البلاد تسعة أعوام وسلمها للغزاة الداعشيين، وأنتم من تسبب بالحرب الدينية والطائفية القذرة بالعراق ضد أتباع الديانات الأخرى والحرب المذهبية الشيعية - السنية، وساندتم من قال بلغة طائفية وقحة "المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد..."! أنتم قمتم بكل ذلك وأكثر، والان تقدمون "النصح" بوقاحة للشعب العراقي ليمنع وصول الشيوعيين واللبراليين إلى مجلس النواب، أو الحكم!
من الغريب المستهجن حقاً ألَّا يرد أي مسؤول حكومي، ولاسيما رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، بالعراق على هذه التصريحات المخلة باستقلال وسيادة الوطن، على هذا التدخل الفظ بالشأن العراقي الداخلي، بهذا التأييد لأتباع إيران بالعراق وضد القوى الوطنية والديمقراطية من شيوعيين وليبراليين ومتدينين مدنيين. إنها مرة أخرى مأساة ومهزلة تجري بالعراق منفذوها هم من أشد أتباع إيران بالعراق وأكثرهم كراهية لوحدة الشعب العراقي ونضاله ضد الطائفية والتمييز الديني والمذهبي والفكري والسياسي!! لنعمل جميعاً على دحر كل الذين يسمحون لأنفسهم بالتدخل في الشأن العراقي وضد كل من يدعمون ويساندون هذا التدخل الفظ ويعملون من أجل جعل العراق تابعاً وخاضعاً لإيران!!


256
كاظم حبيب
المأساة والمهزلة في عراق اليوم!
العراق بين جحيمي الهيمنة الإيرانية والأمريكية!
كان العراق، ومنذ القدم، نهباً للمحتلين القادمين من أرض فارس، وأحياناً من مناطق أبعد من إيران، كما في فترة هيمنة اليونان، بقيادة ألكسندر الكبير (المقدوني)، أو المغول بقيادة هولاكو أو جنكيزخان. ثم كانت بلاد الرافدين ساحة للصراع وحروب عدة بين الدولة العثمانية والدولة الفارسة منذ فترة حكم سليم الأول (1470 – 1520م) ومؤسس الدولة الصفوية إسماعيل الصفوي (1487 – 1524م)، والتي بدأت بمعارك جالديران في العام 1514 م، وأخرها كانت الحرب في الفترة بين (1821 - 1823) اثناء الدولة القاجارية في فارس. ثم كانت الحرب العالمية الأولى حيث تخلص العراق من مخالب وهيمنة الاستعمار العثماني باسم الإسلام، ليقع تحت الهيمنة الإمبريالية البريطانية. وليس غريباً أن نلاحظ بأن شعب العراق بكل مكوناته القومية، وريث الحضارة والتراث الخالدين لبلاد ما بين النهرين (الميزوبوتاميا) أو وادي الرافدين، استمر يواجه أطماعاً تركية وفارسية مستمرة، يواجه اليوم، إلى جانب الصراع التركي- الفارسي حول العراق، اهتماماً كبيراً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية للعراق ونفطه، وما فيه من خيرات وأسواق. وليس هذا الاهتمام الاستعماري وليد اليوم، بل بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم تفاقم في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتجلى في مشاريع النقطة الرابع (مشروع ترومان) ومشروع الشرق الأوسط وحلف بغداد (السنتو)، تقدمت بها الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على نفط العراق والمنطقة. وكان أخر جهد لها في الخمسينيات حين طرحت فكرة ربط الدول التالية: باكستان، إيران، العراق، تركيا وبريطانيا بحلف عسكري-سياسي واقتصادي، أطلق عليه حلف بغداد، وتكون هي الراعية لهذا الحلف الجديد. وقد تأسس هذا الحلف فعلاً في العام 1955، وخروج العراق منه بعد ثورة تموز عام 1958 مباشرة. وكانت الأهداف ورا هذا الحلف تتلخص في الهيمنة سياسات الدول الأعضاء والتحكم بنفطها وربطها عسكريا بها، بذريعة مواجهة الشيوعية ونفوذ الاتحاد السوفييتي في المنطقة. وسعت الولايات المتحدة إلى ربط كل من مصر والأردن وسوريا وعموم المنطقة بها، ولكنها جوبهت برفض مصر للحلف وفضح نواياه وتعزيز علاقاتها بالاتحاد السوفييتي. ولم ينافس شاه إيران الولايات المتحدة وبريطانيا في الهيمنة على العراق حينذاك، رغم أطماع الشاه بالعراق، بل حاول أن يكون شريكا في الحلف ويعمل بموجب معاهدة ترسيم الحدود بين العراق وإيران التي وقعت في سعد أباد (إيران) في العام 1937 وعبر وساطة بريطانية.
وفي الوقت الذي ما زال الصراع بين تركيا وإيران حول العراق أو مناطق منه مستمراً، يلاحظ احتدام الصراع بين إيران والولايات المتحدة على العراق واستفحاله في أعقاب الحرب الأمريكية-البريطانية ضد نظام البعث وصدام حسين الدكتاتوري المطلق وإسقاطه في العام 2003، وتنصيب الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية على رأس السلطة، وإقامة دولة ونظام المحاصصة الطائفية والأثنية بالعراق، عبر مساومة إيرانية-أمريكية مذلة لنضال وطموحات وأهداف الشعب العراقي. والهدف من ذلك كان وسيبقى الهيمنة على سياسات العراق واقتصاده، ولاسيما النفط\ فيه، والتحكم بمصير شعبه. وإذا كان العراقيون يؤكدون القول "أينما تمتد الأصابع الأمريكية يرتفع الدخان"، فأن لسان حالهم اليوم يقول إلى جانب ذلك، "أينما تمتد الأصابع الإيرانية يرتفع الدخان" أيضا، علماً بأن تركيا والسعودية وبعض دول الخليج تشارك في كل ما يتعرض له العراق من تدخل وأزمات سياسية!
واليكم الشواهد على الدور الإيراني والأمريكي وأطماعهما بالعراق من خلال تصريحات المسؤولين في هاتين الدولتين اللتين تتنازعان لا الهيمنة على العراق فحسب، بل وعلى الإقليم أيضاً:
 أولاً إيران:
"قال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إن "إيران اليوم أصبحت امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي".  ثم قال إن "جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما أن نقاتل معا أو نتحد"، ثم يؤكد "كل منطقة شرق الأوسط إيرانية"، قائلا "سندافع عن كل شعوب المنطقة، لأننا نعتبرهم جزءا من إيران، وسنقف بوجه التطرف الإسلامي والتكفير والإلحاد والعثمانيين الجدد والوهابيين والغرب والصهيونية"، ثم هاجم تركيا بقوله "إن منافسينا التاريخيين من ورثة الروم الشرقية والعثمانيين مستاؤون من دعمنا للعراق". أما حيدر مصلحي فقد صرح بـ "إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية، كمال قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو"، ويقصد بها دمشق وبيروت وصنعاء وبغداد". أما الجنرال حسين سلامي، نائب قائد الحرس الثوري الإيراني، فقد أكد، على وفق ما أوردته وكالة "مهر" الإيرانية: إن "المسؤولين في إيران لم يكونوا يتوقعون هذا الانتشار السريع لـ(الثورة الإسلامية) خارج الحدود لتمتد من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين والبحرين واليمن وأفغانستان".
الولايات المتحدة الأمريكية:
في أكثر من اجتماع انتخابي ولقاء صحفي عقده دونالد ترامب، صرح بموقفه الثابت من العراق، وأكده في تصرفاته كلها أثناء فترة المعركة الانتخابية وفي أعقابها. وإلى القارئات والقراء الكرام نصوص من تلك التصريحات الخطيرة والمسيئة للشعب العراقي، سواء أكانت في خطبه أم إجاباته عن أسئلة الصحفيين. قال دونالد ترامب:
-   العراق به أكبر حقول النفط في العالم، إنه ثاني دولة ويأتي بعد السعودية. يمتلك نفطاً بقيم 15 تريليون دولار.
-   جيشهم قد تمت إبادته. وأنه مجتمع فاسد تماماً كل شيء هناك فاسد، قادته فاسدون.
-   فأنا قلت ببساطة: لو عاد لي الأمر، فسآخذ النفط، على أقل تقدير أخذ 1،5 تريليون دولار أو أكثر.
-   عندما ذهبنا إلى العراق افترضت إننا سنأخذ النفط.
-   هناك قول قديم: المنتصر له الغنائم، سنأخذ النفط. إنهم لم يدفعوا ما عليهم.
-   أنا قلت إن كنا سنترك العراق فليكن النفط لنا، قالوا إن ترامب فظيع والعراق بلد ذو سيادة! وبسخرية قال ترامب..  العرق بلد ذو سيادة.. ضحك في القاعة!! أمر لا يصدق!
-   أنا سوف أخذ ثروتهم.. سوف أخذ النفط.. لا يوجد شيء اسمه العراق.. لا يوجد شيء اسمه العراق.. قادتهم فاسدون إنهم منقسمون.. سأخذ الثروة.. سأضع حلقة حولهم.. نترك قواتنا في مناطق معينة، ثم نسيطر على المناطق التي فيها النفط.
-   الناس هنا لا يعرفون أن العراق لديه نفط.. لكن لديه أكبر مخزون للنفط في العالم كله.. سآخذ النفط وندفع لأنفسنا 1,5 تريليون دولار أو أكثر، وندفع الباقي لبريطاني والدول التي ساعدتنا..
-   أنا دائماً أقول كان المفروض أن نأخذ النفط من العراق..". 
 لم يمتلك رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الجرأة بالرد على ترامب، حين أكد بأن قادة العراق فاسدون، وهم الذين نهبوا العراق والولايات المتحدة شاهد على ذلك، وكانت كلمة حق يراد بها باطل.، وفي أجابته على موضوع النفط يقول العبادي، على وفق ما نقلته وكالات الأنباء، "ليس واضحاً ماذا يقصد الرئيس الأمريكي عندما تحدث، فهل انه كان يقصد في عام 2003 أو من أجل عدم استيلاء داعش على هذا النفط"، متابعا "لكن بالتأكيد نفط العراق للعراقيين واي كلام خلاف ذلك غير مقبول ولا اتصور أن اي مسؤول في العالم يدعي امتلاك شيء ليس له".. لم يقل ترامب إنه يملك نفط العراق، بل قال إنه سوف يأخذ نفط العراق والفارق بينهما واضح حتى لمن لا يملك البصيرة والبصر.
هكذا أصبح العراق في ظل النظام السياسي الطائفي الفاسد نهباً وغنيمة سهلة لكل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وللمساومة الاستعمارية بينهما على حساب مصالح الشعب العراقي ومستقبل أبناءه وبناته وتطور اقتصاده وتحسن معيشته. فالقادة الفاسدون، الذين ما زالوا يحتلون مواقع القيادة والحكم في البلاد، هم الذي أوصلوا العراق إلى هذا الدرك، إلى هذا المستنقع النتن، الذي يسمح لمثل هؤلاء الساسة الأوباش في إيران أن يتحدثوا بتلك الصورة التي تجعل من العراق مستعمرة لإيران، وأن يتحدث رئيس دولة أمريكية بهذه الطريقة الوقحة عن العراق، ويؤكد عزمه على نهب نفط العراق وشعبه. لقد جعل القادة الطائفيون عراق الرافدين يعيش بين جحيمين، جحيم الهيمنة الإيرانية وجحيم الهيمنة الأمريكية أو جحيم المساومة بينهما.. إن المطلوب حقاً هو مطالبة العراق
1.   تعويضات من الدول المنتجة والمصدرة للسلاح لبيعها كميات هائلة ليست أسلحة دفاعية فحسب، بل وهجومية إلى العراق، إضافة إلى توفير تقنيات إنتاج أسلحة الدمار الشامل، لاسيما الكيماوي والجرثومي.
2.   دعم الولايات المتحدة وتشجيعها، إضافة إلى الدول الأوروبية الأخرى، النظام العراقي في شنّه الحرب ضد إيران، وتزويده بالسلاح لمواصلتها، إضافة إلى تزويدها الدولتين بالسلاح والعتاد والمعلومات، بما يمكن من استمرار الحرب أطول فترة ممكنة.
3.   شن الحرب ضد العراق ولاسيما بعد غزو الكويت، إذ كان بالإمكان طرد القوات العراقية دون حرب في العام 1991، وكان الأمر يحتاج إلى وقت ودبلوماسية من نوع أخر غير التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تريد استفزاز النظام الدكتاتوري المتعفن، لشن الحرب.
4.   القصف الجوي المستمر ضد العراق، ولاسيما في العام 1998، وكذلك فرض الحصار الاقتصادي على العراق طوال 13 عاماً، ما أدرى إلى استشهاد جمهرة كبيرة جداً تقدر بمئات الآلاف من أبناء وبنات الشعب ولاسيما الأطفال والعجزة والمرضى.
5.   الحرب الأمريكية-البريطانية الأخيرة التي شنت ضد النظام العراقي بدعوى امتلاكه للسلاح النووي، وظهر كذب هذا الادعاء المتعمد لتوفير الذريعة بشن الحرب، وبالتالي من حق الشعب أن يطالب الولايات المتحدة وبريطانيا أولاً، وبقة الدول التي شاركت في هذه الحرب بالتعويضات لا عن خسائر الحرب مباشرة، بل وعما حصل للعراق خلال الأعوام المنصرمة منذ 2003 حتى الآن، لاسيما غزو العراق من قبل عصابات داعش وكل القوى الإرهابية والميليشيات الطائفية المسلحة.
6.   لم يكن ليواجه العراق ما واجهه خلال السنوا الـ 15 المنصرمة لولا قيام الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية من جهة وإيران من جهة أخرى بإقامة النظام السياسي الطائفي المقيت على أنقاض نظام شوفيني مقيت، الذي تسبب بالصراعات الطائفية الدموية وبنزوح قوى الإرهاب من أنحاء العالم صوب العراق لتدميره، ولم يكن هذا خارج حسابات الولايات المتحدة التي ترى في العراق خطراً على مصالحها في المنطقة وعلى إسرائيل.
ولكن هل في مقدور الحكومة العراقية الراهنة أن تقوم بذلك؟ الشعب العراقي يعيش اليوم في دولة هشة ورثة، كما أن المسؤولين فيها، وفي السلطات الثلاث، أكثر رثاثة من حيث الفكر والممارسة، وأكثر فساداً. إنها المأساة والمهزلة في عراق اليوم!!! ولا بد لها أن تنتهي، وستنتهي، فالظلم إن دام دمر، والشعب يمهل ولا يهمل، ولكن، ولكي يصح ذلك، لا بد من تنشيط العمل لتغيير موازين القوى بالبلاد لصالح القوى الديمقراطية والتقدمية، وهي عملية معقدة وطويلة، تستوجب عملاً تنويرياً وسياسياً واجتماعياً واسعاً وكثيفاً ومسؤولاً.   
     
 


257
كاظم حبيب
عن أي وحدة يتحدث رئيس الوزراء العراقي؟
عُقد في دولة الكويت الشقيقة المؤتمر الدولي لـ"إعادة إعمار العراق" خلال الفترة 12-14 شباط/فبراير 2018، بأمل تحقيق ثلاثة اهداف مهمة على وفق رؤية الحكومة العراقية، وهي:
** المساهمة في إعادة تأهيل البنى التحتية في عموم العراق، ** إعادة الاستقرار للمناطق المتضررة، ** وتنمية قطاع الخدمات. ويتطلب ذلك:
1.   الحصول على دعم مالي من الدول المشاركة والمستعدة لدعم العراق بالمال والخبرة الفنية لإعادة إعمار العراق.
2.   الحصول على ممولين ماليين يوظفون رؤوس اموالهم في إقامة المشاريع الاقتصادية التي تدخل ضمن إعادة إعمار العراق وإعادة تأهيل اقتصاده الوطني المخرب، والبالغ عددها على حسب تقدير الحكومة العراقية 157 مشروعاً.
3.   الحصول على منح من منظمات دولية ومجتمع مدني لتأمين إقامة مشاريع تؤمن ما يساعد العراق في النهوض بمشاريع خدمية لصالح الطفولة والأرامل والمعوقين، نتيجة الحروب والإرهاب وسوءات السياسة العراقية.
وشارك في هذا المؤتمر، إضافة إلى العراق والكويت والأمم المتحدة والبنك الدولي نحو 70 دولة أبرزها الولايات المتحدة والسعودية وتركيا وإيران إضافة للكويت وقطر، كما ستشارك قرابة 70 منظمة إنسانية منها 30 منظمة إقليمية ودولية و25 منظمة عراقية و15 منظمة كويتية. وتتطلع الحكومة العراقية إلى حصولها على المبلغ الذي سوف تحتاجه لإعادة إعمار المناطق المخربة والذي قدر بين 88 - 100 مليار دولار أمريكي.
ورغم الصعوبة الواضحة في الوصول إلى هذا الرقم، ولاسيما موقف الولايات المتحدة التي قررت عدم تقديم أي دعم في هذا المؤتمر، بل يتطلع الرئيس الأمريكي إلى سرقة 1,5 تريليون دولار أمريكي من نفط العراق، ومع فالأمل في ان يتحقق المبلغ للمشاركة في تطلع الشعب العراقي للخلاص من عواقب الحروب الماضية والإرهاب، وكذلك من الطائفية والفساد الذي ما يزال يعم البلاد.
لقد شارك حيدر العبادي في مؤتمر دافوس بسويسرا، وشارك في مؤتمر الكويت، بأمل تنشيط المشاركة الدولية الواسعة وطرح رغبات العراق بالحصول على 88 مليار دولار امريكي تستوجبها عملية إعادة أعمار المناطق المخربة بالحروب والإرهاب وسوءات السياسة العراقية. وقدم في اللقاء كلمة تحدث فيها عن تحقيق العراق النصر على داعش وحقق الوحدة ضد من كان يراهن على الصراع المذهبي والديني والقومي والارهاب!
ومع قناعتي بضرورة دعم المؤتمر والسعي للحصول على المبلغ المنشود، رغم صعوبة ذلك، إلا إن أسئلة عادلة ومشروعة كثيرة تطرح نفسها على رئيس الوزراء العراقي تستوجب الإجابة الواقعية وليس الهروب إلى أمام في المؤتمر الدولي، الذي يعرف جميع من حضر المؤتمر، واقع العراق الراهن ومشكلاته الكبيرة والمعقدة: هل حقق العراق النصر التام على داعش وكل القوى الإرهابية؟ وهل حقق العراق الوحدة الوطنية حقاً؟ وهل تخلص العراق من النظام الطائفي الفاسد، ومن الصراعات الطائفية (المذهبية) السياسية؟ وهل توفق العراق في إيقاف الهجرة الدينية للمسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين بسبب التمييز والكراهية ضدهم وضد البهائيين وغيرهم من اتباع الديانات والمذاهب الأخرى؟ وهل تمكن العراق من معالجة القضية الكردية بطريقة سلمية وعادلة، ام ما يزال رئيس الحكومة، وبعنجهية بائسة، يعاقب الشعب الكردي على ممارسته واحداً من اهم حقوقه العادلة والمشروعة؟ وهل تخلص العراق من الفساد السائد في الوطن كله، ولاسيما فساد القوى التي بيدها الحكم؟ او الخلاص من الإرهاب الذي ما يزال يحصل في عقر دار الحكومة، في العاصمة بغداد؟
كان الأجدر برئيس الوزراء ان يتحدث بالحقيقة القائمة بالعراق، وعن عدم تنفيذه لوعده بالتغيير وبالتخلص من الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية في الحكم، أن يتحدث بالحقائق لا بتمنيات فارغة، كان وما يزال يسعى الشعب العراقي إلى تحقيقها، بدون ان يتخذ الخطوات الضرورية لتغيير الواقع العراقي القائم.
ان العراق، يا رئيس الوزراء، جزء من هذا العالم الواحد والصغير، وشعوب العالم، وحكامها قبل غيرهم، يعرفون ما يجري بالعراق منذ 15 عاماً، ويعرفون ان العراق ما يزال يعاني من مرض الطائفية الخطير، وأن الفساد ما يزال سائداً، والفاسدين ما زالوا كثر ويقفون على رأس الاحزاب الحاكمة والحكم ودوائر الدولة ومجلس النواب والقضاء وفي القوات المسلحة وفي "الحشد الشعبي!" الرسمي وغير الرسمي ("المليشيات الطائفية المسلحة")، ولم يسترد العراق حتى الان المبلغ الضائع الذي يتراوح بين 500-600 مليار دولار امريكي تعتبر منهوبة ومفرط بها والذين نهبوها أو أساءوا التصرف بها ما زالوا في قيادة الدولة والحزب الحاكم وفي المحافظات كلها دون استثناء. القوائم الطائفية المقيتة ما تزال تشكل غالبية القوائم والاحزاب المرشحة في الانتخابات القادمة، والنظام داعم لها وهو جزء منها، ورئيس الحكومة يشكل أحد هذه القوى المتحالفة طائفيا لخوض الانتخابات القادمة. والحكومة العراقية ما تزال راكبة بغلتها ولا تحاول حل المشكلات القائمة بالسرعة الضرورية والابتعاد عن تجويع الشعب الكردي بعدم دفع الرواتب او فتح المطارات الدولية في اربيل والسليمانية.. انها سياسة ليست فقط غير عقلانية، بل ذات طبيعة انتقامية من الشعب الكردي الذي صوت لصالح حريته واستقلاله، بغض النظر عن موقف القيادة، الذي ابتعد كثيراً عن العقلانية والتعامل على وفق الدستور العراقي، تماماً كما كان تعامل الحكومة الاتحادية السيء مع الدستور العراقي، وهو امر مرفوض تماماً ومناقض لكل اللوائح الدولية في مجال حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. ورئيس الوزراء ذاته يتنكر لحق هذا الشعب في تقرير مصيره بنفسه وينطلق في ذلك من موقف ديني متطرف، كما هو موقف الدول الدكتاتورية في كل من تركيا وإيران وسياسة الحكم السوري الدكتاتوري، التي كانت ترفض دوماً ولسنوات طويلة منح أبناء وبنات الشعب الكردي الجنسية السورية!!
كان على رئيس الوزراء ان يكون صادقا مع نفسه والعالم، الذي لا شك يطالبه باستعادة الأموال من الفاسدين، في الوقت الذي يمد يده للحصول على منح لفقراء ومعوزي العراق، لأطفاله وارامله ومعوقيه، في وقت تمتلئ جيوب الفاسدين بالسحت الحرام بمليارات الدولارات، إنها محنة الشعب في أحزابه الاسلامية السياسية التي خذلته وسرقته بسياساتها وبالحكم الطائفي الذي لم يتخل عنه حتى رئيس الوزراء الذي ادعى إنه ضد الطائفية وضد التمييز القومي، ولكنه يمارسهما ليلاً ونهاراً وهو على رأس هذا الحكم الطائفي المقيت وفي قيادة "حزب الدعوة الإسلامية" الذي تسبب في كل ذلك لأهل العراق!!
لقد انتصر العراق على داعش عسكرياً، رغم وجود جيوب لداعش ما تزال فاعلة، ورغم وجود خلايا نائمة تضرب في بغداد بشكل خاص، إضافة إلى الفكر الداعشي الوهابي المتشددة، ما يزال فاعلاً، إضافة إلى وجود فكر شيعي مماثل في التطرف والقسوة والعنف، يتجلى في نشاط الأحزاب الإسلامية وميليشياتها الطائفية الشيعية المسلحة وفي محاولات التشريع الجعفري المتطرف كما في موضوع قانون الأحوال الشخصية على سبيل المثال لا الحصر. كما إن تكميم أفواه من يحاربون الفساد مستمر بالعراق، وأحد هذه الأمثلة الصارخة صدور حكم قضائي مجحف بحق الناشط المدني والمكافح ضد الفساد المالي والإداري السيد باسم خزعل خشان، بحبسه ست سنوات، دليل جديد على طبيعة النظام القضائي الراهن بالعراق، حيث تطالب بإلغاء هذا الحكم الجائر جميع منظمات المجتمع المدني بالعراق، كما تطالب بإصلاح القضاء العراقي وتغيير من كان على رأس القضاء في فترة حكم صدام حسين أيضا. إن الحكم والقضاء بالعراق ما يزال يُحكم بالكثير من قوانين البعث وصدام حسين الجائرة والمنافية للشرعية واللوائح الدولية في مجال حقوق الإنسان!!!   


258


كاظم حبيب
قراءة حزينة وممتعة في كتاب "مطارد بين ... والحدود" للكاتب يحيى علوان

 
عنوان الكتاب: مطارد بين ... والحدود، اسم الكاتب: يحيى علوان، دار النشر: الفارابي، بيروت – لبنان، سنة النشر: 2018، عدد الصفحات: 415 صفحة.
(6-6)
يتم، شكوك وآلام واعتقال!
حط يحيى علوان أخيراً في مدينة مشهد المزدحمة بسكانها وبالزائرين الذين يأمون إليها من سائر أرجاء العالم الإسلامي، وهي مدينة قديمة تستحق المشاهدة للتعرف على معالمها وضواحيها. بعد أيام قليلة استعاد جزءاً من عافيته ومزاجه الطبيعي بعد أن كان قد هدَّهُ التعب والألم. وجد في دار المضيف بعض الراحة النفسية، إذ التقى بالرفيق أبي حيدر (حمزة عبد)، الذي كان قد أصيب بشظية في ساقه وعاني من ضربة الكيمياوي التي تعرض لها رفاق قاطع بهدينان في العام 1988، وكان في طريقه إلى أفغانستان للمعالجة. قضيا معاً أسابيع عدة بانتظار توفر فرصة العبور الآمنة، فتسنى لهما التجوال في المدينة والقيام بسفرة ممتعة إلى مدينة طوس. كتب يحيى: "في مشهد شعرت أنني أتخفف نوعاً ما من مخاوفي السابقة ورحت أقترب من سجيتي.. كنت أخرج مع أبي حيدر، نستكشف المدينة، شوارعها أسواقها.. زرنا مرقد الأمام الرضا، سافرنا معاً مع عائلة أم أيسر إلى متنزه في مدينة طوس ... حيث مرقد الشاعر الإيراني المشهور أبو القاسم الفردوسي..". (ص 268).
كانت الحرب ما تزال تثير الناس، رغم مرور ما يقرب من ثماني سنوات على اندلاعها. تدفع الناس إلى الاحتجاج.. يثيرهم التشدد والتزمت الديني.. يستفزهم فرض الچادر على النساء، حتى المسيحيات بطهران أو غيرها. تعرف يحيى على واحد من الاحتجاجات التي بدأ الناس يمارسونها في إيران.. "كانت امرأة تُفرد إزارها [تشادور]، مثل عارضة أزياء، فتكشف عن جسدٍ عارٍ تحت الإزار، إلا من ملابس داخلية شحيحة.. ولما حضرت قوة من "أخوات زينب"!.. سارعت تلك المرأة وغابت بين الجموع في السوق الكبير، حاول بعض المارة عرقلة مطارديها!..". (ص 269). في إحدى زياراتي إلى طهران، ركبت حافلة عامة، سمعتُ شخصين يتحدثان عن أوضاعها في إيران: قال أحدهما: "زندگی ما مرگ تدریجی است" (حیاتنا موت تدريجي أو بطيء)، أجابه الثاني: "خداوند به کلمات شما درست است" ( والله كلامك صحيح)!!
كنت يوماً مع الرفيق أبي سرباس (أحمد باني خيلان) نجوب شوارع همدان نفتش عن دار القنصلية التركية للحصول على سمة الدخول إلى تركيا.. سألنا أحد المارة.. قال: سيروا على هذا الطريق، ستواجهكم ساحة واسعة، في الوسط منها مسلة عالية، ستجدون عليها الكثير من (ميمون) (القردة)، عندها سيروا على اليمين ستجدون القنصلية هنا. وحين وصلنا الساحة، رأينا المسلة ولم نجد قردة هناك، وجدنا عدداً كبيراً من صور كبار الملالي المسؤولين عن النظام الإيراني الإسلامي المتحجر، ملصقة على جوانب المسلة! إنه أحد أوجه الاحتجاج الشفاهي الساخط والصامت!
لم تكن أسابيع وجوده في مشهد ثقيلة على يحيى، فالصحبة الطيبة والتجوال والتعرف على المدينة خفف من ضائقة الطريق المريرة، رغم رغبته العارمة في العودة إلى البيت واللقاء بصغيرته، بابنته الحبيبة. ثم حان موعد مغادرة مشهد، بعد أن كان الرفيق أبو حيدر قد غادرها قبله بأيام. 
تهيأ للسفر.. من كراج "مشهد" نحو قرية السلامات.. أعطيت ملامحه واتكاؤه على عصاه لمن سيستقبله هناك، يناديه بـ "أبي فلاح".. سينقله إلى حيث الحدود الإيرانية-الأفغانية.. وصلوا القرية، غادر المسافرون السيارة وفوجئ بصوت يقول: "أغاي أبو فلاه!.. بفرموا..!"، صوتٌ فيه بحة، يصلك قبل أن ترى مصدره، تتلفت حولك فلا ترى أحداً، ركاب السيارة ابتلعهم الغسق والدروب الضيقة، ذابوا كحبة ملح في ماء." ثم يصف دليله للعبور فيكتب: "يصل إلى مسامعك شيءٌ يدق الأرض فيرتد مخنوقاً.. رأس كبيرٌ، لا يتناسب مع قامة قصيرة تقترب منك.. بطيئاً، يتكئ على عكاز خشبي، ورجل تتمرجح في الهواء بلا ساقٍ، بشرة دكناء حمّصتها الشمس وكستها بطبقة من التجاعيد.. مدَّ يدهُ يمسحُ غبارَ الكآبة عن وجه مكدود وعينين تفيضان مكراً.. ما أن انفرجت شفتاه حتى بان صفان من الأسنان شديدة الصُفرة، قُل قهوائية..". (ص 283). كان يدخن الحشيش، قدم له لفافة اعتذر، فهو لم يجربها، سار معه حتى الدار.. استقبلته زوجته الشابة.. ظنها ابنته.. كتب يحيى "ابتسمت لكَ، فَرَّشت وجلك، على الزرع في باحة الدار.. فتحت بصدرك حجرات مغبرة الأقفال، كنت نسيتها، فأرسلت إليها صعقة من دفق فتنتها .. فتتتها ومشت."، إنها النفس الخضراء ليحيى التي ينتعش لمرئى النساء الجميلات.. تجده يقول:
"ناديت روحك.. لم تسمع. كان داخلك يصرخُ بصمم، فاكهة دانية القطوف في بستان محرم، ستبيت على اشتهائها ما العمل؟ .. ثمرة تغص بها إن قضمتها.. تطعن قلبك إن لم ... تموت إن هي التهمتك!.. أنت أمير بلا إمارة، مفلس في حيرة طواحين تعبث بالريح، لهفةً لدون كيخوته، لكنني سأمتطي الحرفَ، كما تفعل الساحرات مع العصيِّ..". (ص 285). يذهب الدليل إيهاب يستكشف الطريق.. تبقى وحدك.. تقول "منذ ستٍ، تصيح ربابة الشوق، تقاطع نياط "الأبوذية"، ولا بدوي ينتبه أو يصغي!" عربة تجرها خيول الرغبة والرهبة كانت.. تراءى لك أن رغبتها تفح بنوع غريب من الإثارة والتمني الصارخ، يهذيان شبقاً.. تطبق على صدرها تعتصره، فتطرد ما تجمع فيه من زفرات الحرمان والنهي، الذي يرفض أن يلبي توسلات جسد بض.. سترضع شحمة أذنك، فتحس برعشة تخضك من آخر ركن فيك، وتدخلان في أحلى لعبة في الكون.. ستترنح تتركها تفعل بك ما تشاء، تعجنك، بعد أن صيرتك هلاماً تعيد تشكيله، كيفما تشتهي.. سينسى الزمن نفسه، حتى يجرفكما الطوفان، يطفئ الحرائق ويخرس لعثمة الانتظار والتردد.." هكذا قضى يحيى جزءاً من ليلته بعد ذاك العذاب الطويل في درب التيه والعطش والجوع.. "يقول يحيى "خنقت سعيدة صرخة انفلتت منها.. تلقفتها خيول الريح وركنتها في واحد من رفوف الأمس، لتكون طعماً للحنين..". (ص 291/292). بعد هذا يقول يحيى ضمن مقطوعة من نثر شعري مرطب بحلاوة الحب:
"تعالي إذ اشتهيك، فأحلى لعنة صدفةٍ أنتِ.. تعالي، الساعة، لا يبل عطشي إليك إلا أنتٍ.. تعالي وحكي دمي بطارف غمّازتك.. اغفري، سعيدة، خطيئة آلهة أورثتني شيئاً من أنكيدو.. كفاني خبأت شهواتي في السر، الذي عشته، حتى لم يعُد بمقدوري إفناؤها في جسدي، فالموعود رهان خاسر للُسذَّجِ". (ص 296).
يم تكن سعيدة عصية ً.. كانت قوية كما الخطيئة أمام ضمير محاصرٍ أعزل!.. انكسرت نظراتكما، وسقطت في المسافة بين بين.. فارت المهجة، شاغت الروح.. كانت سعيدة مُبللةً بالفراش.. ترقص فوق جنون الأقحوان.. تضوع الممر بنسائم خليط من الحبق والفل..". (ص 291).   
ما ان انتهى من حلمه بسرعة في رحلة الحب الخطيئة، خشية عودة "إيهاب"، حتى عوقب على تلك الخطيئة، إذ وجد نفسه في خطر جديد داهم، كتب يحيى: "دون "إنذار مسبق" تضيء المكان َ أنوار كشافة، وتسمع وقع أقدام كثيرة تتراكض وتتقافزُ كالأباليس في كل الاتجاهات، تلتها رشقات رشاشات.. ترمي بحالك على الأرض، دون الحاجة إلى تفكير، وتزحف ناحية الزريبة. تدفع الباب الموارب وتنسلُّ بين قوائم البقر، الذي سيسترك دون خوار قد يفضحك.. تندفع بهدوءٍ زاحفاً حتى آخر الزريبة، فيفسح البقر الوديع لك في المكان المظلم، الذي لا يصله حتى خيط ضوء.. تكاد تشعر بالاختناق، ينهمر دمعك وتغالب شعوراً بالغثيان يجتاحك من روث البقر....، .. فجأة يندفع باب الزريبة بعنف وتمتد ماسورتا رشاشين ومصباح يدوي.. كأن البقر الكريم "شَعَرَ" بخطورة الموقف وارادَ أن ينتصر لشخص مطارد بين الله والحدود.. فراح يخور ويدور على نفسه بحركات عنيفة حفَّزها الضياء الحاد.. وضع الشخصان المناديل على وجهيهما اتقاء الروائح الكريهة، التي اختزنتها الزريبة.. وغادرا المكان.... ". (ص 298). ظل يحيى قابعاً في مكانه طوال الليل.. رغم وصول إيهاب قبل ذاك.. لم يكن مستعجلاً على إخراجه من الزريبة.. خشية عودة حراس الحدود. كان المطر قد تساقط طوال الليل، منعت تلك الروائح النتنة يحيى حتى من الإغفاءة القصيرة. ثم توقف المطر. تناولا الفطور الذي أعدته ذات الإزار الجميل.. تقرر الرحيل..، اتجها صوب طريق العبور. يقول يحيى: حملتَ صُرتكَ تتوكأ على عصاك، وعندما أيقنت أن "صاحبك" تخطى باب الدار، استدرت إلى الوراء، أومأتْ سعيدة مودعةً... "خدا حافز". انطلقت بهما الدراجة النارية "بسرعة جنونية"، لا تتناسب مع أرض زراعية محروثة حديثاً ملأى بالمطبات والحفر.. وراح يدندن بأغنية، فيما تختض أنت كشگوة اللبن..!". (ص 303).
ولكن عذابهما لم ينته.. لقد عاشا مرارة الانتظار والعطش واشعة الشمس المحرقة، كانت تصب بحممها على رأسيهما، كان رأس الدليل مغطى، بينما رأس يحيى مكشوف للشمس والريح.. وجد الدليل نفسه مجبراً على العودة.. بين حظ عاثر، لم يصل دليل الطرف الآخر، لم تصل إشارة وجوده، وبين فرحة اللقاء الثاني بسعيدة، عادا بالدراجة إلى الدار بانتظار الغد. حال وصولهما الدار سقط إيهاب على الأرض من شدة الإرهاق.. بعد أن صاح بصوته المبحوح سعيدة!.. يقول يحيى "جاءت تركض حافية، حاسرة الرأس، مُهَدَّلةَ الزيق، انحنت عليه تلطم وجهها وتصفق بالأخرى.. قلت لها "عجلي بشربة ماء"، دون أن تكلف نفسها عناء إلقاء نظرة عليك.. كانت مرتبكة، إذ رأت إيهاب ملقى على الأرض، يصدر ما ليس يشبه الشخير، بل ما يصدر عن ثور ينحر!.." من شدة الإنهاك. أحضرت طاسة ماء، وكانت قد ألقت إيشارباً خفيفاً على رأسها..". تعاونا "على حمل إيهاب إلى الغرفة، حيث نام فوراً على بطنه ودفنَ وجهه في الوسادة.". (ص 330). فيما كنت تجلس على الحصير، غير بعيد من باب الغرفة، خرجت سعيدة منها مكتئبة.. قرفصت إلى جانبك صامتة. شاردة الذهن، تُجرَّحُ وجه الأرض بعود.. جاءته بعد الغروب، وذهبت قبل الشروق، وتركت في يديَّ حفنة من التوريات ٍ ولم تعدْ..".
في صباح اليوم التالي تسنى له العبور، لم يكن سهلاً، جاءت إشارة الدليل في الجهة الأخرى. انتهت مهمة إيهاب وعاد أدراجه.. لم يسقه حتى قطرة ماء يسد بها رمقه! "لا قَطرَ يطفئُ الهسيس بجوفك.. صحراء عارية إلا من شظايا الجحيم، فأين الهرب؟ لا أبنية ولا أشجار ولا نبات... قفرٌ أقرعٌ"! (ص 314).
كان على يحيى والدليل الجديد أن يقطعا صحراء قاحلة. أرضاً رملية "ضجرٌ يبحث عن ظله، ومضجرٌ هذا الرمل الأخرس، يعجز حتى عن إرجاع صوت كعب عالٍ، تتلهف إليه مسامعي، تتلهى به مخيلتي، ترسم قواماً ملائكياً فوقه!.. السراب هو سيد الموقف حين تكون في البراري والشمس تحرقك والعطش يغرقك في الأوهام، السراب. حين التقيت، مع مجموعة من الشبيبة، بسكرتير عام الحزب الشيوعي في تشيلي لويس كورفيلان، حدثنا عن السراب حين يكون الإنسان في الصحراء تائهاً ويهدَّه العطش، إذ كلما يقترب منه يبتعد!..، كان يقارن ذلك مع قائد عسكري من النظام يتحدث عن ضرورة تحالفه مع الحزب الشيوعي لبناء الاشتراكية في تشيلي.. كان ذلك في كانون الثاني/ يناير من عام 1972 أثناء انعقاد المهرجان العالمي لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي.. فهل يمكن أن يكون سراباً تحالفات سياسية محتملة مع قوى إسلامية سياسية!..                                             
كتب يحيى وقد هدَّه التعب والعطش "ها هو عويل الريح تماهى مع مدارات الضياع في ملكوت الرمل.. ودفقات الخوف من أفق متبرج/ مليء بفوهات التيه.. فالهواء هنا هتوك.. يمر خفيفاً، ثم يلتهب، لا جدران، حتى تلك التي تعبت من الوقوف وحمل التمائم و"علق النذور... الشمس تجلدني بشواظٍ من جحيم..". على الصفحة 339 يستذكر يحيى رحلة الضنى فيكتب:   
رَملٌ.. رَملٌ.. ثم رَملٌ.. فرَملٌ.. على امتداد النظر.. وما خلف تخوم المدى.. لا شيء غير الرمل.. حتى ما وراء السراب، وحيداً يتمطى في عزلته.. رَملٌ يقضي العمر يلتحف ب رَملٍ، رَملٌ يرحل.. ورَملٌ يأتي، بروق ورعود من سحاب عاقرٍ.. موحشٌ هذا الرملُ..". إن هذا النثر الشعري يدلك على حالة يحيى ومزاجه وهو يخوض رمال الصحراء بركبته المعطوبة وعطشه..
حين يواجه يحيى أوضاعاً صعبة يلوذ إلى الأصغاء لذاته، يحاورها ويحاور غيره.. نقرأ في هذا الكتاب الشيق مقطوعات من النثر الشعري الجميل.. في فقرة تحت عنوان "يتيم" نقرأ الكثير من ذوقه الأدبي، بلغةٍ جميلةٍ، وغنى مفرداتها، وخصب خيال صاحبها، ومصداقية الحالة النفسية التي تنساب الكلمات والجمل من بين أصابعه لتحط على ورق لا يمحى.. منها:
"من ذا يطرق باب ليلتي.. يشاركني وحدتي؟.. أنا الرازح المُعنى في غربتي، أُشعلُ بخور الحنين، أسامر وحشتي.. أُلملمُ شَواردي، مثل هُدهُد أضاع الكلام.. لا يكترث لخسوف بدرٍ. أي مناكد أتى يسلبني أثامي الجميلة، يبعثر زهوراً نثرتها فوق فراش الصمتِ.. حيث نصبتُ شباكي أستدرج طيفاً شقياً؟" ... (ص 275). 
يصف يحيى ريحاً عاتية في وسط صحراء رملية: كأن شفاطة رهيبة حطَّت فوقنا، تحاول اقتلاعنا مع الدراجة النارية.. تشبثنا بها ودخلنا مع الإعصار في ما يشبه لعبة "شدَّ الحبل"! ولما يئس منا، تركنا يعدو في عجلة من أمره، كأن لديه موعداً هاماً!...". (ص 357).
عبور الحدود بمثل هذه الطرق فيها الكثير من المخاطر، فالمهربون لا يدفعهم النبل في نقل أمثالنا عبر الحدود، بل النقود، وهم يسعون في الحصول عليها بشتى السبل.. قال الدليل ليحيى: "هات ما عندك!.." قلت له صاحبك الأعرج، في الجانب الآخر، هو الذي رتب الأمر وتسلم المبلغ!.. فقال.. لا شأن لي به، أريد أجر أتعابي هنا، منك، وإلا سيكون مصيرك مجهولاً، سأتركك هنا وأمضي، لن أكون مسؤولاً عما يحصل لك!.. قلت فتشني وأن وجدت نقوداً أو شيئاً ينفع، فهو لك.. شرع يفتش جيوبي عابساً، فما لقي سوى هوية مزورة.. تناول كيس البلاستيك، كانت به بعض حاجياتي.. أدوات حلاقة، فرشة أسنان، ملابس داخلية متسخة وجوارب تزكم الأنوف، كنت أخفيت فيها بها 1500 تومان إيراني، و500 على انفراد، ... وعندما فتح الكيس صدمته الرائحة، أدار وجهه عابساً..." (ص 359)         
وأخيراً وبعد مرارة الطريق ولف ودوران "وصلنا إلى مبنى متواضع.. قدمت نفسي ... شيوعي عراقي قادم من كردستان، وهذه الهوية المزورة التي استخدمتها لعبور إيران، وأن قيادة حزبكم في كابل لديها علم بذلك، ..". سجلوا محضراً بذلك.. ليجري تسليمه مع يحيى علوان للمسؤولين في هرات.. وصلوا عصراً. نقل بسيارة جيب روسية إلى دار تابع للمخابرات العسكرية الأفغانية، فوجئ بوجود رفيقٍ نصيرٍ له فيها، إنه الرفيق أبو واثق (المسرحي لطيف حسن) ورفيق نصير آخر. كانت أيام الحجز ثقيلة بعد كل مرارات الطريق من طهران إلى هرات. يقول يحيى "الزمن كسول.. سيغدو الأسبوع سبعة "قرون"!
وبعد أن حلحلت الملابسات، التقى رفاق الدرب الطويل، التقى، أبو علياء وأبو حيدر وأبو سامر، في طائرة عسكرية روسية نقلتهم إلى كابل، وتخلف عنهم أبو واثق لعدم وجود مكان له في الطائرة التي حجزت لهم للثلاثة مع رابع يحرسهم، ثم توفرت إمكانية المغادرة منها إلى موسكو ومنها إلى برلين حيث صدم ما لا يشبه كل الملمات والأوقات المرة والعثرات التي مرّ بها في طريق العودة من كردستان العراق إلى برلين!! إنها الحياة بمفاجأتها السارة والحزينة، وأحياناً كثيرة ليس لها من مرد!!!
وأخيراً، إن من يقرأ هذا الكتابة الحافل بالأحداث الشخصية، التي مرَّ بها يحيى علوان، والتي تقترن برؤيته للأحداث، كما حدد نفسه ذلك بصواب في بداية الكتاب، سيدرك دون أدنى ريب عدداً من المسائل المهمة التي يمكن تلخيص بعضها القليل: ** لقد كان الأنصار الشيوعيون أوفياء للوطن والشعب، بغض النظر عن مدى صواب أو خطأ، هذه القضية أو تلك، كانوا جادين ومخلصين فيما سعوا إليه، رغم الوهم الذي رافق ذلك الحلم الجميل؛ ** قدموا التضحيات الغالية، بأنفسهم أم بعائلاتهم أحياناً، دون أن ينتظروا شكراً أو جزاءً جراء تلك التضحيات؛ لم يختاروا هذا الطريق الصعب، بل فرض عليهم، حين أجبروا على ترك العراق أو الالتحاق بجبال وأرياف كردستان وتشكيل حركة الأنصار الشيوعيين، لقد كان هروباً من نظام استبدادي مطلق سلط جام غضبه وعدوانه على الشيوعيين وأصدقاء الحزب وكل القوى الديمقراطية، ومارس الأساليب الفاشية مواجهة كل المعارضين له؛ ** كما إن نهاية الحركة الأنصارية، التي دامت قرابة عشر سنوات، (نهاية 1978-نهاية 1988)، اقترنت بهجوم عسكري كاسح لمنطقة وجود الأنصار الشيوعيين من جانب قوات النظام الدكتاتوري المطلق، أجبروا على إثرها مغادرة جبال وأرياف كردستان العراق صوب الخارج؛ ** لقد تحملت جمهرة كبيرة من رفاق الدرب الأنصاري الكثير من الحزن والألم والعذابات الشديدة، قدم الرفيق أبو علياء بهذا الكتاب لوحة حية وواقعية لواحد من هذه النماذج المهمة، بغض النظر عن هذا الرأي أو ذاك حول هذه المسألة أو تلك. كما نشر أخرون كتباً حول تجربتهم الأنصارية؛ ** وقدمت حركة الأنصار عدداً كبيراً من الشهداء، يمكن أن نقول، أن جلهم كان يفترض أن يكون اليوم معنا، لولا الأخطاء التي ارتكبت من أبرز القيادات التي لم تكن ناضجة ولا بحجم المسؤولية التي أنيطت بهم. ومع ذلك قدمت هذه التجربة دروساً كثيرة وغنية لم تدرس بعد، وبحاجة إلى الكثير من البحث والتدقيق للوصول إلى استنتاجات تنفع القادم من المناضلين والمجتمع العراقي، والقادم من الأيام!!           
ليس في هذه القراءة المكثفة لكتاب الكاتب والإعلامي المميز يحيى علوان بأسلوبه الشعري وخياله الخصب ما يشبع عن قراءة هذا الكتاب، أتمنى أن يجد الكتاب طريقه إلى أيدي قارئات وقراء اللغة العربية، فهو خزين من المعلومات والتجارب الغنية والتي يمكن أن ينتقى منها الكثير من الدروس والعبر! للكاتب التحية والشكر الجزيل على ما وفره لي من متعة القراءة والكتابة عن الكتاب. 
كاظم حبيب، 9 شباط/فبراير 2018         

259

كاظم حبيب
قراءة حزينة وممتعة في كتاب "مطارد بين ... والحدود" للكاتب يحيى علوان

 
عنوان الكتاب: مطارد بين ... والحدود، اسم الكاتب: يحيى علوان، دار النشر: الفارابي، بيروت – لبنان، سنة النشر: 2018، عدد الصفحات: 415 صفحة.
(5،1-5)
هل بعد روعة روشنگ، تعذيب وفلق في كرمان؟!!
الطريق من إيران إلى أفغانستان مليء بالمغامرات والمخاطر، طريق يمر عبر معبرين رئيسين يستخدمان من قبل الجماعات التي تسهل العبور مقابل دفع مبالغ مالية: هما طريق طهران – زاهدان–هرات في أفغانستان، ومنها إلى كابل، أو طهران – مشهد في إيران-هرات في أفغانستان، ومنها إلى كابل، حيث يصبح الطريق سالكاً بالطائرة إلى موسكو، الاتحاد السوفييتي حينذاك. يواجه عابرو هذه الطرق الكثير من المصاعب والعقبات، بما في ذلك محاولات سلب ما يملكه الشخص من نقود أو كاميرات أو أشياء ثمينة يعتز بها لجانبها المعنوي. وأثناء وجودي في حركة الأنصار الشيوعيين قرابة خمس سنوات، استخدمت، بمساعدة تنظيم الحزب بإيران، طريق زاهدان في العبور إلى إيران ومنها إلى كردستان العراق، وطريق مشهد بإيران للعبور إلى أفغانستان، كما استخدمت مرة واحدة الطيران السوري في الوصول إلى إيران والخروج منها، بجواز سفر سوري. وعبر الطريقين، سواء أكان مع الأفغان أم مع الإيرانيين، كان العاملون في تهريب الأشخاص يتميزون بالجشع والرغبة في انتزاع وسلب كل ما يمكن انتزاعه من الرهينة عندهم. ويشعر المرافق لهم بخطورة الوضع وما يمكن أن يتعرض له، إن لم يستجب لمطالبهم غير المبررة. وإذ عبرت بسلام في السفرات الثلاث، لكنها كانت مليئة بالصعاب ومخاطر الوقوع بأيدي قوات الپاسدار الإيرانية، التي لا تعرف الرحمة ولا الخلق القويم، والتعرض للعطش المهلك الذي يقترب من حافة الشعور بقرب النهاية.. وخلال سنوات العقد التاسع من القرن العشرين وقع أنصار أحبة أسرى في كمائن الپاسدار وجواسيس العدو الإيراني وعيونه المبثوثة في كل مكان، فاعتقل وعذب وسجن بعضهم قبل ان يطلق سراحه، عبر وساطات كردية أو دولية غير قليلة، حصل هذا للرفيق الفقيد النصير الدكتور رحيم عجينة، والرفيق النصير، الذي عين فيما بعد وزيرا في الكابينة السادسة لحكومة إقليم كردستان، جورج يوسف منصور، وكذلك نقيب الفنانين لاحقاً الرفيق النصير صباح المندلاوي. كما استشهدت مجموعة طيبة من الرفاق وهم على طريق العبور من سوريا- تركيا-العراق، وبالعكس.
كان على الرفيق النصير يحيى علوان أن يصل إلى كردستان العراق عبر سوريا-تركيا العراق، وأن يغادر المنطقة، بعد ست سنوات، عبر زاهدان، ثم يُجبر، في ظروف مريرة، للعودة والعبور عبر مدينة مشهد. ولهذا أطلق الكاتب على رحلة العودة بـ "رحلة الضنى"! وهو على حق كبير، وحين التقينا قبل فترة وجيزة، تحدثنا معاً، فأخبرته بأني أطلقت على رحلتي كلها "رحلة الآلام" ولم أنشر ما كتبته حتى الآن!
كان الرفيق النصير أبو جنان (زهير الزاهر)، مسؤولاً عن تنظيم الحزب في إيران، بعد مغادرة الرفيق أبو علاء وعائلته الطيبة طهران، وإقامته محطة ضرورية للحزب في كابل، لغرض استقبال وتنظيم سفر الرفاق. وقد هيأ الرفيق زاهر مجموعة من الرفاق الشجعان والملتزمين بالسرية واليقظة إزاء جواسيس العدو وعيونه، كما اقام مجموعة من العلاقات التي تسهل له إنقاذ الرفاق في حالة وقوعهم بأيدي العدو. ولم تكن هذه المهمة سهلة، ولم تكن موفقة باستمرار. كان الرفيق يستفيد، بذكائه وكفاءته وتميزه التنظيمي ودقة عمله، من مواطن ضعف العدو، التي تبرز بشكل كبير في النظم الاستبدادية المركزية. ومع أن الكثير من الرفاق كانوا يغادرون طهران في أوقات متقاربة، إلا أن كلاً منهم لم يكن يعرف ب وجود ومكان الآخرين بطهران أو الطريق الذي سيسلكونه.. إنها ضرورات الصيانة في بلد مليء بالجواسيس والعيون، منهم إيرانيون ومنهم عراقيون زعران، في مدينة مثل طهران! ولم يكن الرفيق أبو جنان يميز في ترحيله الرفاق بين القادة والكوادر أو الأعضاء، فلديه كانوا كلهم سواسية، يفترض أن يخرجوا بسلام من إيران..
حل موعد مغادرة الرفيق يحيى علوان، وكنت حينها في طهران، على وشك الرحيل أيضاً، واختير له طريق زاهدان. رافقه أحد رفاق الحزب المتحدثين بالفارسية. وفي زاهدان، وفي طريق العبور إلى الجانب الآخر من الحدود إلى أفغانستان، حصل له ما لم يكن في الحسبان، لاسيما وأن الرفيق يحيى يعاني من ركبة مريضة لا تقوى على حمله في الحالات الطبيعية، فكيف والأمر يتطلب السرعة في السير والركض أحياناً أو حتى القفز بضعة أمتار من عل.         
يكتب يحيى: "الطريق، التي سلكناها حول قرى صغيرة في أطراف زاهدان تغط في النوم.. إلا من بعض دواب تنهش زرع الأرض في الظلام البارد.. تنظر إلينا بعيون جامدة، فيما تجتر العشب.. ليل مسلح بالظلام.. ظلمة تمد آذانها، تسترق السمع.. تجس النبض.. توحي بعيون خفية تراقبنا فتملأ الجو ريبة..". (ص 195). كان السير طويلاً في أرض يصعب السير عليها وبركبة مريضة.. فيستكمل قوله.. "هدني التعب، ونزفت ما تبقى لي من قوى. ومما فاقم تعبي حدَّ الإرهاق، أن البرية ابتلعت القمر الرضيع، وكنست السماء من نجوم براقة، سال بعضها يجرجر خيطاً لامعاً خلفه، لم تلبث أن لملمته بسرعة، مثلما يمحو الأطفال في دفاتر المدرسة خطاً إملائياً.. فرحت أتعثر، وبعصاي أتقي السقوط.. بينما يلح مرافقي أن أسرع، كي لا يفوتنا الموعد في زاهدان!.... كنت اترنح من الأعياء.. حاولت أن أقف كي استرجع أنفاساً هربت مني، أتناول جرعة ماءٍ، تحت قبة الظلام.. إلا إنه أبى!..". (ص 196).  كان مرافقي يحثني على السير "تحامل على نفسك، إن كنت تريد النجاة"!.. يحاوره يحيى، "ولكن حملي ثقيل، يا رفيق!. يرد عليه "تخفف منه، القِ به"!. لم ينتبه رفيق الطريق، أن يحيى لا يستطيع التخلص من حمل ماضيه المثبت في دفاتر يحملها على ظهره. يقول له: "حملي مشدود على ظهري! كيف اتخلص من ماضيَّ..؟!". إنها المحنة حقاً، ألمُ الركبة الذي ينهشه، وحِملهُ الثقيل على ظهره يزيد جهد الركبة ويضاعف آلامها! يحاول رفيق الطريق أن يقارن بينه وبين رفاق آخرين ساعدهم على مغادرة إيران عبر الطريق ذاته، ولكن هل يمكن مقارنة اصحاء سالمين/ مع شخص يعاني من ركبة مريضة هي المسؤولة عن حمله ونقل خطاه!
في مثل هذه الأوضاع الحرجة، يعيش المرء احداثاً شتى، تقفز إلى ذهنه كشريط سينمائي، حيث قضى سويعات حلوة في بيت المسرحي الكبير الرفيق خليل شوقي، علها تخفف من آلام الركبة والظهر وغيرها. كان إنساناً بديعاً احبه يحيى كما أحبه عراقيون وعراقيات كثُّر!..
كان على يحيى أن يصل إلى حفرة يقبع فيها لحين وصول الدليل ليعبر به الحدود. قال رفيق الدرب، أترى تلك الحفرة، علينا أن نصل إليها.. تمنى لو أن تأتي الحفرة إليه.. ولكن كيف؟ تركه الرفيق للحظات ليقضي حاجة، وسار هو صوب الحفرة.. انزلق فيها.. فماذا جرى؟ صدمه ضياء أعشى عينيه، وأيدٍ تلقفته بقسوة ووحشية، فما كان منه إلا أن يصرخ بصوت مرتفع يسمع حتى عن بعد "كمين.."، كان يريد أن ينبه رفيقه كي لا يتوجه صوب الحفرة فتتلقفه الأيدي الخبيثة.. وحسناً فعل! ذكرني سلوك الرفيق يحيى بحادثة مماثلة حصلت في العام 1955. حين كنت أسكن مع رفيقين في غرفتين في عقد النصارى ببغداد. يبدو أن الأمن قد اكتشف البيت الذي نسكنه. نصب كميناً لنا ليلاً.. حين وصلت البيت مساء، فتحت الباب تلقفتني أيدي شرطة التحقيقات الجنائية وأدخلتني الغرفة، كان الرفيق عبد الأمير الصراف قد وصل قبلي ووقع في أيديهم. كنت أعرف أن الرفيق أبو قاعدة (كاظم فرهود) سيصل البيت قريباً، فبدأت أصرخ بصوت مرتفع معترضاً على اعتقالي، علَّهُ يسمعني، فرعوا يضربوننا بقسوة بالغة لكي نسكت، ونحن لا نكف عن الصراخ، إلى أن أدركوا إن الرفيق كاظم فرهود لن يأتي، وفعلاً فقد علمنا فيما بعد أنه سمع صراخنا من بعيد وعاد راجعاً من حيث أتى وتخلص من الوقوع في الكمين! 
كتب يحيى: وبأسرع مما أسترد الشهيق، طُرحتُ أرضاً .. أحسستُ بالتراب يعفر وجهي.. كادت ذراعاي تنخلعان من الكتفين، عندما شدوا وثاقي إلى الظهر.. "ضبطوا!.." وضعي بسرعة.. كمموا فمي وشدَّوا عصابة على عيني ثم أحكموا رباط القدمين! حتى أحسست بنفسي مرمياً على صفيح بارد على ظهر سيارة پيكاب، لا تفتأ تخضني كشگوة لبن.." (ص 200).   
حين توقفت السيارة وأنزلوه منها سقط أرضاً.. لم يقو على النهوض .. شتموه بشتيمة عراقية من فم جايفُ .. صرخوا "ابن الزفرة"! عرف أنهم عراقيون.. من جنس أفراد النظام الإيراني وأتباعه.. ثم جاءته صفعات قاسية "أجلسوني على كرسي متهالك، يصدر صريراً عند أبسط حركة.... جاءني صوت: "يا الله سولفنة.. تره عدنه كل المعلومات، عنك وعن ربعك.. وإذا تچذب، راح نصلخ جلدك!.. أول وتالي نحجيك! (ص 202). كان أبو أحمد وصاحبه ملا جواد.. هما من يستجوبانه.. راودتني أسئلة عادلة ومشروعة: أين هما الآن، وبعد هذه السنين الطويلة، في أي قيادة لحزب إسلامي هم يعملون، أو على رأس أي ميليشيا طائفية شيعية مسلحة يقودان، أو أي وزارة يحتلان بالعراق؟؟ فهما من الصنف الرث  نفسه الذي يحكم عراقنا المستباح بالطائفية والفساد والإرهاب..
كتب يحيى يصف جلاوزة الجلادين المستبدين: "هكذا هو عرف الجلاوزة في أنظمة الكراهية والاستبداد، أياً كانت مسمياتهم.. ينهالون على الضحية أولاً بكل ما أوتيت لهم من بشاعة، كي تسهل مهمة "تغريده" استنطاقه، بما يريدون أو ما يفيدهم!.." (ص 2003). استعصى عليهم استنطاقه، فهو ليس من النوع الذي يلين أمام هكذا أوباش.. عالجوه بتعذيب وحشي، رضرضوا عظامه، رفعوه فلقة أوجعت باطن قدميه.. حاولوا سحق مقاومته.. عجزوا عن ذلك.. كان الغيظ والغضب والانكسار سيد الموقف لدى الجلاوزة، وفرحة الصمود الممتزجة بألم الضربات القاسية لدى المناضل يحيى علوان.
وكنت، أنا أقرأ هذا الكتاب القيم للصديق يحيى علوان، حطَّت ذاكرتي عند العام 1955 مرة أخرى، حين جرى اعتقالي مع عازف الكمان عبد الأمير الصراف وساروا بنا إلى بناية التحقيقات الجنائية.. وهنا تسلط علينا المفوض أنور عبد العزيز وأدهم العاني، أشبعونا ضرباً وتعذيباً وفلقة.. زاد غيظهم حين جوبهوا بالصمود والصمت. أعيدت هذه المسرحية في سجن بغداد، قبل ترحيلنا إلى سجن بعقوبة لنقضي فيه بقية الحكم الصادر بحقنا. جاء السجانة، جلاوزة مدير السجن، لطفي الخزرجي، والنظام الملكي، بالفلقة.. بدأوا بالضرب على باطن القدمين لكلينا، بدأت أعد معهم 1، 2، 3.. وبصوت مرتفع حتى وصلت للضربة الـخامسة والستين بعصا مهيأة لهذا الغرض.. كنت راغباً أن أغيظهم، أن أقهرهم، توقفت عن العد، عجزت عن المواصلة.. لم نعد قادرين على السير بعد أن فكوا وثاق أرجلنا.. ولكن كان لا بد من السير وتحمل الألم، لكيلا تُصاب القدمان بتخثر الدم.. وهم يدركون ذلك ويجبروك على السير شئت أم أبيت!!
حين سمع يحيى العميلين العراقيين يتحدثان عن وجود جواسيس يعملون لصالح صدام حسين، استنفرت كل أحاسيسه واستفزت مشاعره وروحه الكفاحية.. "رنَّت كالناقوس في رأسي....، قلت بحدة ظاهرة ما شأني بذلك؟! .. أنا واحد من المناضلين ضد صدام ونظامه، عانينا من نظامه الإجرامي.... أنا شيوعي، ومنذ ست سنوات، أنا في صفوف الأنصار، ألا تخجلون من هذا السلوك الشائن والتعامل المنحط مع من يقارعون صدام بكل الوسائل؟!.." (ص 205). لقد كانت جرأة من يحيى أن يقول لهم بأنه شيوعي..، أن يتحداهم وليكن ما يكون.. السجن بهذه التهمة في إيران أشرف بما لا يقاس وأكرم من أن يتهم الإنسان بالتجسس لنظام صدام حسين الفاشي.. وضُع يحيى في زنزانة انفرادية لا تختلف كثيراً عن الزنزانات الانفرادية في سجون العراق الموحشة، ضلت تحرك فيه المشاعر والذكريات ويستعيد قصائد يحاول بها أن يقتل الوقت الثقيل، أو ينظم نثراً شعرياً ضمنه كتابه بلغته الشعرية الرشيقة التي لا يتسع المجال لذكرها..   
تغير التعامل قليلاً، ولم تتغير الجفوة والكراهية.. فهم مجبولون عليها! يبدو إن الرفيق المرافق، الذي نجا من الكمين، أوصل خبر الاعتقال إلى المسؤول بطهران.. دخل للحال على الخط.. أجرى اتصالات.. فهو مسؤول عن سلامة رفاقه.. أمكن الاتفاق، على توفير فرصة لهروبه، عبر وسطاء بطهران.. وعبرهما مع الحراس المناوبين.. تم ذلك بسلاسة، رغم القلق الذي هيمن على يحيى، فهو ما يزال يواجه حظه العاثر.. استقبله الرفاق، إذ حط، بعد عدة أيام ومن جديد، في بيت آخر بطهران ليعيش تجربة سجن إجباري، أو قل، اختياري، جديدة..
كان عليه أن يبقى فترة في هذا البيت الجميل، الذي أصبح سجناً له ولرفيق آخر، إذ حرم عليهما الخروج من الدار خشية الوقوع بيد العدو.. فيحيى الآن هارب من قبضة الپاسدار.. ومطلوب رسمياً منهم. لم يعد في مقدوره رؤية روشنگ، تلك المرأة التي أسعدته ليالٍ ثلاث، ليس ممكناً التفتيش عن الطبيبة في مستشفيات طهران وشوارعها لتخفف بشفتيها وحبها عن بعض آلامه وأوجاع الضربات التي تلقاها على جسده المنهك!!         
        رحلة الضنى..، رحلة الضياع والجوع والعطش في الطريق إلى مشهد!
لم يترك الرفيق أبو جنان رفيقه أبا علياء أن ينتظر طويلاً بطهران، هيأ له بأسرع ما يمكن، إمكانية السفر إلى مشهد، إنه طريق العبور الثاني، الذي لا يخلو من مخاطر وعقبات الپاسدار، ومن صيادي النقود وباعة المخدرات، وهم يجوبون بدراجاتهم النارية مدن وأرياف أفغانستان وهم يحملون سلاحهم.. رُحّل مع عائلة بالقطار المتجه إلى مدينة مشهد بخراسان... كان كل شيء على ما يرام، مهيئاً لإيصاله بسلام.. ولكن، هل يترك حظ يحيى العاثر الرحلة بسلام، أم يلاحقه أينما حلَّ أو ذهب..، هل يمنحه فرصة النجاة لرؤية بنيَّته بسهولة.. عليه أن يدفع ضريبة حب الوطن وعشق الناس بالعراق..
انطلق القطار يسير الهوينا. إنه وبقية المسافرين، يسمعون أصوات الصواريخ تتساقط على طهران وضواحيها.. مرّ وقت مرح مع طفلي العائلة التي ترافقه.. اهتزازات القطار الرتيبة نسجت خيوط إغفاءة هانئة.. كتب يحيى "لست أدري كم من الوقت مضى، عندما انتزعَنا من المقاعد انفجار هائل، فتوقف القطار فجأة وانطفئت الأضواء.. هبَّ كل المسافرين مذعورين للنزول من العربات متدافعين، بعضهم قفز من الشبابيك.. حلَّ رعبٌ خرافي.. كنا قبل قليل في حيز مرئي محدود المعالم، صرنا في عتمة بلا حدود، كأننا نزلنا إلى عالم الظلمات!.. أصوات مخنوقة، أطفال يبكون، نساء ورجال وشيوخ يبحثون في الظلام عن ذويهم، كما لو أن مجهولاً يترصدهم في الظلمة...". (ص 244). لم يفقد يحيى العائلة التي رافقته فحسب، بل فقد هويته المزورة أيضاً وكل حاجياته، وأصبح الآن في خطر الوقوع في أيدي الپاسدار عند كل نقطة تفتيش.. والمسافة إلى مشهد بعيدة.. كان عليه أن يسير في الاتجاه الذي يسير فيه الآخرون، عله يصل إلى مشهد.. يقول يحيى: "بما أنني لا خبرة لي بالمكان وجغرافيته وليس لديَّ أوراقٌ ثبوتية، حتى المزورة منها.. وبالتالي لا أعرف المسافة إلى زمنان، سمعت مرة أن فيها أكبر معتقل لأسرى الحرب العراقيين" قرر اللحاق بهم، "أردد في نفسي "نزل جواد عند مرقد الرضا" كي لا أنساه. فهو خيط الأمل المتبقي للحاق بالعائلة.." (ص 245.) كانوا يسيرون ثلاث ساعات ليرتاحوا ساعة.. مرً يومان على هذه الشاكلة. وصلوا إلى محطة تعبئة المحروقات ولمح راية الهلال الأحمر. كتب يحيى علوان: "لمحت إلى جانب المحطة راية الهلال الأحمر فوق مبنى متواضع، إلى جانب مُصلى. اتجهت نحوه طلباً للمساعدة في تطبيب القروح في قدميّ، علني أحصل على بعض الحبوب تلجم أوجاعي.. كان في المركز امرأة ورجل بملابس بيضاء، حاولا إلجام استغرابهما من هيئتي، لكن سرعان ما تبدل الموقف إلى اهتمام واضح حين لاحظا أنني "أخرس". أدخلاني إلى غرفة المعالجة وأحضراً طستاً صغيراً فيه ماء دافئ. غسلا الجروح طبباها بمرهم، وضعا قطناً ولفافات معقمة، غسلا شعري ورقبتي، قالا عليك أن ترتاح قليلاً." (ص 253) لم يكن لديه وقت للراحة.. تركهما في رحلة صوب التيه والعطش والجوع. يهرب من نقاط التفتيش يختفي في حفرة في البراري. لكي ينجو بنفسه من أسئلة من يلتقيه في الدرب، ادعى الخرس والبكم.. فكانت تجربة جديدة يمر بها لم يفكر بها يوماً.. الطريق طويل، بعد مسيرة يوم كامل هدَّه التعب.. اشتدت الآم الركبة وقروح القدمين، رغم العلاج والحبوب المسكنة، والجوع يرهقه ويضعف قدرته على السير.. سار بعيداً عن الطريق العام ليتجنب اللقاء بالبشر.. أجبر على خوض ماء نهر ليعبر إلى الجهة الثانية، كتب يقول: "عندما خضت في ماء النهر حتى السرة، كان بارداً جداً، يحدث ما يشبه فعل المِشرط. لكن قمراً ضامراً مثل بيضة، كان قد نهضَ من فراشه متأخراً، يغتسل في النهر، ابتسم لي وغمزني مشجعاً.. حين صرت في الجانب الآخر، كنت أرتجف مثل سعفةٍ، أحاول منع أسناني أن تصطك بسرعة.. جمعت كومة من الأوراق اليابسة والعيدان، أشعلت ناراً، رحت أطعمها من الأغصان، وأتحسس دفئاً لذيذاً بدأ يدب فيَّ قرب النار، فيما الجزء البعيد عنها من جسمي كان يختض برداً..". (ص 260).   ثم واصل السير، بعد أن جفف ملابسه.
قطع مسافة طويلة في غابة، بدأت الآمه تعضه من جديد، وزادها بؤس الحالة النفسية وعدم معرفة وجهة السير.. أجبر أخيراً على العودة إلى الطريق العام، لم يعد قادراً على السير، كان عليه أن يتحرى عمن يساعده للوصول إلى مبتغاه.. كتب يحيى بلوعة ومرارة "يا طريق الضنى!.. أما كفاك شبتَ على كتفي .. فهلا تكرمت وترجلت؟!.. في اليوم التالي، ظهراً بدأ الطريق ينحدر كاشفاً عن أفق رحيب، أغراني باستراحة طويلة نسبياً في طريق ترابي غير معبد، ينحدر إلى يمين الطريق العام، ...". (ص 256).
عجيب أمر الإنسان، قدرته على التحمل لا نهاية لها.. كتب عن رحلة الضنى يقول: "كنتُ طوال الرحلة أحمل الطريق على كتفي، أداريه، لكنني دُهشت لما بلغنا مفترقا، قفز من على كتفي، تركني حتى دون وداع.. فصرت حيث أضع قدمي يصير الطريق!..".         
"من بعيد لاحت شاحنة كبيرة (تريلر) تُرسل في الفضاء عموداً من دخان رمادي. توقفت عندي وأشار لي السائق البدين، ذو الوجه السمين المُدوَّر، أن أصعد إلى جانبه في القمرة بسرعة. صعدت وحييته بإشارة من يدي.. تذمر قائلاً اللعنة على الشيطان، الذي أرسل لي أعرج وأخرس.. ثم خبط بكفه الغليظة على مقود الشاحنة "راديو ماشين خرابت! فَهمِدي؟!..". واستأنف متذمراً "أريد من يسليني كي لا أنام، فأمامي مسافة طويلة. ماذا فعلت كي يرسل الله لي شخصاً مثلك؟!..". بلع يحيى اللعنة، إذ نجا من سير طويل للوصول إلى مدينة مشهد.. في نيشابور وجد من يأخذه معه، وهو الأخرس والأعرج، بعد أن فهم صاحب العربة منه إنه يريد الوصول إلى الإمام الثامن، إلى علي موسى الرضا. قال له، أنا ذاهب إلى السوق فانتظرني. حين نزل من العربة مودعاً السائق يقول يحيى "الآن فقط، خلعت عني "حجاب "الخرس". ووجد صاحب نزل جواد، "لقد بدأ الحظ يبتسم لي من جديد". والتقى العائلة التي فقدها عند الانفجار في الطريق إلى مشهد وعمها الفرح... وعاد الأمل بالوصول إلى غايته، إلى رؤية ابنته، نهاية لبعض ألامه..                 
 انتهت الحلقة 5،1 من 5 وتليها 5,2 من خمسة   

260

كاظم حبيب
قراءة حزينة وممتعة في كتاب "مطارد بين ... والحدود" للكاتب يحيى علوان

 
عنوان الكتاب: مطارد بين ... والحدود، اسم الكاتب: يحيى علوان، دار النشر: الفارابي، بيروت – لبنان، سنة النشر: 2018، عدد الصفحات: 415 صفحة.
(4-5)
روشنگ..
لم تكن حياة الأنصار الشيوعيين كلها حزن وإحباط وألم، بل كانوا يبذلون الجهود الكبيرة لإنعاش الحياة اليومية بالكثير من الفعاليات الأدبية والثقافية العامة والمعارض التشكيلية والمسرحيات القصيرة، كما كانت الإذاعة وتحرير جريدة الحزب "طريق الشعب" تأخذ وقتاً من العاملين في الإعلام المركزي حين كان في سهل لولان، أم حين انتقل إلى خواكورك. ولكنها مع ذلك كانت محدودة وذات أفاق ضيقة، إضافة على ما كان يحصل بين الفينة والأخرى من استشهاد مناضلين شيوعيين في مصادمات مع قوات الحكومة العراقية، وفيما بين القوات "الصديقة!". كما كانت هذه الحياة تزداد جفافاً حين يطول بقاء النصير سنوات كثيرة في حركة الأنصار دون أن يفكر المسؤولون بضرورة إجازة هؤلاء الرفاق ليغادروا الموقع. وما زال في ذاكرتي ذلك الطبيب الذي قضى عشر سنوات في حركة الأنصار لم يطالب بخروجه ولم يفكروا بمنح إجازة له. وحين التقيته مرة وعلمت فترة وجوده رجوته أن يقدم طلبا. وبعد الحاح مني قدم الطلب وأجيز وخرج فعلاً، ولكن كان قد نسى الكثير من علم الطب، رغم أنه كان الطبيب الأول الذي أجرى الكثير من العمليات الجراحية للمصابين أو لحاجات اضطرارية وعالج الكثير من المرضى، وكنت أحدهم، إن الطبيب مهند البراك. وهكذا كان وضع صاحب هذا الكتاب. لا شك إن طول الفترة كان يضفي على النصير الكثير من الملل عندما تكون الحركة بطيئة وليست هنا فعاليات تساعد على تنشيط فكر الإنسان وروح. وهو ما كان يفت في عضد الرفاق وتبدو حياتهم يابسة فعلاً وكئيبة أيضاً. وهو ما تجلى في كتاب يحيى علوان، وليس الناطق بتجربته وحده، بل هو يعبر عن تجارب الكثير من الأنصار الذين ضحوا بالغالي والنفيس أثناء وجودهم هناك، بل بعضهم فقد حتى عائلته..   
في هذا الجزء من الكتاب تتغير الحالة نسبياً، وتقل العثرات التي رافقت الفترة السابقة والانتظار المديد، ولو لفترة من الزمن، مهما كانت قصيرة، وتنتعش الابتسامة، ويشرق الحب من جديد، في قلب من كان الحب والتفاؤل والأمل لا يفارقن حياته، كانا جزءاً من عناوين مهمة في مجرى حياته وعلاقاته الإنسانية، لولا جليد الانتظار المرهق والوعود المراوغة! غادر يحيى قواعد الأنصار وخلع ملابس الأنصارية الكردية، وارتدى ملابس الأفندية، على حد تعبير العراقيين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وحط الرحال في مدينة أورمية، حيث يعيش فيها المسيحيون والكرد والتركمان،  ليتوجه منها إلى طهران مباشرة. غادر الباص مساء أحد أيام الصيف ويحيى علوان أحد ركابه. ما أن حل الليل حتى سرح كاتبنا بأحلامه وهمومه، يقتل الوقت باستعادة ذكرياته، تقطع بين الفينة والأخرى من مساعد السائق، حيث يصرخ بصوت أجش، "صلوات الله على محمد وأل محمد"، برطانة يصعب فهمها. كان يحيى بين النوم واليقظة، حين شعر بشيء يمس إحدى قدميه. سحبها لئلا يزعج من يجلس أمامه، بعد أن كان قد مدهما ليريح ركبتيه المتعبتين من الجلوس الطويل. بعد لحظات قصيرة مدهما من جديد.. احس باللمس الخفيف ثانية، وكان مقصوداً.. وحين حل الظلام ولم يبق سوى ضوء خافت، التقت عيناه بعيني سيدة إيرانية متلفعة بالجادر، ارتسمت على محياها ابتسامة مستحية ومحببة. شعر بارتياح ممزوج بهزة خفيفة منعشة تجوب كيانه.. فبعد سنوات ست عجاف ويباب، تحرك مشاعره دغدغة خفيفة من امرأة في قدميه.. رغم وجود النصيرات في الحركة الأنصارية كن قد تحولن إلى مقاتلات تلفهمن خشونة الحياة وعصاميتها بعيداً عن حياة الحب التي هي جزء من حياة الشبيبة.
استلذ يحيى بتلك الأحاسيس حين لامس إبهام قدمه باطن قدمها اللدن.. والتقت النظرات ثانية وارتاح لمغزاها.. فهل من أمل في هذه اللعبة الخفية. يقول الكاتب: "تكررت اللعبة من جديد.. لمَّا التفتت بنظرها ناحية اليسار، بانت ظلال ابتسامةٍ في جانب من وجه صاحبة القدم.. أخذت تدفع قدمي، التي تعرت من ضغط حذاءٍ جلدي، لم آلَفه منذ سنين في الجبل". (ص 118) إنه غزل من نوع جديد جميل وبرئ، لم يألفه من قبل! يا له من سحر جميل، إنه، كما يقول يحيى، "أقرب إلى لهو الطفولة منه إلى الحرمان أو الكبت الدفين..". فهل نصدق هذا الوصف، بعد صوم جنسي مديد وحرمان أكد؟ استطابت له اللعبة، فدغدغ مشاعرها، وابتلعت ضحكة مكتومة.. ثم توقف الباص في طهران، انتهت اللعبة الظريفة، وطار الحلم بمتعة جديدة، حين نزلت، وكان في استقبالها شخص أنيق بسيارته، لم تلتفت لتمنحه نظرة الوداع! عندما استقلت السيارة وغادرت الكراج..
استقبله الرفاق في طهران، وسكن في بيت فيه أكثر من عائلة ونزيل، بينهم عائلة عراقية من تلك العوائل التي هجرت قسراً إلى إيران قبل بدء الحرب العراقية – الإيرانية، في الطريق مات رب العائلة بجلطة قلبية. استقر يحيى في غرفة صغيرة بانتظار أنجاز وثيقة تؤهلة عبور الحدود الإيرانية إلى افغانستان. وفي أولى جولاته بطهران، استفزه سلوك النظام الإيراني، حين أجبروا الشخصية الشيوعية الإيرانية وحبيس سجن "إيفين" المروع، إحسان طبري، ليمتهنوا كرامته، ليتحدث لسامعيه، عن سوءات الفكر الشيوعي والأخطاء التي ارتكبها، إنها محنة المناضلين في مثل هذه النظم المستبدة. في هذا السجن الموحش، قضى فيه، أحد رفاقنا الأنصار، سنوات عدة، تعرض فيها إلى أبشع صور التعذيب الوحشي الإرهاب النفسي والجسدي، وصمد وتحدى النظام وجلاوزته. وقد سجلت مذكرات الرفيق رحيم الشيخ علي (واسمه الحركي حيدر فيلي) في كتاب أصدره الكاتب عبد الرحمن منيف بعنوان " الآن.. هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى)، والغريب أن كاتب الرواية لم يذكر فيه حتى اسم كاتب المذكرات حيدر أو يشير إلى إنها أخذت من تسجيلاته!!     
كانت الحرب العراقة الإيرانية ما زالت مستمرة، وكان القصف المتبادل ضد سكان المدن وبعيداً عن جبهات القتال غير منقطع. تجمع الناس في ساحة الأمام الحسين بطهران ليعبروا عن احتجاجهم ضد هذا القصف العشوائي الجنوني. كتب يحيى علوان وهو المشاهد لهذا التجمع "...بلغت حماسة الجمهور واحدة من ذراها بإخراج "مسرحي" مؤثر، عندما اعتلى المنصة بعض ذوي الضحايا.. من بينهم عجوزٌ، مقوسة الظهر .. لم تبكِ ولم تولول!.. كانت كسيرة الخاطر...، كانت تحمل رضيعاً بقماطه، رفعت رأسها إلى السماء وصاحت: لا اعتراض على أمرك.. أخذت أمه واباه، لماذا لم تأخذه كذلك، مع اشقائه الأربعة .. من أين لي أن أرضعه؟!.. ثم كشفت عن ثديين سائحين مثل عجينة ممطوطة، أمن هذين الثديين الجلد؟..." (ص 156). لقد كان المنظر عصياً على التحمل.. هاج الناس وماجو.. هكذا هي حروب الحكام، هكذا دائماً كانت، وهكذا كان الأبرياء والضعفاء وقودها!         
 من بعيد وفي زحمة شديدة التقت عينا يحيى بعيني سيدة الباص، التي دغدغته ولم تودعه، ولو بنظرة خاطفة. ثم غابت عنه.. كتب يحيى "فجأة التقت نظراتنا، مستني بابتسامةِ من كرنفال عيونها الرمادية المائلة إلى الزرقة.. رَفَّ القلب كنطيط أرنب مفزوع.. ارتبك النبض. حاولت أن أصرخ بيد أن خرساً شل لساني وما عرفت كيف أناديها..". (ص 156).
في حسرة على  ضياع ما كان في أمس الحاجة إليه، قرر نسف أسبوعيته الشحيحة في اقتناء الخمرة، وليكن بعدها الطوفان، فاليوم خمر وغداً أمر، على حد قول امرؤ القيس. منعت السلطات الإيرانية الخمرة، فانتشرت الخمور في كل أرجاء إيران، ولاسيما طهران، وأكثر من أي وقت مضى، حتى في فترة حكم الشاه حيث كانت مباحة. فاليوم، يصل الراغب فيها متى يشاء، بأنواع شتى وبأسعار أعلى، يستفيد منها من يمتلك السلطة ليتاجر بها عبر وسطاء ويكدس الأرباح. وهكذا، حين حُرَّم البغاء، ازداد الجنس واتسعت دائرة ممارسته "المحرمة!" في إيران، وابتدعت أساليب جديدة، بما في ذلك زواج المتعة!! في أحد الأيام كنت مع الرفيق ابي علاء في سيارة تاكسي بطهران.. استفسر السائق بفضول عن هويتنا، قلنا له سوريون.. نظر إلينا بالمرآة وقال بجسارة بالغة: هل تريدان مزاولة الجنس.. يمكنكما الحصول على بنات جميلات باكرات بعمر الزهور لا يزدن عن 16 و17 سنة، فهل ترغبان؟!.. قلنا له، كلا.. شكراً على العرض.. لسنا بحاجة.. لم يقطع الأمل، قال تخسران شيئاً جميلاً، أنهن من بنات الملالي، لم تر الشمس فر...!! رجوناه أن يتوقف، فسكت عن الكلام غير المباح!
كتب يحيى علوان بفرحة غامرة: اليوم تسلمت مخصصاتي الأسبوعية، وقررت أن أذهب إلى چاراه مولوي لأشتري كيس لبن.. جهزت المازة وغسلت صحنين ليكونا جاهزين لأطباق شهية، وأشعلت شمعة كي تكتمل مراسيم سهرة تنقصها امرأة طالما حاولت استدراجها لكنها كانت تتمنع بغنج معجون بخبث لئيم!..". ورغم الخمرة كانت الوحدة موحشةً..       
لم يبخل في التفتيش عن سيدة الباص، يجوب شوارع وأزقة طهران، وكان له ما أراد.. التقيا ثانية بعد أيام وعلى غير موعدٍ، عند مفترق طرق، لم ينتظر أن يفقدها هذه المرة، لحق بها امتدت يده ليمسك بيدها بقوة، وبجرأة ما عهدها فيه، أخذها معه، بين استحياء وتمنع خفيف ورغبة في السير معه، رغم الخشية من عيون شرطة "الآداب" الوقحة، التي تتجول في طهران في كل مكان، لتمسك من تعتقد أنه ليس زوجها أو أخيها! كتب يحيى: "كنت عند الإشارة الضوئية للعبور، لمَّا لاحت لي في الجانب الآخر من الشارع، أحسست بما يشبه صعقةً كهربائية، بعثرتني، فلم أدرِ ما فعلت.. كانت تلف نفسها بإزار حريري أسود، تمسك به أسفل الصدر بطريقة مغرية كعادة صبايا طهران.. تسمرت في مكانها، عندما رأتني أحدّقُ إليها... ركلت التردد وكل كوكتيل الخوف والخجل، حصل لدي قطعٌ!.. لم أعد أفكر في نتائج فعلتي.. تَعَشَقتْ أصابع أيدينا، بعد أن تلعثمت في البداية..". (ص 158). حين وصلا الدار تمنعت، ولكن.. كان بحزمه جاداً وصادقاً، فاستجابت.. فصعدا السلم، ودخلا الغرفة، بعيداً عن فضول عيون نزلاء الدار.. فكان الحب المشبوب.. "كنا شبحين وسط عتمة حطَّت سريعاً، ولمَّا حاولت أن أدير مفتاح الضوء، أشارت بإصبعها أن أترك ذلك.. آملةً أن تخفف الظلمة من حرج قد يعتريها وهي تقشر نفسها أمام عين غريبة". (ص 160). ويتساءل يحيى مع نفسه: ما سرُّ وجعي بكِ، يا امرأة؟!. وهل كان يحيى يحتاج إلى مثل هذا السؤال أو جواب عنه..، بعد ست سنوات من اليباب والتصومع!..       
يصف يحيى لياليه الثلاث بجمالية رفيعة وأدب رشيق ولغة الغزل المباح، وكأننا في إحدى ليالي ألف ليلة وليلة المليئة بالعشق والوله بين جسدين مشبوبين. كتب عاشقنا الحزين في مسرة نادرة "أمسكت كتفيها، لأردع جسدي، كي يكف عن فضح ضعفي.. فإذا بجسدها، هو الآخر قد تصلب وراح يختضُّ، شفتها السفلى ترتجف، كأنها تتمنع.. مررت بأناملي فوق رمانتيها، رق لحمها، فانحل جسدها.. جسدان مرتبكان، يستظلان أحدهما بالآخر.. تضاءلت الخيارات بعد أن زال "الحجاب"، الذي كنا "نسترذل" تحته حاجات الجسد ونعرض عنه". يصف يحيى ليلاه "أرخت يديها من حولي كأنها تريد أن تعبَّ مزيداً من الهواء في صدر اعتصرته بقوة لا شعورية، فانفلت نهدان مذعوران، يبحثان عن دفيئة يلوذان بها.." (ص 163) أما عن نفسه فيقول: "ضممتها إلىَّ، كان عطرها ثرثاراً.. رحت أتهجى كل تفصيل فيها، لم تبد ممانعة.. أحسست بأنفاسها تلفح وجهي، وبتموجات تنبع من مغارات اللذة.. عندما أسندت رأسها على كتفي، تريدُ أن تنوش بلسانها شحمة أذني! غرقت في طوفان مدوخ من خليط عطور....، أمسيت فاغر الفاه.. هرب صوتي وحل صمت يحاور كلمات لم أتفوه بها..". (ص 163) لقد قطف يحيى ثماراً محرمة.. ما أحلاها..
لقد اقترن الحب بالمداعبة والشقاوة المحببة، لقد أسكره الحب دون خمرة. كان الحب خمرة الحياة! إذ بدونه لا حياة.. لم ينعم برحلة الحب الجميلة سوى أيام ثلاثة، أجبر بعدها على شد الرحال، إلى مدينة زاهدان في طريقه إلى أفغانستان. فماذا واجه في هذه الرحلة وكيف عاشها وكيف وصل إلى برلين؟ هذه كلها سأتطرق إليه وبكثافة شديدة في الحلقة الخامسة والأخيرة من هذا الاستعراض المكثف لكتاب يحيى علوان الشيق فشكراً له على هذه المتعة التي وفرها لي لقراءة كتابه..   
   

                     

261


كاظم حبيب
قراءة حزينة وممتعة في كتاب "مطارد بين ... والحدود" للكاتب يحيى علوان

 
عنوان الكتاب: مطارد بين ... والحدود، اسم الكاتب: يحيى علوان، دار النشر: الفارابي، بيروت – لبنان، سنة النشر: 2018، عدد الصفحات: 415 صفحة.
(3-5)
مطارد بين "الله" والحدود
هذا الجزء المهم من الكتاب يتضمن نصوصاً عديدة، بعضها تتجلى فيه الفرحة الغامرة والنشوة، وبعضها الآخر يعكس الحزن الذي يهيمن على الإنسان، حين يتحول الحلم الجميل إلى وهم جارح يترك ندباً كثيرة. وفي هذا الصراع المرير بين السعي لتحقيق الحلم، وبين تحوله إلى وهم، ولاسيما عند السياسيين، يتجلى في مجرى الحياة اليومية للإنسان، والتي عبَّر عنها يحيى علوان بلغة رقيقة تبعث على التفكير وتشيع البهجة أحياناً، رغم ما تحمله في ثناياها من حزن شفيف، ومصاعب جمة مرً بها الكاتب ذاته، وعاشها لحظة بلحظة، وتمرمر بها كثيراً. فحين يتحدث عن قرار صدر قبل عامين ونصف العام بـ "تسريحه!" من حركة الأنصار الشيوعيين للسفر إلى برلين للعلاج ولقاء العائلة، والاتصال من جديد بالمدنية والحضارة وعالم الكتب الحديثة، لتجديد الفكر وتنشيط العقل والروح وتغيير ما ترسب في النفس من أفكار عقيمة أو مرهقة، ثم لا ينفذ القرار إلا بعد عامين ونصف العام، خلالها يتحول الحلم إلى وهم مستمر ضاغط يرهق الإنسان ويلعن حظه العاثر. يقول يحيى بلغة أدبية مأزومة "قم فمن نجا من الموت ليس بالضرورة أفضل حظاً، على الدوام، ممن ماتوا..، قم اسحل جراب أحلام لم تصبح مستهلكة بعد.. حدق بعيون رعاة النسيان، استقرئ صمتهم الفاجر.. وانتبه، قد يجفل من خطوك القطا، يدثّر فراخه بالظنون!.. خذ المفتاح.. بأناةٍ ادخل حصن التيه، هاجسك عكازك.. حيث الغموض مسجى في الزوايا النائمة!... خذ عصاك تتوكأُ بها على زمنٍ مراوغ.." (ص 94)     
حين يشعر الإنسان أن ظلماً يلحق به يومياً، دون أن يجد له سبباً يبرره، عندها يعجز العقل وينهك الجسد على تحمل البقاء في المكان الذي هو فيه، خاصة حين تطرح ألف ذريعة وذريعة مراوغة لتسويف "التسريح!"، وحين يرى بأم عينيه كيف يغادر كثيرون الموقع دون رجعة. يقول يحيى بوجع، رغم غبطته بخروج الآخرين: "ستمر أمامك "قوافل"، تعبر لـ"العلاج"، ولا تعود..! ولأنكَ "منضبط" وتخجل لأن هناك غيرك ممن جاءوا قبلكَ إلى هنا، لن تسأل.. ولهذا أطلق الكاتب عنواناً فرعياً لهذا النص ليعبر عن هذه الحالة "التي هو فيها "مزلقة الوهم تبدأ بالتمني!..". ما زلت أتذكر خريف عام 1984، وأنا أرى مصاعب السير عند يحيى بسبب الركبة، إلحاح "أبو نسيان" بمغادرة الموقع، حين قدمت طلباً للمرة الثانية، دون إبلاغهما بذلك، لتجنب الإحباط المحتمل حين لا يأتي أي جواب، أؤكد فيه ضرورة مغادرتهما إلى برلين وبراغ. وكانت ثلاثة أسباب وراء هذا الطلب: الصحة العليلة والعائلة وضرورة تجديد الفكر والحيوية وطول الفترة، إضافة إلى الرغبة. وقيل لي بأن الطلب يدرس من جانب المكتب العسكري والمكتب السياسي! غادرت الموقع في نهاية خريف العام ذاته. وعلمت أثناء المؤتمر الرابع للحزب 1985 بأن الموافقة قد تمت على الطلبين. ولكن لم ينفذا إلا بعد فترة طويلة حقاً! يقول يحيى علوان بهذا الصدد: "عامان ونصف العام سينقضيان على قرار سفرك.. لا الشهر القادم أتى، ولا الثاني والثلاثون.. وستظل تنتظر". (ص 95).
عجيب وغريب أمر من يصبح مسؤولاً عن مجموعة من البشر، فيسعى لكي يتحكم بحياتهم وأرواحهم، بل حتى بأحلامهم، ويعمل على تحويلها إلى أوهام. إنهم يسعدون بعذاب الآخرين! إنها السادية! كانت هناك عدة طرق لعبور الأنصار نحو الخارج عبر الحدود الإيرانية الأفغانية، وعبر الحدود الإيرانية السوفييتية، وعبر الحدود التركية السورية، إضافة إلى طريق الجو من طهران إلى دمشق، والذي لم يكن يستخدمه إلا من يملك جوازاً سورياً صالحاً. كل هذه الطرق كانت ممكنة مع صعوبات غير قليلة، وغالباً ما عرقل المسؤولون العسكريون عن القواطع خروج الرفاق بذريعة الحاجة لهم، والطريق "غير سالك"، أو غير "آمن"، وهم يعرفون إن الطرق كلها، بهذا القدر أو ذاك غير "آمنة"، رغم صدور قرارات من المكتب السياسي بخروج عدد غير قليل من الرفاق!! ليضرب الرفاق رؤوسهم بالصخر، لن نسمح لأحد بالخروج! لقد أثار هذا الموقف المتعجرف والمتصلب احتجاجاً عادلاً ولغطا مفهوماً، وأدى بالبعض إلى المغادرة على مسؤوليته الخاصة، فوقع فريسة في أيدي العدو الإيراني، زج به بالسجن وتعرض للتعذيب وبالشفاعات خرج البعض منهم. لقد صح قول البعض: من جاء باختياره، لا يحق له أن يخرج باختياره!! يقول يحيى علوان: "فاحت رائحة الليل ونداوة الوادي، كانت الساعات تطحن الزمن ولا تدري ماذا تفعل بنخالته.. إلى أين سيفضي بنا المسير عن بلادٍ ارتديناها عشقاً، كي لا يقتلنا زمهرير الشتات..؟! ستأكل أقدامنا الطرق، وبغبار المسير سنعبث بخرائط الحدود، وَلاّدة الحروب الحمقاء..!". (ص 101). هكذا كان وضع الرفيق أبأ علياء، إذ كتب يجسد هذه اللوحة بألوانها الداكنة: "سلام على حُمَّاكَ ورجفة قلبك يوم أبلغوك بقرار سفرك للعلاج ولقاء العائلة، ما أن تصبح الطريقُ سالكة..."، سنتان ونصف حتى أصبحت الطريق سالكة.. ثم يقول: بأسنانك ستقضم الهواء والثلج، كي ترى اللامرئيَّ، مستعداً ستكون لتصديقِ، حتى الكذبة، لأن الحلم يظل أحلى من تحققه علك تنوش غَدِكَ المُضرِبَ عن المجيءِ.." (ص 94).
كان الحزن يهيمن على الأنصار، وهم يرون كيف يموت الناس بأعدادٍ غفيرةٍ في الحرب المجنونة بين إيران والعراق.. وكانت اللعنة الأبدية تصب على رؤوس النظام الفاشي بالعراق حين غزا إيران وبدأ به الحربَ ضدها... ولكن اللعنة تحولت ضد إيران حين حررت أرضها، وحين رفض "الملالي" إيقاف الحرب، وبدأت القوات الإيرانية تحتل أرضاً عراقية، بدأت شفلاتها وجراراتها تجرف الأرض العراقية في الجنوب والوسط وفي جبال كردستان. تغير الموقف. وحين يتحدث يحيى عن الحرب يقول: "غولٌ رهيبٌ هي الحربُ، خراب عميم بكل المعاني من دون زيادة أو نقصان، .. الحرب تندلع بمنتهى السهولة والحماقة، وتسيل دون لعثمة على شفاه المذيعين، تتصدر واجهات الصحف.. وما أن تطول حتى يهرب القراء إلى الصفحات الداخلية، لأنهم ألفوها وألفوا تهجيتها وتلاوتها.... هي ريح شرقية تهب من زمن اليباب، تبحث عن شجرة لتقتل كل خضرة، تجنن الطير، فيروح يبحث عن جناح، يهربُ لينقذَ ريشه..!" (ص 108). 
من كان مشاركاً في حركة الأنصار الشيوعيين، كان باستمرار، وأيا كان الموقع الذي هو فيه، مشروع شهادة، لا يدري متي يحصده الموت، بيد قناص وهو يسير عبر الجبال أو يتنقل بين القرى، أو بصليات نارية كثيفة عبر جندي في طائرة روسية سمتية. لقد استشهد الكثيرون على أيدي العدو، ولكن المصاب أعظم حين كان الاستشهاد يتم على أيدي من يشاركونك القتال ضد النظام. لقد حدث هذا حين حصل القتال بين پيشمرگة الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث قتل عشرات الأنصار الشيوعيين وبعض الشيوعيات الباسلات غدراً برصاص الاتحاد الوطني، قتلوا حتى بعض الأسرى عندهم في معارك بشت آشان الأولى والثانية! يقول يحيى بهذا الصدد: "مشغولة هي الحرب.. لا تكترث لإضافتنا إلى فاتورتها.. من نكون نحن، غير نكرات تتلفع بأسماء "حركية" غفلة لا ماضٍ ولا مستقبل لها..؟! مجرد كائنات تشغل حيزاً من الحاضر.. مشاريع للذبح من قبل الأعداء، وحتى "الأصدقاء"..!" (ص 108/109). كانت هذه الحالة هي الأخرى جزءاً من واقع الحياة النضالية الأنصارية! يمكن ان تنجو من هذا الخطر أو ذلك وبعد سنين طويلة حين تبلَّغ بقرب سفرك، وحين تجد نفسك فعلاً في الطريق إلى "بنيتك"، تشعر بقدرتك على استنشاق هواءٍ نقي تمتع برؤية قرية كردية، "أشنوية"، التي تمر بها في صبيحة يوم مشرق. يصف يحيى هذه القرية: "ضوء صباح رخيٍّ، يغمر القرية فتضج بتظاهرة من أصوات دجاج وبقرٍ وكلابٍ ونهيق حمير. قرية تستيقظ على مهلها، تلون سماءها بأعمدة من دخان المدافئ/الطباخات.. تغوي بغفوة صباحية لذيذة، قبل صعود الشمس نحو قبة السماء." ص 109).     
يركب الحافلة في الطريق إلى طهرن. تراوده من جديد تلك الكوابيس الخانقة التي شقيَ بها وهو في موقع الإعلام المركزي، يوم حلم بأن ركب الحافلة لتنقله إلى بنيته الحلوة، ثم توقفت الحافلة في الطريق فينزل منها، وإذا بها تغادر دونه فيركض محاولاً الوصول إليها، فتبتعد فيسرع الركض، تتوقف وكأنها تنتظره، وإذا بها تسرع من جديد. يشعر بالغصة، بالاختناق، وكأنه يسقط في وادٍ سحيق لا قرار فيه.. يقول يحيى: "مثل ملسوع أقفز إلى باب الباص، أمسك بمقبضه، إذ حضر طيف زارني غير مرة في الجبل.. وما زلت أتذكره جيداً.. كنت أرى في المنام أنني في سفرة طويلة بحافلة كبيرة، ليس فيها مرافق صحية وأنا حاقن أريد أن أفرغ مثانة تكاد تطق.. وعندما يقف الباص في محطة للاستراحة... حين أنزل مع الركاب، تنطلق الحافلة، فأركض خلفها.. حتى أدركها في اللحظة الأخيرة لاهثاً، يابس الحلق، وقد علقت على شفتي بقائم شتائم.. ولكن لكم..؟ فالحافلة لبلا سائق...". وفي الطريق إلى طهران يتحدث يحيى مع نفسه فيكتب: "تُرى بماذا يحلم المسافرون النائمون في باصً، يقطُع بسكين ضيائه كعكة الظلام..؟! سأهمهم مع نفسي بكلام غامضٍ، يرن في صمتٍ، يَرِجُع بدوره إليّ..". (ص 113).                               
وفي نص أخر تحت عنوان "من قتل الزهرة في صدري..؟! يكتب بذاكرة ما تزال طرية بعد وصوله طهران. فكله شوق جارف، حب عارم لإبلاغ عائلته، لاسيما ابنته، بوصوله إلى طهران وقرب مغادرته لها صوب برلين، المدينة الثقافية التي تركها منذ ما يزيد عن ست سنوات عجاف! لقد مرّ بقرى كثيرة، ولكنه لم يتمتع منذ سنوات بمدينة كبيرة كطهران فيقول عنها: "طهران تستيقظ مثل تنينٍ رهيبٍ، مصحوبة بزفة من ضجيج، لا يهدأ إلا سويعات قليلة آخر المساء.. فعند الفجر يستيقظ مؤذنو المساجد، يرتدون، على عجل أقنعة التقوى، دون أن يؤدوا غُسل الجنابةِ! يستلون ميكروفوناتهم من حضن الليل، طلباً للثواب.. فيعلو الضجيج، يرتعد في نومه الرضيع.. ثم لا يلبث أن ينتصر على فزعه فيروح يتمطق بثدي أمه، أو يرضع إبهامه.. طوفان مخيف من الحافلات والسيارات تملأ ميدان ئازادي والشوارع، التي تصب فيه وتتفرع منه..". (ص 123).
ترجل الكاتب على عجل من الباص ليبحث عن كابينة للتلفون ليتصل بمن يساعده على الوصول إلى برلين عبر الطرق الموازية ذات المخاطر المحتملة أولاً وليتحدث إلى عائلته يبشرها بوصوله إلى طهران وقرب مغادرته لها نحو برلين. وإذ سعد بالوصول إلى ضالته بطهران، انتكس مزاجه بقسوة الخيبة التي جوبه بها. يقول عن ذلك:
"كان لديَّ وقت كافٍ، كي أسفح ملل الانتظار بالذهاب إلى البريد وإخبار الأهل في برلين، أَني صرت الآن على الطريق ... ويلزمني بعض الوقت، حتى أصل برلين.. لأنني بدون وثائق، ووجودي في إيران غير شرعي، وقد يحدث مكروه يقلبُ كل الخطط!..". (ص 128). فكيف كان الفعل ورد الفعل؟ الفعل لم نقرأه لدى يحيى، ولكن ردّ الفعل الذي جوبه به يفضح الفعل ذاته: يقول يحيى: "ترنَّحتُ ودارت بي دائرة البريد، لما خرجت من سماعة التلفون، هراوةٌ انهالت على سمتي.. مصحوبة بعواء ٍ وبذاءات ٍ تركت في الأذن صريراً يبعث على الغثيان.. شب حريقٌ في صدري، خرجتُ، تقيأت دماً، بفعل المذبحة، التي نشبت بداخلي.. جلست على درجات البريد أعبُ هواءً بارداً، أختض من هول الصدمةِ.. كنت قد وطّنتُ نفسي على جفاء وعتبٍ، وبرودةٍ.. إلاّ هذا الكم من الصَغارِ والحقد!..". (ص 129). 
يقول يحيى بكلام عذب وفيه الكثير من المرارة لجفوة وشتائم لا يستحقها: "يا مفيستو، أنا لم أكن باحثاً عن ذَهبٍ أو مجٍد وشهرةٍ، ما كنت صيادَ فرصٍ للنجومية ولا اعتلاء عرش بطولة!.. بوصلتي هذا الضمير، الذي لا أملك غيره.. كنت أسعى، مع كثرة من الصحب، دماؤنا على راحات أيدينا، وراء حلم بوطن خال من الذل والقهر.. وطنٌ نليق به ويليق بالكل!.. ما كنا بحارة خسروا كل شيءٍ في ملاهي مرافئَ نائيات.. ألهذا أستحق كل هذه البذاءات الرخيصة والشتائم؟! لست أنا من يستحق ُّ الشتيمة !.. غيري في أغلب الظن!..". (ص 131). حتى بعد كل هذا كان يحيى رئيفاً بغيره! (ويشير الكاتب يحيى علوان إلى أنه استعار شخصية مفيستو من"فاوست الأيرلندي" لداريل لورنس. عند داريل – مفيستو – ليس شيطاناً ورمزاً للشر، بل رمزاً للذكاء والفطنة والألمعية والأناقة، خلافا لما صوره ملتون وكريستوفر مارلو وحتى غوته.)
يحيى علوان، الذي وطَّنَ نفسه على الألم، أحس بسكين غرز في صدره.. جرح ينزف.. راح يصرخ كالملچوع بسیخ (سفود) محمر، متوهج، حارق: "بنيتي، هذا المساء.. وكل مساءٍ يحمل ُ إليَّ غمّي، الذي يسكن الصدر، في الحنجرة.. يضيق المكان.. يقل الهواء، فأشعر أني أختنق، فأصرخ.. أسمع صوتك فأهدأ.. لكن المسافة تبقى بيننا، امسحها بالحلم.."، ثم يهيم على وجهه في دروب طهران أو يستقر في الغرفة يعيش وحشته، يتساءل بحسرة: أين أنتِ الآن؟!.. لهفتي عليك!.. أنتِ التي دوماً أنادي دون أن يأتي صدى منها، لكنها تسكن وحدتي/وحشتي الظمأى إلى شيء قليل من ندى جسد ٍضممت فظلَ يحرقني في كل نبضة.. اقتات بها في زمن يمضي سريعاً, دون أن يمضي بها .. لأنها في سمائي، في هوائي..". (ص 142). وهكذا حُرم المناضل الذي قضى جل عمره حتى الآن في الدفاع عن قضايا الشعب، وقضى ست سنوات عجاف يحرم من صوت ابنته، من رؤيتها، وتحرم هي من حنان ورعاية الأبوة.. إنها محنة الإنسان الذي يحمل في وجدانه وضميره قضية شعبه!!
                                       




262


كاظم حبيب
قراءة حزينة وممتعة في كتاب "مطارد بين ... والحدود" للكاتب يحيى علوان

 
عنوان الكتاب: مطارد بين ... والحدود، اسم الكاتب: يحيى علوان، دار النشر: الفارابي، بيروت – لبنان، سنة النشر: 2018، عدد الصفحات: 415 صفحة.
(2-5)
رَكبُ الخردَل..
.
المدخل للنص
في هذا النص الأدبي الحزين والمكثف يسجل يحيى علوان ما وقع لحركة الشيوعيين الأنصار في صيف عام 1987، وبالتحديد في الرابع والخامس من حزيران، ومن ثم في فترة لاحقة. وما تعرض له الشيوعيون في هذه الفترة، كان جزءاً من هجوم همجي دموي وفاشي شنته قيادة النظام الدكتاتوري البعثي بقرار من صدام حسين على كل الحركة الأنصارية والپيشمرگة وشعب كردستان بكل قومياته، في حملات أطلق عليها بـ "حملات الأنفال"، التي تحولت في الفترة بين عامي 1987 و1988 إلى عمليات إبادة جماعية عنصرية مريعة، حيث استخدم فيها السلاح الكيماوي، بما في ذلك كارثة مدينة "حلبچة"، حيث أُطلق النظام على السلاح الكيمياوي في تقارير الاستخبارات العسكرية العراقية مصطلح "العتاد الخاص"! لم تكن حلبچة وحدها هدفاً للسلاح الكيمياوي، بل مناطق أخرى من الإقليم، ومنها بهدينان! 
 لقد شنت مدفعية النظام وطيرانه الحربي موجات من القصف المدفعي والجوي بالقنابل الانفلاقية والعنقودية وبالسلاح الكيماوي على مقرات الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستاني في منطقة بهدينان، استخدم فيها غاز الخردل على مدى يومين سقط فيهما ثلاثة شهداء للشيوعيين و125 جريحا ومعوقاً، وفي الحملة الثانية سقط ثلاثة شهداء أيضاً، منهم أبو الوسن، إضافة إلى عددٍ آخر من الجرحى والمعوقين. وعانى الجرحى فيها من إصابات شتى، فمنهم من أصيب بعمي موقت، ومنهم من لم يعد قادراً على التنفس، ومنهم من لم يعد قادراً على السير، وكان بين المصابين نصيرات وأنصار.
كانت الدلائل كلها تشير إلى أن النظام بدأ باستخدام جميع ما لديه من أسلحة هجومية وسلاحه الكيمياوي المحرم دوليا، مثل غاز الخردل وغاز السارين، ضد قوات البيشمركة الكردستانية والأنصار الشيوعيين والسكان المدنيين في مختلف محافظات إقليم كردستان، وأنه سوف يشمل بهذا الهجوم جميع المناطق دون استثناء. ومع ذلك لم تتخذ قيادة الحزب والحركة الأنصارية الاستعدادات الضرورية لمواجهة احتمال توجيه ضربات كيماوية ضد مقرات الحزب الشيوعي في قاطع بهدينان القريب من الحدود التركية، وكذلك ضد مقرات قوات الپيشمرگة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني. فعلى سبيل المثال يشير أحد المقالات الذي كتبه النصير فائز الحيدر، وهو شاهد عيان، إلى ما يلي: "..، ومع الأسف لم تتخذ أية اجراءات احتياطية بعد أن قام الطيران بمهمته وهو يحوم حول المقر، وواصل القاطع اعماله الاعتيادية لليوم التالي وكأن شيئا" لم يكن !!!!، بالرغم من أن القاطع قد امتلأ بالرفاق من أعلى المستويات الحزبية والمواقع الأنصارية جاءوا الى بهدينان لحضور اجتماع المكتب العسكري والسياسي للحزب". (فائز الحيدر، قصف قاطع بهدينان بالأسلحة الكيمياوية، موقع الناس في 30/04/2007). وكانت الحصيلة كارثية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان. لقد جاء في كتاب للاستخبارات العسكرية العراقية برقم (12703) وبتاريخ 10 حزيران/يونيو 1987 بهذا الصدد ما يلي:         
"تم توجيه ضربة جوية بـ(العتاد الخاص) الى مقر الفرع الأول لزمرة البارزاني في منطقة زيوه الكائنة شمال شرق العمادية- محافظة دهوك والتي يتواجد بالقرب منها مقر القاطع الشمالي (قاطع بهدينان) لزمرة الحزب الشيوعي العراقي العميل وكانت الضربة مؤثرة وان خسائرهم 31 قتيل و100 مصاب". (راجع: کورديپيديا - عمليات الأنفال، الجزء السادس - Kurdipedi).
*****
عن النص
اختار يحيى علوان هذا الحدث الإجرامي "رَكبُ الخردَل: من بين مجموعةٍ كبيرةٍ من الأحداث التي مرت بها حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين، وهي التي بدأت في نهاية العام 1978، ليكتب نصاً أدبياً جامعاً، يتضمن رؤيته الثاقبة والمتحررة من قيود حزبية ثقيلة، ولكن بوعي ومسؤولية عاليتين، عن جملة ظواهر في إطار حركة الأنصار. كتب النص بوجعٍ ممضِ، وبكاءٍ صامتٍ، ودموع حبيسة، وحزن ثقيل، على تلك الضحايا الشابة التي طعنها الجلاد في لحظات قليلة، ثم وضع يحيى يده على مكامن الخلل التي رافقت العمل الأنصاري: غياب المعرفة العسكرية لدى "الجنرال"، رغم "عصاميته!"، نقص المعلومات عن حركة وأساليب العدو، سوء الإدارة والتوزيع العقلاني للقوات، قصور في الوعي، وضعف في الحذر واليقظة، ثم تحدث عن أجواء الاستخفاف بالعدو والغفلة أولاً، وضعف الثقة والخشية من احتمال بروز تطير يمكن أن يصيب الأنصار ثانياً، رغم أنهم جاءوا إلى هذا المكان بإرادتهم، أو تحت ضغوط حزبية نفسية، وهم مع ذلك كانوا يدركون المخاطر الجمة التي ستواجه وجودهم على أرض معركة ساخنة لا رحمة فيها من جانب العدو، ولا نكوص عن المسيرة! ثم يتطرق وبسرعة خاطفة، إلى أهمية الموضوع، لما كان عليه الموقف الأممي المصلحي من تلك الأحداث! لقد كتب يحيى علوان نصّه الجديد "رَكبُ الخردَل" على وفق معايشته الشخصية لهذه التجربة الحزينة والأليمة في آن!   
بعد مرور عشر سنوات على تشكيل حركة الأنصار الشيوعيين، لم تحقق الحركة انتصارات ملموسة تعيد البهجة لنفوس المقاتلين، بل كان لسقوط المئات من الشهداء في معارك داخلية، بين پيشمرگة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وپيشمرگة الاتحاد الوطني الكردستاني، المتنازعة بالدم على الموقع الأول، تورطت بها قوات الأنصار الشيوعيين، وأكثر مما استشهد في معارك ضد العدو الصدامي، ترك أثره البالغ على نفوس ومزاج المناضلين، الذين كانوا يحملون رؤوسهم على راحات أيديهم في كل خطوة يخطوها في جبال وأرياف وسهول كردستان العراق. اغلب المشاركين في حركة الأنصار الشيوعيين كانوا من المثقفين والدارسين ومن حملة الشهادات العالية والكوادر العلمية والحزبية المتقدمة. وكان هذا أحد أسباب تعيير الأنصار بأنهم غير قادرين على تضبيط حمولة بغلٍ، حتى قال، وما زال صوته يرن في أذني كمطرقة رعناء، الرفيق أبو يعقوب: "الرفيق اللي ما يعرف يشد بغل، شلون راح يگدر يقود شعب!". أو حين جئت مسؤولاً حزبياً عن قاطع بهدينان قال لمن حوله من الرفاق "أهوووه، هاي شلون شغله، چان عدنة مثقف واحد ما خلصانین، شلون راح نگدر اندبره مع مثقفين اثنين!!".. كتب يحيى علوان عن هذه الحالة الجارحة: "يا بُنَيَّ لا تقص رؤياكَ على أحد ٍ.. "فتصير جباناً..!" في زمن يعتدُّ بشجاعة الجهل.. يَستعذب رؤية خبير فيزياوي، أو مثقف، يحار في تضبيط حمولة بغلٍ، ربما لم يشهده من قبل..! "هكذا، هم المثقفون!.. لا يحسنون غير الثرثرة،.. والتسيب".. مقولةٌ يتمطق بها "الأميون " دفاعاً عن مواقعهم". (ص 75). إنه بذلك سجل ظاهرة وجود المثقفين في وسط جمهرة من الفلاحين، في وسط ثقافي ريفي.. أطلق رافضو وجود أنصار مثقفين تسمية "دجاج مصلحةً" لصعوبة سيرهم في الجبال أو لنزاكتهم، وبرهنوا عملياً غير ذلك..! ثم يعود الرفيق يحيى علوان ليذكر بالمصير المشترك المحتمل للمثقف والفلاح، للمتعلم والأمي في المعركة التي يخوضونها سوية في مواجهة عدو يتربص بهم جميعاً فكتب: "لا تُفسد أحلام صًحبٍ، جاءوا مثلك، على فراش من حُلمٍ، يسترجعون زهواً، افتقدوه في شتات، موحش.. على أمل عودٍ يرمم ما خلفه الغياب.. سيموتون مثلك مكفنين بالحنين إلى تلك المواطِنِ.. قد يعيش أطفالهم ويموتون كذلك على ما سيرثونه من حُلُمٍ.." (ص 75).
وأمام هذا الحشد الهائل من الشهداء والجرحى يتساءل كاتبنا المبعد عن هذا القتل المتعمد والمجنون لشباب بعمر الزهور، لا يملكون غير حبهم لهذا الوطن المستباح بالاستبداد والفاشية والعنصرية، وباستخدام السلاح الكيمياوي: "ألأننا تجرأنا على الحلم ببقعة ضوءٍ، رَدَّ العدوُّ علينا بمنجنيقٍ يَسعَلُ "خردَلاً" وتنينٍ يتجشأ لهباً..؟! (ص 75). كانت هناك خشية بعد أن حامت طائرات العدو فوق رؤوس الأنصار تهددهم بمصير كالح، يقول الكاتب: "التوجسُ منشغلٌ بتحضير بطاقات دعوةٍ لمآتمَ، ستقامُ على من نَخَرَ "الخردَلُ" أجسادهم، ونَسيَ "التاريخ" أن يفرد لهم صفحة.. لأنهم أناس عاديون، ومع ذلك لم ينتصروا.. حتى على "أقدارهم"..! (ص 77). وإذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ لم تُتخذ الإجراءات اللازمة من جانب المسؤولين لحماية من لا حماية لهم غير أنفسهم. كتب يحيى علوان وهو يئن تحت وجع يعضه عضا: "انتصروا على مخاوفهم ورغباتهم فقط، كي ينقذوا المصيرَ من مصيره، لأنهم قرأوا كفَّ الأقدار، فقال لهم "الجنرال"..!، مثل تمثال متجهم صالب ذراعيه عند الصدرِ كي يمنع انكسار معنيات، هي صلبةٌ أصلاً.. "كلا هذه قنابل دخان ولا شيءَ آخر.. إياكم والمغالاة..! لأنها تثير هلعاً لا يليق بمناضلين..!". ويتساءل يحيى علوان: "ترى لماذا تصر "الألهةُ" على ألاّ تخطئ بحق غيرنا..؟! أَلأننا غررُ منضبطون". (ص 77).       
وفي أثناء حراسته، يوقظ يحيى علوان طباخ الفصيل لتهيئة فطور الأنصار، ويراقب من بعيد قدوم مفرزة، ربما إنها مجموعة جرحى الخردَل مع بعض البغال، الذين أخبر فصيل الإعلام بالأمس عن قرب قدومهم. يصف حال رفاق المفرزة: "..، "قافلة" تترنح على المنحدر باتجاهكم.. أهي قافلة "غجرٍ" من مهربين أم "مفرزة"..؟ الناظور سيحسم الموقف، قافلة تمشي الهُوينا، كأنها تهبط على سلم نازل من غيمة.. ثلاثةُ بغالٍ، مشدودة الآذان تتمايلُ بحذر، تنقل قائمةً، بعد أن تتأكد من ثبات بقية القوائم.. حَذَرٌ، ليتنا تعلمناه منها، على الأقل..! واحدٌ منها كان محملاً بما تحتاج إليه "القافلة/المفرزة" وآخران، على ظهر كل منهما شخصٌ، لم أتبين مَنْ هُما.. كانا أشبه بنائم يتشبثُ بخيطٍ صحوٍ هاربٍ.. كأن ملاكاً رحيماً يدفعهما من الظهر، يُنسيهما متعة "الألم" و"الخطيئة"!.." (ص 80). ثمانية راجلين، أو ما يزيد، يتساندون كأنهم سكارى".. مضرجين بما لا يمكن للناظور استبيانه من هموم.. يلملمون وجعاً، لا يكل عن التشبث برحيق النرجس.. وحزمة مواويل تناكف الغياب والنسيان..". (ص 81). لقد وصل الجرحى بعد مسيرة أيام أربعة من بهدينان إلى مقر الإعلام المركزي في خواكورك تنهك الصاحين!، وصلوا بأمل المعالجة. استقبلهم رفاق الإعلام، هيئوا لهم الماء والشاي وما توفر من فطور.. كانت أوضاعهم يرثى لها، يقول عنهم النصير يحيى علوان "كأن خزينهم من القوى أفلت صمام أمانه، فأندلفت طاسته دفعة واحدة لَمَّا وصلوا إلينا.. جلس البعض، وآخرون استطالت أجسادهم على الأرض.. وجوه سمراء كَدَّها الإرهاقُ، صفرة باديةٌ في بياض العيون، علقوا جراحاتهم في المآقي، إلى جانب غموض، أشبه بسؤال كبير يبحث في وجوهنا عن جواب لا نملكه. أنين هنا ونداء هناك.". (ص 84). فضوله الصحفي والإنساني، وبدونه لا يمكن أن يكون الإنسان صحفياً ناجحاً، يدفعه لمعرفة ماذا جرى، وكيف جرى، للرفاق الأنصار، وكيف هو إحساس أحد هؤلاء الثمانية الجرحى.. ذهب إليه وجده قد "تمدد تحت سقيفةٍ، كُنّا نسميها مجازاً بـ"المطعم"، لعلنا نُبقي على صلةٍ لنا بواقع أصبح رماد ذكرى، بفعل "التقادم" الزمني..! فضول شرس ينهشني أن أندس إليه، فأرى آخر ما أبصره.. أن أُطِلَّ على شموس ذكرياته.. ترى بماذا كان يَحلمُ!.. بي شوق أن أرى ألوانَ مراكب الرحيل مزركشة، جهزها الحنين للعبور..". (ص 85) ولكنه تراجع وتخلى عن فضوله، حين رآه منهكاً إلى حد اللعنة، "كان يعالج دوار شهيق متهالك، يليه زفيرٌ مهدورٌ.. متعثراً بأنفاسه، يشفط الهواء بمشقة مصحوبة بخرخشة في الصدر، مثل حمل صغير يستجلب ضرعاً جف..". (ص 86) خشي عليه من "عواء المدافع" التي لا قدرة له على منعها! 
وأمام هذه المآسي المتلاحقة يشير يحيى علوان إلى ما كان يجري بين النظام الفاشي والدول الاشتراكية وأحزابها الشيوعية، لقد سكتوا عما كان يجري من قتل وهدر دماء، وواصلوا تسليح الجيش العراقي في حربه ضد إيران، وضد الپيشمرگة، کما انهم واصلوا تسليح إيران ايضاً في الحرب المجنونة بين الدولتين، وتصرفوا بـ "براغماتية "أممية..!" آثرت نسيانهم، لئلا تَخرَبَ مصالحها الخاصة..!". (ص 80).                                   
 ينهي يحيى علوان هذا النص الحزين بكآبة المدرك للمأساة والمسؤول في التعبير عن خزين ذاكرته، ففيها حياة آخرين، إذ كتب يقول:
".. سأودع الريح.. إن سألتني "ماذا تحمل عني..؟" سأقول "غاز الخردَل"، "وقيعة "المروحيات وزجاجاً لا وظيفة له هنا، غير أن يتشظى..! سأحمل صولجان حزني، وأصيح: هنيئاً للعافية، فاتها أن تمسني بجناحٍ..! سأرفع رايةً من كلامٍ أبيض مطفأ، لا يحتاج إلى حماسة.. فها أَنذا أترك الشجر يتخبط في شرك الريح..".
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة 3-4
     


263
كاظم حبيب
قراءة حزينة وممتعة في كتاب "مطارد بين ... والحدود" للكاتب يحيى علوان
 
عنوان الكتاب: مطارد بين ... والحدود
اسم الكاتب: يحيى علوان
دار النشر: الفارابي، بيروت - لبنان 
سنة النشر: 2018
عدد الصفحات: 415 صفحة
1-4
مع بداية عام 2018 صدر كتاب جديد للكاتب والإعلامي العراقي يحي علوان، بعد أن كان قد صدر له قبل ذاك العديد من الكتب المهمة منها: "همس – الجثة لا تسبح ضد التيار" في العام 2003، و"تقاسيم على وطنٍ منفرد" نصوص نثرية في العام 2012، وكلاهما صدر عن دار كنعان بدمشق، وله ترجمات مهمة منها "المشط العاج" رواية فيتنامية (1969)، و"الفاشية التابعة" (1984)، نصوص ألمانية، و"حوارات المنفيين" لبرتولد بريشت (2002)، و"أيها القناع الصغير أعرفُك جيداً، للكاتب الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو (2005).     
يتضمن هذا الكتاب عدداً من النصوص الأدبية المميزة، وضعت تحت عناوين لافتة مثل: وجع الذاكرة، وسجرت تنورا غَفَا، ورَكبُ الخردل، إلى نصوص سردية للذاكرة المتوجعة، مثل: مطارد بين الله والحدود، ورحلة الضنى، طهرن – مشهد، وفي كل من هذه السرديات الأدبية الجميلة ذات المضامين المحركة للفكر، عناوين فرعية أخرى.   
يضع الكاتب يحيى علوان في كتابه الجديد تجربته الشخصية المليئة بالأحداث والمفاجآت، حلوها ومرّها، أمام القارئات والقراء ويأخذهم معه في جولته المضنية التي استغرقت ست سنوات تبدأ في العام 1983 وتنتهي في العام 1988، حين سلك طريق العبور المعقد من سوريا عبر تركيا إلى إقليم كردستان العراق، ليحط هناك تلك السنوات المحيرة بين الوهم والحلم، ثم ليغادرها صوب طهران فمشهد (خراسان) في الطريق إلى أفغانستان، ومنها إلى موسكو فبرلين. قال عن هذه الذكريات أنها التجسيد الحي لوجع الذاكرة، إنها رحلة الضنى، التي لا تريد إلا أن تجد طريقها إلى الورق ومنه إلى وعي الإنسان، إلى القارئة والقارئ، ليتصورا مع الكاتب  وحشة الطريق ومرارة الأحداث وعمق التجربة وكثرة الأخاديد والأثار التي تركتها سني النضال على جسد الإنسان وروحه وقبل هذا وذاك على عقله. لقد كتب هذي النصوص بلغة أدبية رشيقة وحديثة مع أنه استخدام في أحايين كثيرة كلمات عربية قديمة غير متداولة أعاد لها الحياة بصورة جميلة. يقول عن هذه السنوات الست "بهذه النصوص سأحترقُ راضياً، قنوعاً!.. هي سفرُ تسللي، ستاً من العمرِ (1983-1988)، إلى وطني، ومنه.. وما استدعاه من تداعياتٍ وتهويمات.. تقترب أحياناً من أجواء كافكا، حين يكون المرء مطارداً، وسط تيه.. لمّا يكون ضعيفا، معزولاً، تحت رحمة المجهول.. خلواً إلا من غريزة النجاة.. ". (ص27).

قرأت الكثير من المذكرات التي كتبها أنصار شيوعيون، بعضهم حافظ على مواقفه، وبعضهم تخلى عن مواقعه الفكرية والسياسية وتحول إلى مواقع أخرى، بعضهم أجاد عكس التجرية وإغناء القراء وهم قلة. ولكنهم لم يبلغوا الشأو الذي بلغته تجربة الصديق والرفيق المناضل يحيى علوان، لم أقرأ هذا الكتاب الغني بأفكاره ومواضيعه ولغته الأدبية كأي قارئة أو قارئ لم يمرا بهذه التجربة الإنسانية الغنية، بل عشتها أيضا، بحلوها ومرًها، بغنى التجربة التي منحتني وفقر فرص النمو الفكري والجدب الثقافي، رغم المحاولات الجادة للمبدعين على تنشيط الحياة الثقافية، عشتها بكل معاناة المشاركين فيها، وأجريت بعفوية مقارنة بين معايشتين، أو تجربتين، تجربة يحيى علوان المؤلف، وتجربة كاتب هذا المقال. شعرت باحترام واعتزاز للمؤلف لصراحته وصدقه في التعبير عن أحاسيسه ومعاناته الإنسانية، في لحظات الإحباط والانتعاش، لحظات الألم والخوف ولحظات الشعور بالحيوية والشجاعة والإقدام..       
لم يمنحنا يحيى علوان فرصة التعرف الحميمي على ما خزنته ذاكرته من تجارب وأوجاع وأفراح شخصية وعامة فحسب، بل قدم لنا هذه الذكريات بلغة أدبية حديثة وجميلة، تجلت في صياغة لوحات فنية يمكن لأي رسام مبدع أن يحولها إلى رسوم تشكيلة بألوان الحياة ذاتها، بما فيها من ألوان زاهية وأخرى داكنة وبينية، بألوان قوس قزح أو ربيع الدنيا وخريفها. يقول عنها يحيى "إنها كتابة أدبية، فيها همسٌ وبوحٌ موجوعً، حتى وهي تصرخ أحياناً! نصوص مؤثثة بلغةٍ غير مستهلكة، لا علاقة لها بلغة الفاست فود الثقافي "Fast Food" التي تعج بها سوق الكتاب...! (ص 27). وهو في هذا على حق.
في مستهل الكتاب يتحاور الكاتب مع نفسه وقرائه عن وجع الذاكرة، عن العلاقة الجدلية بين الحلم والوهم، بين الحلم الممزوج بمخيال إنساني سليم، بما يمنح الإنسان الحيوية والدفء ودفق الحياة والتطلع إلى أمام، مما تتميز به الشبيبة، وبين الوهم الذي يتسرب إلى النفوس حين يكون الحلم في فراغ، أو بلا أدوات تحقيقه، حينها يتحول الحلم إلى سراب خادع، يُجهض الحيوية ويُنغّص على الإنسان طعم الحلم والحياة.
هنا لا يتحدث يحيى علوان عن حلم إنسان اعتيادي، بل عن حلم إنسان مثقف وسياسي، حمل معه الحلم الأبدي للإنسان، حلم الحرية والحياة الخالية من الاستغلال والعسف والجور والظلم، حلم التحرر من الخوف والجوع والحرمان..، حين شد الرحال ليترك الوطن الثاني ويلج من جديد الوطن الأم، وإذا به يصطدم بـ "جنرالات" خاوية، لا تعي معنى الحياة ولا تميز بين الوهم والحلم، وبالتالي لا تعرف، بل حتى إنها لا تعي أهمية التحري عمن يساعدها على توفير أدوات منع تحويل الحلم إلى وهم. إنها الكارثة بعينها.. لأنها ساهمت في فقدان الكثير من الشبيبة التي كانت تحمل ذات الأحلام وتعيش على أمل تحقيقها!
لا يتحدث يحيى، النصير الشيوعي المقدام، عن تجربته الذاتية فحسب، مع معرفته المسبقة بأن لدى الآخرين تجارب ذاتية أخرى متباينة، رغم ما يجمع بينها من مشتركات، بل عن تجارب تعد بالمئات بل بالآلاف لمناضلين ومناضلات من الأنصار الشيوعيين والشيوعيات الذين تسلقوا جبال كردستان قادمين من جهات شتى، من داخل الوطن المستباح، أو الذين نزحوا من الشتات العراقي ليعودوا إلى الوطن حاملين الكتاب بيد، والبندقية باليد الأخرى، مع حلم الخلاص من الذين حولوا العراق إلى سجن كبير، من الدكتاتورية والدكتاتور، من الفاشية التابعة! حين ينشر يحيى تجربته الذاتية، لا يصادر تجارب الآخرين، ويعتبرها إغناء تصب في خزين الذاكرة العراقية، إذ يقول: "في هذه النصوص، عندما يحضر المتكلم بقوة، فأنه ليس ضمير المفرد المتكلم بالضرورة. إنها "مركزية السارد".. كلامُ يجري فيه التعبير عن "الكل" بـ "قاموسٍ ومفرداتٍ" شخصية.. ذات جديدة مُجربة، لديها ما تقوله عن تجاربها بلغتها الخاصة، غير " البائتة".." (ص 28).               
يتحدث يحيى عن تجربته الشخصية بلغة واضحة ودقيقة، بل محسوبة جداً، دون أن يؤكد إنها نهائية، بل هي رؤية ذاتية.   وهي قابلة للنقاش. إذ يضعنا وجهاً لوجه أمام سؤال كبير هل كانت التجربة ضرورية، وهل حققت الحلم أو اقتربت منه، أم عبرت عن وهم لم يحسب له حساب. وهو يطرح هذا السؤال دون أن يشعر بندم خوض التجربة، ولكن أهمية طرح السؤال تكمن في كون الحياة لم تنته، وهذه التجربة ليست نهاية التاريخ.. وهنا تكمن أهمية الصياغة الدقيقة والواعية للتجربة. والسؤال المشروع الذي يواجه كل قارئ وقارئة نصوص هذا الكتاب هو: هل أصاب يحيى بذلك صلب الموضوع؟ اعتقد جازماً بإنه قد أصاب في واقع الحال ما كان يفكر به، أو ما يزال يفكر به، كثيرون من الذين كانوا في هذه المدرسة الفكرية والسياسية ذات الرؤية والنظرية الصائبة، وفي ذات الوقت، ذات التطبيقات الخاطئة والسيئة، ليس كلها طبعاً، وفي الحصيلة اقترب، بل وأحياناً كثيرة، تطابق، لدى منتسبي هذه المدرسة، الوهم مع الحلم، إنها مدرسة مشتركة فكرية وسياسية واجتماعية مشتركة لم تجدد نفسها تماماً، ولم تصحح الكثير من أخطائها حتى الآن!! وحين يشير يحيى علوان إلى هذه المدرسة المرجعية يقول: "فقد انهارت فينا "المرجعية"، التي كانت تؤطرنا، تنظم العالمَ من حولنا، تزودنا بموقعٍ وهوية، مقابل أن نتخلى لها عن رأينا الشخصي...! تحطمت، وغدا كل منا له "مرجعية" لذاته، معيارها الصدقية.. ذلك أن التجربة قد غمرتنا، سحقتنا، فرحنا نمشي على "لحم أسناننا"، مما لم نتعوده من قبل.. (ص 27)
وفي النص المعنون "سجرت تنوراً غفا"، يطرح الكاتب بشكل غير مباشر مقارنة سديدة بين مناضلين أبوا إلا أن يحترموا كرامتهم ويصونوا كلمة المثقف، وبين من ركعوا للمستبدين، ممن ارتضوا تمريغ كرامتهم بالتراب، من سمحوا باستباحة فكرهم والدوس على مواقفهم بالنكوص عنهما والقبول بالعيش في سجن الدكتاتور ليحتسوا الذل وفقدان الإرادة ويحصدوا الذل والاستهجان، إذ كتب يقول: "ندري يا صوفي، أنَّ الاستبداد والإرهاب نوّخ الناس.. رضيت الغالبية بالصمت نطقاً واستراحت.. تتشرنق به لتواصل "العيش" الشحيح، في حين أنَّ زمرة من "النخب" باعت نفسها للحاكم لضمان العيش والمنصب!.. ولم يعد ذا قيمة أن يكون المرءُ مثقفاً مفكراً، مبدعاً أو عالماً إلا إذا كان في خدمة الحاكم يحرق له "البخور"!.. وهكذا أضحت القامات مسخاً، استسهلت أن يكون الرأس مَداساً لأقدام الطغاة..". (ص 36). وهنا تحضرني المسرحية التي كتبها الكاتب والصحفي المبدع ماجد الخطيب بعنوان "عاشق الظلام"، التي تتحدث عن مثقف بارز تخلى عن هويته الفكرية وصار جزءاً من مداحي الدكتاتور! لا أشك في أن النقد الذي يتوجه للمثقف الذي يتخلى عن فكره تحت ظروف قاسية عادل، ولكن يبقى الجلاد هو المسؤول الأول عن سقوط الضحية، الجلاد الذي وضع مثل هذا المثقف وغيره بين خيارين إما الموت أو الذل والارتزاق والتطبيل "للقائد الضرورة!". وهذه الظاهرة ليست عراقية بحتة، بل هي عالمية، ولهذا يميز الناس بين المثقفين، بين مثقفي السلطة الجائرة ومثقفي الشعب..   
من استخدم طريق العبور من سوريا عبر تركيا إلى كردستان العراق، وهم غالبية الأنصار الشيوعيين، كان عليه أن يقطع مسافات طويلة، وأن يحمل اثقالاً إضافية، ليس فقط ما سوف يحتاجه هناك من ملابس وحاجات أخرى بل السلاح والعتاد الثقيل، والمثقف كان عليه أن يحمل معه زاده من الكتب التي لا غنى له عنها، وكان البعض يسخر من هذا الحمل الثقيل.. كتب يحيى علوان "سأحمل معي، يا صوفي، كما تدري، مجموعة من الكتب والمصادر، أملأ بها حقيبة ظهرٍ كبيرة.. سيقول ر. أبو محمود (جلال الدباغ) ور. أبو حسن (عادل...): الطريق صعبة، تنهك حتى البغال.. وأنتم أول من سيسلكها.. ما حاجتك للكتب، نخشى أن ترميها في الطريق من شدة التعب، فيستدل العدو على الطريق الجديد...؟! سأقول لهما أني أحتاج إليها في عملي الإعلامي.. سيسخرون مني". (ص 64). ولم يرمها في الطريق بل حملها رغم أصابته برصاصة غير طائشة! لم يكن الطريق دون مخاطر سواء بتعرض الجندرمة التركية للقافلة حين يكتشفون وجود الأنصار، أو حين يعبر الأنصار النهر. وعبِرَ هذين الخطرين سقطَ شهداء لنا قبل أن يصلوا إلى هدفهم المبتغى. وكان يحيى علوان واحداً من المصابين حين جرح في ركبته بفعل قناص تركي أصابها بطلقة جعلته يتحامل على نفسه للسير بجرحه للوصول إلى الهدف. يقول عن ذلك وهو يتحدث إلى صوفي، دليل الطريق الذي استشهد على أيدي القرَقول التركي: "نعدك أنا سنسير.. فقد رَوّضنا جنوح الفتوة فينا بما ينسجم مع انضباط عسكريٍّ!.. لن نستريح عندما عن حملنا وأثقالنا الأرجل تعيا.. ليس مهماً كم سيطول بنا المسير، وكم عسيراً سيكون.. فلقد حملنا معنا، أيضاً زوّادة من الحماسة اللازمة، تعيننا.. نتقوت بها بغض الشيء عندما ترتخي أنشوطة العزيمة!" (ص 37/38). من مرّ بهذا الطريق يعرف معاناة رواده الشجعان، فقد كان الإرهاق، وكان الموت قاب قوسين أو أدنى منه، "عندما يصل الإِرهاقُ إلى أقصاه، تفرُ منك، حتى الأحلام.. تخذلك الذاكرة..، ويعجز الجسم حتى عن حمل أعضائه.."، ويستكمل الصورة حن يكتب: " وبما فينا من وجع فاض عن حدود القدرة الإنسانية، ولأن موتنا صار أمراً عاديّاً، سنجلس لا نقوى، حتى على تبادل النظرات..". (ص 53). في هذا الطريق اجبر الكثير من رفاق الدرب إلى رمي الكثير مما جلبوه معهم من ملابس وما يحتاجون إليه وما دفعوا عنه نقوداً، ألا السلاح الذي حملوه على أكتافهم، راحوا يجرونه جراً من شدة التعب. كتب يحيى علوان: "فهذا "سامي" سيغدو مثل صغير أنهكه الإعياءُ، راح يجرجر لعبته العزيزة (بندقية كلاشنكوف) وراءه، ومما به من ضجر وتعب، غدا يرمي "لعبه" الأخرى كيفما اتفق.. سنلتقط كل ما سـ"يتخفف" منه، شريطة أن يحافظ على العهد ولا يصدر نأمة تضيعنا جميعاً.." (ص 53). إنها الخشية من الربايا التركية التي سرعان ما تلتقط الأصوات ليوجه قناصوها نيران بنادقهم صوب المسيرة..
وإذا كان بعض السائرين على هذا الطريق قد استشهد فيه، والكثير منه وصل إلى مقرات الأنصار سالماً ومنهكاً، فهناك من جرح بنيران كمائن الترك، ولكنه واصل المسيرة حتى المقرات. وكان يحيى علوان واحداً من أولئك الشجعان المصابين برصاص العدو الجامح.. يقول يحيى علوان "سأعض على أوجاع ركبة أصابتها رصاصة من الكمين التركي أثناء العبور إلى الأرض التركية، سينفد ما لدينا من ماء، وتجف حلوقنا، وسيسأل كل منا من هو أمامه وخلفه عن شربة ماء.. حتى الأدلاء استنفدوا ماءهم.. وسنصاب بما يشبه الهستيريا لما اختفينا في كهف جهنمي، راح ينفث ما اختزنته صخوره اللعينة من حرارة الشمس طول النهار، حتى تمر دورية القرَقول التركي." (ص65). 
من لم يمر بمثل هذه التجارب، يصعب عليه تصور الحالة النفسية والجسدية والعقلية التي يصاب بها الإنسان، فالإحباط والحزن والذكريات الداكنة والكوابيس القاسية تتساقط عليه كزخات المطر، فتراه، كما عبر عن ذلك الإحساس يحيى علوان بقوله " أريد أن أدق باب أمي وأفرح لفرحتها بعودتي سالماً، مهشماً، وأعتذر عن الغياب... أتمدد على حصير فوق بلاط الحوش وأشبع نوماً وشخيراً، دون أن أزعج أحداً، أو يعكر نومي أحد... ولكن من سيحرس حلمي إذا نمت.. ؟! من يطرد الذباب عني والبعوض، لو حلمت أني أحلم.. أن ماتت أمي.. ؟! يا لوحشة أمي وخيبتها من بكرِها الغائبِ، حتى عن "صلاة الغائب" عندما يدخلونها القبر فلا تجدني بانتظارها.. ". (ص 70). 
وحين ينتقد الخط السياسي الذي اتخذ حينذاك، وحين يتابع أولئك الذين يقولون "لو أن الشهداء كانوا أحياءً اليوم، لما سلكوا مسلكاً آخر، ولاتخذوا الخط السياسي نفسه الذي قررناه.. !، "ليتساءل عن حق: "ترى من أين لهم هذا اليقين الصلد، يتجرأون به على من رحلوا.. ؟!، ثم يكتب بحرص المستفز "بي جوع أن أصرُخَ وأهتف بسقوط الذرائع والمبررات، كي أتحرر وأكفر عن ذنوب وسوءات لم أرتكبها.. !" (ص 50). إنها الغشاوة والجمود، التي تمنع من دراسة علمية معمقة لتجربة راحت وانتهت، ولكنها تركت خلفها الكثير الكثير الذي يحتاج إلى مراجعة وتدقيق! مع كل البطولات التي اجترحها الأنصار، ولاسيما الشهداء منهم، ومنهم الرفيق صوفي.
ابتداءً يرى يحيى علوان بعين ثاقبة أن هناك من سيقول: إن هذا النصير تعبٌ ونادمٌ عن مشاركته في النضال العصيب!، فيتدارك الأمر بوضوح ويكتب: "هي بالتالي ليست كتابةً نادمة على ما فات، بل نصوصاً مفتوحة، صببت فيها شيئاً من نزف الروح وما جفًّ من حبال الحنجرة.. عصارة ما جنيته من خبرة حياتية متواضعة.. أصبت فيها حيناً، وأخطأت أحياناً.. لا هي رواية ولا قصة، لا هي نص علمي.. بمعنى لا مكان فيه للاستدلال أو التوثيق.. بل هي نصوص أدبية تعرض لـجانب فقط من تجربة شخصية، لا تنفي غيرها..". (ص 26/27). 
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة 2-4



264
كاظم حبيب
إلى أين يسير النظام السياسي الطائفي الفاشل والكارثي؟
مرَّ ما يقرب من عقد ونصف العقد على تسليم قوى الاحتلال الأجنبي حكم العراق بأيدي القوى والأحزاب الإسلامية السياسة الطائفية بهدف إشاعة الصراع الطائفي والديني وعدم الاستقرار بالبلاد. وهذا ما حدث فعلاً لخدمة أهداف الولايات المتحدة بالمنطقة، التي استفادت منها إيران أولاً وقبل كل الآخرين. وكانت أعوام الحكم السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية وما تزال مليئة بالصراعات والمرارات والفساد والإرهاب، أعوام عجاف جلبت معها الموت والخراب والدمار وتعميق التمزق الذي أحدثه نظام الخيانة والعنصرية والحروب، نظام البعث وصدام حسين، أعوام سيادة الهويات الفرعية القاتلة وطرد وسحق سحق هوية المواطنة العراقية المشتركة والموحدة والمتساوية، أعوام تميزت بالنهب والسلب لأموال الشعب والنفط الخام من جانب حكامه وأعوانهم الذين يدعون دوماً الإسلام دينهم، ولكن الشعب نادى بصوت عالٍ ومسموع في جميع ارجاء العالم "باسم الدين باكونة الحرامية"، :وباسم الله هتكونة الشلاتية"!! وواحد من أبرز هؤلاء الحكام الذين مرغوا كرامة الوطن والمواطن بالتراب، إذ حقق معجزة عندما تحدث صادقاً وبصراحة تامة ولأول مرة في كل حياته السياسية حين قال، في مقابلة تلفزيونية نقلت على الهواء مباشرة بعد إزاحته عنوة من رئاسة السلطة التنفيذية في صيف عام 2014 وبعد اجتياح الموصل/ ما يلي: 
"وفي الحقيقة، المتصدين من السياسيين، والشعب يعلم، وأنا أعتقد، بإن كل الطبقة السياسية، وأنا منهم، ينبغي ألاّ يكون لها دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق.. لأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، [وأنت منهم سأل الصحفي]، نعم، وأنا منهم، ينبغي أن يبرز جيل آخر بخلفية الوعي لما حصل وبخلفية الأخطاء التي ارتكبوها...". ولكن هل ابتعد هذا الرجل عن السياسة وترك الحياة السياسية لجيل آخر لرسم خارطة لعملية سياسية جديدة، أم ما يزال يعمل بكل السبل المشروعة وغير المشروعة من أجل تكريس الطائفية السياسية في الحكم وتكريس وجود ودور المليشيات الطائفية المسلحة في التا\ثير المباشر على مجرى الانتخابات القادمة. لم يتحدث نوري الملكي في تلك المقابلة عن أخطاءه الفعلية، عن ذلك الخطأ البشع مثلاً حين صرخ بشراسة في مدينة كربلاء بـ "أن الذين قتلوا الحسين ما زالوا موجودين ولم ينتهوا بعد، المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد، ..." وكان القصد من ذلك نشر المزيد من الكراهية والعداء لأهل السنة، الذين لا دخل لهم بقتل الحسين قبل أكثر 1400 سنة، ولكنه يريد أن يوحي للشيعة بذلك! وقد برهن في هذه الخطبة الرعناء عن طائفيته اللعينة بامتياز، وكان وراء الكثير والكثير من الكوارث التي حلت بالعراق خلال هذه الأعوام، وما حصل من قتل ودمار وفساد وإرهاب بالبلاد. فهل يمكن أن ينسى الشعب العراقي هذا الرجل الذي بث الفرقة والعداء في صفوف الشعب العراقي وساعد على تكريس النفوذ الأجنبي الإيراني بالبلاد في فترة حكمه وحتى الآن، والذي تم في فترة حكمه أيضاً وبسبب سياساته الجهنمية المريضة احتلال مدنية الموصل التي استبيحت، وكذلك استباحة بقية مناطق محافظة نينوى ومناطق أخرى من العراق من قبل عصابات داعش المجرمة. لا يمكن أن تكون ذاكرة الشعب العراقي هكذا قصيرة بحيث ينسى كل ما حصل له، ويسمح لهذا المستبد بأمره، ومعه طبقته السياسية الرثة، أن تُنتخب ثانية لتجلس على مقاعد مجلس النواب وتحكم البلاد بذات السياسات التي دمرت العراق وتسببت باستشهاد مئات الآلاف من أبناء وبنات الشعب العراقي، واستباحة وسبي واعتصاب النساء والأطفال وبيعهم في سوق النخاسة الإسلامي، باعتبارهم سبايا حرب ضد الكفار!!! لقد استفادت من وجود هذا الحاكم وعموم النظام الطائفي حيتان كثيرة اعتنت على حساب الشعب وموارده وكرستهم خلال الفترة المنصرمة بالحكم، وهو يعمل على استمرار وجودهم، ولهذا انبرى أحدهم وأكثرهم إمعةً ليقول للعراقيات والعراقيين في لقاء تلفزيوني إن مات فرعونهم "فسيستنسخونه ثانية، وبالنص "اذا مات المالكي نستنسخ خلاياه ونأتي بمالكي اخر يلاحقكم ..."، باستخدام نفس الطريقة التي تم فيها استنساخ النعجة دوللي في العام 1996، واستنساخ الصين لقردين لأول مرة في العالم في العام 2017/2018!!
كم أتمنى على أبناء وبنات العراق من كل القوميات أن يتذكروا دوماً قادة الأحزاب السياسية الإسلامية الطائفية التي مرغت كرامة الإنسان العراقي بالتراب وأفقرته بفسادها ونهبها، وقتل بناته وأبناءه بسياساتها الطائفية المقيتة والتي سمحت بالقتل على الهوية...الخ. كم أتمنى أن يستعيد الشعب العراقي روحه الثورية الطاهرة التي رفضت الحكام الأوباش وتصدت لهم عبر تاريخ العراق الطويل، فروحه النقدية ورفضه للضيم والظلم لا بد لها أن تتجدد وترفض الأوضاع المزرية الراهنة ومن تسبب بها ومن يحاول إدامتها. فالقوى الطائفية الحاكمة ما تزال تريد أن تجعل من الانتخابات القادمة مجالاً لعودة الوجوه الكالحة أو المماثلة إلى مجلس النواب مرة أخرى لتماس ذات السياسات الكريهة، من خلال طريقة احتساب الأصوات وعدم حيادية مفوضية الانتخابات القائمة على المحاصصة الطائفية، وامتلاك الأموال والحكم والدعاية الدينية ودعم دول الجوار للأحزاب والعناصر الطائفية المريضة فكرياً وسياساً واجتماعياً. فهل سيخذلهم الشعب العراقي، هذا ما يرجوه ويسعى إليه الناس الشرفاء بالعراق، هذا ما يسع إليه المدنيون والديمقراطيون والعلمانيون الأوفياء لفصل الدين عن الدولة والسياسة، والفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء والإعلام الرسمي، ورفض القوانين الجائرة بما في ذلك محاولة فرض قانون الأحوال الشخصية الجعفري الذي يريد اغتصاب القاصرات من عمر تسع سنوات، بل وكذلك "المفاخذة“ مع من هن في عمر الرضاعة، إنها شريعة الشاذين جنسياً المصابين بـ "“paedophiles، وهي مأساة مريعة للمجتمع العراقي الذي عمل بقيم ومعايير حضارية بعيدة كل البعد عن السقوط بمثل هذه الأمراض النفسية وهذا الشذوذ الجنسي، فتباً لكم من مرضى نفسيين، إذ لا يكون مكانكم إلا في دار المجانين وسجون المختلين عقلياً!! اقرأوا ما يقوله ولي الفقيه الخميني ويلتزم بها من جاء من بعده، الخامنئي ومن لف لفهما بالعراق مثل اليعقوبي وحزب الفضيلة:
يقول روح الله الخميني في كتاب "تحرير الوسيلة ما يلي:
"مسألة 12- لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواماً كان النكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى مع الرضيعة، ..."(الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، توزيع سفارة الجمهورية العربية الإسلامية بدمشق، ص221). فهل تريدون انتخاب مثل هذه الوحوش الكاسرة والفاسدة إلى عضوية مجلس النواب. إن مكانهم في الدول المتحضرة هو السجن أو دور المعتلين جنسياً!   
إن من واجب المجتمع أن يدفع بالنظام الطائفي بالعراق، نظام المحاصة الطائفية المخل والمعتم، وكل النظم المماثلة في مزبلة التاريخ لأنها لا تنسجم مع العصر الحديث ولا مع حاجات وطموحات الإنسان والمجتمع ولا مع القيم الإنسانية العامة والشاملة، إنه المكان الوحيد الذي يستحقه النظام السياسي الطائفي. إن الجواب اللائق عن السؤال الوارد في عنوان هذا المقال، ...إلى أين، هو إلى مزبلة التاريخ وغير مأسوف عليه!!!         
 



265
رؤى مختلفة ومتصارعة إزاء حق الشعب الكردي في تقرير مصيره
(4 - 4)
ما الموقف من القضية الكردية بتركيا وإيران وسوريا

تشير القراءة الواقعية والموضوعية لتاريخ العراق الحديث منذ بداية تأسيس الدولة العراقية إلى إن النضال المشترك للشعب الكردي مع الشعب العربي وبقية القوميات بالعراق، ولاسيما مع القوى اليسارية والديمقراطية التقدمية والمتنورين، قد لعب دوراً مهماً وجوهرياً في انتزاع حقوق مهمة للشعب الكردي، والتي تشكل جزءاً أساسياً وحيوياً من حقوقه العادلة والمشروعة التي حرم منها قروناً طويلة. لم تتحقق تلك المنجزات دون تضحيات هائلة من الشعب الكردي ذاته ومن الذين ناضلوا معه من بنات وأبناء القوميات الأخرى بالعراق. لم يتسن للشعب الكردي في بقية أجزاء كردستان، رغم نضاله البطولي والمليء بالتضحيات الغالية، في الوصول إلى ما تحقق له بإقليم كردستان العراق، لعد أن وجهت تلك الضربة القاسية لجمهورية مهاباد واعدام قائد الثورة ورئيسها الشهيد القاضي محمد.
وعلى وفق قناعتي، يعود هذا المنجز بالعراق إلى عوامل عدة، منها تلك اللحمة الوطنية والتضامن النضالي بين القوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية والتقدمية التي تحققت بالعراق، وهو الدرس الذي لا يجوز نسيانه من جانب العرب والكرد وبقية القوميات. وهذا الاستنتاج الذي تؤكد حقائق الوضع العراقي يختلف تماماً عن الاستنتاج الذي توصل إليه الإعلامي الكردي كفاح محمود كريم، المستشار الإعلامي لدى رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، ورئيس الإقليم المستقبل، السيد مسعود البارزاني، الذي لم يجد ما يجمع بين الشعبين بالعراق، رغم عيشهم المديد لعشرات القرون والتلاقح الثقافي والنضال المشترك والتضحيات المشتركة في مدن وجبال كردستان وفي كل الأرض العراقية، بسبب معاناة الكرد من الحكام الظالمين. ففي مقال له نشر بعنوان: "كوردستان والعراق إلى أين؟" بتاريخ 22/01/2018، وصلني منه بالبريد الإلكتروني، كتب ما يلي: "...، لهذه الأسباب ولأن شعب كوردستان يختلف كليا عن شعب العراق عرقيا وقوميا وثقافيا وتاريخيا وحضاريا وجغرافيا، فإنه بعد أن فشل خلال قرن من الزمان في بناء دولة مواطنة، وأن يكون شريكا حقيقيا في كيان مختلق غصبا عن الشعبين، قال كلمته بشكل سلمي متحضر، وطلب أن يكون الشعبين شجرتين مثمرتين باسقتين، لا شجرة واحدة معلولة بثمار مشوهة، لكي يسود السلام بعيدا عن الصراعات الدموية والسياسات العنصرية والطائفية، وحينما قرر الاستفتاء على مصيره انبرت العنصرية والشوفينية والمصالح لقمع توجهاته، فضرب الحصار عليه أرضا وجوا لإذلاله وكسر إرادة شعبه وإبقائه تابعا منتقص الإرادة والحرية!". انتهى النص. (موقع العراق.نت)
إن في هذا المقطع خلط متعم للأوراق ووحيد الجانب، وفيه تشويه لبعض الحقائق حين لا يذكر الكاتب واقع التضامن مع الكرد بالعراق من جانب العرب وغيرهم، كما إنها تبدو وكأنها تريد صب المزيد من الزيت على النيران التي يراد إخمادها لصالح الشعب الكردي أولاً ولبقية العراقيات والعراقيين ثانياً. فما ذكره عن مواقف مسيئة للشعب الكردي قبل وبعد الاستفتاء كانت من صنع الحكام العرب، القوميين الشوفينيين والإسلاميين الطائفيين، ولاسيما من جانب نظام البعث الفاشي والقوى الإسلامية الطائفية الحاكمة بالعراق. لقد تحالف الحزب الديمقراطي الكردستاني في العام 1963 لإسقاط حكومة ثورة 14 تموز 1958، ولم تمض فترة طويلة حتى شن النظام البعثي - القومي العربي حرباً شعواء ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولكن قبل ذاك ضد كل القوى الديمقراطية العراقية وأعدم المئات من قادة وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي وقوى أخرى من بقية الأحزاب. إضافة إلى التحالف مع الأحزاب الشيعية الطائفية وإهمال الحركة الديمقراطية حليف الحركة التحررية الكردية منذ إسقاط دكتاتورية البعث بالعراق في العام 2003.
لا يختلف مع الشطر الأول مما طرحة السيد كريم أي إنسان عراقي عاقل وشريف يحترم انسانيته وحريته وعاش أوضاع العراق طيلة العقود المنصرمة أو قرأ عنها بإمعان. ولكن المشكلة في الشطر الثاني من الفكرة، إذ يؤكد بأنه ّلا يجد أي ثقافة وتاريخ وحضارة وجغرافية تجمع بين شعوب أو قوميات العراق! إن في هذا الكثير من الجحود، كما إنه بعيد كل البعد عن الحقيقة والتاريخ. ولا يتفق بالأساس مع موقف القوى اليسارية والتقدمية من حق الشعب الكردي في تقرير مصيره ومشاركتهم في النضال المجيد للشعب الكردي. إن مقالات من هذا النوع لا تنفع أحداً، ولن تقرب الكرد من تأمين الحقوق المنشودة، بل تعبئ المزيد من البشر ضد هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والكراهية، والتي يسعد لها المناهضون لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره. إن من واجب الكاتب والإعلامي الواعي لمهمته والمدافع عن حقوق شعبه أن يسعى لكسب المزيد من البشر إلى جانب قضية الشعب الكردي، فالتاريخ لم ينته إلى هنا، بل ما يزال طويلاً، ولاسيما في هذه الأجواء المشحونة بالعداء للشعب الكردي من جانب حكومات الدول الأربع، التي وزُعت عليها الأمة الكردية والأرض الكردستانية قسراً، وهي أرض تشترك فيها قوميات أخرى ايضاً، ومن جانب تلك الفئات الرجعية والقومية الشوفينية والطائفية المناهضة لحقوق الشعب الكردي وحريته واستقلاله. إن هذا الأسلوب في الكتابة لن يساهم في تعزيز وحدة النضال الملحة حالياً لصالح الخلاص من النظام السياسي الطائفي، الذي اُعتبر حليفاً للكرد سنوات غير قليلة انطلاقاً من التحالف الكردي-الشيعي تحت شعار المظلومية المشتركة، والتي نبهنا إلى خطأها وخطورتها كثيراً، ولم نجد أذاناً صاغية، إذ جرى التخلي عن التحالف مع القوى الحليفة الفعلية للشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة، القوى اليسارية واللبرالية الديمقراطية بذريعة ضعفها! السياسة علم وفن، ومن واجبنا أن نفهم ذلك، وهو علم وفن الممكنات أيضاً.
إن الوقفة الواعية والموضوعية المطلوبة حالياً ومن جانب كل المناضلين بالعراق هو التعرف على الأخطاء التي صاحبت المسيرة منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية عبر القوات الأجنبية والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وبدون مثل هذا الاعتراف بالأخطاء يصعب انتهاج سياسة سليمة تدفع بنضال الشعب الكردي بالاتجاه الصحيح. فأمام النضال العراقي المشترك، العربي الكردي وبقية القوميات، الكثير الذي يستوجب القيام به لتحقيق ما يسعى إليه العراق من إقامة نظام ديمقراطي علماني حر يوفر المستلزمات الضرورية لممارسة الشعب الكردي حقه في تقرير مصيره. فالشعب العراقي بأغلبيته وكل قومياته، ولاسيما العرب، ما يزال بعيداً عن وعي الحرية وعن التمتع بها، وبالتالي فهو ما يزال غير واعٍ لها، وبالتالي غير جاهز للنضال الفعلي من أجل منحها لغيره من القوميات، إذ هو لا يتمتع بها! وفي هذه الأجواء يمكن للحكام المستبدين ممارسة ما يحلو لهم في اضطهاد أتباع القوميات الأخرى بذريعة الدفاع عن وحدة الوطن، وهو في ذات الوقت يضطهدون أبناء القومية التي يدعون تمثيلها زوراً!! يجب ألّا يصاب المناضلون بالجزع، فثمن الحرية غالٍ وطويل ومليء بالتضحيات، وقد تعلمناه من الشعب الكردي وشعوب أخرى، وقد برهن على أنه لم ولن يصاب بالجزع، بل يواصل النضال لتحقيق المنشود، وعلى مثقفيه أن يعملوا على استنهاضه باستمرار وبأسلوب لا يدفع إلى الإحباط من خلال ترديد العبارات الثورية في غير وقتها ومكانها.       
نحن اليوم ومنذ سنوات كثيرة أمام واقع يؤكد تعرض الشعب الكردي في كل من إيران وتركيا وسوريا إلى هجوم شرس وعدواني من جانب النظم السياسية الاستبدادية والثيوقراطية في هذه الدول، ومن جانب الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية، الإسلامية السياسية والقومية الشوفينية. فكل هذه النظم بالدول الثلاث، تشن حرباً إعلامية وسياسية وعسكرية ضد النضال العادل والمشروع الذي يخوضه الشعب الكردي في هذه الدول، والتي ترفض الاعتراف بوجود أرض كردستانية فيها، أو للشعب الكردي الحق في تقرير مصيره بنفسه، أو حتى الحصول على أبسط مستويات الحقوق مثل الحكم الذاتي والحقوق الثقافية، دع عنك إقامة الفيدراليات الكردستانية فيها. وهي تتدخل بفظاظة وعدوانية في شؤون الشعب الكردي بالعراق ووقفت إلى جانب الحكومة العراقية التي تصدت للاستفتاء واعتبرته تجاوزاً على الدستور العراقي وأيدت الحصار وكل السياسات المسيئة والمؤذية للشعب الكردي، في حين يعتبر موقف الحكومة العراقية الحالي تجاوزاً فظاً على الحق الأصلي، الحق في تقرير المصير لكل شعب من شعوب العالم، بما في ذلك الشعب الكردي بكردستان العراق.
واليوم يعيش العالم غزوا بربرياً تمارسه الدولة التركية، ورئيسها الدكتاتور العثماني الجديد، رجب طيب أردوغان، إذ تقوم القوات العسكرية البرية والجوية منذ عشرة أيام باختراق الحدود السورية وضرب الشعب الكردي ووحدات حماية الشعب الكردي، وكذلك العرب، بمدينة عفرين الكردية السورية والمناطق الجبلية التابعة لها. ولا بد لصوت الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي أن يرتفع بالتنديد بالسياسة العدوانية والدموية لحكومة المستبد العثماني الجديد رجب طيب أردوغان، والحكومة الإيرانية المؤيدة لهذه السياسة المدمرة والمنسجمة مع استراتيج القوى الإسلامية السياسية والقومية الشوفينية والعنصرية التي تستهدف تصفية نضال الشعب الكردي وإيقاف مطالبته العادلة بحقوقه العادلة والمشروعة، ومنها حقه في تقرير مصيره. علينا أن ندين سياسة الولايات المتحدة التي دعمت الكرد للخلاص من عدو مجرم، هي التي خلقته قبل ذاك، للخلاص من داعش بالرقة وغيرها، ولكنها لا تمنع الدكتاتور التركي عن غزو سوريا وضرب المقاتلين الكرد والشعب الكردي في عفرين ومناطق أخرى من سوريا والإعلان عن استعداده للتوغل حتى الأراضي العراقية، بل تتعهد له بوقف مد وحدات حماية الشعب الكردي بالسلاح دفاعاً عن نفسها! إنها السياسة الخاذلة والنذلة التي عرفت بها الولايات المتحدة دوماً إزاء المسألة الكردية ونضال الشعب الكردي في سبيل حقوقه المشروعة. فمتى نتعلم من الدروس التي تقدمها الحياة يومياً لنا جميعا!!!
       
   


266
الأخوات والأخوة الكرام
الصديقات والصدقاء الأعزاء
قررت لجنة المبادرة لوحدة الحركة الديمقراطية العراقية بالإجماع اصدار البيان المرفق بعد أن تفرق شمل تقدم باتجاهين أحدهما إقامة تحالف "سائرون"، وألاخر نحو قوى ديمقراطية وليبرالية، فأضعف الوحدة النسبية التي حققها تحالف تقدم. كما تقرر إرسال هذا البيان إلى القوى والأحزاب والشخصيات كافة التي التقى بهم أعضاء اللجنة أو تراسلوا معهم بصدد دعم التحرك صوب تحقيق وحدة أو تحالف القوى الديمقراطية، يسارية وليبرالية ومتدينين متنورين ومستقلين، لتبني برنامج تخوض على اساسه الانتخابات القادمة، ثم تعزز عملها  المشترك ما بعد الانتخابات لصالح تكريس منبر ديمقراطي مدني علماني مستقل لها. لكم خالص الود والتقدير
د. كاظم حبيب
منسق لجنة المبادرة لوحدة الحركة الديمقراطية العراقية
برلين في 28/01/2018



نداء لجنة المبادرة لتوحيد الحركة الوطنية الديموقراطية في العراق
في ضوء انحدار الأوضاع العامة في العراق وتكريس نظام سياسي طائفي متهري، يفضي إلى إقامة دولة دينية متخلفة ومستبدة؛ وفي ضوء مستويات جد بعيدة ومعقدة في خطاب الدجل والتضليل من جانب الأحزاب والقوى الحاكمة؛ كان لزاماً على قوى التنوير أنْ تتصدى لظاهرة تمزق مكوناتها المدنية والديموقراطية، وأن تدعو لاصطفافها معاً في إطار تحالفي يمكنه حمل رسالة التغيير الحقيقية بما لا يقبل الالتباس والاختلاط بدجل الخطاب الإصلاحي الترقيعي وما يخفي من تمرير مزيد خطى باتجاه الدولة الطائفية الاستبدادية.
لقد ظهرت مبادرات ونداءات لقوى وطنية ديموقراطية، يسارية وليبرالية، وأخرى تقدمت بها شخصيات ديمقراطية بمبادرة لتحقيق وحدة القوى الديموقراطية، تلك المبادرة التي استقطبت مئات الشخصيات المعنية بالتغيير الحقيقي. فعقدت اللجنة اتصالاتها مع مختلف الأطراف التي يتحقق عندها نقاء انتمائها لأوسع فئات الشعب وطبقاته الفقيرة وتلبيتها بناء الدولة الوطنية العلمانية المعاصرة. وكان هدف المبادرة ولجنتها تحقيق جبهة أو تحالف عريض بين القوى الوطنية الديموقراطية على أساس توجه تلك القوى نحو تلبية الشعار الأوسع انتشاراً وتلبية لمطالب الشعب متجسداً بـ "التغيير من أجل بناء دولة ديموقراطية تحقق العدالة الاجتماعية".
وقد تأكد هذا في حصيلة مفاوضات وحوارات طويلة ومعمقة مع تلك القوى التي أسست تحالف (تقدم) وأكدت ببيانه التأسيسي توجهها لتوسيعه واستقطاب القوى النظيرة التي أوصلت موافقتها المبدئية للجنة المبادرة. لقد حيّت لجنة المبادرة قيام تقدم واعتبرته خطوة على الطريق الصحيح لخوض الانتخابات وما بعدها. ولكنها لم تشترك في (تقدم) لأنها ليست تنظيماً أو حزباً سياسيا، بل كانت وما زالت داعمةً لنشاط القوى الديمقراطية لتحقيق وحدتها وتحالفاتها المنشودة.
إنّ الفكرة هنا، تلخصت في التمسك بأوسع تحالف يمثل بناة الدولة الديموقراطية الحديثة والتصدي للطائفية وللقوى التي تسعى إلى تكريس نظام المحاصصة الطائفية ووقف تداعيات نظامها المتجه نحو تكريس دولة ثيوقراطية (دينية مستبدة). وهو ما تطلب ويتطلب تعزيز وحدتها وتماسك مكوناتها باتساع وجودهم وباحترام تنوعه وتعددية رؤاه في إطار يتحدد بالقوى علمانية الخلفية، ديموقراطية النهج والتمسك باستقلاليتها الفكرية والسياسية.
ولجنة المبادرة تعد بمواصلة مشوار دورها المستقل لدعم كل الجهود النبيلة التي تبذل لتحقيق مهمة بناء جبهة ديمقراطية واسعة ومتماسكة لإقامة الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة التي يمكنها بحق تلبية هذا الهدف الشعبي الوطني النبيل.
لجنة المبادرة لوحدة الحركة الديموقراطية العراقية
27/01/2018


267
كاظم حبيب
رؤى مختلفة ومتصارعة إزاء حق الشعب الكردي في تقرير مصيره
(3 - 4)
خلاصة التجارب المنصرمة مع النظم الشوفينية والإسلامية السياسية

إن تجارب تقترب من عشرة عقود من عمر الدولة العراقية في عهديها الملكي والجمهوري أكدت، على وفق متابعاتي، ما يلي:
1.   إن الموقف السلبي العربي، دع عنك التركي والإيراني، من المسألة الكردية نشأ مع نشوء وتطور الدولة العراقية، هذا النشوء والتطور غير الديمقراطي في ظل الهيمنة الإمبريالية البريطانية على العراق، وبسبب التربية والتقاليد العثمانية الاستبدادية والرؤية القومية والدينية المتعصبة والقاسية والعنيفة في آن واحد. وانعكس في سلوك الحكام وأجزاء من المعارضة العراقية على امتداد الفترات السابقة. وزاد في الطين بلة موقف سلطات الاحتلال البريطانية الاستبدادي والاستعماري الاستغلالي من القضية الكردية وسعيها لتهميش الكرد في المنطقة ومنع إقامة دولتهم الوطنية المستقلة على أرض كردستان، والإصرار على تجزئتها وإخضاع "المتمردين الكرد!" لهم ولحلفائهم بالمنطقة. فالمواقف غير الديمقراطية والشوفينية، وفيما بعد العنصرية، والاستبدادية من قضية الشعب الكردي، حملت وما تزال تحمل معها رؤية فكرية وسياسية مؤسسية غير عقلانية شاركت فيها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على امتداد العقود المنصرمة. وكانت حصيلة تلك المواقف مأساوية على الشعب الكردي وعلى بقية أبناء وبنات الشعب العراقي، كما كانت سبباً مهماً في إسقاط النظم غير الديمقراطية والمستبدة.
2.   وهذا لا يعني أن النظم السياسية التي وجدت بالعراق كانت كلها تسير على خط واحد إزاء المسألة الكردية، إذ برز بعض التباين عند النظم المختلفة، ولكن الموقف الجوهري من حقوق الشعب الكردي ومن حقه في تقرير مصيره، كان في جوهره واحد لم يتغير. ففي الوقت الذي استخدم الجميع العنف لإخضاع الشعب الكردي، تباين في مدى وسعة العنف في فترات العهد الملكي عنها في العهد الجمهوري الأول، ومن ثم عنها في عهد البعث الأول وعهد القوميين، وكذلك في عهد البعث الثاني، وأخيراً في ظل الحكم الطائفي الحالي، من حيث العقيلة الحاكمة واستخدام اللغة والأساليب والأدوات. أي إن الاختلاف برز في شدة وقساوة العنف وفي أساليب تنفيذه لا في وجوده أصلاً. والجدير بالإشارة إلى أن النظم السياسية اللاحقة وضعت سياساتها ومارست عنفها على وفق ما أرسي في العهد الملكي من سياسات ومواقف وأساليب التعامل مع قضية الشعب الكردي.
3.   أن الرؤية الأولى إزاء المسألة الكردية، التي أشرنا إليها، ليست قاصرة وعاجزة عن تحقيق الأهداف التي ترمي إليها فحسب، بل خاطئة وخطرة وتحمل معها خطاياها، وهي مليئة بروح الاستعلاء القومي والعدوانية والرغبة في الهيمنة والاستغلال، كما تعبر عن سياسة شوفينية لا تحترم حتى قوميتها، وأنها لن تقود لاحقاً إلا كما أدت إليه في السابق، أي إلى المزيد من هدر الكرامات والدماء والدموع والخراب والدمار الواسع والخسائر البشرية والمادية، وأنها لن تحصد سوى الريح العاتية، لأنها لا تنسجم مع طبيعة الإنسان وحاجاته وحقوقه المشروعة في حضارة وعصر القرن الحادي والعشرين، فـ"من يزرع الريح يحصد العاصفة". ومن المناسب أن نشير هنا إلى أن مجموعات من القوميين العراقيين قد أدركوا هذه الحقيقة وتبنوا رؤية أخرى أكثر ديمقراطية ووعياً بواقع العراق وحاجات الشعبين العربي والكردي والقوميات الأخرى. وهي وجهة سليمة ومنصفة وتدل على التعلم من دروس الماضي لصالح المستقبل. ونشير هنا إلى الحركة الاشتراكية العربية بالعراق التي يقودها عبد الإله النصراوي والدكتور قيس العزاوي. ويمكن الإشارة هنا إلى أن بعض المؤمنين والمؤمنات من المسلمين والمسلمات من المتنورين قد اتخذوا مواقف إيجابية إزاء القضية الكردية.
أما الرؤية الثانية، الإسلامية السياسية والطائفية، فلم تستبدل الشوفينية بالطائفية فحسب، بل أضافت إلى الموقف الشوفيني نهجها الطائفي المقيت، الذي لا يختلف عن الرؤية الأولى بل يزيديها في المحصلة النهائية تمييزاً وتهميشاً وعدوانية. وما شهده الشعب العراقي من أتباع هذه الرؤية في التعامل مع الكرد أم مع الشعب العراقي عموماً أم مع المال العام والإرهاب الفكري والديني، فهو ما يزال في بدايته، وإذا ما تسنى لهم البقاء في الحكم فستكون الطامة أكبر وأكثر فداحة، لاسيما وأن الحكم الظالم إن دام دمر، وعلى الشعب العراقي أن يعي ذلك من خلال تجاربه الذاتية خلال المئة عام المنصرمة.
ومن الجانب الآخر، فأن الرؤية الثالثة لم تتوفر لها حتى الآن أي فرصة فعلية لممارسة مضامين نهجها الديمقراطي التقدمي للقضية الكردية وسبل الحل السلمي واستخدام الآليات الديمقراطية الضرورية لتحقيق الغاية المنشودة. وهو ما يفترض التركيز عليه وتبنيه. فلو كان الشعب الكردي قد تمتع بحقوقه العادلة وبحرية وكرامة في ظل الدولة العراقية، رغم طموحه القومي بدولة مستقلة، لما رفض، في ظروف العراق الملموسة، البقاء ضمن الدولة العراقية.
إن عالمنا الجديد بحاجة إلى ممارسة القيم الإنسانية العامة والشاملة، قيم المواطنة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، قيم العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، قيم الأمن والسلام والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، تلك القيم التي تعترف للشعوب بحقوقها العادلة والمشروعة بما فيها حقها في الانفصال وإقامة دولها الوطنية المستقلة على أرض وطنها. الاعتراف والاحترام المتبادل بالحقوق والواجبات هو الطريق الوحيد المناسب للتعامل الدولي بين شعوب تعترف بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الجماعات وتحترم نفسها. وهذا الطريق هو الذي يمكن أن يقرر استمرار وجود أكثر من شعب في دولة واحدة، أم يقرر الانفصال بسبب سياسات التمييز والتهميش والإقصاء. ولكن الواقع يقول بأن النظم السياسي القائمة بالعالم ما تزال بعيدة عن ممارسة هذه المبادئ والقيم الإنسانية. نشير هنا إلى واحد من النماذج الصارخة في هذا الصدد، إلى ما حصل، إلى جانب القضية الكردية بالعراق وإيران وتركيا وسوريا، بإسبانيا، حين قرر شعب كاتالونيا Catalunya، (تقع كاتالونيا في أقصى الشمال الشرقي لشبه الجزيرة الإيبيرية وفي الجنوب الغربي من القارة الأوروبية، (الموسوعة الحرة، ويكبيديا، كاتالونيا)، إجراء الاستفتاء على الاستقلال عن إسبانيا. رفضت الحكومة والمجلس النيابي والحكمة الدستورية، وكذلك الملك الإسباني، إجراء هذا الاستفتاء. ولما أجرى فعلاً، أصدرت المحكمة قراراً بعدم شرعية الاستفتاء وحلت المجلس النيابي الذي أجرى الاستفتاء واعتقلت بعض المسؤولين عن الاستفتاء، في حين لجأ رئي كاتالونيا إلى بلجيكاً تخلصاً من الاعتقال. وحين نظمت الحكومة الإسبانية انتخابات عامة جديدة بكاتالونيا وتحت إشرافها ورقابتها، صوت الشعب الكاتالوني إلى جانب القوى الي تريد الاستقلال وفاز حزب الاستقلال بأكثرية مقاعد المجس النيابي. ومع ذلك لم تعترف الحكومة الإسبانية بذلك وواصلت اعتقال المسؤولين السابقين وملاحقة الموجودين في بروكسل. ولم يعد الرئيس الذي انتخب ثانية إلى كاتالونيا لأن هناك قراراً باعتقاله وتقديمه للمحاكمة بذريعة خرق الدستور الإسباني. ومن هنا يمكن القول بأن الشعب الكردي ليس وحده فيما يعاني من إنكار لحقه في تقرير مصيره!
كان وما يزال نضال الشعب الكردي موجهاً صوب ثلاث مسائل جوهرية، وهي تتماشى مع اللواح الدولية، إذ تشكل جزءاً من حقوقه المشروعة، وهي:
•   الاعتراف له بحقه الكامل في تقرير مصيره على أرض وطنه بكل حرية وفي أجواء الديمقراطية وسيادة الشرعية، بما في ذلك حقه في الانفصال وإقامة دولته الوطنية المستقلة. إن هذا الحق ينبغي أن يعترف به من حيث المبدأ ويصان ويكرس في الدستور العراقي، ويكون له الحق في ممارسته متى شاء ذلك وفي ظروف يقررها وحده؛
•   الاعتراف الواقعي بأن الشعب الكردي بكردستان العراق هو جزءُ من الأمة الكردية الموزعة على أرض كردستان الممتدة في دول المنطقة الأربع، إذ وزعت عليها دون اعتبار لإرادة ومصالح ورغبة الشعب الكردي؛
•   الاعتراف له بحقه في المشاركة المتساوية في إرساء دعائم دولة عراقية جمهورية اتحادية (فيدرالية) تستند إلى دستور ديمقراطي علماني وحياة حرة وتعددية سياسية تحترم حقوق القوميات والأديان المختلفة وتعترف وتمارس حقوق الإنسان وتقيم علاقات صداقة وتعاون واعتراف متبادل مع الدول المجاورة واحترام الحدود الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والشعوب الأخرى، وتعالج المشكلات الداخلية والخارجية بالطرق السلمية ووفق الآليات الديمقراطية المعترف بها دولياً.
فهل في هذا ما يتناقض مع مصالح الشعب العربي بالعراق ومع بقية القوميات التي كانت وما تزال تعيش في هذه المنطقة من العالم؟ ليس في ذلك ما يتناقض مع هذه المصالح، بل فيها كل ما يتطابق مع مصالح العرب وما يفترض في العرب أن يمارسوه إزاء أنفسهم وإزاء القوميات الأخرى التي تعيش على أرض العراق. أي أن من حق العرب الكامل أن يقيموا في المناطق العربية دولتهم الاتحادية أيضاً وتشكل الدولتان، الكردية والعربية الدولة الاتحادية، الدولة العراقية الاتحادية ذات الحقوق والواجبات المتساوية، والتي تحترم حقوق القوميات والجماعات الدينية المختلفة. وينظم هذه العلاقة دستور ديمقراطي علماني دائم وحياة برلمانية تعددية حرة ونزيهة.
العراق بلد متعدد القوميات لا يمكن أن تبنيه قوى لا تؤمن بحرية الشعوب والديمقراطية، بل تؤمن بقوة السلاح في حل المشكلات الداخلية والخارجية. وبرهن الحكم الاستبدادي والعنصري السابق والحكم السياسي الطائفي الحالي بالعراق على أنهما غير مؤهلين بالقطع على ممارسة سياسات أخرى غير تلك التي مارستاها إزاء الشعب الكردي بشكل خاص وإزاء الشعب العربي والقوميات الأخرى بشكل عام. ومن هنا تأتي الحاجة إلى ضرورة تغيير النظام السياسي الطائفي إلى نظام ديمقراطي في مجتمع مدني لتوفير المناخات الضرورية لبناء عراق ديمقراطي اتحادي علماني وتضامني جديد.
ويبدو لي أن الفيدرالية الكردستانية الراهنة، التي كان في مقدورها منذ قيامها، أن تقدم النموذج المطلوب إقامته في عراق المستقبل، عجزت عن ذلك، رغم كل الآمال التي عقدت عليها، وذلك للأسباب الآتية التي لا بد من تشخيصها والتي لا يمكن تداركها إلا من خلال التحولات الضرورية لواقع الاقتصاد وبنية المجتمع والعلاقات الاجتماعية، وهي عملية سيرورة وصيرورة اقتصادية واجتماعية ونفسية وذات بعد تاريخي في آن واحد:
** ما تزال الذهنية الأبوية-البطريركية، التي تجد تعبيرها في العقلية العشائرية والفلاحية السائدة في المجتمع الكردي، أو العراقي عموماً، وهو ما عبر عنه الأستاذ الدكتور إبراهيم الحيدري بصواب حين كتب "أن النظام الأبوي من الناحية البنيوية يتكون من طرائق التفكير والعمل والسلوك ويرتبط بنمط معين من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي التقليدي السابق على الرأسمالية."، ثم واصل تشخيصه بقوله: "وعلى الصعيد الاجتماعي يهيمن النظام الابوي على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تغلب عليها الانتماءات القبلية والطائفية والمحلية، لان المجتمع الابوي هو نوع من المجتمعات التقليدية التي تسودها انماط معينة من القيم والسلوك واشكال متميزة من التنظيم". (راجع: د. إبراهيم الحيدري، النظام الأبوي/البطريركي وتشكيل الشخصية العربية، في حلقتين، الحلقة الأولى، إيلاف، 28 سبتمبر/أيلول 2012).
وفي هذا لا يخلف المجتمع الكردي عن المجتمع العراقي في بقية مناطقه أو اقاليمه. والتي تجد تعبيرها في بنية الاقتصاد والمجتمع، تركيبه الطبقي، وفي العلاقات الاجتماعية وفي بنية أحزابها والعلاقات فيما بين القيادة والقاعدة التي لا تختلف عن علاقة الشيخ بأبناء العشيرة أو الإقطاعي أو الملاك الكبير بالفلاحين العاملين على الأرض التي استحوذ عليها. وهذا الواقع لا يتعارض مع وجود جمهرة كبيرة من المثقفين والمتعلمين المدنيين بالإقليم، إلاّ أن تأثيرهم ودورهم في الحياة السياسية والاجتماعية ما يزال ضعيفاً وخاضعاً إلى حدود بعيدة للأحزاب الحاكمة.
** وقد وجد هذا تعبيره الواضح في النهج الاقتصادي للإقليم، إذ توجهوا صوب إعمار المدن والطرق والجسور، وهو صحيح، ولكن الخطأ برز في إهمالهم الفعلي للتنمية الاقتصادية والبشرية، إذ لم يوجهوا الاستثمارات الضرورية لتحديث وتنويع الزراعة وتطويرها، وكذلك إقامة المشاريع الصناعية، بما يسهمان في تحقيق التراكم الرأسمالي وإغناء الثروة الاجتماعية وتنويع مصادر الدخل القومي وإيجاد فرص عمل وتشغيل الأيدي العاملة العاطلة أو استيعاب البطالة المقنعة في دوائر الدولة، في حين ركزوا على استيراد كل شيء، فأغرقوا الأسواق بالسلع الجيدة والسيئة الضرورية والكمالية، ونمو الذهنية والنزعة الاستهلاكية لدى السكان، بما اسهم في استنزف الدخل القومي المتحقق لكردستان خلال الفترة المنصرمة، ولاسيما بعد العام 2003 حتى بدء الأزمة المتفاقمة وتراجع الموارد المالية وارتفاع المديونية الخارجية للإقليم. ورغم ذلك فقد كانوا في هذا أفضل من حكام بغداد الذين لم يعمروا المدن بل زادوها رثاثة، ولم يهتموا أساساً بالتنمية الصناعية والزراعية ولا بالتنمية البشرية، فكان الاستيراد من إيران وتركيا سبيلهم وقبلتهم.   
** إن هذا الواقع ترك بصماته وتأثيره البالغين في السياسات الفردية التي مارسها وما زال يمارسها قادة القوى والأحزاب السياسية والأسر الكبيرة في الإقليم ورغبتهم الجامحة في البقاء على رأس السلطة وفي تأمين النفوذ الاجتماعي المهيمن والتحكم بالمالية، رغم تأكيد الجميع على التداول السلمي والديمقراطي للسلطة، الذي لا يأخذ طريقه إلى التطبيق الفعلي. إنه التجسيد الصارخ للصراع بين الذهنية البطريركية، وبين تأثير المناخ الدولي وحضارة العصر ودور المثقفين على مفردات الدستور، دون وجود رغبة فعلية (أو) والقدرة على تجاوز الواقع الاجتماعي على الالتزام به وتطبيقه.
** ضعف وفساد الإدارة الحكومية بسبب ضعف التقاليد الديمقراطية من جهة، ودور الأحزاب السياسية الحاكمة وتحكمها في سبل التوظيف والتأثير المباشر على قرارات الإدارة الحكومية وعلى القضاء في آن واحد.
** ضعف الوعي الاجتماعي بسبب تخلف العملية التنويرية وضعف أسس التربية والتعليم، وتأثير القوى الدينية على وجهة التربية المدرسية وفي المجتمع.
** عدم الفصل بين السلطات الثلاث بالإقليم وخضوعها كلها لرئاسة الإقليم، مع نشوء معارضة جزئية في المجلس النيابي، أدت بالمحصلة النهائية إلى تعطيل المجلس قبل الاستفتاء بفترة طويلة. 
** وجود فساد مالي سائد، إضافة إلى فساد الإدارة والعمل بقاعدة المحسوبية والمنسوبية السيئة الصيت، يمارس بوضوح صارخ ودون وجل، ويجري الحديث عنه في الشارع ويشارك فيه الكثير من المسؤولين أولاً وقبل الآخرين.
** تنامي الشعور القومي، أو ضيق الأفق القومي، بطريقة ليست عقلانية باستمرار، لكونها نشأت عن ردود فعل حادة لمعاناه الكرد قبل ذاك من قبل النظم السياسية التي قادها حكام عرب، وجرى تحفيزها بقوة.
** ومع إن سياسات الحكومة الاتحادية الطائفية كانت سببا أساسيا وجوهرياً في تردي العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، إلا إن سياسات حكومة الإقليم لعبت دورها السلبي الواضح في تشديد الصراع وتفاقمه.
** ومارست الأحزاب الحاكمة بالإقليم سياسة خاطئة وخطرة وبإصرار مخل تجلت في التركيز على التحالف مع الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية الشيعية في محاولة غير موفقة للتكتل ضد الأحزاب السنية العربية، والابتعاد عن التحالف مع الحليف الطبيعي للشعب الكردي ونضاله المديد، مع الحركة والقوى والأحزاب الديمقراطية، مع عموم اشعب، بذريعة غير مبررة هي أن القوى الديمقراطية ضعيفة! 
** الهيمنة العامة على الإعلام الرسمي، وضعف الإعلام المستقل ودوره في تصحيح مسارات العمل بالإقليم، إضافة إلى ضعف منظمات المجتمع وصعوبة تبنيها لمواقف مستقلة عن الأحزاب والقوى السياسية عموماً.         
هذه المشكلات وغيرها، التي يعاني منها الإقليم يجدها المتتبع بشكل أشد وأكثر ضرراً في الدولة الاتحادية والحكومة الاتحادية ومجلس النواب والقضاء، تستوجب التغيير الجذري والفصل بين الدين والدولة والسياسية، وبين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما إن المشكلات القائمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم يمكن معالجتها بطريقة سلمية وديمقراطية لو أمكن الوصول إلى إقامة حكومتين ديمقراطيتين ومستقلتين تمتلكان العزيمة والنية الصادقة على وجو هذا الدرب الإنساني، إذ لا توجد مشكلة مع كردستان العراق لا يمكن حلها بالطرق السلمية.
ويبدو لي أن القوى والأحزاب والشخصيات السياسية والثقافية وذات الاهتمام بالشؤون العراقية العامة قادرة لأن تلعب دوراً حيوياً وفعالاً في تأكيد مسألتين أساسيتين برهنت عليهما تجارب الفترة المنصرمة وهما:
•   n أن الاستبداد وممارسة القوة والعنف والقسوة والحرب أساليب لا يمكنها تقديم حلول عملية للمشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي، ولاسيما المسألة الكردية وقضايا القوميات الأخرى وأتباع الديانات، بل من شأن ذلك تعقيد الحالة وخلق مشكلات جديدة.
•   n وأن الحل الوحيد والممكن هو الحكم الدستوري والديمقراطي التعددي وخوض الحوار الديمقراطي والحضاري الهادف إلى تحقيق الحلول العملية للمشكلات القائمة وفي مقدمتها القضية الكردية. وأن الاعتراف بحقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة وحقوق الأقليات القومية العديدة التي أشرنا إليها في الرؤية الثالثة هو الطريق المبدئي والوحيد الذي يوصلنا إلى بناء عراق دستوري ديمقراطي اتحادي علماني.
إن تبني ذلك من قبل المثقفين العراقيين والعراقيات والقوى والأحزاب السياسية المدنية والديمقراطية والبدء بخوض حوار عراقي واسع وعلني سيكون إسهاماً كبيراً على طريق التغيير الديمقراطي المنشود للعراق الغارق في وحل الفساد واستبداد الأحزاب الطائفية والشوفينية والكراهية والعنف والموت والخراب والخضوع لدول الجوار، وسيكون دفعاً جيداً للسياسيات والسياسيين العراقيين الذين يتبنون الحلول الديمقراطية والواقعية والعادلة للعراق الراهن. 
 


268
كاظم حبيب
سكان عفرين السورية ضحايا ارهاب الدولة التركية والصراع الإقليمي الدولي
ليرتفع صوت الاحتجاج والتنديد بالعدوان العسكري التركي
لم يفاجأ الرأي العام العالمي ولا المجتمع الدولي بإرهاب الدولة التركية الذي بدأت تمارسه منذ عدة أيام ضد سكان عفرين، واستخدامها مرتزقة سوريين لهذا الغرض يشكلون الخطوط الأمامية للقوات التركية الزاحفة صوب عفرين متجاوزة الحدود الدولية ومخترقة سيادة الدولة السورية ومستخدمة المدفعية البعيدة المدى والصواريخ والطيران الحربي لضرب سكان المدينة والجبال المحيطة بها بذريعة تصفية وحدات حماية الشعب في عفرين. وقد أودى هذا العدوان العسكري حتى الآن بحياة العشرات من السكان الأبرياء وجرح اخرين وتهديم البيوت على رؤوس ساكنيها. نعم، لم يفاجأ العالم بذلك بسبب السياسات العدوانية التي بدأ بها العثماني الجديد والدكتاتور "المسلم!" رجب طيب أردوغان، بالتعاون مع عدد من الدول العربية الناكرة لحقوق شعوبها والمستبدة بهم، لتحويل واستخدام المطالب العادلة والمشروعة للحركة المدنية السلمية السورية لدحر النظام البعثي الاستبدادي بسوريا الى حرب مدمرة لتمزيق وحدة شعبها وتدمير البلاد وبنيتها التحتية وتشريد سكانها في المنافي، حتى أصبحت الكثير من المدن السورية خرائب تنعى فيها الغربان، وسكانها يعيشون بلبنان والأردن وغيرها من دول العالم. لم يفاجأ العالم حين قررت القيادة التركية المجرمة، وريثة النظام العثماني العنصري والمتخلف، دفع قواتها المسلحة مسنودة بالدبابات الحديثة والطيران الحربي صوب الأراضي السورية لقتل الناس الأبرياء، إذ سبق وأن قامت باختراق غير شرعي للحدود والأراضي العراقية وإقامة قواعد عسكرية لها ببعشيقة، المدينة العراقية، بالضد من إرادة الدولة العراقية وشعبها، وشن الطيران الحربي التركي هجمات بالصواريخ ضد أرياف كردستان ومناطقها الجبلية وقتل وتشريد الفلاحين بذريعة وجود قوات حزب العمال الكردستاني في سلسلة جبال قنديل.
إن تركيا التي عجزت عن حل مشكلة الشعب الكردي بكردستان تركيا منذ عقود وتخلت كلية عن الحل السلمي، قد تسببت بحربها العدوانية ضد هذا الشعب وحقوقه العادلة والمشروعة، إلى استشهاد الآلاف من النساء والرجال والأطفال الأبرياء وتدمير البنى التحتية وتحمل المجتمع خسائر مادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات الأمريكية، تسعى اليوم إلى التمدد نحو الأراضي السورية، كما تم لها بالإسكندرونة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى مثلاً، لأشباع أطماعها العثمانية بالمنطقة، بذريعة حماية حدودها من الحركة الكردية المسلحة بسوريا، والتي لم تكن مسلحة إلا دفاعاً عن الأرض السورية ضد عصابات داعش التي عاثت في الأرض السورية فساداً وقتلاً وتدميرا للتراث الحضاري، وحولت مدينة الرقة إلى سوق نخاسة إسلامي لاغتصاب وبيع النساء والأطفال الأسرى، تلك العصابات التي كانت تحتضنها تركيا الأردوغانية وتزودها بالمال القادم لها من السعودية ودول الخليج، والسلاح المشترى بتلك الأموال من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ووضع المدن التركية الحدودية مرتعاً لها ومشفى لجرحى هذي العصابات. 
لم يكن أمام وحدات حماية الشعب إلا التعاون مع الولايات المتحدة، وهي التي لها أطماع بسوريا، كما هو حال إيران وروسيا الاتحادية، بهدف الحصول على السلاح والعتاد. إلا إن التحالف مع الدول الكبرى أو الدول الإقليمية ذات الأطماع ببلداننا، أياً كانت تلك الدول، بأمل تحقيق نتائج ومنجزات إيجابية، تحمل معها مخاطر جمة، بما في ذلك التخلي عنها في آخر لحظة على وفق مصالح تلك الدول. وهذا ما حصل للشعب الكردي بالعراق في أكثر من مرة خلال العقود الخمسة المنصرمة، ونعيشه اليوم من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في الموقف من عدوان تركيا على وحدات حماية الشعب التي تتعرض لهجوم غادر على عفرين دون أن يطلب دونالد ترامب منها سوى عدم التوسع في حربها ضد شعب عفرين، ودون أي تهديد بمعاقبتها أو التصدي لها!
إن الحرب الدائرة بسوريا ومنذ سنوات هي حرب المصالح الدولية والإقليمية وضمن استراتيجياتها التي لا تتناغم بأي حال مع أهداف ومصالح شعب سوريا وشعوب المنطقة. ولولا الدكتاتورية السورية بدمويتها وعنجهيتها وخضوعها للإرادة الإيرانية، ومن ثم الروسية أيضا، ولولا الخطأ الفادح في ارتماء أغلب المعارضة السورية في أحضان الغرب وتركيا والسعودية وبعض دول الخليج، لما تطور ووصل الحال إلى الكوارث والمآسي المتواصلة منذ ما يقرب من سبع سنوات. 
كل الدلائل تشير إلى وتؤكد أن حلف شمال الأطلسي لا يريد التفريط بحليفه الجامح تركيا، ولا يريد التوقف عن تزويده بالسلاح والعتاد، كما هو حال المانيا الاتحادية التي ما تزال تزود تركيا منذ سنوات حتى الآن بكميات متزايدة حتى بلغت قيمة مبيعات ألمانيا من الأسلحة والعتاد إلى تركيا خلال الفترة 2013-2017، حوالي 443،1 مليون يورو، أي بمعدل سنوي قدره 88،6 يورو. (راجع:am 05.12.2016, Der Westen am 10.08.2017, TDF heute am 24.01.2018).   ,Spiegel Online
ومع بداية العام الجديد ،2018، وبدء تحضير تركيا للحرب العدوانية ضد عفرين وسكانها الكرد والعرب، بدأت مفاوضات جديدة بين وزير خارجية ألمانيا الاشتراكي الديمقراطي، زيغمار غابرييل، ووزير خارجية، تركيا أحمد داود أوغلو، من أجل تزويد المانيا لتركيا بالمزيد من السلاح، رغم استخدام تركيا للسلاح الألماني في غزو بلد أخر، مما أثار معارضة شديدة من قبل القوى المعارضة للحكومة الحالية والكثير من الألمان والمطالبة بإيقاف بيع السلاح لتركيا ومطالبتها بعدم استخدام تلك الأسلحة، ولاسيما الدبابات الألمانية، في هذا الغزو الهمجي.
إن من واجب كل إنسان شريف أن يرفع صوته محتجاً ومندداً بالتدخل التركي السافر بسوريا وعدوانها المباشر على عفرين ومطالبتها بالانسحاب الفوري من الأراضي السورية، ومطالبة الجامعة العربية، الجامعة التي لم تلملم وحدة العرب بل شتتها، بإدانة هذا التدخل العدواني وشجبه والمطالبة بانسحابها وكذلك الدعوة بعقد جلسة لمجلس الأمن الدول لإدانة الاعتداء والانسحاب الفوري من الأراضي السورية. إضافة إلى ضرورة شجب أي دولة تقوم بتزويد تركيا بالسلاح لمواصلة شنها الحرب ضد شعب عفرين السوري من الكرد والعرب، الذين يدافعون عنها سوية في وحدات حماية الشعب.
       




269
كاظم حبيب
رؤى مختلفة ومتصارعة إزاء حق الشعب الكردي في تقرير مصيره
(1-4)
مضامين الرؤى الفكرية والسياسية إزاء القضية الكردية بالعراق

كانت القضية الكردية بالعراق وما تزال تواجه وجهات نظر ومواقف متباينة من الناحيتين الفكرية والسياسية. والحالة ذاتها يجدها المتتبعون في كل من إيران وتركيا وسوريا، حيث جرى تقسيم أرض الشعب الكردي على هذه الدول الأربع منذ نهاية الحرب العالمية الأولى 1918، في حين كانت ذات الأرض قد قسمت على الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية في اعقاب انتصار قوات الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول في معارك جالديران التي جرت في العام 1514 على قوات الدولة الفارسية بقيادة إسماعيل الأول الصفوي. ومنذ ذلك الحين وهذا الشعب يناضل بصيغ شتى من أجل التمتع بحقوقه المشروعة وحريته وكرامته على أرضه. ورغم إقامة عدد من الإمارات في فترات مختلفة، إلا إنها كانت تنتهي بالفشل بسبب الصراعات الداخلية بين العشائر الكردية أو بسبب سلطات الاحتلال.
لا شك في أن الأمل قد انتعش في صفوف قادة الشعب الكردي بتحقيق الوحدة وإقامة الدولة الكردية في اعقاب الحرب العالمية الأولى، بسبب الوعد الذي منح لممثلي الكرد من جانب ممثلي الدولتين الاستعماريتين اللتين خاضتا الحرب ضد الدولة العثمانية وحليفتها الإمبراطورية الألمانية، إذا ما انتصر الحلفاء في تلك الحرب. ولم يف المستعمرون بوعدهم، كما لم يفوا بوعدهم للعرب في إقامة الدولة العربية الموحدة. ولكن العرب، وبدلاً من تحقيق الوحدة، أقاموا 22 دولة + دولة في الانتظار، هي الدولة الفلسطينية. كما أن كل القوميات في المنطقة أقامت دولها المستقلة، ولكن الشعب الكردي لم يسمح له بذلك. وهذا ينطبق على أتباع القومية واللغة السريانية المجزأة والمبعثرة، وهم الآشوريون والكلدان والسريان، الذين لا يطمحون في الحصول على دولة في الوقت الحاضر، بل على محافظة في شمال العراق أو على حكم ذاتي في إطار الجمهورية العراقية، تحفظ لهم حقوقهم وثقافتهم وتراثهم الحضاري ولغتهم السريانية، بدلاً من التجاوزات والانتهاكات المستمرة التي تعرضوا لها ولا زالوا يتعرضون لها بالعراق وعموم المنطقة.           
وبصدد الشعب الكردي، حيث يقتصر الحديث هنا عن الكرد بكردستان العراق، فقد خاض مع العرب وقوميات أخرى، كل على انفراد وبشكل مشترك، نضالاً عنيدا وطويلا من أجل حقوقهم العادلة والمشروعة وتنفيذ الوعد الذي أعطي لقيادة الشعب الكردي السياسية في حينها بإقامة دولته المستقلة. وتجلى ذلك النضال في انتفاضاته وثوراته قبيل قيام الدولة العراقية بقليل (2010) بقيادة عبد السلام البارزاني، و(1919) بقياد شيخ محمود الحفيد البرزنجي، أو بعدها، حين لم تكن الموصل قد ألحقت بعد بالدولة العراقية الملكية الحديثة، التي تشكلت في عام 1921. وكانت الطموحات القومية للشعب قد بدأت تبرز لتوها على صعيد النضال الوطني وتؤثر بشكل ملموس على حركة الجماهير. وكان الدور البارز في قيادة هذا النضال بيد شيوخ العشائر وعلماء الدين. وعندما ألحقت ولاية الموصل، وبضمنها كردستان الجنوبية، التي كانت تضم الى جانب الموصل المناطق الكردية، إضافة إلى السليمانية وأربيل وكركوك، إلى الدولة العراقية في العام 1925/1926، لم يتوقف الشعب الكردي عن النضال في سبيل حقوقه المشروعة التي أقرت في حينها في عصبة الأمم، رغم تخلي انكلترا وفرنسا عن وعودهما له. إذ لم يؤخذ رأي الشعب الكردي في الموقف من إقامة دولته الوطنية المستقلة، أو الاندماج بالقسم العربي من العراق وتكوين الدولة العراقية الملكية، أو إقامة الحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية. وكان موقف الشعب الكردي واضحاً وصريحاً، إذ كان يريد إقامة دولته الوطنية أو إقامة الحكم الذاتي لكردستان. ولم يكن هذا ينسجم مع أهداف ومصالح بريطانيا، الدولة المنتدبة على المنطقة والمستعمرة لها، كما لم يكن منسجماً أيضاً مع تصورات أو أطماع مجموعة من الحكام العراقيين حينذاك.
ومنذ تلك الفترة تقريباً سادت في صفوف السياسيين والمثقفين والمهتمين في الشؤون العراقية العامة من العرب، وأغلبهم من خريجي المدارس والتربية العثمانية، رؤية قومية عروبية ضيقة إزاء الكرد وحقوقهم المشروعة والعادلة في إطار الدولة العراقية، رغم أنهم كانوا من أوائل من ناضل في سبيل الحقوق القومية العادلة للعرب بالعراق وضد سياسات التتريك العثمانية، ولكنهم لم يدركوا بعمق ومسؤولية مفهوم الحرية والديمقراطية التي يفترض أن تتمتع بها جميع الشعوب، ولأنهم أنفسهم لم يكونوا أحراراً فكرة وممارسة.
ومنذ أن تصاعد النضال الكردي وفرض وجوده في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية، برزت رؤى أخرى لدى الأحزاب والقوى السياسية العربية إزاء الموقف من القوميات وحقوقها بالعراق.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين تبلورت تدريجاً بالبلاد ثلاث رؤى إزاء الحقوق القومية للشعب الكردي وللأقليات القومية وسبل معالجتها والحلول التي تسعى كل منها إلى ممارستها. ورغم مرور عشرات السنين على وجود وصراع بين هذه الرؤى، ورغم كثرة المحن والكوارث والمآسي التي عاشها العراق من جراء التعامل غير الواعي وغير العقلاني وغير المنصف مع هذه المسألة الحساسة والحيوية، فأن هذه الرؤى ما تزال تتصارع وكأن دروس الماضي لا قيمة لها أصلاً عند أصحاب الرؤية الأولى والثانية، وكأن العراق بحاجة إلى مزيد من المحن والكوارث والمآسي والموت لمزيد من البشر، وكأن الشعب الكردي لا حق له، كبقية الشعوب، في التطلع إلى الحرية والديمقراطية والوحدة القومية والتمتع بها. ونحاول هنا بلورة الرؤى الفكرية والسياسية الثلاث حول المسألة الكردية:
الرؤية الأولى: تبنت هذي الرؤية، التي سادت بالعراق في مختلف المراحل المنصرمة ومارسها الحكام بإصرار عجيب في العهدين الملكي والجمهوري، مبدأ رفض الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي، ومنها حقه الثابت في تقرير مصيره على أرض وطنه وإقامة دولته الوطنية المستقلة أو حقه في إقامة الحكم الذاتي أو قيام اتحاد فيدرالي للإقليمين العربي والكردي في إطار عراق جمهوري ديمقراطي موحد. وتبنت هذه الرؤية أسلوب ممارسة القوة والعنف والردع والتأديب وخوض المعارك والحرب ضد الشعب الكردي لحرمانه من تمتعه بتلك الحقوق ومطالبته الملحة بالاستجابة لها. وتجلى هذا الموقف، حتى بعد الاعتراف بوجود شعبين بالعراق، إضافة إلى وجود أقليات قومية، بعد أسقاط الملكية وقيام الجمهورية، عندما سعى المشرع العراقي أن يكرس في الدستور المؤقت الرؤية التالية: يعتبر العراق جزءاً من الوطن العربي، جزءاً من الأمة العربية. وهذا يعني باختصار أن لا حقوق قومية خاصة ولا وجود لشعب كردي أو أمة كردية، وأن العراق كان وسيبقى جزءاً من الوطن العربي، وعلى الأكراد أن يقبلوا بذلك، شاءوا ذلك أم أبوا، أن يقبلوا بالوحدة مع العراق العربي دون حقوق قومية خاصة. علماً بأن الدستور المؤقت الذي طرح بعد ثورة تموز أشار إلى إن العرب والكرد شركاء في هذا الوطن، الذي هو العراق. ولكن كان هذا نظرياً ودون أن يجد له الممارسة الفعلية.
واشتدت هذه الوجهة الفكرية والسياسية بعد الانقلاب الفاشي في شباط/فبراير عام 1963، وتبلور في مواقف الحكومات التي تشكلت في أعقابه. إذ اعتبرت القوى والأحزاب التي تناضل في سبيل الاعتراف بالحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي ومطالبته بالحكم الذاتي بمثابة قوى عميلة (جيب عميل!) تريد الانفصال عن العراق، وهي جريمة لا تغتفر! وكرس هذا النهج سياسة العنف والحرب لفرض الحل الأوحد الذي تراه وتريده على الشعب الكردي. ولم تتبن هذا الموقف، سواء في العهد الملكي أم في العهد الجمهوري، القوى والأحزاب السياسية الحاكمة فحسب، بل بعض القوى والأحزاب التي كانت في المعارضة في هذين العهدين أيضاً، إذ أنها كانت وما تزال تعبر عن وجهة فكرية وسياسية قومة ذات طبيعة شوفينية بغض النظر عن وجود هذه القوى أو تلك في السلطة أم خارجها.
ولم يكن الموقف من المسألة الكردية وسبل معالجتها هي المسألة الوحيدة التي تختلف الرؤى حولها، بل كانت هناك قضايا أساسية أخرى، ومنها موقف التعامل غير المتساوي والتمييزي إزاء الكرد بالعراق من جانب الحكومات المختلفة والتي تتجلى في مختلف مجالات الحياة اليومية ابتداءً من حرمانهم من الدراسة بلغة الأم والقبول في الجامعات والمعاهد المختلفة، وخاصة العسكرية منها، أو التوظيف في الوزارات المختلفة، وخاصة الخارجية والداخلية والدفاع .. الخ، وكذلك التمييز البارز في مجال توظيف رؤوس أموال الدولة في عمليات التنمية في كردستان العراق، حيث كان نصيبها محدوداً بالقياس إلى مناطق معينة من العراق. وقد بدا هذا واضحا وصارخاً بعد انقلاب البعث عام 1963، تماماً كما كان نصيب بعض محافظات الوسط والجنوب المهملة من جانب الحكم البعثي القومي حينذاك. وكانت المشكلة تبرز أيضاً في مجال التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وخاصة المناطق الريفية أو إقامة "الطرق الاقتصادية" الخاصة بنقل السلع الزراعية وتأمين تخزينها وحفظها من التعفن وتسويقها. وهذه أمثلة محدودة على ممارسات كثيرة تعرض لها الشعب الكردي من النظم الحاكمة ببغداد. ولا شك في أن الرؤى كانت مختلفة أيضاً إزاء مفاهيم ومضامين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وأهمية التمتع بها وممارستها الفعلية.
الرؤية الثانية: برزت بشكل واضح في فترات لاحقة، ولكنها تنطلق من حيث المبدأ من الإيديولوجية الإسلامية السياسية التي بلورها شيوخ الشريعة القائلة بأن كل الشعوب والقبائل يشكلون جزءاً من الأمة الإسلامية، وأن القوميات لا بد لها أن تذوب في الإسلام، وبالتالي لا يجوز إقامة دولة على أساس قومي. هذا من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية فأن أي قومية كانت تصل إلى السلطة، كانت تفرض حكمها "الإسلامي!" القومي، وتمارس سياسة قومية شوفينية ضد القوميات الأخرى ولا تساوي بينها وتفرض إرادتها على بقية القوميات بكل السبل المتوفرة لها. ويمكن أن نتابع مثل هذه المواقف بشكل صارخ بإيران (فرس 51%،  وآذريين (أتراك) 24%، وجيلاك ومازندرانيون 8% ، وأكراد 7%، وعرب 3%، ولور 2%، وبلوش  2%، وتركمان 2%، وقوميات أخرى 1% . (المصدر: كتاب حقائق العالم، وكذلك ويكبيديا، الموسوعة الحرة عن السكان بإيران). وتركيا (الأتراك 75%، والأكراد 20%، والعرب 2%، الأرمن، الآشوريين/السريان، الأذربيجانيين، الشيشان، والشركس). (المصدر ذاته)، وكذلك بالنسبة للأمازيغ في الدول المغاربية مثلاً...الخ. وسنتطرق إلى موقف القوى الإسلامية السياسية العراقية إزاء القضية الكردية في أعقاب عام 2003، أي بعد إسقاط دكتاتورية البعث وصدام حسين.       
الرؤية الثالثة: أما الرؤية الثالثة فقد عبرت عنها قوى وأحزاب وشخصيات سياسية يسارية وديمقراطية تقدمية، إضافة إلى مثقفين يساريين وديمقراطيين مهتمين بالشؤون العامة، فكانت في الغالب الأعم تسود في صفوف المعارضة بشكل عام، إذ كان أتباع هذه الرؤية وما زالوا يؤكدون ما يلي: إن الحل العملي والواقعي للمسألة الكردية يتم أولاً وقبل كل شيء على أساس الاعتراف المبدئي بوجود شعب كردي إلى جانب الشعب العربي إضافة إلى قوميات أخرى عديدة، تعتبر بحكم لوائح الأمم المتحدة أقليات قومية. ويترتب على هذا الاعتراف ثانياً تمتع الشعبين بحقهما في تقرير مصيرهما واختيار الوحدة مع بعضهما في دولة واحدة أم الانفصال وإقامة دولتين مستقلتين على أرض القسم العربي من العراق وعلى القسم الكردي منه، كما أن وحدتهما الاختيارية يمكن أن تتم على أساس الحكم الذاتي أو الاتحاد الفيدرالي. وهذه القضية يقررها كل شعب بمفرده ويتم الاتفاق بينهما على الشكل المناسب الذي ينص عليه بالدستور الدائم للبلاد. ومثل هذا الحل يتم عبر التفاوض الديمقراطي السلمي وفي ظل حكم دستوري ديمقراطي تعددي لا مكان للاستبداد والعنف والقسوة فيه. إنه الحل الوحيد الذي يرضي جميع الأطراف ويستند إلى قرارات الأمم المتحدة بحق الشعوب صغيرها وكبيرها في تقرير مصيرها. كما يفترض أن تتمتع بقية القوميات بحقوقها الإدارية والثقافية المشروعة التي تعتبر إغناء لثقافات البلاد وتلاقحها. ويلتزم الحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية وديمقراطية أخرى بهذا الرأي السديد بشأن القضايا القومية بالعراق.
 


270

كاظم حبيب
نقاش هادئ وشفاف مع الزميل البروفيسور الدكتور قاسم حسين صالح
اتمتع بقراءة مقالات الزميل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح التي تجمع بين علم النفس والسياسة والمجتمع. والتمتع لا يعني الاتفاق التام مع الكاتب أو الموافقة على ما جاء في مقالاته. أحياناً أجد فيها الأحكام المطلقة التي لا تتناغم مع الرؤية النسبية للأمور، أو القناعة التامة بامتلاك الحقيقة كلها، والتي تتعارض مع العلم، ولكنها تتوافق مع كتابات العقدين الخامس والسادس وربما السابع أيضاً من القرن العشرين. ومقاله الأخير يشفع لي في مثل هذه استنتاجات عن مقالاته، مع إن فيها طعم التشويق والإثارة. لقد تعلمت في حياتي العلمية والسياسية أن أكون حذراً في أحكامي من جهة، وأن ابتعد عن القناعة بأني أمتلك الحقيقة أو الحق فيما أكتب من جهة أخرى. ولكن هذا لا يعني أني لم أرتكب أخطاءً في مثل هذه المسيرة السياسية والدراسية الطويلة نسبياُ حيث يقترب عمرها تدريجاً من سبعة عقود. 
أخر مقال قرأته للزميل البروفيسور د. قاسم حسين صالح كان بعنوان "الانتخابات العراقية.. هوس وفوضى وتيئيس - تحليل سيكوبولتك"، نشر في موقع الحوار المتمدن، العدد 5759، بتاريخ 16/01/2018، كما نشر في مواقع عديدة أخرى، تطرق في هذا المقال عن الهوس السياسي والفوضى السائدة بالعراق قبيل الانتخابات العامة القادمة، مشيراً إلى عدد القوائم والتحالفات السياسية، إضافة إلى التحالف، ولأول مرة، بين حزب ماركسي، هو الحزب الشيوعي العراقي، وحزب سياسي ديني، هو حزب الاستقامة، الذي يقوده ويشرف عليه السيد مقتدى الصدر، ثم يشير إلى دور المحللين السياسيين إلى نشر عملية التيئيس الجارية في الساحة السياسية العراقية، ثم يتطرق إلى أثرها السيكولوجي الإحباطي على الناخبين. فقد ورد في المقال النص التالي:
"ان محللين سياسيين أخذوا يشعيون عبر الفضائيات (سيكولوجيا التيئيس) بأن نتائج الانتخابات ستاتي بنفس الفاسدين، دون ان يدركوا انهم بعملهم النفسي هذا يرتكبون خطيئة وطنية، ولا يدركون ان وسائل اغراء وخداع الناخب العراقي (قطعة ارض، بطانيات، موبايلات، فلوس..) ما عادت تجدي الفاسدين نفعا، مع علمنا بعدم عدالة قانون الانتخابات ومحاولة الفاسدين الدخول في قوائم بمساومات (تزكية).
ونصيحة من شخص قضى نصف عمره في (السيكولوجيا).. ان ارتباك المشهد السياسي الآن هو لصالح المواطن ان توقف المثقفون عن اشاعة ثقافة الأحباط واجاد الآكاديميون والكتّاب السياسيون فن اقناع الناخب بأن زمن سقوط السياسيين الفاسدين قد بدأ، وان 2018 ستشهد تشكيل محكمة لمقاضاة الفاسدين تنقل احداثها الفضائيات لتعيد احياء الضمير الاخلاقي الذي اماته قادة احزاب الاسلام السياسي الذين اعتبروا الوطن غنيمة لهم فنهبوه، وافقروا شعبه وأذلوه.. وليثبتوا من جديد بأن تاريخ العراقيين يؤكد بأنهم ما استسلموا لضيم وما رضخوا لظالم ولا انبطحوا لسلطة، وسترون بأن الاحداث ستثبت.. ان غدا لناظره قريب."
يتضمن هذا النص مسائل عدة تستوجب المناقشة:
1.   هل يحق لنا أن نتفاءل أو نتشاءم دون ممارسة استخدام المنهج العلمي في التحليل زالاستناذ إلى الواقع العراقي المعاش فعلاً، وهل هناك تفاؤل مطلق أم تشاؤم مطلق؟ 
2.   ويقول إن محللين سياسيين يشيعون عبر الفضائيات سيكولوجية التيئيس؛
3.   ويؤكد بأن على المثقفين، ويقصد بهم كل المثقفين الديمقراطيين، دون استثناء، أن يكفوا عن المشاركة في الإحباط؛
4.   ثم يقول بأن الإغراء المالي والعيني (قطعة ارض، بطانيات، موبايلات، فلوس..) لم يعد يينفع مع الناخبين وما عادت تجدي الفاسدين نفعا؛
5.   ويؤكد: وإذا ما كف المثقفون عن إشاعة الإحباط، فأن تجربة نصف عمره ستثبت، بأن ارتباك المشهد السياسي الآن هو لصالح المواطن العراقي.
المقال الصحفي الذي كتبه ونشره الزميل قاسم لا يتضمن تحليلاً علمياً وواقعياً للوضع العراقي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي القائم، ولا لأوضاع الإقليم وسياسات الدول المجاورة، ولاسيما إيران، ولا للوضع الدولي، ولا لطبيعة تشكيلة مفوضية الانتخابات "المستقلة!"، ويشير فقط إلى "عدم عدالة قانون الانتخابات"، ولكن المقال والحق يقال يحمل نوايا حسنة، والطريق إلى جهنم، كما هو معروف، معبد بالو أيا الحسن، ويجسد رغبة إنسانية صادقة صوب التغيير. ولكن هل يمكن لباحث وكاتب علمي مميز مثل الزميل قاسم، قضى نصف عمره في هذا المعمعان، حسب قوله، أن يخرج بمثل هذه الخلاصة والاستنتاجات السريعة؟ قناعتي الشخصية تقول: لا يجوز ذلك، إذ أن ما تضمنه المقال يعتبر ضمن الأحكام المسبقة التي لا تستند إلى تحليل علمي وخال من الأدلة المادية التي تسهم في إشاعة التفاؤل، بل هو تعبير عن رغبة ذاتية طيبة ولكنها مبسطة إلى ابعد الحدود، بحيث يصعب على إنسان اعتيادي تقبلها، فكيف بنا وهو يخاطب المثقفين الديمقراطيين العراقيين والعراقيات، يخاطب العلماء والمختصين بعلوم النفس والسياسة والاقتصاد والاجتماع. إن إشاعة التفاؤل على أرضية غير واقعية تضعف التوجه للعمل وتعطي الانطباع وكأن هذا الهوس وتلك الفوضى في الواقع السياسي والانتخابي العراقي هما لصالح القوى الديمقراطية والتقدمية وليس في صالح القوى الإسلامية السياسية الطائفية التي حكمت العراق منذ أكثر من 14 عاماً. والتفاؤل المفرط، على الطريقة التي طرحها الزميل قاسم، هو الرديف للتشاؤم المفرط في الواقع السياسي الجاري بالعراق. التحليل العلمي هو وحده القادر على تقديم صورة إلى حدما واقعية على ما يمكن أن يحصل أثناء الانتخابات القادمة.
فالمؤشرات التي تحت تصرفي والتي طرحتها في مقالي الموسوم " لماذا ولمصلحة من يراد تكريس النظام السياسي الطائفي عبر الانتخابات العامة 2018؟ والمنشور في الحوار المتمدن ومواقع أخرى بتاريخ 17/01/2018، تشير إلى الواقع التالي:
** القوى السياسية الإسلامية الطائفية خسرت الكثير من سمعتها ورصيدها، ولكنها لم تفقد كل قواعدها، بل هي ما تزال تمتلك تأييداً شعبياً، ولاسيما ببغداد وبمحافظات الوسط والجنوب، وقادرة حتى الآن على استخدام الدين، لتغطي به مفاسدها وموبقاتها والسحت الحرام الذي يدخل جيوبها، والمال الذي ما يزال بمقدره خداع الكثير من الناس، والجار، الذي يهيمن على السياسة العراقية حالياً ودور الجنرال قاسم سليماني ووصاية المرشد الإيراني، في كسب الناس إلى جانبها. ويمكن أن نتابع ما ينظمونه من مسيرات لزيارة الإمام الحسين وما يصرف من أموال في هذا المجال وما يطرح فيها من دعايات عدوانية ضد القوى الديمقراطية في المساجد والجوامع والحسينيات. وعلينا أن ننتبه إلى أن وكلاء المرجعية، ولاسيما عبد المهدي الكربلائي، بدأوا يروجون بوضوح كبير إلى ما يماثل ولاية الفقيه بالعراق، وإلى الالتزام بتوصيات المراجع العظمى التي تعني أولاً وقبل كل شيء تأييد القوائم التي تؤيدها المرجعية والتي ستطرح التأييد لا من خلال المرجعية مباشرة بل من خلال وكلاء المرجعية (اقرأ في هذا المجال مقال الدكتور رشيد الخيون بعنوان "ولاية فقيه.. فلماذا ينتخب العراقيون!، المنشور في جريدة الاتحاد الإمارتية، يوم الأربعاء المصادف في 17 يناير 2018). 
** نسبة عالية من الجماهير ما تزال تعاني من البطالة الموجعة والفقر وصل نسبته إلى أكثر من 40% من القوى القادرة على العمل، والذي يعني نسبة عالية من سكان العراق، وكذلك الأفراد ذوي الدخل المحدود جداً، الذين يمكن أن يلعب المال والمواد العينية دورهما في شراء ذمم الناس وهم تحت سياط البطالة والفقر والحرمان، إضافة إلى ضعف الوعي بعواقب ذلك. فلا يحق لنا أن (نذرع بالجنة"، ولا الأخذ بقاعدة "الهور مرگ والزور خواشيگ" كما يقول المثل العراق النابت! الفقر والحرمان والنوم بدون عشاء كان يفترض أن يدفع بالناس إلى الثورة. لنتذكر القول المنسوب لأبي ذر الغفاري "عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهرا ً سيفه". ولكن هذا غير موجود ولا يكفي أن نشيّم الناس، فرغم التحسن النسبي في وعي الناس، ولكننا لم نستخدم قدراتنا أو لم تتوفر الظروف المناسبة لاستخدام قدراتنا في رفع مستوى الوعي عند الكثير من الناس الطيبين الذين على عيونهم ما تزال غشاوة شيوخ الدين غير المتنورين والغشاشين والرثين العاملين في الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي ما تزال تزيف وعي الناس! لقد صدق رفيقي الأستاذ رضا الظاهر حين كتب مرة يقول إن عملنا هو شبية بـ "الحفر أو النقر في الصخر". 
** أعرف تماماً بأن إيران متغلغلة في العراق كله، ابتداءً من السليمانية ومروراً بكركوك وبغداد، وانتهاءً بمحافظات الوسط والجنوب، متغلغلة في السياسة وفي الأوساط الدينية والكثير من منظمات المجتمع المدني وفي الحشد الشعبي قيادة والكثير من القواعد التي كانت في السابق جزءاً من المليشيات الشيعية الطائفية المسلحة، وفي الاقتصاد العراقي وفي النسيج الاجتماعي الشيعي. وهذا التغلغل مقترن بالإعلام والمال والقادة السياسيين للأحزاب الإسلامية السياسية والمليشيات الشيعية المسلحة، عدا الصدريين، وبعض القوى القومية الكردية والعربية، إضافة إلى دور كل من تركيا والسعودية والخليج في هذا الصدد، ولاسيما على القوى والأحزاب السنية، إضافة إلى دور داعش الإجرامي في التخريب.           
** إن القوى الديمقراطية، اليسارية واللبرالية والمستقلة والمتدينة المتنورة على مستوى العراق كله ومن العرب والكرد وبقية القوميات، ما تزال متفرقة وغير موحدة، وهذا الواقع يضعفها ولا يعززها قدارتها في مواجهة قوى الإسلام السياسي الطائفية والفاسدة الحاكمة. إن الاتفاق بين الشيوعيين والصدريين ربما يأتي بنتائج معينة إيجابية في صالح القوى الديمقراطية المشاركة في التحالف الجديد "سائرون"، ولكنه في الوقت ذاته جزأ القوى التي كانت موحدة في التيار الديمقراطي العراقي ومن ثم في "تقدم"، كما إنه لم ينجح الجميع في كسب الكرد إلى جانب القوى الديمقراطية، التي كان وما يزال يفترض أن تكون هذه القوى حلفاء لبعضهم في مواجهة الوضع الإسلامي، ولاسيما بعد كل الذي حصل بالإقليم والذي كان المفروض أن يفتح آفاقاً للتعاون لتجاوز النكسة التي تعرض لها الكرد بسبب سياسات الأحزاب الكردستانية والحكومة وبسبب سياسات الحكومة الاتحادية في آن واحد!
** وأخيراً وليس أخراً، فأن قانون الانتخابات السيء الصيت سيساهم في تزوير إرادة الناس وتصويتهم، إضافة إلى دور المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في التزوير المحتمل التي شكلت على أساس المحاصصة الطائفية، ورفضوا بإصرار وقح تغييره بصورة ديمقراطية لصالح الناخب العراقي ونزاهة المفوضية.   
هذه الوقائع ينبغي أن تكون أمامنا ونحن نبحث في الوضع بالعراق وأن نقدر بدقة نسبية قدرة المجتمع على تجاوز المحنة الراهنة في وجود هذه القوى التي عرضت العراق لكل الكوارث والمآسي والموت والفقر والفساد والإرهاب حتى الآن على رأس السلطة التنفيذية وفي مجلس النواب والقضاء والادعاء العام. فالتفاؤل المفرط الخالي من مضمون مضر مثل التشاؤم المفرط، وعلى عاتق الباحثين والسياسيين والإعلاميين تقع مهمة تقدير الأمور بواقعية عقلانية، والدكتور قاسم وأنا ضمن من يشملهم ذلك.
هل يعتقد الزميل قاسم حقاً إن الحديث المتفائل في مقدوره وحده أن يحقق النصر المبين عل القوم الفاسدين؟ هل ما زلنا نؤمن دون أرضية مناسبة "تفاءلوا بالخير تجدوه؟ أو كما كنا نهتف في العابنا الرياضية: گله ..  گله .. گله فيسقط الفريق الذي لا نؤيده.
نحن أمام واقع يستوجب العمل الكثيف، العمل بخمسة اتجاهات هي:
1.   تعزيز التحالفات الوطنية الديمقراطية وتمتينها من خلال بلورة مواقف مشتركة وبرنامج مشترك يضم القوى المدنية الديمقراطية، اليسارية منها واللبرالية، والقوى المستقلة والمتدينة التي تعتقد بضرورة فصل الدين عن الدولة والمناهضة للطائفية السياسية وتؤكد مبدأ المواطنة العراقية المتساوية والموحدة والمشتركة. أن تكون هذه الوحدة على مستوى العراق كله ومن كل القوميات.
2.   تعزيز عملنا المشترك في صوف المجتمع العراقي، لاسيما بين الكادحين والمعوزين ومن ذوي الدخل المحدود الذين يعانون من البطالة والفقر والحرمان والعوز الدائم، في مقابل وجود قوى في الحكم وحواشيها تغتني يومياً على حساب الشعب وأمواله ومستوى معيشته المتدني ومستقبل الأجيال القادمة.
3.   استخدام خطاب عقلاني جديد من جانب القوى التي يهمها التغيير ويمتلك القدرة التنويرية والحداثة المناسبة التي تتناغم وفهم الناس لهذا الخطاب الشعبي المناسب وتنشيط منظمات المجتمع المدني والنقابات في هذا المجال أيضاً.
4.   فضح القوى والأحزاب السياسية الإسلامية الطائفية وليس مجاملتها بخطابنا السياسي، إذ إنها مرَّغت كرامة الإنسان العراقي بالتراب وتسببت في موت مئات الألاف من الناس الأبرياء.. الخ، وفضح من يقف خلفهم ويؤيدهم من شيوخ الدين غير المتنورين والساعين إلى إقامة حاكمية الله والولي الفقيه بالعراق والداعمين لقوى الإسلام السياسي الطائفية المقيتة.
5.   فضح القوى والدول الأجنبية التي تتدخل يومياً في الشأن العراق وتساهم في صرف الملايين من المال لدعم قوى الإسلام السياسي وأحزابها وشخصياتها الطائفية التي تعبر عن أهدافها المريضة في السيطرة على العراق وعلى سياساته وموارده وحرمانه من الاستقلال والسيادة الوطنية.
   

271
كاظم حبيب
لماذا ولمصلحة من يراد تكريس النظام السياسي الطائفي عبر الانتخابات العامة 2018؟
الطائفية والفساد هما أصل الداء والبلاء، وهما       السائدان بالبلاد، وهما السبب وراء الإرهاب الدامي   وسقوط المزيد من الشهداء، كما حصل في ساحة الطيران يوم أمس، والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية هي المسؤولة عن كل ذلك!!
تشير معطيات التحرك السياسي قبيل الانتخابات العامة المحتملة في شهر أيار/مايس 2018 إلى عدد من الوقائع المهمة التي لا بد من تشخيصها من أجل تقدير وجهة التطور المحتملة في واقع العراق الراهن، والتي يمكن بلورتها فيما يلي:
** هناك أجواء عامة مناهضة للمحاصصة الطائفية السائدة بالدولة العراقية بجميع سلطاتها لما تسببت به من كوارث ومصائب وزلازل اجتماعية هزّت المجتمع العراقي ومزقت نسيجه الوطني وعرضته للاحتلال، كما تسببت بموت مئات الآلاف من البشر ونزوح 4,5 مليون نسمة من مناطق سكناهم وهجرة مئات الألاف الأخرى، ولاسيما من أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام، إلى خارج العراق خلال السنوات المنصرمة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية بالعراق.
** هناك أجواء مناهضة للقوى والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي شكّلت الحكومات العراقية المتعاقبة خلال السنوات المنصرمة وما تزال في الحكم، وكانت وراء كل ما حصل بالعراق من مآسي وموت ودمار وخراب وفساد وإرهاب سائدين.
** وهناك تمزق فعلي في معسكر قوى الإسلام السياسي وأحزابها وتحالفاتها، وكل منها برمي بعراته على الآخرين، ولكنها ما تزال تملك السلطة والمال والتأييد من بعض المرجعيات بصيغة مباشرة وغير مباشرة عبر وكلاء المرجعيات وفي الجوامع والمساجد، في محاولة لتبييض وجهها عبر الانتصارات التي تحققت في الموصل وبقية مناطق محافظة نينوى وصلاح الدين والأنبار، وكأنها كانت هي وراء هذه الانتصارات وليس الجيش العراقي والمتطوعين الشجعان ممن لم يكونوا من قوى المليشيات الطائفية المسلحة التي عاثت قبل وأثناء وبعد ذاك فسادا بالعراق، ومنها منظمة بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله والعشرات الأخرى التي أسستها ونظمتها ومولتها وقادتها إيران بشخص قاسم سليماني بالعراق وأجهزة المخابرات والحرس الثوري وفيلق القدس الإيراني، والتي يترأسها مساعدون منهم: هادي العامري وفالح الفياض وقيس الخزعلي واللويزي والشمري ومن لف لفهم من قادة المليشيات الطائفية المسلحة!
** هذا التمزق ينعكس في تحالفات جديدة للقوى الإسلامية الطائفية الشيعية، مثل حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي والحكمة والجماعات التي شكلت أحزاباً جديدة من قوى المليشيات الطائفية المسلحة السابقة والتي تحاول اليوم أن تدخل الانتخابات بتحالفات أخرى بدعم مباشر من إيران، وكذلك الانشطارات في صفوف الجماعات الإسلامية السياسية الطائفية السنية.
** إن الزيادة في عدد التحالفات وعدد الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية المسجلة لخوض الانتخابات القادمة تعبر عن ضعف وتمزق وصراع، إذ كل منها يسعى للهيمنة على السلطة، ولكنها تعني في الوقت نفسه عن محاولة للحصول على أكبر عدد من الأصوات وعدد النواب من خلال هذا التوسع الكمي لعدد القوى التي ستشارك في الانتخابات.
** وفي الجانب الكردستاني حصل التمزق في القوى الكردية، الذي برز قبل الاستفتاء وتواصل وتعمق بعده، والذي تبلور في عدد من القوائم الانتخابية والتي تجسد ضعفاً عاماً لها جميعاً في مواجهة الأوضاع الجديدة بالعراق وكردستان. كما إن جميعها لم تسع إلى إيجاد تحالف جديد لها مع القوى الديمقراطية العراقية العابرة للطوائف والقوميات، وهو خلل كبير صاحب الحركة الديمقراطية الكردستانية منذ سقوط الدكتاتورية وابتعادها عن القوى الديمقراطية العراقية وأضعاف لها ولبقية القوى الديمقراطية، العربية وغير العربية.
** وفي الصف الديمقراطي اليساري واللبرالي والمستقل تعرض هو الآخر إلى التمزق، بعكس ما يستوجبه الوضع العراقي العام وما يتطلبه الموقف من الانتفاع الفعلي من أزمة القوى الإسلامية السياسية الطائفية. حصل التمزق في جانبين: الأول الابتعاد بين قوى التيار الديمقراطي العراقي وقوى ليبرالية وديمقراطية ومستقلة أخرى، والثاني في تفلش أو انفراط عقد التحالف الجديد "تقدم"، الذي تشكل في نهاية العام الماضي من خلال خروج الحزب الشيوعي عنه وإقامته تحالفاً مع حزب الاستقامة، الذي يقوده ويشرف عليه مقتدى الصدر، وجماعات ليبرالية أخرى، وخروج الحزب الاجتماعي الديمقراطي وتشكيله تحالفات أخرى من قوى ليبرالية. وتبريرات هذه الانشطارات والتحالفات الجديدة تسوقها القوى المنشطرة كل من منظوره الخاص وقناعته بما يمكن أن تسفر عنه نتائج تحالفاته الجديدة. 
** يراد لهذه الانتخابات أن تجري في ظل ظروف غير مناسبة من الناحية الموضوعية ونعني بذلك:           
•   النزوح الكبير لأكثر من مليوني إنسان، ممن يحق له التصويت، عن مناطق سكناهم واستحالة مساهمة الكثير منهم في التصويت، ولاسيما محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك.
•   قانون الانتخابات السيء الصيت الذي لم يعدل والذي وضع من قبل الأحزاب الطائفية التي تريد البقاء في السلطة وبطريقة مفضوحة ودون حياء.
•   وجود مفوضية الانتخابات الجديدة غير المستقلة التي أقيمت على أساس المحاصصة الطائفية المقيتة والمذلة للمواطنين والمواطنات وللشعب عموماً، والتي لن تكون نزيهة في إشرافها على الانتخابات كما حصل تماماً في الدورات الانتخابية السابقة.
•   تجري الانتخابات في غياب التوازن والمساواة في القدرة على الدعاية الانتخابية بسبب الهيمنة على الإعلام وامتلاك الأموال والتدخل الديني في الانتخابات، إضافة إلى التأثير الخارجي، ولاسيما إيران على مجرى الانتخابات، وكذلك دور المليشيات الطائفية المسلحة في ترهيب الناخبين ضد قوى معينة، وترغيبهم لقوى أخرى من خلال وجودهم في المناطق الانتخابية.
•   قيام قوى إسلامية سياسية شيعية وسنية وشيوخ بمحاولات وقحة لتشويه سمعة القوى المدنية والديمقراطية لإبعاد الناخبين عن التصويت لهذه القوى من خلال ادعاءات واتهامات كاذبة ووقحة يطلقونها من على منابر الجوامع والمساجد وفي القنوات التلفزيونية والإذاعات والصحف.
•   وجود قوى وعناصر شديدة الفساد تتربع في مواقع المسؤولية السياسية وعموم الدولة العراقية، أي في سلطاتها الثلاث، وهي التي تملك من الأموال ما يساعدها على توسيع قاعدة رشوة الناخبين وشراء أصواتهم واستخدام أساليب أخرى تتجلى في دعاياتهم الانتخابية أيضاً. وكل الوعود التي قطعها رئيس الوزراء بمحاربة الفساد والمفسدين ذهبت أدراج الرياح: وكأننا نسمع القول الشائع بالعراق "كلام الليل يمحوه النهار"! جيد أن يلقى القبض على السوداني ويسلم للحكومة العراقية ولكن الحرامية الكبار يعيشون بالعراق وببغداد، ولاسيما في المنطقة الخضراء، فلماذا لا يجري اعتقالهم، هل لأن على "ز... جرس!"؟ لقد اعلنوا خبر اعتقال "حرامي بغداد" واحد أو اثنين، وهما خارج العراق ويفترض أن يسلما إلى الحكومة العراقية، ولكن في بغداد، ولاسيما حي الخضراء، فهناك العشرات بل المئات من أشرس وأحقر "حرامية بغداد" المعروفين للناس جميعاً، ويخشى رئيس الوزراء اعتقالهم ولا القضاء العراقي ولا الادعاء العام قادر على ذلك!
** وعلينا أن نشير إلى أن نسبة عالية من بنات وأبنا الشعب العراقي يعانون من الفقر والحرمان، وهم يعيشون تحت خط الفقر المعروف دولياً في ظروف العراق الملموسة، وهناك بطالة واسعة جداً، كما إن الوعي السياسي والاجتماعي ما يزال بعيداً عن قدرة الفرد في تحليل واقع العراق وضرورات التغيير الفعلي وإبعاد القوى الحاكمة المسؤولة عن ذلك عن الدولة بسلطاتها الثلاث، ووجود الأموال الهائلة لدى الفاسدين المسروقة من أموال الشعب، وهي سحت حرام.
ماذا ننتظر من الانتخابات القادمة وفي ظل هذه التشخيصات؟   
 مع إن هذه التحالفات ما تزال هشة ومتغيرة في من يلتحق بها أن يغير تحالفه، فأن ما جاء في أعلاه يسمح لي باستنتاج يشير إلى احتمال كبير في التأثير المباشر وغير المباشر موضوعياً على مجرى الانتخابات في غير صالح نزاهتها وأمانتها لمصالح الشعب العراقي لن يكون قليلاً بل واسعاً، من خلال التأثير على نسبة عالية من الناس ممن يعانون من مشكلات مالية ومعيشية، إضافة إلى اقترانها بالجانب الديني المشوه، وبالتالي احتمال بروز ذات الوجوه وما يماثلها سلوكاً، وبنسبة عالية، في مجلس النواب الجديد، قائمة حقاً، وهي الكارثة المحتملة والمرتقبة التي يصعب، كما يبدو حالياً تلافيها. ومن كان يعول على العبادي في تشكيل قائمة عابرة للطوائف أصيب بخيبة أمل، علماً بأن الأمر كان متوقع أساساً!  لقد ارتدى العبادي دشداشة الطائفية البائسة والمهلهلة، كما كتب بصواب الزميل الكاتب والصحفي عدنان حسين في جريدة المدى وفي مقاله الموسوم "انتخابات إعادة التدوير" بتاريخ 12/01/2018 ما يلي: "من الواضح أيضاً أنه ما من أحد من الكيانات المتنفذة في السلطة منذ 2003 يريد الخروج من شرنقة الطائفة – القومية. حتى رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لم ينقصه إلا الوقوف عند شبّاك العبّاس والحلفان لتأكيد أنه يريد تشكيل ائتلاف سياسي وطني عابر للطائفية والقومية، يتبيّن الآن أنه غير قادر على، وربما غير راغب في، نزع دشداشته الطائفية"، علماً بأن إيران لم تعد تؤيد العبادي بل تريد استبداله بـ "هادي العامري"، بعد أن احترقت أوراق المالكي كثيراً، رغم أنه ما يزال لم ييأس من تأييد إيران ولاسيما المرشد الإيراني على خامنئي.
إن الجواب عن السؤال الوارد في عنوان المقال، نعم، إن الفئات الحاكمة تعمل بكل قوة وتستخدم كل الأساليب غير المشروعة، ومنها الإفساد، للبقاء في السلطة وتكريس الطائفية السياسية، وتجد الدعم الكامل من إيران الخامنئي والجنرال سليماني لتكريس نظام المحاصصة الطائفية، النظام السياسي الطائفي الفاسد بالعراق، وهي بذلك تخدم مصالح القوى الفاسدة الحاكمة ومصالح إيران مباشرة التي تحدث بعض أبرز قادتها قبل أشهر عن إن العراق أصبح جزءاً من الدولة الإسلامية الفارسية وعاصمتها بغداد!!
 


272
كاظم حبيب
العالم يسخر من مهازل ترامپ، وترامپ يسخر من مهازل الحكام العرب!
عرف الشعب الأمريكي، ومعه العالم كله، عدداً من الرؤساء الأمريكيين الذين تميزوا بمواصفات غير حميدة، منها الجهل بأمور العالم والسياسة الخارجية والتطرف اليميني والكذب مثل ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وجورج دبليو بوش الأبن، ولكنه لم يعرف أبداً رئيساً كالرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، الرئيس الجديد الذي يقطن اليوم في البيت الأبيض ويحمل شعار الولايات المتحدة الأمريكية أولاً، وهو يعبر عن محتوى الشعار المعروف لألمانيا النازية الهتلرية "ألمانيا فوق الجميع"، فهو يحمل كل هذه السمات السيئة، ولكنه يفوقهم، كما يقول جيرمي د. ماير، المحاضر في جامعة جورج ماسون في السياسة الخارجية والإعلام، في عنصريته والذي يطلق كذبة ثم يصدقها ويقتنع بصحتها. ولكن الناس المحيطين به والذين يستمعون إلى أكاذيبه مقتنعون بأنها ليست سوى "روث البقر"، أي فضلاتها، والتي لا يصدق بها إلا من كان من صنفه. (المصدر: برلينر تسايتوگ Kordula Doerfler und Damir Fras, Interview mit Jermy D. Maxer, Berliner Zeitung, Nr. 11, 13./14. Januar 2018, S. Magazin, S. 1u. 2). فهو لا يستحي من أكاذيبه كما لا يستحي من أحد. وهذه الشخصية ذات الأطوار الغريبة قد شتم الكثير من الشعوب وأساء إليها بعبارات قاسية، ومنها أخيراً الشتيمة العنصرية التي وجهها للدول الأفريقية وهاييتي والسلفادور حين وصفها بـ "حثالة الدول" أو "الدول القذرة" أو "الأوكار القذرة". وكان النص الذي نقل عنه في اجتماع له مع أعضاء من مجلس الشيوخ الأمريكي من الحجزبين الجمهوري والديمقراطي قوله التالي: "لماذا يأتي كل هؤلاء الاشخاص القادمين من حثالة الدول إلى هذا البلد؟". وقد احتج الاتحاد الأفريقي على هذه الإهانة والإساءة المتعمدة والوقحة الموجهة لشعوب قارة بأسرها وكل الناس من أصول أفريقية أو ممن هم من دول مثل هاييتي والسلفادور مثلاً. "فقد طالب سفراء 54 دولة إفريقية بالأمم المتحدة في بيان شديد اللهجة، الرئيس الأميركي دونالد ترامپ بالاعتذار والتراجع عن تصريحات وصف فيها بلدانهم ودولا أخرى بـ”الحثالة”. وبعد اجتماع طارئ في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، قالت مجموعة السفراء في بيان، إنها “صُدمت بشدة”، وبأنها “تدين الملاحظات الفاضحة والعنصرية والمتضمنة كراهية للأجانب”. (المصدر: لأمم المتحدة: 54 دولة إفريقية تطالب ترمب بالاعتذار https://www.souriyati.com/2018/01/13/93192.html  ، موقع سوريتي بتاريخ 13/01/2018).
هذا الرجل بدأ يقدم للعالم كل يوم تقريباً سواء بتصريحاته أم بـ "تغريداته" على التويتر ما يجعل العالم يسخر منه ومن الذين انتخبوا مثل هذه الشخصية القرقوزية من جهة، والخطرة والمحملة، كما تشير إلى ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، بروح ورائحة عنصرية نتنة من جهة ثانية، وبسبب راديكاليته اليمينية المتطرفة ورغبته في المزيد من تسليط الاستغلال على الكادحين بالولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثالثة. وهو صاحب القول كان على الولايات المتحدة الأمريكية "أن تأخذ النفط" في العراق عام 2003، مشيراً إلى أنها "لو فعلت ذلك (وقتها) لما ظهر داعش"، متابعاً: "ربما ستكون هنالك فرصة أخرى".. (المصدر: ترامپ: كان على أمريكا أخذ نفط العراق في 2003 وربما ستكون هنالك فرصة أخرى لذلك، موقع رووداو، 22/01/2017").
هذا الرئيس الذي سخرت شعوب العالم منه وضحكت عليه، كما أغضبها تصرفاته السياسية ومواقفه إزاء المرأة وشعوب البلدان النامية، لم يستطع حتى الآن كسب الدول الأوروبية إلى جانبه حتى تلك الدول الأقرب من غيرها إلى الولايات المتحدة مثل بريطانيا وألمانيا ولاسيما تريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، وأنجلا ميركل، مستشارة ألمانيا الاتحادية وأغلب مسؤولي دول الاتحاد الأوروبي. هذا الرئيس بالذات يسخر، وبكل ما لهذه الكلمة من معنى من شعوب الدول العربية ويضحك بملء فمه على ذقون الحكام العرب، وهم راكعون له ومسبحون بحمده ودافعون له ما يشاء من أموال من أموال شعوبهم المقهورة بسياساتهم الاستبدادية وعنجهيتهم.
وأخيراً وليس أخراً قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل دون أن يأخذ بالاعتبار قرارات مجلس الأمن الدولي وموقف العالم كله من هذه القضية الشائكة والمعقدة والتي وضعت ضمن الحل النهائي لحل القضية الفلسطينية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. إذ "أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامپ بتاريخ 07/12/2017 في خطاب متلفز من البيت الأبيض الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقال إنه وجه أوامره للبدء بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وهو ما أكده وزير خارجيته ريكس تيلرسون، ورحب نواب أميركيون بالقرار." (المصدر: المصدر: الجزيرة + وكالات 7/12/2017). ولم يكتف بذلك بل هدد كل دول العالم، وهي الدول النامية، بأنه سيقطع عنها المساعدات التي تقدم بها، وهي في الغالب مساعدات عسكرية وغذائية، والتي تمنح من الأرباح التي تتحقق للولايات المتحدة الأمريكية واحتكاراتها من اقتصاديات الدول النامية، وهذه المنح والمساعدات ليست جزءاً يسيراً مما تحقق ويتحقق لها من أرباح. 
ولم يثر هذا الموقف سخرية العالم فحسب، بل وأثار غضب جميع دول العالم تقريباً، عدا إسرائيل وتسع دول أخرى صوتت ضد القرار في اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة نتيجة لتهديد ترامپ وسفيرته في الأمم المتحدة. وقد اثار غضب شعوب وحكومات العالم، أكثر مما اثار غضب حكومات الدول العربية المستكينة للولايات المتحدة، والتي لم تكن قرارات مجلس الجامعة العربية حتى الآن بمستوى الرد المطلوب على قرار هذه الشخصية الغريبة بشأن القدس.
وخلال زيارة ترامپ للمملكة السعودية اتفق مع الحكومة السعودية على عقود يبلغ مقدارها بين 400 مليار دولار أمريكي لشراء الأسلحة ومعدات عسكرية ونظم دفاع عسكري وعقود أخرى ...الخ، (المصدر: موقع الوطن بتاري 21/05/2017). كما إن المتحدث باسم البيت الأبيض أكد: "إن الرئيس ترامپ ووزير الخارجية تيلرسون حضرا مراسم توقيع عقود تسليح بنحو 110 مليارات دولار." (المصدر: اولى ارباح ترامپ من السعودية .. عقود تسليح بـ 110 مليارات دولار، موقع قناة العالم، بتاريخ 20/05/2017). كما إن حكومة ترامپ وقعت عقداً مع قطر بمقدار 12 مليار دولار أمريكي لشراء مقاتلات أف 15 في شهر حزيران 2017. إضافة إلى عقود أخرى مع دول عربية خليجية وغيرها." وهذه الأموال المدفوعة أو التي ستدفع للولايات المتحدة الأمريكية ستسرق من لقمة عيش الشعب في المملكة السعودية ولاسيما الفقراء والمعوزين والذين يعيشون عيشة الكفاف. وهي أموال تدفع لشراء الأنظمة الجديدة من الأسلحة لتساهم في قتل المزيد من البشر في اليمن أو في سوريا أو العراق أو لتشديد الصراع والدفع باتجاه حافة الحرب مع السعودية غريمها المماثل لها في الاستبداد والقهر في المنطقة.   
إن الإحباط الذي تعيشه شعوب الدول العربية لن يدوم طويلاً، وفجأة ستهض، بع أن يكون كأس الغضب قد امتلأ، عندها سيتجد حكومات هذه الدول نفسها أمام ربيع شرق أوسطي جديد يمكن أن يكنسها ويرمي بها في براميل القمامة، وهو المكان المناسب لها، لما تسببت به حتى الآن من الآم وكوارث وحرمان على شعوب المنطقة. إن الشعوب تمهل ولا تهمل، والظلم إن دام دمر.
 


273


مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية
خلال حكم
الرئيس دونالد ترامب





د. عبد الأمير رحيمة العبود
    
لم تسلم الولايات المتحدة الأمريكية من آثار بعض الأزمات التي يتعرض لها سكان العالم في الوقت الحاضر، بالرغم من تمتعها بموارد طبيعية هائلة وإمكانات اقتصادية وتكنولوجية كبيرة جداً. إذ إنها تعرضت منذ عام 2008 إلى أزمات اقتصادية متعاقبة، تركزت في ازدياد معدلات البطالة، ونزوح عدد كبير من الصناعات والمشاريع الاقتصادية نحو الصين والمكسيك وبعض الدول الأسيوية، بسب رخص الأيدي العاملة واتساع إمكانيات التسويق في تلك المناطق، إضافة إلى ما كانت تعانيه كغيرها من الدول المتطور من ازدياد عدد النازحين إليها من مختلف أنحاء العالم، وكذلك تعرضها إلى الإرهاب كغيرها من الدول المتطورة. فضلاً عن ازدياد مديونيتها الخارجية والداخلية. وقد كان لازدياد إنفاق الولايات المتحدة على التسلح ومشاركتها في الحروب، بخاصة ما تعرضت له في الآونة الأخيرة من جرّاء الحروب في أفغانستان والعراق دور كبير في ازدياد آثار تلك الأزمات.
ولهذا أنصبت سياسة الولايات المتحدة عقب تولي الرئيس "باراك أوباما" بتاريخ 20/1/2009 على تقليص المشاركة في الصراعات الدولية العسكرية والتركيز على معالجة المشاكل الداخلية للولايات المتحدة، ويبدوا أن تلك السياسة لم تفلح في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للولايات المتحدة، وقد حصل تغير كبير في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية عند مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في مطلع عام 2017.
والجدير بالذكر أن الرئيس ترامب يعتبر من القوى اليمينية المتطرفة التابعة للحزب الجمهوري الأمريكي.
وقد تميزت سياسة ترامب خلال حملته الانتخابية بالكثير من التطرف والطيش، واستعمال أساليب المغامرة والمناورة والتهديد في سياسته الخارجية والداخلية، لمواجهة منافسته "هيلاري كلنتون". وكان هدفه الرئيس كما كان يدعي هو أن يعيد للولايات المتحدة الأمريكية قوتها السابقة وسيطرتها على العالم.
لقد كان ترامب رجل أعمال ناجح، ولكنه يفتقد إلى الحكمة والخبرة السياسية والدبلوماسية، اعتمد في خبرته التجارية الناجحة على أسلوب المغامرة والمناورة والتحدي وقد كسب من خلال ذلك على الكثير من الأموال وأصبح واحداً من كبار الأثرياء الأمريكيين.
بيد أن هذه الصفات التي تميز بها دونالد ترامب لم تكن ملائمة لما تقتضيه مهمته السياسية كرئيس دولة، بدليل أن كافة الاستطلاعات التي أُجريت آنذاك خلال الحملة الانتخابية قد أسفرت عن تغلب التأييد بنسب مرتفعة لمنافسته هيلاري كلينتون.
وما إن ظهرت نتائج الانتخابات حتى تفاجئ العالم بفوز "دونالد ترامب" بمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وخسارة منافسته "هيلاري كلينتون".
وقد أثار هذا الفوز، غير المتوقع، الشكوك لدى الكثيرين من الهيئات السياسية والإعلامية، والادعاء بممارسة نوع من التدخل غير المشروع في سير هذه الانتخابات، وقد أشير في حينه إلى احتمال ممارسة السلطات الروسية للأساليب التكنولوجية بقصد التأثير على تلك الانتخابات لصالح دونالد ترامب.
وخلال الفترة منذ فوز ترامب الانتخابات ولحين استلامه للسلطة قام ترامب بتعيين من يشاركونه في ممارسة السلطة على مستوى الوزراء ورؤساء المؤسسات الأمنية وكبار موظفي البيت الأبيض من الأثرياء ومن تميزوا بمشاركته بما كان يعلنه من سياسات التطرف والعنف في حملته الانتخابية ومن ضمنهم بعض أقاربه مثل أبنته (إيفانكا) وزوجها.
وفي ضوء هذه المعطيات قد يثار السؤال: هل سوف يفلح الرئيس ترامب في تنفيذ ما أعلنه من سياسات وإجراءات خلال حملته الانتخابية؟ وما أثـر ذلك على وضع الولايات المتحدة حتى الآن ؟
وللإجابة عن هذا السؤال بشكل واضح قد يفيدنا استعراض الإجراءات والسياسات التي أعلنها السيد ترامب وقام بتنفيذها حتى الآن:

أولاً: الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية:
يلاحظ هنا تحولاً جذرياً في سياسة ترامب إزاء الهجرة ودخول مواطني الدول الأخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنه في برنامجه الانتخابي كان يطالب بمنع كافة المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان يدعي بأن السعودية ودول الخليج العربي هي أكثر الدول الداعمة لمنظمة داعش الإرهابية.
لكنه ما إن تسلم السلطة في 20/1/2017 حتى أعلن عن حضر دخول مواطني سبعة دول إسلامية هي: إيران وسوريا والعراق واليمن والصومال وليبيا والسودان بالرغم من أن العراق من أكثر الدول التي تحارب الإرهاب وبينها وبين الولايات المتحدة تحالف استراتيجي.
وما إن صدر هذا القرار حتى قوبل بمظاهرات عارمة في مدن أمريكية عديدة، كما صدرت قرارات من عدة محاكم أمريكية تطعن في شرعيته الدستورية.
وبالرغم من قيام ترامب باستثناء العراق من شمول هذا القرار، إلا أن هذا القرار لم يطبق كاملاً حتى الآن.

ثانياً: محاربة الإرهاب:
بعد أن كانت محاربة منظمة داعش والقضاء عليها هي الهدف الرئيس الذي تركزت حوله الدعاية الانتخابية للرئيس ترامب. إذ كان يطالب بضرورة توجيه ضربة قاضية لهذه المنظمة والدول التي تمدها بالمساعدة، مع الإيحاء بدور دول الخليج العربي، ومنها السعودية بدعم هذه المنظمة عن طريق منظماتها الاجتماعية وجوامعها الوهابية، مع الإشارة إلى ضرورة التعاون مع روسيا للقضاء على هذه المنظمة.
لكن الغريب والمثير أيضا هو أن ترامب ما أن تسلم الحكم حتى تحول حديثه من محاربة داعش إلى الحديث عن محاربة الإرهاب معتبراً إيران هي الداعم الرئيس للإرهاب في العالم، ومطالباً بالتعاون مع السعودية ودول الخليج للقضاء على الإرهاب والحد من تأثيرات إيران على المنطقة، ويبدوا أن محاولة ترامب هذه هي للضغط على السعودية ودول الخليج من أجل الحصول على الأموال والاستثمارات من قبل دول الخليج لإنعاش الاقتصاد الأمريكي.

ثالثاً: الاتفاقية النووية مع إيران:
لقد حصل تحوّل ملموس في سياسة ترامب إزاء الاتفاقية النووية مع إيران بعد أن تسلم السلطة، بسبب إعلان الدول الأوروبية الموقعة على تلك الاتفاقية عن تمسكها بهذه الاتفاقية، ولهذا أصبح ترامب يدعوا إلى إجراء التغييرات على بعض بنود تلك الاتفاقية بل إن السكون قد خيم على هذا الموضوع في الآونة الأخيرة. بعد أن كان هدفه هو إلغاء الاتفاقية النووية مع إيران خلال حملته الانتخابية إلا أنَّ الحملة ضد إيران وإعلان معاداتها وضرورة معاقبتها لا تزال من أهم السياسات التي يعلن عنها ترامب باستمرار.

رابعاً: الرعاية الصحية:
بعد توليه السلطة أعلن ترامب عن إلغاء مشروع الرعاية الصحية (أوباما كير) الذي يوفر الرعاية الصحية لما يقارب الأربعين مليون أمريكي بسبب تكاليفه الباهظة واستبداله بمشروع آخر تحت اسم (ترامب كير).
لكن هذا القرار جوبِهَ بمظاهرات عارمة تهدد به في مدن أمريكية عديدة، ولم يحض بموافقة الكونغرس الأمريكي، وكان البديل الذي اعتمده ترامب فيما بعد هو طرح مشروع آخر يتضمن إلغاء جوانب متعددة من مشروع (أوباما كير) وقد اقترن هذا المشروع بموافقة مجلس النواب، ولم يحصل إلغـاؤه كليـاً.

خامسا: التحالفات الدولية:
كذلك حصل تحول واضح في موقف ترامب من التحالفات الدولية، فبعد أن كان هدفه الخروج من حلف الأطلسي "الناتو" كان موقفه حتى الآن داعماً لمشاركة الولايات المتحدة بهذا الحلف، واقتصرت مطالباته على ضرورة مساهمة الأعضاء بتكاليف ذلك الحلف وزيادتها قليلاً.
كما طالب الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية بالخروج من الاتفاقيات التجارية الدولية، لكنه لم يتخذ أي إجراء حول هذا الموضوع حتى الآن.

سادساً: العلاقة مع روسيا وسوريا:
تميزت العلاقات مع روسيا وسوريا بالتقلبات المفاجئة ففي الأيام الأولى من تسلمه للسلطة عبر ترامب عن رغبته بالتعاون مع روسيا من أجل حل المشكلة السورية والتعاون بشأن محاربة الإرهاب، معلناً بأن حل المشكلة السورية لا يقتضي بالضرورة إزالة نظام الأسد عن الحكم، وداعماً للقوى الديمقراطية الكُردية السورية بالأسلحة في سبيل تحرير الرقة، على النقيض من موقف أردوغان المعادي للأكراد السوريين.
لكنه ما إن أعلنت مشكلة التسمم بالسلاح الكيمياوي في مدينة "خان شيخون" نهاية نيسان الماضي حتى قام ترامب بضرب معسكر الشعيرات السوري بتسع وخمسين صاروخاً بالستيا معرباً عن رأيه بضرورة إزاحة الأسد عن الحكم في سوريا.
في الأيام الأخيرة ظهرت سياسة جديدة لترامب محورها التعاون مع روسيا لحل المشكلة السورية سلمياً دون الإشارة إلى تغيير نظام الأسد.

سابعاً: بناء الجدار مع المكسيك:
كذلك أعلن ترامب في الأيام الأولى من استلامه السلطة عن رغبته في المباشرة في بناء جدار بطول 1500كم على الحدود مع المكسيك، على أن تتحمل دولة المكسيك تكاليفه الباهظة. وقد قوبل هذا الإجراء برفض المكسيك لتحمل تكاليفه، وتفاقم المظاهرات المناهضة له، داخل الولايات المتحدة وفي دولة المكسيك، ولحد الآن لم يحصل العمل بإقامة هذا الجدار بسبب تكاليفه الباهظة.

ثامنـاً: السياسة الاقتصادية:
لم يظهر عن ترامب حتى الآن أي إجراء إزاء المؤسسات الاقتصادية المهاجرة إلى كل من الصين والمكسيك وغيرها من الدول، بعد أن كان يدعوا إلى فرض ضريبة جمرگية بمعدل 35% على السلع المستوردة منها للميزانية الأمريكية، بعد أن أعلن عن زيادة الصرف العسكري بمقدار 45 مليار دولار تجاوزاً للميزانية الأمريكية.
وقد يكون الوقت مبكراً لاتخاذ مثل هذه أو أية إجراءات أخرى لمعالجة مشاكل الاقتصاد الأمريكي.

تاسعاً: العلاقة مع العراق:
طالب ترامب مراراً خلال حملته الانتخابية بضرورة السيطرة على النفط العراقي لغرض تعويض الأمريكيين عن خسائرهم جرّاء حربهم في العراق عام 2003م.
بينما راح ترامب منذ تسلمه السلطة يعلن عن دعمه للعراق في حرية ضد داعش عسكرياً، ورغبته في زيادة هذا الدعم العسكري لحين القضاء على داعش في العراق.
وقد استقبل الرئيس ترامب الرئيس العراقي حيدر العبادي استقبالاً حافلاً في البيت الأبيض بعد توليه السلطة، ولم يحصل منه حتى الآن أي إعلان أو إشارة إلى النفط العراقي.

عاشراً: الانسحاب من اتفاقية المناخ الدولية:
على الرغم من اتساع المخاطر التي يعاني منها البشر في كل أنحاء العالم من جرّاء ازدياد حرارة الأرض وما تستوجبه هذه المخاطر من تعاون دول العالم من أجل تخفيض معدل انبعاث الغازات الدفيئة كوسيلة للحد من ازدياد حرارة الأرض، والتي تكللت باتفاقيات دولية متعددة آخرها اتفاقية باريس في 12 ديسمبر 2015 والتي تعهدت بموجبها 195 دولة بالالتزام بتطبيق الإجراءات التي تحول دون ازدياد حرارة الأرض( ) ومنها الحد من انبعاث الغازات الدفيئة نتيجة لحرق الفحم والنفط والغاز، وكذلك تقديم 100 مليار دولار إلى الدول النامية لمساعدتها على الالتزام بتطبيق تلك الإجراءات.
وإزاء هذه المخاطر الجسيمة التي تهدد مستقبل البشر قرر الرئيس دونالد ترامب بتاريخ 1 حزيران 2017 الانسحاب من هذه الاتفاقية الدولية للمناخ، بسبب ازدياد أعباءها المالية كما يدعي. بالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من أكثر الدول المتسببة في ازدياد انبعاث الغازات المسببة للاحتراز العالمي.
بمعنى أنه حتى الآن يفضل التوسع في إنتاج الفحم والنفط والغاز كوسيلة لزيادة الموارد المالية على معالجة إحدى أهم المشاكل التي تهدد مستقبل البشر وهي ازدياد حرارة الأرض.
إحدى عشر: العلاقة مع السعودية ودول الخليج العربي:
بعد أن وصف الرئيس ترامب السعودية أثناء حملته الانتخابية "بالبقرة الحلوب التي إن لم تدر الذهب والدولارات على الولايات المتحدة الأمريكية فينبغي أن تذبح بسبب موقفها الوهابي الداعم للإرهاب" وكان ذلك في 8/5/2016( ).
فقد حصل تغير مناقض وكبير في موقف ترامب إزاء السعودية بعد استلامه السلطة بخاصة بعد زيارته في البيت الأبيض من قبل ولي العهد محمد ابن سلمان بتاريخ 15/3/2017 والذي أعلن عن رغبة المملكة السعودية عن توسيع استثماراتها المالية في الولايات المتحدة الأمريكية وزيادة شرائها للأسلحة منها.
وقد اقترنت هذه الزيارة كذلك بالإعلان عن قيام ترامب في زيارة السعودية بتاريخ 20 أيار 2017 واعتبارها أول زيارة دولية يقوم بها ترامب بعد تسلمه للسلطة وقد اعتبرت السعودية هذه الزيارة فرصة لتوسيع علاقاتها مع ترامب وضمان دعمه لموقفها المعادي لإيران ولذلك فقد أعدت برنامجاً خرافياً للاحتفال بزيارته وقد تضمن هذا الاحتفال عقد ثلاثة قمم دولية برئاسة ترامب أحدها تتضمن رؤساء وممثلين عن 55 دولة عربية وإسلامية، وأخرى تتضمن كافة دول الخليج العربي، وثالثه بينه وبين ملك المملكة السعودية، وذلك لمناقشة سياسات ومشاكل المنطقة، وبخاصة علاقاتها وموقفها من إيران الذي اعتبرتها الداعم الرئيس للإرهاب.
كما تكللت هذه الزيارة بتقديم الهدايا الثمينة للسيد ترامب وعائلته التي شاركته في هذه الزيارة، والتي قدرت قيمتها بمئات الملايين من الدولارات.
كل ما حصلت عليه السعودية من ترامب هو دعمها لموقفها المعادي لإيران، بينما حصل ترامب من السعودية على التعهد باستثمار 350 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك التعهد بشراء أسلحة أمريكية بقيمة 120 مليار دولار.
وبذلك، وبسبب هذه المكاسب المالية الضخمة التي حققها ترامب من زيارته للسعودية، يمكن اعتبارها أهم إنجاز حققه ترامب من وراء إجراءاته التي قام بها حتى الآن.

اثني عشر: العلاقة مع إسرائيل والشعب الفلسطيني:
لم يخف ترامب دعمه وانحيازه الى إسرائيل، لكنه أعلن مراراً عن حماسه لمعالجة القضية الفلسطينية، عن طريق إنجاز حل الدولتين ، وقد اقترنت هذه الدعوة بموافقة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية "محمود عباس" واقترن هذا الحماس بمقابلة عباس والترحيب به في البيت الأبيض.
وعقب ذلك قام ترامب بزيارة إسرائيل والمناطق الفلسطينية، لكنه لم يتحدث خلال هذه الزيارة عن توسع إسرائيل في بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، ولم يتحدث كذلك عن حل الدولتين بشكل واضح .
وبقي لفترة طويلة يعلن عن رغبته في التوسط لحل المشكلة الفلسطينية عن طريق حل الدولتين .
لكن العالم تفاجئ بتاريخ 6/12/2017 بإعلان ترامب عن عزمه نقل السفارة الأمريكية الى مدينة القدس ، واعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ، معلناً أنه بهذا الأجراء إنما ينفّذ إجراء سبق وإن اتخذه الكونغرس الأمريكي في التسعينات من القرن الماضي ، ولم يجرأ أحد من الرؤساء الأمريكيين على تنفيذه ، وإنه وهو مقتنع بضرورة تطبيقه لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ، فإنه يعتبر هذا الإجراء هو أحد الوسائل التي سوف يعتمدها لمواصلة السعي للوساطة بين إسرائيل والفلسطينيين لتحقيق حل الدولتين .
وما إن أعلن ترامب عن هذا القرار حتى جوبه بالرفض والانتفاضة العارمة من قبل الفلسطينيين ، وبضمنه رفض قبول ترامب وسيطاً لحل المشكلة بين إسرائيل والفلسطينيين ، وكذلك الرفض والموقف الساخط من قبل كافة الدول العربية والإسلامية والتي تجسدت في رفض الجامعة العربية ومنظمة الاتحاد الإسلامي ، كما جوبه بالرفض من قبل كافة أعضاء مجلس الأمن خلال اجتماعهم بتاريخ 8/12/2017 باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية التي استعملت حق الفيتو لرفض القرار .
وحينما عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعا بتاريخ 21/12/2017 كانت نتيجة هذا الاجتماع هي إجماع 128 عضواً من مجموع 193 دولة هم أعضاء الأمم المتحدة على رفض قرار ترامب . بمعنى أن قرار ترامب قد رُفض من قبل ثلثي دول العالم ، وقد شملت هذه المجموعة كافة دول العالم الكبرى وبضمنها الدول الأوربية والعربية والإسلامية ، بينما لم تؤيده سوى تسعة دول في مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل والباقين من الدول الصغيرة وامتنعت عن التصويت 35 دولة ولم تحضر الاجتماع 25 دولة وبذلك يلاحظ بأن قرار ترامب هذا قد أفزع العالم ولم يُقابَل حتى الآن بغير الرفض والاستهجان من قِبل غالبية دول العالم .

الخلاصة

كل ما حصل حتى الآن يظهر جلياً بأن عناصر المغامرة والمناورة والتحدي التي تميزت بها شخصية ترامب لم تنجح حتى الآن في تحقيق أغلب توجهاته وطموحاته السياسية، ذلك لأن الإجراءات السياسية الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية تخضع لمراقبة هيئات سياسية واجتماعية أمريكية متعددة في مقدمتها الكونغرس الأمريكي والهيئات القضائية التي تحرص على حماية الدستور الأمريكي  والقوانين الأمريكية السائدة وكذلك الكثير من الهيئات الاجتماعية التي تشارك فيها المؤسسات المالية والإعلامية الكبرى، كما يشارك في تلك الرقابة بشكل مباشر وغير مباشر ممثلو الشركات الأمريكية الكبرى لحماية مصالحها، إضافة إلى الشعب الأمريكي الذي يعبر عن رأيه دائماً عن طريق المظاهرات والاحتجاجات التي ازدادت وتيرتها في مختلف الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب.
وهذه الحقيقة تؤكد بأن ترامب لا يستطيع الخروج كثيراً عن عن الخطوط الرئيسية التي ترسمها تلك الهيئات للسياسات الأمريكية، لأن خروجه عنها قد يهدد بقاءه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية كما حصل ذلك بالنسبة للرئيس الأمريكي الأسبق "ريشارد نيكسون" الذي ألغيت رئاسته عام 1974 قبل انتهاء الفترة المحددة لها دستورياً بسبب فضيحة "ووترغيت" وهو ما قد يحصل فعلاً لو استمر ترامب في مغامراته واندفاعاته غير الدستورية.
لا شك أن الفترة منذ تولي دونالد ترامب للحكم لا تزال قصيرة، ولا يمكن الحكم خلالها على مستقبل ترامب وتأثيراته على الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، بخاصة بسبب ما تميزت به إجراءاته من اندفاعات، ومغامرات غير محسوبة حتى الآن.
ومما يثير الشك حول مستقبل ترامب هو أن التحقيقات حول مدى تدخل روسيا لصالحه في الانتخابات الأمريكية الأخيرة لم تحسم بعد بل ازدادت تعقيداً في الآونة الأخيرة بعد أن قام ترامب في الآونة الأخيرة بإقالة "السيد جيمس كومي" مدير التحقيقات الفدرالي الأمريكي على أثر امتناعه عن تلبية طلب ترامب بإلغاء التحقيق حول تدخل روسيا في الانتخابات الأخيرة، وكذلك تعيين السيد "روبرت مولر" للإشراف على التحقيق في هذا الموضوع والذي لم يقترن نشاطه حتى الآن برضا السيد ت رامب. واقتران ذلك بازدياد المقابلات والتحقيقات من قبل أغضاء الكونغرس الأمريكي حول هذا الموضوع، فضلاً عن ازدياد المظاهرات الشعبية حول سياسات ترامب وآخرها احتجاج 190 مشرعاً أمريكياً على قبول الرئيس الأمريكي ترامب للهدايا المالية الشخصية مخالفة لما يشير إليه الدستور الأمريكي.
كل هذه الأمور قد تجعل موضوع عزل الرئيس دونالد ترامب عن الحكم غير مستبعد في الوقت الحاضر.
وهذا ما يوحي في الوقت ذاته بأن الرئيس ترامب قد يلجئ إلى تغيير إجراءاته واندفاعاته السياسية على الوجه الذي يضمن تحقيق الانسجام مع التوجهات السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمع الأمريكي في سبيل البقاء في السلطة.
وفي حالة استبعاد موضوع عزل ترامب عن الحكم لأن هذا الموضوع يتطلب إنجاز العديد من الإجراءات المعقدة والعسيرة التي تستغرق فترة ليست قصيرة ، لكنه في كل الأحوال ، فإن بقاء الرئيس دونالد ترامب في السلطة سوف لا يساهم مساهمة ملموسة في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تُعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية باستثناء دوره في زيادة ثروة الأثرياء في المجتمع الأمريكي ، فضلاً عن ذلك فإن سياساته ، في كل الأحوال أيضاً ، سوف لا تساهم في تعميق التعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين بقية دول العالم في معالجة المشاكل التي يعاني منها سكان العالم في الوقت الحاضر ، أو تلك التي تُهدد مستقبل البشرية . إضافة إلى ذلك فأن مغامراته واندفاعاته غير المحسوبة قد تسبب كوارث للعالم لا يعلم مداها إلا الله .

الملحق
معلومات حول الولايات المتحدة الأمريكية
عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2016=322.982.000 شخصياً
مساحة الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2016= 9.830.760كم2
نظام الحكم جمهوري، دستوري رئاسي، فيدرالي
العاصمة: واشنطن
عدد الولايات: خمسون ولاية
الحكومة الفيدرالية تتكون من:
1- السلطة التشريعية: تتكون من الكونغرس الذي يضم مجلس الشيوخ ومجلس النواب، مجلس الشيوخ 100 عضواً ومجلس النواب 435 عضواً، ولكل ولاية حاكماً.
2- السلطة التنفيذية: الرئيس الأمريكي هو القائد الأعلى وهو الذي يعين مجلس الوزراء، وغيرهم من السلطات الرئيسية وكبار الموظفين والضباط.
3- السلطة القضائية: تتكون من المحكمة العليا والمحاكم الفيدرالية والمحاكم الخاصة والمحاكم الإدارية ومحاكم الولايات المتخصصة والمحلية.
حجم الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014 = 14.870 ترليون دولار وهو يشكل نسبة 24% من مجموع الناتج المحلي العالمي.
حجم الدين العام للولايات المتحدة الأمريكية عام 2016 = 19.188 ترليون دولار
حصة المؤسسات الخارجية من الدين العام = 9.000 ترليون دولار
حصة الفرد الأمريكي من الدين العام 46 ألف دولار
نسبة البطالة عام 2016 5% من القادرين على العمل
عدد الفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية = 45 مليون شخصاً
نسبة السكان تحت خط الفقر = 14.5%
عدد أفراد القوات المسلحة الأمريكية عام 2016 = 1.400 مليون عسكري
تنفق الولايات المتحدة الأمريكية على القوة العسكرية 698 مليار دولار 2016
الإنفاق العسكرية الأمريكي يشكل 43% من الأنفاق العسكري العالمي 2016
عدد القواعد العسكرية الأمريكية في العام 750 قاعدة من 130 دولة =
في عام 2010 كان قرابة 46 مليون أمريكي ليس لديهم تأمين صحي


274
كاظم حبيب
مستلزمات الخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي بالعراق
4 - 4
استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة بالعراق
حين يقرأ المواطن والمواطنة، سواء أكان بالعراق أم خارجه، من الملمين بالشؤون الاقتصادية، تفاصيل الموازنة المالية العراقية لعام 2018 ويطلع على ملاحظات العديد من الكتاب الاقتصاديين والماليين يدرك بأن النظام السياسي القائم، الدولة وسلطتها التنفيذي (الحكومة) والتشريعية (مجلس النواب)، بعيدة كل البعد عن متطلبات الاقتصاد والمجتمع بالعراق. وهو أمر غير مستغرب لنظام سياسي طائفي يعتمد المحاصصة الطائفية والأثنية في توزيع المسؤوليات في السلطات الثلاث، وتقوده مجموعة من أحزاب الإسلام السياسي الطائفية التي لم ولا يهمها المجتمع وتقدمه وازدهاره، بل يتركز همها الأول والأخير على الاستمرار بالسلطة والنفوذ والهيمنة على المال العام والتصرف به على وفق الأغراض التي تسعى لها، ومنها زيادة ما لديها من أموال السحت الحرام في حساباتها في البنوك الأجنبية. إذ يغيب عن هذه الميزانية أي رؤية استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، للتنمية الصناعية والزراعية والسياحة والخدمات الإنتاجية، ولاسيما الطاقة الكهربائية والماء والنقل والاتصالات، ولا لمصالح الغالبية العظمى من بنات وأبناء الشعب الفقراء والكادحين وذوي الدخل المحدود. فهي ميزانية تقليدية تقوم على باب الواردات وباب المصروفات، واعتمادها بنسبة عالية جداً تصل إلى حدود أو أكثر من 90% من إيراداتها على الأموال المتأتية من صادرات النفط الخام، فهي ميزانية تكرس الريعية في الاقتصاد، ويغيب عنها ما يطرح في الوقت ذاته الميزانية الاستثمارية التي يفترض ان يرد فيها الاستثمار الحكومي الفعلي في القطاعات الإنتاجية، وما ترسمه من احتمال توظيفات في القطاع الخاص والتي سوف لن تتحقق، إذ سوف تتوجه استثمارات القطاع الخاص للتوظيف في قطاعات التجارة والعقار والسمسرة والمضاربات المالية وتهريب الأموال والأرباح. ونسبة عالية من استثمارات الحكومة ستذهب لقطاع النفط لتزيد من حالة التشوه والقطيعة بين الاقتصاد النفطي العراقي وبقية القطاعات الاقتصادية العراقية. وستعاني الجماهير الواسعة من شظف العيش والتقشف الحكومي على حساب الفقراء والمعوزين وأصحاب الرواتب المحدودة، وستزداد نسبة مدفوعات العراق عن ديونه الخارجية والفوائد السنوية المترتبة عليها، وهو خضوع صارخ لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على وفق الاتفاقية السيئة المعقودة مع هاتين المؤسستين الدوليتين في غير صالح العراق، والتي لم تكن شروطها يوماً في صالح الفئات الكادحة والمنتجة للخيرات المادية، بل لصالح الأغنياء ومصالح الرأسمال الأجنبي ووجهة التطور التي يسعون فرضها على العراق والدول المماثلة له، كما ستتعرض موارد العراق المالية إلى النهب من الباطن والخارج وعلى نفس الوتيرة السابقة، لأن القوى والأحزاب الحاكمة ذاتها لم تتغير، ومازال الفاسدون يجلسون في الصفوف الأمامية من مواقع الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها الأخرى.
جاء في مقال للسيدة شذى خليل نقلاً عن الأستاذ الدكتور مظهر محمد صالح ما يلي:" وأكَدَ المستشار الاقتصادي لرئاسة الوزراء مظهر محمد صالح ان موازنة 2018، تحمل إرثا منذ عشر سنوات وليومنا هذا، فهي “ريعية نفطية”، حيث تبلغ صادرات النفط للعراق الاتحادي 3.888 مليون برميل يوميا. وتوقع صالح ان تصل الايرادات النفطية الى حوالي 74 تريليون دينار عراقي والإيرادات غير النفطية ، 12 تريليون دينار عراقي، شاملة الضرائب والرسوم والايرادات الرأسمالية ، والايرادات التحويلية ، اي ما تحصل علية الموازنة يقد بـ86 تريليون دينار عراقي مضافا اليه الاقتراض الداخلي والخارجي بحدود 10 تريليونات بحيث تصبح قيمة الموازنة الاجمالية 96 تريليون دينار عراقي ، عدا الديون التي سوف تسدد، وخدمات تلك الديون ( قسط + فائدة ) التي تبلغ نحو10 تريليونات."1) وأشارت في مكان آخر لموضوع مهم أيضاً قولها" "كما اكد صالح إن الخطر في الموازنة يعود الى انه كلما كانت تحقق فائضا بالإيرادات كانت تتوسع بالوظائف والرواتب مما شكل اعباء بمرور الوقت على الموازنة مشيرا الى صعوبة التخلي عن هذا التوسع، فعندما تتعرض لازمة مالية، المشكلة هنا كيف توفر استدامة مالية صحيحة، فعندما هبطت اسعار النفط حوالي 67%  عن معدلاتها التاريخية ، حاول العراق جاهدا زيادة كمية المنتج النفطي حوالي 30% لتعويض ذلك الهبوط الكبير في الاسعار، لكن دون جدوى، اذ كانت الفجوة كبيرة، فتحول العجز الافتراضي الى عجز حقيقي، فعندما تسعر الموازنة على 80 دولارا، كان العراق يبيع 103 دولارات ، وحين تسعر او تبنى الموازنة على سعر برميل النفط 53 دولارا، ونبيع ب43 دولارا."2) كما تشير شذى خليل إلى ذلك حين كتبت ما يلي: "وبيَّنَ صالح إن من النقاط المهمة في الموازنة التي يجب الإشارة إليها، هي الموازنة الاستثمارية ، التي لا تقر الا في الشهر السابع من السنة ، فمنذ 10 سنوات لم تنفذ المشاريع الاستثمارية، لكونها تقدم دون دراسة جدوى ، او تكون مستعجلة ، او تقدم بأسعار مبالغ فيها، او غير معروفة بشكل صحيح ، وتمس الحياة الاقتصادية بشكل عام ، لكنها مشكلتها انه لا يوجد فيها ترابطات بالاقتصادات اي ضعيفة، وهذا النمط من التنمية افرزته الفوائض بالإيرادات."3) وهي كما يرى القارئ والقارئة تشخيصات مهمة وصائبة وصريحة كعادة الدكتور مظهر محمد صالح. ومن هنا يمكن القول أيضاً بأن العراق ما يزال وسيبقى بعيداً عن وضع استراتيجية تنموية مستدامة ما دامت القوى الحاكمة طائفية محاصصية وكنظام سياسي فاسد ولا يعود لحضارة القرن الحادي والعشرين.       
إن وضع استراتيجية تنموية للاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم والبيئة بالعراق تنسجم مع متطلبات تنظيف وحماية البيئة العراقية يتطلب:
أولاً: وجود حكومة عراقية وطنية، لا ترطن على حسب قول شعلان أبو الچون، حكومة تلتزم بمبدأ الوطن والمواطنة الواحدة والمتساوية ولا تخضع للهويات الفرعية، التي إن أخذ بها ستكون قاتلة، كما هو عليه الوضع بالعراق حالياً، حكومة ديمقراطية تلتزم بدستور ديمقراطي حضاري يفصل بين الدين والدولة وبين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، دولة ديمقراطية علمانية حديثة، وذات قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية مستقلة وواعية لمبدأ السيادة الوطنية. وهي مستلزمات وشروط غائبة عن العراق منذ عقود.
ثانياً: وجود أحزاب سياسية تتميز بالديمقراطية والحداثة وبعيداً عن الطائفية السياسية والشوفينية والتعصب الديني إزاء الآخر. وهو العنصر الغائب عن أغلب الأحزاب التي يؤلف ممثلوها المجلس النيابي والحكومة والهيئات المستقلة والقضاء العراقي.
ثالثاً: أن تساهم النقابات ومنظمات المجتمع المدني والرقابة الشعبية والإعلام والشعب عموماً دورها الرقابي على الدولة وسلطاتها الثلاث، وهي ليست غائبة فحسب، بل ومقموعة عملياً ومحاربة بالرزق وفرص القيام بالمهمات التي يفترض أن تكون مناطة بها.
رابعاً: أن تتوفر لدى واضعي استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية معرفة دقيقة وشاملة بإمكانيات العراق المادية وطاقاته البشرية والقدرة على الاستفادة منها فعلياً من جهة، والمشكلات التي يعاني منها العراق في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والبيئية والنفسية، وعلى المستويات الداخلية والإقليمية والدولية من جهة ثانية، ومتطلبات وحاجات الاقتصاد والمجتمع ذات المدى القريب والمتوسط والبعيد، من جهة ثالثة، وأدوات وسبل الوصول إلى تحقيق مثل هذه الاستراتيجية بصورتها العامة والتفصيلية من جهة رابعة، كما يفترض أن يعي العراق بأنه جزء من هذا العالم المعولم لكي يتوقع الكثير من الإشكاليات على المستويين الإقليمي والدولي وأن يتحرى عن إمكانيات وسبل وأدوات الاستفادة من العلاقات الاقتصادية الدولية وفهم دورها وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع بالعراق والاستفادة من جوانبها الإيجابية وتدارك جوانبها السلبية.
فهل مثل هذه المستلزمات أو الشروط متوفرة بالعراق؟ لا شك بوجود عناصر مدركة لكل هذه المستلزمات وغيرها، ولها القدرة على وضع استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، ولكنها ليست في تلك الأحزاب السياسية الحاكمة ولا في النخب الحاكمة التي تمثل تلك الأحزاب، بل هي في الغالب الأعم مغيبة قصداً، كما ليست من غاية الماسكين بزمام الحكم وأحزابهم الإسلامية السياسية تحقيق التنمية الفعلية، وهو ما برهنت عليه القوى الحاكمة منذ العام 2004 حتى الوقت الحاضر.
إن أهداف استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ظروف العراق الملموسة تتلخص في التلاحم الديالكتيكي بين السياسة والاقتصاد على وفق المنظور التالي:
1.   إجراء تعديلات جوهرية على الدستور العراقي بما يبعد عنه خمس مسائل جوهرية: أ. العقلية الطائفية والشوفينية التي وضعته وحددت معالمه البارزة، ب. أجراء تغيير مناسب بحيث يُبعد عن الدستور تلك المواد التي تعتبر حمالة أوجه من أجل تكريس مبادئ الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية، وحقوق الإنسان، وحقوق القوميات، والمساواة في حقوق أتباع الديانات والمذاهب، وعلمانية الدولة، والفصل التام بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء والهيئات المستقلة والإعلام، ورفض وجود أحزاب على أسس دينية وطائفية وعنصرية، والنص على وضع قانون ديمقراطي للانتخابات العامة والمحلية والنزاهة في إجرائها، إضافة إلى تنظيم استفتاءات شعبية لقضايا جوهرية تمس أمن وسلامة البلاد، ج. النص على المساواة التامة بين الإناث والذكور ورفض أي تمييز أو تهميش أو إقصاء لها في جميع وظائف الدولة دون استثناء، د. إرساء الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث على أسس الدولة الاتحادية واللامركزية والفيدرالية الكردستانية وتنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمجالس المحلية بقوانين ديمقراطية حديثة، هـ. رفض استخدام القوة والعنف في حل المنازعات الداخلية ومعالجتها على أساس التفاوض الديمقراطي والسلام، وتأكيد رفض ومحاربة الإرهاب والفساد السائد بالبلاد.
2.   سبل معالجة مشكلات النزوح والهجرة المستمرة من العراق لا للناس الاعتياديين فحسب، بل وللكفاءات العلمية والفنية والمهنية والخسارة الهائلة لقدرات العراق وطاقاته الفكرية والعلمية بسبب الصراعات الطائفية والتمييز الديني والمذهبي، وبسبب ما حل بالناس من علل نفسية وعصبية واجتماعية وبيئية متفاقمة، وسبل إعادة إعمار العراق، ولاسيما المناطق التي سقطت تحت حكم تنظيم الدواعش المجرم.       
3.   التخلص من الطابع الريعي للاقتصاد العراقي، حيث يشكل اقتصاد النفط الخام المصدر ما يتراوح بين 90-95% من إجمالي إيرادات العراق السنوية.
4.   التخلص من القطيعة الفعلية القائمة بين اقتصاد النفط العراقي وبقية القطاعات الاقتصادية العراقية كالصناعة التحويلية والزراعة والصناعات الصغيرة المحلية والتجارة الداخلية والخارجية والتربية والتعليم والبحث العلمي.
5.   أن يتم التوجه صوب وضع استراتيجيات فرعية ضمن الاستراتيجية العامة للتنمية الصناعية والتنمية الزراعية والتجارة والطاقة والنقل والاتصالات والماء والصحة والسكن ...الخ، كأجزاء مهمة وحيوية ومتشابكة من استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمة والبيئية الشاملة والمستدامة.
6.   أن تجري الموائمة بين التقنيات الحديثة التي يراد إدخالها وبين القدرات الفنية والمهنية لاستخدامها الفعلي والسعي لتطويرها المستمر بما يحقق رفعاً لإنتاجية العمل وتقليصاً للتكاليف وتحسيناً للنوعية.
7.   أن يأخذ قطاع الدولة الاقتصادي في ظروف العراق الملموسة الدور القيادي في عملية التنمية، مع أهمية وضرورة تنشيط وتوفير مستلزمات تطوير دور القطاع الخاص واستثماراته في القطاعات الإنتاجية والخدمات، وكذلك القطاع المختلط ضمن المنظور الاستراتيجي للتنمية المستدامة، إضافة إلى إمكانيات الاستفادة من القطاع الأجنبي ضمن المنظور ذاته ومع الحاجات الفعلية للبلاد.
8.   وضع استراتيجية لخلق فرص عمل ومكافحة البطالة المكشوفة والمقنعة، بما يسهم على استيعاب الزيادات السنوية في القوى العاملة العراقية، إضافة إلى وضع استراتيجية تسهم في تغيير الوجهة الخاطئة في التعليم والاهتمام بالدراسات الفنية والمهنية بالارتباط مع مهمات التنمية الاقتصادية.
9.   سبل أشراك المرأة في العمليات الاقتصادية والاجتماعية لما لهذا العامل من تأثير متنوع الجوانب على الاقتصاد والمجتمع والمساواة التامة في حقوق وواجبات والموقف من المرأة والرجل. 
10.   استراتيجية تطوير البحث العلمي والعلاقة بين الجامعات والكليات والمعاهد والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. 
11.   كما لا بد من تأمين العلاقة الديالكتيكية بين مهمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها التربوية والتعليمية والثقافية والبيئية من جهة، والسياسات المالية والنقدية، وعلى وجه الخصوص، الموازنة العامة والنظام الضريبي والجمارك، والنظام المصرفي، ونظام التأمين بتنوعاته، من جهة أخرى،4) إذ أن السياسات المالية والنقدية هي الأدوات التنفيذية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية.. الخ. 
12.   ويبقى الهدف البارز والمميز لاستراتيجية التنمية لحكومة وطنية ديمقراطية حكيمة بالعراق هو تحقيق الازدهار والعدالة الاجتماعية لأبناء وبنات الوطن الواحد.
13.   أن تتجلى هذه الاستراتيجية التنموية الشاملة والمستدامة في خطط خمسية وسنوية للتنمية على وفق الجدوى الاقتصادية والاجتماعية في المجالات والمستويات كافة، وتأمين الرقابة المتعددة الجوانب على مستوى التنفيذ، مع اعتماد مبدأ التكريم للمنجزات الجيدة ومحاسبة المقصرين في أداء المهمات.   
14.   وأخيراً وليس أخراً أن يأخذ العراق باقتصاد السوق الاجتماعي والذي نعني به ما يلي:
لا بد للعراق أن يأخذَ، في مرحلة تطوره الراهنة ولمدى طويل لاحق، بنظام اقتصاد السوق. ولكن أي اقتصاد سوق يحتاجه العراق وما هي مواصفاته؟
أقف في هذه المرحلة مع اقتصاد السوق الذي يجمع بين الحرية النسبية والمشاركة الحكومية الواعية والمنظمة والواسعة في التنمية، إضافة إلى تنشيط الرقابة الحكومية والشعبية، وكذلك مع مجموعة من المسائل الاجتماعية التي تحد من الاستغلال الرأسمالي، على وفق المنظور اللبرالي، الذي يمارس من جانب القطاعين الخاص والحكومي، وتلك التي تخفف من التناقضات الطبقية وتسيطر على الصراعات الاجتماعية وما يمكن أن ينجم عنها من صراعات سياسية ولكيلا تتحمل إلى نزاعات تتميز بالعنف واستخدام القوة. وقد أطلق الألمان منذ ستينيات القرن العشرين اسم "اقتصاد السوق الاجتماعي" في فترة حين كان لودفيگ ايرهارد مستشاراً بألمانيا الاتحادية، والذي أطلق عليه أبو "المعجزة الاقتصادية" حينذاك، وهي بخلاف نسبي مهم عن اللبرالية وأكثر اختلافاً عن اللبرالية الجديدة المتوحشة في إطار اقتصاد السوق التي تتسبب في تشديد استغلال الطبقة العاملة بمفهومها الواسع والحديث وعموم الفئات الكادحة.5) لهذا اقترح في ظروف العراق الملموسة والمستقبلية القريبة والمتوسطة أن يؤخذ بمفهوم "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي يستند إلى عدة أركان أساسية، منها بوجه خاص:
أ) إعطاء دور متميز وفعال ورئيسي للقطاع العام والعمل على بلورة دوره الاقتصادي وتطوير إدارته والقوى المنتجة فيه وتشجيعه ودعمه وتوفير مستلزمات نجاحه. كما يفترض أن يلعب دوره المحتكر لقطاع النفط الاستخراجي والتكرير ومشروعات البنية التحتية، بما فيها قطاع الكهرباء والماء، كما يشارك بفعالية وروح تنافسية لإقامة مجموعة من الصناعات التحويلية ذات الأهمية الفائقة للاقتصاد الوطني والمجتمع والتي يصعب على القطاع الخاص النهوض بها وتحمل مسؤولية الاستثمار الكبير فيها مثلاً.  ويتطلب هذا الدور الاقتصادي لقطاع الدولة أن يعمل وفق المعايير الاقتصادية والمحاسبية وآليات السوق الاقتصادي في مجال المنافسة ورفع إنتاجية العمل وتقليص تكاليف الإنتاج وضبط الأسعار وتأمين الحوافز الاقتصادية للمنتجين والعاملين في الإدارة والتسوق.
ب) إعطاء دور مهم ومخطط للقطاع الخاص في مجمل العملية الاقتصادية بحيث يستكمل دور القطاع العام ويدخل في التخطيط الاقتصادي والاجتماعي.
ج) تنشيط دور القطاعين المختلط والتعاوني للمشاركة في عملية تنمية معجلة وناجحة وداعمة لنشاط القطاع العام والخاص والمجتمع، وخاصة في مجال الريف والصناعات الصغيرة وذات التقنيات العالية التي يصعب على القطاع الخاص وحده النهوض بها أو يستوجب تجميع المنتجين الصغار في جمعيات تعاونية إنتاجية واستهلاكية.
د) رسم سياسة مالية ونقدية وتأمينية تنسجم وتساهم في تنشيط وتنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تتقرر في خطة الدولة ذات المدى البعيد والخطط الخمسية والسنوية.
هـ) حين يتقرر الأخذ باقتصاد السوق الاجتماعي، عندها يتطلب بشكل خاص:
** إصدار تشريعات لمنع الاحتكار وتشديد الاستغلال تتجلى في تنظيم المنافسة والضرائب التي تستند إلى قاعدة الضرائب التصاعدية على الدخل السنوي المباشر للسكان بدلاً من فرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات لا تميز بين الناس على أساس دخولهم السنوية ومستوى معيشتهم.
** وضع حد أدنى للأجور ومساواة بين المرأة والرجل في الأجور للأعمال المماثلة.
**  وضع تشريعات تؤمن الضمان الصحي والاجتماعي وأثناء الشيخوخة أو العجز والرواتب التقاعدية والعطل السنوية وفي حالات المرض أو الحمل...الخ.
**  العناية بقدر أكبر بقضايا العدالة الاجتماعية وحياة وظروف العمال وتحديد ساعات العمل وضمان التأثير الإيجابي على علاقة تناسب سليمة بين الأجور وفائض القيمة …الخ، من خلال نظام الضرائب التصاعدية على الدخل المباشر للفرد.
**  تقديم الدعم الحكومي الضروري ولفترة غير قصيرة إلى بعض السلع والخدمات لضمان حصول الفئات الكادحة والفقيرة على احتياجاتها الأساسية مثل الخبز واللحم والخضروات والفاكهة، على سبيل المثال لا الحصر، أو دعم بعض المنتجات الزراعية التي تواجه منافسة حادة في السوق الدولية لضمان الإنتاج في العراق وضرورة توفي الأمن الغذائي.
هـ) أن تلعب النقابات ومنظمات المجتمع المدني دورها الفاعل في المجتمع وفي النضال من أجل حقوق العمال والمستخدمين والعاملين في الإدارة وفي حل الخلافات بين العمل ورأس المال وغير ذلك.
إننا بذلك نستطيع أن نضمن الكثير من الأسس التي لا تسمح بتشديد الصراع الطبقي أو الصراع بين العمل وراس المال لصالح تعجيل التنمية والاستفادة من كل الطاقات المتوفرة في البلاد. ولتطوير مستمر للعدالة الاجتماعية.
و) لدي القناعة بأن الدول النامية عموماً والعراق على وجه الخصوص لن يكون في مقدوره في المرحلة الراهنة من الناحيتين النظرية والعملية أن يمارس سياسة الباب المفتوح في الاقتصاد، إذ إنها ستعطل عملياً وفعلياً القدرة على تطوير الاقتصاد الوطني وعملية التصنيع وتحديث الزراعة بسبب المنافسة غير المتكافئة. ولهذا فأن ضمان الوصول إلى عملية تنمية فعلية مستدامة ومتطورة تستوجب في المرحلة الراهنة إخضاع التجارة الخارجية لخمسة عوامل أساسية، وهي:
*  وضعها في خدمة عملية التنمية الصناعية والزراعية والتعليمية والثقافية والبيئية..، أي التنمية الاقتصادية والبشرية ومن أجل تحقيق تراكم عقلاني مستمر للثروة الوطنية.
*  الإشباع المناسب لحاجة السوق المحلية للسلع الاستهلاكية وسلع الاستهلاك الدائم مع الاهتمام بنوعية السلع المستوردة.
*  كما يفترض أن تلعب الدولة دور المنظم والمؤثر إيجاباً على حركة وفعل قانون العرض والطلب لضمان استقرار الأسعار وخلق توزان عقلاني بينها وبين الأجور والمدخولات السنوية للأفراد والعائلات من ذوي الدخل الواطئ والمحدود، وخاصة بالنسبة لأكثر السلع أهمية وضرورية لنسبة كبيرة جداً من السكان.
*  تنويع مصادر الدخل القومي من خلال زيادة دور المنتجات الصناعية والزراعية غير النفط الخام والغاز الطبيعي في إجمالي صادرات العراق.
*  السعي لتحقيق التوازن التدريجي في الميزان التجاري العراقي مع الدول المختلفة وبين الصادرات والاستيرادات، والتي يمكن أن تؤثر إيجاباً على ميزان المدفوعات.
كل هذه الأمور غائبة عن الواقع العراقي قبل وبعد إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة وإقامة النظام السياسي الطائفي والمحاصصي بالبلاد. إن الأخذ بمثل هذه الاستراتيجية ستسهم في إقامة رأسمالية دولة ضمن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية بالارتباط مع السوق الاجتماعي، الذي لا يماثل بالضرورة وجهة التطور ذاتها في العلاقات الإنتاجية الرأسمالية القائمة بالغرب الرأسمالي ويسمح بدفع البلاد صوب آفاق أكثر التصاقاً بالشعب وحاجاته وطموحاته ومستقبله الزاهر.6)
الهوامس والمصادر
1) راجع: شذى خليل، شرح مفصل لمسودة قانون الموازنة الاتحادية العراقية لسنة 2018، بمنظور اقتصادي..، موقع مركز الروابط للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 05/11/2017.
2) المصدر السابق نفسه.
3) المصدر السابق نفسه.
4) قارن: الدكتور ماجد الصوري، السياسة المالية والسياسة النقدية في العراق، محاضرة ألقيت في مقر الحزب الشيوعي العراقي، نشرت في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 01/05/2013.
5) ملاحظة: تدعي الحكومة الألمانية قبل الوحدة وبعدها بأنها تمارس نظام اقتصاد "السوق الاجتماعي"،. وفي الحقيقة فأن السياسة الاقتصادية والمالية الألمانية بدأت تمارس النهج النيولبرالي منذ سنوات العقد التاسع من القرن العشرين في فترة حكم المستشار هلموت كول حتى الوقت الحاضر، وهو ضمن العوامل المهمة التي أدت إلى خسارة متلاحقة للحزب الاشتراكي الديمقراطي في عدد المصوتين له في الانتخابات العامة وخسارة المزيد من المقاعد في البرلمان الاتحادي خلال السنوات الخمسة عشرة المنصرمة وبسبب تحالفه مع تحالف الحزبين الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي ومشاركته في حكومة تمارس السياسة النيولبرالية فعلياً. ك. حبيب
6) قارن: أوسكار لانگه، الاقتصاد السياسي، تعريب وتقديم الدكتور محمد سلمان حسن، دار الطليعة-بيروت، ط1، أذار (مارس) 1967.

 

275
كاظم حبيب
مستلزمات الخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي بالعراق
3 - 4
وجهة التنمية تحت وطأة الاحتلال والنظام السياسي الطائفي
بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة سقط العراق تحت الاحتلال الأمريكي – البريطاني، وأصبح بعيداً عن إقامة دولة مدنية ديمقراطية دستورية، وانتهاج سياسة اقتصادية واجتماعية حكيمة، تتسلم الحكم بالبلاد قوى مدنية ديمقراطية بعيدة عن شبهات الطائفية والعنصرية أو الشوفينية والتمييز، تعيد بناء ما هدمته الحروب وتطلق الحريات الديمقراطية وترسي البلاد على أسس دستورية تستجيب لحقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات، دولة علمانية حديثة. ينطلق هذا التشخيص من الواقع القائم بالعراق منذ العام 2003 حتى الآن من جهة، واستناداً على مفهوم الاقتصاد السياسي وواقع السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفعلية التي مارستها وما تزال تمارسها الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية الحاكمة ثانياً، ومن واقع الخبرة والتجربة والحقيقة القائلة بان السياسة والاقتصاد هما وجهان لعملة واحدة ثالثاً. فأغلب الاقتصاديين العراقيين يدركون بوعي ومسؤولية بأن العلاقة بين السياسة والاقتصاد ذات طبيعة جدلية، فهما وجهان متشابكان ومتفاعلان يتأثر أحدهما بالأخر ويؤثر به. بمعنى أخر إن المصالح الطبقية للفئات الحاكمة تتجلى في نهجها السياسي والاجتماعي وفي السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الممارسة فعلاً في آن واحد. فحين ندرس البرامج السياسية والاقتصادية لهذا الحزب أو ذاك في أي بلد من البلدان، سنجد مصداقية لهذا الإدراك الواقعي لدى أغلب الاقتصاديين حين يؤكدون وجود وحدة عضوية تجمع بين المصالح والأهداف التي تدافع عنها هذه الفئة أو تلك، سواء أكانت في الحكم أم خارجه، وبين السياسات الاقتصادية التي تنتهجها إن وصلت إلى الحكم أو ساندت نظاماً قائماً. ولكنه يتجلى بقوة أكبر حين تكون هذه القوى في السلطة، إذ تكون البرامج في غالب الأحيان استهلاكية وخادعة. كما لا يستبعد حصول فهم خاطئ من جانب هذه الفئة أو تلك لمصالحها الفعلية، وبالتالي فأنها ترتكب أخطاءً سياسية واقتصادية تبعدها عن مصالحها الفعلية، مما يمكن أن يستفيد منها من يعارضها في الحكم. وكان العراق من بين تلك البلدان التي عجزت أغلب أحزابه وقواه السياسية عن فهم مصالحها، وتجلى ذلك في سياساتها الاقتصادية، ولكنها اقترنت بسياسات داخلية وخارجة تتناغم مع تلك الأخطاء التي ارتكبتها في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، في اعتقاد منها إنها في صالحها. وهي في هذا عبرّت عن عدم أو قلة فهم لحركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية أولاً، وعدم تقدير للعواقب التي تترتب على وعن ذلك ثانياً. ومن هنا نلاحظ دأب الرأسماليين في الدول الرأسمالية المتقدمة، بعد أزمة 2008 على الصعيد العالمي، وبعد الفشل الكبير لسياسات اللبرالية الجديدة، على دراسة رأس المال لكارل ماركس، الذي يمكن أن ينفعهم في فهم مجمل العملية الاقتصادية للرأسمالية والسعي لتجنب المزالق الكبيرة التي يمكن أن تقود إلى عواقب وخيمة. ومع ذلك يصعب على الرأسماليين تجاوز جشعهم في تحقيق أقصى الأرباح على حساب العمل الأجير، على حساب المنتجين للثروة الوطنية، مما يقود بالبلاد إلى الأزمات الاقتصادية الدورية أو غيرها. فالقوانين الموضوعية تفعل بمعزل عن إرادة ورغبات الرأسماليين، وحين يتجاوزونها يحصل بالضد لما سعوا إليه. ومهمة دراسة رأس المال لا يحتاجها الرأسمالي فحسب، بل العامل المنتج والفلاح والمثقف التقدمي والشعب عموماً، ليدركوا كيف يمكن مواجهة الرأسماليين وفضح أساليب زيادة أرباحهم على حساب العمل الأجير وتنويع صيغ الاستغلال التي يتعرضون لها وكشف المستور منها لمواجهتها، وتفاقم عذابات عيش المنتجين، ولاسيما في البلدان الضعيفة التطور، حين تمارس سياسات النيولبرالية.   
إن النهج السياسي والاقتصادي لحكومة ما في أي بلد كان، وتجليات ذلك النهج على الجانب الاجتماعي والثقافي والبيئي، قادر، دون أدنى ريب، على كشف طبيعة النخبة أو النخب السياسية الحاكمة أولاً، وعن طبيعة المصالح الطبقية التي تمثلها وتدافع عنها، بالاستناد إلى طبيعة المرحلة التي يمر بها هذا البلد أو ذاك والمهمات التي تستوجبها طبيعة المرحلة.
لقد تشكلت بالعراق منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية والصدامية الغاشمة أربع وزارات ترأسها بالتتابع كل من أياد علاوي وإبراهيم الجعفري ونوري المالكي لدورتين، وحيدر العبادي. وإذ كانت الوزارتان الأولى والثانية قبل وضع دستور البلاد مؤقتة، فأن وزارتي نوري المالكي المتتاليتين قد أقيمتا بعد صدور الدستور الذي صودق عليه في العام 2005، ثم وزارة حيدر العبادي الحالية التي تسلمت السلطة في خريف عام 2014 وبعد إزاحة المستبد بأمره السابق.
يصعب الحديث عن وجود سياسة اقتصادية فعلية تمارسها الحكومات العراقية المتعاقبة منذ العام 2004 حتى الوقت الحاضر. كانت هناك سياسات بدأ بها پاول بريمر دفعت بالعراق صوب النيولبرالية من الناحية التشريعية وإجراءات عملية تمس التخلي عن أي دور لقطاع الدولة الاقتصادي واضعاف دور الدولة في العملية الاقتصادية والاجتماعية، وبلورة سياسة البنك المركزي والسياسة المالية والنقدية للعراق والدفع باتجاه التركيز على اقتصاد النفط الخام والعمل بالوجهة التي تقود إلى خصخصة مشاريع الدولة القديمة أو تجميدها. وقد دأبت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ العام 2004 حتى الوقت الحاضر على السير بذات الاتجاه الذي خطط له ونفذه پاول بريمر. وكان هذا يعني استمرار سمات التخلف في الاقتصاد العراقي والتبعية للاقتصاد الدولي، اقتصاد ريعي واستهلاكي، يشكل مورد الريع النفطي النسبة العظمى من إيرادات العراق المالية ودخله القومي، والابتعاد عن أي توجه جدي وملموس صوب التنمية الإنتاجية، صوب استثمار رؤوس أموال حكومية في قطاع الصناعة وتحديث القطع الزراعي، كما لم تسع إلى توفير مستلزمات فعلية من جانب الدولة لتسهيل مهمة استثمار القطاع الخاص والقطاع المختلط في الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية. وواصلت وزارة النفط العراقية، كجزء من برنامج الدولة التركيز على قطاع النفط الخام وزيادة عدد موجات منح العقود النفطية للشركات العالمية لتحيق زيادة في الإنتاج والتصدير، علماً بأن لم تكن هناك أي خطة لاستخدام تلك الموارد المالية في استثمارات إنتاجية، بل تم نهب، حسب المعلومات المنشورة على الصعيد الدولي والمحلي، القسم الأكبر من تلك الموارد بأساليب وطرق كثيرة. وقد كشف النائب ورئيس اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي المتوفي الدكتور أحمد الجلبي عن النهب والهدر الكبيرين الذي يصل إلى مئات المليارات من الدولارات الأمريكية. فقد جاء في جريدة المدى ما يلي: "نشرت صحيفة "المدى" العراقية وثائق فساد في قضية "مزاد المصرف المركزي"، ضمن ملف كان أعده رئيس اللجنة المالية في البرلمان و"حزب المؤتمر الوطني العراقي" أحمد الجلبي، أكدت أنه سلمها إياه. وجاء في أولى الوثائق المنشورة إن الجلبي كشف في رسالة عبر اللجنة المالية أن "تجاراً حصلوا على بلايين الدولارات من مزاد العملة باستخدام أسماء متوفين."1) وكشفت هيئة النزاهة، الاثنين، أن الأموال المهربة والمتواجدة في الدول المراد استرجاعها بلغت ترليوناً و14 مليون دولار، فيما أشارت إلى وجود بعض المعوقات في موضوع تسلم المتهمين واسترداد الأموال لاختلاف النظم الداخلية".2) وقد نشرت وكالة سومر نيوز معلومات مأخوذة من: "موقع المسلة الإخباري جاء فيها ما يلي: 
"..، وقال الجلبي إن "سبب الانهيار الاقتصادي هو فترة الحكم من سنة 2006 الى سنة 2014 حيث دخل العراق مبلغ 551 مليار دولار والحكومة استوردت ما مجموعه 115 مليار دولار والبنك المركزي باع للبنوك الاهلية كمية 312 مليار دولار، مضيفا ان “هذا المبلغ الذي أهدر (312 مليار دولار) كان بإمكانه بناء الاحتياطي النقدي”. وكشف الجلبي أن “اطرافا سياسية تضغط على البنك المركزي لزيادة مخصصات البنوك بالمزاد لقاء مبالغ وهناك مذكرات داخل البنك المركزي بأسماء هؤلاء السياسيين من مجلس النواب ومن الحكومة”. الراحل الجلبي أطلع موقع “المسلة” الاخباري في وقت مبكر على وقائع هذا الملف وأودع منذ فترة نسخة من محتوياته لدى المؤسسة على أمل البدء بنشر ما يتعلق بهذا الملف في وقت يحدده هو، إذ كان ينتظر مواقف الجهات الأخرى، وبينها المرجعية الدينية العليا في النجف التي كان يتطلع الى الحصول على دعمها لفتح هذا الملف وسواه من الملفات التي تميط اللثام عن النشاطات الخطيرة لمافيا الفساد في البلاد والتي ترتبط بعلاقات وشيجة بمسؤولين كبار في هذه الدولة".3)
وهناك معلومات تشير إلى أن وارادات العراق المالية من صادرات النفط الخام بلغت خلال الفترة الواقعة بين 2004-2014 على النحو التالي:     
"بلغ مجمل إيرادات العراق من تصدير النفط منذ بداية سنة 2004 إلى نهاية سنة 2014، مبلغاً قدره (633,2) مليار دولار. وبين 2006-2014 مبلغاً قدره(579,4)  مليار دولاراً. وبين 2010-2014 بلغت 401,6 مليار دولار، وبمعدل سعر فعلي قدره(96,7)  دولاراً للبرميل الواحد بدلاً من (100) دولار للبرميل الذي افترضته الدراسة".4) فاين ذهبت هذه الأموال؟
وهناك الكثير من المعلومات المنشورة التي تشير إلى رصد مئات المليارات من الدولارات لمشاريع اقتصادية لم تنفذ أو كانت مشاريع "فضائية" حسب المصطلح الجديد الذي يراد به الإشارة إلى مشاريع كاذبة غير موجودة أصلاً، كما هو أمر الفضائيين الذين يتسلمون رواتب دون وجود أي أساسٍ لهم. وهناك معلومات تفصيلية عن غسيل الأموال بالعراق، حيث ورد في تقرير لمنظمة الشفافية الدولية: العراق ضمن الدول الست الأكثر فسادا في العالم.. بعنوان: "غسيل الأموال في العراق، مفاهيم واسرار"، ما يلي:
"وأصبح العراق الملاذ الامن للقيام بجريمة غسل الاموال من قبل المافيات، فضلا عن الاسواق الجديدة التي انشئت في العالم بظل العولمة وليس لها موقع جغرافي يمكن السيطرة علية وتزايد حجم الجريمة الاقتصادية في العالم، واعلان بعض الدول قبولها الاموال غير المشروعة وتقديم التسهيلات لها مقابل فوائد عالية تمكنها من الحصول على ربحية عالية دون رقابة ومساءلة قانونية"5). ثم جاء في مكان آخر من التقرير ما يلي:
"هناك العديد من المصادر التي تصب في وعاء الاموال غير المشروعة ومن أهمها:
*  سرقات المصارف والبنوك بعد احتلال العراق والتي تمثل نسبة عالية في تكوين وعاء غسيل الاموال في العراق.
 * الاموال المتأتية من سرقة الاثار الثمينة وتهريبها، وبيعها في الاسواق العالمية.
*  تهريب النفط ومشتقاته، وتهريب المكائن والآلات والمعدات والمصانع الى الخارج، الغش الصناعي والتجاري بعد انكشاف السوق العراقية وغياب دور الدولة ومؤسساتها، وعصابات السرقات والخطف، والاموال المخصصة لا عادة الاعمار التي تتجه نحو اقامة مشاريع وتقديم خدمات وهمية. وبهذا الصدد يقول النائب رحيم الدراجي، عضو لجنة النزاهة في البرلمان، إن هناك أكثر من خمسة آلاف عقد وهمي، وتسلمت شركات وهمية نسبة تتراوح بين 30 الى 60 % من الأموال استناداً إلى هذه العقود. ويؤكد أن كمية الأموال التي أهدرت في مشاريع بناء وبنى تحتية، على الورق فقط، بلغت 228 مليار دولار، مشيراً إلى أن هذه المبالغ "تطايرت مثل الدخان".6)
*  المتاجرة بالمخدرات والرشوة والفساد الإداري، والتربح من الوظائف العامة، والاموال التي كانت بذمة مسؤولي المالية في بعض مؤسسات الدولة خلال الحرب الاخيرة، والشركات الوهمية".7) ولا بد من الإشارة إلى المليارات من الدولارات الأمريكية التي وجهت خلال السنوت الـ 14 المنصرمة لإقامة مشاريع الطاقة الكهربائية، والتي ذهب الكثير جداً منها هدراً ونهباً، إذ ما يزال الشعب العراقي يعاني من شحة في الطاقة الكهربائية وفي عدم تأمين الكهرباء الضروري للعائلات صيفاً وشتاءً. وتؤكد مصادر الأمم المتحدة والأجهزة الأمنية الكبرى بالعالم إلى أن العراق أصبح محطة مهمة لعبور المخدرات من أفغانستان وإيران إلى الخليج العربي وسويا ولبنان وتركيا. وتلعب عناصر وقوى سياسية وعسكرية ذات نفوذ كبير وميليشيات طائفية مسلحة دور كبيراً في عملية استيراد وإعادة تصدير المخدرات إلى دول الجور، إضافة إلى اتساع قاعدة المتعاطين بالمخدرات بين العراقيين ولاسيما الشباب. وقد اتسعت هذه الظاهرة بسبب الموقف غير العقلاني من بيع المشروبات الكحولية بالعراق، والذي اتسع ولم يتقلص بسبب وجود السوق الموازي الذي تمارسه ذات الجهات المتنفذة. فعلى سبيل المثال ذكر الحاج حسين الغراوي (66 سنة) من البصرة إن جاره الفقير أصبح ثرياً وأكد بأنّه ليس نادماً على العمل في المخدرات فهو لا يجبر أحداً على شرائها. كذلك، أكد أنه ليس خائفاً من المحاسبة، إذ كان يحدثني ونحن في الشارع من دون أن يخفض صوته، وقال لي: اطمئن يا حاج فلن أسجن... هناك من يحميني." 8)
وتشير الكثير من المعلومات إلى إن إيران قد استحوذت على نسبة عالية من المليارات من الدولارات الأمريكية عبر صيغ مختلفة ومنها عبر مزاد العملة، في فترة حكم رئيس الوزراء السابق، لدعم إيران أثناء فترة الحصار الاقتصادي على إيران، وهي كلها ذهبت لإيران دون وجه حق وبطرق غير شرعية ولا بد من التحقيق بما نشر حول هذا الموضوع.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة وجهت موارد مالية كثيرة للحرب الفعلية ضد داعش وخلت الخزينة من الأموال مما راح العراق يستدين من الخارج، إذ لم تكفِ موارد النفط المالية تغطية شرا الأسلحة والصرف على جبهات القتال أو إشباع حاجات السكان للسلع الاستهلاكية، وبالتالي لم تبق موارد مالية لأغراض التنمية، إذا ما اضفنا إلى ذلك استمرار الفساد المالي والنهب الفعلي لموارد البلاد المالية والنفطية. وهذي الحالة لا ولم تقتصر على بغداد وحدها، بل كانت قائمة بأربيل أيضاً.   
الهوامش والمصادر:
1)   راجع: الكشف عن ملف فساد أعده النائب العراقي الراحل أحمد الجلبي، جريدة المدى: في 15/11/2015.
2)   كم تبلغ الأموال المسروقة المهرَّبة إلى خارج العراق؟ وثيقة، موقع وجهة نظر، بتاريخ 02/04/2014).
3)   "وثائق لكشف الفساد، أراد أحمد الجلبي أن يعلنها قبل وفاته بأيام قلائل ..."، بتاريخ 08/11/2015، موقع المسلحة الإخباري.
4)   راجع: فؤاد قاسم الأمير، ملاحظات حول دراسة “الخسائر والهدر في قطاع الطاقة، شبكة الاقتصادين العراقيين في 22/6/2015.
5)   راجع: مركز الروابط للدراسات والبحوث الاستراتيجية، تقرير لمنظمة الشفافية الدولية: العراق ضمن الدول الست الأكثر فسادا في العالم.. بعنوان: "غسيل الأموال في العراق، مفاهيم واسرار"، بتاريخ 05/02/2017.
6) المصدر السابق نفسه.
7) المصدر السابق نفسه.
راجع أيضاً: "تحول من نملة إلى ديناصور".. هكذا أصبح الفساد في العراق منذ إسقاط صدام حسين، تقرير، موقع هاف بوست عربي، بتاريخ 29/12/2017.
8) أدم محمود، المخدرات تجارة محميّة في العراق، موقع العربي الجديد، بغداد، بتاريخ 16/11/2016.


276
كاظم حبيب
مستلزمات الخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي بالعراق
(2 - 4)
وجهة التنمية في عقود حكم القوميين والبعثيين اليمينيين والشوفينيين
لقد توقفت عجلة السير صوب إنجاز مهمات الثورة الديمقراطية البرجوازية بالبلاد لأسباب كثيرة منها محلية وأخرى عربية إقليمية، إضافة إلى العوامل الدولية الفاعلة في تحقيق الانقلاب المشؤوم على الثورة ومهماتها. لقد نجح الانقلاب لأسباب مهمة اقترنت بابتعاد عبد الكريم قاسم عن النهج الديمقراطي في الحكم وتنامي الفردية واتباع سياسات متسرعة وغير مدروسة من جانب قائد الثورة ورئيس الحكومة على صعيد العراق والمنطقة أولاً، والتوجهات المناهضة للثورة من جانب الأحزاب والقوى اليمينية التي قررت التآمر لتغيير النظام القائم ثانياً، كما أن القوى والأحزاب السياسية اليسارية لم تستطع فهم وادراك طبيعة ومهمات المرحلة، والتي تجلت في طرح شعارات غير مناسبة ومتطرفة اججت الصراع مع قيادة السلطة الوطنية ثالثاً، والتي ساهمت بدورها في تنشيط التآمر اليميني الرجعي المحلي والإقليمي والدولي ونجاحه في إسقاط حكومة الثورة. لقد ساعد النهج السياسي في بداية الثورة على البدء بعمليات واسعة لتغيير واقع الاقتصاد العراقي، ولكنها تعرقلت بعد أن تبدلت هذه السياسة صوب الفردية والنظرة الذاتية ومحاولة إثارة مشكلات خارجية لإخفاء الصراعات والمشكلات الداخلية المتفاقمة، بالرغم من النهج الوطني العام لسياسة قاسم، لقد تعرقلت مسيرة التصنيع والإصلاح الزراعي وعُطلت تماماً بعد إسقاط النظام الوطني عام 1963. وقد مورست سياسة همجية ضد الشيوعيين والديمقراطيين من مؤيدي قاسم وعموم القوى اليسارية والتقدمية، إذ اعتقل الآلاف من المناضلين وقتلت جمهرة مقدامة منهم داخل السجون وتحت التعذيب وفرط بالكثير من المنجزات التي تحققت في ثورة تموز. ولم يحص النظام سوى تأييد القوى الإمبريالية التي تآمرت على الجمهورية وساندته في الكشف للحكم البعثي-القومي عن المعلومات التي جمعتها أجهزة الاستخبارات الأجنبية، ولاسيما الأمريكية والبريطانية، عن بيوت وأسماء الشخصيات الشيوعية والديمقراطية العراقية التي لاقى أغلبهم مصرعه على أيدي الانقلابيين. وسرعان ما انقلب الحكام البعثيون والقوميون على حليفهم في إسقاط قاسم، على الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه الملا مصطفى البارزاني والقوات المسلحة الكردية (الپيشمرگة).
ورغم إسقاط نظام البعث وقيام نظام سياسي يمثل القوى القومية في خريف عام 1963، إلا إن سياسات نظام الحكم القومي الاقتصادية والاجتماعية قد ارتبطت بالمصالح الاقتصادية للفئة التجارية الكبيرة والمتحالفة مع مجموعة من العسكريين المتقاعدين أو العاملين في القوات المسلحة التي وقفت بعناد ضد التنمية والتصنيع، رغم وضعها الكثير من الخطط الاقتصادية التي لم تنفذ فعلياً، ولكنها نشطت لتحقيق زيادة مستمرة في استخراج وتصدير النفط الخام للحصول على المزيد من الإيرادات المالية التي لم توجه للتنمية الفعلية، بل عمقت تلك السياسة  التشوه في بنية الاقتصاد العراقي لصالح اقتصاد النفط الخام. وخلال هذه الفترة استعاد كبار الملاكين نفوذهم وهيمنتهم ثانية على الأرض الزراعية بشكل مباشر وغير مباشر، رغم التخفيف النسبي من الاضطهاد السياسي. وبعد مرور خمس سنوات على وجود القوميين اليمينيين في حكم البلاد، عجزوا عن إجراء أي تغيير ملموس في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فسمح الوضع بتنامي محاولات الإطاحة بالنظام من جانب قوى عديدة. وأمكن تنظيم انقلاب من داخل القصر وقادة الحرس الجمهوري والاستخبارات العسكرية وبالتعاون بين اتباع حزب البعث وبعض القوى القومية المرتبطة بالمخابرات الأجنبية، ولاسيما الأمريكية. فعاد البعثيون من جديد إلى السلطة ببغداد في 17 تموز/يوليو 1968.
وفي فترة البعث الثانية هيمن على حكم البلاد نهج سياسي قومي يميني متطرف بأبعاد جديدة غير مسبوقة في السياسة العراقية، انعكست بشكل واضح في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي العلاقات العربية والإقليمية والدولية. فماذا كانت مفردات هذا النهج على المستويين الداخلي والخارجي؟ يمكن تكثيفها بما يلي:
1.   اعتبار العراق قاعدة انطلاق لإقامة الدولة العربية الموحدة، واستخدام كل الوسائل والأساليب والأدوات المشروعة وغير المشروعة لفرض الوحدة.
2.   استخدام إيرادات الثروة النفطية العراقية لتأمين تحقيق هذا الهدف من خلال مجموعة من المهمات المباشرة وأبرزها: بناء دولة قومية ينفرد حزب البعث بقيادتها بشكل مطلق؛ اصطفاء قائد يلعب دوره في تحقيق السلطة المطلقة للبعث وللقائد مباشرة، والتخلص من أي منافس ومعارض له؛ بناء جيش عراقي كبير، قوى ومسلح تسليحاً عسكرياً بقدرات دفاعية وهجومية عالية؛ ولتحقيق هذا الهدف اعتماد: إقامة صناعة عسكرية واسعة ومتنوعة وحديثة داخل البلاد، وتنشيط عملية استيراد السلاح المتنوع والحديث على أوسع نطاق ممكن، والعمل على توفير مستلزمات إنتاج الأسلحة المحرمة دوليا، الكيماوية والجرثومية والنووية.
3.   إن تحقيق هذه المهمات يستوجب تأميم الثروة النفطية وزيادة الموارد المالية عبر التوسع باستخراجه والتحري عن آبار جديدة لزيادة حجم صادرات النفط الخام سنوياً لتكون في خدمة إنجاز هذه المهمات، إضافة إلى توسيع الطاقة الإنتاجية لمصافي النفط العراقية.
4.   الاهتمام بالصناعات التحويلية التي تساهم في تنويع مصادر الدخل القومي وتخدم تأمين الأمن الغذائي للبلاد، إضافة إلى إيلاء اهتمام خاص بالمشاريع الإنشائية والصناعة العسكرية والتعجيل بإقامة مشاريع البنية التحتية، بما في ذلك الطاقة والنقل والمواصلات الحديثة والاتصالات.
5.   الانطلاق من رأي يقول بأن الحق والقوة صنوان لا يفترقان، فالحق لا يصان والضائع منه لا ينتزع إلا بالقوة، والقوة هي السبيل لانتزاع الحق والحفاظ عليه، ومن يمتلك القوة يمتلك الحق أيضاً.
6.   الانفراد بالسلطة المطلقة غير كاف لتحقيق ما يسعى إليه البعث، بل لا بد من تصفية كل المنافسين والمعارضين له في الحكم والناقدين لنظامه وسياساته من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى بكل السبل المتوفرة بما في ذلك ممارسة العنف والتصفيات الجسدية على أوسع نطاق ممكن، ومن هم في الخارج أيضاً. وفي البدء يمكن استخدام الجزرة والعصا، ولكن في المحصلة النهائية لا بد من أن تكون العصا هي السبيل المفضل لفرض المنشود.
7.   احتكار أجهزة ووسائل الإعلام الحديثة وتطويرها لتكون أداة فاعلة ومؤثرة على المستويات الداخلية والعربية والدولية لخدمة أهداف البعث، واستخدام الموارد المالية لكسب المساندين في الداخل والخارج.
8.   وجود قناعة تامة بأن ليس هناك في العالم من لا يمكن شراؤه، سواء أكان شخصاً أم عشيرة أم حزباً أم دولة، ولا بد من استخدام الثروة المتوفرة لهذا الغرض.
9.   بناء أجهزة أمنية حديثة بتقنيات حديثة وعناصر ذكية ومتمرسة وذات خبرة عالية تكتسب عبر الدورات والتدريبات لدى أجهزة أمنية أخرى حيثما وأينما أمكن لتكون الأداة الضاربة لتصفية المعارضين أينما كانوا لحماية النظام والقائد الضرورة. وقد شكل حزب البعث خمسة أجهزة أمنية عراقية يراقب بعضها البعض الآخر وكلها تراقب الشعب وقواه السياسية في الداخل والخارج، ووضع السفارات العراقية في خدمة الأجهزة الأمنية.
10.    مغازلة العالم الشرقي والغربي بشتى السبل الممكنة، بما في ذلك عبر الموافقة على منحهم إقامة مشاريع اقتصادية وعسكرية وخدمية بسخاء كبير وبتمويل عراقي مباشر، بهدف شراء تأييد أو سكوت تلك الدول على سياسات النظام الداخلية والخارجية والحصول عل التقنيات المطلوبة للقوات المسلحة العراقية.
11.    لقد وضعت في فترة الحكم القومي وحكم البعث الثاني الكثير من "الخطط الاقتصادية" التي توفرت فيها عناصر مهمة لو تحققت فعلياً لكان العراق في مصاف بعض الدول النامية المتقدمة في أمريكا الجنوبية مثلاً. إلا أن أربعة عوامل أساسية وقفت ضد التخطيط والخطط الاقتصادية التي وضعها اقتصاديون محترفون تميزوا بالعلمية والإمكانية والخبرة الممتازة: 1) غياب كامل للحريات والحقوق الديمقراطية وهيمنة الاستبداد الفردي والتسلط على جميع مجالات الحياة بالعراق، والاستعداد الكامل لممارسة جميع أشكال الاضطهاد والقمع والقتل والتشريد والتهجير والتعريب؛ 2) انعدام الرؤية الواقعية وهيمنة الانتقائية والرغبة الجامحة في دفع البلاد بوجهة محددة وترك الخطط جانباً، 3) توفر الموارد المالية بكميات كبيرة جداً، إذ انهمرت كالمطر من قطاع النفط الاستخراجي، فأعمت بصر وبصيرة الحكام وأغرتهم بسلوك اتجاهات خطيرة في الحياة السياسية وضد من تحالف معهم خطأً، حتى صرح طه ياسين رمضان " نملك المال ونريد الأحسن"، بغض النظر عن إمكانية الاستفادة الفعلية من الأحسن أم لا، ومورس هذا النهج بانتقائية فجة ومؤذية ومفرطة بالأموال وتحت شعار "التنمية الانفجارية"، 4) الاستعداد بخوض الحروب الداخلية والخارجية لتحقيق الأهداف الكبيرة التي حددها البعث بعد وصوله إلى السلطة وبدعم من القيادة القومية التي ترأسها ميشيل عفلق. وبذلك أقيمت بالعراق دولة بوليسية إرهابية ذات ذهنية وأهداف توسعية بكل معنى الكلمة ونشرت العسكرة والتسلح والاستعداد للحرب في كل البلاد، وتحركت لتحقيق الأهداف غير الواقعية، حين خلال للنظام وقائده الحكم المطلق دون منازع، والتي قادت إلى العواقب الكارثية التي ما يزال العراق يعاني منها.
كانت تجليات هذه السياسيات السلبية صارخة بسلبياتها على وجهة التنمية وواقع الاقتصاد العراقي وعلى مستوى حياة ومعيشة الفرد والمجتمع، ومن ثم الحروب والدمار والخراب والحصار والمجاعة والموت التي تعرض لها الشعب على مدى أكثر من ثلاثة عقود. لقد كان نهج الحكم السياسي هو الموجه للسياسة الاقتصادية والاجتماعية والمعبر عنها خير تعبير، والتي تبلورت في عواقب تلك السياسات على الاقتصاد والمجتمع.
لقد أمكن بناء مشاريع صناعية مهمة وحيوية وكثيرة نسبياً بالعراق، منها الصناعات البتروكيماوية والغزل والنسيج والسجاد، والمشروبات والأغذية وصناعات إلكترونية تركيبية، وصناعات إنشائية ومصافي النفط، وتحديث المنشآت النفطية...إلخ، رغم الكلفة المالية العالية. وكان في مقدرو العراق أن يتجه وجهة سياسية أخرى لينشر الخير العميم بالعراق وليعم بخيره على الجيران، إلا أن العكس هو الذي حصل، فلم يكن العراق وحده ضحية سياسات الحكم العراقي، بل الجيران أيضاً، والتي تحملت مع العراق خسائر مالية ومادية، اقتصادية وحضارية وبيئية كبيرة جداً. لقد أتت الحروب الداخلية والخارجية المتتالية على مئات الآلاف من البشر وعلى أغلب تلك المشاريع الصناعية والخدمية.
يشير بعض الاقتصاديين البرجوازيين بالعراق وخارجه إلى أن حزب البعث في فترة حكمه الثانية قد انتهج سياسة "اشتراكية" لبناء الاقتصاد والمجتمع، بسبب اعتماده المركزية في التخطيط وقطاع الدولة الاقتصادية. وهو تشويه متعمد لعملية التخطيط ولدور الدولة الاقتصادي، رغم إدراك وهؤلاء جميعاً دون استثناء بأن النظام السياسي العراقي في فترة حكم البعث على امتداد الفترة الواقعة بين 1968-2003 قد سعى إلى تحقيق هيمنة الدولة المستبدة والقاهرة والجائرة على الاقتصاد العراقي وموارد البلاد المالية لفرض هيمنته السياسية والاجتماعية والثقافية والتحكم بحياة ومعيشة الفرد والمجتمع أولاً وقبل كل شيء، وليس انطلاقاً من فكرة العدالة الاجتماعية، وملكية المجتمع لوسائل الإنتاج، بل ملكية الدولة الرأسمالية الريعية والاستهلاكية الضعيفة والتابعة للرأسمال العالمي، وكان خاضعاً لمشيئتها استيراداً وتصديراً ووجهة التطور الاقتصادي ايضاً. لم تكن السياسات التي مارسها صدام حسين وحزبه سوى ذات السياسة "الاشتراكية الوطنية!" التي مارسها هتلر بألمانيا، ولكن على مستوى التبعية للرأسمال الأجنبي من خلال انكشافه على الخارج تصديراً (النفط)، واستيراداً (السلع المصنعة). لقد كان هم النظام حينذاك، كما عبر عن ذلك رئيس اللجنة الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة بعد صدور قرارات المؤتمر الثامن لحزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1974 وصدور قرار انتهاج "التنمية الانفجارية"، إنهم يسعون إلى إقامة دولة رأسمالية عصرية نموذجية تجلب لها بقية الدول العربية! وفي الواقع فأن تلك السياسات دفعت ساهمت بنشوء الدولة الشوفينية والإرهابية الهمجية على المستويين الداخلي والخارجي!


277
كاظم حبيب
مستلزمات الخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي بالعراق
المدخل: الصراعات الفكرية والسياسية حول وجهة التنمية
1-4
خلال العقد السادس من القرن العشرين نُشر الكثير من الأبحاث والدراسات والكتب حول موضوعات التنمية والنماذج الاقتصادية المناسبة للبلدان النامية عموماً، والعراق خصوصاً، شاركت فيه نخبة متقدمة من الكتاب والباحثين الاقتصاديين. وتبلور هذا النقاش أكثر فأكثر في أعقاب ثورة الرابع عشر من تموز 1958، حيث تولى اقتصاديون عراقيون بارزون مهمة خوض هذا الحوار والكتابة والنشر من جهة، وتطبيق ذلك في الممارسة العملية، ولاسيما في السنة الأولى والثانية من ثورة تموز. وقد استمر هذا النقاش ليشمل العقدين السابع والثامن من القرن ذاته. ويمكن أن نلاحظ ذلك في كتابات العالم الاقتصادي المميز والفقيد الدكتور محمد سلمان حسن، وفي الجانب النظري والتطبيقي أستاذ التاريخ والنظرية الاقتصادية العلامة والاقتصادي الكبير الفقيد الأستاذ إبراهيم كبة، الذي أصبح وزيراً للاقتصاد لفترة قصيرة في حكومة الثورة الأولى.
وبحدود منتصف الستينيات من القرن العشرين انتشرت بين القوى اليسارية، الاشتراكية والشيوعية والتقدمية، الموضوعة التي أطلقها المؤتمر الحادي والعشرون للحزب الشيوعي السوفييتي القائلة بوجود طريق خاص يمكن أن تسلكه الدول النامية لتجاوز الرأسمالية، وأطلقت عليه طريق التطور اللارأسمالي، والذي كان قد ورد في بعض كتابات لينين أيضاً من جهة، كما تبلورت نظرية السوق الاشتراكية في إطار الاقتصاد والتخطيط الاشتراكي للعلامة الاقتصادي البولوني أوسكار لانگة، الذي اختلف في رؤيته النظرية للاقتصاد الاشتراكي عن غالبية الاقتصاديين السوفييت المسؤولين عن رسم السياسة الاقتصادية للاتحاد السوفييتي وتأثيراتها على بقية دول مجلس التعاضد الاقتصادي، التي كانت تتنكر لدور السوق وقوانينه من جهة أخرى. وقد لعب الدكتور محمد سلمان حسن بترجمته كتاب أوسكار لانگة، الجزء الأول واستكماله الجزء الثاني، دوره في نشر أفكار أوسكار لانگة لا بالعراق فحسب، بل وبالدول العربية أيضاً. ومن جانب آخر سادت بالعراق قبل وبعد ثورة تموز 1958 نظريات اقتصاد السوق الحر، أو النظرية الرأسمالية اللبرالية بمختلف مدارسها، لدى مجموعة غير قليلة من الاقتصاديين اللبراليين العراقيين، ولاسيما ذات الاتجاه والنزعة القومية العروبية والجماعات المحافظة، ولدى الفئات البرجوازية المتوسطة والصغيرة. وبرز في هذا المجال العديد من الاقتصاديين العراقيين منهم الدكتور محمد عزيز، والدكتور عبد الرحمن الحبيب، والدكتور عبد المنعم السيد علي، والدكتور خير الدين حسيب، والدكتور محمد جواد العبوسي، وكذلك العديد من العاملين في وزارتي التخطيط والاقتصاد حينذاك وفي كلية الاقتصادي وجامعة بغداد. وكان الدكتور خير الدين حسيب هو المبادر لطرح فكرة "الاشتراكية العربية" بالعراق حينذاك، وكان عضوا قيادياً في حزب الاتحاد الاشتراكي الذي تأسس في العام 1964 وترأسه رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف، وتبنتها القوى القومية العربية وقوى البعث أيضاً، كما كان المبادر لطرح فكرة إجراءات التأميم لعام 1964 وتنفيذها فعلاً. علماً بأن مجموع رؤوس أموال المشاريع الصناعية والتجارية والبنوك والتأمين لم يزد عن 28 مليون دينار عراقي، أو ما يعادل 92 مليون دولار أمريكي. وكانت الأهداف الفعلية من التأميم هي الوصول إلى ما يلي:
1.   محاولة تبويش السياسة التي كانت تطرحها القوى التقديمة والديمقراطية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية أخرى، في موضوع دور الدولة وقطاعها الاقتصادي والتخطيط الاقتصادي. علماً بأن الحزب الشيوعي العراقي كان يدعو أيضاً إلى تعزيز دور القطاع الخاص والقطاع المختلط في الصناعة لحاجة البلاد إلى المزيد من الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية؛
2.   تنشيط القوى الداعية إلى حل الحزب الشيوعي العراقي والالتحاق بالاتحاد الاشتراكي على الطريقة التي جرت فيها العملية القيصرية بمصر، حيث أجبر الحزب الشيوعي المصري على حل نفسه وبدعم من السوفييت.1) وقد طرح عدد من قادة الحزب الشيوعي العراقي هذه الفكرة حينذاك، ولكنها رفضت من قادة حزبيين آخرين ومن الكوادر والقواعد الحزبية والجماهير المساندة للحزب الشيوعي العراقي. وكان المسؤولون السوفييت أبرز المساندين لفكرة حل الحزب الشيوعي والاندماج بالاتحاد الاشتراكي العربي بالعراق معتمدين في ذلك على موضوعة طريق التطور اللارأسمالي وقدرة البرجوازية الصغيرة على سلوك هذا السبيل. وقد فشل هذا التوجه بسبب إصرار مزيد من الكوادر الحزبية وبعض قادة الحزب لهذا الاتجاه؛
3.   محاولة غير ناجحة للتقرب والتماثل مع تجربة التأميم في جمهورية مصر العربية، حين عمد جمال عبد الناصر إلى تنفيذ إجراءات تأميم واسعة بين 1961-1964، التي ابتدأت بعد فشل الوحدة بين مصر وسوريا، وكأنها محاولة عقوبة وانتقام من البرجوازية المصرية.2) وكان من ضمن أهداف سياسة عبد الناصر الوصول إلى الادعاء بتبني الاشتراكي وإمكانية مسيرة مصر صوب طريق التطور الاشتراكي وبالتالي ليست هناك حاجة لحزب شيوعي مصري. وحين زار والتر أولبرشت، رئيس جمهورية المانيا الديمقراطية حينذاك، مصر في نهاية شباط/فبراير عام 1965 ادعى في خطاب له بأن مصر تسير في طريق الاشتراكية!
4.   محاولة كسر مقاومة القطاع الخاص لسياسات عبد السلام محمد عارف الاقتصادية ونهجه الدكتاتوري، والتي برزت في المذكرات الاحتجاجية التي قدمها الشيخ محمد رضا الشبيبي حينذاك إلى رئيس الجمهورية.3)
5.   ذر الرماد في العيون، وكأن العراق كان يسير حينذاك على طريق تطور جديد صوب الاشتراكية العربية!
وقد ألحقت إجراءات التأميم العراقية أضراراً كبيرة بالاقتصاد العراقي، كما إنها لم تنفع قطاع الدولة، بل قادت الإدارة الحكومية الفاسدة للمشاريع المؤممة إلى خسائر تحملتها خزينة الدولة.
وتصدى الدكتور محمد سلمان حسن حينذاك لسياسات القوميين العراقيين العرب الاقتصادية وهجومهم على سياسات عبد الكريم قاسم الاقتصادية مدافعا بوعي ومسؤولية عن نهج حكومة عبد الكريم قاسم الاقتصادي، الذي وضعه اقتصاديون مرموقون حينذاك وكاشفاً عن الخلل الكبير في سياسات القوميين الاقتصادية اللبرالية التي لا تعبر عن حاجات الاقتصاد والمجتمع العراقي.4) لم يكن هذا الاختلاف نظرياً بحتاً فحسب، بل كان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، إذ كان الصراع الفكري يجسد مصالح طبقية في نهج ووجهة ومضمون النموذج الاقتصادي المنشود للعراق حينذاك.
لم يكن هذا الصراع الفكري حديث العهد، بل برز في الثلاثينيات من القرن العشرين، بين سياسة الحكم الاقتصادية المحافظة التي كانت ترسم عملياً من جانب المستشارين البريطانيين في فترة ما قبل وما بعد الانتداب في العام 1932 مباشرة لتعزيز مواقع البرجوازية الكومبرادورية والشركات التجارية العراقية التابعة لها والعاملة مع الشركات التجارية الأجنبية، وكذلك الحفاظ على مصالح كبار ملاكي ومستغلي الأرض الزراعية التابعة للدولة، وبين القوى الوطنية والديمقراطية العراقية التي كانت تطالب برسم سياسة اقتصادية جديدة للعراق. فمنذ نهاية العشرينات من القرن العشرين (1929) طرحت جمعية أصحاب الصنائع العراقية، برئاسة محمد صالح القزاز، ثم نشرت الأحزاب والقوى الديمقراطية العراقية، تصوراتها حول النهج الذي يفترض أن تمارسه الدولة العراقية لتحقيق تقدمها الاقتصادي والاجتماعي وبناء المجتمع المدني، والتي تمكنت من إصدار قانون حماية الصناعة الوطنية. ويمكن لمتتبعي تاريخ العراق الحديث ملاحظة ذلك في برنامج جماعة الأهالي في العام 1933، ومن ثم في برنامج الإصلاح الشعبي لجماعة الأهالي نفسها، وفي المقالات والكراسات التي أصدرها الحزب الشيوعي العراقي، ومن ثم في برنامجه الذي أقره المؤتمر الوطني الأول في العام 1944/1945، حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي طرحها الحزب الشيوعي العراقي، وتركيزه الدائم على ثلاث مسائل جوهرية هي: أ) الحريات والحقوق الديمقراطية والالتزام بالحياة الدستورية النزيهة، وب) التوجه صوب البناء الاقتصادي، ولاسيما تنشيط القطاعين اصناعي والزراعي والخدمات الإنتاجية، والاجتماعي والثقافي السليم ومكافحة الأمية والبطالة والفقر، وج) وعبرهما يمكن تعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية وإلغاء المعاهدات المخلة بهما. وكان الحزب الشيوعي يرى بأن بأهمية التفاعل بين الحرية والديمقراطية من جهة، وتحقيق التنمية وتأمين حصول توازن في البنيتين الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع العراقي ومن جهة أخرى، إذ بدونهما يصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تحقيق التقدم وضمان الاستقلال والسيادة الوطنية.5) وإذ لم يتحقق سوى القليل جداً في مجال الصناعة مثلاً قبل الحرب العالمية الثانية، تحسن قليلاً أثناء الحرب لأسباب عديدة، منها حاجة القوات البريطانية المعسكرة بالعراق للسلع الاستهلاكية وتعذر الاستيراد... ومع زيادة حصة العراق في إيراداته النفطية والاتفاق على المناصفة مع شركان النفط الاحتكارية وتشكيل مجلس الإعمار، ومن ثم وزارة الاعمار في العام 1951/1952، وضغط القوى السياسية الديمقراطية، تحقق بعض النتائج الإيجابية المهمة لواقع العراق الصناعي حينذاك، سواء أكان باستقدام خبراء ومؤسسات لتقديم بحوث علمية أو انجاز ونشر دراسات اقتصادية حول سبل تنمية الاقتصاد العراقي، ومنها دراسة "أرثر دي لتل" حول الصناعات البتروكيماوية في العام 1956، والتي لم يؤخذ بها وأهملت تماماً، أو التقارير التي قدمت حول السياسة المالية حينذاك أيضاً. ومع ذلك أمكن إلى حد ما كسر الحاجز السميك المعرقل للتوسع في إقامة صناعة وطنية حديثة بالعراق تابعة لقطاع الدولة وأخرى مختلطة شارك فيها البنك الصناعي والقطاع الخاص، ومشاريع تابعة للقطاع الخاص. لقد اصطفت المجموعة الصغيرة من الإقطاعيين وكبار ملاكي ومستغلي الأراضي الزراعية والفئة التجارية الكبيرة المرتبطة بالشركات الأجنبية وفئة العقاريين بوعي في معارضة التصنيع والتقدم الزراعي وتحقيق الإصلاح الزراعي وتغيير بنيتي الاقتصاد والمجتمع. وقد حظيت هذه القوى بتأييد ودعم واسعين من جانب الحكومات الملكية وشركات النفط الاحتكارية والشركات التجارية الأجنبية المصدرة للسلع المصنعة والمنتجات الزراعية والدول الرأسمالية المتقدمة، ولاسيما بريطانيا. ولم تستطع الحكومات الملكية المتعاقبة، التي كانت تعبر عن مصالح كبار التجار والعقاريين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية، الاستمرار في معارضة التصنيع المحدود نسبياً. ولكنها وقفت ضد أي تغيير في القوانين التي وضعها داوسن في أعوام 1932/1933 في توزيع وتمليك الأراضي الزراعية وما سمي بـ "تسوية حقوق الأراضي الزراعية" لصالح كبار الملاكين. وهي السياسة التي تعرقل بشكل مباشر وغير مباشر تحقيق المزيد من التصنيع بالبلاد. وفي العام 1956 القى رئيس الوزراء العراقي حينذاك نوري السعيد خطاباً مدوياً أعلن فيه أن حل مسألة الأرض تتم فقط حين يموت شيخ ما توزع الأراضي المملوكة له على أبنائه الكثر، وهكذا تحل مشكلة الملكيات الكبيرة للأرض الزراعية وينتهي الإقطاع، ثم هتف "دار السيد مـأمونة"6)، ولم تكن مأمونة! إذ بعد عامين من تلك الصيحة لا غير سقطت الملكية بالعراق.7)
لعبت الطبقة العاملة ونقاباتها والأحزاب الوطنية، ومنها الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي وحزب الاستقلال وأحزاب ديمقراطية ويسارية أخرى، وجمهرة كبيرة من المثقفين والكتاب الاقتصاديين والسياسيين المستقلين، دورهم الإيجابي في هذا الصدد. وقد نشأت مجموعة من المشاريع الصناعية المهمة والحديثة بالعراق كالمشاريع الإنشائية، ولاسيما السمنت والطابوق، والزيوت النباتية والغزل والنسيج ومشاريع السكر بالموصل والعمارة ومشاريع المشروبات الغازية والكحولية والسجائر وصناعات منزلية...الخ. وقد أنجزت الكثير من البحوث والدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه، خارج العراق، سواء تم ذلك بالدول الغربية، أم بالدول الاشتراكية في أعقاب ثورة تموز، مسحاً مهماً وقيماً عن هذه المرحلة من تاريخ العراق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والتي نشر بعضها باللغة العربية.8)
الاتجاهات التنموية لقوى ثورة تموز 1958
مع انتصار ثورة تموز 1958 وصل إلى السلطة ممثلون يعبرون في نهجهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي عن مصالح فئات البرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة، والتي تجلت في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقوانين والإجراءات التي اتخذتها والتي تميزت بها تماماً عن تلك التي مارستها حكومات العهد الملكي، رغم إنها قد تعثرت فيما بعد في الممارسة الفعلية. فالقوى الديمقراطية والتقدمية العراقية طرحت رؤية وسياسة ديمقراطية تقدمية استهدفت تسريع عملية التصنيع بالبلاد وتنمية الاقتصاد الوطني بزيادة التوظيفات الحكومية الموجهة للتنمية الصناعية والزراعية والتنمية البشرية وتغيير بنية التربية والتعليم، إضافة ضرورة تنشيط القطاعين الخاص والمختلط. فخلال فترة قصيرة أصدرت حكومة الثورة مجموعة من القوانين والإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية المهمة، منها على سبيل المثال لا الحصر، اعتبار العرب والكرد شركاء في الوطن الواحد، العراق، الذي ثُبت في الدستور المؤقت للجمهورية العراقية لأول مرة، الخروج من حلف بغداد، الانسحاب من منطقة الاسترليني، قانون الإصلاح الزراعي، قانون العمل والعمال، وقانون الأحوال الشخصية، وإجازة النقابات ومنظمات مدنية اجتماعية أخرى، كما تم وضع خطة خمسية مؤقتة استبدلت لاحقاً بخطة تفصيلية.. إلخ. كل ذلك وغيره جسد الحاجة المباشرة للتنمية الاقتصادية والتركيز على إقامة المشاريع الصناعية وتحرير الأرض والفلاح من هيمنة الإقطاعي وكبار الملاكين بأمل وهدف تغيير بنية القطاع الزراعي وإنقاذ الفلاحين من جور الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية. وكان الهدف من وراء ذلك ضمان ما يلي:
1.   الاستفادة القصوى والممكنة من موارد البلاد المالية لإقامة مشاريع صناعية تساعد على تنويع الدخل القومي وتقليص طابع الاقتصاد الريعي النفطي الاستهلاكي غير الإنتاجي، من خلال توجيه جزء مهم من إيرادات النفط المالية صوب الاستثمار الإنتاجي. "وكانت الخطة الخمسية التفصيلية 1962-1966، التي دخلت حيز التنفيذ اعتبارا من بداية 1962، تحسينا للخطط المؤقتة السابقة في تعقيدها وتنوعها. وحددت الخطة هدفا لمعدل النمو، وحسبت نسبة رأس المال إلى الإنتاج، فاستنتجت أن حجم الاستثمار يجب أن يكون بنسبة 35 بالمائة من الدخل الوطني"9)، كما أشار إلى ذلك الدكتور عباس النصراوي.
2.   الاهتمام الاستثنائي بالتنمية الصناعية والتي بدأت بها الثورة حين وقع وزير الاقتصاد العراقي، الأستاذ إبراهيم كبة، اتفاقية اقتصادية مع الاتحاد السوفييتي لإقامة 28 مشروعاً صناعيا في مدن عراقية عديدة.
3.   العمل على إجراء تغيير في بنية الاستيراد لصالح التنمية الإنتاجية، مع الاهتمام بإشباع حاجة الاستهلاك المحلي من السلع الاستهلاكية التي لا بد من استيرادها.
4.   مكافحة البطالة وتوفير مزيد من فرص العمل في القطاعات الإنتاجية والخدمات المرتبطة بها ومكافحة الفقر وتوزيع وإعادة توزيع أفضل للدخل القومي.
5.   البدء بتوسيع المعاهد الفنية والمهنية لكسب المزيد من خريجي الدراسة الابتدائية والمتوسطة أو الثانوية صوب المعاهد الفنية والمهنية والفروع العلمية والتطبيقية. كما تم إرسال مئات خريجي الثانويات والكليات للدراسة كبعثات وزمالات إلى المعاهد والكليات والجامعات الأجنبية، ولاسيما إلى الدول الاشتراكية. 
6.   ضمان تغيير علاقات الإنتاج المتخلفة والاستغلالية في الريف لتطوير القوى المنتجة وتغيير بنية الزراعة المحلية وربطها بعملة التنمية الصناعية.
7.   وكان قانون الأحوال الشخصية بداية أولية مهمة لضمان تحقيق تغيير إيجابي في مكانة ودور المرأة في المجتمع الذكوري العراقي، والذي رُفض بإصرار تآمري رجعي من جانب المؤسسات والمرجعيات الدينية السنية منها والشيعية على حد سواء.
لقد عرف العراق اقتصاداً نفطياً بتقنيات حديثة وعلاقات رأسمالية متقدمة من جهة، وعلاقات إنتاجية متخلفة في بقية فروع الاقتصاد الوطني العراقي. وكان لهذه الازدواجية في العلاقات الإنتاجية جوانبها السلبية. إلا إن تقليص الجوانب السلبية كان يتطلب توجيه نسبة مهمة من موارد النفط المالية صوب التنمية الإنتاجية، صوب الصناعة والزراعة وتحديثهما بتقنيات متقدمة وتطويعها بما يتناسب ومهمة تطوير مستمر للجانب الثاني من القوى المنتجة، الجانب البشري، لتأمين إحداث تغيير مدروس وعقلاني في بنية الاقتصاد الوطني والبنية الاجتماعية وفي بنية الدخل القومي وفي عملية توزيعه الأولى والثانية، أي في إعادة توزيعه على صورة خدمات للمجتمع، أي الاستهلاك الاجتماعي.   
وكان من المؤمل أن تساهم هذه السياسات والإجراءات البدء بتحقيق تغيير فعلي مهم في البنية الطبقية المتخلفة للمجتمع، تلك البنية التي ارتبطت بوجود علاقات إنتاجية ما قبل الرأسمالية بالريف، علاقات شبه إقطاعية، معرقلة للنمو الصناعي وتطوير الزراعة وتحديث القوى المنتجة فيها وتحرير أعداد كبيرة من الفلاحين وتغيير في وعي الفرد والمجتمع. أي إنها كانت ستساهم في زيادة عدد أفراد الطبقة العاملة الحديثة، ولاسيما في القطاع الإنتاجي أولاً، وزيادة عدد الصناعيين من البرجوازية المتوسطة ثانياً، وتوسيع قاعدة البرجوازية الصغيرة التي يرتبط نشاطها بالقطاع الصناعي العراقي وبالزراعة ثالثاً. كما كان من المؤمل أن يلعب دوراً في تحسين مستوى حياة ومعيشة الناس وزيادة السيولة النقدية في الأسواق العراقية. ولا شك في أن كل هذه المسائل قد ارتبطت بصورة واعية بالجهود الكثيفة التي بُذلت لمحاربة الأمية بالبلاد والتي كانت واسعة جداً، ولاسيما بالريف وبين النساء. وقد اقترنت هذه السياسة الاقتصادية بسياسة مالية ونقدية مناسبة، والتي هي الأخرى لم تستمر طويلاً. وكانت كل هذه السياسات والإجراءات في إطار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وسعي الدولة إلى تحقيق التراكم الرأسمالي المنشود في الصناعة الوطنية وفي تحديث وتنمية القطاع الزراعي. وحتى هذه الوجهة البرجوازية لم تتحملها القوى الإمبريالية والقوى المناهضة لأهداف ثورة تموز الوطنية. فتأمرت ضدها بكل ما تملك من إمكانيات.   
الهوامش والمصادر
1) ملاحظة: حين كنت أعد لرسالة الدكتوراه ببرلين سافرت إلى القاهرة ونظمت لقاءات عدة مع سياسيين واقتصاديين مصريين ومع كبار المحررين في مجلة الطليعة المصرية. ومن بين تلك اللقاءات كان اللقاء المهم مع الدكتور فؤاد مرسي في العام 1965، بعد أن كان قد أطلق سراحه من السجن وعين رئيساً للمؤسسة العامة للسيارات بمصر، وكان قبل ذلك سكرتيراً للحزب الشيوعي المصري وسجيناً، فوافق على حل الحزب الشيوعي المصري والتحاق أعضاء الحزب بالاتحاد الاشتراكي العربي. أشار لي بوضوح وصراحة إلى الضغوط السياسية والنفسية التي تعرض لها الحزب وقادته من أجل حل الحزب، رغم وجود معارضة جدية لهذا القرار، ولكن لعب السوفييت دورهم البارز في ذلك. ك. حبيب.   
2) ملاحظة: في نهاية عام 1967 أنجزت كتاب رسالة الدكتوراه ودافعت عنها في شباط/فبراير من عام 1968 وكانت بعنوان "طبيعة إجراءات التأميم في جمهورية مصر العربية" أمام لجنة من ثلاثة أساتذة في كلية الاقتصاد ببرلين. وقد حضر الدفاع جمع كبير من المصريين من العاملين في سفارة مصر، إضافة إلى بعض المصريين الدارسين والمؤيدين لتجربة مصر ومجموعة من العرب من دول أخرى، إضافة إلى مجموعة من الألمان والعراقيين المهتمين بتجربة مصر حينذاك، إذ كانت جلسة الدفاع مفتوحة. وقد تبنيت في الرسالة رأياً مفاده إن مصر لا تسير في طريق التطور اللارأسمالي أو طريق التطور صوب الاشتراكية، بل هي إجراءات اقتصادية ذات وجهة سياسية ورأسمالية دولة نامية، كما إنها لم تكن في إطار منهج اقتصادي اجتماعي اشتراكي أو تقدمي يسهم في تغيير واقع الاقتصاد المصري. وقد شنت جمهرة من المصريين من أتباع السفارة وبعض المصريين هجوماً ضد مضمون رسالة الدكتوراه والتقرير الذي قدمته بهذا الخصوص. وقد تبنى هؤلاء رأياً مفاده إن مصر تسير على طريق التطور اللارأسمالي وصوب الاشتراكية رغم السياسات غير الديمقراطية للحكومة المصرية والتي اثمرت عن أكبر انكسار سياسي في تاريخ مصر في حرب حزيران عام 1967. وكانت ألمانيا الديمقراطية تقف سياسياً إلى جانب مصر وترى في مسيرتها نهجاً لا رأسمالياً. وكان الموقف حرجاً للجنة الدفاع من الناحية السياسية، ولكنها لم تستطع إيقاف الدفاع أو رفض الرسالة نظراً لقوة الحجج التي أوردتها في الرسالة أولاً، والتقرير الذي تقدمت به دفاعاً عن رأيي ومضمون الرسالة، إضافة إلى إجاباتي التفصيلية عن الأسئلة التي طرحت أثناء جلسة الدفاع والتي انتهت لصالح الأطروحة ومنح شهادة الدكتوراه فلسفة PhD. ك. حبيب.   
3) ملاحظة: نشرت عدة دراسات عن طبيعة التأميم لعام 1964 بالعراق واعتبرتها إجراءات أساءت للاقتصاد العراقي وحجمت بشكل غير مقبول ومؤذي للنشاط الاقتصادي للبرجوازية المتوسطة العراقية وإشاعة الخوف بين صفوفها وتوقفت عملياً استثماراتها بالاقتصاد العراقي. وقد نشرت هذه الدراسات في مجلتي الطريق اللبنانية ودراسات عربية بلبنان في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. ك. حبيب.
4) راجع: د. مظهر محمد صالح، محمد سلمان حسن: دروس في الحياة المعرفية..!، شبكة الاقتصاديين العراقيين، بتاريخ 02/10/2014.
5) راجع: يوسف سلمان يوسف (فهد)، كتابات الرفيق فهد، البطالة، أسبابها وعلاجها، كراس. طبعة أولى 1946، من وثائق الحزب الشيوعي العراقي، عنى بجمعه ونشره فخري كريم، دار الطريق الجديد-بغداد، دار الفارابي-بيروت، 1976.     
6) ملاحظة: كنت في هذه الفترة، وبعد الخروج من سجن بعقوبة، منذ متصف العام 1956 مبعداً في مدينة بدرة وكنت مع الرفيق 7 علي محمود، من كردستان، مسؤولين عن التقاط الأخبار من الراديو وإنجاز نشرة أخبار يومية للرفاق المبعدين، والتقطنا خطاب نوري السعيد بالكامل مع تعليقاتنا عليه للمناقشة.   
7) ملاحظة: من يتابع تطور الوضع بإيران سيجد أن هناك صيحات مماثلة تؤكد بأن "دار السيد مأمونة" وهنا المقصود علي خامنئي، وعلينا أن ننتظر أن يحل بإيران ما حل بالعراق بعد صيحة نوري السعيد الخائبة، ولو بعد حين! ك. حبيب
8) أشير هنا بشكل خاص إلى رسالة الدكتوراه للفقيد الدكتور صباح مصطفى الدرة، الذي أغتاله حزب وحكم البعث في سجنه بالعراق في العام 1980/1981، مع الدكتور صفاء الحافظ وعائدة ياسين، التي دافع عنها في العام 1965 بكلية الاقتصاد ببرلين، ونشرها بالعربية تحت عنوان تطور القطاع الصناعي في العراق في فترة لاحقة، وركز فيه على القطاع الخاص، كما أصدر لاحقاً كتاباً عن "القطاع العام" في العراق، الصادر عن دار الرواد للطباعة، بغداد، 1977.   
9) راجع: د. عباس النصراوي، التنمية والنفط 1958-1968، الفصل الثالث من كتابه الموسوم "أعباء العراق ـ النفط العقوبات والتخلف"، دار غرينوود للنشر في ولاية كنكتكت الأمريكية.



278
كاظم حبيب
نقاش مفتوح مع الدكتور طلال الربيعي حول الرأسمالية اللبرالية بالعراق

وصلني التعليق الآتي، على مقالي الموسوم " الصناعة والزراعة هما قاعدتا التنمية والتقدم الاجتماعي في ظل نظام ديمقراطي علماني بالعراق" المنشور بتاريخ 29/12/2017 في الحوار المتمدن وصوت العراق والناس ومركز النور ومواقع أخرى، من الأخ الفاضل الدكتور طلال الربيعي وتحت عنوان " استحالة التطور الرأسمالي- ليبرالي لاقتصاد العراق"، بتاريخ /12/2017
استاذ المحترم د. كاظم حبيب
كل الشكر على مقالك.
مع احترامي الشديد لاختصاصك ومع اني مجرد هاوٍ في المواضيع التي يتناولها مقالك، الا انه اسمح لي القول اني اجد من الصعوبة بمكان الاتفاق مع استنتاجك باعتبارك شخصا واحدا مثل الدكتور برهم صالح او غيره مسؤولا عن السياسات النيولبرالية للعملية السياسية. وانه بالطبع يمكنك ان تتمنى -على الدكتور برهم صالح أن يتخلى عن ذهنية اللبرالية الجديدة المتطرفة وليس عن فكره الرأسمالي، فهذا غير مطلوب منه، ولكن المطلوب منه أن يفكر بمصالح كل مكونات الشعب العراقي، ومنه شعب إقليم كردستان العراق، على المدى القريب والبعيد!-  ولكنه تمني لا يمكن مطلقا ان يتحقق على ارض الواقع على صعيد العملية السياسية بمجملها. فالقضية لا ترتبط اطلاقا بهذا الشخص او ذاك.
فكما نعلم ان رئيس مجلس حكم الاحتلال، بريمر، والذي تشير اليه المقالة، قد أصدر قرارات لتكريس السياسات النيولبرالية في العراق، وقد وافق على القرارات كل اعضاء مجلس الحكم وقتها. وهذه القرارات لا تزال سارية المفعول قانونيا.
ولكون العملية السياسية هي صناعة بريمرية بامتياز، لذا لا يمكن لها ان تكون سوى عملية محكومة بقرارات بريمر النيولبرالية. ولذا انه من غير الممكن ان يتوجه العراق توجها رأسماليا ليبراليا وكما تدعو اليه مقالتكم. كما ان الطبقة الحاكمة في العراق هي برجوازية كومبرادورية ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالرأسمال العالمي كتابع له. ولذا فان طريق التطور الرأسمالي الليبرالي في العراق مسدود الأفق بغض النظر عن ميزان القوى الآن او لاحقا في ظل العملية السياسية.
واني اعتقد ان اقتصاد العراق محكوم عليه بالفشل الى ابد الآبدين ان لم ينح منحا اشتراكيا. وهنا يكمن التحدي الكبير او الهائل الذي تواجهه القوى اليسارية التي يتحتم عليها بأسرع وقت ان تعي ان تطور العراق لا ريعيا والنهوض باقتصاده انتاجيا على صعيد الصناعة والزراعة هو عملية مستحيلة بوجود العملية السياسية التي تحكمها قرارات بريمر والتي تقوم بتنفيذها برجوازية كومبرادورية لا يهمها سوى تكريس تبعية العراق للرأسمال العالمي.
مع وافر تقديري واحترامي
**********************
أخي العزيز الدكتور طلال الربيعي المحترم
تحية طيبة وتمنيات بعام جديد وسعيد،
ابتداءً لك شكري على تفضلك بقراءة المقال والتعليق عليه. وهو تعبير عن اهتمامك بقضايا الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وهي ليست ملاحظات هاوٍ بقدر ما هي وجهة نظر احترمها وقابلة للنقاش، وسأحاول ذلك فيما يلي:
أولاُ: اتفق معك تمام الاتفاق بأن ما خطط للعراق ونفذ من جانب الإدارة الأمريكية كان الدفع باتجاه إقامة وتكريس علاقات رأسمالية تابعة وبمنحى نيولبرالي وجد تعبيره في القوانين التي وضعها المستبد بأمره پول بريمر والمهيمن على السلطة وقراراتها، ووافق عليها مجلس الحكم الانتقالي من جهة، والدور المحدد الذي مارسته المؤسسات المالية الدولية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس، في فرض شروطهما المعروفة دولياً للدول النامية على مجلس الوزراء العراقي حينذاك من جهة ثانية، ووجود أغلبية كبيرة في مجلس الحكم الانتقالي، وفيما بعد الحكومات العراقية المتعاقبة، وافقت على تلك الشروط والوجهة المحددة لها من جهة ثالثة، مما أسهم في دفع العراق بالاتجاه المطلوب له. وعلينا هنا أن نتذكر شروط هذه المؤسسات الدولية والمتمثلة في نموذج وسياسة "التثبيت والتكيف الهيكلي" بالارتباط مع الموق من ديون العراق الخارجية. إلا إن الحكام الإسلاميين السياسيين الطائفيين والقوميين الذين تسلموا الدولة بسلطاتها الثلاث، بدعم من الولايات المتحدة وإيران، وهم أجزاء من الفئات الرثة والبرجوازية التجارية الكومبرادورية المتخلفة، لم يعوا بعمق الوجهة التي زرعها بريمر بالعراق، وحتى من فهمها منهم لم يهتم بذلك، بل توجه اهتمامهم صوب نهب الموارد المالية والاغتناء الذاتي، والتركيز على تشديد السمة الريعية والاستهلاكية غير الإنتاجية في الاقتصاد العراقي، أي أنهم حتى لم يهتموا بتـأمين مستلزمات تطور القطاع الخاص في الزراعة أو في تطوير الصناعة النفطية، عدا الاستخراجية. وكان لإيران وتركيا دورهما البارز والمميز في الدفع باتجاه الرثاثة الفعلية والتبعية الكاملة للاقتصاد الإقليمي والدولي. وقد حقق البلدان، إيران وتركيا، أرباحاً طائلة على حساب الاقتصاد العراقي، كما استطاعوا زرع أجهزة أمنية في كل مكان وتعزيز دورهما في حياة البلاد السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الاقتصادية، ولاسما إيران في كل العراق، وتركيا بالإقليم على نحو خاص. كما إن الصراع الطائفي، الذي كانت خلفه وأساسه مصالح اقتصادية للقوى الأجنبية المؤثرة على القوى السياسية المحلية، إضافة إلى القوى المحلية ذاتها، قد أسهم بدوره في شل أي قدرة فعلية على تطوير الاقتصاد العراقي ومعالجة بعض مشاكله، بل عمقت هذه السياسة البائسة والرثة في المزيد من تشوه بنية الاقتصاد العراقي، بما فيه اقتصاد الإقليم أولاً، وإلى استمرار التشوه في بنية المجتمع الطبقية ثانياً، وكل ذلك أثر بقوة على استمرار تدني مستوى الوعي الفردي والجمعي بالعراق. ولا شك في أن هناك قوى حاكمة ومجتمعية مهيمنة كانت ولا زالت تعمل من أجل نشر الفكر والممارسة النيولبرالية بالاقتصادي والمجتمع بالعراق، وهو ما يفترض أن يتم التصدي له والكشف عنه وفضحه. كما إن السياسة المالية ولنقدية قذ خضعت من الناحية النظرية والعملية لهذا النهج المخالف لمصالح الاقتصاد والمجتمع. 
ثانياً: أتفق معك بأن كل القوى التي شاركت في مجلس الحكم الانتقالي، ومن ثم في مجلس الوزراء لثلاث دورات (علاوي، الجعفري، المالكي دورتين، والعبادي الحالي)، تتحمل مسؤولية الموافقة على النهج الذي اختطه بريمر، رغم طرح بعض الآراء المخالفة والتي انتقدت سياسة وتوجهات بريمر في العمليتين الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرهما السلبي الشديد على واقع العراق وتطوره اللاحق وكذلك دوره في فرض المحاصصة الطائفية والأثنية في الحكم وبدعم مباشر من الدولة الإيرانية، إلا إنها لم تكن مؤثرة ولم تمنع حصول ما أراده المهيمنون على الحكم، إذ إن الخط العام وزخم التدخل الخارجي وطبيعة الحكم ذاتها والفئات التي تسند هذا الحكم وتتبناه ويعبر عن مصالحها، كان وما يزال يمتلك القدرة على التحكم بوجهة التطور الاقتصادي بالعراق. وحين نتابع كتابات تلك الفترة سنجد أمامنا الكثير من الصراعات الفكرية والسياسية بهذا الصدد والتي نشرت في المواقع الإلكترونية العديدة. إلا إن القوى السياسية الحاكمة وهي الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية منها والسنية والأحزاب الكردستانية، كانت تجد في ذلك ضالتها للوصول إلى الموارد المالية النفطية لتغتني بها ذاتياً وتساوم المجتمع على تحسين شكلي ومؤقت لمدخولاتها، ولكن في الحقيقة قد سعت إلى تجنب أي تنمية اقتصادية حقيقية أو أي دور فعلي لقطاع الدولة الاقتصادي، كما أهمل توفير مستلزمات تطور القطاع الخاص والمختلط. إنها الرثاثة بعينها، وأهملت بالتمام مصالح المجتمع ولاسيما الفائت الكادحة وذات الدخل المحدود، مما أدى إلى ارتفاع كبير في عدد الفقراء ومن هم تحت خط الفقر المعروف للدول النامية، وتزايد كبير في عدد الذين يعانون من البطالة!  لقد كان هدف الفئات الحاكمة المتصارعة، كما هو معروف، الهيمنة المطلقة على السلطة والتحكم بالمال العام، وتأمين أوسع نفوذ في المجتمع وعليه. كان هذا الصراع وما يزال هو الذي يميز العملية الجارية بالعراق منذ سقوط الدكتاتورية البعثية وقيام نظام الاستبداد الطائفي. وهي عملية سياسية ما تزال في إطار القوى الحاكمة، وليس للمجتمع الدور فيها حتى الآن. ولكن ليست هذه الحالة ذات ديمومة بل هناك من المؤشرات ما يمكن القول باحتمال كسر هذه الحلقة البائسة والخروج من طوق القوى الإسلامية السياسية والقومية الشوفينية الحاكمة.
ثالثاً: لقد نشرت حلقات من مناقشتي للدكتور برهم صالح، وكذلك مناقشات مستفيضة أجريتها مع الأخوة الدكتور سيار الجميل والدكتور بارق شبر والدكتور محمد علي زيني وآخرين، وهي كلها تصب في رفض الرأسمالية النيولبرالية المتوحشة التي يراد فرضها على الاقتصاد والمجتمع بالعراق. وهي مناقشة للقوى الحاكمة أيضاً، وهي ليست العلاقات الإنتاجية الرأسمالية المشروطة التي يمكن ويفترض أن تتطور في الاقتصاد العراقي والتي يفترض التحكم بوجهة تطورها لصالح المجتمع والاقتصاد الوطني.
أخي الفاضل، حين أطرح وجهة نظري لا يجوز لي أن أجنح بخيالي بعيداً عن الواقع. إذ لا بد من الانتباه إلى عدة مسائل جوهرية، إذ بدونها يصعب على الإنسان تحديد وجهة تطور البلاد والقضايا النضالية التي يفترض أن تتصدر المهمات مرحلياً مع الرؤية الواقعية لاستراتيجية التنمية والتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي بالعراق:
1.   ضرورة الاستخدام السليم والعلمي للمنهج المادي الجدلي في البحث والتحليل والتدقيق في الظروف الملموسة لواقع العراق.
2.   الانطلاق من واقع الحياة اليومية للمجتمع ومن المتغيرات الجارية على الاقتصاد والمجتمع وعلى فكر ووعي الفرد والمجتمع أولاً، وكذلك التغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي ثانياً، من أجل تحديد المهمات والأهداف المرحلية والابتعاد عن محاولة القفز فوق المراحل أو حرقها.
3.   تأمين الربط العضوي بين عملية التغيير في البنية الاقتصادية والاجتماعية بالعراق، وبين تطور وعي الفرد والمجتمع وسعيهما المشترك لصالح حرية الإنسان وحقوقه المشروعة وسعادته والعدالة الاجتماعية، واستخلاص مدى الاستعداد الفعلي للمشاركة في عملية التغيير.
4.   تشخيص دقيق وسليم للقوى الاجتماعية التي يهمها إنجاز مهمات المرحلة والتي يفترض أن تتبلور في:
أ‌.   مجال تحديد المهمات في إطار برنامج تستوحيه طبيعة المرحلة،
ب‌.   وأن تكون المهمات المطلوب تحقيقها متطابقة مع القدرات الفعلية للقوى الاجتماعية والسياسية المعنية بالنضال لتحقيق المشروع الوطني والديمقراطي.
ت‌.   وثم سبل العمل وأدواته من أجل رفع وعي واستعداد الغالبية العظمى من المجتمع، ولاسيما الفئات المتضررة من الواقع القائم لإحداث التغيير المنشود.
استناداً لهذا المنهج في التحليل توصلت إلى إن على العراق أن يتخلص من بقايا العلاقات البالية ما قبل الرأسمالية، وأن يبني القاعدة المادية الإنتاجية للتطور والتقدم الاجتماعي والتي تستوجب تحقيق التراكم الرأسمالي البدائي الغائب حالياً عن الاقتصاد العراقي، أي إن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية ستأخذ ردحاً من الوقت لتنمو وتتطور بالعراق، وعليه أن يستفيد من موارد النفط المالية لهذا الغرض ولإجراء تغيير في البنية الاقتصادية بتجاه التصنيع وتحديث الزراعة واستخدام التقنيات الحديثة. ولكن الأسئلة الأكثر أهمية التي تثار هنا، منها مثلاً: من هي القوى التي ستقود المسيرة في هذه المرحلة، وما هي طبيعة العلاقة بين الاقتصاد العراقي والاقتصاد الرأسمالي العالمي، وهل هناك إمكانية لقطيعة فعلية مع الرأسمالية العالمية في حالتها العولمية الراهنة، ومن حيث مدى ومستوى القدرة على ممارسة الاستقلال في اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية وتنفيذها بعيداً عن الإملاءات الرأسمالية الدولية ومؤسساتهما المالية. طبعاً سيكون ممتازاً لو تمكنت القوى الاشتراكية التي تسعى لبناء الاشتراكية كاستراتيج بعيد المدى، دون أن تحاول حرق المراحل، الوصول إلى السلطة وأن تعمل بوحي من المنهج العلمي وعلى وفق المنظور المطروح في أعلاه، ولكن هل تتوفر مثل هذه الإمكانية حالياً؟
أن ثورة أكتوبر الاشتراكية وتطورها في فترة وجود لينين، الذي شعر بضرورة تغيير الوجهة وطرح السياسة الاقتصادية الجديدة، أي إقامة علاقات إنتاجية رأسمالية، ولكن تحت رقابة وإشراف الدولة، والتي كانت تعني رفض الإملاءات الرأسمالية العالمية على الاقتصاد الروسي، والتي ألغاها ستالين حال تسلمه السلطة، بل حتى وقبل البدء بتنفيذ النهج الجديد "النيپ". ومن ثم علينا متابعة التطور الجاري في الصين الشعبية التي يمكن أن تمنحنا القدرة على التفكير والاستفادة الواعية والعميقة من هاتين التجربتين العالميتين المهمتين. إن فشل الأولى، ولأسباب ذاتية وموضوعية، لا يعني بأي حال فشل النموذج الاشتراكي أو الفكر الاشتراكي، بل سيتحقق ذلك في آماد لاحقة.
نحن بحاجة إلى إعادة بناء الاقتصاد الوطني عبر القطاعات الآتية من حيث الملكية:
1)   قطاع الدولة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية والممكنة؛
2)   القطاع الخاص المحلي وفسح المجال له للتوظيف وبالتنسيق مع قطا الدولة في إطار خطة اقتصادية حكومية؛
3)   القطاع المختلط بين الرأسمال الحكومي والرأسمال الخاص وفي إطار الخطة الحكومية،
4)   الرأسمال أو القطاع الأجنبي الذي يفترض ويمكن أن يساهم في التنمية تحت إشراف ورقابة الدولة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع بأسره وضمن الخطة التي تقررها الدولة.
أي لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في هذه المرحلة ومراحل لاحقة. كما لا يمكن الاستغناء عن العلاقات الاقتصادية الدولية، ولكن يفترض أن تكون السياسة الاقتصادية قادرة على منع إملاءات الاقتصاد الرأسمالي العالمي ومؤسساته المالية والنقدية الدولية، وفي مثل هذه المرحلة يمكن أن تنمو وتتطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في ظل حكومة وطنية وديمقراطية. ومثل هذه الإمكانية غير متاحة حالياً بفعل وجود الحكم السياسي الطائفي والفئات الاجتماعية الرثة الحاكمة.
لا يمكن الاستغناء عن دور البرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة في الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إنها لا تخضع لرغبات هذا الإنسان أو ذاك، بل تخضع لبنية المجتمع الطبقة وطبيعة المرحلة والنضال الذي تخوضه مختلف الفئات الاجتماعية. وفي المرحلة الراهنة يمكن للبرجوازية المتوسطة الصناعية والبرجوازية الصغيرة أن تلعب دوراً مهماً في النضال من أجل الخلاص من الواقع الراهن. وهذا يعتمد بدوره على مدى قدرة ودور القوى الديمقراطية والتقدمية بالداخل، أي على ميزان القوى الداخلي. إن طبيعة الدور الذي تمارسه البرجوازية المتوسط يخضع لميزان القوى السياسي والاجتماعي، ولمصالحهما بالدرجة الأولى، إذ يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى فئة كومبرادورية خاضعة للرأسمال الإقليمي والدولي، إن غاب وزن ودور القوى الطبقية القادرة على الحد من هذا الميل وعقلنته ولجمه وإخضاعه لمسيرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ويمكن أن يكون ميلها بتجاه وطني وديمقراطي حين تكون القوى الديمقراطية وقوى الطبقة العاملة والفلاحين قادرة على فرض وجهة أخرى وحين تطرح الشعارات التي تجسد حاجات مختلف فئات المجتمع بما فيها البرجوازية المتوسطة، والمعبرة عن طبيعة المرحلة. 
ليس بمقدور من يستلهم مستلزمات التحليل السابقة أن يطرح شعارات اشتراكية لمهمات راهنة، فهو هروب إلى الأمام، يحمل معه إمكانية العزلة والانكفاء الشديد إلى الوراء، لاسيما حين لا تكون لها أي أرضية واقعية اجتماعية صالحة لذلك. ولكن الأمر الوارد حين تكون هناك استراتيجية بعيدة المدى يستلهم الإنسان منها ويعمل من أجلها دون الاستعجال بها، مع شرط عدم الخلط واستبدال التكتيكي بالاستراتيجي، إذ عندها يتحول الاستراتيجي إلى تكتيكات يومية مؤذية.
حين تشير المصادر النظرية إلى أن الاشتراكية هي عشية الإمبريالية، أي عشية التطور الكبير في العلاقات الإنتاجية الرأسمالية بحيث يصبح التناقض بين العمل ورأس المال، بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية في أسلوب الإنتاج الرأسمالي غير قابلة للمساومة، عندها ستنشأ الظروف والمستلزمات لحسم المسألة. وهذا يعني بعبارة أخرى، إذا اردنا تحقيق البناء الاشتراكي في بلادنا، فلا يمكننا أن نبنيه على التخلف والعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والعلاقات العشائرية والجهل والأمية وغياب الوعي الفردي والاجتماعي المناسبين أو غياب التنوير الديني والاجتماعي الضروريين، بل يفترض أن تنهض طبقة عاملة وعمال زراعيين وفلاحين واعين ودور مناسب للبرجوازية الصغيرة، بمن فيهم فئات المثقفين والمثقفات والطلاب والطالبات ودور أفضل للنسوة في الاقتصاد الوطني والمجتمع...الخ. أي علينا أن نعجل في بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، ولكن تحت شروط ومستلزمات مهمة وضرورية لكيلا تكون تابعة وخاضعة للرأسمال الأجنبي أو الإقليمي، بل تخضع لبرنامج وطني وديمقراطي تقدمي. لن يكون هذا سهلاً ولكنه ليس مستحيلاً في ظروف وواقع العراق من جهة وواقع العولمة الجارية في الاقتصاد والسياسة الدوليين.
كما تعرف فأن القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية واحدة، ولكن يختلف الأمر في فعلها على وفق واقع ومستوى تطور كل بلد من البلدان وواقع القوى الاجتماعية والسياسية فيه ودورها وإمكانياتها في تحقيق السوق الاجتماعي في ظل العلاقات الرأسمالية التي لا تعني الاشتراكية في أي حال، ولكنها تعني تقييد قوى الرأسمال في عملية استغلالها للطبقة العالمة والمجتمع، وتوفير مستلزمات التأثير الإيجابي على حركة السوق والقوانين الفاعلة فيه وعلى طبيعة العلاقات مع الخارج، ودور النقابات والقوى السياسية الديمقراطية والاشتراكية.
اكتفي اليوم بهذا القدر وسأحاول أن أنشر قريباً مقالاً أوسع بهذا الصدد. مع شكري وامتناني لإثارة الموضوع وأملي التواصل في الحوار والمناقشة. مع الود والاحترام. كاظم حبيب، بتاريخ 31/12/2017   

279
كاظم حبيب
الأوضاع القائمة بمحافظة نينوى وتلكؤ معالجتها والعوامل الكامنة وراء ذلك!
(6-6)
سُبل معالجة عواقب الكوارث التي حَلَّت بالعراق، ولاسيما المناطق التي نُكِبت بالدواعش!
هناك العديد من التصورات والمقترحات المطروحة التي ترى ضرورة الالتزام بها لمعالجة أوضاع ما بعد داعش، أو ما بعد التحرر من عصابات داعش، في حين ما يزال العراق يواجه نظام المحاصصة الطائفية والفساد الذي تسبب فيما تعاني منه الموصل وسهل نينوى وبقية المحافظات الغربية، إضافة لما يتوقع حصوله من مشكلات إضافية بسبب استمرار وجود الحشد الشعبي على الصعد العسكرية والسياسية والاجتماعية. (ملاحظة: يمكن قراءة الكثير من المقالات في هذا الصدد ونشير هنا إلى: 1) الدكتور سيار الجميل في مقال له بعنوان "هل تعود الموصل إلى الحياة.. كما هيروشيما؟ موقع العربي الجميل، بتاريخ 24 تموز/يوليو 2017؛ 2) الدكتورة أسماء جميل رشيد، في بحثها الموسوم "التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل – رؤية استشرافية"، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 389، أيار 2017، ص 28-39).   
أن الحلول الواقعية يفترض أن تستند إلى قواعد عمل ثلاث:
** استخدام المنهج العلمي في دراسة وتحليل القضية أو القضايا المطروحة للمعالجة؛
** الاستناد إلى الواقع الموضوعي القائم لرؤية ما يمكن تحقيقه بعيداً عن الرغبات الذاتية أو الحلول المتخيلة، رغم أهمية وصواب استخدام خصوبة الخيال غير الجامح في مجمل العملية، وفهم التعقيدات المحيطة بالقضية والمتشابكة معها؛
** فهم واستيعاب دروس التاريخ التي مرّت على القضية أو القضايا التي يراد معالجتها وعلى أولئك الذين كانوا جزءاً من هذا التاريخ.
واستناداً إلى هذه الرؤية فأن صيغ العلاقات الماضية بين اتباع القوميات والديانات والمذاهب بالعراق لم تكن مثمرة وسليمة ودافعة نحو الأفضل والعيش التضامني المشترك. وهذا التقييم والتقدير لا يعودان إلى خلل في الإنسان العراقي ذاته، بل هو خلل أساسي في طبيعة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سادت العراق على مدى تاريخ طويل، إضافة على عدم إصلاحه في أعقاب الخلاص من الحكم العثماني والوقوع تحت وطأة الاستعمار البريطاني وقيام الدولة الملكية العراقية في العام 1921 وعلى أيدي قوات الاحتلال البريطانية وحكام تربوا في الدولة والثقافة والتراث العثماني والإسلامي، والذي لم يكن متناغماً مع حضارة القرن العشرين وتطلعات الشعوب في التحرر والتقدم. كما أن غياب التنوير الدين والاجتماعي ودور المؤسسات والمرجعيات الدينية غير الإيجابي عموماً لعب دوره المميز في استمرار شيوع الأحكام المسبقة على اتباع الديانات بالعراق وعواقبه السلبية على العلاقات بين السكان. والنظم التي سادت بالعراق لم تسع إلى بناء المجتمع على أسس ديمقراطية وحياة مدنية ونهج عقلاني وتنويري لتحقيق التعايش بين قوميات العراق العديدة وأتباع دياناته ومذاهبه المتعددة واتجاهاته الفكرية واسياسية الديمقراطية. وتجلى ذلك في ستة محاور جوهرية هي:
1.   النهج القومي الشوفيني في حكم العراق منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الملكية.
2.   النهج الديني الطائفي بالدولة العراقية، حيث اعتبر الإسلام دين الدولة والمذهب السني هو الموجه للحكم، رغم عدم النص على المذهب في الدستور.
3.   ورغم إن الدستور في اغلب بنوده كان دستوراً ديمقراطياً ومتقدماً على أوضاع العراق وبنيته الاجتماعية والتعليمية والثقافية والاقتصادية حين أقر، فأن الممارسة الفعلية سجلت تجاوزات فظة على الدستور من السلطتين التشريعية والتنفيذية، إلى جانب التدخل السياسي الفظ في شؤون السلطة القضائية لصالح كبار الملاكين وشيوخ العشائر، وضد قوى المعارضة السياسية.
4.   ومع إن العراق توجه في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية صوب التصنيع النسبي وتطوير الزراعة، إلا إن الجهود لم تكن موجهة بصورة عقلانية وواعية والتي لم تنعكس في مجال التربية والتعليم، ولاسيما التعليم المهني الضروري لأي تنمية اقتصادية بالعراق، وجرى التركيز على التعليم الإنساني، ولاسيما كلية الحقوق، لتوظيف الخريجين في دوائر الدولة.
5.   وخلال الفترات المنصرمة لم يعرف العراق فترة تميزت بنهج سياسي ديمقراطي وحياة حرة وكريمة، بل كان الاستبداد والقمع والاضطهاد وسيف أجهزة التحقيقات الجنائية، التي تأسست في فترة الاحتلال البريطاني، ومن ثم أجهزة الأمن الداخلي والشرطة العراقية، مسلط على رقاب الشعب عموماً ولاسيما قوى المعارضة. وبالتالي لم يتمتع العراق، رغم مشاركته في وضع اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في العام 1948 والمصادقة عليها، بحقوق الإنسان وحقوق المواطنة وحقوق القوميات، وحقوق أتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفلسفية والفكرية والسياسية.
6.   وعاشت المرأة العراقية على امتداد العقود المنصرمة تحت وطأة التخلف والتمييز ضدها وضد حقوقها لا من الرجل فحسب، بل ومن قوانين وتشريعات الدولة العراقية وقانون العشائر وتقاليد العشائر العراقية إزاء المرأة والتربية الإسلامية المتخلفة التي عانى منه المجتمع والتي حرمت المجتمع من نصفه من المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالشكل المطلوب والواعي والهادف إلى تغيير الأوضاع القديمة والتقاليد البالية. ومن هنا يمكن تأكيد أن الإسلام لم يعرف التنوير، وإن الشعب العراقي لم يتعرف على مفهوم ومضمون التنوير الاجتماعي للتخلص من خرافات وأساطير بالية تراكمت بشكل مضر جداً على ثقافته وتقاليده وأعرافه، والتي لا يمكن التخلص منها بسهولة، ولكن ليس الأمر مستحيلاً، وبالتالي لا بد من العمل بهذا الاتجاه.       
إن الهدف من الإشارة السريعة إلى هذه المسائل هو تبيان الحقيقة التالية: إن الأوضاع التي ما تزال سائدة بالعراق، والتي تجد تأثيرها السلبي على السعي لمعالجة المشكلات المتفاقمة، تستوجب الغوص الأعمق في أوضاع العراق من جهة، كما تستوجب التغيير الأكثر جذرية لنظام الحكم الطائفي السياسي القائم بالعراق حاليا من جهة ثانيةً. فمن أجل أن تكون المعالجة فاعلة وناجحة وسريعة نسبياً على مستوى العراق كله، واستناداً إلى تجربة أكثر من تسعين عاماً في إطار الدول العراقية الحديثة التي بدأت في العام 1921، وانطلاقاً من حقوق الشعوب في تقرير مصيرها في أجواء من الحرية والديمقراطية، لا بد من تأكيد أهمية وضرورة إجراء تغيير جذري في طبيعة الدولة العراقية الهشة القائمة، وفي طبيعة نظام الحكم الطائفي-الأثني المشوه القائم منذ العام 2003، لصالح إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، الدولة العلمانية، والحكم المدني الديمقراطي الدستوري البرلماني النزيه. إن الوصول إلى هذا الحل لا يمكن أن يتحقق دون توفير مستلزمات أو شروط تسمح بتأمين إجراء التغيير الفعلي في ميزان القوى لصالح القوى المدنية الديمقراطية العلمانية المناهضة للنهج الطائفي والأثني في الحكم وفي المجتمع، واعتماد مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة بين أبناء الوطن الواحد المتعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والفلسفية والسياسية. أي إقامة دولة تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، والفصل بين الدين والدولة والدين والسياسة، وتمنع قيام أحزاب تستند إلى الدين أو المذهب، وتلك التي تمارس الطائفية السياسية في مناهضة الديانات والمذاهب والفرق المذهبية الأخرى، وحين يبدأ المجتمع بانتخاب وتكوين مؤسساته الديمقراطية والنزيهة في سلطات الدولة الثلاث.
هذه الوجهة في النضال لا يمكن تحقيقها على وفق رغبة أو إرادة ذاتية، كما يتمناها الإنسان العراقي، سواء أكان رجلاً أم امرأة، بسبب التركة الثقيلة لعقود طويلة من الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والحروب والحصار والحرمان والعنف الحكومي وغير الحكومي، إضافة إلى التركة الجديدة التي أضافها النظام السياسي الطائفي الحالي منذ العام 2003 إلى تلك التركة الماضية، والتي يجد المتتبع واقعها في تخلف مستوى وعي الفرد والمجتمع وقدرته على مواجهة الأحداث وميله نحو الطائفية السياسية وخضوعه الشديد لشيوخ الدين وأحزاب الإسلام السياسي بفعل وتأثير شيوخ الدين. إضافة إلى إصرار القوى الاجتماعية الرثة الحاكمة على البقاء في السلطة وعلى ممارسة النهج نفسه والسياسات ذاتها التي أوصلت العراق إلى الحضيض والمستنقع الذي هو فيه الآن، رغم محاولاتها تبديل جلودها بجلود فاقعة مزيفة لا يمكن خداع الجميع بها.
ولكن لا يخطئ الإنسان حين يشير إلى الحراك السياسي الشعبي المستمر بالعراق والمنقطة وعلى الصعيد العالمي، وكذلك الحراك النسبي في وعي الإنسان وإدراكه لما جرى ويجري اليوم بالعراق من كوارث مرعبة لا حصر لها، ومن إرهاب وفساد مالي وإداري شاملين، وهذا ما تؤكده محاولات أحزاب وقوى الإسلام السياسي في استخدام لغة جديدة وحديث آخر يبرّز الأخطاء السابقة ويبررها، ويدعو برياء وزيف شديدين إلى الدولة المدنية، التي يفهمونها بطريقتهم الخاصة ولا تنتهي بتغيير في نهجهم وسياساتهم وسلوكهم الفاسد. ولكن وعي الإنسان العراقي الفردي والجمعي لم يصل إلى المستوى القادر على التمييز بين الغث والسمين، بين الصدق والكذب، بين الحقيقة النسبية وزيف الادعاءات الجديدة التي تطلقها هذه القوى والأحزاب الإسلامية السياسية في رغبتها لتحقيق التغيير المنشود. ترى قوى الإسلاميين السياسيين، ومنهم الأحزاب المؤتلفة في البيت الشيعي، بأن الديمقراطية تعني "الاليات الديمقراطية وليس مع مبادئ الديمقراطية" (علي الأديب شراسة التصلب العقائدي .. وكاشان الفقيه، تقرير واحة الحرية الإخباري، قسم سياسية، كاريكاتير، بتاريخ 07/03/2013). إذ يؤكد علي الأديب على ذلك أو كما قال في ندوة تلفزيونية: "الديمقراطية ليست الفلسفة التي يلتزم بها حزب الدعوة، بل هي أداة"، (أنظر: كاظم حبيب، دكتور، حزب الدعوة ومفهوم ممارسته للديمقراطية في العراق، موقع الحوار المتمدن في 16/10/2010)، أي إنها أداة تستخدم للوصول إلى السلطة لا غير! وحين وصلت الأحزاب الإسلامية السياسية إلى السلطة داست بأقدامها على حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية ودفعت بالعراق في مستنقع الرثاثة والموت والدمار. وكان على رأس هذه القوى حزب الدعوة والمجلس الأعلى والمليشيات الطائفية المسلحة. لهذا يستوجب مواصلة العمل باتجاهين: أولاً، فضح زيف هذه الادعاءات والكشف عن خطط هذه القوى في البقاء على رأس السلطة وممارسة السياسات الطائفية المبتذلة ذاتها؛ وثانياً، تكثيف إعمال العقل لمتابعة ما يجري بحس ديمقراطي مرهف ومسؤولية وطنية والتحري عن الحلول العملية للواقع الراهن والتخلص من النظام السياسي الطائفي والصراعات الطائفية والأثنية بالعراق، والتي يفترض أن تتجلى بصياغة أهداف مهنية ووطنية ديمقراطية مقبولة وقابلة للنضال والتحقيق والتعبئة الشعبية الواسعة حولها.
وإلى أن يتحقق توفير مستلزمات التغيير المنشود في الواقع العراقي، لا يمكن ولا يجوز للنازحين والمتضررين من السياسات الطائفية والنهج العدواني المدمر منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة أولاً، ومنذ الاجتياح الداعشي للأنبار وصلاح الدين والموصل وعموم سهل نينوى وعواقبه ثانياً، أن ينتظروا معالجة أوضاعهم المأساوية إلى أن يتحقق التغيير الجذري المنشود، بل لا بد من العمل في إطار الوضع الراهن باتجاهين رئيسين:
أولاً: العمل من أجل التغيير المباشر والسريع في أوضاع النازحين والمناطق التي حررت من داعش واستكمال تحرير المناطق التي ما تزال تحت احتلال عصابات داعش المجرمة. من هنا يستوجب العمل بجميع الأساليب والأدوات المتوفرة لزيادة الضغط الشعبي الداخلي والإقليمي والدولي، سواء أكان على مستوى الرأي العام العالمي، أم على مستوى المجتمع الدولي (الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية (اليونسكو واليونيسيف ولجنة حقوق الإنسان)، والمنظمات الإنسانية الأخرى، ومنها منظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية ومنظمة العفو الدولية، لصالح ممارسة سياسات عقلانية في المناطق التي تعرضت للإرهاب الداعشي والطائفية السياسية، لصالح النازحين الذين يعانون الأمرين وأولئك الذين ما زالوا في المناطق التي اغتصبها تنظيم داعش الإرهابي وحررت أخيراً. فما العمل؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالأفكار التالية القابلة للنقاش والتي هي قابلة للتحقيق من حيث المبدأ:
** إبقاء التقسيمات الإدارية التي كانت قبل هيمنة داعش على الموصل والمناطق الأخرى على حالها أولاً ودون تغيير. على أن يتم تشكيل لجنة عراقية مستقلة ومحايدة تماماً ومن شخصيات مقبولة من جميع الأطراف، مع مشاركة دولية من جانب الأمم المتحدة وعناصر مختصة في القانون الدولي، تقوم بدراسة الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق حول المناطق المتنازع عليها استناداً إلى المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 لوضع مقترحات ملزمة للتنفيذ من جانب الحكومتين لحل تلك الإشكاليات وآليات تنفيذها على أن ينتهي العمل بذلك خلال سنتين فقط كحد أقصى.
** دراسة واقعية لأوضاع السكان العراقيين المسيحيين والإيزيديين وغيرهم في المناطق التي تعرضت للاجتياح والإرهاب والنزوح والهجرة، ولاسيما بالنسبة للمسيحيين الذين يطرحون مشروع إقامة محافظة في سهل نينوى. 
** تشكيل حكومة محلية مستقلة عن الأحزاب والقوى السياسية العراقية قوامها شخصيات مستقلة تكنوقراطية يتسمون بالنزاهة والاستقامة والمهنية العالية من أبناء وبنات محافظة نينوى، تدرك عمق المشكلات التي كانت بسبب النشاط الطائفي السياسي والتي تراكمت بفعل الاجتياح لمعالجة جملة المشكلات التي تعاني منها محافظة نينوى بمركزها الموصل وأقضيتها ونواحيها. إن إبعاد كل العناصر التي شاركت فيما وصل إليه الحال بالموصل وسهل نينوى أمر ضروري لتجنب بروز إشكاليات جديدة.
** تشكيل هيئة إعمار مركزية ترتبط بالحكومة المحلية وتابعة من حيث المبدأ للحكومة الاتحادية لتمارس نشاطها في إعادة بناء البنية التحتية التي دمرتها المعارك، ولاسيما الماء والكهرباء والشوارع والجسور، إضافة إلى إعادة إعمار الدور المدمرة جزئياً أو كلياً، وتنظيم عملية إعادة النازحين وحل المشكلات المحتملة بين الجماعات السكانية على أسس ديمقراطية وإنسانية، والتصدي لمحاولات أخذ الثأر أو أعمال الانتقام. (قارن: سيار الجميل، دكتور، هل تعود الموصل إلى الحياة.. كما هيروشيما؟، مصدر سابق).
** ومن أجل تعجيل مهمة إعادة البناء اميل إلى المقترح الذي طرحه السيد الدكتور الناصر دريد بشأن الاتفاق مع مجلس الأمن الدولي بالتزامه المشاركة الدولية في إعادة إعمار المناطق التي تعرضت للإرهاب والقمع الداعشي والفساد العراقي العام في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين على طريق ما حصل بالنسبة لألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية حيث وضع مشروع مارشال لإعادة بناء المانيا. ويمكن أن يتسع هذا المشروع ليشمل العراق كله ولينقذنا في الوقت نفسه من تدخلات دول الجوار التي تريد تحويل العراق إلى شبه مستعمرات لها، كما هو حال إيران مع العراق حالياً. 
** وضع ميزانية مالية كافية وعلى وفق برنامج مدروس لإعادة إعمار المناطق المخربة وإعادة النازحين وتأمين البنى التحتية الضرورية باتجاهين: المسائل الآنية التي لا تقبل التأجيل وتلك التي تنجز بمرحلة لاحقة.
** تشكيل هيئة من شخصيات مستقلة واعية لما حصل في هذه المنطقة من العراق لتمارس عملاً إنسانياً كبيراً هادفاً إلى توفير أجواء المصالحة والتسامح والعودة إلى العيش والحياة المشتركة، على أن تبدأ عملها منذ الآن، لأن هذا هو السبيل العقلاني الوحيد القادر على تجاوز كوارث الماضي والحاضر ببناء جسور الثقة والأخوة والمودة والاعتراف المتبادل بالآخر والتسامح.
** منع وتحريم أي تدخل أجنبي ومن دول الجوار بالشأن الداخلي لمحافظة نينوى أو كركوك أو المحافظات الأخرى والعراق عموماً التي تعرضت لإرهاب داعش، واعتبار أي تدخل من أي طرف إقليمي أو دولي بمثابة محاولة ثلم الاستقلال والسيادة الوطنية والتأثير السلبي على السير السلمي والديمقراطي للأحداث. 
** العمل على سحب السلاح، كل السلاح من أيدي السكان والمليشيات المسلحة بأي مسمى جاءت، وتالك التي في الحشد الشعبي وفرض احتكار السلاح بيد الدولة، مع العمل المتواصل لتثقيف أجهزة الدولة العسكرية والمدنية بروح المواطنة المشتركة وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والسلام والعدالة الاجتماعية.
** تحريم الدعاية الطائفية السياسية والأثنية المحرضة ضد الآخر والمحفزة للصراع والنزاع وتقديم الفاعلين للقضاء، إذ أن معاناة العراق من الطائفية السياسية والحكم الطافي السياسي كان مريراً وكلف المجتمع مئات الآلاف من الضحايا ومئات المليارات من الدولارات الأمريكية وخراب ودمار شامل وأحقاد وكراهية واسعتين.
** تأمين مراكز طبية ونفسية لمعالجة المصابين بمختلف العلل الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة والنزاعات الطائفية والأثنية، وبشكل خاص بين الأطفال والصبية والشبيبة، وكذلك بين النساء. ولا بد من جلب المختصين من بلدان أخرى للمشاركة في هذا العملية، إضافة إلى إقامة وتنشيط مراكز البحوث النفسية والبحث العلمي ووضع برامج للمعالجة. فالدراسات المتوفرة تشير إلى أن داعش قد استخدم الأطفال المختطفين لأغراض شتى، ومنها تدريبهم على العنف والتوحش في قتل المناهضين لتنظيم داعش. وفي هذا الصدد كتب الباحث الدكتور علي عبد الرحيم صالح، في بحثه الموسوم "الجنود الأطفال في العراق.. دراسة نفسية عن أطفال الخلافة والموت والانتحار" نشر في جريدة المدى بتاريخ 5/5/2015 ما يلي: "بعد تلقين الاطفال وضمان ولائهم للجماعة، يقوم القادة والمدربون الداعشيون باختبار قدرات الاطفال ومدى تحملهم للمهمات القتالية في معسكرات خاصة مثل معسكر (اشبال ابي بكر البغدادي) ومعسكر (ابن تيمية) ومعسكر (اطفال الخلافة)، وبهذا الصدد تقوم الجماعة الاسلامية المتطرفة بتصنيف الاطفال وفق المهمات المرغوبة والملائمة لمستوى قدراتهم البدنية والعقلية والاجتماعية، ووفقا لذلك يمتلك داعش صنوفا متعددة من الجنود الأطفال". (أنظر: علي عبد الرحيم صالح، دكتور، الجنود الأطفال في العراق.. دراسة نفسية عن أطفال الخلافة والموت والانتحار، جريدة المدى، 5/5/2015).
ثم يشير في موقع آخر من بحثه إلى الآتي: "يستعمل داعش آليات نفسية شديدة الخطورة مع الاطفال عند توجيههم وتلقينهم عمليات القتل والذبح، إذ نشاهد في الكثير من مقاطع الفديو المنشورة على مواقع الانترنيت بعض الاطفال يقومون بالقتل وقطع الرؤوس، وحرق جثث الجنود والمدنيين. واشار عدد من الاطفال الذين تم أسرهم على يد القوات العراقية الى بعض هذه التقنيات: فبعد ان يتعرف القادة الداعشيون على استعداداتهم للقوة والعدوان، يقومون بتدريبهم على قطع رؤوس دمى ترتدي زيا عسكريا يشبه الجنود العراقيين او الأمريكان، وذلك بعد القيام بذبح الجنود الاسرى امامهم، ويكون ذلك مصحوبا بجو من التكبير والتهليل والتشجيع، وبصورة تدريجية ومع التلقين وزرع الكراهية في نفوس الاطفال يكون (اطفال الخليفة او ابناء ابي بكر البغدادي) قد تحولوا الى ذباحين محترفين." (المصدر السابق نفسه). ومن هنا تنشأ المهمة الخطيرة للحكومة العراقية في إعادة تأهيل الأطفال بعد الانتصار على داعش عسكرياً، إذ ستبقى اثار ذلك الاحتلال كبيراً على الأطفال الذين عاشوا ما يقرب من ثلاث سنوات تحت حكم عصابات داعش القتلة. وهنا يمكن العودة إلى بحث قيم للدكتور فيان عبد العزيز والمهندس الاستشاري نهاد القاضي الموسوم " أزمة ما بعد الأزمة وحقوق ضحايا جرائم حروب التطهير العرقي"، حيث تقدم الدراسة مقترحات مهمة لمعالجة المشكلات النفسية للنساء والأطفال بعد الانتهاء من كارثة احتلال الموصل وعموم نينوى. (انظر: فيان عبد العزيز، دكتورة، ونهاد القاضي، أزمة ما بعد الأزمة وحقوق ضحايا جرائم حروب التطهير العرقي، أبحاث مؤتمر أربيل مؤتمر حول "الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ومستقبل الإيزيديين والمسيحيين بالعراق"، في 8 و9 من شهر شباط/فبراير 2015).
** اتخاذ الإجراءات الضرورية والكفيلة والعمل المسؤول لقوىً واعية لإزالة أثار النشاط الفكري والإفتائي والعملي الذي مارسته عصابات داعش وغيرها في مناطق نينوى والأنبار وصلاح الدين والحويجة وغيرها من المناطق التي تعرضت لاجتياح أو تأثير هذه القوى. (قارن: أسماء جميل رشيد، دكتورة، "التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل – رؤية استشرافية"، مصدر سابق). 
** توفير مراكز صحية ومستوصفات متنقلة للعمل في القرى والأرياف والمناطق النائية التي تعرضت للاجتياح والتدمير لمعالجة سكانها والعائدين منهم إليها.
** دفع تعويضات مجزية لمئات الألاف من السكان الذين تعرضوا للأذى وتحملوا أضراراً مادية ومعنوية بما يساعدهم على النهوض ومواصلة الحياة والعمل.
** قيام القضاء بتشكيل محكمة جنائية تعتمد المعايير القانونية والإنسانية المتقدمة لمحاسبة من تسبب في سقوط الموصل وسنجار وبقية مناطق سهل نينوى والأنبار وصلاح الدين بأيدي عصابات داعش والعواقب التي ترتبت عليها، والتي ما تزال وستبقى تعاني منها لفترة غير قصيرة. إن مثل هذه المحاكمات الشفافة والعادلة من شأنها أن تحقق العدالة المنشودة وتمنع ممارسة مثل هذه السياسات والأساليب في العمل السياسي، إضافة إلى محاسبة الفاسدين والذي ألحقوا أضراراً فادحة باقتصاد الدولة والمجتمع والمناطق المتضررة.
** قيام وزارة التربية ووزارة التعليم العالي تدريس مواد شرعة حقوق الإنسان بأجزائها المختلفة في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات العراقية ونشرها على نطاق واسع، إضافة إلى نشر الأبحاث حول عواقب التطرف القومي والديني والمذهبي والفكري على المجتمع والعلاقات الإنسانية فيما بين افراد المجتمع من مختلف القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفلسفية والفكرية. 
** الأهمية البالغة للدور الذي يفترض أن تلعبه منظمات المجتمع المدني المستقلة والواعية لوظيفتها في المجتمع، ولاسيما في هذه الفترة، في التبشير بمبدأ الاعتراف المتبادل بين أبناء وبنات جميع القوميات والديانات والمذاهب والفرق بحق كل منها بالوجود والعمل بحرية دون الإساءة لأتباع القوميات والديانات والمذاهب والفرق المذهبية أو الاتجاهات الفكرية الأخرى، إضافة إلى ضرورة تأمين التسامح المتبادل لما وقع حتى الآن بين أبناء وبنات المجتمع على أن يحاسب كل من ارتكب جرائم بحق الآخرين أيا كان موقعه والجريمة التي ارتكبها. التسامح يأتي بعد أن يكون المجتمع قد شخص المذنبين بحق المجتمع أو بحق الآخر من أبناء وبنات المجتمع. إن الدور الذي تمارسه منظمات المجتمع المدني الديمقراطية يساهم في رفع مستوى الوعي والمسؤولية المشتركة إزاء الوطن والمواطن والمواطنِة وإزاء مكافحة العنف والقمع والاضطهاد والإرهاب والفساد المستشري في كل سلطات الدولة العراقية وفي مؤسساتها وفي المجتمع.
ثانياً: العمل من أجل التغيير الجذري لواقع العراق الراهن والتخلص من النهج والسياسات الطائفية التي ما تزال تمارس بالعراق. وهي المهمة المركزية الدائمة للمجتمع العراقي.


280

الأوضاع القائمة بمحافظة نينوى وتلكؤ معالجتها والعوامل الكامنة وراء ذلك!
5-6
المشكلات العشائرية والتقاليد البالية والمشكلات القومية

** منذ الثمانينيات من القرن العشرين بدأت الأجواء العشائرية تنتعش بالعراق بفعل سلوك رئيس الدولة حينذاك الدكتاتور صدام حسين، وسعيه لتوظيفها لصالح حروبه وتجنيد المزيد من أبناء العشائر لتلك الحروب وفي قواته الأمنية. ولكنها تفاقمت في أعقاب سقوط النظام البعثي واحتلال العراق وفرض النظام الطائفي والأثني والعشائري على البلاد. وزاد في الطين بلة رثاثة الفئة الحاكمة ونهجها وسياساتها في تنشيط الجو العشائري وربطه بالدين وشيوخه وأحزابه المشوهة وبالملالي الذين يمارسون الدعاية الدينية بين أبناء العشائر، سواء أكان ذلك بالمدن أو في القرى والأرياف. ويمكن أن يتابع القاري والقارئة هذه الحقيقة فيما حصل مع الاجتياح الداعشي للموصل ومحافظة نينوى والاعتداءات على المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان والشيعة، ثم ما حصل للسنة من أهل الموصل أيضاً، إضافة إلى التحاق جمهرة غير قليلة من أبناء هذه العشيرة أو تلك بعصابات داعش وتقديم فروض الطاعة "للخليفة النكرة ابي بكر البغدادي"، ونشوء قتلى وثارات بين الناس واعتداء جيران على جيرانهم...الخ، مما يجعل استعادة الصفاء المطلوب بين سكان مدينة الموصل وضواحيها وأقضية ونواحي محافظة نينوى، ومحافظات أخرى، عملية غير سهلة في ظل الجهل والأمية والتخلف الفكري والطائفية السائدة والفساد وانتشار السلاح في كل بيت. ومن هنا يستوجب أن تكون هناك قدرات كبيرة لحكومة ديمقراطية تستطيع استعادة العلاقات بين البشر، إلا إن مثل هذه الحكومة غير متوفرة حالياً. وهي من الإشكاليات الكبيرة التي تواجه المجتمع بالموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى والحويجة وتلعفر وغيرها من المدن التي تعرضت لاحتلال داعش، إضافة إلى المشكلات العشائرية الأخرى في المحافظات الجنوبية ومنها على سبيل لا الحصر المشكلات العشائرية الملتهبة بالبصرة والسلوك العشائري العام بالبلاد.
** كما أن عدم حل المشكلات المعقدة في المناطق المتنازع عليها قاد عملياً إلى نشوب صراعات إضافية ودفع بإجراء استفتاء بإقليم كردستان العراق وبالمناطق المتنازع عليها، مما ساعد تفاقم الخلافات وفرض سيطرة قوات الحكومة الاتحادية على أغلب المناطق المنازع عليها، ومنها كركوك وبعض مناطق نينوى وديالى، والتي يمكن أن تتفاقم مما لم تتوفر حلول عملية، وما لم تتوفر النية الصادقة لدى جميع الأطراف في معالجة هذه المسائل بروح ديمقراطية سلمية وتفاوضية بعيدة عن التهديدات واستخدام السلاح استناداً إلى المادة 140 من الدستور العراقي. ونتيجة لكل ذلك توترت بشكل غير معقول العلاقة بين الحكومتين وبدأ حصار سياسي واقتصادي من الحكومة الاتحادية غير عادل ضد الشعب الكردي، والذي يفترض أن يرفع مباشرة، ولاسيما وأن الحرب ضد داعش لم يتنته بعد فكرياً وسياسياً وخلايا نائمة وجاهزة. (أنظر: نص الدستور العراقي الدائم الذي صوت عليه في 15 تشرين الأول 2005، موقع حكومة إقليم كردستان، المادة 140 من الدستور).
لقد اتخذ مجلس النواب العراقي في 26 أيلول/سبتمبر 2016 قراراً يقضي بإبقاء محافظة نينوى على ما كانت عليه من تقسيمات إدارية في العام 2003، (أنظر: دعاء سويدان، سباق ما بعد الموصل: خرائط التقسيم حاضرة!، موقع الأخبار، أخذ بتاريخ 25/07/2017). وهو قرار صحيح بغض النظر عن طبيعة مجلس النواب العراقي الحالي. ولكن هذا القرار غير مقبول من جانب حكومة إقليم كردستان، ومن بعض القوى بنينوى أو بعض أتباع الديانات والقوميات الأخرى. لقد طرحت حتى الآن الكثير من المشاريع في كيفية التعامل مع محافظ نينوى بعد أن تحررت من عصابات داعش! فأحدها يقضي بتقسيم نينوى إلى ثماني محافظات. وهو مشروع طرح على الكونغرس الأمريكي، ولم يتخذ به أي قرار كما يبدو حتى الآن، وكأن نينوى إحدى ولايات الولايات المتحدة الأمريكية! وهناك ما يزال المشروع الأمريكي القديم، مشروع جون بايدن في العام 2006، بتقسيم العراق إلى ثلاث أقاليم أو فيدراليات اثنية ودينية ومذهبية. (أنظر: مخطط أمريكي جديد لتقسيم العراق، موقع شبكة خلك الإعلامية، بتاريخ 07/02/2017).
 كما إن هناك مشروع إقامة محافظة في سهل نينوى على وفق ما اقترحه المؤتمر الدولي الذي عقد في العام 2017 ببروكسل وبحضور أطراف مسيحية عراقية كثيرة.
** وستكون الكثير من مناطق غرب العراق وشماله وكردستان عرضة لصراع آخر شديد الحساسية والتأثير على العلاقات الإنسانية والاجتماعية، صراع حول محاولات كل طرف من الأطراف، ولاسيما الأطراف القوية والمهيمنة والمالكة لأدوات الضغط وممارسة القوة والعنف في إجراء تغيير ديمغرافي (سكاني) على مناطق بالموصل وسهل نينوى، وبتعبير أدق عموم محافظة نينوى، إضافة إلى المناطق المتنازع عليها والتي تطالب بها رئاسة وحكومة إقليم كردستان. وقد بدأت شكوى من ممارسة هذا النوع من التغيير الديمغرافي الفعلي على أرض الواقع حتى قبل تحقيق الانتصار التام على الداعشيين بالموصل أو بمحافظة نينوى عموماً، بعضها كان من قبل حكومة الإقليم وقوات البيشمركة، وبعضها الآن من قبل الجماعات الشيعية ومنهم جماعات الشبك والتركمان، وبالتعاون مع قوى في الحشد الشعبي، والتي تأتي على حساب العرب الذين سكنوا قبل الاجتياح في هذه المناطق، أو على حساب المسيحيين أو الإيزيديين الذين هم من أصل أهل هذه المناطق. وقد ذكر البحث الذي كتبته الدكتورة أسماء جميل رشيد هذه الظاهرة السلبية ومخاطرها في الفترة القادمة، كما كتب عنها ونشر الكثير من المقالات في وسائل الإعلام العراقية والأجنبية. (أنظر: أسماء جميل رشيد، دكتورة، التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل – رؤية استشرافية، مصدر سابق، ص 28-39).
إن التغيير الديمغرافي في هذه المنطقة لا يرتبط فقط بطرد سكانها منها، بل بما حصل من قتل وتشريد ونزوح وتهجير قسريين وصعوبات العودة وتراجع نسب الولادات الجديدة بين عائلات السكان الأصليين لهذه المناطق والتي ستجد تعبيرها في تغيير فعلي في بنية مدينة الموصل أو مناطق أخرى من محافظة نينوى. إن الفترات المنصرمة شهدت تغييرات ديمغرافية واسعة بالعراق لم تكن شرعية، بل كانت تجاوزاً فظاً على سكان تلك المناطق التي وقع عليها التغيير. ويمكن العودة إلى "الموسوعة الإحصائية عن التقسيمات الإدارية في الجمهورية العراقية" للواء الموصل، حسب التسمية السابقة، ولمدينة الموصل ومحافظة نينوى حسب التسمية الراهنة، مثلاً، أو لمدينة ومحافظة كركوك (التأميم في فترة حكم البعث)، أو غيرهما من الألوية في العام 1962، ليجد الإنسان التغييرات الحاصلة على التقسيمات الإدارية الحالية التي فرضتها الحكومات العراقية السابقة. إن البحث في هذه المشكلات يفترض ألّا ينسى الجانب الاقتصادي والمالي الراهن. فالعراق يعاني اليوم من وضع اقتصادي غاية في الصعبة لأسباب عدة جوهرية، هي:
1.   غياب النهج الاقتصادي السليم والرؤية الصائبة للمهمات الاقتصادية التي تواجه العراق في المرحلة الراهنة، إذ ليست هناك سياسة اقتصادية عقلانية ولا برمجة اقتصادية تساعد على استخدام عقلي للموارد المالية المتوفرة بالعراق. فالعفوية والعشوائية وغياب الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية هي الماثلة للعيان لكل من يبحث في الشأن الاقتصادي العراقي.
2.   سيادة الفساد المالي والإداري كنظام معمول به في الدولة العراقية الهشة وفي سياسات السلطات الثلاث، وبشكل خاص من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية، مع سكوت مطبق من جانب السلطة القضائية، مما أدى إلى خسارة مئات المليارات من الدولارات عبر عمليات فساد كبيرة جداً اقترنت بسياسات إفساد أمريكية وحكومية عراقية، ولاسيما في فترة حكم نوري المالكي، التي استمرت تسع سنوات عجاف ومريرة وعقيمة، وهي ما تزال سائدة حتى الآن.
3.   تراجع أسعار النفط الخام في السوق الدولية وانخفاض إيرادات العراق من صادراته النفطية السنوية، لاسيما وأن العراق يعتمد في نفطه على حسب آخر إشارة وردت من الدكتور مظهر محمد صالح، المستشار الاقتصادي والمالي لرئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي، على النحو التالي:
"تهيمن واردات النفط الخام على ترتيب وحركة ثلاثة موازين أساسية في الاقتصاد الوطني وهي الحساب الجاري لميزان المدفوعات) أو ما يسمى بالرصيد الاجمالي لميزان المدفوعات، الذي تشكل تدفقات إيرادات النفط فيه نسبة 98 % من اجمالي تدفقات العملة الأجنبية). وكذلك الموازنة العامة الاتحادية اذ تمثل الإيرادات النفطية بما لا يقل عن 92 % من اجمالي الإيرادات السنوية للموازنة العامة. والميزان الاخير هو مساهمة القطاع النفطي في مكونات الناتج المحلي الاجمالي الذي يتراوح بين 46 – 50 % من تركيب ذلك الناتج. في حين لم تزد الإيرادات غير النفطية في تقديرات الموازنة العامة لسنة 2017 على 8 ترليون دينار، منها) 5,7 ترليون دينار هي الحصيلة الضريبية منها: (4) ترليون دينار ضرائب مباشرة عن دخل الملكية (1,7) ترليون دينار ضرائب غير مباشرة كالجمارك وغيرها. إذا ما استثنينا المورد النفطي من الموازين الثلاثة المذكورة آنفاً، فإن البلاد ستنصرف الى عجز ثلاثي مركب يصعب تفكيكه في المدة القصيرة بسبب ضيق التنوع في مصادر الدخل الوطني". (أنظر: مظهر محمد صالح، دكتور، التعزيز المالي للعراق: رؤية للأعوام 2018 – 2020، موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، بتاريخ 03/08/2017).
 ولا بد هنا من الإشارة إلى أن فترة الحكم الطائفي السياسي الحالي قد عمق التشوه في بنية الاقتصاد العراقي والتبعية لاقتصاديات الخارج، ولاسيما لإيران وتركيا.
4.   ومما يزيد في الأمر صعوبة هي حرب التحرير الجارية ضد الدواعش التي لم تنته بعد رغم الإعلان عن الانتصار فيها، وسبل معالجة مشكلات النزوح ومصاعب تحقيق إعادة النازحين وارتفاع مديونية العراق الخارجية التي وصلت إلى أرقام عالية تقترب لما كان عليه العراق في فترة حكم الدكتاتور صدام حسين. وأشار الدكتور مظهر محمد صالح في ندوة اقتصادية بصدد الديون ما يلي: "بيّن صالح، أن اتفاقية نادي باريس "اتفاقية معيارية لحل الديون السيادية المترتبة بذمة العراق لـ65 دولة، منها 19 دولة ضمن نادي باريس و46 دولة خارجه". لكنه يقول إن: "الدين الداخلي بعد 2014 ارتفع من 10 مليارات إلى 46 مليار دولار، وبهذا يصبح مجموع الدين بنوعيه الداخلي والخارجي نحو 110 مليارات دولار، ضمنها ديون الخليج المعلقة لغاية نهاية 2016". (أنظر: اقتصاديون: ديون العراق تجاوزت 100 مليار دولار، ندوة معهد التقدم والسياسات الإنمائية، نشر التقرير في موقع العربية، العربية.نت، الأسواق العربية، بتاريخ 21 فبراير/شباط 2017 ).
وأضاف الخبير الاقتصادي الدكتور ماجد الصوري: "إن العراق سيقترض خلال عام 2017 نحو 17.7 مليار دولار، حسبما جاء في الموازنة العامة للبلاد، ومعنى هذا أن "القروض سترتفع بنحو ملحوظ"، متسائلا عن "قروض إقليم كردستان البالغة نحو 40 مليار دولار، وما إذا كانت ستدخل ضمن الدين العام للعراق؟". (المصدر السابق نفسه). ومنه يتبين مدى المعاناة التي ستواجه الشعب العراقي، ولاسيما النازحون، لا بسبب نقص الموارد المالية وسوء استخدامها فحسب، بل وبسبب النهب والسلب الذي تتعرض له موارد وأموال العراق على صعيد العراق كله، بما في ذلك إقليم كردستان العراق.
ومن هنا تبرز أهمية المقترح القائل بضرورة إشراك مجلس الأمن الدولي بعملة إعمار المناطق التي نُكبت بالدواعش من خلال مشروع دولي على غرار مشروع مارشال الذي أعاد بعد الحرب العالمية الثانية إعادة إعمار ألمانيا وتوفير التوظيفات المالية والخبرة العلمية والفنية والكفاءات الضرورية لإنجاز ذلك.


281
رسالة مفتوحة إلى
السيد رئيس وزراء العراق د. حيدر العبادي المحترم

تحية طيبة وبعد،
كما تعرفون، يمر العراق بمرحلة عصيبة جداً. فالطائفية السياسية والشوفينية، والتمييز الديني والمذهبي، والفساد والإرهاب، وملايين النازحين المعذبين، والبطالة المكشوفة والمقنعة، وارتفاع عدد العائلات التي تعيش تحت خط الفقر، وارتفاع عدد الأطفال المشردين واليتامى والأرامل المحرومين، وارتفاع المديونية الخارجية، كانت وما تزال هي الظواهر المميزة التي تحدد ملامح وواقع العراق الراهن. وإذا كان بعض هذه الظواهر قد نشأ بفعل سياسات النظام البعثي الفاشي استبداده الدموي وحروبه المجنونة، فأن بعضها الآخر قد نشأ وتبلور، كما تفاقم بعضها القديم، بفعل وجود وسياسات النظام السياسي الطائفي القائم على المحاصصة الطائفية والأثنية، النظام الذي يتنكر لمبدأ المواطنة العراقية الحرة والمتساوية ويأخذ حصراً بالهويات الفرعية القاتلة، والذي تسبب بما يعاني منه العراق حالياً. حين تسلمتم الحكم، باعتباركم عضواً قيادياً في حزب الدعوة الإسلامية وعضواً في قائمة دولة القانون في أعقاب إزاحة نوري الملكي من رئاسة الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة وعلى أساس المحاصصة الطائفية، تصور البعض بإمكانية تغيير الأوضاع بالعراق، في حين كانت الغالية العظمى من الشعب مقتنعة بعدم إمكانية إجراء أي تغيير جدي ما دام النظام السياسي العراقي يقوم على الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة، وما دامت القوى السياسية ذاتها في الحكم. وفي حديث مع الصديق الفقيد الدكتور مهدي الحافظ قال لي بأنكم قلتم له "يا د. مهدي أنت تعرف أني مو طائفي"! لم يقتنع، ولم أقتنع بهذا القول، إذ لا يمكن أن يكون إنساناً غير طائفي ويعمل في حزب طائفي سياسي بامتياز وتقوده شخصية سياسية طائفية حتى النخاع وبامتياز وأكثر. وقد برهن وجودكم على رأس السلطة لأكثر من ثلاث سنوات عن صواب قناعتي بأنكم لم تتخلوا عن النظام السياسي الطائفي ولا عن محاصصاته، بل سعيتم إلى تكريسه بصيغ عديدة خلال الفترة المنصرمة، ومنها قانون الانتخابات وتشكيلة المفوضية العليا للانتخابات، على سبيل المثال لا الحصر.     
لقد كان هذا النظام السياسي الطائفي الذي تقودونه اليوم، والأحزاب الإسلامية السياسية المشاركة في هذا الحكم، السبب الرئيس والأساس فيما حصل بالعراق من كوارث ومآسي وموت بالجملة وسبي واغتصاب للنساء وبيعهن في سوق النخاسة الإسلامي وخراب واسع النطاق واحتلال جديد للأراضي العراقية في محافظات غرب العراق ونينوى من قبل عصابات الإجرام والخطيئة، عصابات داعش، ومن يقف خلفها في الداخل والخارج. وأنتم كعضو قيادي في المجموعة السياسية التي تقود النظام لا بد وأنكم تشاركون بقوة في تحمل مسؤولية ما حصل بالعراق منذ العام 2004/2005.
ولم يكن ما حصل بالعراق بسبب سياسات الأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، فحسب، بل كان أيضاً بسبب التدخل الحكومي الإيراني المباشر والفظ في الشؤون الداخلية للعراق والتأثير المباشر على سياسة الدولة، الداخلية منها والخارجية، وتحكمها بمفاصل مهمة، بما في ذلك الجوانب العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، ولاسيما المذهبية. وهذا الواقع قد أخل بسيادة العراق واستقلاله، والعالم كله يشهد على ذلك ويتحدثون فيه وعنه في الإعلام العالمي بكل صراحة ووضوح. 
لقد حققت القوات العسكرية العراقية وقوات الپيشمرگة والمتطوعين انتصاراً عسكرياً مهماً على عصابات داعش أعداء الشعب العراقي، وهو ما يفرح الجميع، ولكن لا بد من الأخذ بالاعتبار الحقائق التالية:
1.   إن هذا الانتصار سيبقى نسبياً وغير مكتمل ما دام العراق لم يحل مشكلاته الداخلية ولم ينته من الصراع الشيعي السني على مستوى الأحزاب والمجتمع، وما دام النظام السياسي القائم طائفي محاصصي مولد دائم للصراعات المذهبية والدينية وتجلياتها على المستويين السياسي والاجتماعي والفساد والإرهاب، وما دام هناك من يؤجج السلوك الطائفي في النشاط اليومي للدولة ومؤسساتها وعلى صعيد المجتمع.
2.   إن داعش لم ينته فكرياً وسياساً بالعراق ولن ينتهي بالسهولة التي يجري الحديث عن تصفية وجود داعش بالعراق، إنه حلم وأمل لم يتحقق بعد.
3.   كما إن لداعش خلايا نائمة كثيرة وأخرى نصف يقظة، يمكنها في كل لحظة تفجير الوضع ثانية واحتلال مناطق أخرى تجر لحرب جديدة. وداعش يمتلك الموارد المالية ويمكن أن يتحرك من الخارج.
4.   وليس غريباً عنكم حين نؤكد: إن الوضع الاقتصادي المتردي والبطالة الواسعة والفقر المتفشي على نطاق واسع يعتبر أرضاً سهلة الحرث والإنبات من جانب القوى الإرهابية وعصابات التكفير والمليشيات الطائفية المسلحة ذات الموارد المالية الكبيرة. وبالتالي يمكن أن يظهر داعش بمنتجات جديدة بأسماء أخرى ولكن بنفس النهج والدينامية العدوانية.
5.   وما دام هناك نشاط خارجي عبر دول الجوار التي تريد جعل العراق ساحة للصراعات والنزاعات السياسية والمسلحة، كما هو حاصل بكل من سوريا واليمن، وما يمكن أن يحصل بمناطق أخرى من الدول العربية. 
6.   ولن أكشف سراً حين أؤكد بوجود قوى مماثلة لداعش فكراً ونهجاً وسياسة في صفوف الأحزاب الشيعية، وليس أدل على ذلك من وجود المليشيات الطائفية المسلحة التي تهيمن وتذل الناس في محافظات الوسط والجنوب وبغداد، وطرح مشروع تغيير قانون الأحوال الشخصية باتجاه قانون الأحوال الشخصية الجعفري الذي رفض مجتمعياً قبل الآن، والذي يتضمن، ضمن الكثير من المسائل السيئة والمنافية للدستور العراقي، تزويج القاصرات والحق في الاستمتاع بالرضيعات لمن تقرر خطبتها أو الزواج منها، أياً كان عمر الخطيب والزوج المرتقب. كما أن دور المليشيات الطائفية خارج إطار الحشد الشعبي وداخلة ستشكل المعول الذي يهدم ما تحقق من انتصار على داعش.
لا يمكن للعراق أن يستمر في ظل نظام سياسي طائفي، ولا بد من التغيير الفعلي لهذا النظام بإقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي تفصل بين الدين والدولة وبين السلطات الثلاث واستقلال القضاء والهيئات المستقلة عن السلطة التنفيذية، وتكريس حقوق الإنسان وحقوق المواطنة واحترام اتباع جميع الديانات والمذاهب وحقهم في ممارسة طقوسهم الإنسانية السليمة. ومن غير المعقول أن تتحدثوا عن التغيير وأنتم في قيادة حزب تترأسه شخصية كانت السبب وراء الكثير جداً من المصائب وأغلب الكوارث التي حلت بالعراق منذ العام 2006 حتى العام 2014 وما بعده. ولهذا فالأمل ضعيف في عملية التغيير في ظل سيادة الأحزاب الإسلامية السياسية على نظام الحكم بالبلاد. التغيير يبدأ حين يمتلك الحاكم الجرأة على تغيير نفسه، الانقلاب على أسس وقواعد تفكيره الطائفي السياسي الذي يتبنى الإيديولوجية الطائفية القائمة أساساً على الـ "أنا، والتمييز والكراهية ضد الـ "آخر"! لهذا أرى بأن من واجب المجتمع أن يناضل من أجل التغيير الفعلي والجذري أولاً، وإلى حين تحقيق ذلك لا بد من النضال من أجل معالجة خمس مسائل مركزية متشابكة ومتفاعلة:
أولاً: الموقف الرافض كلية للتدخل المتواصل في الشأن العراق من جانب دول الجوار، ولاسيما الدولة الثيوقراطية الإيرانية، التي تعتبر العراق تابعاً وخاضعاً لها وتتحكم بسياساته كما تشاء، وهي التي تزيد من توتير الأوضاع بإقليم كردستان وتمنع من اتخاذ إجراءات عملية لحل المشكلات القائمة، وكأنها تسعى لإعادة عهد الصفويين إلى العراق كله. وتساندها في ذلك الدولة التركية التي يسعى رئيسها إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء وإعادة الحياة للدولة العثمانية وبعض مستعمراتها السابقة ومنها ولاية الموصل على أقل تقدير، ليبتلع كركوك باسم "الدفاع عن التركمان!".
ثانياً: لقد أقدم رئيس الإقليم السابق على إجراء الاستفتاء بالإقليم وبالمناطق المتنازع عليها. وكانت النتيجة 93% من الذين شاركوا في الاستفتاء قد صوتوا لصالح استقلال الإقليم. لنترك جانباً حق هذا الشعب في ممارسة الاستفتاء , وأن نترك أيضاً مدى صواب أو خطأ إجراء هذا الاستفتاء في هذا الوقت بالذات، أو مدى معارضته للدستور العراقي المعروف بنواقصه والاختلالات فيه، علماً بأن الحكومة الاتحادية كانت وما تزال حتى الآن الأكثر خرقاً لبنود الدستور العراقي. والسؤال الذي يواجه كل إنسان عاقل هو: ألا يثير لديكم، وأنتم من درس في بريطانيا وتخرج منها وتلمس سبل ممارسة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب هناك، سؤالاً أساسياً ألا وهو: لماذا وقف الشعب الكردي بهذه الأغلبية الساحقة إلى جانب الاستقلال، في حين كانت أمامه فرصة إعلان ذلك في العام 1991/1992 ولم يفعلها، بل قرر إقامة الفيدرالية في أطار الجمهورية العراقية، وكانت الظروف ملائمة تماماً لمثل هذا الإعلان؟ ألا تعتقدون بأن وراء هذا الإجماع الشعبي واقع وجود علاقات غير سليمة ومخلة بقواعد العمل المشترك والالتزام بالدستور من جانب الحكومة الاتحادية أولاً وقبل كل شيء، ابتداءً من فترة حكم إبراهيم الجعفري واستمراراً في فترتي حكم نوري المالكي وفي فترتكم الجارية أيضاً، ومن جانب حكومة الإقليم ثانياً، التي تسببت كلها في بروز مشكلات كثيرة ومعقدة وزادها تعقيداً عدم التحري عن حلول عملية لها، بل الركض المشترك وراء المساومات والحلول الوقتية التي تبقي الحكام في كراسيهم البائسة، تماماً كما حصل في العام 2010 حين مُنح نوري الملكي ولاية ثانية على مجلس وزراء العراق.. الخ زوراً وبهتاناً؟ ألا ترون بأن ما حصل بعد الاستفتاء لم يقترن بإعلان الاستقلال أو ما يطلق عليه "الانفصال"، وكان يفترض أن تتوجهوا للبدء بمباحثات جدية لمعالجة المشكلات العالقة دون شروط، بدلاً من الركض وراء الحلول غير الإنسانية وشق وحدة الصف الكردي وزعزعة الاستقرار بالإقليم من جانب إيران والحشد الشعبي وما يمكن أن يترتب عن ذلك وعليه من عودة إلى نقطة الصفر في الصراع العربي الكردي؟ أرى بأن سياستكم في هذا الجانب، ورغم إن نتائج الاستفتاء لم توضع موضع التطبيق وانتهى أمرها من الناحية العملية، لا تجسد الحكمة والعقلانية التي يفترض أن يتسم بها رئيس وزراء عراقي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، أرى بأن من واجبكم الابتعاد عن محاصرة الشعب الكردي وقطع مخصصاته السنوية وتجويعه وحصاره دولياً عبر غلق المطارات بأمل أن تتشارك المظاهرات بإسقاط الوضع كله وتسهيل دخول القوات المسلحة العراقية إلى الإقليم عبر السليمانية أو مخمور، حيث يجري تحشيد غير طبيعي للقوات العسكرية العراقية والحشد الشعبي فيها. وهي أمور ستزيد الأمر تعقيداً لا بالعراق فحسب، بل بالمنطقة التي هي الآن في اشتعال كبير.
إن مظاهرات الشعب الكردي بالسليمانية عادلة ومشروعة ما دامت تتسم بروح الاحتجاج والمطالبة وبطريقة سلمية. فهم يحملون مطالب عادلة، يريدون رواتبهم وعيشهم الكريم، كما أنهم ضد الفساد الذي ساد بالإقليم كما ساد بالعراق كله، وهم ضد التمييز في التوظيف والتعامل بين الحزبيين واللاحزبيين السائدة بالإقليم، كما هي سائدة بالعراق كله.   
إن التفكير العقلاني والسليم يفترض أن يساعد على اتخاذ قرار واقعي يتلخص برفع الحصار عن الشعب الكردي ورفض تجويعه وإنهاكه ومعاقبته على حقه في التصويت، والمباشرة الفورية بمفاوضات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم لمعالجة المسائل العالقة. لقد تحدثتم قبل أيام وقلتم: لقد انتصرنا على الدواعش والانفصال. هل من الممكن أن تساوا بين طرد عصابات داعش المحتلة لمحافظة نينوى وغيرها مع استفتاء الشعب الكردي للتعبير عن رأيه وليوضح إن العلاقة مع الحكومة الاتحادية غير سليمة وليست على ما يرام وينبغي إعادة النظر بها. من المؤسف أن أقول بأن الحكام العرب بالعراق لم يستفيدوا من تجارب ودروس الماضي، وما زال بعضهم يعتقد بأن الحل العسكري هو الحل المنشود، في حين إن أي حل عسكري سيعقد القضية الكردية ويدفع بها لتكون حفار قبر النظام السياسي الطائفي بالعراق، ويكون الوضع إجمالاً وبالاً على الجميع. لقد قال البعثيون على لسان صالح مهدي عماش ب، "أن الحرب في كردستان عبارة عن نزهة ربيعية!" فكانت وبالاً على الشعب العراقي كله.
ثالثاً: العراق غارق في ثلاث مسائل إضافية وهي الفساد السائد كنظام فاعل ومدمر بالبلاد، والإرهاب غير المنقطع والذي سيجد له منافذ جديدة للقتل والتخريب، والديون المتراكمة الجديدة على العراق المقترنة ببطالة مكشوفة ومقنعة مستنزفة للدخل القومي وإيرادات النفط السنوية. وهي التي ستجعل العراق مكشوفاً على الخارج استيراداً وتصديراً ومديونية. وكل الأحاديث عن محاربة الفساد ستذهب هباءً منثورا، ما لم تبدأ بالرؤوس التي نشرت الفساد واستفادت منه في توطيد حكمها والتي لا بد وأنها قد "أينعت وحان قطافها!". وليس هناك في الحكم من يتجرأ على ذلك!!   
رابعاً: الوضع الاقتصادي المتدهور والذي مهما حاول الخبراء على تحسينه سيفشلون ما دامت السلطة بيد الأحزاب الإسلامية السياسية التي لا تمتلك رؤية آفاقية ولا استراتيجية تنموية اقتصادية واجتماعية (بشرية) وثقافية وبيئية، وهي تعيش على الاقتصاد الريعي ونهب إيرادات النفط على نحو خاص.
خامساً: الصراعات المحتدمة بين الفئات الحاكمة والتي كل منها يريد الهيمنة على السلطة لضمان الهيمنة على المال العام والنفوذ والتأثير والتحكم بالبلاد، وهو الذي يجب مقاومته بكل السبل المتوفرة. إن إشكالية الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة تبرز في أنها قائمة على أسس تقود إلى التمييز بين اتباع الديانات والمذاهب وبين أتباع القوميات أيضاً لأنها ترفض الاعتراف بوجودها من منطلق ديني متخلف هو الأمة الإسلامية. وبالتالي فأن هذا التكوين التأسيسي يثير الصراعات والنزاعات بين اتباع الديانات والمذاهب وكذلك بين اتباع القوميات، لاسيما وأن الدولة، التي لا دين لها باعتبارها شخصية معنوية، يفرض عليها هذا الدين أو ذاك بدلاً من أن تكون دولة حيادية في موقفها من الديانات والمذاهب وتأخذ بمبدأ المواطنة الموحدة والمتساوية. إن الصراع بين هذه الأحزاب على السلطة والمال والنفوذ، وهي كلها في غير مصلحة الشعب. وقد برهنت السنوات المنصرمة من الحكم الطائفي السياسي إلى أكبر عمليات فساد في العالم، بحيث احتل العراق المواقع المتقدمة في الفساد في العالم. وأكبر الفاسدين كانوا الحكام وقادة الأحزاب السياسية والتابعين لهم وأفراد عائلاتهم وحواشيهم، ولهذا انطلقت الأهزوجة اشعبية التي تؤكد: "باسم الدين باگونه الحراميه"، و "باسم الله هتكونه الشلاتيه"، إذ لا يمكن الإنسان فاسداً إلا إذا كان شلاتياً بالمعنى والمضمون والتعبير الشعبي.
لا يمكن أن يكون العام القادم عاماً جيداً للشعب العراق ما لم يتخلص من الطائفية والفساد ويعالج مشكلاته بروح ديمقراطية وسلمية، ما لم تنشأ بالعراق حكومة مدنية ديمقراطية في دولة ديمقراطية علمانية تدرك معنى حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق اتباع الديانات والمذاهب وتنأى بنفسها عن الأديان والمذاهب ولكن تحترم اتباعها وتصون حقوقهم المشروعة وتحترم حقوق القوميات وأتباعها.
مع التقدير
د. كاظم حبيب
   

282
 
الأوضاع القائمة بمحافظة نينوى وتلكؤ معالجتها والعوامل الكامنة وراء ذلك!
(4-6)
ثالثا: مشكلات الشبيبة العراقية في زمن الطائفية والفساد والإرهاب والحرب

 
ليست مشكلات الشبيبة العراقية بجديدة على المجتمع العراقي، إذ إنها ومنذ ما يقرب من ستة عقود في تفاقم مستمر اقترنت بعوامل كثيرة جاء على ذكرها الكثير من الباحثين الجادين وسجلوا الكثير من الملاحظات والاقتراحات لتغيير أوضاع الشبيبة العراقية. ولم تأخذ النظم السياسية التي حكمت العراق طيلة الفترات المنصرمة بتلك المقترحات، بل واصلت نهجها الفكري والسياسي والاجتماعي بما لم يساعد على تجاوز تلك المشكلات. وكانت ظاهرة انتحار الشباب واحدة من هذه المشكلات التي تواجه الدولة والمجتمع.
والمشكلة الأساسية بالعراق، التي كانت وما تزال تنتج الكثير من الظواهر السلبية والمشكلات اليومية، تكمن في طبيعة النظم السياسية التي حكمت العراق في هذه العقود المنصرمة حتى الوقت الحاضر، وبالتالي فأن أي محاولة لتغيير أوضاع الشبيبة والتصدي لمحاولات انتحار الشبيبة ومنع وقوعها ترتبط عضوياً بعملية التغيير الفعلي المطلوب في النظام السياسي القائم بالعراق. والتغيير يعني وجود قوى سياسية مقتنعة بأهمية وجود نظام سياسي ديمقراطي علماني يستند إلى دستور ديمقراطي حديث ودولة ديمقراطية ومجتمع مدني ومجلس نيابي منتخب بصورة حرة وديمقراطية ونزيهة، ويلتزم بتحقيق أهداف ومصالح الشعب والتقدم الاجتماعي بالبلاد. ولهذا لا بد للباحث أن يتحرى بعناية عن العوامل التي أدت وما تزال تؤدي إلى الحالة المرفوضة الراهنة، حالة تنامي محاولات الانتحار، وفي مجمل اوضاع الشبيبة العراقية وعواقبها على المجتمع العراقي.
لا شك في أن محاولات الانتحار لم تبدأ اليوم بالعراق، بل حصلت منذ عقود، وهي لا تقتصر على العراق وحده، بل كل الدول العربية تعاني من هذه الظاهرة والكثير من الدول النامية أيضاً وبنسب متفاوتة، إضافة إلى الدول المتقدمة، وأن اختلفت اسبابه الملوسة والمباشرة بالعراق أو بالدول العربية، عن تلك الأسباب الفاعلة بالدول الغربية مثلاً. وعلى عاتقنا تقع مهمة بلورة العوامل الحقيقية الكامنة وراء هذه الظاهرة واتساعها في الواقع العراقي الراهن وسبل معالجتها، إذ إن المعلومات المتوفرة تشير إلى تفاقم هذه الظاهرة في المجتمع العراقي، الذي يعاني من علل وأمراض اجتماعية وسياسية كثيرة ومتفاقمة. وقد اثارت هذه الظاهرة وتفاقهما قلق المجتمع، كما اثارت قلق الباحثين، إذ نتجت بسبب ذلك مجموعة من الابحاث التي حاولت وضع اليد على العوامل وسبل مواجهتها.
فالمعلومات المتوفرة عن منظمة الصحة العالمية تؤكد حصول 633 حالة انتحار بالعراق خلال عام 2013 لوحده، ومن المحتمل جداً أنها إحصائيات حكومية رسمية، وهي بالتالي غير دقيقة بالتأكيد. (أنظر: محمد العبيدي، الحد من انتحار الشباب في العراق … مهمة ليست بالمستحيلة، موقع كتابات، 16/05/2017).
[1] وتوزعت حالات الانتحار الفعلي على المحافظات العراقية، على وفق تصريح السيد مسرور أسود، عضو مفوضية حقوق الإنسان في العراق، على النحو التالي: "69 في ذي قار و76 في ديالى و68 في نينوى و44 في بغداد و33 في البصرة و16 بالمثنى و15 في ميسان و12 في واسط، وبيّن ان طرق الانتحار تراوحت بين الشنق بالحبل والغرق واستخدام السلاح الناري." (أنظر: المصدر السابق نفسه).
ولا بد من الإشارة مرة أخرى إلى أن هذه الأرقام لا تعدّ دقيقة، لأن "الكثير من حالات الانتحار في العراق هي حالات غير مبلّغ عنها، بسبب الدين والمجتمع، إذ يعتبر الانتحار من المحرّمات، حيث تتعامل بعض المجتمعات في العراق مع بعض حالات الانتحار على أنها فضيحة، فتختلق غالباً أسباباً أخرى للوفاة حفاظاً على سمعة الشخص المنتحر وعائلته هذا وأشارت إحصائية منظمة الصحة العالمية الى أن ذي قار سجلت أعلى حالات الانتحار في المحافظات العراقية، ومعظمها من الشباب الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاما." (أنظر: محمد العبيدي، الحد من انتحار الشباب في العراق، مصدر اسق).
  ونشرت جريدة الحياة اللندنية تقريراً بعنوان الانتحار في العراق ظاهرة يصعب دارستها، أشارت فيه إلى تصريح أحد العاملين في وزارة حقوق الإنسان، حيث  "ذكر السيد أمين أن وزارة حقوق الإنسان حصلت قبل أعوام، على معلومات مؤكدة بزيادة حالات الانتحار لدى الشباب في محافظة كربلاء، وأن أحد الباحثين أجرى دراسة عن الظاهرة لمدة 11 شهراً سجل خلالها أكثر من 120 حالة انتحار أو محاولة انتحار، غالبيتها بين الفتيات الشابات والمراهقات، وأكّد أن الوزارة أرسلت فريق بحث، لكنها لم تتمكن من الحصول على أي معلومة من الأهالي، ولا من الناجين من الانتحار، ولا حتى المستشفيات التي رفضت تزويدهم بالمعلومات." (أنظر: محمد الحيالي، الانتحار في العراق ظاهرة يصعب دارستها، جريدة الحياة اللندنية، بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2016).
وأكدت عضوة مجلس المفوضين سلامة الخفاجي للغد برس، ما يلي: "في العام 2014 سجلنا بشكل رسمي 544 حالة انتحار، وفي العام 2015 وحتى نهاية شهر تشرين الثاني سجلنا 607 حالة انتحار من بينها حالات لغير العراقيين كانت للاجئات سوريات في إقليم كردستان، مما يؤشر وجود زيادة عن العام الماضي". (أنظر: تقرير الغد برس، بعنوان ""عشق المحبوب لحبيبه" يتسيد حالات الانتحار في العراق، موقع الغد برس بتاريخ 27/كانون الأول ديسمبر 2016).
وقد أضاف التقرير تصريحاً للرائد ( م. م) الشرطة المجتمعية في وزارة الداخلية، فَضّل عدم الكشف عن اسمه لأنه غير مخول بالتصريح، في حديثه لـ"لغد برس"، فان "لدى مديريتنا تقارير تأتيها من قبل وزارة الصحة ومن مراكز الشرطة المنتشرة في عموم العراق حول وجود أي حالة انتحار وبعد متابعة تلك التقارير وجدنا أن غالبية المنتحرين هم من النساء بالنسبة للعامين الحالي والماضي وان أعمارهم تتراوح ما بين (17 – 30) عام، وأن طرق الانتحار الأكثر شيوعا ألان في العراق هي عن طريق تناول العقاقير الطبية بكميات كبيرة للنساء، وإطلاق رصاصة على الرأس بالنسبة للرجال، بعد أن كانت سابقا عن طريق الحرق للنساء والشنق بالنسبة للرجال". (أنظر: المصدر السابق نفسه).
وفي دراسة مهمة عن حالات الانتحار في إقليم كردستان العراق جاء فيها:
"ظهر انه ما بين عام 1991 و2006 ونتيجة لأسباب متعددة أقدمت 4159 امرأة على الانتحار، علماً ان الكثير من النساء اللواتي يقدمن على الانتحار وبسبب الخوف والضغوطات لا يفصحن عن اسباب قدومهن على هذه الطريقة ايضا ويتم فقط ادراج اسباب قدومهن على الانتحار تحت مسميات المشاكل الاجتماعية، الاقتصادية، الشرف، العادات والتقاليد.. الخ. عام 1991 أقدمت 39 امرأة، 1992 أقدمت 79 امرأة، 1993 أقدمت 128 امرأة، 1994 أقدمت 113 امرأة، 1995 أقدمت 153 امرأة، 1996 أقدمت 216 امرأة،1997 أقدمت 158 امرأة، 1998 أقدمت 377 امرأة، 1999 أقدمت 349 امرأة، 2000 أقدمت 202 امرأة، 2001 أقدمت 236 امرأة، 2002 أقدمت 303 امرأة،2003  أقدمت 325 امرأة، 2004 أقدمت 831 منها فقدت 200 امرأة لحياتها، 2005 أقدمت 300 امرأة، 2006 أقدمت 335 امرأة على الانتحار." (أنظر: ناقوس يدق الخطر.. انتحار النساء ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية كالاكتئاب والفصام والموقع كلدايا.نت بتاريخ 24/09/2012).
وجاء في تقرير السيد واثق عباس المنشور في الميدل ايست اونلاين بشأن حالات الانتحار ما يلي: "وحسب الاحصائيات لا يقتصر الانتحار في العراق على الرجال فحسب، بل يشمل النساء لاسيما الفتيات. وفي محافظة ذي قار هناك العشرات من حالات الانتحار العام الماضي، كان أشهرها انتحار شابة في الاعدادية بسبب خلاف مع والدها ومدرستها على العلامات الدراسية الهابطة. وتشيع في معظم مدن العراق حوادث انتحار النساء، لكن غالبيتها لا ترى الضوء، أو يخفيها أصحاب الشأن عبر تغليفها بقصص وحكايات أخرى تجنبا لإشاعة الخبر على الملأ. ورغم اتساع رقعة انتحار النساء في العراق الا انها تمر وسط تكتم شديد حول اسبابها، وذلك اذعانا للأعراف الاجتماعية والقبلية التي لا تزال تحكم المجتمع. وفي حالة نادرة، أقدمت فتاة جامعية في منطقة الصالحية في بغداد على الانتحار بتعليق نفسها بالمروحة السقفية، وتروي طالبة جامعية كيف أن صديقتها تناولت عشرات حبوب الباراستيمول لغرض الانتحار، لأن والدها رفض تزويجها بزميل لها في الجامعة. (انظر: واثق عباس، اندفاع عراقي نحو الانتحار، موقع ميدل ايست أونلاين. بتاريخ 18/05/2014).
وفي مقال موسع للأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح تحت عنوان "في الزمن الديمقراطي.. تضاعف حالات الانتحار في العراق!" جاء فيه بهذا الصدد ما يلي: "نشرت مفوضية حقوق الإنسان العراقية في مارس/آذار 2014، إحصائية، كشفت عن تصدر المحافظات الجنوبية النسب الأعلى في الانتحار، وفي مقدمتها محافظة ذي قار التي سجلت 199 حالة في 2013 (القدس العربي). وفي تصريح حديث للقضاء العراقي فقد تصدرت بغداد وكربلاء وذي قار حالات الانتحار للعام الماضي بواقع 38، 23، 22 حالة على التوالي (الحرة عراق، 05/07/2017). (أنظر: قاسم حسين صالح، أ. دكتور، في الزمن الديمقراطي.. تضاعف حالات الانتحار في العراق! جريدة المدى، بتاريخ 08/08/2017).
[ملاحظة: اعترض ثلاثة باحثين على مقال الزميل قاسم حسين صالح في رسالة موجهة له وصلت المؤلف وهم د. نصيف الحميري و د. عماد عبد الرزاق و د. محمد عباس، جاء فيها: "1. لا يوجد ما يؤيد تضاعف حالات الانتحار في العراق بل زيادة طفيفة بين السنتين بمقدار. 2. ولا زال العراق ضمن الدول الأقل في نسبة الانتحار حتى في منطقة الشرق الأوسط. 3. ما ورد من أرقام عن كربلاء وذي قار غير دقيق لان المخول بإعطاء الأرقام الدقيقة هو مجلس القضاء الأعلى حيث أن القرار في كوّن الحالة انتحار من عدمه هو قرار القاضي. كذلك يوجد خلط في الأرقام بين المحاولات الانتحارية (عددها أكثر) والانتحار. علما أن هناك تزايد في حالات الانتحار في جنوب العراق ولكن ليس بالأرقام المعلنة بالإعلام. 4. أؤيد ما جاء بمقالك حول ان النسبة الكبرى هي بين الشباب (وجدت دراستنا أنه كانت نسبة المنتحرين تحت عمر 30 سنة 68٪‏ تقريبا). 5. أؤيدك جدا في تحليلك الممتاز لأسباب الانتحار وهو نفس الاستنتاج الذي توصلنا إليه." الرسالة مؤرخة في 08/08/2017. كل المعلومات التي لدينا والمنشورة في مواقع وصحف عراقية وعربية كثيرة تؤكد صحة تحليل الدكتور قاسم حسين صالح من حيث مضاعفة أرقام محاولات الانتحار والمنتحرين فعلياً بالعراق والتي لا تكشف عنها الجهات المسؤولة عن نشر المعلومات بسبب خشيتها من عواقب ذلك السياسية والاجتماعية، إضافة إلى أن الكثير من حالات الانتحار لا تكشف عنها العائلات المبتلات. ولهذا يمكن القول بأن الملاحظات النقدية لا تصمد أمام حقائق الوضع بالعراق مع كل الاحترام للباحثين الثلاثة.  واختلف مع مقال الدكتور قاسم بشأن  "الزمن الديمقراطي" فالعراق لا يعيش في زمن ديمقراطي، بل في ظل الفكر والحكم والسياسات الطائفية المذلة للإنسان المواطن والمجتمع.. كاظم حبيب].
نحن هنا أمام اتفاق عام حول تنامي ظاهرة الانتحار أو محاولاته بالعراق بصورة مقلقة جداً. ولكن يبرز بعض التباين في رؤية الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الظاهرة السلبية في حياة المجتمع العراقي خلال العقود الستة الأخيرة. ومن الجدير بالإشارة إلى أن هناك ندرة في الإشارة إلى حوادث الانتحار في مخيمات النازحين في سائر أرجاء العراق، أي في المخيمات التي سكن فيها النازحون في مدن الوسط والجنوب، إضافة إلى إقليم كردستان. ففي تقرير عن حالات الانتحار بين النازحين بالعراق نشر في العام 2015 جاء فيه تشخيصاً دقيقاً لحالة النازحين عموما حيث أشار إلى ما يلي:
"أفرزت المآسي التي عاشها النازحون العراقيون في المخيمات، خاصة بعد أن غرقت خيامهم بمياه الأمطار مؤخراً، وما سبقها من معاناة حصولهم على العلاجات والغذاء، حصول انهيارات نفسية لدى العديد من النازحين، وصلت حد محاولة الانتحار. وأكد نازحون أن كثيرين وجدوا في الانتحار السبيل الوحيد للخلاص مما يعانونه من "صعوبات ومآسٍ"، واصفين ما لاقوه داخل بلدهم منذ نزوحهم في صيف 2014، بأنها "معاملة غير إنسانية" مشيرين إلى "عدم تأمين مناطق يسكنون بها تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، فيما تنتشر بينهم الأمراض المعدية من جراء ضعف الرعاية الصحية، إن وجدت." (أنظر: عمر الجثماني، "الانتحار".. سبيل النازحين العراقيين للخلاص من حياة المخيمات، تقرير، موقع الخليج أونلاين. بتاريخ 04/11/2015).
أما عضوة لجنة الهجرة والمهجرين النيابية لقاء وردي، فقد صرحت بأن "الحكومة تتحمل مسؤولية عمليات الانتحار في صفوف النازحين، محذرة من مغبة تزايد هذه الحالات في ظل صمت الجهات المسؤولة عن هذه القضية الخطرة. وقالت ووردي ان “عمليات الانتحار التي وصل عددها الى 15 حالة خلال الآونة الاخيرة، بين الرجال والنساء من النازحين، جاءت بسبب الشعور باليأس وعدم قدرتهم على إعالة عوائلهم، نتيجة فقدان المورد المالي وطبيعة الحياة القاسية وفقدان ابسط مقومات الحياة الانسان." (أنظر: لقاء ووردي، المهجرين النيابية تُحمّل الحكومة مسؤولية عمليات الانتحار في صفوف النازحين، موقع الحقيقة، في 18/11/2015).
لا تميز المقالات والدراسات التي تبحث في محاولات الانتحار في مخيمات النازحين بين الأفراد من عائلات مسيحية، أم إيزيدية، أم شبك، أم تركمان، وبالتالي يصعب استخلاص أرقام خاصة بالمنتحرين أو بمحاولات الانتحار بين المسيحيين أو الإيزيديين أو من السكان المسلمين الذين عاشوا تحت وطأة جرائم عصابات داعش. إلا إن بعض الملاحظات التي ترد في تلك المقالات والدراسات يُستشف منها المنتحرات أو المنتحرين هم من أبناء العائلات الإيزيدية أو المسيحية الذين لم يتمكنوا من الانسجام مع الأوضاع الغريبة عن محيطهم الإيزيدي أو المسيحي ومعاناتهم تحت ثقل التقاليد والعادات والظروف الصعبة أو حتى حالات التمييز إزائهم، خاصة حين تكون مخيماتهم في مناطق محافظة حيث يلعب شيوخ الدين المتخلفين دورهم في ذلك.
وفي ضوء ما تقدم وفي دراسة الكثير من التقارير والدراسات، يمكن بلورة مجموعة من العوامل الكامنة وراء محاولات الانتحار المتحققة فعلاً وتلك الفاشلة، سواء أكان بعضها في حالة معينة أم كلها في أغلب الأحيان، إضافة إلى التداخل والتأثير المتبادل فيما بين هذه العوامل أو كلها في النقاط التالية:
1 . كانت وما تزال النظم السياسية التي حكمت العراق طيلة العقود الستة المنصرمة تشكل السبب الأساسي والرئيسي فيما وصلت إليه حالة المجتمع العراقي وشبابه وتفاقم حالات الانتحار، ولاسيما بين الشبيبة. فالشعب العراقي عاش في دولة مستبدة بسلطاتها الثلاث، فغيبت عبرها الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين، وصادرت المؤسسات وحولتها إلى أدوات بيد الحاكمين ضد غالبية المجتمع ولصالح الفئات الحاكمة والمتنفذة. وبعد إسقاط دكتاتورية البعث والفرد المطلقة وسياساته الشوفينية والعدوانية، أقيم على انقاضها دولة هشة ونظام حكم سياسي طائفي محاصصي متخلف ومستبد، مارس نهج التمييز والتهميش والإقصاء لأتباع الديانات الأخرى، وأوجد الأرضية الصالحة لصارع سياسي واجتماعي ومذهبي تحول إلى نزاع دموي مرير كلف الشعب العراقي مئات ألوف الضحايا البريئة. إن الفئات الحاكمة تتميز بالرثاثة الفكرية والاجتماعية وتمارس سياسات لا تقود إلا إلى الصراع والنزاع والموت والمرارة والإحباط في نفوس الناس عموماً، ولاسيما الشبيبة.
2.   إن الدستور العراقي الراهن، رغم بعض جوانبه الديمقراطية، يؤسس للتمييز والتهميش والإقصاء في الواقع العملي. كما إن السياسات التي تمارسها الفئات الحاكمة وضعت العراق في مصاف الدول الأكثر فساداً وتخلفاً في العالم والأكثر نهباً لموارد الدولة المالية والأبعد عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى ممارسة الفساد بكل أشكاله، من جهة وواقع استمرار وتفاقم النهب والسلب لموارد البلاد المالية والتفريط بالتنمية، والابتعاد الكبير والاغتراب الفعلي عن مصالح الشعب وإرادته الحرة، من جهة أخرى، هي من ضمن العوامل التي أدت إلى وقوع أجزاء من العراق في قبضة تنظيمات قوى الإرهاب المحلية والإقليمية والدولية الإسلامية المسلحة والإرهاب الحكومي والمليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. وقد تجلى ذلك في محاربة أتباع الديانات الأخرى وترويعها بالحرائق والتفجيرات والاغتيالات لدفعها إلى النزوح والهجرة من البلاد. إضافة إلى ممارسة القتل على الهوية واغتيال واسع الناطق لشخصيات علمية وأطباء ومهندسين وكتاب وصحفيين.. الخ.
(ملاحظة: قدم الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح مادة مهمة حول أسباب تفاقم محاولات الشبيبة الانتحارية بالعراق. وهي دراسة مهمة وضرورية. ولكن لا يمكن الاتفاق معه حول الجزء الثاني من الفقرة التي تمس الوضع الراهن بالعراق والتي جاء فيها: "ان يعيش شعب تحت حكم دكتاتوري جاء بانقلاب عسكري يكون فيه الفرد عاجزا عن تغيير حاله، فان اقدامه على الانتحار مسألة فيها نظر، لكن أن تتضاعف اعداده في زمن ديمقراطي جاء بحاكم في انتخابات حرة فتلك مفارقة ما حدثت الا في العراق!". فالعراق الراهن ليس بديمقراطي، وقد حلت به كل هذه الكوارث منذ العام 2003 حتى الوقت الحاضر، كما إن الانتخابات بكل مراحلها ودوراتها لم تكن حرة ولا ديمقراطية، بل مورس فيها مختلف أساليب الرشوة والتزوير والتشويه، أبتداءً من طبيعة الدستور وقانون الانتخابات، ومروراً بتشكيل مفوضية الانتخابات على أساس محاصصي طائفي، وانتهاءً يدعم المرجعيات الدينية وتدخلها الفظ في هذه الانتخابات، إضافة إلى تدخل إيران وغيرها لصالح القوى الطائفية. وما هو جدير بالإشارة أن الزميل قاسم قد كتب عن هذه الدولة الهشة وعن هذا النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاقد للشرعية الكثير من المقالات المهمة من الجانبين الاجتماعي والنفسي، إضافة إلى الجوانب الاقتصادي والسياسية والبيئية. كاظم حبيب (انظر: قاسم حسين صالح، أ. د.، في الزمن الديمقراطي.. تضاعف حالات الانتحار في العراق!"، جريدة المدى، بتاريخ 08/08/2017).     
3.   وتشكل العلاقات الإنتاجية البالية التي استعيد دورها تدريجاً في الثمانينيات من القرن الماضي وتفاقم دورها في أعقاب سقوط الدكتاتورية وتعاظم نشاطها في الريف العراقي وتأثير تقاليدها وعاداتها وسلوكياتها الاجتماعية والاقتصادية على المدن وسكانها أساساً لمزيد من المشكلات للشبيبة. وقد اقترن ذلك بدور متعاظم للمرجعيات والمؤسسات الدينية ولشيوخ الدين في السياسة وفي التأثير المباشر على الحياة السياسية بالاتجاه السلبي المعيق للتطور الاقتصادي والاجتماعي المنشود ولحياة شبابية حرة ومتقدمة. وصاحب ذلك وجود ظاهرتين هما: انتشار الأمية على نطاق واسع والجهل السياسي والاجتماعي والغوص في متاهات حياة غير واعية وخرافات وأساطير وخضوع للمشعوذين من جهة، وغياب التنوير الديني والاجتماعي من جهة أخرى، قد أبعد المجتمع، ولاسيما الشبيبة عن إدراك العوامل التي تتسبب في أوضاعهم السيئة وتمنعهم في وعي أهمية خوضهم النضال ضدها بدلاً من الاستسلام لليأس والقنوط والاكتئاب الذي يدفع بالإنسان إلى محاولة الانتحار ووضع حد لحياته التي يشعر أن لا طائل من ورائها. إنها المحنة الكبيرة لعدد كبير من الشباب والشابات بعراق اليوم.
4.   إن البطالة الواسعة، التي تشمل نسبة عالية من القادرين على العمل، ولاسيما بين الشبيبة، والتي يشير الإحصاء الرسمي إلى إن معدلها بلغ في العام 2016 حوالي 18%، (أنظر: عجز الحكومة وانخفاض أسعار النفط ترفع معدلات البطالة فى العراق إلى 18%، بغداد بوست، 13 كانون الأول/ديسمبر 2016), في حين بلغت في محافظة ذي قار (34%)، (المصدر السابق نفسه) في حين إن الواقع الفعلي يشير إلى إن المعدل أعلى من ذلك بكثير. وغالباً ما يرتبط واقع البطالة المكشوفة، دع عنك المقنعة، مع حالة الفقر التي تعاني منها عوائل العاطلين عن العمل، فعلى وفق الإحصاء الرسمي تبلغ سبة الذي يعيشون تحت خط الفقر المعترف به دولياً للبلدان النامية، إذ أشار عبد الزهرة الهنداوي الناطق باسم وزارة التخطيط إلى أن البطالة ارتفعت إلى 30%. (أنظر: التخطيط: نسبة الفقر في العراق ارتفعت إلى 30% خلال 2016، جريدة المدى، المدى بريس، بتاريخ 09/01/2017).
 في العام 2016 بعد أن كانت 22% في العام 2014. وجاء في تقرير جريدة المدى نفسه حول البطالة قوله "يعاني العراق بطالة كبيرة سواء بين فئة الشباب القادرين على العمل وبين الخريجين الجامعيين، ويعتقد العديد من الخبراء الاقتصاديين أن التقديرات الإحصائية لهؤلاء الشباب لا تعبر بالضرورة عن الواقع الموجود فعلاً..، بمعنى إنها أعلى من ذلك بكثير.( أنظر: المصدر السابق نفسه).
 
5.   ويزداد الأمر سوءاً حين يعاني الإنسان من البطالة والفقر، وهذا لا يعني إن الشبيبة التي تعاني من البطالة والفقر وحدها يمكن أن يتجه بعضهم صوب الانتحار، بل إن الأغنياء، ولأسباب أخرى، يمكن أن يحاول بعضهم الانتحار أيضاً. إلا إن معاناة العاطل عن العمل، وكذلك الفقير، يمكن أن تدفع بالبعض إلى القنوط أو الاكتئاب والإحباط واليائس من تغيير أوضاعه الحياتية والتي توصله بدورها إلى استنتاج خاطئ هو وضع حد لحياته الشخصية.
6.   وتزيد الأمور سوءاً وقوع الشبيبة أسر التقاليد والعادات العشائرية والدينية البالية والخانقة للروح المتحركة والدفاقة والمتطلعة لحياة حرة مليئة بالحب والحياة والحركة والعطاء عند الشبيبة، سواء أكانت رغبته في زواج من يحبها أو من تحيه، وفرض زواج غير مرغوب به، أو حرمان الشبيبة من التمتع بالفنون الإبداعية بذريعة أنها محرمة دينياً، أو حرمان البنات من الرياضة والغناء والرقص وما إلى ذلك بذات الذريعة الدينية والتقاليد البالية، مما يدفع بالشبيبة إلى حالة من القنوط والرغبة في وضع حد لمعاناته بالموت! إنها التقاليد المريضة التي تضع أسواراً أمام تطلعاته العادلة والمشروعة.
7.   وسجل الواقع العراقي خلال الفترة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية عن بروز ظاهرة سلبية أخرى تتلخص بادعاء عائلات الكثير من الشابات بأن بناتهن أقدمن على الانتحار، في حين تشير المعلومات إلى إن العائلات مارسوا القتل العمد ضد بناتهن بذريعة غسل العار لكيلا يقعوا تحت طائلة القانون أو دفعوا بناتهن قسراً إلى الانتحار، ويتم قتلهن بصب البنزين عليهن وإشعال النار بهن بطريقة بشعة ومروعة. وأحياناً لا يمتن ولكن تتشوه اجسامهن بدرجات مختلفة. ومن الجدير بالذكر إن أعمار البنات يتراوح بين 16-30 سنة. وفي تقرير أعده السيدان سامان نوح وموفق محمد لصالح معهد الاستقصاء العراقي (نايريج) بإشراف السيد محمد الربيعي تحت عنوان مثير "محرقة النساء في كردستان تلتهم فتاة كل 20 ساعة"، أورد نماذج كثيرة عن نساء قيل عنهن إنهن حاولن الانتحار ولم يمتن وأجرى مع بعضهن مقابلات صحفية كشفاً عن خبايا هذه الظاهرة. وجاء في التقرير إن "هؤلاء النسوة كن ضحايا ظاهرة الانتحار حرقاً التي يقول خبراء اجتماع، وناشطون مدنيون، وجهات رسمية معلنة أو فضلت عدم الكشف عن هوياتها، إن معدلاتها ما زالت ترتفع في شكل كبير بسبب عجز المؤسسات الحكومية والدينية والعشائرية والمدنية عن إيقافها، لتصبح هذه الظاهرة التي عرفت بـ «محرقة النساء» واحدة من أبرز المظاهر المأسوية التي ارتبطت بنساء منطقة كردستان العراق خلال الـ 20 سنة الأخيرة." (أنظر: سامان نوح وموفق محمد، محرقة النساء في كردستان تلتهم فتاة كل 20 ساعة، تحقيق بإشراف محمد الربيعي، معه الاستقصاء العراقي، بتاريخ 24/11/2011).
8.   وخلال فترة الحروب والحصار الاقتصادي الذي تعرض له العراق في فترة حكم البعث الدكتاتوري تفشت بالعراق ظاهرة تعاطي المخدرات والحبوب، خاصة مع بدء الحملة الإيمانية التي فرضها الدكتاتور المطلق صدام حسين على المجتمع العراقي. ألا إن هذه الظاهرة، التي وجدت بسبب الحروب والأوضاع المأساوية والهروب من الواقع المريع، قد تفشت على نطاق واسع ولاسيما بين الشبيبة، بعد أن انفتحت الحدود بين العراق وإيران على مصراعيها، حيث تأتي من أفغانستان وإيران إلى العراق لتباع فيها، ومنها ما يصدر إلى دول الخلج ويباع فيها، كما يصدر منها إلى بقية الدول العربية والعالم. وتشير الكثير من المعلومات إلى إن جهات كثيرة تمارس بيع المخدرات سراً، ولاسيما جماعات الجريمة المنظمة المحمية بمجموعة من المسؤولين ارتباطاً بالفساد المستشري بالعراق. وجاء في تقرير نشر في جريدة المدى بهذا الصدد ما يلي:
" تقارير حديثة لمكتب مكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة أكدت أن هناك ممرين رئيسيين لدخول المخدرات نحو العراق الذي تحوَّل إلى مخزن تصدير تستخدمه مافيا المخدرات، مستفيدة من ثغرات واسعة في حدود مفتوحة وغير محروسة، فالعصابات الإيرانية والأفغانية تستخدم الممر الأول عبر الحدود الشرقية التي تربط العراق مع إيران، أما مافيا تهريب المخدرات من منطقة وسط آسيا فتستخدم الممر الثاني وصولا إلى أوروبا الشرقية إضافة إلى ذلك هناك الممرات البحرية الواقعة على الخليج العربي الذي يربط دول الخليج مع بعضها. وأضافت التقارير أن العراق لم يعــد محطة ترانزيت للمخدرات فحسب، وإنما تحوَّل إلى منطقة توزيع وتهريب، وأصبح معظم تجار المخدرات في شرق آسيا يوجهون بضاعتهم نحو العراق، ومن ثم يتم شحنها إلى الشمال، حيث تركيا والبلقان وأوروبا الشرقية، وإلى الجنوب والغرب، حيث دول الخليج وشمال أفريقيا." (أنظر: حسين عمران - تصوير/ محمود رؤوف، كل شيء عن المخدرات فـي العــراق .. أنواعها ... مصدرها.... وطرق دخولها تقرير، جريدة المدى العراقية، بتاريخ 27/05/2015). وتؤكد مصادر كثيرة إلى أن الحبوب المخدرة (حبوب الكريستال بأنواعها الكثيرة) هي الأخرى اجتاحت العراق والتي تحمل معها مخاطر إضافية إلى الشبيبة العراقية والتي تسببت في الكثير من حالات الانتحار بين الشباب. (أنظر: " الكريستال المخدر” يجتاح البصرة ومطالبات باستحداث قسم متخصص بمكافحة المخدرات، عراق برس، بتاريخ 02/01/2017).
9.   وتشير المعلومات المتوفرة عن حالة أهل الموصل والنازحين من عموم نينوى، بسبب الإرهاب الدموي الذي تعرضوا له خلال فترة هيمنة عصابات داعش على المنطقة، وبسبب السياسات الطائفية والصراع الطائفي قبل ذاك، ومن ثم في أثناء حرب تحرير هذه المناطق، إلى تفاقم الحالات التالية:
** تفاقم الأمراض والعلل الصحية والنفسية لدى الشبيبة، ولاسيما النساء، وتنامي الرغبة في الخلاص من هذه الأوضاع والأحزان من خلال الانتحار أو الهروب من الواقع بما يتسبب في اختلالات عقلية ونفسية.
** تفاقم حالات التشرد والتسول والاستعداد الكامل لبيع الجسد من الشبيبة من الإناث والذكور بهدف الحصول على لقمة عيش لهم ولعائلاتهم، لاسيما وأنهم لا يملكون مصدراً للعيش ولا عمل يوفر لهم أجراً.
** وأن عدداً متزايداً من الشبيبة بدأ يستخدم المنشطات والمخدرات لغرض تجاوز المحن التي يعيشون تحت وطأتها والتي بدورها تستوجب مورداً مالياً مما يندفع إما إلى الالتحاق بمنظمات إرهابية للحصول على ذلك المورد، أو بيع الجسد أو التوجه صوب السرقة لتغطية حاجاته.
** إن الأجيال التي ولدت ي العهد البعثي وتلك التي ولدت في أوائل إسقاط الدكتاتورية حتى الوقت الحاضر هي أجيال ولدت في ظل الحروب والحصار والدمار والفساد والإرهاب والتمييز، وتلك التي ولدت في ظل احتلال عصابات داعش، مما يجعلهم عرضة لشتى الانفعالات وشتى الأمراض والعلل الاجتماعية والاختلالات النفسية، وهي ضمن العوامل التي تقود إلى نزوع جامح للتخلص من الحياة، بسبب معاناتهم غير الإنسانية في مخيمات النازحين في المدن العراقية المختلفة والتي يحاول مسؤولو تلك المخيمات التغطية عليها..
إن الاستبداد السياسي والحروب والحصار الاقتصادي والاحتلال والإرهاب والفساد الواسع النطاق والمحاصصة الطائفية وخيبات الأمن وفقدان الأعزاء، والإحساس الصارخ بالتمييز والتهميش والإقصاء والعيش في أجواء عدم العدالة والمساواة، ولاسيما حياة النساء ومعاناتهن المركبة، والمعاناة من الظلم والإهانة اليومية، ومن حالة الفقر والبطالة والفراغ القاتل للشبيبة، كلها وغيرها عوامل تقود الإنسان، ولاسيما الشبيبة، إلى الوقوع ضحايا لعلل اجتماعية شتى وأمراض نفسية وعقلية (عصبية) واحساس بالدونية أو فقدان الثقة بالنفس والأمل بتغيير أوضاعه الصعبة، تدفع بالإنسان إلى التفكير بمحاولة الانتحار لوضع حد لمعاناته في دولة لا تحترم حقوقه ولا تستجيب لحاجاته أو تعتني به. وبهذا الصدد اشار الباحث العراقي الدكتور رافد الخزاعي إلى أسباب الانتحار وقسمها إلى مجموعتين:
"- حوالي 35% من حالات الانتحار ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية كالاكتئاب والفصام والإدمان.
 - و65% يرجع إلى عوامل متعددة مثل التربية وثقافة المجتمع والمشاكل الأسرية أو العاطفية والفشل الدراسي والآلام والأمراض الجسمية أو تجنب العار أو الإيمان بفكرة أو مبدأ كالقيام بالعمليات الانتحارية." (أنظر: ناقوس يدق الخطر.. انتحار النساء ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية كالاكتئاب والفصام والموقع كلدايا.نت بتاريخ 24/09/2012).
وعلينا هنا أن نضيف إلى أن واقع المناطق التي احتلت والعائلات النازحة إلى مناطق مختلف من العراق وفي المخيمات التي ينقصها الحياة الأدمية الطبيعية والمنغصات اليومية قد ساعدت إلى حدود بعيدة بتفاقم حالات الانتحار بين الشبيبة، ولاسيما النساء، والتي لا بد من دراستها وإيجاد السبل لمعالجتها، رغم عجز النظام القائم بمواجهة وحل هذه المعضلة بسبب طبيعته الطائفية السياسية ونهجه السياسي والاجتماعي والأوضاع الاقتصادية السائدة. 
 
 
 
 



284
الأوضاع القائمة بمحافظة نينوى وتلكؤ معالجتها والعوامل الكامنة وراء ذلك!
3-6 معاناة النساء والأطفال النفسية والاجتماعية

تحت تصرف الكاتب مجموعة كبيرة من التقارير الواقعية حول أوضاع النساء العراقيات المرير اللواتي أجبرن على النزوح من الموصل وباقي مدن وقرى وأرياف محافظة نينوى والتي تشير إلى الواقع التالي:
** أعداد غفيرة من النازحات والنازحين يعانون من مشكلات صحية وأوضاع نفسية معقدة، وبشكل خاص بين النساء والأطفال، وهم يشكلون الغالبية العظمى من النازحين، إذ يشكل الأطفال والصبية والشباب نسبة كبيرة من عدد النازحين والذين حرموا من التعليم والدراسة وحتى العمل، وعاشوا البطالة والتسرب من التعليم والتشرد. ففي تقرير أنجزته الدكتورة نهلة النداوي، يعبر عن مصداقية كبيرة لاعتماده على تقارير دولية ودراسات مهمة، إذ جاء بهذا الصدد ما يلي: "حسب التقرير الأخير الرقم 49 –  الذي نشر أثناء إنجاز هذه الورقة –  إنّ عدد النازحين قد تجاوز ثلاثة ملايين نسمة.  وتؤكد التقارير المنشورة من أكثر من جهة، إن عدد النساء النازحات أكثر من نصف عدد السكان النازحين، أي بنسبة 51%، حيث تكشف متابعة عينية-  الفئات العمرية للنساء النازحات حتى شباط   2015 – أنّ: (37% منهن تتراوح أعمارهن بين (1 – 15 سنة) تليها (34 %) تتراوحن أعمارهن بين (25 – 59) سنة، تليها (21 %) بين (15 - 24 سنة)، فيما يلاحظ انخفاض نسبة النساء في عمر 60 سنة، إذ شكّلن نسبة 8%، علماً بأنّ معدّل الأعمار في العراق 70 عاماً. وممّا يلفت النظر إلى أنّ النساء الكبيرات السن قد يكن قد فضّلنَ البقاء في مناطق الصراع. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الأخبار عن هذه الفئة العمرية تغيّب كثيراً في كل الأبحاث. مثلما تجدر الإشارة إلى أنّ ارتفاع معدّل الفئات الشابة من النازحات قد قلّل فرص التعليم للبنات" (أنظر: نهلة النداوي، دكتورة، أوضاع النساء العراقيات في مناطق سيطرة تنظيم داعش، موقع الشرق الأوسط الديمقراطي، بتاريخ 20/01/2017).
 وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن عدداً كبيراً من النساء بالموصل قد جرى اغتصابهن وقتلهن على أيدي عصابات داعش. (أنظر: المصدر السابق نفسه). إضافة إلى تلك الجرائم البشعة التي ارتكبت بحق النساء الإيزيديات واللواتي زاد عددهن عن عدة ألاف امرأة إيزيدية جرى اختطافهن واغتصابهن وبيعهن في سوق النخاسة الإسلامي!!! وعلينا أن نشير هنا إلى أن عصابات داعش الإسلامية كانت تقوم باغتصاب البنات القاصرات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 9 – 15) سنة، على اعتبار إن الإسلام يبيح ذلك شرعاً! ومن الضروري أن نشير هنا إلى التوافق بين فقه داعش السني وفق الشيعي الداعشيين، إذ أنهما يبيحان زواج البنات القاصرات ابتداءً من عمر 9 سنوات. ولكن الفقه الشيعي يبيح أبشع من هذا حين يرد لدى روح الله الخميني في كتابه الموسوم "تحرير الوسيلة"، المسألة 12، ص 241، ما يلي:
"لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواما كان النكاح أو منقطعا، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة، ولو وطأها قبل التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شئ غير الإثم على الأقوى، وإن أفضاها بأن جعل مسلكي البول والحيض واحدا أو مسلكي الحيض والغائط واحدا حرم عليه وطؤها أبدا لكن على الأحوط، في الصورة الثانية، وعلى أي حال لم تخرج عن زوجيته على الأقوى، فيجري عليها أحكامها من التوارث وحرمة الخامسة وحرمة أختها معها وغيرها، ويجب عليه نفقتها ما دامت حية وإن طلقها بل وإن تزوجت بعد الطلاق على الأحوط، بل لا يخلو من قوة، ويجب عليه دية الافضاء، وهي دية النفس، فإذا كانت حرة فلها نصف دية الرجل مضافا إلى المهر الذي استحقته بالعقد والدخول، ولو دخل بزوجته بعد إكمال التسع فأفضاها لم تحرم عليه ولم تثبت الدية، ولكن الأحوط الانفاق عليها."، فهل هناك أكثر فحشاً وعدوانية واغتصاباً بحق طفولة البنات من هذه الفتوى الجائرة. هذا الفحش هو بالضبط ما يدعو له حزب الفضيلة ورئيسه الشيخ محمد اليعقوبي ونوابه في مجلس النواب العراقي وبقية الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية أيضاً!!!، مع العلم إن الفقه السني يوافق أيضاً على زواج القاصرات من عمر 9 سنوات، وهي الكارثة التي تواجه العائلات التي توافق على اغتصاب بناتهن بهذا العمر من رجال من مختلف الأعمار!!   
** كما يعاني الكثير من الأطفال والصبية النازحين من علل نفسية ومن مرض الكآبة وكوابيس الحرب والإرهاب والقتل والعنف المرعبة التي تعرضوا لها طيلة الفترة المنصرمة وصعوبة النوم ليلاً، إضافة إلى الحرمان من التعليم في جميع مراحله والتغذية السيئة. وفي تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) حول التعليم بالعراق جاء فيه "إن المدير الإقليمي لليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا گيرت كابيليري قال .. يعاني أطفال العراق من فترات صراع طال أمدها، ومن دون فرص متساوية في الحصول على التعليم الجيد، يصبح الأطفال عرضةً للخطر، ونحن نتحدث عن ضياع جيل كامل من الأطفال. وحيث يفتقر 3,5 مليون طفل عراقي في سن الدراسة إلى التعليم، مما يعني أنهم يصبحون أكثر عرضةً لعمالة الأطفال والمالية من قبل الجماعات المسلحة وذلك بسبب الإهمال الحكومي والسياسات الخاطئة التي تنتهجها الحكومات العراقية." (أنظر: اليونيسيف: أكثر من 3.5 مليون طفل عراقي يفتقرون للتعليم، موقع بغداد بوست في 23 أيار/مايس)2017.
  يضاف إلى ذلك احتمال كبير بالتحاق بعضهم بجماعات الجريمة المنظمة كالسرقة والنهب والقتل وما إلى ذلك، بسبب حالة الفقر والتشرد وتعاطي المخدرات. وأضاف "كابيليري أن الاستثمار في التعليم يفي بحق أساسي من حقوق الإنسان لكل بنت وولد، وضروري لتنمية وتقدم البلاد وهو أفضل دواء ممكن ضد التطرف" (أنظر: المصدر السابق نفسه). وهناك تقرير حديث عن اليونيسيف يشير إلى الواقع التالي: "أن هناك 4.9 مليون طفل عراقي مهدد اليوم بسبب النزاعات والجوع؛ 1.49 مليون منهم دون سن الخامسة. وتقول منظمة الهجرة الدولية إن 55 في المائة من النازحين من الموصل أطفال. ومن القضايا التي تهدد مستقبل العراق - بل المنطقة - عدم حصول مئات الآلاف من أطفال العراق على التعليم؛ وحتى من يحصل على التعليم، فهو في غالب الأحيان بمستوى رديء. هؤلاء هم أطباء ومعلمو ومهندسو العراق مستقبلاً... فماذا يحل بالبلاد من دونهم؟" (أنظر: مينا العريبي، شدة المأساة على أطفال الموصل، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 4/تموز/يوليو 2017). وبحسب تقرير للأمم المتحدة بعنوان «تكلفة التعليم»، "فإن العراق الدولة التي تخصص أقل نسبة من الإنفاق العام على التعليم؛ إذ مثّل الإنفاق العام على التعليم بين عامي 2015 و2016 (5.7) في المائة فقط من مجموع الإنفاق الحكومي. ومن المثير أن نصف الأطفال في مخيمات النازحين لا يحصلون على أي تعليم رسمي. " (المصدر السابق نفسه).
** كما إن مئات الآلاف من الأطفال يعانون من نقص الغذاء ويعانون من سوء التغذية، ومن أزمة صحية ونفسية. ويذكر التقرير عن الأطفال في زمن الحرب بالعراق إلى الواقع التالي: "في تقرير لليونيسف صدر في يونيو/حزيران 2016، ورد تحذير بأن العراق "من أخطر الأماكن في العالم على الأطفال"، إذ يوجد 3.6 مليون طفل في خطر الموت والإصابة والعنف الجنسي والاستغلال." (أنظر: التقرير العالمي 2016. موقع مرصد حقوق الإنسان. أخذ المقتطف بتاريخ 24/07/2017). ثم يضيف التقرير إلى حالة الأطفال بالفلوجة فيذكر: "في مارس/آذار 2016 وقت أن كانت الفلوجة تحت سيطرة داعش، قال مصدر طبي بمستشفى الفلوجة العام إن الأطفال الجائعين يتجمعون في المستشفى المحلي، إذ لم يعد هناك أي طعام متوفر وأصبح الأهالي يأكلون الخبز المصنوع من البذور التي يجمعونها من الأرض والحساء المصنوع من العشب" (المصدر السابق نفسه). وعلى القارئ والقارئة أن يربطا بين الجوع والوضع الصحي من جهة، والوضع النفسي والعصبي للطفل العراقي الذي لم يمر باجتياح واحتلال داعش فحسب، بل وما مرّ به خلال ثلاثين عاماً بأكثر من حرب ودمار وموت وجوع وحرمان، ومنها تلك السنوات العجاف التي عاشها الأطفال في فترة الحصار الدولي الكامل على العراق بين 1991 و2003.
** ولا بد من عمل الكثير لاحتضان النساء اللواتي تعرضن للإرهاب والسبي والاغتصاب منذ الاجتياح حتى استعادتهم بطرق شتى وانقاذ جمهرة كبيرة منهن حتى الآن وتوفير العلاج الطبي النفسي لهن وإدماجهن بالمجتمع. فعلى سبيل المثال لا الحصر يشير تقرير للأمم المتحدة إلى النساء الإيزيديات اللواتي أمكن انقاذهن من براثن داعش ما يلي:
"العديد من النساء والفتيات الإيزيديات اللائي هربن من داعش ونزحن إلى إقليم كردستان العراق يفتقرن لخدمات الصحة النفسية والخدمات النفسية-الاجتماعية الكافية. رغم توفير بعض الخدمات للنساء اللائي أصبحن حوامل أثناء أسرهن، فإن خدمات الإجهاض الآمن والقانوني غير متوفرة. يسمح القانون العراقي بالإجهاض فقط في حال الضرورة الطبية، مثل أن يمثل الحمل تهديدا لحياة الأم، لكن ليس في حالات الاغتصاب." (أنظر: التقرير العالمي 2016. المصدر السابق نفسه. موقع شبكة خلك الإعلامية، بتاريخ 02/08/2016).
** وتشير المعطيات المتوفرة إلى تزايد عدد الأرامل من النساء اللواتي فقدن أزواجهن لأسباب كثيرة بما فيها الحروب والاستبداد والعمليات الإرهابية. فقد جاء في تصريح للسيد عبد الزهرة الهنداوي بشأن الأرامل والأيتام من الأطفال ما يلي: "أعلنت وزارة التخطيط العراقية، ان عدد الارامل والايتام في العراق بلغ اكثر من مليون واربعمئة الف يتيما وارملة، مشيرة إلى أن الاحصائية أعدت بالتعاون مع البنك الدولي.
وقال المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي في حديث صحافي لوكالة المدى، إن عدد الاطفال الأيتام الذين تم تسجيلهم لغاية عمر 17 عاما بلغ 600 الف ماعدا محافظتي الأنبار ونينوى، فيما بلغ أعداد الأرامل 850 الف ارملة ولا يشمل المحافظتين المذكورتين آنفا. وتابع الهنداوي أن ملف الأرامل واليتامى من الملفات المتحركة بمعنى انه قابل للزيادة والنقصان، مبينا أن هذه الأعداد تمثل ناقوس خطر فيما أذا أضيفت محافظتا الأنبار ونينوى فأن أعداد الأرامل واليتامى قد يصل إلى أكثر من مليون أرملة." (أنظر: ارتفاع عدد المطلقات والأرامل والأيتام في العراق، موقع شبكة خلك الإعلامية، 20/08/2017).

  وكذلك عدد النساء المطلقات سنوياً. وهذه الإشكالية تقترن بالفقر من جهة، وبالتوترات النفسية والعصبية التي تعاني منها العائلة وانعكاساتها على العلاقة بين الزوجين وإزاء الأطفال في فترة الحرب والصراعات السياسية والطائفية من جهة ثانية. ويشير القضاء العراقي إلى حصول 700000 حالة طلاق في الفترة 2004-2014، أي بمعدل سنوي قدره 70 ألف حالة طلاق. وفي العام 2016 سجلت 53182 حالة طلاق، وهي أعلى نسبة منذ العام 2012، إذ بلغت 59500 حالة طلاق في فترة حكم المالكي في العام 2011. (أنظر: ازدياد نسب الطلاق في العراق بسبب الفقر، تقرير/ موقع يقين للأنباء. 14 تموز/يوليو 2017).
ويشير تقرير نشر في موقع "شبكة خلك الإعلامية" إلى تصرح القاضي عبد الستار بيرقدار حول أسباب تفاقم حالات الطلاق قوله: "أن أبرز اسباب تصاعد حالات الطلاق هي التغييرات الحادة التي تعصف بالمجتمع العراقي خلال السنوات الاخيرة ومنها الأزمات المالية والحروب وعجز الرجال عن توفير احتياجات العائلة أو عدم اعتماد الزواج على مقاييس صحيحة مثل التقارب في العمر أو الثقافة والمستوى الاجتماعي او زواج الشباب الصغار الذين يحصلون على الأموال عن طريق العمل مع الجماعات المسلحة او العصابات ثم ينقطع المورد عنهم أو بسبب اعتقال الأزواج في السجون لمختلف الأسباب أو تعدد الزوجات دون علم الزوجة وغيرها." (أنظر: تقرير: ارتفاع عدد المطلقات والأرامل والأيتام في العراق، موقع خلك الإعلامي مصدر سابق).
ليست هذه الأوضاع التي نشأت بالعراق من صنع الله الذي يؤمن به حكام العراق الجدد، بل هو من صنعهم بشكل مباشر، وهم المسؤولون عنه ويجب محاسبتهم، إذ لولا سياساتهم الطائفية الممعنة بالحقد والكراهية والتمييز الديني والمذهبي، والفكري والسياسي والفساد السائد لما حصل ما هو قائم حالياً بالعراق ولما انتهى إليه وضع النساء العراقيات ووضع الأطفال. إن النظام السياسي الذي تسبب بكل ذلك، وتلك الأحزاب الإسلامية السياسية التي قادت "العملية السياسية!" بالعراق حتى الآن، لا يمكن أن تكون المنقذ للعراق من هذه الأوضاع المزرية والجرائم التي ارتكبت بحق النساء والأطفال وعموم المجتمع العراقي ومعاقبة المتسببين بها.
انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة.       

285
الأوضاع القائمة بمحافظة نينوى وتلكؤ معالجتها والعوامل الكامنة وراء ذلك!
2-6
المجموعة الأولى من المشكلات القائمة

تشير المعطيات المتوفرة والرسمية إلى أن الفترة الواقعة بين منتصف عام 2014 ومنتصف عام 2017، أي بعد اجتياح داعش للموصل وأثناء تحرير الموصل من قبضة داعش، تصاعد حجم النزوح داخل العراق. ففي تصريح للدكتور سعد الحديثي، الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية، أكد إن عدد النازحين بالعراق بلغ 4,3 مليون نسمة في الفترة بين 2014 والشهر الثاني من 2017. (أنظر: سعد الحديثي، عدد نازحي العراق 4,3 مليون نسمة. موقع اليوم السابع بتاريخ 23 أذار/مارس 2017). ثم صرح وزير الهجرة والمهجرين جاسم محمد الجاف إلى نزوح أكثر من 670 ألف نازح من الموصل حتى شهر أيار/مايو 2017. (أنظر: جاسم محمد الجاف، عدد نازحي الموصل 670 نسمة، موقع الجزيرة بتاريخ 26/02/2017). أما تقارير الأمم المتحدة فقد أشارت إلى الآتي: "بلغ عدد النازحين الكلي 854,327 نازحاً منذ بدء العمليات في الموصل في 17 تشرين الأول/أكتوبر2016. إن تقدير المستوى الأعلى للشركاء في المجال الإنساني فيما يتعلق بعدد الأشخاص الذين سيتضررون من القتال في مدينة الموصل كان مليون شخص." (أنظر: الأزمة الإنسانية في الموصل، الأمم المتحدة-العراق، 14 حزيران/يونيو 2017). وهو الرقم الأكثر صواباً والأقرب إلى الواقع.
وكما أشير، سوف لن يكون في مقدور الحكومة العراقية، ببنيتها وطبيعتها الراهنة، تجاوز المشكلات التي نشأت والمصاعب الاجتماعية والنفسية التي نشأت أو تراكمت عبر الاحتلال، الذي استمر أكثر من ثلاث سنوات للموصل ولسكان المناطق الأخرى من محافظة نينوى، في حين عانت محافظات أخرى من هيمنة وتأثير مباشرين وفعليين لفترة أطول، وإيجاد الحلول العملية لما سيواجهه سكان تلك المحافظات من مشكلات اجتماعية ونفسية. فهذه المناطق التي تعرضت للاغتصاب والسبي والعنف المستمر والتربية الدينية المتطرفة والدمار الواسع تعاني اليوم ولفترة قادمة من مشكلات البنية التحية والخدمات الأساسية والأوضاع النفسية والعلاقات العشائرية المعقدة والمتشابكة والعلاقات الدينية والقومية التي ازداد تعقيدها.
أولاً: مشكلات السكن والبنية التحتية والخدمات : تشير المعطيات المتوفرة إلى الواقع التالي:
** دمار واسع النطاق لأغلب المناطق السكنية التي تعرضت للقتال والتدمير المتعمد من جانب عصابات داعش، وبالتالي يصعب إعادة هؤلاء النازحين إلى مناطق سكناهم دون توفير الحد الأدنى من إمكانية السكن الآدمي لهذا العدد الغفير من النازحين. ويقدر حجم الدمار بما يتراوح بين 70 - 80% من المناطق السكنية. (أنظر: مدينة الموصل المدمرة. طائرة من دون طيار تصور أحياء الموصل المحررة،
https://arabic.rt.com/videoclub/886736-%D9%81%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88-%D9%8A%D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%AD%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B5%D9%84/.).
 وفي مناطق أخرى يصل إلى 90 %.  وقد تسنى لي زيارة مدينتي تلسقف (تل أسقف) وباطنايا، وسكانهما من أتباع الديانة المسيحية، برفقة أعضاء المؤتمر الثاني لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق،  للاطلاع على حجم الدمار الذي حلّ بناس وبمباني هذه المدينة وشوارعها ودور عبادتها ومدارسها والخدمات الأخرى فيها، إضافة إلى ما كتب على جدران كنائسها من الداخل والخارج وعلى جدران بيوتها من جمل عنصرية وعدوانية مناهضة للمسيحيين ووجودهم بالعراق. والرؤية المباشرة للمدينة تؤكد أن 85 % من المباني ودور السكن قد هُدّمت بالكامل، وأن ما تبقى منها لم يعد قابلاً للسكن فيه، وهو حال الكثير من المدن الأخرى في سهل نينوى، مثل تلسقف، وسنجار، وبرطلة، وقرَقوش (بغديدا)، وكرمليس، وتلكيف وغيرها. (ملاحظة: في يومي 1 و2 من الشهر الخامس (أيار) 2017 عقد المؤتمر الثاني لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق في مدينة عنكاوا التابعة لمحافظة أربيل في يومه الأول، في حين التم أعضاء المؤتمر في مدينة تلسقف في سهل نينوى في يومه الثاني احتفاءً بتحريرها من عصابات داعش وتضامناً مع سكانها المسحيين الذين عانوا الأمرين على ايدي وحوش داعش، حيث تم فيها انتخاب الأمانة العامة للهيئة. كاظم حبيب).

** دمار شامل للبنية التحتية كالمستشفيات والمستوصفات والمدارس والكليات والمعاهد ومياه الشرب والكهرباء...الخ. وبهذا الصدد أشار "مدير بلدية الموصل، عبد الستار خضر حبو إبراهيم الحبو، في تصريح له اليوم، إن أكثر من 90% من البنى التحتية والخدمات العامة في المدينة دمرت خلال الحرب مع "داعش"، كما أن حوالي 70% من الملكيات الخاصة تم إتلافها.. مشيرا إلى أن قيمة الخسائر التي شهدتها الموصل تقدر بمليارات الدولارات. ولفت إلى أن تحقيق "الاستقرار" في الجانب الغربي من المدينة، وما سيرافقه من عودة توفير خدمات المياه والكهرباء والخدمات العامة بشكل جزئي للمواطنين يتطلب بين ثلاثة وأربعة أشهر على الأقل.. مشددا على أن ملامح الموصل، ثانية كبريات المدن العراقية، تغيرت بالكامل و"أصبحت دمارا". (أنظر. دمار في الموصل، 90% من البنى التحتية في الموصل تعرضت للدمار، تقرير، موقع بوابة الشرق الإلكترونية، بتاريخ 19/07/2017)


.
 
** وجاء في تقرير لقناة بغداد حول مياه الشرب ما يلي: "يواجه الآلاف من أهالي الموصل أزمة صحية بسبب استخدامهم المياه الملوثة من نهر دجلة بعد توقف محطات التصفية المدمرة. ويقول سكان محليون إن مياه النهر تتسبب في حالات تسمم كل يوم باعتبارها ليست صالحة للشرب، كما أن هناك المئات من حالات الإسهال، مبدين مخاوفهم من زيادة الحالات مع حلول فصل الصيف. وقال مسؤولون في مديرية ماء نينوى إن الأسباب التي أدت إلى انقطاع الماء عن أحياء في الموصل، تعود إلى توقف مشاريع الضخ لانقطاع التيار الكهربائي وتوقف مولدات عمل الطاقة الكهربائية بعد نفاد الوقود المخصص لها." (أنظر: تقرير: دمار البنية التحتية يجبر سكان الموصل على شرب المياه الملوثة، موقع موجز العرب، عن قناة بغداد، بتاريخ 13 أيار/مايس 2017). كما إن دماراً واسع النطاق تعرضت له شوارع وطرق وأزقة وساحات مدينة الموصل وبقية المدن التي تعرضت لإرهاب داعش والتي سوف تستغرق وقتلاً طويلاً للتخلص من الأنقاض وإعادة الإعمار.
** المصاعب الكبيرة التي تواجه توفير المواد الغذائية لهذا العدد الكبير من السكان، في وقت تعاني الزراعة من تخلف شديد وشحة في المياه، وليست هناك صناعة فعلية وخراب واسع النطاق، إضافة إلى تكاليف الحرب وصعوبة توفير الموارد المالية لتأمين الغذاء للمجتمع وقواته المسلحة، لاسيما وقد تراجع سعر البرميل الواحد من النفط الخام في أسواق النفط العالمية، مما أدى إلى انخفاض شديد في إيرادات الدولة التي تعتمد على النفط الخام بنسبة عالية في تكوين دخلها القومي من جهة، وإلى ارتفاع المديونية الخارجية للدولة العراقية من جهة ثانية، وإلى تراجع شديد في معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي من جهة ثالثة، والتي اقترنت بدورها في انخفاض القدرة الشرائية للغالبية العظمى من السكان، لارتباطه بالتضخم المرتفع في أسعار السلع وال
خدمات، إضافة إلى تدهور قيمة صرف الدينار العراقي امام الدولار الأمريكي من جهة رابعة.
إضافة إلى كل تلك المصاعب الناتجة عن الخراب الشامل تقريباً الذي حلَّ بالموصل وبقية المدن والقرى التابعة لمحافظة نينوى، فأن هناك عوامل أخرى تعرقل عودة النازحين إلى ديارهم، إذ "لا يزال الخوف والقلق موجود في صفوف العائدين .. الى جانب الاهمال التام بموضوع اعادة بناء ما دمره الارهابيون والعمليات العسكرية .. كما أن هناك اعداداً كبيرة تخاف من العودة لا سيما في الجانب الايمن (المنطقة القديمة) .. وبيوتهم مدمرة للغاية.. اما مناطق سهل نينوى برطلة قره قوش كرمليس رجعت الكثير من العوائل المشكلة الان الحشد الشبكي الذي يقوده النائب حنين القدو بدأوا بممارسة اساليب استفزازية + تحرش + اسلوب جاف في السيطرات + رفع رايات مذهبية بشكل غير طبيعي الخ .. الناس جدا مستائين منهم ومنهم من يفكر بالرجوع الى عنكاوا" (راجع: كاظم حبيب، وماذا يجري بالموصل ونينوى بعد الانتصار المعلن على داعش؟ الحوار المتمدن).
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة

286
كاظم حبيب
الأوضاع القائمة بمحافظة نينوى وتلكؤ معالجتها والعوامل الكامنة وراء ذلك!
1-6

لم يعد إنسان عراقي عاقل لا يدرك إن ما حصل بالعراق من كوارث وعواقب مدمرة ومآسي وقتل ونزوح وتهجير واستباحة واغتصاب واستعباد خلال الأعوام المنصرمة، سواء أكان في مجال الصراع الطائفي بين المسلمين على أساس مذهبي، أم ممارسة التمييز الديني، أم التمييز ضد المواطنات والمواطنين باعتماد الهويات الفرعية المتصارعة والقاتلة، أم بانتشار الفساد على نطاق العراق كله وعلى ايدي المسؤولين أولاً وقبل كل شيء، ومن ثم انتشار مستمر للإرهاب الحكومي وغير الحكومي، وصولاً إلى تسليم محافظات غرب العراق ومحافظة نينوى وعاصمتها الموصل إلى عصابات داعش الغازية، كان سببه وجود نظام سياسي طائفي مقيت وممارسته للمحاصصة في توزيع سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها على أساس طائفي واثني في آن واحد. وأن هذا النظام مازال قائماً وفاعلاً ومؤذياً للفرد العراقي وللمجتمع. وأن المشكلة تكمن لا في طبيعة النظام الطائفي القائم فحسب، بل وفي النهج والسياسات التي يمارسها، ولاسيما الهيمنة على السلطات الثلاث من قبل السلطة التنفيذية، والدمج بين الدين والدولة ووجود أحزاب سياسية محرمة دستورياً بسبب قيامها على أساس ديني ومذهبي طائفي سياسي، إضافة إلى وجود ميليشيات طائفية مسلحة تهيمن على حركة السكان في مدن وأرياف العراق.
إن السنوات المنصرمة وأحداثها المريرة، سواء باحتلال أجزاء من العراق أم بحرب تحريرها العسكري، وضعت البلاد في المرحلة الراهنة أمام ثلاث مسائل كبيرة هي:
المسألة الأولى: عواقب استمرار النهج السياسي الطائفي الذي مورس منذ العام 2004 بالعراق حتى الآن وما خلفه من مشكلات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية ونفسية وبيئية، وعجز هذا النظام عن مواجهة تلك العواقب والذي يطرح ضرورة تغييره، والذي اقترن بوجود أحزاب إسلامية سياسية طائفية تهيمن على الحكم ولها ميلشياتها الطائفية المسلحة وسبل التخلص من ذلك.
المسألة الثانية: ما خلفه احتلال داعش من عواقب دينية واجتماعية ونفسية وصراعات مذهبية وقبلية وعنف وتوفر سلاح هائل بتلك المناطق التي كانت تحت احتلاله، وتداعياتها السياسية والإدارية والاجتماعية والنفسية وسبل معالجتها، مع حقيقة ان النظام القائم، بسبب طبيعته ونهجه، عاجز حقاً عن معالجتها، بل يزيد وجوده في الطين بِلَة، ما لم يجر تغيير هذا النظام السياسي الطائفي لصالح دولة ديمقراطية علمانية، أي دولة تفصل بين السلطات الثلاث وتفصل بين الدين والدولة، وإقامة مجتمع مدني ديمقراطي حديث.
المسألة الثالثة: سبل إعادة إعمار المناطق التي تعرضت للاجتياح والحرب والتدمير والأسس التي سوف تعتمدها في ذلك وكيف يمكن تنظيم إعادة النازحين إلى مناطق سكناهم وإيقاف عمليات الاعتداء على السكان والتصدي للتغيير الديمغرافي ومصادرة بيوت الناس في المناطق المحررة.
تشير الدكتورة أسماء جميل رشيد بصواب، في بحث مهم لها بعنوان "التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل – رؤية استشرافية"، إلى حقيقة هذه الإشكالية فكتبت "في حين تتجه جميع التحليلات والرؤى إلى التنبؤ بالتحديات الأمنية والسياسية واستشراف مسارها بعد تحرير الموصل مثل إدارة الحكم في المدينة بعد تحريرها والخلافات العميقة بين المركز وإقليم كوردستان وسيناريوهات التقسيم والفيدراليات القائمة على أسس عرقية وطائفية. إلّا إن التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل والتي ستشكل التحدي الأكبر، لم تنل الاهتمام الكافي. فهناك مخاوف من ظهور مشكلات اجتماعية ونفسية خطيرة وتزداد هذه المخاوف مع عجز الحكومة عن إعادة النازحين وتلبية احتياجات العائدين وفشل السياسيين في التغلب على خلافاتهم وتعثر عملية الإعمار بسبب الفساد المسشري." (أنظر: أسماء جميل رشيد، دكتورة، التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل – رؤية استشرافية، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 389/أيار 2017، بغداد، ص 29). كما أكد البروفيسور الدكتور سيّار الجميل بصواب أيضاً حقيقة عجز النظام الطائفي عن معالجة المشكلات القائمة حين أجاب عن السؤال التالي: "فهل الحكومة العراقية قادرة على تبني أي مشروع استراتيجي، كي تسترجع الموصل عافيتها وإعمارها؟ يقول سيار الجميل:
"أشك في ذلك، فالحكومة جزء من منظومة فاسدة، وتمثلّها دولة فاشلة.. يموت الناس من الجوع والحر الشديد، ولا منقذ ولا مجيب.. ورئيس الوزارة منشغلٌ باجتماعاتهِ وإلقاء نصائحهِ، غير آبه أو ملتفتٍ إلى الناس في محنتهم وآلامهم اليوم.. مبارك هو الانتصار على "داعش" وخلاص الموصل منه، ولكن المهم ما بعد "داعش"، فهل بدأت الحكومة مشروعاً أمنياً صارماً معتمدة على أهل البلد؟ هل بدأت بتنفيذ أي برنامج طويل المدى، كان من الضرورة إعداده منذ ثلاث سنوات؟ هل بدأت بإعمار المدارس والجامعة قبل قدوم بدء الدراسة؟ والمصيبة ما يتعرّض له أهل الموصل من حملات إعلامية وسباب وشتائم وأوصاف مطلقة جارحة من بعضهم. الانقسامات في داخل العراق سببّتها عملية سياسية جاءت بطغمة فاسدة جهولة وحقودة، لتتشكّل طبقة سياسيّة فاسدة أباحت نهب العراق، ونشرت الفساد، واعتمدت المحاصصة، وأشاعت الطائفية، وأحدثت مراكز قوى متعدّدة، لها ارتباطات خارجية، وسمحت للتدخلات الإقليمية العبث بمصير البلاد، واتخاذ القرارات نيابة بشأن مستقبلهم. التشدّق بالوطنية على ألسن الانقساميين لا ينفع أبداً، وكأن النصرَ الذي تحقق ليس عراقياً، إذ اعتبروه نصر مدن على مدينة، أو نصر طائفةٍ على أخرى، أو نصر طبقةٍ سياسيّة حاكمة.. النصر الحقيقي، يا سادة، عندما يتخلّص العراق نهائياً من كلّ الدواعش والفاسدين والجهلاء والمرابين وتجار الحروب بدماء الناس، أينما كانوا في أرض العراق." (أنظر: سيّار الجميل، دكتور، هل تعود الموصل إلى الحياة.. كما هيروشيما؟ الموقع الرسمي للسيد الدكتور. http://sayyaraljamil.com/، بتاريخ 25/07/)2017).
وضع الزميلان النقاط على الحروف وشخصا بوضوح طبيعة المشكلات أولاً، ومدى القدرة على معالجة هذه المشكلات. وسأحاول طرح وجهة نظري بشأن آفاق معالجة المشكلات الراهنة والمستقبلة التي نشأت بفعل النظام السياسي الطائفي وعواقب اجتياح واحتلال داعش.

قبل أن يتعرض العراق إلى اجتياح عصابات داعش المجرمة على مدينة الموصل ومن ثم بقية أقضية ونواحي محافظة نينوى، استطاع تنظيم القاعدة الإرهابي، ومن ثم تنظيم داعش المنبثق عنه والمنشق عليه، الهيمنة الفعلية على أجزاء مهمة من محافظات الأنبار (الفلوجة مثلاً) وصلاح الدين وأجزاء غير قليلة من ديالى والتغلغل الفعلي في مدينة الموصل وضواحيها بقوى مكشوفة على حدود بعيدة باعتبارها خلايا نائمة أو متحركة بعلم السلطات المحلية للموصل. وحين سلم حكام العراق، وعلى رأسهم رئيس الوزراء السابق والقائد العام للقوات المسلحة مدينة الموصل دون قتال إلى عصابات داعش، ثم اجتياح هذه العصابات بقية أجزاء محافظة نينوى دون أن تعترضها، بل انسحبت أمامها دون قتال قوات الپيشمرگة أيضاً. قبل هذا وذاك عاش العراق وشهد هيمنة الإيديولوجية الإسلامية السياسية وتنفيذ سياسات وإجراءات سياسية ذات وجهة طائفية متطرفة وقمعية من جانب الفئات التي تقود الحكم بالعراق منذ العام 2005 حتى الوقت الحاضر. كما تعرض العراق إلى نزاع دموي بين ميليشيات طائفية مسلحة شيعية وسنية، قادت البلاد إلى حرب ضروس وقتل على الهوية وتشريد وتهجير وتفجيرات واغتيالات ونهب وسلب للبشر وثروات المجتمع.
هذا الواقع المأساوي تسبب في نشوء مشكلات بين أبناء وبنات المجتمع الواحد الموزعين على أتباع ديانات ومذاهب عديدة واتجاهات فكرية متنوعة، إضافة إلى وجود عدة قوميات. ولم يستطع، بل ولم يرغب، من تسبب بنشوء هذه المشكلات، معالجتها. وهذا يعني إن عملية التغيير تستوجب بالضرورة وجود قوى أخرى ترفض النظام السياسي الطائفي المحاصصي، وترفض الاستبداد والقمع والاعتقال الكيفي والتعذيب .. الخ، وتعتمد الحرية والديمقراطية والمدنية أو العلمانية والمواطنة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية كمبادئ أساسية لها في ممارسة حكم البلاد، وتفصل بين الدين والدولة والدين والسياسة وبين السلطات الثلاث.
من هنا يبدو واضحاً بأن العراق، كل العراق، يواجه مأزقاً كبيراً ويعيش أزمة مديدة ومتراكمة ومتفاقمة العواقب، يواجه وضعاً عاماً وشاملاً يمس المجتمع بأسره ويئن تحت وطأة المزيد من المشكلات الكبيرة والصغيرة التي تستوجب الحل العاجل والشامل، ولكن لا وجود لمن يستطيع أو يريد معالجتها بين الفئات الحاكمة التي وضعت على رأس السلطة بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران والمرجعيات الشيعية في مدينة النجف. ولدى الكثير من الباحثين والمراقبين السياسيين قناعة بإن استمرار هذا النظام بصيغته الحالية فترة أخرى لا يعني سوى تفكيك حقيقي متفاقم للمجتمع وللدولة العراقية، المجتمع الذي يعاني من الصراعات، والدولة التي تعاني من هشاشة شديدة وغياب حقيقي للمؤسسات التي يستوجب الدستور وجودها الصحيح وليس الطائفي المريض الراهن.
فالعراق يقف أمام مجموعتين ومستويين من المشكلات الكبرى: المجموعة الأولى نشأت في المناطق التي تحررت عسكرياً من عصابات داعش وسبل معالجتها، ولكن لم تتخلص بعد من خلاياها النائمة، ومن تأثيرها الأيديولوجي الإسلام السياسي المتطرف، من سياساته الاجتماعية والثقافية، التي استطاع تنظيم داعش خلال عدة سنوات أن يكرس الكثير من معتقداته وأساليب عمله وأدواته في صفوف جمهرة غير قليلة من السكان السنة، لا في المناطق التي تعرضت للاحتلال فحسب، بل وفي مناطق أخرى. كما لا بد من التخلص من الفكر الشيعي الطائفي المؤدلج الذي عمق الصراع والكراهية والحقد والنزاع ضد السنة في صفوف جمهرة من الشيعة، والذي لا يختلف عن التطرف السني، إذ أن هذه الصراعات لم تبق محصورة في قيادات وكوادر وأعضاء الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية منها والسنية فحسب، بل تغلغلت في صفوف الكثير من الناس البسطاء الذين تأثروا بدعايات المتطرفين من قيادات وكوادر الأحزاب الشيعية العراقية أو الإيرانية أو حزب الله اللبناني. وعلينا أن نتابع مقترح حزب الفضيلة ونوابه لمشروع تغيير قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1958 بنهج إسلامي متطرف يقتطع حقوق المرأة وحقوق الأطفال من الإناث على سبيل المثال لا الحصر.
أما المجموعة الثانية من المشكلات أو المستوى الثاني منها، فهي التي تمس العراق كله والنظام السياسي الطائفي السائد فيه، وسبل تغييره جذرياً لصالح الدولة الديمقراطية العلمانية، والحكم المدني الديمقراطي الحر والحديث والإنساني.


287
كاظم حبيب
وماذا يجري بالموصل ونينوى بعد الانتصار المعلن على داعش؟
بعد أن نشرت سلسلة من المقالات حول الكثير من المواضيع المهمة الجارية بالعراق، بما في ذلك حول الموصل والنازحين، لاحظ صديق عزيز، مع حفظ الأسماء، ما يلي:
"استاذي الكريم، مازال الآلاف من الضحايا الأبرياء في الموصل تحت الأنقاض، وليس هناك اهتمام بإخراجهم، كما أن آلافا أخرى فقدت معيلهم وكل ما تملك، وأصبحوا حتى بدون لقمة خبز، والحكومة سادرة بغض النظر، رجاء انظروا الى هذين الشريطين:
https://www.facebook.com/ALMossul/videos/480906858976033/
وربما رأيتم هذا لأنه ألماني:
https://www.facebook.com/ZeitimBild/videos/10155387180396878/
تحياتي" (أرشيف ك، حبيب).
وكنت قد وجهت استفساراً لصديق عزيز يعيش في المنطقة استفسر منه عما يجري بالموصل ونينوى بعد الانتصار المعلن على داعش، فكان جوابه الآتي:
“ عزيزي الدكتور كاظم حبيب المحترم .. تحية وتقدير .. حول الموصل لا يزال الخوف والقلق موجود في صفوف العائدين .. الى جانب الاهمال التام بموضوع اعادة بناء ما دمره الارهابيون والعمليات العسكرية .. كما أن هناك اعداداً كبيرة تخاف من العودة لا سيما في الجانب الايمن (المنطقة القديمة) .. وبيوتهم مدمرة للغاية.. اما مناطق سهل نينوى برطلة قره قوش كرمليس رجعت الكثير من العوائل المشكلة الان الحشد الشبكي الذي يقوده النائب حنين القدو بدأوا بممارسة اساليب استفزازية + تحرش + اسلوب جاف في السيطرات + رفع رايات مذهبية بشكل غير طبيعي الخ .. الناس جدا مستائين منهم ومنهم من يفكر بالرجوع الى عنكاوا .. تقبل تحياتي." (أرشيف كاظم حبيب).
والآن اليكم ما ذكره البلاغ الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بتاريخ الخميس 14/ 12/ 2017 والمنشور على صفحت جريدة "طريق الشعب" ص 5 + 6 + 7 + 8 بشأن المناطق التي كانت تحتلها داعش (الموصل ونينوى): وتحت عنوان "عودة النازحين وإطلاق عملية البناء" ما يلي:
"والى جانب المهمات الملحة المتمثلة بتأمين المناطق المحررة من المفخخات والألغام والعبوات التي زرعها التنظيم الإرهابي في هذه المناطق، والقضاء على جيوب الإرهاب المتبقية وكشف خلاياه النائمة ومنع تسرب الإرهابيين مجددا إليها، يتوجب الإسراع في إعادة الخدمات الأساسية اليها. وان مواجهة حجم الدمار الحاصل تحتاج الى معونة ودعم دوليين، والى العمل على توظيف كل الامكانيات لتأمين عودة سريعة للنازحين الى بيوتهم وقراهم ومدنهم، والتعامل المرن من جانب السلطات المعنية بذلك بعيدا عن كل ما يمس التركيب الديموغرافي للسكان، وعن اي محاولة للتعامل وفق مقاسات سياسية وطائفية وانتخابية. وعلى ان يتم ذلك من دون الاخلال بمعايير الامن والاستقرار، مع التوجه الى قطع الطريق على استئناف البؤر الارهابية نشاطها الاجرامي.
وتبرز بعد الانتصار على داعش مهمة عاجلة لا تقبل التأجيل او التراخي، تتمثل في السعي الحثيث الى ترميم النسيج المجتمعي في المناطق المحررة. فجرائم داعش والانتهاكات البشعة التي ارتكبها بحق أهالي تلك المناطق، كما حصل للنساء الإيزيديات مثلا، ومشاركة بعض أهالي المناطق ذاتها من الدواعش في هذه الجرائم، خلفت أحقادا ونزعات قوية للثأر لدى بعض ذوي الضحايا وعشائرهم، وذلك ما ينبغي تداركه وتطويقه عن طريق إدارات فاعلة، على المستويين المدني والأمني، تحظى بثقة الأهالي، وتكون بعيدة عن التعصب القومي والديني والمذهبي والمناطقي، وان يكون القضاء هو الفيصل في نهاية المطاف لحسم الاشكالات الحاصلة.
ان العديد من القيادات السياسية والادارية والامنية في المناطق التي سيطر عليها داعش قد فقدت الكثير من صدقيتها امام الاهالي، وان البعض منها تلاحقها تهم الفساد، وحتى التواطؤ بهذه الدرجة او تلك مع الارهابيين او التخلي عن مناطقهم والهروب الى مناطق آمنة، فيما المواطنون يعانون الامرين في خيام اللجوء والنزوح، او يضطرون للبقاء تحت همجية التنظيم الارهابي. لذا فان هناك الكثير من الشكوك بشأن قدرة نفس القيادات على ادارة هذه المناطق بعد تحريرها، فضلا عن وجود مخاوف جدية من ان تتعرض الاموال التي ستخصص لإعادة الاعمار والبناء الى السرقة، كما حصل بالنسبة الى تلك المخصصة للنازحين، او ان تبدد عن طريق ادارة غير سليمة لها.
ان اوضاع هذه المناطق تحتاج الى اهتمام أكبر من جانب كل الاطراف الحكومية، وكذلك الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية. فالمهمة العاجلة هي إعادة الحياة الطبيعية اليها، والتعامل معها باعتبارها مناطق منكوبة، والسعي الى النأي بها عن صراعات المصالح والنفوذ. وهناك في هذا المجال دور كبير لأبناء هذه المناطق في التحرك والسعي الى فرض ارادتهم عبر مختلف التشكيلات والهيئات الضاغطة، وبما يساعد على اجتذاب العناصر الكفؤة والوطنية والنزيهة الى العمل وتولي المسؤوليات وخلق الاجواء لتحقيق مصالحة مجتمعية فاعلة."
وأجد نفسي منساقاً إلى خارطة الطريق التي طرحها الزميل والصديق العزيز الأستاذ الدكتور سيار الجميل ومتفقاً معه، بعنوان هل تعود الموصل إلى الحياة.. كما هيروشيما؟ والتي نشرت بتاريخ 24/07/2017 وفي موقعه الشخصي، التي أكد فيها ما يلي:
"أولا: تشكيل هيئة حاكمة وقوات ردع تستمد صلاحياتها من الحكومة المركزية، وهي قيادية عسكرية واستشارية مدنية محلية، لتوطيد الأمن والنظام على مدى خمس سنوات، لمنع أية خروق أو إحداث أعمال شغب، وأخذ ثارات وعمليات فساد، وقطع دابر الإرهاب.
ثانيا: تأسيس هيئة إعمار فنية وخدمات بلدية من أبناء المدينة للإعمار والصيانة لكلّ المؤسسات الحكومية والمستشفيات والمعامل والدوائر والشوارع والكهرباء والماء والحدائق والأبنية الرسمية وغيرها.
ثالثاً: تأسيس وزارة عراقية باسم وزارة الموصل لتأمين إعمار المدينة، بعد خرابها، يقودها خبير مختص، وتخصيص ميزانية لإعمار الموصل، مع هيئة مالية ورقابية للصرف والنزاهة والرقابة، بحيث تكون صمام أمان على الودائع والمنح والتبرّعات من الدول والمنظمات وصناديق الإغاثة، وتخضع للتفتيش الدوري الأسبوعي.
رابعاً: الإسراع في إصلاح الجسور الخمسة بين الساحلين، الأيمن والأيسر، وإصلاح المستشفيات والمستوصفات كلها، ثم الجامعة وكل المدارس، مع توفير الكهرباء والماء.
خامساً: تأمين عودة النازحين إلى بيوتهم ومناطقهم، مع تسهيلات عودتهم وضبط أماكن وجودهم، شريطة عودة أهل الموصل فقط، بعيدا عن الغرباء والطفيليين الذين قدموا قبل “داعش”، في أثناء وجودها، وبعد زوالها، فمن الضرورة، الحفاظ على ديمغرافية كل محافظة نينوى.
سادساً: تعويض الذين تضررّوا جراء وجود “داعش”، وفي أثناء تحرير المدينة، وعودة الحقوق إلى أصحابها من كل أبناء الطيف، مع تأمين مستقبل المعوقين والأيتام والمشرّدين.
وأخيرا، تحيّة مباركة الى كلّ الشهداء العراقيين الابرار، والى كلّ الضحايا الابرياء الذين سالت دماهم وذهبوا من اجل العراق وحريته ومستقبله، فهم قرابين هذا الوطن .. تحيّة الى كلّ المقاتلين الصادقين .. الى كلّ من قضى تحت الأنقاض .. الى كلّ الصامدين والمنكوبين في الموصل وانحائها قاطبة .. الى اليتامى والارامل والمشردين والمعوقين والمسحوقين. نأمل ان يأخذ كلّ المسؤولين والمواطنين مثل هذه المقترحات في أعلاه على محمل الجدّ، من أجل اعادة البناء والتعلّم من التجارب المضنية والدروس القاسية .. نأمل أن يتخّلص العراق مستقبلاً من كلّ أمراضه ومن كلّ الاوبئة التي تجتاحه، وتعود الموصل إلى الحياة، كما عادت هيروشيما في اليابان من قبل.. إنني متفائل بعودتها بإذن الله، فقد تميّز أهلها بالصمود الاسطوري والعمل الجاد والمهنيّة والفن والإبداع والاستجابة لأشدّ التحديات التاريخية المريرة."
لا أجد ما أضيفه إلى الكوارث التي حلّت بالموصل ونينوى، والتي أجد ضرورة توسيع موضوع وزارة خاصة بالموصل إلى أن تكون وزارة خاصة بإعمار محافظة نينوى بما فيها عاصمتها الموصل، وما ينبغي القيام به لمعالجة إعادة البناء والتعمير ومعالجة المشكلات الصحية والنفسية والاجتماعية التي خلفتها الكوارث المتتالية خلال طيلة الفترة المنصرمة منذ سقوط الدكتاتورية حتى الآن ولاسيما في أعقاب تسليم الموصل ونينوى بأيدي داعش في ظل النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة للمجتمع العراقي والإنسان الفرد أيضاً وتحت حكم الوزارة السابقة ورئيسها السابق.

288
كاظم حبيب
هل حرق الأعلام هو الأسلوب المناسب للاحتجاج؟
غالباً ما يلجأ المتظاهرون المتحمسون في الدول العربية والدول ذات الأكثرية المسلمة إلى حرق أعلام الدول التي يحتجون عليها لأي سبب كان. وهم يعتقدون بأنهم في ذلك يوجهون إهانة إلى الدولة المعنية. والحقيقة غير ذلك، فهذا العمل يرتد على فاعليه سلباً، إذ يؤكد ابتعاد هؤلاء عن الأسلوب الإنساني والحضاري في التعبير السلمي عن الاحتجاج الشديد وحتى الغاضب منه. فحرق الأعلام ليس عملاً بدائياً فحسب، بل وفيه الكثير من نوع الغضب الذي يفقد صاحبه سوية التعبير عن احتجاجه ويجعل منه مليئاً بالحقد والكراهية، لأنها غير موجهة للدولة المعنية أو لشخصية قيادية فيها، بل هي موجهة إلى الفرد والمجتمع مباشرة، وهما اللذان يرمز لهما العلم. فهي إساءة لا مبرر ولا معنى إنساني لها، إذ بإمكان الاحتجاج أن يعبر عنه بمئات الصيغ دون أن يكون عبر حرق علم هذه الدولة أو تلك، أو حتى حرق صور هذا الرئيس أو ذاك أو طرح شعارات تجسد روحاً عنصرية أو شوفينية.
لقد انتشرت بالدول ذات الأكثرية المسلمة ظواهر سلبية كثيرة وخطيرة، وهي ليست حديثة العهد، بل هي قديمة، والتي اقترنت بممارسات مذلة في الإمبراطوريتين العباسية والعثمانية، ومن ثم في العراق الحديث ايضاً، منها مثلاً القتل وسحل الضحية بالحبال عبر الشوارع والتي، بزَّ بها وتفوق العراقيون على سائر شعوب العالم بعد ثورة 14 تموز 1958. إن هذه الطريقة الوحشية والمزرية لكرامة الإنسان وحرمة الميت، وكذلك ما يحصل في ممارسة التطبير، أي شج الرؤوس بالسيوف، بمن فيهم الأطفال، أو الضرب على الظُهوُر بسلاسل حديدية مزودة في نهاياتها بسكاكين حادة صغيرة، أو اللطم  المخزي على الصدور العارية في فترة عاشوراء في كربلاء والنجف وفي عدد من المدن ذات الأكثرية الشيعية، بذريعة إبراز الحزن على الإمام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب وصحبه الكرام، في حين إنها أكبر إساءة يمكن أن توجه لاستشهاده، والتي استنكرها علماء مسلمون متنورون، أو الصراخ العبثي المعيب "بالروح بالدم نفديك يا صدام، أو يا حافظ أو يا بشار، أو يا سيسي"، والتي لا تعني غير "بالروح بالدم نفديك يا ديكتاتور!!"، أو حرق الإعلام والدوس عليها أو حرق الصور والدوس عليها أو ضربها بالأحذية .. إنها أساليب ليس فقط مستهجنة، بل تعبر عن وعي غير عقلاني عن المضمون السلبي لهذه الظاهرة وردود أفعالها لدى الناس المتحضرين.
لم تبق هذه العادات والتقاليد البدائية المستهجنة تمارس داخل الدول ذات الأكثرية المسلمة فحسب، بل انتقل بها المسلمون من العرب وغير العرب إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة وأستراليا وكندا وغيرها من الدول، وهو أمر بالغ الضرر والخطورة. إذ إنه لا يقابل بالاستنكار والاستهجان من شعوب تلك الدول فحسب، بل يُعرض فاعليه إلى المساءلة القانونية، بسبب تجسيده لروح وإشاعة الكراهية والحقد وإثارة النعرات والصراعات بين البشر في الدول المضيفة التي لا ناقة لها فيها ولا جمل!
لقد خرجت مظاهرات واسعة في مدن أوروبية كثيرة احتجاجاً على قرار رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامپ بالاعتراف بالقدس عاصمة منفردة لإسرائيل ونقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. إن هذا القرار ليس خاطئاً ووقحاً فحسب، بل عمق الصراعات وشدد من المشكلات القائمة ودفع إلى المزيد من التطرف في التعامل مع القضية وأدى حتى الآن على ضحايا بشرية في الجانب الفلسطيني. وكانت كل تلك الدول الأوروبية وغيرها قد اتخذت موقفاً سليماً، إذ رفضت قرار ترامپ واعتبرته تجاوزاً على الشرعية الدولية وعلى قرارات مجلس الأمن الدولي ومنها 242 و338 ومخلاً بدور الولايات المتحدة باعتبارها الوسيط لحل الدولتين، إسرائيل وفلسطين، واعتبار القدس ضمن الحل النهائي لتكون عاصمة للدولتين. وقد عبروا عن ذلك صراحة لنتنياهو بباريس وبروكسل في لقائه معهم، وكان خروج التظاهرات والتعبير عن الاحتجاج مسموح له في كل الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، وكان ظاهرة حضارية مطلوبة لمن يريد التعبير عن احتجاجه، كما إنها مكفولة دستورياً. إلا إن بعض هذه التظاهرات قد اقترن حتى الآن بقيام بعض الأفراد بعمل غير صائب ومؤذٍ للقضية الفلسطينية وقضية القدس مباشرة. فليس سليماً حرق العلم الإسرائيلي والعلم الأمريكي في وسط ساحات الاحتجاج، إذ إن هذا لا يثير استياء وغضب ورفض مواطنات ومواطني هاتين الدولتين فحسب، بل وشعوب الدول الغربية كلها، إذ تعتبرها أساليب استفزازية ومنافية لدساتيرها وقوانينها، كما إنها تثير الأحقاد والكراهية وتسيء للآخرين بحرق أعلامهم. إن هذا الأسلوب لم يُرفض من شعوب هذه الدول فحسب، بل من كل المتحضرين العرب والمسلمين وغير المسلمين المدركين لخطأ هذا الأسلوب، وهو الذي جعلهم ينسحبون من تلك المظاهرات أو أنهم تجنبوا المساهمة فيها لأنهم كانوا على قناعة بما يمكن أن يحصل فيها.
إن من ساهم بحرق هذا العلم أو ذاك في تلك المظاهرات قد ظهرت صورته على شاشة التلفزة، وهناك دعوات بإصدار قوانين صارمة في هذا الصدد، إضافة إلى المطالبة بتقديم من مارس ذلك إلى المساءلة القانونية، لأنها تعتبر ضمن الأساليب التي تجسد الحقد والكراهية ضد اليهود، ضد السامية، وليس ضد سياسة حكومة إسرائيل وحدها، بل ضد كل يهود العالم، لأن النجمة السداسية هي ليست رمزاً لإسرائيل بل ليهود العالم، وهي التي أحرقها النازيون أيضاً (الهولوكوست، أو الإبادة الجماعية) وأحرقوا معها ستة ملايين يهودي في أغلب الدول الأوروبية، ولاسيما في ألمانيا وبولونيا، على سبيل المثال لا الحصر، كما إنها ليست ضد سياسة ترامپ وحده، بل ضد الولايات المتحدة والشعب الأمريكي. ومثل هذا التفسير الصائب يتطلب أن يعيد هؤلاء الناس بسلوكهم وأن يعالج من جانب منظمي الاحتجاجات، وأن يجري إعادة تثقيف أولئك الذيم ما زالوا يحملون حقداَ ضد اليهود، باعتبارهم يهوداً، وليس اعتراضاً على سياسات حكومة إسرائيل اليمينية أو احتجاجاً على سياسة دونالد ترامپ المثيرة للصراعات وسفك الدماء.
أتمنى على أبناء جلدتي، الذين تورطوا بمثل هذا الأسلوب، أن يكفوا عن ممارسته، لأنه لا يعبر عن مستوى مناسب من الوعي الحضاري في أسلوب التعامل مع الاحتجاج على سياسة ما أو موقف ما، لأنها تحصد العكس ولا تصل إلى قلوب وأفئدة وتأييد الرأي العام العالمي بصورة مناسبة وسليمة، وخاصة لقضية مثل قضية فلسطين والقدس.     

     

289
كاظم حبيب
ماهية النهج الأمريكي في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وعواقبه!
السؤال المباشر الذي يفترض أن نطرحه على أنفسنا نحن العرب جميعاً هو: هل من جديد في الموقف الأمريكي من إسرائيل، سواء أكان قبل أم بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وقرار نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس؟
لا أرى أي جديد في حقيقة النهج الأمريكي ولا في السياسة الأمريكية للقادة الأمريكيين إزاء إسرائيل وإزاء القضية الفلسطينية؟ إنها السياسة الرسمية منذ عقود، وما عداها ليس سوى تكتيكات تجهيلية وذر الرماد في العيون، وبالتالي فليس في هذا الموقف سوى المزيد من الوضوح والصراحة لمن كان على عينية غشاوة، وتأكيد لمن كان يحاول المراوغة على ماهية نهج وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية من الدول العربية أو من الجامعة العربية أو من القمم العربية أو لخداع الشعوب العربية.
أنا لست ضد وجود إسرائيل كدولة قائمة بجوار الدولة الفلسطينية. كما أني لست ضد اليهود باي حال، ولا أميز بين اليهود بإسرائيل أو اليهود في دول العالم الأخرى، فكل اليهود المؤمنين منهم يؤمنون بالتوراة والنبي موسى، وهكذا بالنسبة للمسلمين مع القرآن والنبي محمد أو المسيحيين مع الإنجيل والنبي عيسى. وأحترم أتباع هذه الديانات وغيرها جميعاً دون استثناء. وقد صدر لي كتاب عن يهود العراق تحت عنوان "يهود العراق والمواطنة المنتزعة" عد دار المتوسط بإطاليا في العام 2015، حيث بينت فيه الكوارث التي تعرضوا لها وإسقاط جنسيتهم عن طريق الغدر والخيانة. كما كتبت مقالاً عن الهولوكوست ضد اليهود بأوروبا وخطأ عدم اعتراف القوميين والإسلاميين السياسيين العرب بهذه الجريمة العالمية ضد اليهود تحت عنوان "هل لعقلاء العرب والمسلمين من مصلحة في نفي الهولوكوست ومحارق النازيين ضد اليهود في أوروبا؟ ونشر في الحوار المتمدن برقم 4418 بتاريخ 8/4/2014. وهذا الموقف الطبيعي إزاء اليهود يجعلني أميز بوضوح شديد بين اليهود في كل مكان من العالم وبين النهج اليميني والسياسات اليمينية الفعلية التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بقيادة الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة منذ عقود إزاء الشعب الفلسطيني، إذ إنها سياسة ذات نهج شوفيني وعنصري واحتلال بغيض للأراضي التي تعتبر ضمن الدولة الفلسطينية منذ العام 1967 حتى الوقت الحاضر، كما أنها تمارس سياسة تمييز واضحة إزاء العرب في الدولة الإسرائيلية. كما وأني ضد التطرف القومي بكل أشكاله ابتداء بالتطرف القومي اليهودي الذي يبرز في الفكر الصهيوني المتطرف، وانتهاء بالتطرف القومي العربي، الذي يبرز في المواقف العنصرية والشوفينية لقوى قومية وإسلاميين سياسيين متطرفين، والذي يجد تعبيره ضد اليهود أيضاً. ومن المعروف أن القوميين اليمينين والمتطرفين في كل أنحاء العالم يلتقون في كرههم للآخر من مطلقات عنصرية وشوفينية أو دينية وذهبية.
إسرائيل دولة محتلة للضفة الغربية والقدس منذ العام 1967. صدرت قرارات كثيرة عن مجلس الأمن الدولي، لاسيما القرار 242 والقرار 338، التي لم تلتزم بها إسرائيل، إضافة إلى قيامها المستمر ببناء المستوطنات في أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية والتي حرمها مجلس الأمن الدولي، والتي تعتبر بحق خارج الشرعية الدولية. وقد بلغ عدد المستوطنين فيها أكثر من 800 ألف مستوطن يهودي من مختف أرجاء العالم الذين نزحوا إلى إسرائيل من دول كثيرة.
إن جميع القرارات التي كان يفترض أن تصدر عن مجلس الأمن الدولي خلال العقود المنصرمة، والتي كانت تدين سياسات إسرائيل إزاء الشعب الفلسطيني أو الأرض الفلسطينية أو بناء المستوطنات في على أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، كانت تجابه بالفيتو الأمريكي، رغم تأييد 14 دولة في مجلس الأمن لتلك القرارات أو أغلبها، وبالتالي كانت تقف بصراحة ووضوح إلى جانب إسرائيل وضد فلسطين والسلطة الفلسطينية. لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية بوماً ما محايدة في الموقف إزاء إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بل كانت باستمرار وبالمطلق إلى جانب إسرائيل. وإذا كانت تصدر بعض التصريحات بطلب إيقاف بناء المستوطنات لفترة معينة، فلم يكن ذلك جدياً بل كان لذر الرماد بعيون الناس وللتخفيف من الضغط على الحكام العرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. ما كان في مقدور إسرائيل التطاول على قرارات مجلس الأمن الدولي لولا عدة عوامل جوهرية:
1.   موقف الولايات المتحدة الأمريكية المتحيز بالكامل لصالح إسرائيل على امتداد العقود المنصرمة ولاسيما بعد عام 1967.
2.   موقف الدول العربية الرافض شكلياً لسياسة إسرائيل، ولكنها التابع الذليل كلياً لسياسة الولايات المتحدة المؤيدة لإسرائيل، وهي حليف الدول العربية في المنطقة وحاميها من الانهيار تحت ضغط ورفض شعوبها. وهذا الموقف يجد تعبيره في قرارات الجامعة العربية المكتوبة والمفرغة من أي فعل حقيقي لصالح القضية الفلسطينية.
3.   الموقف غير الموحدة لقوى وأحزاب وجماعات منظمة التحرير الفلسطينية وصراعها الدائم، ولاسيما الموقف القومي المتطرف السابق، ومن ثم الموقف الإسلامي السياسي المتطرف الجاري من قبل حماس والجهاد الإسلامي وغيرها، في شق وحدة الصف الفلسطيني وفي طرح شعرات متطرفة لا تساعد على تحقيق الدعم الضروري للقضية الفلسطينية دولياً.
4.   التدخل الفظ وغير الإيجابي والمتطرف لبعض الدول والقوى الإسلامية السياسية المتطرفة في شؤون القوى الفلسطينية ومواقفها، مثل إيران وحزب الله بلبنان.   
5.   الموقف المهيمن للولايات المتحدة على موقف دول الاتحاد الأوروبي وخشية الأخيرة من لعب دور أكبر وأفضل وأكثر حيادية لحل القضية الفلسطينية وفق شعار "الأرض مقابل السلام" لصالح الطرفين وللسلام في منطقة الشرق الأوسط.
لقد ساهمت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة، ومواقف الحكومات العربية الذليل من جهة أخرى، إلى تفاقم النهج المتطرف لقوى الإسلام السياسي على نطاق كل بلد عربي وإسلامي وفي منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا، وهو الأمر الذي يصعب معالجته دون إيجاد حلول عملية لمشكلة فلسطين أولاً ومشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية أخرى من جهة ثانية. وما ظاهرة حماس والجهاد الإسلامي في أراضي الضفة الغربية وغزة أولاً، وتنظيمات القاعدة وداعش وغيرها من التنظيمات المسلحة والمتطرفة والإرهابية سوى التجسيد الحقيقي لهذه المشكلات، ولاسيما القضية الفلسطينية.
إن الموقف أو القرار الأخير للولايات المتحدة ليس سوى التتويج لنهجها وسياساتها ومواقفها السابقة عبر رئيس جديد ليس مخبولاً، كما يخيل للبعض، ولكنه رجل نرجسي بصورة مرضية وسادي متطرف في مواقفه وقراراته وواضح في عدائه للإسلام والمسلمين بغض النظر عن مواقف المسلمين، الصحيحة منها أو الخاطئة، ويطمع في أموال العرب والمزيد من الحروب بينهم لبيع لمزيد من السلاح والتهام المزيد من أموالهم والمزيد من الفقر لشعوبهم وتحقيق الهيمنة الفعلية على مقدراتهم. الكل يتابع بأن الولايات المتحدة تنصر إسرائيل حقاً أو باطلاً (أنصر حليفك ظالماً أو مظلوماً) وهو ليس في صالح شعب إسرائيل على المدى البعيد، وهي بانتظار الوقت الذي يعلن فيه أن ليس هناك فلسطين، بل الأرض كلها لإسرائيل، فالوقت كما ترى أمريكا الشمالية في صالح إسرائيل وليس في صالح العرب! لقد اختار دونالد ترامپ ظرفاً عصيباً تعيش تحت وطأته الشعوب العربية، حيث حكامها المستبدون القساة زجوا بشعوب بلدانهم في حروب طاحنة ومدمرة وبمساعدة مباشرة وغير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، والرابح الوحيد هو الولايات المتحدة وإسرائيل والحكام العرب، والخاسر الوحيد هو الشعوب. وفي هذا الموقف الأخير هبت دول أوروبية كثيرة، كما هب الاتحاد الأوروبي ليعلن رفضه لقرار ترامپ الصريح في عدوانيته الصريحة للعرب، ووقف ماکرون ليعلن صراحة وبوجه نتنياهو رفض فرنسا لهذا القرار باعتباره مخالفاً للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن واعتبار مسالة القدس تحل بالتفاوض وفي المرحلة النهائية لحل القضية الفلسطينية. وكان موقف ألمانياً مماثلاً لموقف فرنسا والذي عبرت عنه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بقولها: إن حكومتها لا تدعم قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ونقل المتحدث باسم ميركل شتيفان زايبرت عن ميركل قولها في تغريدة على تويتر إن الحكومة الألمانية "لا تدعم هذا الموقف لأن وضع القدس لا يمكن التفاوض بشأنه إلا في إطار حل الدولتين". (موقع الوطن، بتاريخ 6 كانون الأول 2017). 
إن ماهية السياسة الأمريكية هي نصرة إسرائيل فقط ودون تمييز بين الصائب الخاطئ، وهي بذلك لا تصلح أن تكون وسيطاً وحكماً بين دولة إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وكان على منظمة التحرير الفلسطينية أن تدرك ذلك منذ سنوات كثيرة. ولذلك لا بد من استبدال الولايات المتحدة بدول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين الشعبية والهند ودول أخرى أكثر حيادية وأكثر عدلاً وإنصافاً بهدف الوصول إل الحل العادل والدائم بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
لا بد من إقامة الدولة الفلسطينية، ولابد من جعل القدس عاصمة للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، ولا بد من جعل المراقد والمواقع المقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين مفتوحة للجميع، ولا بد من إحلال السلام الدائم والعادل بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، عبر الالتزام بقاعدة "الأرض مقابل السلام". كما لا بد من إيجاد الحل لإنهاء احتلال الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية. إذ بدون ذلك سيبقى الأمن والاستقرار في قلق دائم، ويستمر توقف التنمية والتقدم، كما سيستمر التطرف واحتمال وقوع حروب جديدة باعتبارها السمة التي أصبحت تميز منطقة الشرق الأوسط منذ عدة عقود. 
لقد وسع ترامپ وشدد من التوترات السياسية والحروب الجارية في منطقة الشرق الأوسط وألقى بالمزيد من الزيت على النيران المستعرة، وسيكون حصادها أبشع وأكثر من ذي قبل، سواء بعدد القتلى والجرحى والمعوقين، أم بالخراب والدمار والخسائر المالية والحضارية، أم بنشر المزيد من الكراهية والأحقاد بين شعوب العالم ومنطقة الشرق الأوسط، والكثير من البؤس والفاقة لشعوب المنطقة، والدفع بسباق التسلح لشراء أو إنتاج المزيد من الأسلحة لتحقيق أقصى الأرباح السنوية لصناع وتجار الحروب والموت والخراب بالعالم. لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة أكثر دول العالم مبيعاً للسلاح والعتاد، ولاسيما لدول منطقة الشرق الأوسط ولتلك الدول التي تنهشها الحروب ويسودها الاستبداد والقمع.
       


290
كاظم حبيب
هل يتعلم كل حكام العراق من تجارب ودورس الماضي؟
لا أغوص بعيداً في تاريخ العراق القديم والوسيط، بل يكفيني أن أستعيد ما قرأته من كتب وعلوم التاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وعلم النفس، التي استعنت بها لكتابة 11 مجلداً من كتابي الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين" الصادر عن دار أراس في العام 2013، أو لنشر كتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة بالعراق"، الصادر عن دار حمدي في العام 2005، وكتابي الموسوم الفاشية التابعة في العراق الصادر في العام 1984 وأعيد طبعه في العام 2008 عن دار حمدي أيضاً من جهة، ومعايشتي لأحداث العراق وفواجعه ونكباته المتلاحقة لما يقرب من سبعة عقود، لأضع بكل تواضع ومسؤولية أمام القارئات والقراء الكرام استنتاجاً واحداً بسيطاً جداً من مجموعة مهمة من الاستنتاجات، ولكنه في الوقت نفسه مهم جداً للعيش المشترك بين أبناء وبنات القوميات العديدة بالبلاد، الاستنتاج يؤكد " أن حكام العراق كلهم دون استثناء منذ تأسيس الدولة العراقية حتى يومنا هذا لم يدرسوا بشكل عميق ولم يطلعوا بما يكفي على تجارب الماضي، كما لم يتعلموا من دروس الماضي أو يتعظوا بها، بل كلهم دون استثناء كرروا وما زالوا يكررون حتى يومنا هذا ارتكاب الأخطاء ذاتها، سواء أكان ذلك في مجال السياسة، بما في ذلك جانبها العسكري، أم الاقتصاد أم الحياة الاجتماعية والثقافية، وينتهون إلى العواقب الوخيمة وإلى المصير ذاته بصيغ عديدة. وهم أثناء ممارستهم الحكم يصابون بذات العلل التي أشرت إليها في مقالي الأخير الموسوم "النرجسية المرضية والسادية عِلتان يتميز بها حكام الشرق الأوسط"، المنشورة بتاريخ 30/11/2017، وفي مقدمتهم طبعاً حكام العراق، حيث يلعب الكثير إعلاميو الإعلام الرسمي والانتهازيون ووعاظ السلاطين والمرتزقة دورهم الفعال في إصابة هؤلاء الحكام بمثل هذه العلل وغيرها. والجانب الآخر من هذا الاستنتاج هو أن الشعب الذي اكتوي بسياسات القوى الاستبدادية والشوفينية والطائفية المتتالية لا يتعظ هو الأخر بما يفترض أن يواجه به مثل هؤلاء الحكام، وأنه ذو ذاكرة قصيرة لها عواقبها الشديدة على المجتمع بأسره.
فحكام العراق رفضوا، على امتداد القرن العشرين وما يقرب من عقدين من القرن الحادي والعشرين الذي نحن فيه اليوم، الاعتراف بحق أبناء وبنات القوميات الأخرى بحقوقهم القومية المشروعة والعادلة، ولاسيما حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، كما هو موقف وحال الحكام الترك والحكام الإيرانيين إزاء القضية ذاتها. وإذا ما اعترف بعضهم بالعراق ببعض هذه الحقوق، كما حصل في فترة حكم البعث في بيان أذار عام 1970، فأن هذا الاعتراف قد شوه تماماً، إذ اقترن بجهود حثيثة من جانب قادة الحزب البعث الحاكم والحكم الشوفيني بإفراغ الحكم الذاتي للإقليم من محتواه الديمقراطي والتآمر والإجهاز عليه. وكانت حصيلة الموقف غير الإنساني المديد عواقب كثرة ووخيمة، والتركيز هنا ينصب على التجربة العراقية:
1) المزيد من المعارك المسلحة والحروب الداخلية؛ 2) المزيد من القتلى والجرحى والمعوقين والعلل النفسية؛ 3) المزيد من الخسائر المالية والمادية والدمار وتعطيل عملية التنمية والتطور الاقتصادي؛ 4) المزيد من الأحزان والآلام والدموع والكراهية والأحقاد التي نشرت الشوفينية وعمقت ضيق الأفق القومي والتي دأب الحكام بالعراق على نقلها إلى صفوف الشعب؛ 5) السماح بالتدخل الأجنبي الإقليمي والدولي في شؤون العراق الداخلية؛ 6) تفاقم عدم الاستقرار والأمن الداخلي بالعراق والمنطقة، وغالباً ما أدى كل ذلك إلى سقوط الأنظمة السياسية بأساليب مختلفة؛ 7) المزيد من التعقيدات في القضية الكردية ذاتها ووضع العراق عموماً.
حقق الكرد في العام 1991/1992 مكسباً ضمن حقوقهم العادلة والمشروعة إقامة الفيدرالية الكردستانية ضمن الدولة العراقية، وهي نتاج نضالهم المليء بالتضحيات ومشاركة وتضامن المناضلات والمناضلين العراقيين من غير الكرد مع هذا النضال، والدعم الدولي، ولم يعلنوا الانفصال أو إقامة دولتهم الوطنية المستقلة، والتي تعتبر شكلاً من أشكال عدة في ممارسة حق تقرير المصير. واستمر هذا الوضع وباستقلالية عالية عن الحكم الدكتاتوري البعثي ببغداد واستفادت المعارضة العراقية كثيراً من وضع الإقليم حينذاك. وفي فترة المعارضة للنظام الصدامي والسعي لإسقاطه اتفقت قوى المعارضة السياسية، سواء تلك التي أيدت إسقاط النظام عبر الحرب الخارجية أم رفضته وأكدت ضرورة إسقاطه عبر الشعب وقواه السياسية وبدعم وتضامن الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، على الاعتراف بحقوق الشعب الكردي وبقية القوميات، وعلى إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية والمجتمع المدني بالعراق.
وحين أسقطت الدكتاتورية الغاشمة على أيدي التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا وبعيداً عن قرار من مجلس الأمن الدولي وفرض الاحتلال الدولي (الأمريكي-البريطاني) الفعلي على العراق، فرض المحتلون على العراق وأهله نظاماً سياسياً طائفياً ومحاصصة طائفية في سلطات الدولة العراقية الهشة الثلاث كافة وبالتنسيق مع أحزاب عراقية بعينها وبدعم مباشر وكثيف من إيران. وقد نسى القادة والأحزاب التي أيدت الحرب الاتفاقات التي جرت قبل إسقاط الدكتاتورية واتفقوا على إقامة النظام السياسي الطائفي – الأثني بالعراق. إذ حين وضُع الدستور العراقي في العام 2005 أُقرت فيه الفيدرالية، ولكن لم يثبت حق تقرير المصير. وهو خطأ ساومت به القيادات الكردية في حينها، كمساومتها على إقامة نظام المحاصصة الطائفية والأثنية بالعراق، الذي أضر بهم وبالشعب العراقي كله وباستقلال وسيادة الوطن أيضاً. وكان البعض يتصور بأن الصراع العربي الشيعي السني سيسهم في خدمة القضية الكردية. ولم يكن هذا التصور خاطئاً فحسب، بل ومضراً جداً وحذرنا منه كثيراً ولم ينفع ، وبالتالي ألحق أضراراً فادحة بالجميع.
لم يضع حكام العراق والمجلس النيابي الطائفي - الأثني القوانين المنظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمجالس المحلية في المحافظات، كما لم تصدر القوانين الأخرى التي تنظم باقي العلاقات الاقتصادية والمالية والصلاحيات على أسس عقلانية وواقعية سليمة تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الجميع. وكانت النتيجة صراع بين الحكومتين ومع مجالس المحافظات أيضا على الصلاحيات والحقوق، وكانت العواقب وخيمة، وانتهى العمل عملياً بالدستور العراقي من الجانبين بذريعة التباين في وجهات النظر وعدم التحري عن طريق ثالث عقلاني يمهد السبيل لعراق مدني ديمقراطي علماني.
وإذ كان الحاكم المستبد بأمره قد استفرد بالحكم الاتحادي منذ العام 2006 وتشبث لا بممارسة الطائفية الجامحة والمدمرة والشوفينية المقيتة فحسب، بل وعمل بنرجسية وسادية وفساد مرعب بالبلاد، أدت، مع غيرها من الظاهر والعلل، إلى عواقب وخيمة في العلاقات بين الطرفين. إن النهج الفردي في الحكم الاتحادي وبالحكم الإقليم وضعف الديمقراطية والرغبة المتعجلة في انتزاع أكبر الحقوق من جانب الطرفين قد ساعد على تعقيد تلك العلاقة وعمقها. ولعبت كل من حكومتي إيران وتركيا دوريهما البالغ في تعميق وتوسيع وتشديد الخلاقات والاستفادة منها لفرض هيمنتهما على الحكومتين بصيغ عديدة. ولم تنفع المساومات الشخصية بين الحكام التي حصلت في العام 2010 في الوصول إلى نتائج إيجابية بل "زادت في الطين بلة" وتعمق الخراب بين الحكومتين!
لم يكن التعامل بين الطرفين عقلاني وافتقد الحكمة الضرورية، وإذ شعر الحكام ببغداد إن الإقليم قد سرق من صلاحيات الحكم المركزي، والعراق مجبول بمركزية الحكم المديدة، فأن حكام الإقليم شعروا بمحاولة الحد من حقوقهم الفيدرالية. وكلاهما كان بهذا القدر أو ذاك على حق، لأن الجانبين خرجا عن الإطار الدستوري أولاً، ولا وجود لقوانين منظمة ثانياً وانعدام الثقة بين الطرفين ثالثاُ، وإبعاد الشعب عن التأثير في الأحداث رابعاً. وكانت حصيلة ذلك أن قادت الحكم بالإقليم إلى طرح وإجراء "الاستفتاء" وما نشأ عن كل ذلك من عواقب.
الاستفتاء حق مشروع للشعب الكردي وممارسته يفترض ألَّا تشكل عقبة في طريق استمرار الوحدة للدولة العراقية، ولا يعني التصويت بـ "نعم" الانفصال في كل الأحوال. رغم قناعتي الشخصية بأن الاستعجال في طرحه وأسلوب ممارسته في ضوء الواقع المحلي والإقليمي والدولي لم يكن أجراءً واقعياً، فأن ردود فعل الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة، شيعية كانت أم سنية، ومواقف وإجراءات الحكومة الاتحادية ورئيس الحكومة بالذات لم تكن واقعية ولا سليمة وتقود إلى عواقب إضافية غير محمودة وغير سليمة، إن تواصل هذا الموقف المتعنت من جانب الحكم الاتحادي.
إن الخشية الموجودة أصلاً، بدأت تنمو وتتفاقم في الساحة السياسية العراقية، نتيجة الموقف الذي يتخذه رئيس الحكومة والأحزاب الإسلامية الشيعية التي تسنده من أوضاع الإقليم والمواقف السياسية ذات المضمون الاستبدادي والشوفيني إزاء الشعب الكردي. إن هذه المواقف لا شك ستقود من يمارسها، إن استمر هذا النهج غير الحكيم، إلى ذات العلل التي عانى منها رئيس وزراء العراق السابق، والتي تتميز بها جميع قيادات الأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، والتي لم تتمعن بتجارب الماضي ولم تتعلم من دروسها الأساسية.
لا يحق لأحد أن يجوع الشعب الكردي ولا أبناء القوميات أو الديانات والمذاهب الأخرى بكردستان العراق، وذلك من خلال عدم دفع حصة كردستان من الميزانية الاعتيادية، وبالتالي عدم قدرة الحكومة هناك على تأمين رواتب الموظفين والمستخدمين، والذي يقود إلى عواقب سيئة بما في ذلك شحة السيولة النقدية في السوق الكردستاني وتأثير ذلك على الاقتصاد العراقي عموماً وعلى مزاج وصحة ونفسية غالبية الشعب بكردستان العراق. لا يمكن حل المشكلات العالقة بفرض حلول معينة من جانب واحد على الشعب الكردي ولا حتى عبر التجويع، فهو أمر لا يقود إلّا إلى المزيد من التوتر والصراعات وعدم الاستقرار. إن حكومة الإقليم وافقت على قرار المحكمة الاتحادية في موضوع الاستفتاء وبالتالي لم يعد من حيث الواقع قائماً، وطابعه المعنوي معروف للجميع حتى قبل إجراء الاستفتاء، فلماذا هذا الإصرار من جانب رئيس الوزراء العراقي على طلب شيء لم يعد قائماً أو مطروحاً للتنفيذ حالياً.
إن من واجب التضامن الوطني والتآخي القومي، من واجب الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، من واجل كل القوى الديمقراطية والمدنية العراقية، أن ترفض تجويع الشعب بكردستان العراق بذريعة عدم موافقة المسؤولين الكرد على الحلول المطروحة من جانب الحكومة الاتحادية، وهي حلول ومواقف سياسية قابلة للحوار، بغض النظر عن الفترة التي يستوجبها الحوار للوصول إلى نتائج مقبولة للجميع، إذ لا بد من العودة إلى الدستور العراقي. والدستور يرفض في كل الأحوال فرض التجويع في حالة وجود خلافات سياسية بأي حال من الأحوال.   
إن استمرار هذا الوضع هو ما تريده القوى المعادية للشعب الكردي والشعب العراقي عموماً، وهي التي لا تريد الأمن والاستقرار والسلام بالبلاد، وهي التي تحاول توفير مستلزمات الفوضى وبروز أعمال عنف جديدة أو نشوء جماعات راديكالية متطرفة جديدة، سواء أكانت دينية أم قومية، في وقت ما زال العراق يعاني من بقايا داعش والفكر الداعشي ومن قوى طائفية سياسية أخرى مماثلة في أساليب عملها ونهجها لعصابات داعش التي ما تزال تشكل الحكم بالبلاد. إن سياسة رئيس الوزراء الحالية إزاء الوضع بالإقليم يمكن أن تقود إلى حرب جديد، لاسيما وأن قوات جيش المقدس الإيراني، التي يقودها الإيراني العميد قاسم سليماني، والمتمثلة بقيادات وقوى أساسية في الحشد الشعبي بالعراق، تستعد منذ فترة غير قصيرة لشن حرب عدوانية ضد الشعب الكردي، وهو ما يفترض أن تنتبه له كل القوى الخيرة والديمقراطية والمخلصة للعراق وشعبه. كما إن على ساسة الإقليم أن يعملوا من أجل طرح مقترحات تساعد على معالجة المشكلات القائمة بطرق سلمية وتفاوضية وديمقراطية.


291
كاظم حبيب
مادة للمناقشة
سبل وأدوات تنشيط وتجديد حركة حقوق الإنسان بالعراق
رغم مشاركة وإقرار الدولة العراقية الملكية عبر ممثلها في الأمم المتحدة بوضع وإقرار اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في 10/112/1948، ورغم مطالبة الأحزاب والقوى الديمقراطية بالعراق بإطلاق الحريات العامة والحقوق الديمقراطية والحياة الدستورية والحقوق القومية، إلا إن المجتمع العراقي لم ينتبه إلى هذه اللائحة ولم يعمد إلى تشكيل منظمات لحقوق الإنسان، بالرغم من التجاوزات الفظة والانتهاكات المستمرة على حقوق الإنسان وحقوق المواطنة وجميع المواثيق والعهود التي صدرت من جانب الأمم المتحدة في الستينيات من القرن الماضي، والتي مارستها الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث إزاء الشعب العراقي عموماً والأحزاب والأفراد خصوصاً. وفي العام 1969 تم لأول مرة تشكيل أول جمعية لحقوق الإنسان بالعراق تولى رئاستها الشخصية القومية العراقية المعروفة زكي جميل حافظ (1925 - 2011) واستمر في موقعه حتى عام 1977. وكانت المنظمة تحت إشراف ورقابة سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد عجزت الجمعية عن تقديم أية خدمات فعلية دفاعاً عن حقوق الإنسان، بسبب النظام طبيعة النظام البعثي، الذي مارس بقسوة بالغة شتى صنوف انتهاك حقوق الإنسان والمواطنة، بما في ذلك التعذيب والقتل تحت التعذيب والدهس المتعمد وقتل المعارضين ورميهم في الشوارع، وبالتالي لم يشعر المواطن بوجودها أصلاً، وكانت من الناحية الفعلية غطاءً لستر ممارسات حزب البعث المناهضة لحقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب. 
وفي فترة لاحقة تشكلت مجموعة من منظمات حقوق الإنسان في المنفى الأوروبي وبسوريا، دفاعاً عن حقوق الإنسان العراقي، والتي بدأت في أعقاب تشكيل المنظمة العربية لحقوق الإنسان في العام 1983 في ليماسول حيث شارك فيها بعض الشخصيات العراقية، منهم مثلاً: حسين جميل والدكتور خير الدن حسيب وأديب الجادر. وفي دمشق تشكلت الجمعية العراقية لحقوق الإنسان من قبل بعض الكوادر القيادية البعثية جناح سوريا المناهض لحزب البعث، جناح العراق، واتخذت الاسم ذاته، الذي كان قد اختاره حزب البعث بالعراق لهذه المنظمة.
إن الهدف من الإشارة إلى تأخر تشكيل منظمات حقوق الإنسان بالعراق وفي مجمل دول الشرق الأوسط هو:
أولاً: إبراز واقع وجود نظم سياسية مناهضة للديمقراطية وقامعة بقسوة لأي تحرك بهذا الاتجاه من جهة، وضعف اطلاع المثقفين والأحزاب السياسية على مضامين وأهداف ونشاطات حركة حقوق الإنسان في دول أخرى مثل أمريكا الجنوبية، أي غياب فعلي لثقافة حقوق الإنسان في المجتمع من جهة أخرى، إضافة إلى ضعف دور لجنة حقوق الإنسان الدولية في جنيف التابعة للأمم المتحدة في نشر ثقافة حقوق الإنسان والوثائق الصادرة عنها وإدخالها إلى تلك البلدان، ولاسيما النامية، ومنها العراق، لخلق رأي عام يعي ويناضل من أجل ممارستها والضغط على حكوماتها لهذا الغرض أيضاً.
ثانياً: من أجل بلورة الإشكاليات والمشكلات الواقعية والعلل التي تعاني منها وتلك الت تواجهها حركة ومنظمات حقوق الإنسان بالعراق.
ثالثاً: التحري عن سبل وأدوات معالجة هذه المشكلات وإثارة النقاش حولها من أجل توفير مستلزمات منحها دفعة قوية وجديدة إلى الأمام في عملها الإنساني النبيل.
سنبدأ هنا بإبراز المشكلات والعلل التي تعاني منها هذه الحركة الإنسانية ومنظماتها بالعراق:
المشكلة الأولى: أغلب منظمات حقوق الإنسان العراقية التي تأسست داخل البلاد أو خارجه كانت بمبادرات الحكومة أو من كوادر سياسية حزبية، سواء أكانت ما تزال في تلك الأحزاب، أم تخلت عن حزبيتها. وبالتالي كان يلاحظ على نشاط هذه الأحزاب استخدامها لغة أقرب إلى السياسات الحزبية منها إلى لغة حقوقية، لغة حقوق الإنسان. وإذا كانت المنظمات التي تشكلها الحكومات المتعاقبة تدافع عن النظام وترفض أي اتهام لها بانتهاك حقوق الإنسان، فأن المنظمات الحزبية كانت لا تجد في الغالب الأعم مصداقية لاتهاماتها للحكومات المتعاقبة بسبب الشعور بكونا تابعة لهذا الحزب أو ذاك.
وخلال فترة التسعينات من القرن الماضي وما بعده عمدت أحزاب سياسية إلى تشكيلات تنظيمية تابعة لها باسم لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان، (وحصل هذا من جانب الحزب الشيوعي العراقي وأحزاب إسلامية وأخرى كردية وقومية عربية، وكان دفاعها يتركز على المعتقلين من أتباعها على نحو خاص. لا شك في أن هذه كانت إحدى نقاط ضعف حركات حقوق الإنسان العراقية التي لم تتخلص منها لفترة طويلة، والتي ما تزال تميز بعض جوانب عملها أو عضويتها.
المشكلة في هذا الصدد لا تكمن في حزبية أعضاء هذه المنظمات أم عدم حزبيتهم، بل في مدى قدرة أعضاء هذه المنظمات على التصرف باستقلالية عالية عن أحزابهم وفي ضوء مبادئ وقواعد عمل حركة حقوق الإنسان ولوائحها الأساسية، أي مدى استعداد أعضاء في هذه المنظمات على إدانة أحزابهم حين يرتكبون انتهاكاً لحقوق الإنسان أو لحقوق القوميات، وليس ما ينتهك من أحزاب أخرى فقط.
المشكلة الثانية: تعاني الكثير من منظمات حقوق الإنسان بداخل العراق أو خارجه من تدخل الحكومة أو الأحزاب السياسية العراقية بعمل هذه المنظمات وسعيها للتأثير عليها، وهو أمر بالغ الضرر للحركة ومنظماتها من جهة، كما يسقط عنها مصداقيتها حين يبرز تحيزها لجهة دون غيرها، أو عدم حياديتها، في حين المفروض فيها أن تشجب انتهاك حقوق الإنسان من أي جهة تمارسه، وسواء أكانت في الحكم أم خارجه. ونادرة تلك المنظمات التي تملك الشجاعة والإرادة على شجب انتهاك حقوق الإنسان تمارسه أحزاباً يكون الكثير من هذه الأحزاب أعضاء في هذه المنظمات. والأمثلة على ذلك كثيرة.   
المشكلة الثالثة، غالباً ما تتعرض منظمات حقوق الإنسان إلى اضطهاد من جانب الحكومات وأجهزتها الأمنية أو الحزبية أو تهديدهم، مما يعيق ممارستهم لمبادئ حقوق الإنسان والدفاع عن الذين تنتهك حقوقهم فعلاً. وعلينا هنا الإشارة الواضحة بأن منظمات حقوق الإنسان وكوادرها وأعضاء فيها يتعرضون دوماً لملاحقات من جانب المليشيات المسلحة لأتباع هذا الحزب السياسي أو ذاك، وغالباً ما يمارسون الرقابة على تلك المنظمات ونشاط كوادرها.
المشكلة الرابعة: إن أغلب العاملين في مجال حقوق الإنسان لم يطلعوا أصلاً أو جيداً على لائحة حقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية الصادرة بهذا الخصوص، كما لم يستوعبوا بشكل سليم أسس العمل في هذا المجال، وبالتالي فأنهم يتصرفون في أحايين كثيرة بعيداً عن حقوق الإنسان، بل ويرتكبون انتهاكات فعلية لمبادئ حقوق الإنسان في تعاملهم اليومي في البيت أو في المجتمع، أم في مواقع عملهم في أجهزة الدولة. ويلاحظ ذلك بشكل خاص في التعامل غير السوي مع المرأة، كالاعتداء بالضرب والتحقير وممارسة التمييز والتهميش ضدها. 
المشكلة الخامسة: إن أغلب العاملين في مجال حقوق الإنسان بالداخل والخارج هم من كبار السن ممن لا يمتلكون القدرة الشبابية للوصول إلى الشبيبة العراقية من الذكور والإناث، رغم امتلاكهم لخبرة العمل نسبياً أولاً، وعدم قدرتهم على الغوص في مشكلات المجتمع والاطلاع الكافي على مجالات تنتهك فيها حقوق الإنسان ثانياً، أو أنهم لا يسمحون للشبيبة بالتقدم في مواقع المسؤولية في هذه المنظمات ويسعون للاحتفاظ بمواقع المسؤولية رغم عجزهم الواضح في إداء المهمات. وهي ظاهرة انتقلت إلى هذه الحركات من الأحزاب السياسية التي يسعى مسؤولوها البقاء على رأس أحزابهم مدى الحياة.
المشكلة السادسة: تبرز في ضعف اطلاع مسؤولو وأعضاء منظمات حقوق الإنسان على واقع مجتمعاتهم ومشكلاته والمتغيرات فيه من جهة، والجديد في مبادئ ومجالات عمل منظمات حقوق الإنسان من جهة ثانية. فعلى سبيل المثال هناك حقوق إنسان لم تذكر في السابق منها الحق في التنمية والحق في العيش في بيئة نظيفة غير ملوثة أو حقوق الطفل، أو حقوق السجناء السياسيين والمعتقلين ..إلخ.     
المشكلة السابعة: غياب الدعم الحكومي لمنظمات المجتمع المدني، ومنها منظمات حقوق الإنسان المستقلة، وعدم قدرتها على تأمين من يعمل في هذه المنظمات بأجر، وليس المتطوعين فقط، وبالتالي يصعب إيجاد كوادر متفرغة للعمل في منظمات حقوق الإنسان، وعليه يصبح عملها موسمياً وخاضعاً لقدرات وأوقات العناصر المتطوعة لهذا العمل. ومن هنا يمكن ان يلاحظ ارتفاعاً وهبوطاً في عمل هذه المنظمات دون أن يمكن محاسبة الكوادر العاملة لأنها متطوعة ولا تملك الوقت الكافي لإنجاز مع يفترض إنجازه. ولا بد من الإشارة إلى أن أغلب العاملين النشطاء في مجالات حقوق الإنسان ينحدرون من صفوف المثقفات والمثقفين ومن فئات البرجوازية الصغيرة والفئات الفقيرة التي لا يمكنها مدّ هذه المنظمات بالنقود لتمارس نشاطها بحيوية، بل الكثير منهم غير قادر على دفع اشتراكاً بسيطاً لمنظماته.
المشكلة الثامنة: عدم وجود عضوية فعلية مسجلة في هذه المنظمات تدفع بانتظام الاشتراك السنوي الذي يحدد في نظمها الداخلية، كما لا يشارك الكثير من الأعضاء في فعالياتها ونشاطاتها، مما يجعلها تعتمد في غالب الأعم على العفوية وتفاوت الرغبة في العمل وعلى مدى وعي الناشطين بأهمية نشاطات منظمات حقوق الإنسان التي ينهض بها الأعضاء.
المشكلة التاسعة: لقد برز العمل في منظمات حقوق الإنسان في فترات معينة، ولاسيما في الربع الأخير من القرن الماضي، وكأنه مودة جديدة التحق بها الكثير من أعضاء سابقين في أحزاب ومنظمات سياسية، ثم تراجعت هذه المودة وقل رصيدها وتراجع الكثير من الملتحقين بها عن العمل أو حتى المساهمة بحضور ندوات للحركة. ونجد اليوم منظمات، سواء أكان هذا بالداخل أم الخراج كانت تمتلك عضوية كبيرة نسبياً واليوم يصعب عليها أن تعقد مؤتمراتها بسبب نقص النصاب أو انسحاب الكثير منهم من العمل في هذا المجال أصلاً، في حين ازدادت الحاجة إلى عمل ونشاط مثل هذه المنظمات لأسباب فعلية ترتبط بواقع العراق الراهن والأحداث المروعة التي تجري فيه.
والمسألة التي تستوجب النقاش هي: ما العمل لمعالجة هذه المشكلات التي تواجه حركات ومنظمات حقوق الإنسان العراقية؟
عند متابعة الوضع السائد بالعراق في المرحلة الراهنة لا بد من تأكيد الأهمية البالغة والمتزايدة لوجود وعمل منظمات حقوق الإنسان العراقية بالداخل والخارج، ولا بد من كسب المزيد من الناشطين الشباب من الإناث والذكور إليها، ومن إيلاء اهتمام أكبر إلى تلك الحقول الجديدة التي دخلت في صلب مبادئ حقوق الإنسان خلال العقود الأخيرة.


فالمعاينة المدققة للمشكلات تضعنا أمام مجموعة من الإجراءات التي تستوجب التفكير بها بأمل تبنيها كحلول للمشكلات القائمة والتي يفترض أن توضع على طاولة البحث المستفيض من جانب كل المهتمين في حركة ومنظمات وقضايا حقوق الإنسان، والتي يمكن تلخيص بعضها بالآتي:
1.   العمل على دمج العديد من منظمات حقوق الإنسان المستقلة على صعيد العراق كله وتشكيل منظمة واحدة تعمل على حماية حقوق إنسان وتعتبر سقفاً لفروع لها في محافظات العراق ومدنه المختلفة. إن هذا العمل يمكن أن يساعد على الاستفادة القصوى أ) من الكوادر القليلة المبعثرة والموزعة على منظمات حقوق إنسان عديدة، 2) ويكرس الخبرة فيها ويساعد على تعزيز قدراتها ونشاطها ونتائج عملها، و3) ويستفيد من قدراتها المالية الشحيحة، 4) توحيد أساليب وأدوات وطرق عملها وخطابها الحقوق، 5) كما إنها ستتحول إلى قوة مادية على أرض الواقع تفرض على الحكومات المتعاقبة أخذها بنظر الاعتبار.
2.   العمل على إيجاد علاقة مباشرة مع لجنة حقوق الإنسان الدولية التابعة للأمم المتحدة في جنيف أولاً، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة ثانياً، ومنظمات مماثلة على مستوى الإقليم لتأمين المسائل الجوهرية:
أ‌.   إدخال كادر وأعضاء الحركة في دورات دراسية وتدريبية في قضايا حقوق الإنسان وخطابها الحقوقي وسبل كتابة تقاريرها الدورية، حيث تنظم مثل هذه الدورات في دول عديدة، ومنها تونس.
ب‌.   تأمين التضامن والدعم في حالة تعرضها للمضايقة أو الاضطهاد أو أية محاولات أخرى لعرقلة عملها في الدفاع عن حقوق الإنسان وشجب انتهاكها.
ت‌.   تأمين دعم مالي غير مشروط لها من جانب لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لممارسة نشاطها الإنساني النبيل، إذ يمكن أن تسجل كمنظمة معترف بها وبنشاها في الأمم المتحدة.
ث‌.   توفير الأدبيات والكتب والتقارير الخاصة التي تبحث في الحقول الكثيرة لحقوق الإنسان والمشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية والإقليمية، لتبادل الخبرة والمعرفة والسعي لنشرها على نطاق واسع.
3.   العمل على إقناع المسؤولين لإدخال منظم لمبادئ حقوق الإنسان في مناهج التربية والتعليم في مختلف مراحل الدراسة، إضافة إل تنظيم ندوات وإلقاء محاضرات في المؤسسات الحكومية وفي المعامل وفي الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. كما يستوجب تأكيد وممارسة المبدأ القائل بأن التعليم حق أساسي من حقوق الإنسان لا بد من ممارسته.
4.   ليس هدف منظمات حقوق الإنسان جعل تنظيماتها جماهيرية، بل الهدف الأساس هو جعل أفكار ومبادئ حقوق الإنسان شعبية ومفهومة تناضل الجماهير الواسعة بوعي ومسؤولية من أجل ممارستها والدفاع عنها والرقابة على مدى تطبيقها أو انتهاكها.
5.   لا بد من ربط مسائل الدفاع عن حقوق الإنسان بنشاط ثقافي واجتماعي وفني وذلك بتقديم مسرحيات وأفلام سينمائية وإلقاء محاضرات مشوقة يمكنها كسب الناس إلى اجتماعات وندوات ومؤتمرات حركة حقوق الإنسان، ولاسيما الشبيبة من الإناث والذكور، إذ يمكن أن تكون بدون مثل هذه النشاطات الفنية والثقافية والاجتماعية العائلية جافة ولا تشجع الشبيبة على حضورها.
6.   كما يفترض أن تفكر منظمات حقوق الإنسان باستثمار دورها ومكانتها وكادرها لتنظيم دورات لمكافحة الأمية بين كبار السن، سواء أكان ذلك بالريف أم بالمدن. ويمكن أن يتحقق ذلك عبر التعاون مع منظمات مجتمع مدني أم مع مؤسسات حكومية. 
7.   لا بد من بذل جهود استثنائية لكسب الشبيبة من خلال الدفاع عن حقوقهم المغبونة أو المنسية أو المصادرة، ولاسيما حقوق المرأة وحقوق الطفل، وفي الحالتين تعاني المرأة ويعاني الطفل عموماً ولاسيما الإناث، من إساءات كبيرة وترتكب جرائم بحق البنات القاصرات مما يستوجب تشديد النضال ودفع الأمهات وعموم النساء والمجتمع للدفاع عن حقوقهن وحقوق أطفالهن المنكوبات بقوى لا تريد سوى اضطهاد المرأة وحبسها في البيت والمطبخ وخلف العباءة والبرقع وتزويج القاصرات من عمر تسع سنوات ليكن أمهات لأطفال وهن ما زلن طفلات.
8.   إن من بين النشاطات الضرورية لمنظمات حقوق الإنسان العراقية بالخارج العمل مع منظمات حقوق الإنسان في ذات البلدان ومع منظمة العفو الدولية حيثما تلتق الأهداف، إذ المهمة لا تقتصر على كسب العراقيات والعراقيين لهذا النشاط للدفاع عن حقوق الإنسان فحسب، بل لا بد لها من تحريك الناس الأوروبيين أو الأمريكيين أو الاستراليين أو غيرهم في هذه النشاطات دفاعاً عن حقوق الإنسان العراقي. ومن نماذج العمل الذي يمكن أن يكسب مواطنات ومواطنو الدول الغربية عموماً موضوع حقوق المرأة وما يحصل اليوم من جور بحق الإناث من الطفلات القاصرات بتزويجهن من عمر تسع سنوات، أو حتى ممارسة "التفخيذ" مع الرضيعات منهن، وهي من الجرائم الكبيرة التي تعاقب عليها دساتير كل الدول الغربية واللوائح والمواثيق والعهود الدولية في مجال حقوق الإنسان.   
9.   يستند العمل في منظمات حقوق الإنسان العراقية على قاعدة التطوع، ولهذه القاعدة فوائدها وإيجابياتها حيث يكون المتطوع مقتنعاً بأهمية هذا الحقل من العمل الإنساني ومندفعاً نحوه، وبالتالي يمكنه أن يقدم الكثير لصالح نجاح المهمات الملقاة على عاتق هذه المنظمات. إلا إن هناك جانب سلبي أيضاً، فالظاهرة الملموسة حالياً تبرز في كون هذا الاندفاع لدى هذا المتطوع أو ذاك يضعف بمرور الزمن ولأي سبب كان، في وقت يستوجب تعزيزه لما بالعراق من إشكاليات تستوجب توسيع وتنشيط وتطوير العمل. والمتطوعون يسجلون أعضاء في هذه المنظمات ويلتزمون بدفع اشتراك مالي، غالباً ما يكون رمزياً، ولكنه يبقى التزاماً على العضو المسجل في المنظمة. وحين يتلكأ العضو في نشاطه علة وفق الالتزامات التي أخذها على عاتقه، أو عدم دفعه الاشتراك السنوي دون وجود أسباب مبررة في الحالتين، فلا بد من إنهاء عضويته، إذ أن العضوية في هذه المنظمات ليست شكلية أو رمزية بل فعلية. ويمكن للشخص أن يبقى مؤيداً لمنظمات حقوق الإنسان دون أن يكون عضواً فيها. لكيلا يعتبر كالمثل القائل "اسمه بالحصاد ومنجله مكسور". إن العمل التنظيمي في مثل هذه المنظمات مرهق حقاً، بسبب ما يتطلبه من مراجعات أو حتى تحمل ما يسيء للناشط بسبب سلوك بعض موظفي الدولة الذين يرفضون التعاون والتنسيق لإنجاز معاملة تجاوز على حقوق الإنسان في الاعتقال أو التحقيق أو في السجون أو في قضايا أخرى.
10.   لو أمكن توحيد منظمات حقوق الإنسان العراقية لأمكن معها وضع حوافز معنية لتنشيط منظمات حقوق الإنسان والأعضاء العاملين فيها من خلال وضع وسام خاص يمنح سنوياً لأبرز عضو أو عضوة في المنظمة قدمت خدمات محمودة لصالح حقوق الإنسان، إضافة إلى نشر معلومات وافية عن حياة الفائز أو الفائزة بهذا الوسام وعلى مستوى داخل العراق وخارجه. كما يمكن أن يشارك الأعضاء الذين يقدمون خدمات طيبة في، أو يرسلون إلى، دورات دراسية وتدريبية في مجال حقوق الإنسان.
           



292
كاظم حبيب
النرجسية المرضية والسادية عِلّتان يتميز بهما حكام الشرق الأوسط..!

الحكام العراقيون لا يختلفون بكثير أو قليل عن حكام الشرق الأوسط، فهم جميعاً ودون استثناء من طينة واحدة عجنت في مضمون العلاقات الإنتاجية السائدة في هذه الدول، بالرغم من التباين النسبي في مستويات تطور القوى المنتجة ووعي الفرد والمجتمع في كل منها. إن هاتين السمتين السلبيتين أو العلتين لا تقتصران على الحكام فحسب، بل وعلى الغالبية العظمى من السياسيين، إن لم نقل جميع الأشخاص الذين يحترفون السياسة ويعملون ضمن أحزاب سياسية أو على رأس عشائرهم. والحكام العراقيون يقدمون نموذجاً صارخاً لكل الحكام في هذه المنطقة المشحونة بالتوترات والنزاعات والحروب والمليئة بالمشكلات المعقدة المرتبطة عضوياً بما في هذه المنطقة من خامات أولية وتعدد في القوميات والديانات والمذاهب وما رسم لها من حدود بين الدول بعد الحرب العالمية الأولى والمستمرة حتى الآن.
تشير المعطيات التاريخية إلى أن أغلب الحكام العراقيين الذين تميزوا بالنرجسية المرضية أو النرجسية والسادية في الحكم انتهوا بقتلهم بصيغ مختلفة على أيدي منافسيهم الذين لم يختلفوا عنهم بذات السمات السلبية. والحاكم الوحيد الذي مات بشكل طبيعي ولم يكن يحمل السمتين هو عبد الرحمن محمد عارف. فمنهم من قتل أو أعدم علناً، ومنهم من قتل بطريقة غامضة، ومنهم من دس له السم الزعاف فمات بشكل تدريجي، ومنهم من ينتظر.
لا اتحدث هنا عن عبد السلام محمد عارف، ولا عن أحمد حسن البكر، ولا عن صدام حسين، ولا على الزعانف التي كانت معه ومارست نهجه وأصيبت بعلاته، فهم كانوا معروفين بما يعانونه من علل لم تساهم بموتهم فحسب، بل وبتدمير العراق، بل أتحدث هنا عن رئيس الوزراء العراقي السابق، الذي ما يزال يحتل مركز نائب رئيس الجمهورية والمرشح لرئاسة التحالف الوطني للبيت الشيعي العراقي، والطامع في رئاسة وزراء جديدة ليكمل ما ساهم بتدميره بالعراق وصب الزيت المزيد منه على نار الطائفية والتمييز خلال فترة حكمه والتي كان قد مارسها رئيس الوزراء الذي سبقه في الحكم. هذا الرجل يشارك في سماته وعلله النفسية مع أغلب حكام المنطقة الذين يعانون من العلل النفسية والاجتماعية ذاتها والتي تبرز بشكل صارخ في اختلال علاقاتهم مع المجتمع ومع القوى والأحزاب الأخرى أو مع أتباع القوميات والديانات والمذاهب الأخرى ومع العالم. فالنرجسية نجدها بهذا القدر أو ذاك لدى جميع البشر، ولكن صاحبنا مصاب بالنرجسية الخبيثة Malignant narcissism التي تجلت بنهجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي، حيث عمت الرثاثة والخراب والنهب والسلب لأموال العباد والتخريب في كل أنحاء البلاد، وهو ما يزال من منصبه الجديد يمارس ذات الخباثة النفسية في نهجه وممارساته اليومية. ومثل هذا الشخص لا يمكن ولا يجوز له أن يبقى في السلطة أو في أي موقع عام، بل لا بد من حجزه والحجر عليه ووضعه في مصحة للعلاج النفسي مدى الحياة، لأن وجوده طليقاً يؤدي إلى عواقب وخيمة على المجتمع، خاصة وأنه في مجتمع وفي دولة هشة وفي محيط حكومي وإعلامي يساعد في تعجيل تحول الحالة النرجسية إلى نرجسية مرضية خبيثة وإلى سادية مفرطة واستبداد مريع، ولاسيما لمن له الاستعداد الذاتي على ذلك. لم يكن رئيس الوزراء السابق بهذه السمات خلال وجوده في المعارضة، كما يشير إلى ذلك أكثر الناس معرفة به، إلا إن الحكم وتلك المجموعة من الانتهازيين والطبالين والمرتزقة هم الذي ساهموا في النفخ بصورته المشوهة وحولوه تدريجياً إلى شخصية مصابة بالنرجسية الخبيثة والفساد الفكري والسياسي والاستبداد. فأحد أعضاء حزبه، وهو يدرك علل رئيسه، ولكي يتقرب منه، أكد في مقابلة صحفية "إذا مات المالكي نستنسخ من خلاياه مالكي أخر.." ليؤكد إخلاصه له، ولكي يواصل إرهاب القوى الأخرى، وهو الذي تسبب في سقوط الموصل بأيدي عصابات الرذيلة والإجرام والتكفير، عصابات داعش. من يرغب أن يتعرف على هذه العلل التي يعاني منها هذا الرجل عليه أن يقرأ في كتب علم النفس، لاسيما علم النفس الاجتماعي ليجد من يغنيه.         
ولكن الغريب بالأمر أن هذا الرجل الذي تسبب في سقوط الموصل وعموم نينوى، وقبل ذك الأنبار وصلاح الدين وغيرها، والذي فرط بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية من خزينة الدول العراقية، والذي أخضع القضاء العراقي لإرادته السياسية، والذي اعتقل ووضع بالسجن نائب محافظ البنك المركزي العراقي وعدداً من الموظفين والموظفات، وفلت من الاعتقال محافظ البنك المركزي، ثم أفرج عنهم وعين نائب المحافظ من جهاز القضاء نفسه ثم عين مستشاراً لرئيس الوزراء الجديد، والذي وضع جميع الهيئات المستقلة في خدمته الشخصية ومارس التجاوز الفظ عل الدستور، كما في سلوكه مع مفوضية الانتخابات "المستقلة!"، ما زال هذا الرجل ليس طليقاً فحسب، بل ويحتل واحداً من أعلى المناصب التنفيذية بالدولة العراقية ليمارس من خلاله ما يمكنه لإشعال الفتنة بالعراق ومواصلة الفساد والتعتيم على الفاسدين وعلى الملفات التي كان يتحدث عنها بأنه لو فتحها لزكمت الفضائح أنوف العراقيين والعراقيات! 
ولو تابعنا اليوم ما يمارسه تلفزيون العراقية لوجدنا جمهرة من العامين فيه والمسؤولين عنه يعملون بالنهج ذاته وبثبات انتهازي صارم مع رئيس الوزراء الجديد في محاولة منهم للنفخ في صورته وجلب من يمدح به ولا يتعب، وهو الأسلوب البائس الذي من شأنه أن يمارس التأثير ذاته عليه، كما حصل مع من سبقه، وهو الأمر الذي يبدو صارخاً في هذه الفترة. وهو نفس السياسة التي مارسها بعض المستشارين والسياسيين بالإقليم مع رئيس الإقليم، دون أن يكونوا صريحين معه فيما يفترض أن يقولوه له.
في لقاء مع أحد كبار المسؤولين الكرد سألني عن الوضع بالإقليم، أجبته بصراحة تامة وبوجود السكرتير الشخصي، بأن الوضع غير جيد وأن الكثير من الناس غير مرتاحين من الوضع والسياسة ومن انتشار الفساد، كما إن مستشاريه ومن حوله، بمن فيهم السكرتير الذي هو الآن معنا، لا ينقلون لك ما يجري بالإقليم، بل ينقلون لك ما يطيب خاطرك ويريحك، وفي الغالب ما تريد أن تسمعه. وأن شئت الحقيقة فليس لك إلا أن تذهب إلى الناس لتسمع منهم ما يريدون قوله لك وبصراحتهم المعهودة. ولم يحصل ما كان يفترض أن يحصل!
إن واجب ومسؤولية رئيس وزراء العراق أن لا يبدأ بالحيتان الصغيرة التي التهمت فتات الموائد، بل عليه أن يبدأ بالقيادات التي نشرت الفساد وأفسدت الناس وسمحت لهم بشراء العمارات في بريطانيا وفنلندا وأمريكا وفرنسا وألمانيا وغيرها وأن يملأوا حساباتهم بالسحت الحرام، وأن ينتهي بالحيتان الصغيرة. عند ذاك يقتنع الناس بأنه يسعى إلى البدء الفعلي بمحاربة الفساد!! وأول الفساد الذي يجلب محاربته وفيه تجاوز فظ على الدستور هي المحاصصة الطائفية ذاتها التي سمحت لكل أنواع الفساد الأخرى بما فيها الفساد الإداري والاجتماعي والثقافي والبيئي والعسكري أن يسودا بالعراق!!!               

293
كاظم حبيب
هل من أفق لإقامة أوسع تحالف مدني ديمقراطي شعبي بالعراق؟

تشير المعطيات التاريخية بالعراق، وعلى امتداد الفترة التي أعقبت سقوط الملكية، إلى أن القوى الفكرية والسياسية اليمينية برهنت بأن لديها القدرة على المساومة وإبداء الاستعداد لتحقيق التحالفات الممكنة للإجهاز للوصول إلى السلطة أو الاستمرار فيها ومحاربة القوى المدنية والديمقراطية بسبل كثيرة. في حين برهنت القوى المدنية الديمقراطية، وبضمنها قوى اليسار، على إنها عجزت عن تحقيق التحالفات السياسية فيما بينها لضمان العمل المشترك دفاعاً عن مصالح الشعب ووحدة البلاد وتأمين الاستقلال والسيادة الوطنية. وفي ضوء هذا الواقع عجزت القوى المدنية والديمقراطية عن الوصول إلى السلطة السياسية لتحقيق الأهداف والمصالح التي تبنتها، أهداف ومصالح الشعب. وكان هذا أحد الأسباب التي ساعدت على تلقي القوى المدنية والديمقراطية واليسارية ضربات قاسية من لدن القوى اليمينية والرجعية والشوفينية المناهضة لمصالح الشعب. ورغم إن القوى المدنية تدرك نقاط ضعفها، إلا إنها لم تسع إلى معالجتها بجدية والتخلص من النظرات الحزبية الضيقة أو من الأنانية الحزبية أو من الشعور بالعظمة الذي لا يسمح لها بالتنازل والتحالف مع قوى أخرى تعتبرها أقل منها شأناً، في حين إن النضال في سبيل إقامة عراق حر وديمقراطي مستقل يستوجب تعبئة كل القوى والشخصيات المدنية. وإذا كان مثل هذه التحالفات ضرورية في السابق، فأن تحالف القوى المدنية والديمقراطي أصبح اليوم أكثر ضرورة وأكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
إن النجاح في المعركة الفكرية والسياسية ضد اليمين الفكري والسياسي المتطرفين، وفي إطار الدستور العراقي النافذ وعلى أساس ممارسة النضال السلمي والديمقراطي، يستوجب تغيير موازين القوى لصالح القوى المدنية والديمقراطية. وهذا بدوره يستوجب معرفة دقيقة بالواقع السياسي والاجتماعي القائم بالعراق، ومعرفة طبيعة القوى والأحزاب ومدى استعدادها لخوض النضال الديمقراطي، ومدى استعداد الجماهير على تحمل مسؤولية المشاركة الفاعلة في هذا النضال ووعياً بالمسؤولية المشتركة لعملية التغيير المنشودة، إضافة إلى ضرورة ممارسة أساليب نضال جديدة وخطاب سياسي جديد، يكون بمقدورها مجتمعة تعبئة الشبيبة من إناث وذكور لخوض هذه المعركة الفكرية والسياسية السلمية والديمقراطية بنجاح ولصالح الشعب.
منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة في العام 2003 بُذلت الكثير من الجهود وأقيمت نماذج مختلفة من التحالفات السياسية التي لم توفق ولم تكن نموذجية لتحقيق المنشود. فهل في مقدور هذه التجارب غير الناجحة أن تسهم في استخلاص الدروس لبناء تحالف واسع جديد يستوجبه الواقع العراقي الراهن بإلحاح شديد، مع علم الجميع بأنها وبدون تحقيق مثل هذا التحالف الواسع جداً الذي يستند إلى قاعدة اجتماعية واسعة، لا يمكنها تحقيق التغيير المنشود.
قبل فترة وجيزة أُعلن ببغداد عن تشكيل تحالف "تقدم" من مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية المدنية والديمقراطية العراقية لخوض غمار الانتخابات التشريعية القادمة والنضال من أجل تحقيق التغيير المنشود بالعراق لصالح الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي الحديث. وهي خطوة جيدة وإيجابية على الطريق الصحيح، إذ عمل الكثير من العراقيين والعراقيات من أجل تحقيق هذا التحالف. ولكن، على الرغم من أهمية تحالف "تقدم" والجهود الحثيثة التي بذلت من أجل ولادته، فأنه ما يزال بعيداً عن المنشود وغير كاف لتحقيق التغيير المطلوب. فعملية التغيير المنشودة لإقامة النظام السياسي الديمقراطي بالعراق والقائم على الفصل بين الدولة والدين والسياسة، وبين السلطات الثلاث واحترام استقلال القضاء وحقوق الإنسان، ولاسيما  حقوق المرأة وحقوق الطفل، ولاسيما البنات القاصرات، واحترام حقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، ومنع التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للعراق واحترام الاستقلال والسيادة الوطنية ..الخ، تتطلب تحالفاً أوسع بكثير من تحالف "تقدم"، تتطلب تحالفاً يجمع "تقدم" إلى جانب مجموعة أخرى مهمة من الأحزاب والقوى المدنية والديمقراطية والقومية والعلمانية والقوى والشخصيات المؤمنة ذات النهج المدني المتنور أولاً، وتستوجب تحالفاً جديداَ يضم الأحزاب والقوى والشخصيات الديمقراطية الكردستانية التي تأكد لها بأن النضال في إطار العراق الموحد يستوجب إعادة الاعتبار للتحالف مع القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية الأخرى ثانياً، وليس مع الطائفيين السياسيين، وإن الجميع بدون مثل هذا التحالف لا يمكنهم ضمان بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي.
وتحقيق مثل هذا التحالف يستوجب مواصلة العمل بمرونة عالية وخوض الحوار المتفتح، والخلاص من الذهنية الضيقة التي لا تعير انتباهاً لعمل وأهمية الآخرين مهما كانوا قلة، إنها مهمة معقدة وصعبة بسبب وجود ذهنيات ما تزال غارقة في ذاتيتها ولا تريد الاعتراف بدور الآخر، وهي ملموسة لمس اليد، مما يعيق الوصول إلى اتفاقات مهمة. لقد بدأت قوى التيار الديمقراطي وحققت تحالفاً جديداً أطلق عليه "تقدم" من جهة، كما نشطت قوى مدنية أخرى كثيرة ما تزال مستمرة في عملها وحواراتها من جهة ثانية، فهل يا ترى يمكن بذل الجهود للوصول إلى البدء أو مواصلة اللقاءات المكثفة والمثمرة بين الأطراف العديدة لعقد مؤتمر جديد يطرح فيه برنامج عمل موسع يتضمن أهداف ومصالح فئات واسعة من بنات وأبناء الشعب العراقي من كل القوميات والقوى السياسية المدنية والديمقراطية؟ هل يمكن الاتفاق على أهداف محددة تتيح فرصة التغيير الفعلي للخلاص من المحاصصات الطافية في حكم البلاد؟ إن الضرورة الملحة والعاجلة تقتضي ذلك، فهل أدرك الجميع هذه الضرورة وهل سيتصرفون في ضوئها؟ أشعر بوجود مثل هذا الشعور العام/ وما ينقصه هو الجرأة في التحرك صوب الآخر. هنا يستوجب الوضع من الجميع بذل الجهود من أجل تحقيق ما لم يتحقق حتى الآن. إن التحالف المنشود لا يمكنه بأي حال التفريط بقوى سياسية مدنية أو حتر بعنصر مدني وديمقراطي واحد، بسبب أهمية ودور الجميع في مثل هذه المعركة الديمقراطية السلمية التي يفرضها الواقع العراقي الراهن والتي يمكن ويجب خوضها بنجاح، رغم وجود مخاطر جدية بلجوء الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة إلى استخدام أساليب شراء الذمم ودفع الأموال والتهديدات بمختلف صورها والتزوير لدفع الأمور باتجاه ولصالح القوى اليمينية الأكثر تطرفاً في الأحزاب والقوى الحاكمة. إن المخاطر كبيرة بسبب وجود دعم خارجي يؤيد هذه القوى التي مارست القهر والتمييز والقمع في السنوات المنصرمة.
إن الأمل معقود على القوى المدنية والديمقراطية، وعلى القوى المستقلة والقوى المؤمنة المتنورة، على أوساط واسعة من الشعب العراقي التي أدركت مخاطر وعواقب استمرار نظام المحاصصة الطائفي والفساد وما يجرهما من مشكلات مريرة على الشعب العراقي، بما في ذلك استمرار الإرهاب والخراب والدمار. إنه نداء موجه إلى ذوي الضمائر الحية، إلى أبناء وبنات الشعب العراقي من مختلف القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، إلى كل الذين أدركوا وعاشوا بجلودهم عمق المآسي والكوارث والأحزان والدماء والدموع حين تكون القوى القومية الشوفينية والقوى الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية والتمييز الديني والمذهبي هي السائدة في سلطات ومؤسسات الدولة العراقية.             

294
كاظم حبيب
حزب الفضيلة ووزير العدل بالعراق يبيحان اغتصاب الفتيات القاصرات!!!
في فترة وجود نوري المالكي على رأس السلطة في إمارته الثانية صادق مجلس وزراءه على القانون الذي تقدم به حسن الشمري وزير العدل، فوزارة العدل هي من حصة حزب الفضيلة في الحكومة القائمة على المحاصصة الطائفية المقيتة، الذي أطلق عليه "قانون الأحوال الشخصية الجعفري"، على وفق الفقه الشيعي، بتاريخ 15 شباط/فبرير 2013 ليرسل إلى مجلس الوزراء لإقراره. وهو قانون سلفي رجعي متخلف ومناهض لحضارة العصر والتقدم الذي قطعه الجنس البشري في الموقف من حقوق المرأة وحقوق الطفل. وقد ناهضت نسبة عالية من الشعب العراقي، وفي طليعتهم مثقفو العراق من مدنيين ديمقراطيين وعلمانيين ومؤمنين واعين ومتنورين، هذا القانون وشنَّت حملة احتجاج إنسانية واسعة ضده. وكان يراد بهذا القانون الجعفري أن يحل محل قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، الذي تميز بمنح المرأة بعض حقوقها المهمة، وليس كلها، والذي وقفت ضد هذا القانون كل المؤسسات الدينية الشيعية والسنية غير المتنورة والغاطسة في مستنقع التمييز ضد المرأة العراقية وحقوقها المشروعة والمثبتة في اللوائح والمواثيق الدولية، وهي التي سعت أيضاً إلى تشكيل جبهة معادية لحكم عبد الكريم قاسم لإسقاطه من أجل الخلاص من هذا القانون بشكل خاص.
وفي أعقاب إسقاط الدكتاتورية الغاشمة انبرى عبد العزيز الحكيم، وكان عضواً في مجلس الحكم الانتقالي، إلى إصدار قراراً يلغي بموجبه القانون رقم 188 لسنة 1959 التزاماً بإرادة والده الذي ناهض القانون وحكم عبد الكريم قاسم ودخل في مؤامرة قذرة ضد عبد الكريم قاسم ووافق على قتل الشيوعيين باعتبارهم ملحدين! فقد كتب الدكتور عبد الخالق حسين في مقال له بعنوان "حذارى من (التحرش) بقانون الأحوال الشخصية!"، منشور على موقعه الشخصي، ما يلي بصدد إلغاء قانون 188 لسنة 1959 ما يلي:
"فما أن أسقطت القوات الدولية بقيادة أمريكا الحكم الصدامي الجائر، وجاء دور السيد عبد العزيز الحكيم (نجل السيد محسن الحكيم) برئاسة مجلس الحكم بشكل دوري، أول عمل قام به هو إصدار قرار رقم 137 سيئ الصيت، القاضي بإلغاء قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959.  القرار الذي أثار ضجة واسعة ضده من قبل الكتاب والصحفيين والسياسيين والبرلمانيين التقدميين، مما اضطر بول بريمر، الحاكم المدني للقوات الدولية، التدخل، وإلغاء القرار". وهاهم يعودون اليوم من جديد لفرض ما يريدون على الشعب!
إن أحد بنود مشروع القانون الجعفري، الذي أقره مجلس الوزراء حينذاك يبيح ويشرعن زواج البنات القاصرات بعمر تسع سنوات، واللواتي يراد لهن أن يكن أمهات ابتداءً من هذا العمر، بنات أطفال يولدن أطفالاً..، إنها المهزلة والمأساة في الشريعة الإسلامية التي وضعها المعممون وأصحاب اللحى، وليس كلهم، الذين يعيشون في بيوتهم ساهون ولا يعرفون ما يجري في هذا العالم بشأن المرأة وحقوقها وحريتها ودورها المميز في المجتمعات الحديثة. وقد أجبرت حملة الاحتجاج والنشر الواسعة لطبيعة هذا القانون وعواقبه الوخيمة على طفولة البنات والمجتمع، أن أُجل لما بعد الانتخابات في العام 2014 ثم أهمل تماماً في حينها.
والآن يبدو أن حكامنا، وهم مصابون بأمراض نفسية وعقد كبيرة ضد المرأة وحقوقها، يسعون من جديد إلى طرح تعديلات أساسية على قانون رقم 188 لسنة 1959 بما يفرغه من محتواه الديمقراطي والتقدمي ووقوفه إلى جانب المرأة في محاولة جديدة منهم لإمرار هذه التعديلات الجعفرية، وهم يشعرون بوجود اختلال أكبر من السابق في ميزان القوى في المجلس النيابي العراقي، يسمح بفرضه على المجتمع العراقي بأسره.
إن قانون الأحوال الشخصية الجعفري المقترح لا يتجاوز على حقوق الطفولة وبراءتها فحسب، بل وعلى الكثير من حقوق المرأة وعلى الدستور العراقي والقوانين السائدة بالعراق والحياة المدنية المنشودة للعراق ويؤسس قاعدة جديدة لدولة ثيوقراطية استبدادية متخلفة ومناهضة لمصالح الشعب.
إن هذه القوى التي وافقت على تقديم هذا القانون السلفي المتخلف تسعى بوضوح كبير إلى فرض الدولة الدينية الشيعية على العراق تدريجاً وهو ما ينبغي مقاومته وفضح مضامينه، وهم ليسوا بعيدين عن توسيع ذلك والموافقة على ما قرره روح الله الخميني في كتابه الموسوم "تحرير الوسيلة" بقاعدة التفخيذ مع الطفلة التي لا يتجاوز عمرها السنة الواحدة، أي الرضيعة، إنها شريعة الشاذين جنسياً والمصابين بـ ((paedophiles، وهي مأساة مريعة للمجتمع العراق الذي عمل بقيم ومعايير حضارية بعيدة كل البعد عن السقوط بمثل هذه الأمراض النفسية والشذوذ الجنسي. يقول روح الله الخميني ما يلي:
"مسألة 12- لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواماً كان النكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى مع الرضيعة، ..." (الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، توزيع سفارة الجمهورية العربية الإسلامية بدمشق، ص221).
هل فيكم أيها العراقيون والعراقيات من يسمح لرجل بالغ سن الرشد أن يتفاخذ ويتلاعب جنسياً مع طفلته الرضيعة بذريعة أنه يعتبر خطيبها، وأحياناً حتى قبل ولادتها، هل فقد الناس بالعراق الغيرة والحياء والضمير بحيث يسمحوا بمثل هذه الفتوى أن يمارس مضمونها بالعراق. حاشا أن يقع العرقيون والعراقيات بمثل هذا الفخ الجنسي المرضي، إلا من ارتضى لنفسه أن يكون عبداً خانعاً لإرادة وفتاوى من هذا النوع للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية الخميني ومن بعده خامنئي. 
وبودي هنا أن أحيلكم على مقالين هامين الأول للسيد القاضي هادي عزيز علي، وهو بعنوان ضياع الحقوق المكتسبة جراء مشروع قانون الأحوال الشخصية... / هادي عزيز علي، والثاني للسيد الدكتور عبد الخالق حسين بعنوان "حذارى من (التحرش) بقانون الأحوال الشخصية!" المنشور في موقعه، وهذا رابطه (د.عبد الخالق حسين: حذارى من (التحرش) بقانون الأحوال الشخصية ! وكذلك مقال أقدم من هذا المقال ورابطه abdulkhaliq.hussein@btinternet.com 
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
إن الحركة المدنية المناهضة لهذا القانون في تنامي كبير ومن واجب كل المدنيين الديمقراطيين والعلمانيين والمؤمنين المتنورين النضال ضد هذا القانون وإفشاله، لأنه سيكون إساءة كبيرة جداً حقاً للعراق والمجتمع العراقي وللطفولة البريئة.

295
كاظم حبيب
أينما تمتد أصابع السعودية وإيران وتركيا في الشرق الأوسط يرتفع الدخان!
تشير المعطيات المتوفرة على أرض الواقع بمنطقة الشرق الأوسط إلى تفاقم متواصل وخطير في الصراعات السياسية الدائرة بين تلك الدول الإقليمية التي تسعى إلى فرض سياساتها وهيمنتها على دول المنطقة، والتي تحول بعضها منذ سبع سنوات إلى حرب دموية داخلية وخارجية تغذى من الدول الكبرى ومن الدول المنتجة والمصدرة للسلاح في العالم. والمخاطر الكبيرة تبرز في احتمال اتساع عدد الدول الذي يعاني من الحروب الداخلية فيها أو من اعتداءات عسكرية وعدوان خارجي عليها. وإذا كان الصراع العربي الإسرائيلي قد احتل مركز الصدارة في عقود عديدة، بما في ذلك تلك الحرب التي شنّت من دولة إسرائيل ضد لبنان وحزب الله، وكذلك حرب إسرائيل ضد غزة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن إسرائيل لا تجد اليوم ضرورة مباشرة في التورط بحرب جديدة مع الدول العربية، ما دام هناك حكام عرب يمارسون بأنفسهم تدمير الدول العربية. فالصراعات الدائرة اليوم في منطقة الشرق الأوسط قد تحولت منذ سنوات إلى نزاعات عسكرية وحروب دموية ضد شعوب هذه الدول وتدميرية للبنى التحتية والصناعة والزراعة وعموم الاقتصاد الوطني والمراكز الحضارية والجامعات ودور السكن، حتى تحولت مدن سورية كثيرة ومدن يمنية ومدن عراقية إلى مدن أشباح مرعبة حيث أصبح الخراب والدمار شاملين.
فالشرق الأوسط يعاني اليوم من تناقضات محتدمة في المصالح الاقتصادية والرغبة في الهيمنة على سياسات الدول الأخرى وتشكيل مناطق نفوذ حيوية للدول الإقليمية الأكبر في المنطقة، بالتنسيق أو بدونه بين هذه الدول والولايات المتحدة، وأحياناً غير قليلة مع دول الاتحاد الأوروبي، أو مع روسيا. وهي تناقضات ليست دينية أو مذهبية بالأصل، ولكنها تتستر بها لتعبئ شعوبها التي تعاني في الغالب الأعم من نسبة عالية من الجهل أو الأمية السياسية أو الفكر المشوه والمزيف الذي عبئت فيه رؤوس الناس من قبل أجهزة الإعلام ومؤسسات التربية والتعليم في بلدانها. ويزداد الصدام والتدمير حين يتفاعل الجانب الطائفي بالمصالح الذاتية لحكام هذه الدول ويصبح السياسة الحاكمة لهم.
والدول الداخلة في محاور الصراع عديدة ومتحركة أو غير ثابتة. فهناك محور الصراع التركي - الإيراني، الذي يكسب له المملكة العربية السعودية ودول الخليج، في حين تسعى إيران إلى تعزيز تحالفها مع سوريا وكسب العراق إلى جانبها، إضافة إلى تبعية حزب الله بلبنان للسياسة الإيرانية وخضوعه لقرارات مرشد الثورة الإسلامية بإيران علي خامنئي بالكامل. والمحور الثاني يجد تعبيره في الصراع الإيراني-السعودي، الذي تلتحق بالأخيرة دول الخليج، عدا قطر، التي تمردت هذه المرة على السعودية، وهي دولة لقيطة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، فأعلن الحصار ضدها، وتشكل حلف جديد التحقت به مصر، ثم البحرين والإمارات العربية ضد قطر. كما إن الصراع الإيراني-السعودي قد احتدم منذ العام 2014 باليمن بسبب دعم إيران للحوثيين، مما أدى إلى تشكيل تحالف واسع تقوده السعودية وتشارك فيه كل من البحرين والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن والمغرب والسودان والسنغال، في حين تقف إيران وحدها في هذه المعارك إلى جانب الحوثيين والرئيس المعزول علي عبد الله صالح. أما الرئيس هادي منصور فهو يعمل مع السعودية وتحالفها العربي. ومن الوقائع الدامغة تلك التي تؤكد أينما تمتد أصابع السعودية وإيران وتركيا يرتفع دخان الحروب والقتل والتدمير ولن يتوقف ما لم تسحب هذه الأصابع القذرة من التدخل الفظ في هذه الدول وشؤونها الداخلية وسياساتها الفعلية. فالحروب التي تشنها، إلى جانب الرغبة في فرض مصالحها وإرادتها ونفوذها على هذه الدول، فأن فيها رائحة عفنة من الشوفينية والطائفية والتمييز الديني والمذهبي!، وهي انتهاكات صريحة ومريعة للائحة حقوق الإنسان وبقية العهود والمواثيق الدولية في هذا الشأن وللشرعة الدولية واللائحة الأساسية التي تنظم العلاقات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة!  تحاول إيران خلق مجموعة سياسية شيعية تمتد من أيران عبر العراق إلى سوريا فلبنان واليمن، تحاول التأثير على أوضاع البحرين ودول الخليج الأخرى وتهيمن على سياسات هذه الدول الداخلية منها والخارجية والتوسع المذهبي. في حين تتصدى السعودية ودول الخليج ومصر وتركيا لمثل هذه الممارسة بدعوى إنها تريد نشر مذهبها في العالم العربي، وتريد التدخل في شؤون الدول العربية والتأثير فيها لصالحها. والعامل الحاسم في هذا الصراع هو الدور الذي تريد كل من هذه الدول الإقليمية الكبيرة أو الغنية السيطرة على سياسات الدول في منطقة الشرق الأوسط. ويبدو إن إسرائيل تحاول كسب السعودية ومن معها في تحالف أمني وعسكري سري أو مكشوف ضد إيران، إذ تعتقد إسرائيل بأنها تريد تدميرها. 
وقد تورطت كل هذه الدول في حروب قذرة مدمرة لشعوب المنطقة تعكس عن مدى استعداد تلك الدول التي تقود هذه الحروب على التضحية بأبناء وبنات شعوب هذه الدول وتدمير اقتصادها وحياتها الاجتماعية في سبيل تحقيق مصالحها الاقتصادية وهيمنتها السياسية والفكرية أو المذهبية في هذه الدول وعموم المنطقة.
فالحرب السورية المستمرة منذ مارس /أذار 2011 لا يمكن التكهن متى تنتهي، وقد كلفت الشعب السوري مئات ألوف القتلى وأضعاف ذلك من جرحى ومعوقين ونازحين، إضافة إلى الملايين التي هاجرت من سوريا إلى الدول المجاورة والعالم. وقد دُمرت مدن بأكملها ولم تعد مؤهلة للسكن واستخدمت شتى أنواع الأسلحة المدمرة وذات القتل الواسع، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيمياوية. ولم تقتصر هذه الحرب على حرب داخلية بين القوى السياسية المتصارعة، بل شاركت فيها المليشيات الإرهابية المسلحة مثل القاعدة وداعش بأسماء مختلفة، كما دخلت تركيا والسعودية وقطر والإمارات وإيران وحزب الله وفصائل من المليشيات الطائفية المسلحة من العراق بشكل مباشر وغير مباشر في هذا الحرب، ثم تتوجت بتدخل أمريكي وروسي مباشر مكونين محورين رئيسين في هذا الصراع، إضافة إلى حربهما ضد القاعدة وداعش! والمخاطر الكبيرة الراهنة تبرز في محاولات جادة لجر العراق إلى حرب مماثلة وكذلك لبنان، رغم إن العراق يخوض منذ العام 2014 حرباً مريرة ضد داعش وحقق فيها انتصارات باهرة، بعد هزيمة حزيران عام 2014، حيث كان المستبد بأمره نوري المالكي الحاكم المستهتر بأمور العراق وشعبه.
أما الحرب باليمن فقد بدأت حين استولى الحوثيون في العام 2014 على السلطة بصنعاء العاصمة وهروب كافة المسؤولين الحكوميين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية هادي منصور، لخوض المعركة من عدن ومناطق أخرى، وشكلت السعودية حلفاً عسكرياً للتدخل في الحرب ضد الحوثيين وحليفهم علي عبد صالح في الربع الأول من عام 2015 بدعوى التصدي للتدخل الإيراني باليمن ومساندتهم للحثيين ومدهم بالسلاح والعتاد والأموال. ويشير تقرير نشر بتاريخ 27/03/2017 في موقع العربي الجديد جاء فيه:
"وفقاً لأحدث الإحصائيات المعلنة من قبل الأمم المتحدة، قتل 4773 مدنياً وأصيب 8272 آخرون خلال المواجهات. وفيما تتحدث التقارير الأممية عن مقتل ما يقارب هذا العدد من المقاتلين، تفيد مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، بأن الحصيلة تفوق هذه الأرقام، وأن هناك عشرات الآلاف من القتلى (30 إلى 50 ألفاً وفق التقديرات المتفاوتة)، معظمهم من الحوثيين وحلفائهم. وسبب ارتفاع حصيلة الضحايا من جانب الانقلابيين، يعود لكونهم يخوضون المواجهات دون غطاء جوي ويتعرضون لغارات جوية مباشرة، لكنهم لا يكشفون عن أعداد ضحاياهم من المقاتلين." علماً بأن الموت والدمار والخراب قد اتسع خلال الفترة الأخيرة وخاصة بعد أن فرضت السعودية الحصار البحري والجوي والأرضي على اليمن، مما تسبب في مزيد من المخاطر على الشعب اليمني. وقد ورد في ذات التقرير وعن تقارير الأمم المتحدة ما يلي:
"والوضع مأساوي إلى درجة أن اليمن بات يستحوذ منذ أشهر قليلة على اهتمام طارئ من قبل المنظمات الدولية التي لا تتوقف عن التحذير من خطر مجاعة تهدد ما يقارب سبعة ملايين يمني، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة" (راجع: حرب اليمن بعد عامين: حصيلة إنسانية كارثية، صنعاء ــ العربي الجديد، 27 مارس2017). والمخاطر التي تتهدد هذي الملايين لا تنشأ من الجوع وحده، بل ومن واقع انتشار الكثير من الأمراض المعدية وبسبب نقص الدواء والعناية الصحية والطبية وتدهور المناعة عن الأطفال والشيوخ والعجزة والحوامل...الخ. ويبدو واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية غير معنية بضحايا الحرب باليمن، بل جل همها يتركز في الحفاظ عل علاقتها بالسعودية وبيع المزيد من الأسلحة لها وللدول الأخرى المشاركة في هذه الحرب القذرة.
ولكن هذه الدول الإقليمية الكبيرة وحليفاتها التي تخوض الحروب في الدول الأخرى لفرض هيمنتها عليها، فإنها تجد الدعم والتأييد الفعليين من الدول الكبرى بثلاثة أشكال: 1) المشاركة المباشرة في البعض من هذه الحروب، كما في الحرب الجارية بسوريا أو العراق؛ 2) التأييد السياسي والإعلامي من جانب الدول الكبرى لهذا الطرف أو ذاك وأحياناً للطرفين بصيغ مختلفة؛ و3) الأخطر من كل ذلك تزويد هذه الدول بالمزيد من الأسلحة الحديثة والمتطورة التي تزيد من قتل البشر وتدمير المدن وتقليص إمكانية العيش فيها. وتشير المعطيات المتوفرة إلى الحقائق التالية:
** ارتفعت صادرات الولايات المتحدة الأمريكية بين 2006-2010 و2011-2016 من 28% إلى 33% من إجمالي صادرات العالم للأسلحة، في حين انخفضت صادرات روسيا من 25% إلى 23%. وبين عامي 2012-2016 بلغت صادرات الدول المنتجة والمصدرة للسلاح على النحو التالي:
** الولايات المتحدة 33%، روسيا 23%، الصين 6,2% وفرنسا 6%، ألمانيا 5,6% بريطانيا 4,5% وإسرائيل 2,3%.
** ارتفعت صادرات المانيا من الأسلحة من 6,5 مليار دولار أمريكي في عام 2014 إلى 9,8 مليار دولار أمريكي في العام 2015. كما تضاعفت مبيعاتها من الأسلحة إلى السعودية خلال عامي 2016 و2017 في الوقت الذي تخوض فيه السعودية على رأس تحالف عسكري، حرباً عدوانية ضد اليمن.
** بلغت حصة دول الشرق الأوسط من استيراد السلاح 18% من مجموع صادرات العالم للسلاح خلال الفترة 2006-2010، وارتفعت هذه النسبة إلى 25% في الفترة 2011-2015.       
** لقد كانت المملكة السعودية ثاني أكبر مستورد للسلاح بعد الهند خلال السنوات الأخيرة. ففي الأشهر العشرة الأولى من عام 2016 باعت الولايات المتحدة الأمريكية معدات عسكرية للسعودية بمبلغ قدره ملياري دولار أمريكي، ووافقت في العام نفسه على بيع أسلحة لها بمبلغ قدره 40 مليار دولار أمريكي. يضاف إلى ذلك أن المملكة السعودية اشترت في شهر كانون الأول/ديسمبر 2016 (48) طائرة نقل عسكرية "إتش-47 شينوك" بمبلغ قدره 3 مليارات و500 مليون دولار امريكي. كما أن الكويت اشترت 28 طائرة من طراز F 28)) في العام 2016 بمبلغ قدره 10 مليارات دولار أمريكي و218 دبابة بمبلغ قدره مليار و700 مليون دولار أمريكي. أما قطر فقد تصدرت "قائمة الدول المستوردة للأسلحة الفرنسية خلال 2015 بقيمة 6.8 مليارات يورو، ضمت صفقة أسلحة أمريكية إلى قطر شراء 72 طائرة من طراز "F-15QA" بوينغ متعددة الوظائف، بقيمة 21 ملياراً و100 مليون دولار، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وفي المرتبة الثانية تأتي الكويت، بشرائها أسلحة أمريكية بقيمة 11 ملياراً و837 مليون دولار." (راجع: صفقات السلاح بالعالم.. أرقام "خيالية" والخليج يتصدر المتحصنين، تقرير خاص، موقع الخليج أونلاين، 24/02/2017).
** وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن مبيعات الأسلحة بين فترتي 2006-2010 و2011-2015 قد ارتفعت على النحو التالي: السعودية 275%، قطر 279%، الإمارات 35%، مصر 37% والعراق 83%. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مصدر للسلاح على المملكة السعودية التي كانت تزود قوى الإرهاب وقوى المعارضة السورية بالسلاح لمواصلة الحرب بسوريا، إضافة إلى حربها الإجرامية باليمن. وأشار تلفزيون دويتشة فيلة DW حول تجارة السلاح إلى ما يلي: "من الصعب تقدير حجم تجارة سوق السلاح. غير أن معطيات صادرات السلاح الأمريكية والروسية والألمانية والصينية وغيرها تشير إلى أنها بعشرات المليارات سنويا. وتعد السعودية في مقدمة الدول التي تشتري الأسلحة. فقد اشترت الرياض في عام 2014 أسلحة بقيمة أكثر من 80 مليار دولار" (راجع: تجارة السلاح، دويتشة فيلة DW بتاريخ 02/11/2017).
وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن إيران تمتلك قوة عسكرية ضارية وكميات هائلة من الأسلحة الهجومية والدفاعية، وهي تقوم بإنتاج الكثير من الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ البالستية، كما تستورد الكثير من الأسلحة من روسيا ومن دول أخرى كثيرة وتوجه مبالغ كبيرة من ميزانيتها العامة صوب التسلح، وهي متقدمة على السعودية في إجمالي توسعها العسكري واستعدادها القتالي. (راجع: علاء الدين السيد، إيران والسعودية من الأقوى عسكرياً، موقع ساسا  sasaفي 30/03/2015).     
إن تجارة السلاح ليست سوى تجارة الموت لشعوب الشرق الأوسط، تجارة المزيد من الفقر والحرمان، والمزيد من الإرهاب والدمار وحصد الأرواح البريئة. إنها أكبر الجرائم التي ترتكب في منطقة الشرق الأوسط التي كلما ازداد استيراد السلاح فيها، كلما ازدادت الصراعات والنزاعات والحروب والسعي لحل المشكلات بقوة السلاح، وحين تنشب الحروب يزداد استيراد السلاح ايضاً، وهكذا تسقط هذه البلدان في الحلقة الشيطانية، في الدائرة المغلقة، إنها المأساة والمهزلة في آن واحد، إنها مأساة امتلاك هذه المنطقة للذهب الأسود، للبترول. ولا نبتعد عن الحقيقة حين نؤكد بأن أصابع السعودية وتركيا وإيران حين امتدت إلى هذه البلدان ارتفع الدخان، دخان نيران الحروب وروائح الدم والخراب والدمار. ولا شك في أن وراء ذلك سياسات دولية ودول كبرى تهدف إلى الهيمنة على "مناطق النفوذ الحيوية" لمصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهي التي تزيد من تعمق وتوسع الأزمات والحروب ومن صب المزيد من البنزين على النيران المشتعلة لتزيدها اشتعالاً وهمجية وموتاً مستمرا.
إن ما تمارسه السعودية وتحالفها المشين يعتبر ضمن عمليات الإبادة الجماعية ضد شعب مسالم وفقير وعاجز عن الدفاع عن نفسه، كما يعتبر عملاً يهدف إلى قتل المزيد من السكان المدنيين، من أطفال وشيوخ ونساء بتدمر كل شيء عبر القوة الجوية السعودية والإمارتية بالصواريخ والقنابل، بما في ذلك قصف المستشفيات التي يرقد فيها المرضى من أطفال وشيوخ ونساء حوامل، إنها جرائم بشعة يندى لها جبين البشرية والأمم المتحدة، إذ لم يتحرك العالم كله لإيقافها، في الوقت الذي يرون فيه ما يجري على أرض اليمن الحزين. كما لا تقصر إيران في إرسال المزيد من السلاح والعتاد إلى الحوثيين لتزيد من المعارك فيها ومواصلتها. إنهم يتحاربون على الأرض اليمانية كما يتحاربون على الأرض السورية، ويريدون اليوم خوض الحرب في لبنان والعراق أيضا!! إنها المأساة والمهزلة التي يعيشها عالمنا المعاصر! 
ولو لم تكن أغلبية شعوب هذه البلدان غافية ومهملة لمصالحها بسبب جهلها أو زيف وعيها وتشوه الفكر الذي تحمله، لما استطاع حكام هذه الدول الجبناء والمستبدين، ولا دعم تلك القوى الدولية التي تقف وراء هذه الحروب والمآسي والكوارث الإنسانية، أن يبقوا في الحكم لهذه العقود الطويلة. والطلائع المثقفة والواعية والأحزاب التقدمية والديمقراطية، رغم الجهود المضنية التي تبذلها، لم ترتق بعد إلى المستوى المطلوب ولم تتوحد جهودها في النضال ضد هذه النظم المستبدة، كما إنها تواجه سياسة محاربة بأقسى الأساليب وأكثرها شراسة وعدوانية وفي جميع هذه الدول دون استثناء. ومع ذلك فنضال القوى المدنية والديمقراطية والعلمانية لا بد له أن يستمر ولا بد له أن يثمر، لكي يمكن إيقاف هذه الحروب والتخلص من هذه الفئات الحاكمة المعادية لمصالح شعوبها جملة وتفصيلا. وهو آمر أت لا ريب فيه، إلا إنه يستوجب المزيد من العمل والتوعية والنضال في صفوف شعوب المنطقة وبين كادحيها، فهم الخاسرون الأوائل من تلك السياسات والصراعات والنزاعات والحروب بمنطقة الشرق الأوسط.   

296
المنبر الحر / رد: رسالة مفتوحة
« في: 21:19 16/11/2017  »
وعليه أرى ما يلي:
1. إن المشكلة المركزية بالعراق تكمن في طبيعة النظام السياسي الطائفي القائم بالعراق ومحاصصاته المذلة التي تسبب بكل تلك المشكلات والكوارث والمآسي الإنسانية، إضافة لما كان قد تراكم قبل ذاك في ظل النظام الدكتاتوري البعثي والصدامي، وهذا يعني لا بد من إجراء عملية التغيير الجذرية لتوفير الأرضية والأجواء المناسبة لحل المشكلات القائمة على أسس ديمقراطية وتضامنية.
2. وإلى أن يحين وقت التغيير الفعلي لطبيعة الدولة العراقية والنظام السياسي فيها وسياسات السلطة التشريعية والقضائية، الذي يستوجب حصول تغيير في ميزان القوى وتنامي دور المجتمع وقواه الديمقراطية، لا بد من الالتزام بالدستور العراقي رغم نواقصه الكبيرة. فالعمل يفترض أن ينصب عاتق كل القوى المدركة لمآسي العراق والعوامل التي تسببت بكل تلك الكوارث لوضع دستور مدني ديمقراطي علماني حديث يلتزم بتأمين وجود مجلس نيابي نزيه وأمين على مصالح الشعب وإرادته ويعتمد الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والحرية والاستقلالية للسلطة الرابعة وفصل الدين عن الدولة والسياسة واحترام حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة كاملة ومساواتها بالرجل ومنع زواج القاصرات والقاصرين وتأمين الخدمات الضرورية للمعوقين وضحايا الحروب والإرهاب، واستقلالية مفوضية الانتخابات والهيئات الخاصة كالبنك المركزي وهيئة الإعلام المركزية، ويقر قوانين ديمقراطية للصحافة والأحزاب والعمال والجمعيات الفلاحية ومنظمات المجتمع المدني ...إلخ.
3. وضع القوانين والأنظمة الإدارية المنظمة والمحددة بشكل دقيق وعلى وفق الدستور للصلاحيات التي تتضمن حقوق وواجبات الدولة الاتحادية وإقليم كُردستان والمحافظات، بما في ذلك المسائل المالية والموارد الأولية، كالنفط والخامات الأخرى، والتشكيلات العسكرية والپيشمرگة، بما يمنع أي تداخل أو تشابك أو أن يكون حمال أوجه عديدة، ومعالجة الخلافات المحتملة عبر المحكمة الدستورية.
4. وضع سقف زمني لمعالجة جميع المشكلات المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها على وفق ما حدده الدستور في المادة 140 منه، إذ بدون ذلك ستعود المشكلات وتطفو على سطح الأحداث وستكون عواقبها وخيمة على الجميع.
5. الالتزام الثابت والعادل بمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية في دستور الدولة العراقية ودستور الإقليم ورفض الطائفية السياسية والقومية الشوفينية والتمييز القومي والديني والمذهبي والفكري والسياسي، ومعاقبة من يتجاوز على ذلك ويثير النعرات المسيئة لوحدة المجتمع وحقوق مواطنيه وقومياته وأتباع دياناته ومذاهبه.
6. الالتزام بمبدأ محاربة الفساد ابتداءً من أعلى السلطة والأحزاب الحاكمة ومروراً بالجميع والمواقع التي يمكن أن يبرز فيها الفساد ودون استثناء، والامتناع عن ممارسة العفو عما سلف لمن سرق أموال الشعب وعبث بمعيشته وحياته وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي. 
7. وعلى مستوى العراق والإقليم ضرورة منع تشكيل أحزاب سياسية أو جمعيات سياسية على أسس دينية أو مذهبية، إذ إنها تشكل قاعدة مركزية للتمييز الديني والمذهبي أولاً، وتثير الصراعات بين أتباع تلك الديانات والمذاهب ثانياً، واحتمال كبير بتفاقمها ووقوع نزاعات دموية تدمر البلد والمجتمع، على وفق ما هو حاصل بالعراق منذ 2003 حتى الآن.
8. إن على العراق كله، بما فيه الإقليم والمحافظات، الالتزام بمبدأ الموازنة العقلانية والحكيمة بين حق الفرد والمجتمع التمتع الكامل بالحرية والحياة الديمقراطية، وبين حق الفرد والمجتمع التمتع بالأمن والحماية التامة من الإرهاب والفساد ومن أي تجاوزات وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة الحرة والمتساوية.   
9. إن على العراق والإقليم والمحافظات أن تلتزم بمبدأ العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية والدخل القومي استنداً إلى العقلانية في وضع خطط أو برامج التنمية الوطنية الشاملة والمستدامة التي تهدف إلى تغيير بنية الاقتصاد الوطني الريعي الاستهلاكي المكشوف كلية على الخارج والفاقد للأمن الغذائي والأمن الاقتصادي إلى اقتصاد أكثر توازناً في بنيته الإنتاجية وبنية تكوين الدخل القومي وتوزيعه وإعادة توزيعه. ولا يمكن تحقيق هذا التغيير دون توجيه المزيد من الاستثمارات المالية للقطاعات الإنتاجية في الاقتصاد كالصناعة والزراعة والاتصالات والمواصلات واعتماد التقنيات الحديثة ومراكز البحث العلمي وتغيير بنية المعاهد والكليات والجامعات ومناهجها الدراسة وتحسين مستوى هيئاتها التدريسية.
10. ولا بد من وضع برنامج خاص وسريع يهدف إلى معالجة أوضاع الموصل والنازحين ومستقبل القوميات الأخرى الموجودة بمحافظة نينوى والإقليم وعموم العراق، وهي التي عانت الأمرين لا على أيدي الداعشيين فحسب، بل وقبل ذاك على أيدي القوى الطائفية والمليشيات المسلحة والإرهاب والفساد السائد بالبلاد. إن المصالحة الوطنية المنشودة لا تأتي عبر المساومات بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية، بل تأتي عبر إنهاء الممارسات السياسية الطائفية والشوفينية والفساد، والتي تستوجب بدورها تغيير الموقف من وجود أحزاب سياسية طائفية يحرّم وجودها الدستور العراقي حتى بوضعه الحالي. وعلى من يريد محاربة الطائفية يفترض ألّا يكون جزءاً من هذه الأحزاب أو يوافق على وجودها ونشاطها الطائفي المقيت الذي تسبب بكل ما يعاني منه العراق.
11. ولا بد من تأكيد أهمية حل جميع المليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي، وربط من يرغب بالبقاء من المتطوعين على الجيش العراقي بدلاً من وجود قوة عسكرية أخرى تأتمر شكلياً بأمر القائد العام للقوات المسلحة وولاء الذين انخرطوا فيها بالأصل ممن كانوا أعضاء ومؤيدين للمليشيات الطائفية المسلحة، التي ارتبكت الكثير من الجرائم والموبقات بالعراق، لدولة أخرى مجاورة، هي إيران 
(21)
إن الانتصارات العسكرية الأخيرة على عصابات داعش يستوجب استكمالها بإنجازات فكرية وسياسية بالتوجه الجاد والمسؤول لمحاربة الطائفية والشوفينية والتطرف والفساد والإرهاب أولاً، ومحاسبة كل من تورط بكل ذلك ثانياً، وأن تجد كل القوميات بالعراق لغة مشتركة تستند إلى مبادئ المواطنة والتضامن والتآلف والتفاعل والتلاقح الثقافي والعمل المشترك لصالح بناء عراق مدني ديمقراطي جديد تتمتع فيه كل القوميات وأتباع كل الديانات والمذاهب وأصحاب الفلسفات والاتجاهات الفكرية والسياسية بالحرية والحياة الديمقراطية والتقدم والسلام ثالثاً. وأن نعمل من أجل توفير مستلزمات ذلك بتعبئة العراقيات والعراقيين لهذا الغرض النبيل. إذ لا يمكن للعراق أن يستقر ويتقدم ما لم يعمل الشعب وقواه المدنية والديمقراطية والعلمانية وكل المؤمنين الذين يرفضون ربط الدين بالدولة والسياسية لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية واعتماد مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية ومحاربة الطائفية السياسية والشوفينية والتمييز والتهمش والإقصاء لأبناء القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى والفساد والإرهاب بكل أشكاله. إنها الدولة التي يمكن أن تنقذ العراق مما هو فيه الآن وما يمكن أن يأتي حين يستمر وجود النظام السياسي الطائفي والتدخلات الأجنبية في شؤون البلاد.
وأخيراً، أتمنى على المسؤولين الكرد أن يمارسوا النقد الذاتي الضروري لفترة الحكم المنصرمة، وأن يتعلموا من السياسات السابقة وأن يمارسوا سياسات تقربهم على الشعب لا تبعدهم عنه. لقد سألني مسؤول كردي بارز في واحد من لقاءاتي القليلة به، وبحضور سكرتيره، ما رأيك بنا: قلت له حين كنتم في الجبال كنتم قريبين من الناس وطموحاتهم، وحين اصبحتم في وسط الناس ابتعدتم عن الناس كثيراً وابتعدوا عنكم! فقال لسكرتيره سجل ما يقوله الدكتور، ولم يتغير شيئاً! 
كاظم حبيب، بتاريخ 16/11/2017

       

297
المنبر الحر / رسالة مفتوحة
« في: 21:18 16/11/2017  »
كاظم حبيب
رسالة مفتوحة
إلى الأخوات والأخوة أبناء وبنات شعب كُردستان الصديق بإقليم كُردستان العراق
إلى الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الكردستانية
(1)
 ليس هناك من يستطيع ان يحرم شعب ما من حقه في تقرير مصيره، فهذا الحق ثابت لكل الشعوب، سيناله من يسعى إليه طال الوقت أم قصر، إن سعى بوعي ومسؤولية عاليتين لتوفير مستلزمات تحقيقه. هذا الحق الطبيعي أقرته وثائق الأمم المتحدة والمواثيق والعهود الدولية الأخرى وأكدت عليه، لوائح ومواثيق حقوق الإنسان وحقوق القوميات. تسنى لعدد غير قليل من شعوب العالم وفي فترات مختلفة ممارسة هذا الحق وتحقيق ما كانوا يسعون إليه، رغم المصاعب التي تعرضوا لها وتجاوزوها. ولكن الكثير من شعوب العالم كانت وما زالت تعيش في عالم ما يزال بعيداً كل البعد عن ممارسة الكثير من المبادئ والقيم الإنسانية والحضارية التي توصل الإنسان إلى صياغتها وتكريسها عبر قرون من النضال المليء بالتضحيات الجسام ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية، بصورها القديمة والحديثة، وضد الحروب والاضطهاد والقمع القومي والديني والفكري والسياسي، وضد الاستغلال والقهر الاجتماعي والتهميش وفي سبيل السلام والتفاهم بين الشعوب والعدالة الاجتماعية.
(2)
الشعوب كلها تعيش اليوم في عالم رأسمالي استغلالي بشع لا يعرف الرحمة والإنسانية، ولا تعرف النظم الرأسمالية ولا تمارس في علاقاتها الدولية مضامين الحرية والديمقراطية والصداقة والود واحترام إرادة الشعوب وحقوقها وتنميتها وكل ما ثبت في لوائح الأمم المتحدة ومواثيقها الدولية، بل تقوم على المصالح الذاتية لكل دولة من هذه الدول، ولاسيما الدول الكبرى، التي لا تحترم إرادة ومصالح الدول الصغيرة وشعوبها. فحين تشعر تلك الدول، ولاسيما الكبرى المهيمنة على الاقتصاد والسياسية الدوليتين وعلى الإعلام وتقنيات الاتصال الأكثر حداثة، بأن مصالحها تستوجب وقوفها إلى جانب هذه القضية أو تلك، أو أن مصالحها تستوجب الوقوف ضد القضية ذاتها أو في بلد آخر، فإنها ستتبع الموقف الذي يستجيب لمصالحها وليس لمصالح الشعب الذي يناضل في سبيل قضيته، واعتقدَ خطأً بأن هذه الدول ستقف إلى جانبه، بغض النظر عما يصيب هذه القضية من إساءة وما يلحق بها من أضرار. فالدول الكبرى تقيس الأمور إزاء قضية معينة بمكيالين على وفق حاجاتها ومصالحها أولاً وأخيراً.
وتؤكد الكثير من تجارب الشعوب إن قادة أو سياسي الكثير من الشعوب، رغم خبرتها الطويلة، يرتكبون باستمرار ذات الأخطاء التي ارتكبوها هم أو غيرهم في السابق بثقتهم غير المبررة بالدول الكبرى على الصعيد العالمي أو الإقليمي باعتقادهم الخاطئ بأن العلاقات بين الدول تقوم على الود وليس المصالح! ويمكن في هذا الصدد إيراد مسائل كثيرة، منها مثلاً المسألة الكردية في الشرق الأوسط، الموقف من كُرد العراق وكُرد إيران وكُرد تركيا وكُرد سوريا من جانب العالم الرأسمالي عموماً ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان وما زال الكيل بأكثر من مكيال واحد!
(3)
إن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها يتسم عند التطبيق بالمرونة العالية، إذ فيه الكثير من الصيغ الإيجابية. فممارسة هذا الحق تبدأ من حق التمتع بالإدارة الذاتية والحقوق الثقافية، وتمتد إلى الحكم الذاتي، ثم الفيدرالية في إطار دولة معينة، أو الكونفدرالية من خلال وجود دولتين تتفقان بإرادتهما المشتركة على قيام اتحاد كونفدرالي بينهما، وينظم ذلك وغيره بمواد دستورية وفي قوانين منظمة للواجبات والحقوق والصلاحيات المشتركة والمنفردة، وأخيراً يمكن ان يتم الانفصال عن الدولة التي يعيش فيها هذا الشعب أو ذاك وفي دولة متعددة القوميات وإقامة دولة وطنية مستقلة. والحصول على هذا الشكل أو ذاك في ممارسة حق تقرير المصير يخضع لمجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية الفاعلة التي لا يمكن بدونها الحصول على أي ممارسة فعلية لهذا الحق في ظل العالم المعاصر. أي إن ممارسة هذا الحق أو ذاك لا تخضع للرغبات الذاتية لهذا القائد أو ذاك، أو لهذا الحزب أو ذاك، أو لهذه العشيرة أو تلك، ولا حتى لهذا الشعب أو ذاك. فما لم تنشأ وتتفاعل العوامل الذاتية والموضوعية، يستحيل الوصول إلى ما يسعى إليه هذا الشعب أو ذاك. وحين تتوفر تلك الشروط والمستلزمات لا يمكن أن يُمنع هذا الشعب أو ذاك عن تحقيق ما يسعى إليه. ولا شك في أن شرط النضال الشعبي ووحدة نضال القوى السياسية لهذا الشعب أو ذاك، وتفاعلها مع الشعب الآخر، أو أكثر من شعب، في هذا البلد أو ذاك، وتفهمهم المشترك لطبيعة النضال ومهماته يعتبر ضمن الشروط الذاتية لهذا النضال، في حين يشكل الوضع العام بالبلد، من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوعي الفردي والجمعي بالحرية ومضمونها وبالديمقراطية كمنهج للدولة والمجتمع، وكذلك الوضع العام على صعيد منطقة معينة أو الوضع الدولي، يشكل الجانب الموضوعي من العملية كلها. وعلى القوى السياسية والمجتمع أن يلاحظا مستوى الفعل والتأثير المتبادل للعوامل الذاتية والموضوعية وما يمكن أن ينشأ عن ذلك من نتائج إيجابية أو عواقب سلبية عند المطالبة بهذا الشكل أو ذاك من أشكال ممارسة حق تقرير المصير. فحساب مثل هذه الأمور ليس سهلاً، خاصة إذا ما استسهل القادة السياسيون واستخفوا بالعوامل المضادة الفاعلة ضد ممارسة هذا الحق أو ذاك من أشكال التمتع بحق تقرير المصير.
(4)
لا شك في أن محاولة التعجيل بالوصول إلى شكل معين من تلك الصيغ في ممارسة حق تقرير المصير دون ان تكون الظروف والمستلزمات متوفرة، يتحول إلى مغامرة حقيقية أو مجازفة غير محسوبة العواقب، إذ يمكن أن تدفع بالعملية إلى الوراء لسنوات طويلة، أو ما يمكن أن نطلق عليه بحصول نكسة عمّا كان يسعى إليه هذا الشعب أو ذاك، وربما يخسر بعض أو الكثير مما تحقق له بنضاله قبل ذاك من منجزات على طريق تطوير ممارسة حق تقرير المصير. ويرتبط هذا التسرع أحياناً غير قليلة برغبات ذاتية غير واقعية، أو محاولة الهروب إلى الأمام للخلاص من مشكلات بعينها، أو عجز فعلي في رؤية موازين القوى والقدرات الذاتية لتحقيق ما يسعى إليه الفرد أو المجتمع، إضافة إلى الوضع العام المحيط بهذه القضية والعوامل الكثيرة المؤثرة فيها وعليها. كما إن التأخير في المطالبة بصيغة معينة من الحق في ممارسة تقرير المصير، رغم توفر مستلزمات ذلك، يعتبر هو الآخر نكوصاً وخسارة لهذه الشعب أو ذاك فيما يسعى إليه، إذ يعتبر تخلفاً عن الاستفادة من العوامل المساعدة لتحقيق المرتجى والمؤمل.         
هذه هي الأسس والقواعد العامة، التي لا بد أن تقترن بفهم ووعي حركة وفعل القوانين الاجتماعية، والتي يفترض أن يعرفها ويعيها كل سياسي محترف، وبتعبير أدق وأصوب، كل إنسان يناضل في سبيل الوصول إلى ممارسة أحد أشكال حق تقرير المصير ويتعامل معه بكل حرص ومسؤولية وبعيداً عن التسرع أو التردد، بعيداً عن الهروب إلى أمام لأي سبب كان، أو النكوص إلى الوراء، فكلاهما لا يحقق المنشود. ويفترض هنا أن يلعب المثقفون الواعون دورهم الريادي في الدفع باتجاه المطالبة أو الحد منها بالارتباط مع وعيهم للشروط والمستلزمات الضرورية لمثل هذه العملية التي غالباً ما تصطدم بمقاومة القومية الأكبر والجماعات والأحزاب القومية الشوفينية أو الدينية والطائفية التي لا تعترف بالقوميات ولاسيما حين تكون في السلطة. 
(5)
العراق أحد البلدان الشرق أوسطية الذي يعيش فيه أكثر من شعب أو قومية، كما هو حال إيران وتركيا وسوريا على سبيل المثال لا الحصر. ومنذ مئات السنين، وإذ نترك عراقنا، ميزوبوتاميا الحضارة خلفنا، نرى إن العرب والكُرد والكلدان والآشوريين أو السريان عموماً، إضافة إلى الصابئة الآراميين والتركمان، كانوا يعيشون جنباً إلى جنب في ظل الإمبراطورية الأموية فالإمبراطورية العباسية، ثم الإمبراطورية العثمانية، وأخيراً في ظل الدولة العراقية الملكية، ومن ثم الجمهوريات المتتالية. ورغم إن الكثير من هذه القوميات قد تعرض في فترات مختلفة إلى واقع التمييز الديني ومن ثم القومي، والتهميش والإقصاء والاضطهاد والعسف من جانب القومية الأكبر وقواها الحاكمة، وهم الحكام العرب أو الفرس أو الترك، فأن شعوب هذي البلدان واصلت العيش المشترك وحاولت تجاوز تلك الصعوبات والمشكلات وأشكال القمع. ورغم إن الكُرد في كل أقسام كُردستان ناضلوا في سبيل إقامة دولتهم أو إماراتهم العديدة، ومن ثم إقامة دولتهم الوطنية المستقلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. إلا إن هذا الهدف لم يتحقق، بفعل دور الدول الاستعمارية التي احتلت المنطقة في نهاية هذه الحرب وإرادتها في خلق بؤر توتر مستمرة، ومن خلال رسم الحدود أيضاً، في هذه المنطقة من العالم، وهما الدولة البريطانية والدولة الفرنسية الاستعماريتين، ومن ثم عصبة الأمم، التي كانت تتحكم فيها وبقراراتها، الدول الكبرى والمنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والتي لم تسمح بتحقيق حلم الكُرد والحقت ولاية الموصل، التي ضمت سناجق كُردية وغير كُردية، والتي كانت تحت الحكم العثماني، في العام 1926، بالدولة العراقية التي تأسست في العام 1921. وبهذا زاد التقسيم الثنائي السابق لكُردستان وشعبه على الدولتين الفارسية والعثمانية، إلى تقسيم جديد بحيث أصبحت كُردستان وشعبها موزعة على أربع دول هي تركيا وسوريا والعراق وإيران. 
(6)
ومنذ تلك الفترة خاض الشعب الكُردي مع القوميات الأخرى بالعراق نضالاً مشتركاً في سبيل مجموعة من الأهداف الأساسية التي التقت عندها القوى الديمقراطية والتقدمية والقومية، وأعني بها:
** النضال ضد الهيمنة الأجنبية التي تمثلت بالاستعمار البريطاني الذي استمر الانتداب على العراق حتى العام 1932، ومن ثم ضد الهيمنة البريطانية على السياسات الداخلية والخارجية للحكومات الملكية وضد الأحلاف العسكرية الدولية.
** النضال من أجل الحياة الديمقراطية والحقوق الأساسية للشعب العراقي بكل قومياته وتطبيق الدستور والحياة النيابية الحرة والنزيهة، والتي كانت تُشوه في ظل الحكم الملكي وتُصادر في ظل الجمهوريات المتعاقبة لاحقاً.
** النضال في سبيل بناء الاقتصاد الوطني وضد البطالة والفقر والحرمان، وفي سبيل المساواة والعدالة الاجتماعية.
** كما شارك الشعب العراقي بمختلف قومياته مع الشعب الكُردي في نضاله في سبيل حقوق القومية العادلة والمشروعة، وضد التهميش والتمييز. ويمكن أن يتابع ذلك من يشاء في برامج الأحزاب والقوى الديمقراطية والتقدمية العراقية، بخلاف برامج الأحزاب والقوى القومية الشوفينية والقوى الدينية والطائفية.
وعلى هذه الأرضية النضالية المشتركة استطاع الشعب الكُردي تحقيق العديد من المنجزات التي حاولت الحكومات المتعاقبة حرمانه منها. فتمكن بتضحيات غالية، وبدعم فعلي ومليء بالتضحيات من القوى الديمقراطية والتقدمية للقوميات الأخرى بالعراق، تحقيق الاعتراف له في كونه الشريك الفعلي في هذا الوطن أولاً (الدستور المؤقت لجمهورية 14 تموز 1958)، رغم ضعف ممارسة ذلك، ومن ثم الحكم الذاتي في بيان أذار/ مارت 1970)، رغم إفراغه الفعلي من محتواه من جانب الحكم البعثي، وأخيراً التمتع بالفيدرالية ضمن الجمهورية العراقية منذ العام 1992 بقرار من البرلمان الكُردستاني ومن جانب واحد، ثم تكرس ذلك في الدستور العراقي في العام 2005. لقد ساهمت الكثير من العوامل الذاتية والموضوعية، وكان للعامل الدولي تأثيره البارز في هذا المجال وتفاعله مع العوامل الذاتية، حيث فرض التحالف الدولي في حرب العام 1991، وعبر قرار من مجلس الأمن الدولي، حماية إقليم كُردستان من احتمال قيام النظام البعثي من الاعتداء العسكري على الإقليم والفيدرالية الجديدة، ومن أجل إضعاف النظام البعثي وإسقاطه لاحقاً. وهنا يفترض الانتباه إلى أن سياسة الولايات المتحدة إزاء الإقليم لم تنطلق من ود أو دعم للكرد بقدر ما كانت من أجل تحقيق مصالح معينة في المنطقة كلها، خاصة عندما نقارن بين موقفها من كرد العراق وموقفها من كرد تركيا وإيران.
(7)
وإذ خاضت القوى والأحزاب الكُردستانية خلال الفترة الواقعة بين 1992-1998 معارك عسكرية وصراعات سياسية وسالت دماء فيها بهدف السيطرة على الإقليم وسياساته، فأنها ومنذ العام 1998 حتى العام 2003 قد حافظت على التباين في إدارتها للإقليم، إذ قسم الإقليم إلى إدارتين، حكومة دارة أربيل ودهوك، وحكومة لإدارة السليمانية، وهي ثلاث محافظات اعتبرت من الجانب العراقي الرسمي جزءاً من إقليم كُردستان واستثنيت كل المناطق التي تسمى اليوم "المناطق المتنازع عليها، بضمنها كركوك"، من سلطتي الإقليم. وعاش الكُرد في هذه الفترة دون صراعات مباشرة أو حروب داخلية. واستمر وجود الحكومتين حتى العام 2005 حيث جرى توحيد الحكومتين بحكومة واحدة بأربيل، ولكن على وفق ما أطلق عليه بالاتفاقية الاستراتيجية بين الحزبين الرئيسين، الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الو\طني الكُردستاني، وابعد عن هذه الاتفاقية بقية الأحزاب والقوى السياسية. ولم يتسن خلال الفترة السابقة، بين 1992-2003، وحتى 2005، أن يكون هناك التعاون المنشود بين القوى الكُردستانية لصالح تقدم كُردستان وتطورها وتحسين مستوى حياة ومعيشة شعبها.
(8)
كان المفروض أن تمارس حكومات الإقليم المتعاقبة ابتداءً من عام 2003 أو 2005 سياسات موحدة وجديدة ومتكاملة تهدف إلى تغيير واقع الإقليم المتخلف نتيجة السياسات والأوضاع السابقة، من شأنها أن تسهم في تعزيز الفيدرالية الكُردستانية، رغم الخلافات التي استمرت في الصف الكُردي أولاً، وتلك الخلافات والصعوبات التي نشأت مع الحكومة الاتحادية ثانياً. ولا بد هنا من الإشارة إلى ما كان ينبغي أن يمارس على وفق مواد الدستور الجديد، الذي أقرته الأحزاب الحاكمة وصوت عليه وحاز على تأييد أكثرية الشعب بالعراق، رغم نواقصه الشديدة وتخلفه عن الحضارة المعاصرة، ولم تلتزم به كما ينبغي أو انحرفت عنه تماماً. ولا بد هنا من التنبيه إلى أن هذه الرسالة موجهة إلى الشعب الكُردي، وبالتالي تتضمن واقع إقليم كُردستان العراق، وليس الواقع العراقي الاتحادي أو سياسات الحكومة الاتحادية التي يعرف الجميع موقفنا منها ومن عواقبها على الشعب العراقي كله، وبضمنه الشعب الكُردي والقوميات الأخرى بالإقليم.
1.   لقد كان المطلوب والملح لواقع الإقليم انتهاج سياسة داخلية تسهم في تعزيز وحدة الشعب الكُردي وقواه السياسية وتستند إلى الشرعية الدستورية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات المتعايشة مع الكُرد بالإقليم، واحترام كامل للمؤسسات الدستورية والفصل بين السلطات الثلاث واحترام القضاء، واستقلال الإعلام والنشاط الصحفي، باعتباره السلطة الرابعة.
2.   وكان المؤمل والمرتجى من القيادات الكُردستانية انتهاج سياسة عراقية تعتمد الأسس الديمقراطية في تحالفاتها وفي التأثير على الواقع العراقي وتعزيز مواقع القوى الديمقراطية والتقدمية، التي كانت وستبقى حليفة للكُرد في كل الفترات السابقة والحالية، سواء أكان في البرلمان أم خارج العمل البرلماني، لضمان إبعاد الدولة العراقية والحكومات الاتحادية عن الاتجاهات التي تعيق الديمقراطية وبناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي وتمنع سقوطها في الدولة الثيوقراطية.
3.   وكان واقع الاقتصاد الكُردستاني يتطلب انتهاج سياسة اقتصادية تستخدم موارد النفط المالية والجمارك لصالح إجراء تغيير جاد ومسؤول في بنية الدخل القومي وتنوعه، من خلال إقامة صناعة وطنية وزراعة حديثة وتنشيط الاستيراد لصالح التنمية الإنتاجية بدلاً من إغراق الأسواق بالسلع الاستهلاكية والكمالية التي استنزفت الكثير من الموارد المالية التي كان المفروض توجيهها للتثمير الإنتاجي. ومثل هذه السياسة لا يعني عدم تنفيذ مشاريع لتطوير المدن والشوارع والجسور وإقامة الحدائق والمنتزهات، كجزء من عملية تنمية شاملة.
4.   وكانت الحاجة ماسة إلى انتهاج سياسة مكافحة البطالة من خلال خلق فرص عمل في القطاعات الإنتاجية وليس في دوائر الدولة التي اكتظت بالموظفين الزائدين عن الحاجة، ودفع مليارات الدولارات بسبب تضخم حجم الرواتب، وإحالة مبكرة للكثير من الموظفين، وكوادر الحزبين الرئيسين على التقاعد برواتب عالية، التي لا تساهم في دعم الاستثمار الإنتاجي وفي زيادة الدخل القومي، بل كانت تساهم التفريط به. إذ إن الحالة الثانية خلقت بطالة مقنعة كبيرة جداً واستنزفت موارد مالية وأعاقت إنتاجية الإدارة وعطلت أعمال الناس. لقد تحولت إلى مشكلة عويصة وعنق زجاجة إنسانية ومالية للحكومة الكُردستانية.
5.   وكان المفروض انتهاج سياسة تسهم في تحقيق شيء من العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة واستخدامها، وفي تقليص الفجوة الكبيرة والمتسعة بين مستوى حياة ومعيشة ومدخولات الفئات الاجتماعية الفقيرة والغنية بالإقليم، أي بين الفقراء ومحدودي الدخل من جهة، والأغنياء الميسورين وأصحاب الملايين والمليارات والذين اكتنزوا الثروة من السحت الحرام والفساد المستشري من جهة أخرى.
6.   وكان على سياسة الإقليم وكل الأحزاب السياسية الكُردستانية دون استثناء، ولاسيما قادتها، الاهتمام الجاد والمسؤول بحياة ومعيشة وظروف عمل الفئات الفقيرة والمعوزة والمحدودة الدخل، والتحري عن سبل تحسين أوضاعهم المعيشية الشخصية بدلاً من تحسين حياة ومعيشة الأغنياء وكبار الموظفين على حساب الاقتصاد والمجتمع، ولاسيما الفقراء منهم.
7.   وكان عل التحالف الكُردستاني أن يلعب دوره الديمقراطي المسؤول والواعي في مجلس النواب العراقي في مواجهة القوانين والاتجاهات المضرة بالحياة الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، وبشكل خاص في مسائل الأحزاب وقانون الانتخابات وبنية المفوضية المستقلة للانتخابات لا أن يتناغم تماماً إلى حد التطابق مع الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية التي كانت وما زالت وستبقى مناهضة للديمقراطية والتقدم الاجتماعي وحقوق الشعب الكُردي وضد القوى والأحزاب المدنية والديمقراطية والعلمانية.
8.   وكان المطلوب انتهاج سياسة تربية وتعليم تبني الإنسان بالإقليم على أسس حضارية حديثة وقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والإخلاص للشعب، واعتماد الأسس العلمية في مناهج التربية والتعليم، إضافة إلى الابتعاد عن الإكثار في إقامة المعاهد والكليات والجامعات مع الإهمال الصارخ والفعلي لمضامين المناهج الدراسية ومستوى التعليم ومستوى الجهاز التربوي والتعليمي، وما نتج عنه من ضعف كبير وتأثير سلبي على المستوى العام والمتخلف للتلاميذ والطلبة والخريجين والعاملين في أجهزة الدولة.
9.   وكان المفروض انتهاج سياسة تحارب الفساد ابتداءً من الفئات الحاكمة وأحزابها ونزولاً صوب المستشارين وكبار الموظفين والمدراء العامين والمدراء وصغار الموظفين، وكذلك أصحاب شركات المقاولات والمتاجرة بالعقار وبقية النشاطات الاقتصادية والعمرانية، ولاسيما في قطاعات الاستيراد وتصدير النفط، وليس العكس، أي السياسة المطلوبة لمكافحة الفساد هو البدء بالحيتان الكبيرة وليس بالحيتان الصغيرة التي تعتاش على فتات الفساد عند الكبار، أو التخلي الفعلي عن محاربة الفساد أصلاً، والذي أدى إلى خسارة موارد مالية كبيرة وخلق مليارديرية ومليونيرية بإعداد كبيرة ألحقت الكثير من الأذى بالاقتصاد والمجتمع وأبعدت الإقليم عن الحكم الرشيد المنشود.
10.   وكانت الحكمة والتجربة تستوجب انتهاج سياسة عدم إطلاق أيدي الأجهزة الأمنية العديدة في حياة الناس اليومية وشؤونهم الداخلية وإيجاد علاقة سليمة بين الحق في الحرية لدى الفرد والمجتمع، والحق في توفير الأمن الداخلي والحماية للمواطنات والمواطنين.
11.   وكان المنشود انتهاج سياسة احتضان وتفاعل وعدم تمييز بين المواطنات والمواطنين من القوميات الأخرى ورفض التجاوز على مناطقهم السكنية أو إجراء تغيير ديمغرافي بالإقليم في غير صالح المسيحيين أو غيرهم.
12.   وكان المفروض في السلطات الثلاث بالإقليم انتهاج سياسة ترفض استخدام أجهزتها وكأنها مؤسسات تابعة لحزبين فقط وليس للشعب كله، حيث يتم إشغال جميع الوظائف الحكومية على أساس الكفاءة والمهنية العالية والإخلاص للشعب والإقليم وليس لهذا الحزب أو ذاك أو لهذه العائلة أو تلك أو لهذا القائد أو ذاك.
(9)
لا أنشر سراً حين اؤكد إن كل هذه العوامل المبدئية التي كان المفروض ممارستها من جانب الحكم بالإقليم قد شهدت انحرافاً جدياً وخطيراً عنها بصورة مرفوضة ومؤذية، إذ أن ممارستها بصورة سليمة هي التي كان في مقدورها تطوير وتعزيز مواقع الإقليم وتكريس الصائب وتحقيق التفاعل المنشود بين أبناء وبنات الشعب الكُردي، وكذلك بينهم وبين أبناء وبنات القوميات الأخرى بكُردستان، ومن ثم مع كل أبناء وبنات العراق. وكان في مقدور كُردستان أن تقدم نموذجاً مشرقاً لكل العراق، الذي كان يسبح في ظلمات الأحزاب الإسلامية السياسية والسياسات الاستبدادية والطائفية المقيتة للجعفري والمالكي والجبوري والنجيفي ومن لف لفهم، والذي ما يزال يعاني، من تلك السياسات والإجراءات البعيدة كل البعد عن مصالح الشعب وإرادته الحرة والواعية والتي اخضعت الشعب للابتزاز والظلم والاضطهاد والقمع والقتل والتشريد على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة والأجهزة الأمنية والخاصة وقوى الإرهاب الدموية والفاسدين. 
(10)
ويمكن هنا أن نشير إلى بعض المسائل التي كانت تلعب دورها في إغاضة المجتمع الكردستاني والمرتبطة بسياسات الحكم.
1.   التمييز المخل بين المواطنات والمواطنين بالإقليم في تطبيق القوانين الصادرة فيه، سواء أكان من جانب القوى الأمنية، أم المحاكم، أو الأجهزة العسكرية والإدارية الأخرى، وسواء أكان ذلك في التعيين، أم في الإحالة على التقاعد/ أم في المرافعات في المحاكم، أم في جباية الضرائب، أم في دفع أجور الكهرباء، أم في مجال منح العقارات أو المتاجرة في العقار والدور أو الشقق السكنية.. إلخ.
2.   دور الصراع السياسي بين الحزبين الرئيسين في التوجه صوب شراء ذمم الناس بتوظيفهم ودفع رواتب سخية لهم دون الحاجة الفعلية لهم في دوائر الدولة وأجهزة الإعلام وغيرها، أو شراء ذمم كوادر إعلامية وسياسية من أحزاب أخرى لقاء رواتب عالية وامتيازات لا يحصل عليها الآخرون الذين يمتلكون كفاءات أفضل، أو تعيين مستشارين وخبراء من الحزبين أو المؤيدين لهما فقط ودفع رواتب عالية لهم. مما نفر الشعب من الحكم وأثقل كاهل الميزانية فعلاً.
3.   التخلي الفعلي عن التنمية الوطنية والرغبة في تطوير الخدمات فقط، واعتبار النموذج الخليجي هو الأمثل، مما أدى إلى نسيان القطاع الزراعي ودوره في التنمية وخلق فرص عمل وتنويع الدخل القومي، والذي أدى إلى هجرة الفلاحين إلى المدينة، أو ترك المحاصيل الزراعية في البساتين، لأن كلفة نقلها إلى الأسواق المحلية أو العلاوي أعلى بكثير من سعر بيعها، بسبب المنافسة الشديدة من السلع المستوردة التي أغرقت السوق الكردستاني بسلع مستوردة من إيران وتركيا والسعودية مثلاً. لقد كان المستفيد من كل ذلك بعض المتنفذين، إذ يحصل على إعفاء جمركي أو فرض تعريفة جمركية مخفضة، مما يجعل أسعارها تنافسية طاردة للسلع الملحية. كما أهملَ المخطط الكردستاني التنمية الصناعية التي كانت وما تزال ضرورية لبناء قاعدة اقتصادية متينة بالإقليم، وأغرق في الوقت ذاته الأسواق المحلية بالسلع المستوردة من كل بلدان العالم، بما فيها أسوأ السلع وأكثرها رخصاً، والتي اطلق عليها الناس "زبالة"، وهي التي لعبت دوراً سيئاً في الاقتصاد الكردستاني، بسبب غياب رقابة جهاز التقييس والسيطرة النوعية. ويمكن هنا إيراد أمثلة ذات أثر كبير على حياة المجتمع كالأجهزة الطبية والأدوية والأجهزة الدقيقة والإلكترونية والكهربائية. وقد تم احتكار التجارة بهذه المواد وغيرها مما أدى إلى اغتناء المسؤولين وغيرهم من التجار، ولكن الضرر تحمله الاقتصاد الكردستاني والمجتمع بشكل خاص بسبب الحوادث المفجع التي نجمت عن استيراد تلك السلع غير المراقبة. 
4.   غياب الالتزام بالمعايير والأسس القانونية السليمة في التوظيف أو في الإحالة على التقاعد أو في منح الرتب العسكرية أو الوظيفية مما أشاع عدم الثقة بالسلطة أولاً، وميز بين الموطنين ثانياً، وزاد من أعباء الميزانية ثالثاً، والخاسر الفعلي هو الاقتصاد الكردستاني والمجتمع. 
5.   تعيين مستشارين وخبراء لا يقدمون النصيحة الخالصة والصادقة للمسؤولين، بل تحاول جمهرة منهم أن تتملق وتحابي بخسة وتؤله المسؤول عبر ما تنشره من مقالات أو أبداء تأييدها الحار لما يقترحه المسؤولون، وهي تدرك خطأ مثل هذه الاقتراحات. وهنا تلعب الانتهازية المرتبطة بالمنصب والراتب الدسم والخشية من المسؤول دورها المباشر في سلوك هذه الجمهرة من المستشارين أو المحيطين بالمسؤولين.
6.   كان وما يزال المفروض إبراز فعلي لدور ومكانة المسيحيين والإيزيديين والكرد الفيلية بشكل أكثر في الحكم بكردستان وبعدد مناسب من الوزارات لا بسبب كونهم مسيحيين أو قومية أخرى مثلاً فحسب، بل وكمواطنين ومواطنات لديهم الكفاءات والإمكانيات غير القليلة، في حين حرموا منها. 
وجدير بالإشارة إلى إن هذه المظاهر السلبية وغيرها لا تقتصر على الحكم بالإقليم بل تمس العراق كله، أي الحكومة الاتحادية ومجالس المحافظات والمؤسسات والهيئات المسؤولة.
(11)
من الواجب الإشارة إلى أن الإقليم لم يمارس سياسة فيدرالية تتناغم مع الدستور العراقي، بل كان أبعد بكثير في ممارساته عن الفيدرالية، أي أنه اقترب عملياً من الكونفدرالية غير المعلنة. ولكنه مارس سياسات تجهض مضمون الفيدرالية الديمقراطية ولا تسمح بتطور علاقات ودية حتى مع من كان متضامناً مع الشعب الكُردي. ولم يكن الشعب الكُردي مسؤولاً عن ذلك طبعاً، بل كان النظام السياسي والأحزاب الحاكمة هما المسؤولان عن ذلك. وقد تسبب هذا الواقع في خلق خلافات حادة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وزاد في الطين بِلة ذلك النهج السياسي الفاسد والمتخلف والطائفي بامتياز الذي مارسه نوري المالكي في فترة حكمه التي استمرت تسع سنوات تقريباً. ولم تبذل جهود تستند إلى الدستور لمعالجتها، بل جرت محاولات المساومة عبر اتفاقات شخصية وغير رسمية بين رئاسة الإقليم ورئيس الحكومة الاتحادية وبعض القوى المشاركة في الحكم، ورئيس القائمة العراقية حينذاك، ثم رفض المستبد بأمره نوري المالكي، بعد حصوله على التأييد في تسنمه الولاية الثانية للحكومة الاتحادية، تنفيذ تلك الاتفاقات، مما عمق الخلافات والصراعات.
(12)
لم تنشأ معارضة سياسية حقيقية وموضوعية بالإقليم، بل نشأت معارضة من رحم ذات الأحزاب الحاكمة، ولم تكن تمتلك الأسس والمناعة المبدئية التي تبعدها عن الوقوع في النهج السياسي ذاته السائد في حكم الإقليم. فقد برزت معارضة سياسية انشقت عن الاتحاد الوطني برئاسة نوشيروان مصطفى أمين (1944-1917) وشكلت "حركة التغيير"، التي انتعشت على حساب الاتحاد الوطني الكردستاني وكسبت في معارضتها للحزبين الحاكمين، حققت نجاحاً ملموساً في الانتخابات. ولكنها حين شاركت في الحكم خفت معارضتها وقل رصيدها عموماً. ومع ذلك فقد كانت الجماعة الأكثر معارضة لسياسة الحكم ولرئيس الإقليم والحكومة الكُردستانية. ولم تكن هذه المعارضة دون هدف أو دون مضامين واضحة ومقبولة عند الكثير من الكُرد. وقد أضعف هذا الانشقاق دور الاتحاد الوطني الكُردستاني وتأثيره في سياسة الإقليم كثيراً. وبعد إصابة رئيس الجمهورية العراقية مام جلال الطالباني، بجلطة دماغية، ضعف تأثير الاتحاد الوطني وتعددت الأجنحة فيه، واتسع ذلك بعد وفاة رئيس الحزب. ولا شك في وجود معارضة في الحزب الديمقراطي الكُردستاني لبعض أو كل سياسات الحزب، ولكنها غير منظمة ولا واضحة وغير مرئية. ولذلك أسبابها أيضاً. أما المعارضة الإسلامية المشاركة في الحكم، فإنها كانت نشطة، كما في حالة جماعة اليكرتوو، تلتقط النواقص وترميها على الأحزاب الرئيسية وتتملص منها وتكسب الناس المعارضين لسياسة الإقليم. ولا بد من تأكيد حقيقة أن كل الأحزاب الأخرى غير الحزبين الرئيسين لم يشاركا في رسم سياسة الإقليم، وغاب دورهم السياسي والاجتماعي، وساهموا بدور بهامشي غير محسوس في الحياة السياسية والاجتماعية بالإقليم، ولم تخرج معارضتهم لبعض الأمور، ومنها المهمة، عن محافلهم الخاصة أو داخل مقراتهم.
(13)
حين اكتب عن هذه المسائل وبهذه الصراحة والوضوح لأني كنت قد كتبت وذكرت عنها مراراً وتكراراً وبصيغ مختلفة، سواء أكان ذلك في مقالات نشرت في الصحافة العراقية ومنها الكُردستانية، أم في رسائل وجهت للمسؤولين الكبار بالإقليم، منها المنشورة ومنها غير منشورة ومتوفرة بأرشيف الكاتب، أم عبر اللقاءات المباشرة مع كبار المسؤولين الكُرد، أم في بيانات أو رسائل محررة عبر الأمانة العامة للتجمع العربي لنصرة القضية الكُردية حين كنت أميناً عاماً لها. وحين نشرت مقالاً نقدياً مهماً باللغة العربية وأرسل إلى مجلة "گولان"، التي يصدرها الحزب الديمقراطي الكُردستاني باللغتين العربية والكُردية ولها موقع الكتروني بالاسم ذاته، لم يظهر العربي بالكامل وترجم المقال إلى اللغة الكُردية ونشر، ولكن بعد أن اقتطع الرقيب أهم وأبرز الفقرات النقدية للحكم وللأحزاب الحاكمة بالإقليم. عندها قاطعت النشر في المجلة المذكورة، وفي هذا المجال لا بد من ذكر الحكمة العراقية التي تؤكد " الصديق يقول قلت لك، والعدو يقول أردت أن أقول لك". في العام 2010 منحت وسام "صديق الشعب الكُردي" من وزارة الثقافية بالإقليم في الذكرى الخامسة والسبعين لميلادي والذي أعتز به كثيراً. ومن هذا الموقع كنت أحاول أن أقدم ما يمكن تقديمه من نقد للسلبيات والإيجابيات في آن واحد. لم أكن وحدي من قدم النقد او الاستشارة المجانية الصادقة أو الرأي الاجتهادي إلى الأحزاب الكُردستانية والقيادات الكُردستانية في فترات مختلفة، إلّا إنها والحق يقال لم تلق آذاناً صاغية، بل حتى أُبعد التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية عن المؤتمرات والاجتماعات التي كان يعقدها الإقليم، بسبب ملاحظاته النقدية مع تأييده المخلص للقضية الكُردية لا على مستوى العراق، بل على مستوى الشرق الأوسط، كما كان يؤكد الأستاذ القاضي زهير كاظم عبود هذا الواقع، وهو الشخصية الوطنية التي بادرت إلى تأسيس هذا التجمع التضامني والتطوعي. 
(14)
لقد حصل الاستفتاء، رغم المعارضة الشاملة من العالم كله، فيما عدا حكومة بنيامين نتنياهو بإسرائيل والتي كانت وما تزال لها نوايا أخرى غير محمودة!، وعبَّر الشعب الكُردي بنسبة أكثر من 92% عن رغبته في إقامة دولته المستقلة. لقد مارس الشعب الكُردي حقاً طبيعياً لم يتضمنه الدستور العراقي خطأً، وكان الأفضل والأسلم والأكثر حكمة ألاّ يحصل في هذا الظرف بالذات. ولكن ما حصل بعد ذلك كان بالنسبة لي وللكثير من الأصدقاء الكُرد والعرب متوقعاً تماماً، لأن الشروط الذاتية والموضوعية لم تكن متوفرة لمثل هذا الاستفتاء ولا لتنفيذ نتائجه، فيما عدا الرغبة والطموح. وقد عبرنا عن قلقنا ومخاوفنا قبل الاستفتاء بفترات مختلفة، وأخرها كان في يومي 16 و17/ أيلول/سبتمبر 2017 بالسليمانية. وقد أشار السيد مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، في لقاء له على شبكة CNN، وفي خطاب عام أيضاً، إلى أن الحكم بالعراق كان ينوي القيام بذلك قبل الاستفتاء. أي يقصد بأن الاستفتاء لم يكن سوى "القشة التي قصمت ظهر البعير". ولكن السؤال العادل: هو إن كان السيد البارزاني يعرف ذلك فلماذا قدم للحكم ببغداد مثل هذه القشة التي قصمت ظهر البعير وأكثر؟ هنا تكمن المسألة الخاطئة وسيطرة الرغبة الملحة والابتعاد عن أرض الواقع.
(15)
واليوم يحاول المناهضون لحقوق الشعب الكُردي أصلاً، استغلال ذلك لإنزال الهزيمة النفسية والمعنوية بالشعب الكُردي وانتزاع الكثير من المكاسب العادلة والمشروعة التي تحققت لإقليم وشعب كُردستان العراق عبر سني نضاله الطويلة والتضحيات الجسام ومشاركته مع بقية أبناء وبنات الشعب العراقي في النضالات المديدة في سبيل الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية. ولا يقتصر النشاط المناهض للكُرد على قوى إسلامية سياسية عراقية وأخرى شوفينية متطرفة فحسب، بل يمتد ليشمل الدول المجاورة دون استثناء، وهي التي تشجع على شن حملة همجية على مكاسب الشعب الكُردي التي يفترض التصدي لها، لأنها ليست وحدها المقصودة بهذا الهجوم الشرس، بل كل القوى الديمقراطية والتقدمية التي تريد تغيير الواقع السياسي الطائفي القائم بالعراق، إنها ذات القوى التي دخلت في تحالف مع الأحزاب الكُردية وأعطت الانطباع وكأنها تؤيدها وتسند حقوقها، ولكنها كانت تريد الاستفادة منها في دفع البلاد ووضعها على الطريق الذي يسعى إليه كل الإسلاميين السياسيين الطائفيين والمتطرفين، إلى إقامة دولة ثيوقراطية متطرفة ومتخلفة في آن واحد. وقد كشف هؤلاء عن وجههم القبيح والكالح وعن مخالبهم الجارحة التي يريدون غرزها في جسم الشعب الكُردي وحقوق والمشروعة العادلة، وفي جسم الشعب العراقي كله.   
 (16)
وفي هذه المرحلة الحرجة جداً من تاريخ العراق تقع على عاتق الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبة مهمة كبيرة وأساسية، مهمة منع تدخل إيران في الشأن العراقي الداخلي، والتي كان وما يزال الحكم الإيراني وقواه الدينية الحاكمة تسعى لفرض هذا التدخل على العراق واعتبار ذلك مسألة اعتيادية عبر القوى والعناصر التي تلتقي معها وتدعم سعيها وهدفها، ولاسيما المجلس الإسلامي الأعلى لصاحبه همام حمودي، وتيار الحكمة لصاحبه عمار الحكيم، وجزء كبير من حزب الدعوة الإسلامية لصاحبه نوري المالكي، وكتائب حزب الله لصاحبها واثق البطاط، ومنظمة بدر لصاحبها هادي العامري، وعصائب الحق لصاحبها قيس الخزعلي والكثير من هذه التنظيمات الطائفية المسلحة، إضافة إلى تصريحات العديد من الوزراء العراقيين، ومنهم وزير الداخلية قاسم الأعرجي، وهو عضو قيادي في منظمة بدر المسلحة، الذي اقترح تقديم وسام عراقي لقاسم سليماني الإيراني وقائد جيش المقدس والقائد الفعلي والعملي للميليشيات الشيعية ومن ثم للحشد الشعبي العراقي(!). ونلفت هنا انتباه العراقيات والعراقيين كافة إلى تلك التصريحات التي أطلقها مسؤولون إيرانيون، ومن أعلى المستويات، جسدت حقيقة ما يسعون إليه ويعملون من أجله منذ سنوات كثيرة. ونورد هنا على سبيل المثال لا الحصر التصريح الوقح لوزير الدفاع الإيراني حسين دهقان الذي قال:
"إن العراق بعد 2003 أصبح جزءاً من الامبراطورية الفارسية ولن يرجع الى المحيط العربي ولن يعود دوله عربيه مرة اخرى وعلى العرب الذين يعيشون فيه ان يغادروه الى صحرائهم القاحلة التي جاءوا منها.. من الموصل وحتى حدود البصرة.. هذه اراضينا وعليهم إخلائها" ثم أضاف "لدينا في العراق قوة الحشد الشعبي الشيعي ستسكت أي صوت يميل الى جعل العراق يدور حول ما يسمى بمحيطه العربي وقال ان العراق عاد الى محيطه الطبيعي الفارسي"، ثم أكد بـ "أن إيران اليوم وصلت الى مرحلة تصمم وتنتج فيها حاجتها من الصواريخ البالستية وكروز بمدى 3000 كيلومتر”. واختتم وزير الدفاع الإيراني تصريحه بقوله: “اليوم كل المحاولات في المنطقة تهدف الى اضعاف إيران، لكن إيران تقف بعزم وصلابة. لقد عدنا دوله عظمى كما كنّا سابقا وعلى الجميع ان يفهم هذا نحن اسياد المنطقة، العراق وافغانستان واليمن وسوريا والبحرين، عما قريب كلها تعود الى أحضاننا وهو مجالها الحر الطبيعي". (راجع: موقع الاهد الإلكتروني، أخذ المقتطف بتاريخ 12/11/2017). ولم يترك رئيس الجمهورية الإيرانية حسن روحاني أي شك في نوايا إيران إزاء العراق، إذ صرح بما يلي: " أصبحت إيران اليوم إمبراطورية كسالف عهدها عبر التاريخ، لطالما كانت بغداد عاصمتها ومركز هويتها وحضارتها وثقافتها وستبقى كذلك". (راجع: جريدة "الأخبار: المصرية، تقسيم العراق – الوصل والفصل، محمد السيد عبد، بتاريخ 30/08/2017.) إن هذا يجعلنا أن نفكر نحن بالعراق بما يراد لوطننا وكذلك للإقليم الذي يؤجج الحكام الإيرانيون والترك وغيرهم النيران ضد الكُرد بالعراق. وهم لا يختلفون في ذلك عن تركيا ومطامعها بالعراق، ولاسيما بولاية الموصل القديمة، وخاصة كركوك. إنهم ضد العراق المدني والديمقراطي والعلماني المنشود والمغيب حالياً!
(17)
ومن جانب آخر فقد حرك الحكام السعوديون والإماراتيون المناهضون لإيران بعض الباحثين والسياسيين العرب للإدلاء بتصريحات تميل إلى جانب الدولة الكُردستانية عبر مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية بمدينة جدة بالسعودية والذي يترأسه الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي، الذي زار أربيل وشجع على إجراء الاستفتاء، على أمل إضعاف العراق وتركيا وإيران في مواجهة السعودية، في حين كان هؤلاء الحكام يتحدثون في العلن عن وحدة العراق. وكان ديفيد هرست، الكاتب البريطاني الخبير بقضايا الشرق الأوسط، مصيباً حين أكد في مقال له "منذ اللحظة الأولى التي دعا فيها مسعود بارزاني، رئيس إقليم كُردستان، إلى استفتائه، كان واضحا من هي زمرة الدول التي ستشكل ائتلافا هدفه وأد كُردستان المستقلة في مهدها. بوجود ما يقرب من ثلاثين مليون كُردي يعيشون في منطقة تتوزع على أربع دول، ما من شك في أن تركيا وإيران والعراق لديها مصلحة مشتركة في وأد الدولة الناشئة في مهدها، مع أن ذلك كان يعني بالنسبة لأنقرة التخلي عن الحليف الكُردي الوحيد الذي اعتمدت عليه في حربها ضد حزب العمال الكُردستاني داخل تركيا وضد حزب الاتحاد الديمقراطي الكُردي داخل سوريا." (راجع: ديفيد هرست، كيف سعى السعوديون إلى استخدام الأكراد لقص أجنحة إيران، موقع عربي 21، في 22/10/2017).
(18)
والسؤال الجدير بالطرح والتحري عن إجابة له وأثارة النقاش حوله بعد كل الذي حصل، والذي ربما لم يحصل بعد، هو: ما العمل؟ الإجابة عن هذا السؤال ستكون اجتهادية قابلة للنقاش، فهي تستند إلى الواقع الكُردستاني، ومن ثم الواقع العراقي الراهن وفي ضوء التناقضات التي تتحرك فيهما والصراعات الناشئة عنهما والقوى الفاعلة فيهما. وبصدد الوضع بإقليم كُردستان العراق أرى اعتماد السياسات التالية:
1.   أولا: الاستفادة من عدم انتهاء الدورة البرلمانية الحالية لإعادة النظر بدستور الإقليم الذي لم يقر حتى الآن بما يجعله مدنياً ديمقراطياً وعلمانياً حديثاً يتجنب التأثيرات الجانبية ويلتزم بتأمين انتخابات عامة على وفق الأسس الديمقراطية الرصينة التي تنتج مجالس نيابية نزيهة وأمينة على مصالح الشعب وإرادته، ويعتمد الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والحرية والاستقلالية للسلطة الرابعة وفصل الدين عن الدولة والسياسة، ومنع قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي، واحترام حقوق الإنسان وحقوق القوميات، وحقوق المرأة كاملة ومساواتها بالرجل، ومنع زواج القاصرات والقاصرين، وتأمين الخدمات الضرورية للمعوقين وضحايا الحروب والإرهاب، واستقلالية مفوضية الانتخابات وإقرار قوانين ديمقراطية للصحافة والأحزاب والعمال والجمعيات الفلاحية ومنظمات المجتمع المدني ...إلخ. على أن يكون انتخاب رئيس الإقليم عبر المجلس النيابي ولدورتين فقط.
2.   العمل على إجراء انتخابات حرة ونزيهة ومراقبة منظمات حقوق الإنسان العراقية والدولية لانتخاب المجلس النيابي الجيد ورئيس الإقليم وكذلك رئيس الحكومة والوزراء.
3.   الالتزام بمبدأ المواطنة والكفاءة والحرص على مصالح الشعب في تكليف الوزراء وكبار الموظفين والمدراء العامين وغيرهم من مسؤولي المؤسسات أو المستشارين والخبراء.
4.   الابتعاد عن تشكيل حكومتين أو إدارتين والعمل على توحيد الإدارة والمالية.
5.   جعل الپیشمرگة تحت قيادة رئيس حكومة الإقليم، باعتباره المسؤول عن الأمن وحماية المواطنين، وألّا تكون تحت قيادة الأحزاب السياسية أو تابعة لها، وأن تكون قوات الپیشمرگة جزءاً فعلياً من القوات المسلحة العراقية. 
6.   إعادة ترتيب البيت الكُردي من خلال تحقيق المصالحة المبدئية بين أبناء وبنات المحافظات الكُردستانية والابتعاد عن الصراعات التي تعرقل تأمين الأمن والسلام بالإقليم وتوقيع عقد شرف بعدم التوجه صوب السلاح لحل مشكلات الإقليم الداخلية.
7.   الالتزام بممارسة الحريات الديمقراطية واحترام الحرية الفردية وحرية المجتمع عموماً، وإبعاد أجهزة الأمن عن التدخل في شؤون المواطنين، إضافة إلى احترام حرية الصحافة والصحفيين وحمايتهم من أي اعتداء أو تضييق على حريتهم وعملهم الصحافي.
8.   الابتعاد عن اتخاذ القرارات الفردية والالتزام بالشرعية الدستورية والعودة إلى الشعب واستفتاءه في حالة نشوب خلافات يعجز البرلمان الكردستاني عن إيجاد حلول لها، واعتبار ذلك الحل النهائي.
9.   توزيع الموارد المالية المتأتية من ميزانية الدولة العراقية وما يتحقق بالإقليم من دخل وطني على المحافظات على وفق نفوسها، على أن يؤخذ بالاعتبار استخدام هذه الموارد بصورة عقلانية عبر توزيعها على الميزانية الاعتيادية وميزانية التنمية الوطنية، ومراقبة استخدامها لصالح التنمية الصناعية والزراعية والمجتمع.
10.   وضع أسس جديدة لتحقيق المراقبة الشعبية، وكذلك عبر دور فاعل لمنظمات المجتمع المدني، على أداء الإقليم وعدالة توزيع الثروة ومدى استخدامها العقلاني لتحقيق التقدم والتطور الاقتصادي والاجتماعي والخدمات بالإقليم.
11.   رفض أي تدخل في الشأن الكُردستاني من دول الجوار ورفض قبول أحزاب سياسية تتعامل مع دول الجوار ومساعدتها في التدخل في الشأن الكُردستاني العراقي والعراق عموماً.
 (19)
وإزاء تعقيدات الوضع في عموم العراق، وحيث تعشش فيه الطائفية السياسية والشوفينية والتأثير المتنامي لدول الجوار بصورة علنية ومن وراء الكواليس، أرى ضرورة التزام الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بعودتهما الجادة والمسؤولة إلى بنود الدستور العراقي والتعامل على أساسه. وعلى القوى الديمقراطية العراقية أن تلعب دورها في منع التجاوز على حقوق الشعب الكُردي، لأنه سيكون الطريق ذاته الذي ستعتمده القوى الإسلامية السياسية في التجاوز على حقوق الشعب العربي بالعراق وبقية القوميات، وهو ما بدأت الآن ملامحه في قانون الأحوال الشخصية الجعفري الذي سحب لسنوات ثم عاد الإسلاميون المتخلفون بطرحه من جديد للمصادقة عليه بصيغة أخرى وعبر إجراء تعديلات مخلة على قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، بسبب حصول تغيير ملموس في ميزان القوى في مجلس النواب وفي الصراع على صعيد العراق في أعقاب حصول الاستفتاء. وعلى الجميع أن يرى بوضوح بأن العراق يقف أمام مرحلة جديدة يفترض أن تجد تعبيرها في نهج جديد لسياسات الدولة الاتحادية وسياسات الحكم بالإقليم في آن واحد، والتي بدونها سيكون الوضع أكثر تعقيداً وعواقبه وخيمة على الجميع. فالمطلوب تغيير طبيعة الحكم بالعراق والتخلص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة للشعب وللقيم الإنسانية والحضارية، والسير على أسس مدنية وعلمانية ديمقراطية أولاً، كما يفترض أن تكون سياسة الإقليم ذات نهج وممارسات مدنية ديمقراطية علمانية تحترم المؤسسات الدستورية وإرادة ومصالح الشعب أولاً وقبل كل شيء. وعلى الحكومتين محاربة الفساد في جميع المجالات والمستويات وبدءاً منهم ومن عائلاتهم وحواشيهم، والعمل المشترك ضد قوى الإرهاب الداخلي والمستورد والبدء ببناء الاقتصاد والقوى البشرية. كما عليها أن تتصدى للتدخلات الخارجية. ولا بد أن يأخذ الحكام جملة المشكلات المتراكمة بالعراق والتي لم تحل حتى الآن، ومنها النزوح الواسع النطاق الذي أعقب اجتياح الموصل وعموم نينوى ومناطق أخرى اثناء الحرب وبعدها من مناطق القتال والذي قدر بأكثر من مليوني إنسان، ومن ثم النزوح الأخير من كركوك والذي قدر بأكثر من 120 ألف مواطنة ومواطن من الكُرد.
(20)
وعليه أرى ما يلي:
1. إن المشكلة المركزية بالعراق تكمن في طبيعة النظام السياسي الطائفي القائم بال

298
العراق والموقف الحضاري من المبادئ والقيم الإنسانية!
(الحلقة الخامسة والأخيرة)
الحكم السياسي الطائفي ينتهك الدستور وحقوق الإنسان بتستره على المستبدين والفاسدين

ليس هناك ما يدل على قيام حكومة حيدر العبادي باتخاذ الإجراءات الكفيلة بإخراج ملفات التحقيق النيابية وغيرها، رغم قصورها، لمحاسبة ومحاكمة كل المسؤولين عما حصل بالموصل وبقية مناطق محافظة نينوى وكذلك بالفلوجة وعموم الأنبار وصلاح الدين، وعن تلويث سمعة وضرب مظاهرات 2011 ببغداد وغيرها من المدن العراقية واغتيال صحفيين وكتاب ونشطاء مدنيين ديمقراطيين، كما في حالة المغدور هادي مهدي والمستشار في وزارة الثقافة العراقية كامل شياع عبد الله، بغض النظر عن مواقع المتسببين في تلك الجرائم البشعة، جريمة اجتياح الموصل ومن ثم سنجار، وما أعقبهما من أحداث وجرائم جسام وصلت إلى حد الإبادة الجماعية بحق سكانها الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، ومن ثم ما حصل من فتك وإذلال لكرامة أبناء الموصل الآخرين من السنة. لم يتخذ رئيس الوزراء، الذي ينتمي لحزب الدعوة و"التحالف الوطني للبيت الشيعي!" أي إجراء لمحاسبة رئيس حزبه، الذي كان رئيساً للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة والمسؤول الأول عن اتخاذ قرار الانسحاب بهزيمة منكرة ودون أية مقاومة أمام عصابات داعش المجرمة، التي لم يتجاوز عدد أفرادها الـ 800 شخصاً في مواجهة عشرات الألوف من الجنود وضباط الصف والضباط والقادة العسكريين الكبار وأجهزة الأمن والشرطة، إضافة إلى تسليم المعسكرات وما فيها من أحدث الأسلحة والعتاد والأموال ودوائر الدولة ومؤسساتها إلى تلك العصابات. وبهذا، فهو لا يمتلك الحصانة لمحاسبة الآخرين أياً كانوا عرباً أم كرداً عن مسؤوليتهم في ذلك بسبب عدم محاسبته المسؤول الأول عن كل ما حصل بالعراق. وهكذا كان دور المدعي العام العراقي ورئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي حيث تسري عليهما مقولتنا نحن حين كنا أطفالاً نردد " صاموت لاموت اليحچي يموت على التختة والتابوت". إنها المأساة بعينها، إضافة على كونها مهزلة فعلية!
الجرائم التي ارتكبت بالموصل لا يمكن تجاوزها كما تجاوزتها حتى الآن الحكومة العراقية والقضاء والادعاء العراقيين، فلم يهرب الجيش العراقي فحسب، بل وهربت قوات الپيشمرگة من سنجار وزمار وغيرها، إذ لا يمكن أن يكون ذلك دون قرار من أعلى المستويات الكردستانية ايضاً. وهذا ما نشرناه في أكثر من مقال سابق وفي وقتها. لقد تمت مطاردة المسيحيين وتهجيرهم بالقوة وسلب أموالهم وما يملكون وقتل جمهرة منهم بالموصل، ثم تم اجتياح سنجار ومطاردة سكانها الإيزيديين وقتل الكثير من الرجال وسبي الآلاف من النساء والأطفال وقتل جمهرة منهم وتحويلهم إلى بضاعة بشرية في سوق النخاسة الإسلامي وفرضت عليهم عمليات اغتصاب لأخواتنا الإيزيديات، بمن فيهم الصبايا غير البالغات سن الرشد، والعمل على تحويل الأطفال الذكور إلى قتلة على أيدي الداعشيين، كما تمت مطاردة الشبك بالموصل وفي مناطق تواجدهم، وكذلك التركمان في تلعفر وقتل الكثير منهم وسلبت أموالهم وممتلكاتهم، ثم قتل في معسكر سپايكر، على وفق تصريحات داعش، 1700 جندي متدرب، وأشارت مفوضية حقوق الإنسان العراقية إلى أن هناك 1095 جندياً مفقوداً! (راجع: العراق.. 1095 جندياً ما زالوا مفقودين منذ "مجزرة سبايكر" على ايدي "داعش"، CNN بالعربي في 18 أيلول/سبتمبر 2014). إن الذين تسببوا في حصول هذه الجرائم البشعة لا يجوز ولا يمكن أن يفلتوا من العقاب أياً كانت القوى أو الدولة التي تقف خلفهم وتساندهم وتمنع مثولهم أمام القضاء العراقي حتى الآن أو في المستقبل، فالشعب يمهل ولا يهمل!! لقد اُنتهكت حقوق الإنسان وحقوق المواطنة وكل ما يمت إلى الكرامة الإنسانية بصلة في هذا الاجتياح المريع والاحتلال التدميري، حيث لم يخسر العراق البشر والأموال والكرامة فحسب، بل خسر تراث حضارته العريقة، تراث البشرية جمعاء بالموصل وعموم نينوى، إضافة إلى دور العبادة من كنائس وأديرة تاريخية ومساجد ودور عبادة للإيزيديين والشبك والتركمان ومكتبات زاخرة بالكتب التي أحرقت أو هربت لقيمتها التاريخية العالية وما تجلبه للمجرمين من أموال. 
لقد مزق نوري المالكي ورهطه أثناء وجوده في السلطة لمدة تزيد عن ثماني سنوات عجاف وحدة المجتمع العراقي. فبسبب سلوكه الطائفي الجامح نتج عنه المزيد من انعدام الثقة بين الشيعة والسنة وعاش المجتمع معارك الفلوجة وعموم الأنبار وصلاح الدين وسقوط شهداء وجرحى واعتقالات بالجملة. ثم تدهورت العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بسبب ضعف مواد الدستور وعدم قيام الحكومة بسن القوانين الضرورية التي تنظم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، إضافة إلى عدم تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بكركوك وبقية المناطق المتنازع عليها طيلة الفترة المنصرمة، رغم تأكيد الدستور على إنجاز هذه المهمة الدستورية حتى نهاية عام 2007. وإذ برزت محاولات جادة لتشديد المركزية في الحكم، برزت محاولات أكثر وضوحاً في ممارسة صلاحيات أكثر مما أقرها الدستور العراقي وبشكل خاص في مجال الاتفاقيات النفطية التي عقدها الإقليم مع الخارج، والتي هي من صلاحيات الحكومة الاتحادية على وفق الدستور الذي اعتبر النفط ملكاً لكل الشعب العراقي وليس لإقليم بذاته، كما هو حال نفط الجنوب. ورغم التغيير الذي حصل في رأس الحكومة الاتحادية، فأن العلاقات بين الحكومتين لم تتحسن، رغم مشاركتهما في محاربة داعش وتحقيقهما نجاحات وانتصارات مهمة. وقد عمدت رئاسة وحكومة الإقليم إلى اعتبار المناطق المتنازع عليها، والتي حررتها قوات الپيشمرگة، جزءاً من إقليم كردستان، في حين إنها تشكل جزءاً من المناطق المتنازع عليها والتي تعود إدارتها للحكومة الاتحادية. مما عمق الخلاف بين الحكومتين. ولا بد هنا من الإشارة إلى الكثير من أصدقاء الشعب الكردي، وأنا منهم، قد أكدوا، في أكثر من مناسبة ولقاء مع المسؤولين الكرد وفي مقالات عديدة، أربع مسائل جوهرية هي:
أولاً: إن اتفاقيات النفط التي تعقدها حكومة الإقليم في غير مصلحة الشعب العراقي عموماً وشعب كردستان خصوصاً، وإنها من صلاحيات الحكومة الاتحادية، وأن خسائر كبيرة تلحق بالاقتصاد العراقي كله من خلال تلك الاتفاقيات، لأنها ذات طابع سياسي، رغم إن الاتفاقيات النفطية للحكومة الاتحادية هي الأخرى ليست جيدة، إلا إنها أفضل من تلك التي عقدتها حكومة الإقليم، وإن الشركات الأجنبية تكسب أرباحاً من اتفاقيات كردستان النفطية أضعاف ما تكسبه من اتفاقيات الجولات النفطية لحسين الشهرستاني. وهذا عين ما قلته نصاً للسيد مسعود البارزاني، رئيس الإقليم حينذاك.
ثانياً: إن اعتبار المناطق المتنازع عليها ضمن جغرافية إقليم كردستان قرار غير صحيح من جانب رئيس وحكومة إقليم كردستان، إذ سيولد مشاكل إضافية بين الحكومتين لا مبرر لها، ولا بد من معالجة ذلك على وفق المادة 140 من الدستور. وهذا ما ذكرته في أكثر من مقال ومنها مقالي الموسوم "ما الموقف المطلوب من مشكلات المناطق المتنازع عليها بالعراق؟" الذي نشر على موقع الحوار المتمدن في العدد 5236 بتاريخ 23/8/2016، وكذلك نشر في مواقع صوت العراق والناس ومركز النور وغيرها).
ثالثاً: إن تأكيد القيادات الكردية على التحالف بين الشيعة والكرد، وهنا المقصود الأحزاب الشيعية والأحزاب الكردستانية، هو في غير صالح العراق وشعبه، لأنه يستبعد السنة أولاً، وهم جزء أساس من سكان العراق، إضافة إلى استبعاد بقية القوميات بالبلاد، ولأنها في ذلك تبتعد عن حليفها الطبيعي، وأعني به القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية، التي ينتسب إليها من كل القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، والتي كانت سنداً دائماً لنضال الشعب الكردي من أجل حقوقه العادلة والمشروعة. إذ أن عواقب التحالف "الكردي الشيعي!" ستكون له عواقب سلبية على الكرد. وهذا ما قلته بالنص للسيد رئيس إقليم كردستان في العام 2012 وكتبته في أكثر من مقال منشور في موقع الحوار المتمدن وجريدة العالم العراقية وصوت العراق والناس والنور وغيرها من المواقع. واليوم تشن الأحزاب الشيعية وميليشياتها بشكل خاص العداء الشديد للكرد وضد إقليم كردستان بتوجيه من إيران ومن ينسق معها، مثل حزب الله العراقي وبدر وعصائب الحق، على سبيل المثال لا الحصر.
رابعاً: إن وقوف التحالف الكردستاني، ومن وراءه الأحزاب الكردية الأعضاء في التحالف الكردستاني، إلى جانب القوانين الرجعية والسيئة التي كانت تقدم إلى البرلمان ويوافق عليها التحالف الكردستاني ليست في مصلحة شعب العراق كله، بما فيه شعب إقليم كردستان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قانون الانتخابات والأخذ بطريقة سانت ليغو 1,9 أو 1,7 السيء الصيت والمسيء لأصوات الناخبين وحقوقهم المشروعة، أو قانون الصحافة والصحفيين، أو قانون تشكيل مفوضية الانتخابات على أساس طائفي وأثني. 
ومن المؤسف القول بأن لم تكن هناك أذاناً صاغية لما كنا نقوله. وأخيراً وبسبب تدهور العلاقة وعدم وضع حلول عملية للمشكلات القائمة، انبرى رئيس الإقليم بمقترح إجراء استفتاء بمحافظات الإقليم، ومعها المناطق المتنازع عليها! وقد وجهت لي الدعوة، مع مجموعة من العرب من أصدقاء الشعب الكردي من العراق ودول عربية، لمناقشة هذا الموضوع بالسليمانية. وقد أكد الحضور العربي الديمقراطي، وأنا منهم، على عدة مسائل جوهرية يمكن أن تقود إلى عواقب وخيمة أشير إليها باختصار:
** ليس لدى الدول الكبرى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي ولا الدول الأخرى أي نية في إجراء أي تغيير حقيقي في الخارطة الجغرافية لدول الشرق الأوسط، وبالتالي فهي ضد هذا الإجراء وقد أعلنت موقفها بصراحة تامة، سواء بطلب إلغاء الاستفتاء أم تأجيله، ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا الاتحادية والصين، وهي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى المانيا وإيطاليا واسبانيا وغيرها فيما عدا إسرائيل، التي كانت تعرف جيداً عواقب مثل هذا الاستفتاء! والتي حصلت فعلاً، والتي لم تكن بسياسات حكوماتها يوماً صديقاً للشعب الكردي!
** لقد وافقت الأحزاب الكردية المشاركة في وضع الدستور وإقراره وقبل طرحه للاستفتاء في العام 2005 على عدم النص على حق تقرير المصير، رغم إن البعض قد حذر الكرد من مغبة وعواقب غياب هذا النص لمستقبل الشعب الكردي، ومنهم النائب ضياء الشكرچي حينذاك، الذی کان في حينها عضواٌ في لجنة وضع الدستور عام 2005 ممثلاً عن حزب الدعوة الإسلامية، الذي تخلى عن هذا الحزب والوجهة الإسلامية لاحقاً. وقد وُضع نص يؤكد وحدة العراق كما جاء في المادة الأولى من الدستور التي تنص على "جمهورية العراق دولةٌ اتحادية واحدة مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق"، وفي المادة 109 التي تنص على ما يلي: " تحافظ السلطات الاتحادية على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي"، والذي صدر في حينها قرار المحكمة الاتحادية بعدم صواب الاستفتاء، ثم صدر الآن قرار من المحكمة بهذا الخصوص وبعدم الحق في انفصال أي إقليم من العراق عن الدولة العراقية على وفق هاتين المادتين. ومن الناحية المبدئية هذا لا يعني عدم امتلاك الشعب الكردي الحق المطلق في النضال من أجل تأمين حقه في تقرير مصيره، ولكن عليه أن يراعي جملة من الشروط ويوفر جملة من المستلزمات ويسعى إلى خلق تحالفات وأجواء تسمح بتغيير الدستور.
** كل نظم الحكم في الدول المجاورة، وهي ليست صديقة للشعب الكردي بأي حال إن لم نقل عدوة له، طلبت من القيادة الكردية عدم إجراء الاستفتاء وأكدت تدخلها المباشر بالتعاون والتنسيق مع العراق لمنع تنفيذ نتائج الاستفتاء بممارسة كل السبل المشروعة وغير المشروعة. ولم يكن في هذا أي التباس أو شك فيما ستفعله!
** قوى داخلية عراقية تحدثت ضد الاستفتاء، ولكنها كانت تتمنى أن يحصل ذلك، لكي تمارس ضربتها ضد الحكم بكردستان التي كانت تنتظرها منذ فترة غير قصيرة ولم تتح لها الفرصة، وهي قوى إسلامية سياسية شيعية وقوى سنية أيضاً، ولكن الأكثر اندفاعاً هو حليف الأحزاب الكردستانية السابقة، بعض الأحزاب الشيعية. وكان رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، واضحاً تماماً ومحذراً من مغبة ذلك.
** وقد بادر أصدقاء الشعب الكردي، ومنهم الحزب الشيوعي العراقي، إذ قدمت قيادته النصيحة الأخوية للحزب الديمقراطي الكردستاني وبلقاء خاص مع السيد رئيس الإقليم، ومع الأحزاب الكردية الأخرى في تأجيل هذا الاستفتاء بسبب غياب الظرف المناسب لمثل هذا الإجراء. كما مارس ذلك بعض القوى الديمقراطية والتقدمية، كالتيار الديمقراطي والحزب الوطني الديمقراطي بقيادة السيد نصير الجاردجي، والقائمة التقي يقودها الدكتور أياد علاوي، إضافة إلى التيار الصدري. 
** لم يكن البيت الكردي موحداً، بل كان في أكثر فتراته تباعداً واختلافاً واستعداءً متبادلاً، لا بشأن الموقف من الاستفتاء فحسب، بل وبشأن قضايا داخلية منها الموقف من توزيع الموارد المالية المتأتية من النفط ومن الجمارك ومن ميزانية الإقليم، والموقف من رئاسة الإقليم ومن صلاحيات رئيس الإقليم وفترة رئاسته، وكذلك الموقف من البرلمان وطرد رئيس البرلمان ووزراء من حركة التغيير "گوران"، إضافة إلى الخلافات الجدية مع الاتحاد الوطني والانقسامات الكبيرة داخل هذا الاتحاد. ولم يوحد إجراء الاستفتاء هذه القوى السياسية حتى ولا شكلياً، بل وحد الكرد استجابة لمشاعرهم القومية وطموحهم بالاستقلال وعدم التهميش والإقصاء.
** ولا بد من تأكيد واقع أخر هو إن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الصحافة والصحفيين لم تكن في كل الأحوال بالمستوى المطلوب بالإقليم، بل تعرضت للكثير من الانتقاص والتراجع، وقد وجه الكثير من النقد لهذه المسالة على الصعد المحلية والدولية ومن قبل منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان بالعراق أيضاً.
إن هذه العوامل بشكل خاص هي التي جعلت مني ومن غيري طرح رأينا بصراحة ووضوح وبأخوة صادقة في لقاء السليمانية راجين، إن لم يكن الغاء الاستفتاء، فتأجيله لظرف آخر، واستبعاد المناطق المتنازع عليها من الاستفتاء. ولكن، والحق يقال سمعوا، ملاحظاتنا ورأينا، ولم يأخذوا بها، ولم تلق الصدى المنشود، رغم إن جمهرة من المثقفين الكرد كانت تخشى عواقب هذا الاستفتاء تماماً كما أشرنا نحن إلى ما يمكن أن يحصل، وهو مع الأسف الشديد حصل عين ما شخصناه حينذاك، ولم ينته بعد!! لقد استهان الجميع بكل العوامل التي تستوجب التوقف عن إجراء الاستفتاء، حتى الذين كانوا ضد الاستفتاء من الكرد لم يجرؤوا على التصريح برأيهم خشية اتهامهم بالتخلي عن حلم وهدف الأكراد بإقامة الدولة الكردية. لقد نشأ جو ضاغط لم يكن في مقدور المواطنة أو المواطن الكردي تجاوزه بأي حال. 
ولكن ما جرى ويجرى بعراق اليوم، وكما أرى، بعيد كل البعد عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفيه تجاوز فظ على الدستور العراقي. نشير إلى بعض منها:
1.   ابتعاد الحكومة الاتحادية عن البدء بحوار جاد ومسؤول مع حكومة الإقليم لمعالجة المشكلات القائمة على وفق الدستور الاتحادي وطرح شروط لم تعد مبررة بعد كل الذي حصل.
2.   محاولة البعض من المسؤولين وفي التلفزة العراقية الرسمية تسمية إقليم كردستان بشمال العراق!
3.   الابتعاد عن التنسيق مع حكومة الإقليم بشأن المناطق المتنازع عليها والتي يفترض أن يطبق بشأنها المادة 140 من الدستور، وليس ارتكاب الخطأ ذاته الذي ارتكبته حكومة الإقليم بشأنها.
4.   تقليص حصة الإقليم من 17% من ميزانية الدولة إلى 12,67% وبدون البحث مع حكومة الإقليم وعدم وجود أعضاء البرلمان من التحالف الكردستاني في المجلس النيابي، إضافة إلى عدم وجود إحصاء فعلي دقيق لهذه المسألة. ويبدو لي بأن إجراء الإحصاء الرسمي يمكن أن يتم بعد التخلص من الحرب ضد داعش وإعادة النازحين بعد أحداث الاستفتاء إلى مناطق سكناهم بكركوك أو غيرها، إذ قدر عددهم بعشرات الآلاف من الكرد.
5.   محاولة التعامل مع المحافظات الكردستانية كل على انفراد وليس على أساس الإقليم باعتباره وحدة واحدة ضمن الدولة العراقية.
6.   غلق المطارات في كل من أربيل والسليمانية في محاولة لتطويق الإقليم ومنع السكان من حرية السفر أو القدوم إليها، وهو أمر لا يجوز قبوله، إذ يمكن أن ينظم بطريقة هادئة وبعيدة عن التشنج الراهن.
7.   وكما تشير المعلومات المتوفرة، إضافة لما تنشره وسائل الإعلام الدولية إلى وجود تجاوزات فظة على السكان الكرد في المناطق المتنازع عليها "بعد الاستفتاء وما تبعه من عمليات عسكرية  من قبل القوات المسلحة وبعض فصائل الحشد الشعبي حيث جرى الكثير من انتهاكات حقوق الانسان بحق المواطنين المدنيين والمسالمين  والصحفيين والصحافة والقنوات الفضائية في العديد من تلك المناطق ، وجرى جراء ذلك استشهاد ما يقدر بـ (200) شخص واسر واختطاف العشرات ناهيك عن اعمال حرق وتخريب المساكن للمواطنين وحرق وسرقة العشرات من الدور والمتاجر وحرق بعض مقرات الاحزاب، وجراء الخوف والقلق وروح الانتقام والتعصب هاجر اكثر من 183000 مواطن كردي من مناطق عديدة في طوز خورماتو وكركوك وديالى ومخمور وزمار وسهل نينوى. حسب إحصائيات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان الدولية أضيفوا هؤلاء الى حوالي مليون و400 ألف نازح في اقليم كوردستان. كما تشير بعض أجهزة الإعلام إلى أن ما يحصل هو عملية انتقام لما قام به الكرد قبل ذاك إزاء العرب أو التركمان، إلا إن هذا ليس بالأسلوب السليم، إذ الصحيح هو إقامة الدعوى عل م اتركب التجاوزات وليس القيام بعمليات انتقامية.
8.   تشير الصحف العراقية والتلفزة الرسمية إلى مظاهرات العائلات اللواتي يطالبن الحكومة الاتحادية بالإفراج عن ابنائهن المعتقلين لدى جهاز الأمن الكردستاني "الأسايش" والذي قدر عددهم بـ 5000 معتقل من العرب والتركمان والكرد. من المطلوب من حكومة الإقليم أن تعلن مدى صحة ذلك أولاً، وعن اسباب اعتقالهم ومصيرهم ثانياً، وأن تقدمهم للمحاكمة إن كانوا متهمين، أو تطلق سراحهم فوراً. وأرى مناسباً أن نذكر الحكومة الاتحادية بضرورة ممارسة هذا المبدأ أيضاً، إذ فيها من المعتقلين ما يفوق ذلك بكثير.   
إن شعب العراق، بقواته المسلحة العراقية، وهو يحقق انتصارات مهمة على عصابات داعش في سائر المناطق التي احتلتها هذه القوى المجرمة، ما زال يعاني من التجاوزات الفظة على حقوق الإنسان وعلى القيم والمعايير الإنسانية الحضارية، سواء ما يجري من تجاوزات عبر المليشيات الطائفية المسلحة، وعبر قوى الإرهاب الدموية، أم في استمرار الفساد المالي والإداري وبقاء من خربوا العراق أحراراً يواصلون سعيهم من خلال الحكم وخارجه لتدمير العراق ورضوخه لمصالح وأجندات قوى إقليمية، كما هو الحال مع إيران. إلا إن الأكثر خطورة على حقوق الإنسان والحياة المدنية هو النظام السياسي الطائفي الذي ما يزال قائماً بالعراق. وأكبر دليل على ذلك ما حصل في تسمية أعضاء مفوضية الانتخابات التي تسمى مستقلة، وهي متكونة من تلك الأحزاب الحاكمة وعلى أساس التوزيع الطائفي المشين وضد مضمون ومواد الدستور العراقي، الذي يرفض في مواد أساسية فيه، الطائفية السياسية وقيام أحزاب على أساس ديني وطائفي. كما يمكن تأكيد هذه الحقيقة المرة بطرح قانون الأحوال الشخصية الجعفري السيء الصيت، الذي يبيح زواج البنت القاصر’ وهي مخالفة صريحة وفظة لحقوق الطفل على الصعيد العالمي والمتعارضة مع الدستور العراقي ومواده المدنية. إنه قانون وقح ويسجل بداية ارتكاب جريمة بصورة رسمية بحق طفولة الإناث بالعراق وينبغي ألّا يمر هذا القانون بأي حال من الأحوال، ويفترض الاستعانة الجادة والسريعة بالأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني الدولية والمنظمات النسوية الإقليمية والدولية ومنظمات حقوق الإنسان لمنع المصادقة عليه. وعلينا أن نجد طريقة لطرح مثل هذه الجريمة وغيرها على محكمة حقوق الإنسان الدولية. إن إقرار هذا القانون البشع يؤكد بأن العراق يمارس في هذا المجال ذات السياسة التي مارسها ويمارسها تنظيم داعش الإجرامي المتطرف الذي انتهك وينتهك الطفولة بكل شراسة وعدوانية، وها هم نواب في مجلس النواب العراقي، الذين يريدون إمرار هذا القانون، لا ينتهكون حقوق وحرمة طفولة الإناث وبراءتهم فحسب، بل هم يشكلون جزءاً من مرضى الجنس الذين يجب احتجازهم لحماية طفولة الإناث منهم ومن جرائمهم المحتملة، وهم الذين يجب تقديمهم للتحقيق، إذ ربما بعضهم قد مارس هذه الجريمة بحق الأطفال الإناث، كما يفترض محاسبة المجلس الأعلى الإسلامي الذي ينظم احتفالات سنوية ليعلن تقديم عشرات الفتيات بعمر تسع سنوات وقاصرات إلى الزواج من رجال بأعمار عالية احياناً كثيرة وكأنهن نساء بالغات سن الرشد!!! (راجع الصورة في نهاية المقال).
ولا بد من الإشارة إلى أن هناك جمهرة من السياسيين في حزب السلطة الحاكم تعمل بجهود محمومة وكثيفة للإطاحة برئيس الوزراء حيدر العبادي وتستخدم كل الوسائل والأدوات المتوفرة لديها، وهي في الغالب غير مشروعة، للوصول إلى هذا الهدف، وإعادة نوري المالكي إلى السلطة أو من يرشحه المالكي ويكون ظلاً له في الحكم. إنها معضلة العبادي الحالية والتي وجدت تعبيرها في خطبته الأخيرة عن العقائديين الذين يحاربونه بأساليب يراها بنفسه ويعي عواقبها المدمرة! لقد قلنا لجميع الحكام المستبدين "ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع!" وخير شاهد على ذلك أغلب ملوك وأمراء وحكام العراق، وأخرهم صدام حسين ونوري المالكي! وهما من طينةٍ واحدة!   
 إن ما جرى ويجري بالعراق يؤكد بأن الحصيلة كانت معتمة. فحكام العراق صادروا حريات الشعب العراقي الطيب وحقوقه الأساسية خلال المراحل المنصرمة. وكل فترة مظلمة كانت تليها فترة أكثر عتمة وأكثر استبداداً وظلماً وقساوة على الشعب وتخريباً لوحدته وتفريطاً بأمواله وإساءة لتطوره الاقتصادي والاجتماعي ومستقبل أبنائه وبناته. ولم يهنأ هذا الشعب بحكامه، بل كان غصة لهم وغضباً عليهم، إذ حولوا الشعب إلى خدم مكبوتين للحكام، وعملوا بعكس القاعدة التي تقول بأن الحكام خدمُ الشعب!
 
 

299
العراق والموقف الحضاري من المبادئ والقيم الإنسانية!
(الحلقة الرابعة)
الاحتلال والاستبداد والطائفية السياسية انتهاك فظ لحقوق الإنسان والقيم الإنسانية

حين عجزت أغلب قوى المعارضة السياسية عن التخلص من الدكتاتورية الحاكمة ببغداد توسلت بالدول الأجنبية لإسقاط الدكتاتورية وارتضت لأنفسها الوقوع تحت الاحتلال واستبداد المحتل وعواقبه على الوطن والشعب، لأن أهداف الشعب كانت تختلف تماماً عن أهداف المحتل من جهة ومع أغلب قوى المعارضة من جهة أخرى، وربما كان اللقاء الوحيد هو الخلاص من الدكتاتورية. ولكن ماذا بعد ذلك؟ لكل من الشعب والمعارضة والاحتلال له أهدافه الخاصة، مع حقيقة أن الشعب كان يعيش في ظلمات الاستبداد والتخلف والحرمان وتحت تأثير القوى الخرافية والشعوذة. لا شك في أن وجود الاحتلال في بلد ما يعتبر بحد ذاته مصادرة فعلية لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة والشعب، وللأهداف التي يسعى إليها المجتمع ويتطلع إلى تكريسها والتي تتناقض كلية مع أهداف المحتل. وقد برهن الاحتلال الدولي للعراق بقيادة الولايات المتحدة على صواب هذه الاستنتاج الذي يعتمد بدوره على الخبرة التاريخية لشعوب العالم وما عانته من احتلال لبلدانها ولمئات السنين. وأكبر نموذج استبدادي وإرهابي راهن للاحتلال يبرز في سياسة حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة إزاء الشعب الفلسطيني وأرضه المحتلة منذ العام 1967 حتى الوقت الحاضر، إذ يزداد ويتسع ويتعمق هذا الانتهاك لحقوق الإنسان وحقوق الشعب الفلسطيني يوماً بعد يوم مع سكوت مطبق من المجتمع الدولي.
لقد مارس الاحتلال الأمريكي، وهو من أبشع أشكال الاحتلال وأكثرها عنجهية، سياسات ساهمت في تدمير العراق وتحطيم الدولة العراقية ومؤسساتها بشكل منظم ومقصود وهادف إلى تحقيق أهداف معينة كانت محددة مسبقاً قبل بدء الاحتلال بسنوات. فقد فتح المحتل الأمريكي-البريطاني الحدود العراقية على مصراعيها ليدخل الإرهابيون من شتى أنحاء العالم إلى العراق ويساهموا لا في سرقة المتاحف والآثار التاريخية الرائعة للحضارة الإنسانية فيه فحسب، بل وليمارسوا الإرهاب والتدمير والنهب والسلب ونشر الفوضى على أوسع نطاق ممكن، إضافة إلى نشر العنف والإرهاب مجدداً بين صفوف الناس وتعريض المجتمع للقمع الحكومي وغير الحكومي. لقد مارست قوى الاحتلال سياسات استجابت لطرف واحد من القوى السياسية بالعراق وبالتنسيق مع إيران، استجابت للقوى والأحزاب السياسية الشيعية، وإلى حد بعيد للقومية القومية الكردية التي ارتضت بالحرب الخارجية لإسقاط الدكتاتورية ووافقت على قيام نظام سياسي محاصصي طائفي-أثني بالعراق. ومثل هذا النظام السياسي الذي أقيم وفرض على المجتمع العراقي حتى الآن يعتبر الصيغة الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان وحقوق المجتمع بأسره. ولم يقتصر التوزيع المحاصصي الطائفي-الأثني على الوزارات فحسب، بل امتد ليشمل جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما أبعد العراق كلية عن احتمال نشوء دولة مدنية ديمقراطية علمانية. ثم بدأ الحاكم بأمر الولايات المتحدة والمستبد بقراراته تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية ووضع التشريعات التي وضعت العراق على طريق استمرار التخلف والتبعية والفساد والإرهاب الدموي، طريق "الصد ما رد"! لقد مارس الحاكم بأمره أسلوب إرشاء كبار الموظفين ابتداءً من رئاسة الجمهورية ومروراً بالوزراء وأعضاء مجلس النواب والقضاء العراقي ورؤساء المؤسسات والهيئات المستقلة والمدراء العامين والسفراء والقناصل وغيرهم من موظفي الدولة الكبار من خلال منحهم رواتب عالية جداً وتقاعد خيالية بعيدة كل البعد عن المعايير الدولية لبلد مثل العراق أو حتى بلدان متقدمة، ونشر الفساد بتلك المليارات التي تأتت من تصدير النفط الخام ومما أطلق عليه بالمساعدة الإنمائية للعراق لتصرف ببذخ وإفراط غير معقولين. وفي ذات الوقت عمق الفجوة بين الفقراء والأغنياء وابتعد عن أي وجهة لدفع العراق صوب التصنيع بل زاد من مكشوفية العراق على الخارج استيراداً وتصديراً.
مارست الولايات المتحدة الأمريكية سياسات أمنية مغرقة بالقسوة والعنف بحق المعتقلين السياسيين بذمة التحقيق في سجن "أبو غريب". وقد كانت الأساليب والطرق التي مورست في السجن إزاء النساء والرجال والأطفال بذمة التحقيق لا تختلف عن الأساليب والطرق الفاشية التي تتعارض مع مبادئ وقيم حقوق الإنسان والتي تصادر أولاً وقبل كل شيء حياة وحقوق وكرامة الإنسان، أساليب تعذيب جسدية ونفسية ولاأخلاقية ولا تمت للإنسانية بشيء. لقد كان هذا الفصل من السياسية الأمريكية بالعراق وصمة عار جديدة وإضافية في جبين رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج دبليو بوش ووزير دفاعه دونالد رامسفلد، وكل الذين وافقوا على تلك الممارسات ونفذوها فعلاً، وكذلك السياسة الأمريكية عموماً بالعراق إن الصور والأفلام القليلة التي خرجت إلى الصحافة العلنية ونشرت في المواقع أكدت عن استخدام أجهزة الأمن أساليب مارسها النازيون بألمانيا ضد المعتقلين السياسيين واليهود والسلافيين والنوريين (الغجر) في المعتقلات النازية، وبعضها من ترسانة النظام البعثي، ثم تعلم ومارس أغلبها جلادو العراق الجدد أيضاً.
وإذا كان نهج الاحتلال الأمريكي مناهضاً لحقوق الإنسان والقيم والمعايير الإنسانية والحضارية، فأن نهج القوى الحاكمة بالعراق لم يكن أفضل منه، بل ساهم في تعميق أوضاع العراق السيئة وهمش الدولة ومرغ سمعتها بالتراب. لقد تسلمت القوى والأحزاب الطائفية الحكم منذ ثاني وزارة أقيمت بالبلاد منذ العام 2005 وعملت على تكريس مجموعة من السياسات التي ساهمت بقوة في حرف العراق عن إقامة الدولة المدنية الديمقراطية والعلمانية التي ادعى المحتلون الأوباش إقامتها بالعراق قبل بدء الحرب وخدعوا شعوبهم والشعب العراقي بذلك. فقد سمحت عملياً قوات الاحتلال على الكثير من العوامل التي تمزق الدولة والنسيج الوطني والاجتماعي للشعب العراقي وتفرق صفوفه، منها على سبيل المثال لا الحصر:
** السماح بقيام الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الطائفية بإنشاء مليشيات طائفية مسلحة تمارس السلطة الفعلية في المدن العراقية وتستخدم أقسى أشكال انتهاك حقوق الإنسان وحقوق المواطنة وإرهاب الناس وتركيعهم لإرادتها، ولاسيما ضد المواطنات والمواطنين المسيحيين والصابئة المندائيين في الوسط والجنوب وبغداد، وفيما بعد بالموصل أيضاً. وكأن سلطات الاحتلال كانت تريد المساهمة في تدمير الموزائيك القومي والديني بالعراق.
** كما لم تعمل الكثير وعلى وفق أسس سليمة في مواجهة العمليات الإرهابية لقوى إرهابية سنية من العراق ومن الدول العربية ودول ذات الأكثرية المسلمة المدعومة من قوى إسلامية سياسية سنية قاطعت الحكم ثم التحمت فيما بعد بقوى النظام لتمارس تخريب الدولة ونشر الإرهاب والفساد والقتل بالبلاد. لقد كانت تكالح بيد وتدعم بيد أخرى تلك القوى لتمارس التخريب بالبلاد.
** ونشط رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري، وتحت أنظار سلطة الاحتلال الأمريكي–البريطاني، في تحويل وزارة الداخلية ووزارة الأمن الوطني إلى وكر حقيقي للمليشيات الشيعية وتعزيز دور ميليشيات معينة في الحياة اليومية، وفي السلك الدبلوماسي بالتنسيق مع القيادات الكردستانية، واستخدام المعتقلات للتعذيب الشرس والجنوني.
** ورغم ولوج الدور الإيراني مبكراً إلى العراق بعد إسقاط الدكتاتورية مباشرة وبالتنسيق مع الأحزاب والقوى والمليشيات الشيعية، ولاسيما "منظمة بدر" التي كانت تدار من قبل قاسم سليماني مباشرة، فأنها ومنذ مجيء الجعفري للحكم وفيما بعد في عهد نوري المالكي، قد عززت مواقعها بتوسيع قاعدة وعدد المليشيات الشيعية المسلحة والإذاعات وعدد قنوات التلفزة الممولة إيرانياً وعدد المسلحين والضباط من جيش المقدس الإيراني والحرس الثوري في المليشيات الشيعية وعدد الجواسيس وقوى الأمن الإيرانية ومكاتبها السرية بالعراق، وكذلك دورها الاقتصادي والتجاري، وفي تنشيط العزاءات الحسينية وتمويلها وزيادة البدع الممارسة فيها واستخدامها لمصلحتها الطائفية المقيتة والهيمنة على عقول الناس البسطاء وبدعم من قيادة الحكم والأحزاب الشيعية مباشرة. لقد سيطر الإيرانيون على الحكم العراقي كلية في فترة حكم نوري المالكي المستبد بأمر إيران ومصالحه الشخصية والعائلية من خلال الأحزاب الشيعية وبعض القوى والأحزاب الكردية. كل هذا كان يحصل تحت سمع وأنظار قوات الاحتلال الأمريكية.   
** تدخل المرجعية الدينية الشيعية بفظاظة وإلحاح كبيرين وتوزيع عمل بينها وبين الأحزاب الشيعية وقوى الحكم بإيران لتعزيز وجود وأقدام القوى الشيعية الطائفية السياسية في الحكم وفي التشريعات العراقية من خلال الدعوة لدستور متعجل جديد وانتخابات نيابية جديدة، مما فسح في المجال لهيمنة القوى الطائفية السياسية على البلاد وصدور دستور عراقي أعرج وأعوج وطائفي المنحى وحمال أوجه مشوه. وساعد هذا على تحرك مقابل من جانب شيوخ الدين السنة في الداخل ومن العالم العربي لمواجهة النفوذ الشيعي الداخلي والنفوذ الإيراني من جانب السعودية وتركيا والخلج العربي وسوريا. وحوّل هذا الوضع العراق إلى ساحة صراع إقليمية وقتال بين المليشيات المسلحة السنية والشيعية، حيث يموت الناس الأبرياء بالجملة وعلى الهوية وبصيغ مختلفة بما في ذلك التعذيب وسلخ الجلود والاختطاف والقتل الجماعي عبر الانتحاريين والعربات المفخخة والمحاكم التي كانت تمارسها المليشيات الطائفية المسلحة.
** وقد كان هدف الاحتلال الأمريكي والإيراني والقوى الرجعية الداخلية والخارجية إضعاف القوى المدنية والديمقراطية والعلمانية العراقية من خلال العمل على ربط الدين بالدولة وبالسياسة وتمويل القوى الإسلامية السياسية من خزينة الدولة ومن إيران أو من دول عربية أخرى ومن السحت الحرام، تلك الأموال المسروقة من خزينة الدولة العراقية ومن إيرادات النفط الخام أو نهب النفط الخام ذاته وتصديره بصورة غير شرعية ودون رقابة من أحد وشارك فيها جميع حكام العراق من العرب والكرد.
** وأصدر النظام السياسي الطائفي والمحاصصي العديد من القوانين الرجعية والمتجاوزة على حقوق الإنسان وحقوق القوى السياسية الأخرى وعلى المواطنين والصحفيين والسيطرة الكاملة على الإعلام الرسمي لصالح القوى الطائفية وحكومة نوري المالكي.
** وأصبح العراق يمتلك حكماً رثاً تقوده فئات اجتماعية رثة وتتبنى فكراً رجعياً رثاً وحياة اجتماعية واقتصادية وثقافية رثة في المدن العراقية، إضافة إلى أصبحت المدن العراقية مليئة بالنفايات وتحولت بغداد على واحدة من أقبح المدن في العالم.
** وإذا كانت حكومة الإقليم قد عمرت المدن ووسعت الشوارع وأقامت الجسور والحدائق والمنتزهات ودور السكن والعمارات، فأن الحكومة الاتحادية ابتعدت حتى عن هذه الخدمات الأساسية والطاقة الكهربائية ومشاريع المياه، ولم يكن همها سوى نهب العراق وكأنه سفينة آيلة إلى الغرق.
** ولكن الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ابتعدتا سوية عن التنمية الاقتصادية والتخلص من وحدانية الاقتصاد الريعي المعتمد على موارد النفط المالية، وبعيداً عن التنمية الصناعية والزراعية، إضافة إلى ابتعادها عن بناء الإنسان العراقي على وفق الأسس العلمية في التربية والتعليم والتثقيف، بل واصل التعليم تخلفه من حيث البرامج والمحتوى، وخضوعه في العراق الاتحادي لفكر ديني طائفي متخلف وتمييزي ضد اتباع الديانات والمذاهب الأخرى.
** لقد تعطلت إرادة الشعب وصودرت حقوقه وأسيء استخدام السلطة بفظاظة لصالح الفئات الحاكمة ومن هم من حولها وأقاربها وأصبحت الوزارات والوظائف والامتيازات لهم وليس لغيرهم. وإذا كان الجعفري قد بدأ بممارسة سياسات تمييز ديني ومذهبي شرسة ومفضوحة، فأن نوري المالكي جعلها الشكل السائد في الحكم وإلى جعل الفساد المالي والإداري نظاماً سائداً بالبلاد تمارسه الدولة بسلطاتها الثلاث ويمارسه المجتمع بالرغم منه، كما أصبح التمييز ضد السنة بشكل صارخ مما أدى إلى انتفاضة المجتمع في محافظات صلاح الدين والأنبار وإلى تذمر كبير جداً في الموصل قاد إلى تغلغل قوى القاعدة ومن ثم وليدها الإجرامي الجديد داعش وبدعم من قوى ودول الجوار وعلى الصعيد الدولي. وانتهت باجتياح هذه المحافظات عملياً قبل اجتياح الموصل من جانب عصابات داعش المجرمة ومن ثم بقية مدن وقرى وأرياف محافظة نينوى.
** وخلال فترة الحكم لم يعمد النظام الطائفي ببغداد إلى معالجة القضايا العالقة والمناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وجرت محاولات للمساومة بين الحكومتين بهدف إبقاء نوري المالكي في السلطة مقابل تنازلات غير مشروعة وبعيداً عن الحل الشرعي على ضوء المادة 140 من الدستور العراقي، أو التخلف عن إصدار قانون عراقي للنفط. ولم تكن الإعاقة من جانب الحكومة الاتحادية وحدها بل من جانب حكومة الإقليم ايضاً. وقد قادت هذه إلى إشكاليات جديدة بين الحكومتين الاتحادية وحكومة الإقليم، وعلى حساب الشعبين والقوميات الأخرى.   
** وفي فترة حكم المالكي غصّت السجون العراقية بالمعتقلين والمشتبه بهم كإرهابيين وانتشر المزيد من المخبرين السريين والعيون والجواسيس وتحولت الدولة على دولة بوليسية شرسة. ومارس الحكم سياسة التعذيب في دهاليز أجهزة الأمن والسجون الخاصة وتكررت الحالة التي كان يعيش العراق تحت وطأتها في ظل نظام صدام حسين، وارتفعت شكوى أهالي السجناء والمعتقلين بحسم قضاياهم دون مجيب لنداء العائلات.
** واتخذ القضاء العراقي موقفاً متحيزاً وبشكل صارخ في صالح الحكومة وتحت امرتها بما أسيئ للقضاء العراق واستقلاليته ودوره المنشود في مثل هذه الأوضاع. وصدرت قرارات مخالفة للدستور العراقي، ومنها الموافقة على منح المالكي ولاية أخرى في حين كان فوز القائمة العراقية التي يترأسها الدكتور اياد علاوي هي الفائزة فعلياً. لقد لعب القضاء العراقي، ورئيسه دوراً ملموساً في سرقة أصوات الشعب حين حكم لصالح نوري المالكي بالضد من نتائج التصويت النهائية. كما لم يلعب القضاء ولا الادعاء العام دورهما في موضوع السجناء السياسيين والنهب والسلب لأموال العراق واتهم بالمشاركة في كل ما يحصل بالعراق من إساءات وتجاوزات كبيرة على الدستور رغم سوءاته.   
** وتدخل رئيس السلطة التنفيذية بفظاظة وخارج الأطر الدستورية والقانونية بشؤون الهيئات المستقلة ولاسيما البنك المركزي، حيث أمر باعتقال المحافظ ونائبه وتقديمهم للمحاكمة مع عدد من الموظفين، بسبب رغبته في السيطرة على الملك المركزي والتصرف بالاحتياطي من العملات الصعبة. وكذلك التدخل في مفوضية الانتخابات بشكل ظ وهي القائمة على أساس المحاصصة الطائفية والأثنية بخلاف ما ورد بالدستور، وكذلك شبكة الإعلام العراقية وتحويلها إلى جهاز خادم للحكم وسياسة الحاكم المستبد بأمره.
** وكان من أسوأ الأمور التي عانى منها الشعب هو النقص في الخدمات وخاصة الطاقة الكهربائية التي وجهت لها المليارات ولم تنفع، إض نهب أغلب تلك المليارات ودخلت في جيوب الوزراء المسؤولين ومن كلفوا بالمهمات وشركاؤهم، مما دفع الشعب برفع شعار" باسم الدين باگونه الحرامية، وباسم الله هتكونه الشلاتية"! 
 إن كل ذلك وغيره حرك الشارع العراقي بعد أن تسلم نوري المالكي الولاية الثانية لمجلس الوزراء العراقي وبمساومة بين الولايات المتحدة وإيران من جهة، والأحزاب الشيعية والتحالف الكردستاني من جهة أخرى، مع قبول واضح من جانب القوى القومية والقوى السنية بتنازلات لقاء وعود كاذبة من جانب نوري المالكي وعلى حساب مصالح الشعب. وكان الحراك عام 2011 ببغداد ومدن أخرى مطالباً بالخدمات الأساسية ولاسيما الكهرباء، ومحاربة الفساد والإرهاب. وبدلاً من أن يصغي الدكتاتور الجديد لصوت المتظاهرين والعقل، بدأ بتشويه سمعة المشاركين في المظاهرات واستخدام القوة والعنف والسلاح لتفريق المظاهرات، وكذلك في ضرب التحركات في الفلوجة وعموم الأنبار وصلاح الدين. مما عمق الهوة ووسع قاعدة التذمر التي تفجرت فيما بعد.
لقد مارس نوري الملكي، وبدعم من التحالف الوطني للبيت الشيعي والقيادة الإيرانية أحط الأساليب القمعية في قمع وتفريق المتظاهرين من خلال قطع الطرق والجسور والقيام بحملة اعتقالات وممارسة التعذيب والتهديد، حتى قتل غيلة العديد من الشخصيات السياسية والمدنية العراقية وفي فترات مختلفة. وبعد الاجتياح الداعشي للموصل وهروب القوات المسلحة العراقية بقرارات لا يمكن إلا أن تكون من أعلى سلطة بالبلاد، من رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، أجبر المالكي وتحت ضغط الشارع والقوى السياسية النظيفة على ترك الحكم لزميل له في قيادة حزب الدعوة حيدر العبادي.
إن هذه الفترة من حكم العراق تميزت بانتهاك فعلي ومرير لحقوق الإنسان وحقوق القوميات واتباع الديانات والمذاهب، لقد داس الحكم بقيادة الملكي على حقوق وكرامة وإنسانية الفرد العراقي. لقد عمق شقة الخلاف بين القوميات وأتباع الديانات والمذاهب وترك الديمقراطية والمدنية اميالاً خلفه وأعاد الاستبداد واللاشرعية في حكم البلاد.، وسمح بالتدخل الإيراني الخارجي بقوة في الشؤون العراقية. 
انتهت الحلقة الرابعة وتليها الحلقة الخامسة والأخيرة.   







 
     
   

300
العراق والموقف الحضاري من المبادئ والقيم الإنسانية!
الحلقة الثالثة
السلوك الاستبدادي والمشين إزاء المبادئ والقيم الإنسانية الحضارية
من يتتبع تاريخ الثورات بالعالم سيجد، إنها حصلت ليس بناء على رغبات ذاتية بل لضرورات موضوعية أولاً، وغالباً ما اقترنت بمسألتين مهمتين هما: الفرحة العارمة التي تصيب الغالبية العظمى من المجتمع بأمل التغيير والتجديد والتخلص من حكومات عرضتها للكثير من الحيف والظلم مثلاً من جهة، وارتكاب تجاوزات وخروقات لا يمكن في الغالب الأعم تجاوز بعضها على الأقل من جهة أخرى، ثانياً. وغالباً ما تقع مثل هذه التجاوزات ضد عناصر وقوى من النظم السابقة لأسباب ترتبط بمستوى الحقد والكراهية الذي يجتاح الناس بعد سقوط الفئات الحاكمة السابقة والرغبة الجامحة والسلبية التي تنتاب الناس بسبب سياسات تلك العناصر أو القوى التي حكمت وأساءت للمواطنات والمواطنين وأتباع القوميات أو أتباع الديانات والمذاهب أو الاتجاهات الفكرية الأخرى أو غالبية المجتمع. ويمكن أن نتابع هذه الحالة منذ قيام الثورة الفرنسية في 14 تموز/يوليو 1790 حتى الوقت الحاضر. وهذا ما حصل بالعراق أيضاً حين نجح الضباط الأحرار بالتحالف مع جبهة الاتحاد الوطني، في إسقاط النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري في انتفاضة الضباط الأحرار، ومن ثم ثورة 14 تموز/يوليو 1958.
لقد اقترنت الفرحة العارمة لغالبية الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وأغلب اتجاهاته الفكرية والسياسية من جهة، وبغضب عارم ضد عناصر وقوى حاكمة في العهد الملكي من جهة أخرى. وقد حصل كل ذلك في الساعات الأولى لانطلاق الانتفاضة العسكرية مباشرة وعبر فوضى عارمة شملت شوارع بغداد، والمدن الأخرى. ولكن ما حدث ببغداد لم يحدث بالمدن العراقية الأخرى. وفي الوقت الذي حققت الثورة الكثير من المنجزات الوطنية والديمقراطية في الفترة الأولى من عمر الثورة، اقترن ذلك بممارسات وتجاوزات فظة على الإنسان وكرامته، ومن ثم حصول انتكاسة فعلية في مسيرة ونهج الثورة ثانياً. فقد اُرتكبت الكثر من المعاصي والتجاوزات الفظة على الفرد، حيث قتل وسحل بالأرض بعض كبار المسؤولين من الحكم السابق، كما حصل مع الوصي على العرش عبد الإله بن علي، ورئيس الوزراء نوري السعيد وابنه صباح نوري السعيد. ثم شكل رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم "محكمة الثورة" التي بدأت بمحاكمة رجال العهد السابق، والتي كانت سابقة في هذا المجال. إذ لم يكن ضرورياً تشكيل محكمة عسكرية، بل كانت القوانين العراقية كافية لذلك، ثم تميز مجرى عمل هذه المحكمة بضعف الالتزام بالقوانين والتقاليد المرعية في المحاكمات الدستورية وبسلوك غير قانوني، إذ غاب عن جلسات المحاكمات احترام كرامة الإنسان المتهم وحقه الكامل في الدفاع الحر عن نفسه وعبر محاميه ودون أي ضغط أو تعذيب يتعرض له اثناء التحقيق، وأياً كانت الجرائم التي يمكن أن يكون قد ارتكبها المتهم، إذ أنه يبقى بريئاً حتى تثبت إدانته. وما حصل كان معيباً من تلك العناصر والقوى التي مارست التعذيب أثناء التحقيق.
كانت المنجزات التي تحققت في صالح الناس وباتجاه إعادة بعض الحقوق التي غيبت عن الإنسان العراقي للممارسة الفعلية وفي المجالات السياسية واقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذلك بعض حقوق المرأة المغدورة. ولكن الثورة لم تستمر طويلاً باتجاه الحياة الدستورية، المدنية والديمقراطية، إذ انتكست لعامل مهمة، نشير إلى أبرزها في الآتي والتي تندرج ضمن التجاوز على حقوق الإنسان والشرعية الديمقراطية:
1. إمساك العسكر بالحكم عبر الحاكم الفرد وعدم موافقته على تسليم الحكم إلى المدنيين والأحزاب التي ساهمت بالثورة، ورفض الموافقة على وضع دستور دائم للبلاد، يعتبر بمثابة عقد اجتماعي ملزم بين أفراد المجتمع وقومياته ويلتزم به الجميع.
2. اتسام العراق بضعف التقاليد والحياة الديمقراطية الحضارية، والتي كانت تتجلى في نظرة ووعي وسلوك وممارسات الفرد والأحزاب والقوى السياسية والفرد في آن واحد، إضافة إلى سيادة الفوضى، بسبب ضعف فهم المجتمع بعمق ومسؤولية لمفهوم ومضمون الحرية والحياة الديمقراطية، ولدى أغلب، إن لم نقل كل الأحزاب العراقية حينذاك وبمستويات مختلفة.
3. الصراعات التي نشبت بين القوى والأحزاب السياسية وعجز الحكم عن إدارة هذه الصراعات بروح ديمقراطية إضافة إلى محاولة الاستفادة منها لصالح الحكم الفردي بالبلاد. ويمكن الإشارة هنا إلى احداث الموصل وكركوك، أو المشكلات والخلافات بين الحكومة المركزية والقيادة الكردية والحزب الديمقراطي الكردستاني، والتي كان في مقدور الحكم تجنيب البلاد تلك النزاعات في كل الأحوال.
4. كما لعب تشكيل المقاومة الشعبية لحماية الجمهورية، وعلى وفق ضعف الوعي السياسي حينذاك، دوراً سلبياً في حماية حقوق الإنسان وكرامته، من خلال الأساليب غير الديمقراطية التي مورست من جانب جزء من أعضاء المقاومة الشعبية أو المحسوبين عليها.
5. ممارسة بعض القوى البعثية والقومية وقوى إسلامية سياسية لعمليات اغتيال لعناصر شيوعية وديمقراطية، إضافة إلى محاولات تنفيذ انقلابات عسكرية أو التصدي للخصوم بأساليب تميزت بالعنف والشراسة والتي أضرت بالثورة وقواها واستفاد منها من كان يريد إسقاطها، لأنه ساهم في خلق الأجواء المناسبة لتدهور الحياة الديمقراطية النسبية التي برزت في بداية الثورة.
6. ولا شك في أن للعالم الخارجي، الإقليمي والدولي، دوره البارز في هذه الانتكاسة لمسيرة الثورة.
إن عوامل انتكاسة الثورة حرثت الأرضية الصالحة للانقلاب العسكري على الثورة وحكومتها في الثامن من شباط 1958 والذي تميز بالعنف والشراسة البربرية، إذ مورس عنف فاشي وقتل هادف ومنظم وعشوائي في آن واحد. لقد فرض انقلاب 8 شباط/فبراير تعطيلاً كاملاً لدولة القانون ومصادرة كاملة لحقوق الإنسان وسيادة شريعة الغاب لثمانية شهور حتى سقوط هذه الانقلاب بانقلاب عسكري أخر في الربع الأخير من العام ذاته.
ولهذا فقد تميزت هذه الفترة والفترة اللاحقة بغياب أي التزام فعلي أو حتى نسبي بحقوق الإنسان وبالقيم والمعايير الإنسانية والحضارية. فقد شهدت هذه الفترة امتلاء السجون بالمعتقلين والسجناء السياسيين وممارسة أبشع أشكال التعذيب الهمجي الذي غالباً ما يموت الإنسان تحت وطأته. وأبرز أربع مسائل في هذا الصدد نشير إليها فيما يلي:
1. صدور البيان رقم 13 لسنة 1963 عن مجلس قيادة الثورة وهذا نصه:
"إلى الشعب العراقي الكريم
نظراً لقيام الشيوعيين العملاء شركاء عبد الكريم قاسم في جرائمه بمحاولات يائسة لأحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الانصياع إلى الأوامر والتعليمات الرسمية فعليه يخول آمرو القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن وإننا ندعو جميع أبناء الشعب المخلصين بالتعاون مع السلطة الوطنية بالإخبار عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم" (راجع: نوري عبد الحميد العاني وصحبه، تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري، الجزء السادس، ط 1، بغداد، المطبعة العربية، 2002، ص 27). وقد اعطى هذا البيان الحق المطلق للحرس القومي والأجهزة الأمنية والقوات المسلحة وأعضاء حزب البعث بقتل الشيوعيين والديمقراطيين وأنصار عبد الكريم قاسم حيثما وأينما وجدوا بتهمة مقاومة الانقلاب.
2. فتح قصر النهاية (قصر الرحاب سابقا) كمعتقل مركزي لتعذيب المتهمين، ومعتقلات وسجون أخرى، إضافة على تحويل النوادي الرياضية، كالنادي الأولمبي، لممارسة التحقيق والتعذيب للمعتقلين، وحيث سقط الكثير من قيادات الأحزاب والعناصر الديمقراطية وأنصار عبد الكريم قاسم شهداء تحت التعذيب، ولاسيما قادة الحزب الشيوعي العراقي.
3. قطار الموت، الذي حمل 520 عسكرياً عراقياً بمراتب مختلفة من بغداد إلى السماوة بهدف إعدامهم في سجن "نقرة السلمان الصحراوي" كادوا يموتون جميعاً في تلك العربات الحديدة التي كانت مخصصة للشحن، لولا هامة سائق القطار وسكان السماوة النشامى الذين أنقذوا حياتهم، ما عدا خسارة شهيد واحد.
4. التجاوز اليومي الفظ على الناس وممارسة الإرهاب دون سبب، لاسيما وقد جُند في الحرس القومي البعثي صبية لم يتجاوزا سن الرشد كانوا يحملون البنادق الرشاشة ويتجولون في الشوارع برعونة وصبينة ويهددون الناس ويرمون من بنادقهم بصور عشوائية، مما رفع من حالة التذمر الشعبية، وحانت الفرصة للقوى القومية الحليفة بتنظيم الانقلاب الذي خفف من توتر الشارع العراقي نسبياً.
5. الهيمنة الكاملة على الحياة السياسية وحرمان الأحزاب من حرية التنظيم والعمل المشروع ومصادرة حرية الصحافة ومنع الصحف الحرة والمستقلة والحزبية غير الموالية مباشرة لحزب البعث من العمل واعتقال الصحفيين وتعريضهم للإرهاب والتعذيب.
6. وأخيراً كانت الحرب التي أعلنت ضد القيادة الكردية، حليفتهم في انقلاب 8 شباط/فبراير 1963، وزج المزيد من القوات المسلحة في تلك الحرب الشوفينية.
لقد سقطت خلال حكم البعث والقوميين العراقيين العرب كل الحقوق والقيم الإنسانية خلال الفترة بين شباط 1963 ونوفمبر من العام ذاته، كما لم يستطع الشعب استرداد حريته وحياته الديمقراطية في ظل الحكم القومي، رغم حصول بعض التخفيف من غلواء البعث في إرهاب الشعب وقتل الخصوم والمعارضين.
إسقاط الحكم القومي وقيام الحكم البعثي ثانية
بين 17 تموز/يوليو 1968 نفذ البعثيون وحلفاؤهم من القوميين المشاركين في الحكم انقلاباً في القصر الجمهوري وأزيح عبد الرحمن عارف من رئاسة الجمهورية واعتقل بقية الجماعة الحاكمة ومؤيديها. وبعد مرور أسبوعين على هذا الانقلاب، نفذ البعثيون انقلاباً على حلفائهم القوميين في الثلاثين من تموز/يوليو من العام نفسه. وقد مارس البعثيون حملة إرهابية شرسة ضد القوميين العرب العراقيين فاعتقلوا المئات منهم ولاسيما الذين كانوا في السلطة أو في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي والكثير من المسؤولين العسكريين والمدنيين وأذاقوهم مرّ العذاب في السجون والمعتقلات والتي يصعب تصورها، إلا فيما مورس في العام 1963 في قصر النهاية ذاته ضد الشيوعيين والديمقراطيين، فيما عدا أنهم لم يقتلوهم تحت التعذيب، ولكن أسقطوا كل ما يمكن أن يمت للكرامة الإنسانية من صلة. كما اعتقلوا الكثير من أعضا حزب البعث (اليسار) من مؤيدي القادة القومية البعثية السورية، ومارس ذات الأساليب معهم في التعذيب.
وعلى امتداد حكم البعث، ورغم التحالف مع حزب البعث من جانب الحزب الشيوعي العراقي، لم يكف حزب البعث عن تصفية خصومه ومعارضيه بسبل شتى، ثم انتقل ليصب جام غضبه الكرد والشيوعيين. وحين صفى عملياً من الساحة السياسية جل خصومه من كل القوى والأحزاب السياسية، بمن فيهم الجماعات الدينية التي تحالفت معه في انقلاب 1963 وأعطته المؤسسة الدينية الشيعية قبل الانقلاب، وعلى رأسهم الرجعي الديني الشيعي "محسن الحكيم"، فتوى يحق بموجبها إهدار دم الشيوعيين باعتبارهم ملحدين والتي جاء فيها: "لا يجوز الانتماء للحزب الشيوعي فأن ذلك كفر وإلحاد"، كما أعطى فتوى مماثلة في المضمون الشيخ نجم الدين الواعظ من شيوخ المذهب السني، وكذلك الشيخ محمد مهدي الخالصي من شيوخ المذهب الشيعي. وقد أُبطلت هذه الفتاوى فيما بعد، بسبب جموحها اللاإنساني وسماحها بهدر دماء الآلاف من أبناء ونات العراق. (راجع: رشيد الخيون، قصة تعطيل فتاوى كادت تهدر دماء آلاف الخُصَماء السياسيين، الشيخ العلواني في كتابه «إشكالية الردة والمرتدين»: الإسلام دين تزكية وتطهير لا دين تكفير، موقع أيلاف، العدد 9613 في 24أذار/مارس 2005).
لقد فرض حزب البعث نظاماً استبدادياً باسم الحزب أولاً، وبشكل فردي مطلق لاحقاً، ونظاماً شوفينياً مناهضاً للقوميات الأخرى، ومطارداً لكل الاتجاهات الفلسفية والفكرية الأخرى، ثم صادر عبر أجهزة أمنه ومنظماته الجماهيرية وحزبه والقوات العسكرية أمن وحرية وحقوق المواطنات والمواطنين بشكل كامل، ولاسيما من تبقى منهم بالعراق من معارضين لسياسات البعث الدموية. وأخيرا وبعد أن صفا الجو السياسي له بدأ بسياساته التوسعية والعسكرية بحربه ضد إيران التي دامت ثمانية أعوام عجاف ومجنونة، ثم غزا الدكتاتور صدام حسين الكويت، وتسبب في حرب الخليج الثانية 1991 والثالثة 2003، التي أنهت وجود هذا النظام بالعراق. كما بدأ بشكل مبكر في عملية قهر وتصفية حركة التحرر الكردية وشن حروباً ظالمة ضد الشعب الكردي في أعوام 1969 و1974 و1981 التي تواصلت طيلة سنوات الحرب العراقية الإيرانية وتفاقمت حين نفذ النظام عمليات الإبادة الجماعية واستخدام الكيماوي ضد الشعب الكردي بين شباط/فبراير- تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1988. كما نفذ النظام عملياته العسكرية الدموية في وسط وجنوب العراق وإقليم كردستان العراق بعد انكساره في حرب الخليج الثانية في العام 1991.
لقد داس النظام بقيادة صدام حسين على لائحة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة كافة ومرغ كرامتهم بالتراب، وداس الدكتاتور على كل القيم والمعايير الإنسانية والحضارية بأقدامه. وتحول العراق إلى سجن كبير يضم سجوناً ومعتقلات علنية وسرية كثيرة جداً وضع فيها عشرات الألاف من السجناء والمعتقلين من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، وقتل فيها أيضاً المئات من المعتقلين الرافضين لنظامه الدموي. وتعرض الشعب في فترة حكمه إلى الحصار الاقتصادي الدولي الظالم الذي مارسته الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي على الشعب العراقي عملياً وليس ضد الفئة الحاكمة. وقد دام هذا الحصار قرابة 13 عاماً تعرض فيها الشعب لأبشع عملية تجويع وإهانة وإساءة للكرامة طويلة الأمد، فقد فيها عشرات الألوف من الناس حياتهم بسبب الجوع أو نقص الأدوية أو غياب العناية الصحية، وهي كلها مصادرة لحق الإنسان في الحياة والحصول على الغذاء والأدوية المعالجة الطبية.
لقد مارس سياسة مصادرة تامة وكاملة لحرية التنظيم الحزبي وإقامة منظمات مجتمع مدني غير بعثية وصادر حرية الصحافة والصحفيين بالكامل، ولم يبق من الصحفيين في الساحة الفعلية العلنية إلّا العناصر المطبّلة لحزب البعث والمسبحة بحمد الدكتاتور، أو تلك التي استخدمت لغة "كليلة ودمنة" في نقد الوضع ولم تسلم أيضاً من سيف الجلاد. لقد كف الآباء الحديث بالسياسة أمام الأبناء والبنات خشية وصول الخبر إلى السلطات ويتعرضون للموت المحقق. لقد سادت أجواء مظلمة حيث وجد عشرات الألوف من العيون والمخبرين السريين والجواسيس العاملين في أجهزة الأمن والاستخبارات والمخابرات العراقية في كل مكان وأصبح الخوف عاماً وشاملاً، حيث يمكن أن يتعرض المواطن على انتقام النظام بسبب انتقاد معارضيه أو غير الموالين له، حتى انتشر قول صدام حسين: "كل العراقيين بعثيون وإن لم ينتموا"، كما انتشر قول بأن الإنسان العراقي لا ينجو من غضب النظام حتى لو حلم بمعارضة النظام! لقد شكل صدام حسين عدة أجهزة أمنية على المستوى الداخلي يراقب بعضها الآخر وخيوطها كلها بيد صدام حسين. لقد اقام صدام حسين نظاماً دكتاتورياً أوتوقراطياً مريعاً، دام ما يقرب من 35 عاماً ولاسيما الفترة الواقعة بين 1979-2003.
لقد جسدت فترتا حكم البعث الأولى 1963 والثانية 1968-2003 الدكتاتورية والشوفينية والعنصرية والتعريب والتهجير القسريين من جهة، والظلم والاضطهاد ومصادرة كاملة لكل الحقوق من جهة أخرى، وسيادة الفساد وهدر أموال البلاد من جهة ثالثة، والعسكرة والتوسع على حساب الدول المجاور وخوض الحروب الداخلية والخارجية من جهة رابعة، وإسقاط الجنسية عن أكثر من 400000 إنسان كردي فيلي وعربي شيعي من الوسط والجنوب من جهة خامسة، وعرض معارضيه من أهل السنة في القوات المسلحة والمدنيين الضيم والجور والتعذيب من جهة سادسة، وسادت البطالة والحرمان والجوع بين نسبة عالية جداً من سكان العراق أيضاً. إنها فترات حكم ضال ودموي مرير، إذ لم سعد للإنسان العراقي أي قيمة وكرامة إنسانية وحقوق.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحزب الشيوعي العراقي، الذي تعرض إلى أبشع صنوف الإرهاب والتعذيب والقتل على ايدي الحكم البعثي وأجهزته الأمنية والحزبية والجماهيرية في العام 1963 وفي بدية مجيء البعث إلى السلطة ثانية في العام 1968 و1870/1971، كان المفروض أن لا يتحالف مع هذا الحزب في العام 1973 رغم التغيير الذي برز في سياساته حينذاك والتي لم تكن أصيلة ومبدئية، بل استمر حزب البعث بمطاردة بقية القوى السياسية في فترة التحالف، ومن ثم ضد أعضاء وكوادر وقيادات الحزب الشيوعي العراقي، وبالتالي فأن الحزب الشيوعي لم يحترم حقوق الإنسان والقيم الإنسانية الحضارية في تحالفه مع حزب البعث، رغم تقديمه احتجاجات أو مذكرات انتقاد واعتراض إلى قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة على تلك السياسات اللاإنسانية والمنافية لمبادئ حقوق الإنسان. وفي الفترة الواقعة بين 1977-1981 على نحو خاص تعرض الحزب الشيوعي إلى حملة هستيرية من جانب النظام البعثي حيث اعتقل عشرات ألوف الشيوعيين وأصدقاء الحزب ومؤيدوه وقتل الكثير منهم تحت التعذيب، كما أجبر الألوف على مغادرة العراق أو تشكيل حركة الأنصار الشيوعيين والالتحاق بها في جبال وأرياف كردستان الالتحاق والمشاركة مع بقية قوات الپيشمرگة الكردستانية في النضال ضد الدكتاتورية الغاشمة ببغداد.
انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة والأخيرة.
       
     
 

301
رابط الحملة لا للحرب .. نعم للحوار الديمقراطي والسلام

http://ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=967

302
كاظم حبيب
العراق والموقف الحضاري من المبادئ والقيم الإنسانية!
الحلقة الأولى
تؤكد لوائح الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ومؤتمراتها الدولية منذ أن صدرت لأول مرة اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 1948 وما صدر بعد ذلك من مواثيق وعهود دولية بشأن الاعتراف بهذه المبادئ وممارستها وحماية كرامة الإنسان وحقوقه، بما في ذلك الحق في الحياة والعمل، وحقوق القوميات وحقوق المرأة والطفل والسجناء والعيش في بيئة نظيفة ...الخ، بأن هذه المبادئ والقيم والحقوق لا تتجزأ، فهي كلها سلة واحدة يستكمل بعضها البعض الأخر، ويعتمد على مستوى وعي الشعب وفهمه لها في مدى قدرته على تحقيقها وحمايتها ومستوى نضاله في سبيل منع الحكام من الإساءة لها أو تقطيع أوصالها وممارسة الانتقائية في ممارستها. وقد صدرت هذه اللائحة الدولية بعد مرور 159 سنة على دور صدور "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" في العام 1789 باعتباره واحداً من أهم وثائق الثورة الفرنسية، فهو يمس الحقوق الفردية والجماعية وشكل الأرضية الفكرية الصالحة لنضال الشعوب الأخرى في سبيل تأمين ممارسة تلك الحقوق وقاعدة للائحة الدولية.
والإنسان الحضاري الواعي لوجوده وحقوقه وكرامته يرفض الإساءة لحرية وحقوق وكرامة الإنسان الآخر أو الآخرين من البشر. وهذا ينطبق على الشعوب أيضاً، فالشعب الحر الذي يتمتع بالحرية والحياة الديمقراطية والكرامة يرفض أن يسيء لحرية وحقوق وكرامة شعب آخر، بل يتضامن معه في حالة تعرضه لأي إساءة لرفع الإساءة أو الغبن والإجحاف عنه والتعامل على أسس من المساواة، بما في ذلك حق هذا الشعب أو ذاك في تقرير مصيره بنفسه ودون وصاية من شعب آخر.
ووطننا العراقي الذي ساهمت حكومته الملكية في العام 1948 في وضع لائحة حقوق الإنسان الدولية في العام 1948 ووقعت عليها، هي أول من خرق بنود هذه اللائحة في الممارسة العملية وتجاوزت على الشرعية الدستورية والحياة الديمقراطية، وهي التي أسست فعليا لحصول تجاوزات وممارسات أفظع وأبشع في الفترات اللاحقة، حتى وصل الأمر بالحكومات اللاحقة تن ترتكب المجازر وعمليات الإبادة الجماعية والإساءة المباشرة لحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى بالعراق.
ووطننا العراق عرف على مدى تاريخه الحديث ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 ثلاثة أنواع من البشر في مواقفهم من تلك المبادئ والقيم والحقوق من الناحية النظرية والممارسة:
1)   قوى سياسية واجتماعية ديمقراطية مقتنعة بمبادئ حقوق الإنسان وحقوق القوميات وتدافع عنها وتناضل من أجلها ولا تتصور إمكانية تجزئتها، بل هي سلة واحدة متكاملة وتميز بين التنكر لتلك المبادئ والقيم وبين سبل وأدوات ممارستها وضمان تحقيقها، بما في ذلك الحق في تقرير المصير.
2)   قوى سياسية واجتماعية تعترف ببعض مبادئ وقيم حقوق الإنسان وترفض البعض الآخر منها، بما في ذلك حق تقير المصير، وتمارس الالتزام أو عدم الالتزام بتلك الحقوق برؤية انتقائية قاصرة، منطلقة من نظرة ضيقة ووحيدة الجانب والمصلحة في الممارسة الفعلية لهذا المبادئ والقيم والحقوق. ومن بين أكثر المبادئ المرفوضة لديها حق تقرير المصير لأتباع هذه القومية أو تلك.
3)   قوى تدعي التزامها بتلك المبادئ والقيم والحقوق، ولكنها ترفض في الواقع العملي ممارستها حين تكون في السلطة بشكل خاص، وتعتبر المناداة بحق تقرير المصير انفصالاً وتجاوزا على السيادة الوطنية.
ومن يتابع ما جرى ويجري بالعراق منذ عقود سيرى بأن القوى الديمقراطية والتقدمية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية وتقدمية أخرى، كانت وما تزال مقتنعة تماماً بمبادئ وقيم وحقوق الإنسان والقوميات، بما في ذلك الحق في تقرير المصير للقومية الكردية على سبيل المثال، أو الإدارة الذاتية لقوميات أخرى، إضافة إلى اعترافها ونضالها من أجل الالتزام ببقية الحقوق والقيم الإنسانية الواردة في اللوائح والمواثيق والعهود الدولية. إلا إن هذه القوى لم تصل إلى السلطة لتمارس هذه المبادئ والقيم فعلاً، في حين تشير المتابعة للتاريخ العراق الحديث إلى وصول ثلاث جماعات مختلفة من القوى التي تحمل أيديولوجيات قومية وإسلامية لا تعترف ولا تمارس أهم وأبرز المبادئ التي تتضمنها تلك الوائح والمواثيق والعهود وما فيهم من قيم إنسانية عامة وشاملة، وبعضها أحياناً وتحت وطأة ظروف معينة يعترف ببعضها ولكن يمارس بطريقة تجهضها بأي حال من الأحوال. ويمكن الإشارة إلى هذه القوى التي كانت أو ما تزال في السلطة ومواقفها من تلك المبادئ والقيم الإنسانية الحضارية:
أولاً: القوى المحافظة، ولاسيما الجزء الأكثر رجعية وتشدداً فيها، التي حكمت العراق في فترات مختلفة بين عامي 1921 – 1958، والتي ساهمت في وضع تلك اللائحة الأولى وصادقت عليها، ولكنها خرقتها بفظاظة، سواء أكان ذلك عبر ضرب وتحطيم المظاهرات والإضرابات بالحديد والنار واعتقال المشاركين فيها وزجهم في السجون، أم تزوير الانتخابات ضد قوى المعارضة، أم التمييز بين الذكور والإناث لصالح الذكور، أم التمييز بين أتباع القوميات وتهميش أتباع القوميات الأخرى أو الأقل عدداً، أم التمييز الديني والمذهبي، أو حتى ممارسة العنف واستخدام السلاح لقمع المطالبين بالحقوق المشروعة والعادلة ... الخ. وكان السبب وراء ذلك خليط بين السلوك الرجعي والقومي الشوفيني والمذهبي المتزمت وغياب النهج الديمقراطي في آن واحد. وكانت بعض هذه الحكومات لا تبدو متشددة في بعض مواقفها، ولكنها في المحصلة النهائية كانت تفرض على الشعب ما تريده دون احترام إرادة ومصالح الناس.
ثانياً: القوى والأحزاب ذات الأيديولوجية القومية اليمينية والمتشددة التي ترفض الاعتراف فعلياً أو تعترف شكلياً بمبادئ وقيم حقوق الإنسان، ولكنها لا تمارسها في الواقع، وتفرض أجواءً من الاستبداد الخانق بالبلاد، إضافة إلى إنها ترفض الاعتراف بحقوق القوميات الأخرى، بما في ذلك حق تقرير المصير، وحتى لو اعترفت بوجود تلك القوميات بالبلاد، فأنها تمارس التمييز والتهميش والإقصاء ضدها، مما يؤجج الصراعات والنزاعات بالبلاد. وهي تستخدم كل الأساليب والأدوات غير المشروعة من أجل كبح نضال القوميات الأخرى، ولكنها تضطهد في الوقت ذاته حقوق القومية التي تنتمي إليه، وتصادر جميع الحريات وحقوق الإنسان والحياة الديمقراطية. وخير نموذج لمثل هذه القوى، سواء في موقفها النظري أم في ممارساتها الفعلية، هي الأحزاب القومية التي تشكلت بالعراق قبل أو بعد ثورة تموز 1958، ومنها القوى التي أطلقت على نفسها بالقوى الناصرية أو حزب البعث العربي الاشتراكي، وهي قوى مارست الاستبداد والاضطهاد لقوى الشعب، ولاسيما ضد القوميات الأخرى، وكذلك ضد القوى ذات الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى. ويمكن إيراد ما حصل في أعقاب انقلاب 8 شباط الدامي في العام 1963، أو في أعقاب انقلاب 17/30 تموز 1968 حتى إسقاط الدكتاتورية عبر الحرب في العام 2003. وقد وقعت مجازر دموية على أيدي القوى عموماً ولاسيما حزب البعث العربي الاشتراكي واجهزته الأمنية ومنظماته الاجتماعية وقواته العسكرية. وقد بروز ذلك باتجاهيين مناهضين للفكر الديمقراطي وللقوميات الأخرى، ولاسيما للشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين المستقلين، وللكرد والتركمان، كما عانى أتباع الديانات والمذاهب من تمييز واجحاف واضطهاد وتهجير وتعريب للبشر والمناطق، وكذلك ما حصل للكرد الفيلية والعرب الشيعة في الوسط والجنوب وبغداد. وعلينا هنا الإشارة إلى أن ليس كل القوى القومية سقطت في مستنقع الشوفينية والفاشية والاستبداد.
ثالثاً: القوى والأحزاب ذات الأيديولوجية الإسلامية السياسية التي يتداخل ويتشابك فكرها ومسيرتها الفعلية مع الأيديولوجية القومية ذات النهج اليميني الشوفيني. فهي من جانب لا تعترف بالقوميات باعتبار أن المسلمين كلهم أمة واحدة، ولكنها حين تصل إلى السلطة تمارس الأيديولوجيتان معاً وفي غير صالح القوميات الأخرى وأتباع الديانات المذاهب الأخرى وليس أدل على ذلك ما يعيش تحت وطأته العراق منذ العام 2004 حتى الوقت الحاضر. إن هذه القوى لا تعترف بوجود قوميات أخرى، وإذا ما أجبرت عل الاعتراف بوجودها تحت ظروف وأوضاع نضالية، فإنها سرعان ما تتنكر لها وتشن حملة لمصادرتها حالما تتوفر لها الذريعة لمماسة الإرهاب والقمع. ويمكن أن نتابع ذلك في سياسات الحكم الطائفي بالعراق منذ تولي إبراهيم الجعفري رئاسة الوزراء بالعراق ومروراً بنوري المالكي حتى الوقت الحاضر.
إن القوى القومية اليمينية والشوفينية وقوى الإسلام السياسي الطائفية لا تعترفان بتحالفات سياسية طويلة الأمد، بل تعتبران التحالفات تكتيكات آنية غرضها الوحيد إيصالهم إلى الهدف المنشود، إلى السلطة، ثم تتنكران لأي تحالفات عقدتها مع قوى وأحزاب أخرى. كما إنهما لا تعترفان بالديمقراطية كنهج وأداة فعلية للحكم، بل تعتبرانهما أداة للوصول إلى السلطة ثم التنكر لها في التعامل مع اتباع الفلسفات والاتجاهات الفكرية والقومية الأخرى. انهما يؤمنا بأيديولوجيات ذات مضمون ووجهة استبدادية مناهضة لحرية الفكر والعقيدة ولحرية وحقوق الإنسان والقوميات ولحقوق المرأة. أنهما يشكلان كارثة على الشعب ويشكلون خطراً كبيراً على حياة الشعب وكرامته وحقوقه. وإذا كانت المجموعة الأولى تحاول التغطية على سلوكها إلى أن يستتب لها الأمر، فأن الثانية تمارس النهج ذاته ولكن تحت ما يسمى في الإسلام "التقية"، أي عملياً التغطية على الهدف الفعلي من خلال الادعاء بغير ذلك إلى حين توفر الفرصة المناسبة لتسديد الضربة المطلوبة لمن يطلق عليهم بأعداء الإسلام والمسلمين لأنهم يحملون فلسفة أو فكراً آخر، أو أعداء المذهب لمن هم من مذهب آخر، كما يمكن متابعته بالعراق منذ العام 2004/2005.                 
حين يفتقد القوميون، أياً كانوا، القناعة بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، يمارسون سياسات مشوهة ومؤذية لا تساهم في تأمين وحدة الشعب وتعاون أتباع قومياته أو أتباع دياناته ومذاهبه، بل يسود التمييز والتفرقة والتهميش والإقصاء والعداء، وتكون العواقب وخيمة. وهذا يمكن أن يحصل مع الإسلاميين السياسيين الذي لا يؤمنون بالديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، وهي مشكلة ليست جديدة، وتبرهن الحياة على سلوك هذه القوى باستمرار. وهي ليست قاصرة على العراق بل نجدها في تركيا وإيران والسعودية وجميع الدول ذات الأكثرية المسلمة، والتي تحكمها قوى إما محافظة أو قومية شوفينية أو إسلامية سياسية طائفية متطرفة.
انتهت الحلقة الأولى وتتبعها الحلقة الثانية.

303
رسالة تحية وتهنئة موجهة إلى تحالف القوى الديمقراطية العراقية (تقدم)
تحية الأخوة والنضال المشترك، تحية إلى تقدم
باسم لجنة المبادرة لدعم وحدة القوى الديمقراطية العراقية أحيي مؤتمركم ونتائجه الرائعة التي نرجو ونعمل من أجل أن ترسي "تقدم" أساساً لصالح وحدة النضال الديمقراطي من أجل عراق حر وديمقراطي موحد ومتماسك، وأن يمتد عمل تقدم إلى كل أنحاء العراق باعتباره القاعدة الديمقراطية التي يمكن أن تعبئ الشعب العراقي بكل فئاته الاجتماعية ذات المصلحة بأهداف تقدم وكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه لتحقيق التغيير المنشود بالعراق والتخلص من نظام المحاصصة من أجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية التي تعتمد على الشعب وتحقق مصالحه وتطلعاته لحياة أفضل ومستقبل أكثر ازدهاراً وعدالة. لتكن تقدم قاعدة لوحدة كل القوى الديمقراطية وتتسع لكل من يؤمن بمبادئ الديمقراطية والحرية وضد التمييز الديني والطائفية والشوفينية، أن تتسع للعرب والكرد والتركمان والمسيحيين والمندائيين والإيزيديين ولكل من يؤمن بالديمقراطية وفصل الدين عن الدولة والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وبناء الاقتصاد الوطني العراقي وتخليصه من طابعه الريعي الاستهلاكي والمكشوف على الخارج حالياً، ورفض التدخل الخارجي في الشؤون العراقية الداخلية وسياساته الخارجية. لنعمل من أجل إيحاد حلول عملية وواقعية للخلافات القائمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة وبرلمان إقليم كردستان العراق لصالح وحدة العراق وتقدمه وازدهاره. 
لقد تم تشكيل لجنة المبادرة المستقلة، وهي ليست بحزب أو منظمة، بهدف دعم جهود قوى التيار الديمقراطي وبقية القوى الديمقراطية والمستقلة والشخصيات الدينية العلمانية لتحقيق التعاون والتنسيق والتحالف فيما بينها لضمان السير على طريق تغيير واقع العراق الراهن. ويسعدنا تحقيق هذا التحالف الجديد، آملين أن يتم التعاون والتنسيق مع قوى أخرى يمكنها أن تكون مع "تقدم" وتلعب دوراً مهماً باتجاه تحقيق الدولة الديمقراطية العلمانية بالعراق. وسنبقى نعمل وندعم "تقدم" من أجل تحقيق هذا الهدف.
نشد على أيديكم ونعتبر أنفسنا كأفراد جزءاً منكم ونتمنى لـ "تقدم" النجاح فيما تسعى إليه في هذا الظرف العصيب والمعقد الذي يمر به الشعب العراقي بكل قومياته وفئاته الاجتماعية التي يهمهما انتصار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والعدالة الاجتماعية بالعراق. 
لجنة المبادرة لتحريك ودعم انعقاد مؤتمر القوى الديمقراطية في العراق

سلوى السعداوي، رابحة الناشئ، كاترين ميخائيل، تيسير الآلوسي، زهير كاظم عبود، ، غيث التميمي، نهاد القاضي، كاظم حبيب
29/10/2017

304
كاظم حبيب
الحوار الديمقراطي سبيل العراق الوحيد لمعالجة مشكلاته وليس الحرب!
لا للحر... نعم للديمقراطية والسلام في العراق وإقليم كردستان
سياسات التخندق والعناد ووضع الشروط أمام بدء الحوار والتصور بامتلاك الحقيقة والحق المطلق كانت وما تزال تلعب دورها السلبي في توسيع وتعميق مشكلات العراق، ولاسيما العلاقة بين الحكومة الاتحادية ورئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق. وهذه الحالة هي المسؤولة عما وصل إليه الوضع الراهن، سواء أكان قبل طرح موضوع الاستفتاء أم أثناء ممارسته أم بعد إعلان نتائجه، أم ما حصل من تحركات عسكرية لقوات الحكومة الاتحادية واستعادة سيطرتها على المناطق المتنازع عليها وقبل حصول الاجتياح الداعشي للموصل والمناطق الأخرى. كما إنها ستبقى تزيد الأمر تعقيداً ما لم يتخل الطرفان عن هذا النهج في العمل وعدم العودة والجلوس إلى طاولة المفاوضات وتجاوز تعقيدات الفترة المنصرمة بهدف قطع الطريق عن احتمال ممارسة أي شكل من أشكال القوة والعنف للوي الأذرع.
يواجه العراق سياسة متطرفة تمارسها بعض القوى الإسلامية السياسية والقومية الشوفينية المتطرفة تسعى بشكل محموم لتصعيد أجواء العداء الطائفي المتشابك مع العداء الشوفيني وجرّ قوات الحكومة الاتحادية و"الحشد الشعبي" وفصائل من قوات الپيشمرگة إلى معارك دموية تقطع الطريق عن الحلول السلمية والديمقراطية والعادلة للمشكلات القائمة بين الطرفين. ولو كان الصراع عراقي-عراقي لتم معالجته منذ فترة غير قصيرة، إلّا إنه في واقع الحال هو صراع إقليمي يرتبط بدول الجوار عموماً، ولاسيما تركيا وإيران، اللتان تسعيان بجهود محمومة لنشر الضغينة والكراهية والأحقاد والعداء والمراهنة على تدمير الطرف الأضعف، وهو أمر لا يمكن ولا يجوز الوصول إليه، بل سيُدخل العراق في حرب استنزاف داخلية مدمرة تحرق الأخضر واليابس وتجعل من العراق سوريا ثانية أو اليمن المستباح.
إن الإنسان ذو العقل الراجح والهادئ يتميز بنزوع أصيل للجلوس إلى طاولة المفاوضات ودراسة المشكلات وطرح احتمالات لحلول عدة، يمكن عبر مراجعتها المشتركة والمتكررة تقريب وجهات النظر والوصول بها إلى حلول مشتركة وعادلة يقبل بها الطرفان. والعكس صحيح ايضاً حين يبرز نزوع شديد صوب الرفض المطلق للحوار من خلال وضع شروط تعجيزية لا مبرر لها، كما تفعل الحكومة الاتحادية حالياً وبدعم من إيران وتركيا أيضاً، تمنع البدء بعقد اللقاء والحديث معاً وتشم منها رائحة وأجواء كسر عظم أو لوي ذراع، وهو ما لا يجوز حصوله في بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية كالعراق.
لقد أوصل التوتر في العلاقات وعدم معالجة المشكلات القائمة على وفق الدستور والمادة 140 منه، ولاسيما حل مشكلة المناطق المتنازع عليها وبالأخص كركوك، ولسنوات ما بعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة، رغم تأكيد الدستور على معالجتها حتى العام 2007، وها نحن نهاية العام 2017 ولم ينجز شيء بل جرى تعقيد أكبر للمشكلة. لقد دفع هذا الواقع برئاسة وحكومة إقليم كردستان بالدعوة إلى إجراء استفتاء لمعرفة رأي شعب كردستان بموضوع الاستقلال عن العراق. ولم يكن هذا يخص المحافظات الكردستانية الرسمية الأربع، أربيل والسليمانية ودهوك وحلبچة، فحسب، بل وشمل المناطق المتنازع عليها في كركوك وديالى وصلاح الدين ونينوى والتي كانت ما تزال لم تعالج على وفق المادة 140، بل كان المفروض أن تبقى تحت الإدارة المشتركة. ورغم اعتراضات ومناشدات وتقديم بدائل لإجراء الاستفتاء والرفض، فأن رئاسة وحكومة الإقليم والأحزاب السياسية، ليس كل الأحزاب، أصرت على إجراء الاستفتاء، وكان هذا على وفق في قناعتنا خطأ فادح ألحق أضراراً فعلية فادحة بوضع الإقليم والعراق عموماً. إلا إن هذا ليس خاتمة المطاف، وبالتالي لا بد من معالجة الموضوع بالعقل والحكمة من قبل الطرفين ولمصلحة الشعبين وبقية القوميات على وفق الدستور العراقي، وعلى وفق المادة 140 بالنسبة للمناطق المتنازع عليها. 
إن الأصوات النشاز التي انطلقت في الآونة الأخيرة مرة أخرى، وكأن ما فعلته في السابق لزعزعة الوحدة الوطنية وفتح أبواب العراق لا
جتياح الأوباش الدواعش لم يكن كافياً، لتبدأ من جديد مثيرة زوبعة من الغبار والضجيج تمنع وضوح الرؤية الواقعية للأحداث والمشكلات وسبل معالجتها وتحرم الناس من الاستماع إلى صوت العقل والحكمة والدروس المكتسبة من تاريخ العراق الحديث، ولاسيما منذ تأسيس الدولة العراقية الملكية. كما إن ما أقدمت عليه قوى الحشد الشعبي وما يشار إلى وجود قوات ومستشارين إيرانيين يمارسون مع قوى من الحشد الشعبي عمليات الانتقام من قتل وتخريب وحرق المساكن أو السيطرة على المقرات في كل من كركوك وطوزخورماتو وداقوق، قد ألزم ذلك وزير الخارجية الأمريكي أن يطالب بخروج القوات الإيرانية من العراق.
إن ما آلَ إليه الوضع بالعراق بعد الاستفتاء أشاع المزيد من القلق والريبة والشك في نفوس الناس في كل أنحاء العراق، ورغم تصريحات رئيس الوزراء العراقي بأنه لن يلجأ إلى استخدام العنف والقوة، إل إن الواقع يشير إلى شيء آخر. وما حصل من تجاوزات قوى في الحشد الشعبي في كل من كركوك وطوز وخانين وغيرها يؤكد بأن الوضع يستوجب المعالجة السريعة والجدية. إن خروج الوضع عن السيطرة ستكون له ديناميته الخطرة والمدمرة، ولن يكون في مقدور الإرادات الذاتية الطيبة إيقافه، إذ ستتدخل عوامل كثيرة على خط الصراع والنزاع لتؤجج وتطيل أمد المعارك أو الحرب والمزيد من الموتى والخراب والدمار حيث تنعق فيها الغربان. فالقتل الذي حصل في بعض المناطق ولاسيما في طوز وكذلك في داقوق أو إحراق مئات البيوت في طوز وهروب عشرات الألوف من سكان طوز وداقوق وكركوك وغيرها، لا يمكن القبول به أو التسامح معه وله عواقبه.
إن على كل القوى، التي تشعر بالمخاطر الجمة التي تلف العراق في المرحلة الراهنة، ولاسيما القوى الديمقراطية والتقدمية والعلمانية وغيرها، أن تمارس دورها المنشود لا في تخفيف التوتر بين الأطراف المعنية، بل ودفعها لإقامة علاقات جديدة على أسس رصينة وثابتة ومستقرة بعيدا عن فرض الأمر الواقع بقوة السلاح وممارسة العنف. وعلينا أن نتذكر بأن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 ما زال فاعلاً ولم يلغ حتى الآن، ويمكن أن يفعل في كل لحظة.
إن من واجب القوى والأحزاب الكردستانية أن تسعى لتوحيد صفوفها ولملمة أوضاعها وإعادة النظر بسياساتها السابقة وتقديم رؤى سديدة للمشاركة في معالجة الوضع بالعراق وإسقاط أوراق القوى المعادية للشعب الكردي وعموم الشعب العراقي. ولا شك في أن تجميد نتائج الاستفتاء هي خطوة مهمة وصائبة على طريق إيجاد حلول عملية للمشكلات القائمة وبدء الحوار بين بغداد وأربيل، وليس من الصواب أن يشدد رئيس وزراء العراق من الموقف ويبدأ بتسمية إقليم كردستان الوارد في الدستور بشمال العراق، فهذا خرق للدستور العراقي، وهو الذي ينادي باستمرار بالالتزام بالدستور وتطبيق بنوده. ومن واجبنا ألّا نسمح للمتطرفين في الطرفين أن يعلو صوتهم النشاز فوق صوت الشعب أولاً، وأن نمنع تأجيج الأوضاع المتأججة أصلاً من قبل حكومتي إيران وتركيا، وهما دولتان طامعتان بالعراق وراغبتان في إشاعة الفوضى والخراب فيه، كما فعلتا وتفعلان حتى الآن بسوريا واليمن، والتدخل الفظ في الشؤون العراقية مما يفقد العراق سيادته الوطنية واستقلال قراراته.
 



305
كاظم حبيب
قراءة متمعنة في كتابين "مذكرات هاشم الشبلي" و "محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث"
الكاتب: هاشم الشبلي
الكتاب الأول: مذكرات هاشم الشبلي (عام 2016)
الكتاب الثاني: محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث 1936-2017 (عام 2017)
دار النشر: دار دجلة، عمان - الأردن
الحلقة الأولى
صدر للكاتب والحقوقي العراقي الأستاذ هاشم الشبلي كتابين في عامي 2016 و2017. وهما كتابان قيّمان يبحثان في وقائع وأحداث ونضالات ونجاحات وفواجع ونكبات العراق الحديث، العراق الملكي وعراق الجمهوريات الخمس المتتالية. كما أن الكتابين يكملان أحدهما الآخر. في الكتاب الأول، الذي يطرح فيه الكاتب مذكراته الشخصية، يمر بسرعة نسبية على الكثير من الأحداث التي عاصرها وعاش مراراتها، ليعود في كتابه الثاني ليركز على أهم تلك الأحداث وأكثرها مأساوية للشعب العراقي كله أو لأجزاء منه، ومنهم الفئة المثقفة التي عانت بدورها وعاشت مخاضات أحداث العراق العصية على الفهم أحياناً لمأساويتها وحجم الفواجع فيها من موت واسع ودمار شامل وخراب ورثاثة، تلك الأحداث المريرة التي تسببت بها النظم السياسية العراقية غير الديمقراطية والاستبدادية، وكذلك دور المجتمع الإقليمي والدولي في التسبب بها أو إشعال فتيل حروب العراق. يصعب فصل الكتابين عن بعضهما، وبالتالي لا بد من قراءة متفاعلة مع الكتابين وبتكثيف شديد.
هاشم الشبلي شخصية حقوقية وسياسية ذات وعي ونهج ديمقراطيين عميقين، نهل من تاريخ العراق الحضاري والفكر النضالي فيه، ومن معين الفكر التقدمي والديمقراطي العالمي، والتزم بهما وبالعدالة الاجتماعية والسلام في مسيرته السياسية المديدة، هذه المسيرة التي بدأت عملياً مع بداية الخمسينيات من القرن العشرين واستمرت حتى الوقت الحاضر، وأتمنى له المواصلة والصحة والعافية وطول العمر.
شارك هاشم الشبلي في نضالات شعبه قبل ثورة تموز 1958 وما بعدها وعانى، هو وأفراد عائلته، الكثير من المشقات والسجون والتعذيب، دون أن يصيبه اليأس أو الإحباط، وحافظ على علاقته الوطيدة بالشعب وأهدافه وطموحاته من جهة، وبالأرض التي ولد عليها وعاش مع عائلته الكريمة والمناضلة ومع اقرانه فيها وتحمل وزر انتماءاته السياسية الوطنية والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والدولة المدنية العلمانية. لم أتعرف عليه عن قرب، ولكني عرفته من خلال اربع وقائع:
أولاً: مقالاته التي كان ينشرها في أعقاب سقوط الدكتاتورية البعثية والصدامية الغاشمة التي تسنى لي قراءتها والاستفادة منها، والتي يمكن العثور عليها في موقع الحوار المتمدن.
ثانياً: نهجه الديمقراطي المستقل وسياساته ومواقفه المميزة حين أصبح وزيراً للعدل في ثلاث وزارات بين 2004-207 ممثلاً عن الحزب الوطني الديمقراطي.
ثالثاً: عبر أحاديثي مع شخصيات ديمقراطية صديقة له، منهم الدكتور عبد الأمير العبود وأستاذي الفاضل نجيب محي الدين والدكتور الطيب الذكر مهدي الحافظ، إضافة إلى ما ورد عنه في كتاب الأستاذ نصير الچادرچي الموسوم "مذكرات نصير الچادرچي" الصادر في العام 2017 عن دار المدى ببغداد والذي تسنى لي الكتابة عنه.
رابعاً: من خلال الكتابين اللذين اسعى لممارسة قراءة نقدية موضوعية لهما والتي اعطتني الكثير من المعلومات المهمة عن شخصيته وأفكاره وممارساته الديمقراطية في مختلف مراحل حياته ومواقفه السياسية.     
إن قراءتي للكتاب الأول منحني الثقة بأني أمام كاتب يتسم بالصدقية التامة وبوضوح الرؤية والفكر المستقل القادر على اتخاذ الإجراء والموقف المناسب مهما كانت الأوضاع الحرجة التي يمر بها أو يواجهها، إضافة إلى قناعته العميقة بقدرة الشعب العراقي، رغم كل المرارات التي يعيش تحت وطأتها، على يتجاوزها يوماً، ويغذ السير لبناء العراق الديمقراطي والتقدمي والعلماني الجديد. يتلمس القارئ ذلك من خلال صفحات الكتابين والتي سأحاول تناولهما معاً، رغم صعوبة ذلك. كان بإمكان الكاتب أن ينجزهما في كتاب واحد، ولكن الحصيلة ستكون على حساب المضامين الواسعة للأحداث في الكتاب الثاني الموسوم "محطات سوداء.." أو أن يصبح الكتاب الأول كبيراً جداً بحيث يصعب طبعه في كتاب واحد، وحسناً فعل.   
يتضمن الكتاب الأول ثلاثة عشر فصلاً بدءاً من الولادة ومروراً بالدراسة وبواكير العمل السياسي، فثورة تموز 1958، ثم الانقلابات السياسية والعسكرية المتتالية، فالنظم الاستبدادية والحروب، والحصار والدمار واحتلال العراق، الذي انتهى إلى إقامة نظام سياسي طائفي ومحاصصة طائفية مقيتة بالبلاد. أما الكتاب الثاني الموسوم "محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث 1936-2017"، وجاء الكتاب في اثني عشر فصلاً، بدءاً من تأسيس الدولة العراقية الملكية الدستورية، ومروراً بالانقلابات المتتالية تفصيلاً، ثم الحروب المتتالية والاحتلال الدولي للعراق بقيادة الولايات المتحدة، والحكومات التي تشكلت خلال الفترة الواقعة بين إسقاط الدكتاتورية الغاشمة واجتياح داعش للموصل ونينوى، فالحشد الشعبي العقائدي، وأخيرا معنى أو مفهوم الوطنية الحقيقية مع مجموعة من الوثائق والصور.
ولد الأستاذ هاشم الشبلي في عائلة بغدادية عريقة برز فيها العديد من الشخصيات الفنية والديمقراطية المعروفة في الأوساط العراقية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الفنان المسرحي، الممثل والمخرج، حقي الشبلي وشقيق الكاتب الأستاذ المناضل قاسم الشبلي. تهيأت للجيل العراقي الذي ولد في الثلاثينيات من القرن الماضي، وأنا منهم، فرصة العيش في العقدين اللاحقين بشكل خاص أحداثاً كبيرة، منها نهوض النازية والفاشية والعسكرية وإشعال الحرب العالمية الثانية وانهيار مشعليها في العام 1945 ثم بروز المنظومة الاشتراكية على الصعيد العالمي. كما توفرت المزيد من الكتب الحديثة والروايات الديمقراطية والاجتماعية لكتاب بارزين عربياً وعالمياً مثل سلامة موسى وجورج حنا وشبلي شميل وجون شتاينبك وهمنغواي وتولستوي ودستويفسكي وغوغول وغيرهم، التي ساهمت كلها في نشر الوعي التقدمي وفي توفير الأجواء المناسبة لتبلور وبروز حراك سياسي متميز للقوى الديمقراطية العراقية منذ العام 1946، بعد ركود نسبي في أعقاب انقلابين عسكريين بقيادة بكر صدقي العسكري ( من مواليد مدينة عسكر) في العام 1936 وانقلاب رشيد عالي الگيلاني في العام 1941، والذي تجلى في انطلاقة الوثبات والانتفاضات المتتالية لمواجهة سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي والتي غيبت الحياة الديمقراطية والحريات العامة وانخراطها في الأحلاف العسكرية. في هذه الفترة بالذات، حيث كان عمر هاشم الشبلي قبل بلغ الثالثة عشر سنة، حين حصلت وثبة كانون الثاني 1948 التي رفضت الأحزاب الوطنية والديمقراطية والقومية، العلنية منها، مثل الحزب الوطني الديمقراطي وحزب استقلال، والأحزاب السرية، الحزب الشيوعي وحزب الشعب وشخصيات مميزة مثل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والشخصية الديمقراطية التقدمية عبد الفتاح إبراهيم.. الخ، استبدال معاهدة 1930، التي أطلق الشعب العراقي عليها بـمعاهدة "الاسترقاق"، بمعاهدة بورتسموث، في فترة رئاسة صالح جبر لمجلس الوزراء. وقد شارك الصبي هاشم الشبلي بها، والتي ساهمت في بدء تفتح وعيه السياسي المبكر. وقد كان للدماء التي سالت والرصاص الذي لعلع من بنادق الشرطة في مواجهة المتظاهرين دورها في إدراك طبيعة الحكم القائم بالعراق.

تميزت الفترة الواقعة بين 1948-1952 بنشاط سياسي وثقافي واسعين، إذ يشير في كتابه الأول إلى ذلك بقوله: "كانت تلك الحقبة تمور بنشاط سياسي وفكري وثقافي واسع، تقوده وتحركه الأحزاب الديمقراطية واللبرالية والقومية وفي مقدمتها (الحزب الوطني الديمقراطي) و(الحزب الشيوعي العراقي) و (حزب الاستقلال)، وكانت جريدة (الأهالي) الناطقة باسم -الحزب الوطني الديمقراطي) في مقدمة الصحف التي توجه النقد الشديد لسياسات الحكومات المتعاقبة وتطالبها بإطلاق الحريات العامة وإطلاق سراح المعتقلين والإفراج عن السجناء والسماح بتشكيل النقابات والمنظمات المهنية والعمالية وتحقيق الديمقراطية وإيجاد فرص عمل للعاطلين وخاصة المثقفين منهم." ثم يشير هاشم الشبلي أيضاً إلى مساهمة "نشرات (الحزب الشيوعي) السرية بنقد سياسات السلطة ومطالبتها بإطلاق الحريات العامة والإفراج عن السجناء ومعالجة الأوضاع الاقتصادية التي كانت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم". (الكتاب الأول ص 39). فكان من نتائج ذلك، وإصرار الحكم على سياساته الرجعية المعبرة عن مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين ومصالح بريطانيا بالعراق إن انطلقت انتفاضة 1952 التي أجبرت النظام على وضع شخصية عسكرية على رأس السلطة هو الفريق نوري الدين محمود وإعلان الأحكان العرفية (الطوارئ) بالبلاد واعتقال الالاف من المناضلين في سائر أنحاء العراق وزجهم في المعتقلات وإصدار الأحكام القاسية بحق المئات منهم.
كان تنامي الحس الوطني والديمقراطي لدى الشاب هاشم الشبلي قد دفعه إلى الارتباط بالحزب الشيوعي العراقي والانتماء له، إذ رفض من دعاه لدخول حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان قد تأسس في العام 1952 ببغداد، إذ كتب يقول: ..، لأنني لم أقتنع بما قرأت من أدبيات الفكر القومي، ووجدته هشاً وضبابياً، وتجاوبت مع الفكر الماركسي والديمقراطي التقدمي،.." (الكتاب الأول ص 41).
وخلال الفترة الواقعة بين 1936-1952 وقعت مجموعة من الأحداث التي يمر عليها الكاتب في كتابه الأول ويبحث فيها في كتابه الثاني، منها انقلاب 1936 وانقلاب 1941 والفرهود ضد اليهود في العام 1941 ومن ثم تقسيم فلسطين والاعتراف بإسرائيل في العام 1947 وحرب فلسطين عام 1948، وقرار إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين في العام 1950 وعواقبه. وسنحاول أن نتناول بعضها فيما يلي:

انقلاب بكر صدقي
يتوقف الكاتب جيداً ويبحث بعمق في أسباب انقلاب بكر صدقي. ففي العام 1936 وقع انقلاب عسكري قاده الفريق بكر صدقي العسكري وبالتعاون والتنسيق مع حكمت سليمان وجماعة الأهالي وجمعية الإصلاح الشعبي. وكانت أفكار جماعة الأهالي (1932)، ومن ثم الإصلاح الشعبي (1934) تنتمي جزئياً إلى الاشتراكية الديمقراطية الإصلاحية، وذات برنامج تقدمي مشترك لخصت فيه الأهداف والمهمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تسعى إلى تحقيقها. وكان حكمت سليمان عضواً في هذا الجماعة. وكان هذا الانقلاب أول تدخل فعلي لفصيل من القوات المسلحة في الحياة السياسية العراقية وبالتعاون مع جماعة وطنية وديمقراطية عراقية مثل جعفر أبو التمن وكامل الچادرچي وعبد الفتاح إبراهيم. وإذ رفض في البداية كل من محمد جعفر أبو التمن وعبد الفتاح إبراهيم استخدام القوات المسلحة للوصول إلى السلطة، إلا إن محمد جعفر أبو التمن قد تراجع عن موقفه ووافق المشاركة في الانقلاب، في حين استمر عبد الفتاح إبراهيم رافضاٌ مبدئياً وعلياً وبإصرار مشاركته ومشاركة الجماعة في تنفيذ الانقلاب، باعتباره خرقاً للدستور وتجاوزا على الديمقراطية ومهمات القوات المسلحة العراقية، إضافة إلى إنها بادرة ستجر بعدها انقلابات أخرى، وكان على حق كبير. علماً بأن حكومة ياسين الهاشمي حينذاك لم تمارس سياسة ديمقراطية بل "ارتكبت أخطاء أساءت إلى الحكومة كالفساد واستغلال النفوذ ورعاية المنافع الخاصة وتفشي المحسوبية والرشوة وإهمال مصالح الشعب واستخدام القوة المفرطة في قمع احتجاجات العشائر المطالبة بحقوقهم وتمرد الآشوريين وزج الجيش في قمع الاضطرابات الداخلة وملاحقة الصحافة والأحزاب والنقابات بإجراءات مخالفة للقانون، لهذه الأسباب فقد عمّ الاستياء والتذمر والملل من الحكومة." (الكتاب الثاني، ص 24). ومع ذلك لم يكن الانقلاب طريقاً سليماً لتغيير الأوضاع. وهو الدرس الذي استفاد منه فيما بعد السياسي العراقي الكبير كامل الچادرچي. لقد شارك في حكومة الانقلاب التي ترأسها حكمت سليمان أربعة من جماعة الأهالي بضمنهم أبو التمن والچادرچي. إلا إن الحكم الفعلي لم يكن بيد الحكومة بل بيد بكر صدقي العسكري، إذ يشير الكاتب "وقد أساء بكر صدقي للشعب وللبلد حيث فرض سيطرته وأساء استعمال السلطة وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد"، مما أدى إلى رفض هذه السياسات من قبل القوى الديمقراطية ومن جماعة الأهالي المشاركة في الحكم ومن أوساط عسكرية وشعبية واسعة، إضافة إلى مقاومة أجزاء من الفئات الحاكمة، مما استوجب استقالة وزراء جماعة الأهالي. وقد سقط النظام بعد اغتيال قائد الانقلاب بكر صدقي بالموصل في العام 1937. يشير الأستاذ هاشم الشبلي إلى سياسة بكر صدقي بقوله "ومن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الفريق بكر صدقي هو قتل الفريق جعفر العسكري ( وهو من نفس مدينة عسكر التي ولد فيها بكر صدقي العسكرين، ك. حبيب) وزير الدفاع عندما حاول الأخير إيقاف زحف قوات الانقلابيين إلى بغداد حيث اتصل بقائد الانقلاب بكر صدقي وأبلغه بأنه يحمل رسالة من الملك غازي ووزير الخارجية نوري السعيد، إلا إن بكر صدقي وقبل أن يستلم الرسالة أرسل من يقتل العسكري فجردوه من سلاحه وقتلوه، وبهذا فقد ألَّب الفريق بكر صدقي الجيش عليه لأن جعفر العسكري كان شخصية متوازنة وحبوبة ومسالمة ومن مؤسسي الجيش والدولة الحديثة." (المصدر السابق نفسه، ص 25). كما أنه قد مارس ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث نهج: الاستبداد والعداء للقوى اليسارية وخاصة الشيوعيين والديمقراطيين، وأسقط لأول مرة أيضاً الجنسية عن شخصيات شيوعية عراقية معروفة عبد القادر إسماعيل وأخيه يوسف إسماعيل وإبعادهما على خارج العراق. ويؤكد الكاتب، وهو شخصية حقوقية ووزير عدل سابق، بأن بكر صدقي قاد "أول انقلاب ضد الشرعية وضد الدستور والقوانين المرعية وضد القيم والمبادئ الديمقراطية التي تستلزم أتباع الطرق والأساليب الديمقراطية والسياسية عند المطالبة بالتغيير.." (الكتاب الثاني، ص 26)، وهو يرفض العنف والقوة للاستيلاء على السلطة.   

انقلاب رشيد عالي الگيلاني   
عالج الأستاذ هاشم الشبلي بتوسع مناسب انقلاب الأول من مايس/أيار 1941 من حيث العوامل والأسباب التي دعت إلى هذا الانقلاب، والصراعات التي كانت تدور بين قوى المعارضة السياسية والفئات الحاكمة والبلاط الملكي، وانحياز الحكومة في الحرب التي نشبت بين دول المحور والحلفاء الثلاث (المانيا وإيطاليا واليابان) من جهة، والدول الأوروبية المتحالفة مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية، إلى جانب التحالف الدولي المناهض لدول المحور، مؤكدا إن الخلاف قد انصب على ثلاثة عوامل:
1) رغبة المعارضة في ألّا يزج العراق في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل؛ و2) رفض إملاءات الدولة البريطانية على الحكومة العراقية وتزايد مطالبها في وضع القواعد العسكرية البريطانية في خدمة الحرب ضد دول المحور؛ و3) تزايد النقمة الشعبية ضد الحكومات العراقية المتعاقبة بسبب تعاونها مع الحكومة البريطانية. لا شك في أن هذه التكثيف للمسألة سليم من حيث مجرى الأحداث بالعراق حينذاك. إلا إني أختلف بعض الشيء مع الأستاذ هاشم الشبلي في تشخيص الموقف وموقف أكثر القوى المعارضة حينذاك، والتي تمثلت بمجموعة القوى القومية العربية العراقية، إذ إن ما ذكره من الأسباب بقدر ما هي صحيحة ليست كافية للتعبير عما حصل بالعراق حينذاك. فعلى وفق قناعتي ودراستي المستفيضة لحيثيات الانقلاب وقواه الفعلية وعلاقاته الداخلية والخارجية، أوكد فعل عوامل أخرى لتنفيذ الانقلاب المذكور، وألخص رأيي بما يلي:
كان القوميون العراقيون العرب حتى ذلك الحين ينتظمون في نادي المثنى الثقافي، ولكنهم كانوا يتحرون عن فرصة مناسبة لتشكيل تنظيم حزبي سري يساعدهم على تحقيق الأهداف التي كانوا يسعون إليها. وراودت هذه الفكرة أذهان العسكريين والمدنيين الذين قادوا الحركة فيما بعد، وخاصة صلاح الدين الصباغ، محمد يونس السبعاوي ومحمد حسن سلمان منذ عام 1937. (راجع: عبد الله الجيزاني، حزب الاستقلال العراقي 1946-1958 التجربة الفكرية والممارسة السياسية. الطبعة الأولى 1994. ص 42). وتكرست هذه الرغبة أكثر فأكثر منذ مجيء الحاج أمين الحسيني، مفتي الديار الفلسطينية، ومجموعة من الفلسطينيين الذين أجبروا على مغادرة فلسطين، إلى بغداد. وتحت تأثيره ودوره المباشر وتأثير الوضع المتأزم بفلسطين حينذاك اتخذت حركة القوميين العرب مساراً جديداً بعدة اتجاهات أساسية، وهي:
1.   تشكيل لجنة للتعاون مع البلدان العربية التي ضمت في عضويتها "رشيد عالي الگيلاني وناجي شوكت وناجي السويدي ويونس السبعاوي والعقداء الأربعة والعقيد إسماعيل حقي من العراق، وشكري القوتلي وعادل أرسلان وزكي الخطيب من سورية، ويوسف ياسين وخالد الهود من العربية السعودية". (راجع: عبد الرزاق الحسني، الأسرار الخفية في حركة السنة 1941 التحررية، ص 9). وهي لجنة علنية اعتبرت قاعدة لنشاطها العلني بين الأوساط العراقية ولتعزيز تحركها الشرعي على الأقطار العربية الأخرى.
2) تأمين غطاء حزبي سري ينظم ويوجه العملية السياسية بالعراق لصالح أهداف الجماعة. وفي ضوء ذلك تقرر في شهر شباط من عام 1941، وقبل تسلم رئاسة الوزراء من قبل رشيد عالي الگيلاني، تشكيل حزب سياسي سري باسم حزب الشعب، كما منح كل عضو في هذا الحزب اسماً حزبياً سرياً. (المصدر السابق نفسه، ص 109). وأعطيت القيادة لمفتي الديار الفلسطينية الحاج أمين الحسيني (مصطفى)، كما كان في عضويته كل من رشيد عالي الگيلاني (عبد العزيز) وصلاح الدين الصباغ (رضوان) ويونس السبعاوي (فرهود) وفهمي سعيد (نجم) ومحمود سلمان (فارس) وناجي شوكت (أحمد). (ناجي شوكت. سيرة وذكريات…. الجزء الثاني. مكتبة اليقظة العربية.  بغداد. 1990. ص433/434 و510-514). 
 وضم الحزب أيضاً المجموعة التالية من الأعضاء: محمد علي محمود وداود السعدي ومحمد حسن سلمان وعثمان حداد. وكانت المجموعة، التي أقسمت اليمين على الإخلاص للقضية التي تناضل من أجلها وللحزب الذي أسسته سراً حتى النهاية، تجتمع باستمرار لاتخاذ القرارات المناسبة، وهي التي قررت تنفيذ الانقلاب الذي وقع في الأول من مايس عام 1941. وشكل الحزب القومي السري جناحاً عسكرياً ضم في عضويته صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وغيرهم. (عبد الله الجيزاني، مصدر سابق، ص 42). وهي أول بادرة في حزب مدني عراقي يشكل جناحاً عسكرياً فيه. ولا شك في أن جماعة الأهالي قد ربطت بها بعض العسكريين من قادة الانقلاب، ولكنها لم تشكل منهم جناحاً عسكرياً تابعاً للحزب. كما إن الحزب الشيوعي العراقي كان يضم في صفوفه ضباطاً وجنوداً، ولكنه لم يشكل حينذاك تنظيماً عسكرياً خاصاً وتابعاً للحزب، رغم وجود دعوات لتشكيل مثل هذا التنظيم ومنه الرفيق زكي خيري، عضو اللجنة المركزية حينذاك. وجدير بالإشارة إلى أن المجموعة المدنية من هذه التشكيلة القيادية والأعضاء، وهم رشيد عالي الگيلاني، ناجي شوكت، علي محمود الشيخ علي، يونس السبعاوي، محمد علي محمود، داود السعدي، والدكتور محمد حسن سلمان، قد قدمت طلباً رسمياً في أعقاب القرار السري الذي اتخذ بتشكيل الحزب ولجنته السرية، أي بتاريخ 27 آذار/مارت من عام 1941، إلى وزارة الداخلية لتكوين حزب سياسي باسم "حزب الشعب" قبل استقالة وزارة العميد طه الهاشمي دون أن يجاب الطلب. (راجع: عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، الجزء الخامس، ص 194). ويلاحظ بأن الأسماء التي غابت عن طلب التأسيس الرسمي هي الجماعة العسكرية والمفتي الحاج محمد أمين الحسيني، أي احتفظوا بالكادر العسكري سرياً.
3) وعلى غرار كتائب الشباب الهتلرية عمد قادة حزب الشعب السري أو اللجنة السرية، وفي خضم تنامي السيطرة على السلطة، إلى تأسيس "كتائب الشباب" لتأخذ على عاتقها تعبئة الشباب وراء الحركة ودعم حكومة الگيلاني ومساعدتها في قبول متطوعين لمواجهة التعبئة العسكرية البريطانية وعملياتها العسكرية بالعراق، وضمان تقديم المساعدة لأسر الشهداء والجرحى. "وكان نواة كتائب الشباب، كما يشير إلى ذلك السيد عبد الجبار حسن الجبوري وفق الوثائق المتوفرة، طلاب كليتي الحقوق والطب ودار المعلمين" وكان يشرف على هذه الكتائب "محمد درويش المقدادي (الرئيس) وإبراهيم شوكت وواصف كمال وسليم محمود الأعظمي وعبد الرحمن البزاز وعباس كاشف الغطاء وحسن الدجيلي وعبد الكريم كنونة وعبد المجيد القصاب". (عبد الجبار حسن الجبوري، الأحزاب والجمعيات السياسية في القطر العراقي 1908-1958. مصدر سابق. ص 106). وقامت الحكومة بإرسال ضابط عسكري للقيام بتدريب أفراد الكتائب، وهو الرئيس الأول سامي عبد القادر.   
4) انتهاج سياسة مناهضة بالكامل لبريطانيا وحرمانها قدر الإمكان من تعاون العراق معها في الحرب ضد ألمانيا ودول المحور الأخرى، (الصباغ، صلاح الدين، فرسان العروبة، ص 130/131)، رغم أنها كانت تشير في أدبياتها العامة إلى ضرورة المحافظة على العلاقات التقليدية الطيبة مع بريطانيا. وفي الوقت ذاته إقامة الروابط المستمرة مع ألمانيا وإيطاليا واليابان لصالح استقلال الدول العربية ووحدتها. وكان الحاج أمين الحسيني قد أقام قبل ذاك علاقات سياسية مع ألمانيا وساهم في إرسال صحفيين عرب يشاركون في العمل في إذاعة برلين الهتلرية الموجهة ضد الحلفاء ومن أجل تحريض العرب لدعم ألمانيا، إضافة إلى تحريض العرب ضد النظم السياسية القائمة فيها، وخاصة ضد تلك الدول المتحالفة مع بريطانيا وضد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا وإيطاليا بناء على طلب بريطانيا. (راجع: نجم الدين السهروردي، التاريخ لم يبدأ غداً، حقائق وأسرار عن ثورتي رشيد عالي الگيلاني 41 و58 بالعراق، ط 2، شركة المعرفة، بغداد_ 1989، ص 220).
5) ربط المصلحة العراقية بالمصلحة الفلسطينية والانطلاق منها في تحديد سياسة العراق إزاء بريطانيا.
6) العمل على تسلم السلطة بالعراق وإزاحة المتعاونين مع بريطانيا كلية. 
ويشير ناجي شوكت إلى ما يلي: "وقد أقسم أعضاء اللجنة السرية السبعة على أن يعملوا كل ما في وسعهم من قوة وإيمان خالص لإنقاذ العراق وسائر البلدان العربية من الاستعمار وأذناب الاستعمار، وتحقيق الاستقلال لها على أن تراعي ما يلي:
1.   المحافظة على الوضع الراهن، وعدم التعرض للمعاهدة العراقية - البريطانية في الوقت الحاضر، حتى ينجلي الموقف نتيجة تطور الأحداث العالمية، والسير في الأمور بروية وتبصر.
2.   إذا كان لا بد من قطع علاقات العراق السياسية بإيطاليا، فيجب أن يستند القرار في ذلك إلى موافقة مجلس النواب بحرية كاملة.
3.   يجب السعي لإبعاد أذناب الاستعمار وعملاء الإنكليز، أمثال نوري السعيد، وجميل المدفعي، وعلى جودت، وأمثالهم إلى خارج العراق بتعيينهم كسفراء في لندن، وواشنطن، والقاهرة، وغيرها، وذلك للتخلص من شرورهم في هذه الحرب الطاحنة.
4.   تعديل الدستور العراقي في أول فرصة ممكنة لتحديد صلاحيات الوصي واستصواب أحلال مجلس وصاية بدلاً منه". (ناجي شوكت، سيرة وذكريات، الجزء الثاني، مصدر سابق. ص 434/435).
وقد أضاف صلاح الدين الصباغ أهدافاً أخرى لمهمات اللجنة السرية للحزب السري، كما وردت في كتابه المعروف "فرسان العروبة"، والتي اعتبرها ناجي شوكت قضايا غير جوهرية. ويؤكد صلاح الدين الصباغ إلى أن القرار الذي تضمن النص التالي: "لما كان الإنكليز قد أقدموا بتشجيع أذنابهم على فرض مطالب مجحفة تتوخى زج العراق في الحرب، وإرغام باقي الأقطار العربية على السكوت وعدم المطالبة بحقوقها، فأن عزم طه (والمقصود طه الهاشمي، ك. حبيب) على قطع العلاقات السياسية مع إيطاليا بصورة فجائية وبدون استشارة المجلس النيابي أو الجيش لن يرضي الإنكليز، ولن يقعدهم عن تحقيق غاياتهم كاملة. لذلك، فأن الإنكليز سيعملون على إقصاء قادة الجيش المخلصين، ليسيطروا عليه ومن ثم ينقاد العراق لهم كما يشاءون". (صلاح الدين الصباغ، فرسان العروبة، مذكرات الشهيد العقيد الركن صلاح الدين الصباغ. تقديم ومراجعة سمير السعيدي. ط1، تانيت للنشر، الرباط، المغرب، 1994، ص 267).
وبصدد الملك غازي فان المعلومات المتوفرة لا تشير إلى إنه كان عنصري النزعة أو نازي الفكر أو مناهض لليهود العراقيين. ولكن ربما كرهه الشديد للإنجليز هو الذي كان قد دفعه للتنسيق مع أعداء بريطانيا والنخبة الحاكمة العراقية المتعاونة والمساندة للوجود البريطاني بالعراق. وعلينا هنا أن نشير إلى التعاون بين يونس بحري، وهو ضابط بدرجة رائد في الـ "أس أس   „SSباسم يوحنا بحري، وبين الملك غازي قد استند إلى موقف الملك غازي من مسألتين أساسيتين هما:
أ‌.   كراهية الملك غازي للبريطانيين باعتبارهم مستعمرين للعراق ومسيطرين ومتحكمين بسياسة البلاد من جهة، وإنهم لم يلتزموا بما وعدوا به العرب وجده الحسين بن علي شريف مكة بتحقيق الوحدة وإقامة الدولة العربية الواحدة من جهة أخرى، إضافة إلى استعمارهم للكويت ومطالبته الصريحة بكون الكويت جزءاً من ولاية البصرة التي هي جزء من العراق. وقد تبنت إذاعته في قصر الزهور هذه المواقف من جهة ثالثة، وربما كان يعتقد بأن البريطانيين قد أجهزوا على والده في سويسرا حين كان تحت المعالجة الطبية من جهة رابعة.
ب‌.   ويحتاج أمر آخر إلى مزيد من التحري والتدقيق في الوثائق الألمانية والبريطانية حول مدى العلاقة التي كانت احتمالاً تربط بين الملك غازي بالألمان عبر يونس بحري وصحيفته "العقاب" التي نسق إصدارها مع غوبلز منذ العام 1931 وعاد لهذا الغرض إلى العراق وبمهمة محددة. وهل كانت هناك علاقة تنسيقية بين يونس بحري والوزير المفوض الألماني فرتز غروبا مع الملك غازي بشأن الموقف من بريطانيا. علماً بأن فرتز غروبه قد لعب دوراً كبيراً في تعزيز العلاقات بين نادي المثنى ومن ثم حزب الشعب بالنظام النازي بألمانيا وإرسال الكثير من فرق الكشافة إلى المانيا ودعوة المحاضرين لإلقاء محاضرات في نادي المثنى.
كما لا بد من الإشارة إلى أن يونس بحري كان قد عين مسؤولاً عن الجواسيس الألمان من العرب الذي يرسلون إلى الدول العربية للتجسس على القوات البريطانية وعلى أوضاع البلاد العربية وقواها السياسية. لقد كان ليونس بحري ثلاثة مسؤولين عملياً من قيادة النظام النازي الأول هو غوبلز المسؤول عن الدعاية النازية، والثاني هو المسؤول عن جهاز الأمن الألماني الـ "أس أس" هاينريش هملر، والثالث هو المسؤول عن "الغستابو" هيرمان غورينغ.
وباختصار شديد فأن الحركة القومية العربية كانت حينذاك ذات طابع يميني متشدد ومتأثرة بالفكر النازي القومي الذي روج له بعض السياسيين القوميين من خلال وجودهم المشتركة في نادي المثنى بن حارث الشيباني، الذي تأسس عام 1935 ببغداد، ومنهم ساطع الحصري وسامي شوكت وأبرز الشخصيات التي كانت تعمل في نادي المثنى. وإذا كان سامي شوكت قد أهتم بشكل خاص في الجانب العملي، فأن ساطع الحصري قد أبدى اهتماماً أكبر بالتثقيف الفكري، إذ ألقى سلسلة من المحاضرات حول القضايا القومية والوطنية والموقف من الكوسموبوليتية، ومن ثم من الأممية ومعاداته للأممية والشيوعية والفكر الاشتراكي. وقد استقى، كسلفه سامي شوكت، الكثير من أفكاره من ترسانة الفكر القومي الألماني ومن فكر الفيلسوف الألماني "يوهان غوتليب فيخته (1762–1814)" على نحو خاص، واعتمد على الأول في تبيان أهمية القومية والتعصب القومي. ففي محاضرة له برّز وقيَّم عالمياً أفكار فيخته بهذا الصدد حيث كتب يقول: "إن خُطب فيخته تنم عن روح وطنية متأججة، وتدعو إلى نزعة قومية متعصبة. ولا سيما الخطبة الختامية، فأنها تعتبر آية من آيات التحميس والاستنهاض: يوجه فيخته في خطبته هذه بعض الكلمات إلى الشباب، ثم إلى الكهول. ثم إلى رجال الدولة والمفكرين والأدباء، وأخيراً إلى الأمراء، مصدراً كل واحدة من هذه الكلمات بقوله: "إن خطبي تستحلفكم وتبتهل إليكم …". وبعد ذلك يضطرم حماسه فيقول لهم جميعاً: "إن أجدادنا أيضاً يستحلفونكم معي ويضمون صوتهم إلى صوتي"، ويأخذ في تصوير صوت الأجداد بأسلوب حماسي جذاب. ثم يعقب ذلك بقوله: "أن أخلافكم أيضاً يتضرعون إليكم …". (الحصري، أبو خلدون ساطع. الأعمال القومية لساطع الحصري. القسم الأول. في ثلاثة أقسام. مركز دراسات الوحدة العربية. سلسلة التراث القومي. الطبعة الثانية: بيروت. 1990. ص 49). ثم ينهي ساطع الحصري خطبة فيخته بالمقتطف التالي: "… ولو تجاسرت، لأضفت إلى كل ما تقدم، قائلاً: "إن القدرة الفاطرة أيضاً تستحلفكم وتستنهضكم. لأنه لم يبق على وجه الأرض أمة حافظت على بذور قابلية التكامل البشري بقدر ما حافظت عليها أمتكم المجيدة فإذا سقطت الأمة الألمانية، سقط معها الجنس البشري، ولا يبقى له أدنى أمل في السلامة". (المصدر السابق نفسه). وكان هذا هو الفكر الذي يروج له ساطع الحصري ليقترب من نفس الفكر الذي تحدث به ألفريد روزنبيرغ، مفكر وفيلسوف النازية وموجه الدولة الهتلرية فكريا، الذي تجلى في كتابه الشهير الموسوم "الدم والشرف - نضال من أجل إعادة بعث ألمانيا-" الصادر في ألمانيا/ ميونيخ في عام 1934، وهي عبارة عن خطب ألقاها في الفترة الواقعة بين 1919-1933. 
، (Rosenberg Alfred. Blut und Ehre. Ein Kampf fuer deutsche Wiedergburt. Reden und Aufsaeze von 1919-1933. Zentralverlag NSDAP).،Frz. Eber Nachf.،Muenchen. 1934.
كما أنها تصب في بعض الاتجاهات الفكرية التي دعا لها نيتشه وهيردر وتشمبرلن في ألمانيا. وهي الأفكار التي تبنتها المجموعة القومية النازية بالعراق، ومجموعة غير قليلة من تلك القوى التي شاركت في حركة شباط-مايس 1941 أيضاً، إذ لم يكن كل من شارك في هذه الحركة من أتباع أو مؤيدي الفكر النازي الألماني أو الفاشي الإيطالي على الصعيدين العراقي والعربي. ومن كتاب ألفريد روزنبيرغ المشار إليه وكتاباته الأخرى استقى ميشيل عفلق، وبقية القيادة البعثية حينذاك، فكرة واسم حزب البعث العربي الاشتراكي وشعاراته الأساسية مثل "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" و"شعب واحد، وطن واحد، وجيش واحد"، وكذلك الدعوة إلى "الاشتراكية الوطنية" النازية، التي سميت في العالم العربي بالاشتراكية العربية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن يونس السبعاوي، الذي كان على اتصال وثيق بنادي المثنى, كان من بين المعجبين بتجربة هتلر ونشاطه ومواقفه من رجال المعارضة والمخالفين له في ألمانيا, كما قام بترجمة كتاب هتلر المعروف "كفاحي" إلى العربية عن الإنكليزية لأول مرة في البلاد العربية. ثم بدأ بنشره على شكل مقالات متسلسلة في جريدة العالم العربي ابتداءً من تشرين الأول/نوفمبر 1933. (راجع: العمري, خيري، يونس السبعاوي سيرة سياسي عصامي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، سلسلة الأعلام المشهورين 12، دار الرشيد للنشر، بغداد. 1980. ص 41).  وكتب في مقدمة هذه المقالات ما يلي: "… الهتلرية حركة تشغل العالم اليوم , أظهرها في ألمانيا الضيق ونشاط الشبان , فكانت حركة قوية اندفعت بين صعاب عظيمة فشقت طريقها واستطاعت أن تأخذ بزمام الأمور في البلاد. وجدير بالعالم ولاسيما في بلادنا أن يعرف كنه هذه الحركة ومراميها , ونحن لا نجد محدثاً صادقاً عنها مثل موجدها وحامل لوائها أدولف هتلر زعيم ألمانيا اليوم , ونحن نعرب لقراء الكتاب الذي وضعه عن مبادئه وكفاحه...". (المصدر السابق نفسه). ولنتذكر أيضاً بأن يونس السبعاوي أطلق على نفسه اسم (فرهود) السري كاسم حزبي له في حزب الشعب، وهو الفرهود الذي حصل في العام 1942 ضد المواطنين والمواطنات العراقيين من اليهود.   
ويفترض الإشارة في هذا الموقع إلى أن أغلب القوى السياسية الديمقراطية العراقية لم تشجب في حينها الانقلاب العسكري الجديد بسبب كراهيتها للاستعمار البريطاني وسياسات الحكومة البريطانية بالعراق، بل أيدته، إذ لم تتوفر في حينها المعلومات الكافية عن العلاقات التي نشأت حينذاك بين الجماعة القومية العربية بالعراق والنظام النازي بألمانيا، علماً بأن الحزب الشيوعي العراقي قد اتخذ موقفاً أخر وقدم مذكرة إلى حكومة رشيد عالي الكيلاني بسبب السياسات القومية المتشددة التي اتخذت في حينها، ولاسيما ضد اليهود. لقد كان نوري السعيد حينذاك رئيساً للوزراء وكان حليفاً مخلصاً لبريطانيا يستند في ذلك لا إلى عمالة مباشرة لها بقدر ما كان يلتقي معها في الفكر والسياسةً والمصالح، رغم أن المستفيد الأول من كل ذلك كانت بريطانيا والمتضرر الرئيسي في مثل هذا التحالف والطريقة التي كانت تتم بها هو الشعب العراقي. واتخذ نوري السعيد موقفاً محدداً من الحرب مناهضاً لدول المحور، أي ضد ألمانيا ومن ثم إيطاليا واليابان من جهة، ومسانداً لبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى. وفي هذا كان على خلاف شديد مع بعض أعضاء وزارته الذين انقسموا إلى مجموعتين إحداهما تؤيده والأخرى تناهضه وتريد أن يكون الموقف العراقي حيادياً في الحرب وتنفذ المعاهدة على وفق ما كانت تراه في الصالح العراقي. ومع أن موقف نوري السعيد كان صائباً بشكل عام، وبعيداً عن تفاصيله، من الحرب ومن تأييد بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد الاتحاد السوفييتي، في الحرب ضد ألمانيا الهتلرية وبقية دول المحور، فأن هذا الموقف كان مرفوضاً من جانب الشارع العراقي وكل القوى القومية والغالبية العظمى من القوى الوطنية العراقية بسبب مواقف بريطانيا من القضايا العراقية والعربية. لقد كان الموقف الرافض لمساندة بريطانيا ينطوي على موقفين، رغم كونهما كانا يدعوان إلى الحياد في الحرب، أي موقف القوى القومية التي كانت تدعو إلى الحياد، ولكنها كانت تريد الوقوف عملياً إلى جانب دول المحور، وموقف الحزب الشيوعي العراقي وبعض القوى التقدمية التي كانت تدعو إلى الحياد أيضاً وكانت تعنيه فعلاً، إذ أن الحزب الشيوعي العراقي اعتبر الحرب، قبل دخول الاتحاد السوفييتي الحرب ضد ألمانيا الهتلرية، بمثابة حرب استعمارية تستهدف إعادة تقسيم مناطق النفوذ لا غير. إلا أن هذا الموقف قد تغير بعد دخول الاتحاد السوفييتي إلى جانب الحلفاء في الحرب ضد الهتلرية بعد أن غزت جحافل النازيين اراضي الاتحاد السوفييتي، رغم الاتفاقية التي وقعتها حكومة ستالين مع حكومة هتلر في عام 1939 في ميونيخ. لقد غير الحزب الشيوعي العراقي موقفه في ضوء التبديل الذي أجرته الأممية الشيوعية (الأممية الثالثة) على موقفها إزاء الحرب والدولة النازية بعد دخول الاتحاد السوفييتي طرفاً في الحرب.

محنة اليهود العراقيين سنة 1941 (الفرهود)
قلة نادرة من الكتاب العراقيين الديمقراطيين الذين نشروا سيرهم الذاتية كتبوا شيئاً عن فاجعة اليهود التي وقعت في يومي الأول والثاني من حزيران/يونيو ،1941 أو بحثوا في قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق الذي صدر عن وزارة توفيق السويدي في العام 1950. ومن هؤلاء القلة يأتي أسم الأستاذ هاشم الشبلي، حيث شخص طبيعة المسألتين، الفاجعة والقانون، والموقف منهما وأدانهما بشدة. فقد كتب بشكل مكثف عن فاجعة الفرهود ببغداد يقول: "هاجمت مجموعات من الأوغاد والرعاع بيوت ومحلات اليهود فنهبتها وقتلت ساكنيها واغتصبت نساءها وفتياتها ولم يتركوا لهم شيئا، وجرى كل ذلك في اليوم الثاني لتكليف السيد المدفعي بتشكيل حكومته في 2/6/1941 واستمر القتل والنهب والاغتصاب يومين ولم تقف الأعمال الإجرامية إلا بعد تدخل الجيش للقضاء على هذه العصابات الإجرامية." (الكتاب الثاني، ص 39). والصحيح إن الجرائم التي ارتكبت في الفرهود قد بدأت في اليوم الأول من حزيران واستمرت في اليوم الثاني من حزيران أيضاً، حيث تدخل الجيش لإيقاف تلك الجرائم البشعة، بعد أن تم تشكيل الحكومة الخامسة للسياسي العراقي جميل المدفعي، الذي كان من بين المناهضين للانقلاب وضد "حكومة الدفاع الوطني" التي ترأسها رشيد عالي الگيلاني، كما إنه هرب إلى البصرة والتحق بالوصي على العرش عبد الإله بن علي الذي كان ذد هرب هو الآخر إلى البصرة واحتمى بشيوخها. والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن الجماعات التي شاركت في هذا الفرهود لم تكن من الرعاع والأوغاد فحسب، بل كان بينهم جمهرة من الجنود المقهورين في الحرب ضد القوات البريطانية وكذلك مجموعة من "كتائب الشباب" التي شكلها يونس السبعاوي، وكذلك من منظمة "فدائيي السبعاوي"، إضافة إلى أولئك العنصريين الحاقدين على اليهود ممن ترسخت في أذهانهم الدعاية النازية التي انتشرت بشكل واسع جداً في النصف الثاني من العقد الرابع من القرن العشرين. ورغم التباين في تقدير عدد القتلى من اليهود في فاجعة الفرهود، فقد ثبت بأن عددهم بلغ 144 شهيداً عدا الجرحى وحالات الاغتصاب ونهب الأموال والأثاث والسلع من البيوت والمحلات. (كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 1915). وتؤكد بعض المصادر و المعلومات المتوفرة أن السفير البريطاني كنهان كورنواليس حينذاك، ورغم علمه بما كان يحصل من فرهود في شوارع وأزقة بغداد ضد العائلات اليهودية المسالمة، لم يتخذ أي إجراء لوقف هذه المجزرة البشعة ورفض دخول الجيش البريطاني، الذي كان عند أبواب بغداد، من الدخول إليها وزجه في الدفاع عن العائلات اليهودية وانقاذها من براثن الأوغاد والعنصريين والنهابة. كتب الباحث الدكتور سلمان درويش في كتابه الموسوم "كل شيء هادئ في العيادة" يقول: "بدأت مذبحة الفرهود في يوم 1 حزيران في باب الشيخ من قبل الأكراد الشيعة الفيلية بعد أن دس المفوض الألماني فريتز غروبه سمومه النازية وحرض ضد اليهود وبث دعايته العنصرية بين أفراد الشعب والجيش العراقي خلال عدة أشهر مما هيأ الأجواء للإيقاع بهم. ثم جاء اندحار الجيش العراقي، الذي ضمّ بعض الأطباء والضباط اليهود، أمام القوات البريطانية ورفض "مختار محلة الكريمات" السفير البريطاني السر كنهام كورنواليس السماح للجيش البريطاني المحتل بدخول بغداد وإن كانت تقع على عاتقه مسؤولية الحفاظ على الأمن فيها. (راجع: سلمان درويش، كل شيء هادئ في العيادة، منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، رقم 2، مكتبة الدكتور داود سلمان- سالا لمؤلفات يهود العراق، 1981، ص 60-62). 
أما بصدد قانون إسقاط الجنسية فقد أكد الكاتب وبتشخيص وتقدير سليم ما يلي: "وقبل أن ينسى اليهود أثار هذه الجرائم، (ويقصد بها فاجعة الفرهود في مدينتي بغداد والبصرة، ك. حبيب)، قامت الحكومة العراقية بإصدار قانون إسقاط الجنسية عن اليهود في سنة 1950 الذي تم بموجبه إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود ومصادرة أملاكهم وممتلكاتهم وأموالهم وتسفيرهم إلى الخارج حيث سفّر أغلبهم إلى إسرائيل وبعضهم الآخر إلى دول أخرى." (الكتاب الثاني، ص 39). وكان للكاتب تقديره الصائب حين أكد بأن هذا الإجراء غير الإنساني بحق يهود العراق قد "قدم خدمة لإسرائيل لا مثيل لها وذلك لأنه كان من بينهم علماء وأدباء وصحفيون وأساتذة ومصرفيين خسرهم العراق واستفادت منهم إسرائيل". (المصدر السابق نفسه). لقد ارتُكبت جريمة ضد الدستور العراقي وضد الإنسانية وتم تنفيذها بمؤامرة ثلاثية اشتركت فيها حكومات ثلاث دول هي بريطانيا وإسرائيل والعراق وبدعم كثيف من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الأستاذ الشبلي على حق كبير حين أكد بصواب ما يلي:
اليهود في العراق ليسوا لاجئين أو مستوطنين وإنما هم من سكنة العراق منذ آلاف السنين وكان لهم دور مشهود في بناء حضارة وادي الرافدين وفي الحضارة العربية الإسلامية وفي بناء العراق الحديث" (المصدر نفسه، ص 39).
كان بودي أن يتوسع في البحث في هذه القضية المهمة، ولاسيما في هذه الفترة من تاريخ العراق المعاصر، حيث يتهدد نفس المصير، ولو بأساليب أخرى أكثر همجية وعدوانية، إذ أن هناك مخططاً بشعاً يراد به إفراغ العراق من القوميات وأتباع الديانات الأخرى بالبلاد، كما هو حاصل منذ سنوات ما بعد سقوط الدكتاتورية البعثية وإقامة النظام السياسي الطائفي بالعراق، ضد المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين على سبيل المثال لا الحصر، والذين هم ليسوا لاجئين ولا مستوطنين بل هم من أصل أهل البلاد ومنذ آلاف السنين أيضاً. فقد هُجّر من العراق قسراً عبر أسقاط الجنسية عن اليهود، على وفق التقارير الرسمية 118,000 يهودي ويهودية من العراق، وفي الواقع بلغ العدد أكثر من 130,000 نسمة من أتباع الديانة اليهودية. أما في السنوات الأخيرة ومنذ العام 2003 حتى الوقت الحاضر ارتفع عدد المهجرين قسراً من مسيحيي العراق ومن مناطق وجود المسحيين بالبصرة وبغداد والموصل وسهل نينوى وإقليم كردستان العراق ما يتراوح بين 800,000 -1,000,000 نسمة، كما هُجّر من الصابئة المندائيين ما يزيد عن 50,000 نسمة ولم يبق منهم بالعراق غير عدد يتراوح بين 10,000-15,000 نسمة. كم إن أعداداً غفيرة جداً من الإيزيديين والإيزيديات قد نزحوا إلى الإقليم أو غادروا البلاد وعانوا من إبادة جماعية مرعبة. لقد كانت وما تزال مخاطر جمة تهدد المزيد من العائلات العراقية، لا بسبب عصابات داعش وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ضد هذه المجموعات السكانية العراقية بعد اجتياح الموصل وسهل نينوى فحسب، بل وتلك الجرائم التي ارتكبتها المليشيات الطائفية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد، وكذلك قوى القاعدة الإرهابية وتنظيمات إرهابية أخرى معادية لأتباع الديانات والمذاهب بالعراق، وما يمكن أن يحصل في الفترة القادمة.   

انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية.

306
كاظم حبيب
نظرات في كتاب "مذكرات نصير الچادرچي"

اسم الكتاب: مذكرات نصير الچادرچي
المؤلف: نصير الچادرچي
الناشر: دار المدى - بغداد
تاريخ النشر: طبعة أولى 2017
عدد الصفحات: 495 صفحة وبضمنها ملاحق وصور

يتضمن كتاب المذكرات مقدمة وكلمة شكر وخمسة فصول تمتد أحداثها إلى أكثر من ثمانية عقود، إذ تبدأ مع ثلاثينيات القرن العشرين لتنتهي في النصف الثاني من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهي فترة طويلة كانت مليئة بالأحداث الجسام، حيث بدأت بمحاولات أولية لبناء المجتمع المدني بالعراق الملكي الدستوري مع تجاوزات على الدستور الديمقراطي لعام 1925، ثم واجه العراق الانقلابات ودكتاتوريات عسكرية متلاحقة، لتنتهي بعراق الحضارات القديمة، إلى بلد مخربٍ ورثٍ، وشعبٍ تائه وممزقٍ، ودولة هشة بسلطاتها الثلاث، ونظام سياسي طائفي مقيت ومحاصصة طائفية وأثنية بغيضة، واجتياح للموصل ونينوى وغيرها من المحافظات، وحيث تسود بالبلاد المليشيات الطائفية المسلحة، وتغيب عن المجتمع حقوق الإنسان وحقوق أتباع الديانات والمذاهب والقوميات، كما تهيمن الهويات الفرعية القاتلة لتطرد الهوية الوطنية، أو هوية المواطنة الحرة والمشتركة والمتساوية، إضافة إلى سيادة الفساد كنظام قائم ومعمول به ومقبول وممارس من قبل الدولة والسلطات الثلاث والمجتمع، وكذلك استمرار الإرهاب والموت كظاهرة يومية اعتيادية!!
يبدأ الكاتب نصير الچادرچي بمذكراته ليشير إلى ولادته في بيت اختار وتبنى ربُ الأسرة لنسفه نهجاً ديمقراطياً في الحياة السياسية والاجتماعية وفي بناء عائلته، ولد ونشأ في بيت ينعم بالثقافة والروح الوطنية والاستقلالية التي ينعم أفرادها في إبداء الرأي وفي التعبير عن الذات والممارسة اليومية. مثل هذه النشأة، وفي أجواء ثقافية ومكتبة عامرة ونشاط سياسي دؤوب وعلاقات إنسانية واسعة، لا يمكن أن ينشأ نصير إلا وهو يحمل عدة سمات مهمة تميزت بها شخصيته، والتي يمكن أن يتلمسها القارئ والقارئة، دع عنك من يعرفه شخصياً وتابع نشاطه خلال العقود المنصرمة من خلال قراءة الكتاب: منها مثلاً تنوع مصادر ثقافته وسعة اطلاعه وطموحه للمعرفة، حرية حركته واختياراته الفكرية والسياسية واستقلاليته الفكرية، وتمسكه بالديمقراطية وممارسته لها في حياته اليومية والعائلية. وبسبب تلك النشأة والوضع الاجتماعي والسياسي الذي ساد العراق حينذاك، تميز أيضاً بالتمرد الثوري والجرأة بعيداً عن الجنوح أو النزوع للقوة والعنف، مع تنامي الرغبة الجامحة في تغيير الأوضاع والمشاركة في تحقيق التغيير. ويمكن إيراد ثلاثة أمثلة على ذلك، وهي مهمة: موقفه ورأيه المستقل الرافض لتنفيذ قرار منظمة الحزب الشيوعي العراقي بمصر في انتماء الشيوعيين العراقيين إلى الحزب الشيوعي المصري لما في ذلك من مخاطر غير مبررة على وجودهم بمصر. أي أنه رفض القاعدة التي تقول "نفذ ثم ناقش!" أو "الطاعة" التي كانت سائدة حينذاك في الحزب الشيوعي العراقي رغم وجود عدم قناعة لدى الشيوعي. ثم موقفه من ميراث زوجته في منحها لأبنتهما مي، إذ التزم بوصية الزوجة الفاضلة بعد وفاتها وخسارته الكبيرة بها، وطرح الأمر على ابنته. فاتخذت الموقف المنصف إزاء أخويها، ولكن الأخوين التزما بموقفٍ أمين وصادق لوصية أمهما الفاضلة وحبهما لأختهم. إنها قضية تبدو صغيرة، ولكنها تعبر عن الروح الديمقراطية في التعامل العائلي وعن التربية السليمة التي حظي بها الأبناء والبنت. والمسألة الثالثة تبرز في إعادة تشكيل الحزب الوطني الديمقراطي والموقف الإيجابي المسؤول من العضو القيادي القديم في الحزب هديب الحاج حمود، والذي انتهى مع الأسف بلجوء الأخير إلى شق وحدة الحزب. كما يمكن أن نتابع مواقفه المماثلة في الفترات اللاحقة.
ولد نصير الچادرچي وترعرع في فترة زمنية تميزت بتنامي ملموس لاتجاهين متعارضين في الواقع العراقي حينذاك: الأول برز في تنامي الحركة الديمقراطية العراقية المناهضة للهيمنة الاستعمارية وضد العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعة، والرغبة في التجديد وتحديث الاقتصاد، وبزوغ جديد للبرجوازية الوطنية وتنامي البرجوازية الصغيرة، ولاسيما دور المثقفين الديمقراطيين في السياسة والثقافة بمختلف الفنون المعاصرة، ودور الطلبة، وبدء نشاط المرأة في الحياة السياسية وبشكل خاص في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانهيار دول المحور لصالح الديمقراطية على الصعيد العالمي. أما الاتجاه الثاني فبرز في تفاقم دور الفئات الحاكمة في تشويهها للدستور العراقي الديمقراطي لعام 1925 في الممارسة الفعلية وفي التشريع والانتخابات ومحاربة حرية الرأي والأحزاب والتجمع والتظاهر، والرغبة المحمومة لدى الحكام في الدخول في الأحلاف العسكرية ومناهضة الحركة الديمقراطية المتمثلة في أحزاب علنية مثل الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال القومي النزعات وأحزاب أخرى تشكلت في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، إضافة إلى أحزاب سرية مثل الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردي (فيما بعد الكردستاني) وغيرها من الكتل اليسارية، ومنها حزب الشعب (النضال) للمناضل وعضو مجلس السلام العالمي عزيز شريف. وهنا يفترض الإشادة برأي نصير الچادرچي الذي أشار بوضوح لا يقبل اللبس إلى إن سياسات الفئات الحاكمة المؤيدة من بريطانيا والبلاط الملكي ومن كبار الإقطاعيين وملاكي الأراضي، كان السبب وراء تفاقم الصراع وإسقاط النظام الملكي في رده الصريح وغير المباشر على من كان يتحدث عن تطرف القوى الديمقراطية العراقية في مواقفها من النظام الملكي ومن القوى والفئات الحاكمة مثل نوري السعيد وسعيد قزاز وصالح جبر وبهجت العطية على سبيل المثال لا الحصر.
لم ترفع القوى الديمقراطية شعار إسقاط الملكية بل كانت تتحدث دوماً وتنتقد سياسات الحكم، سواء أكان هذا في وثبة كانون، أم في انتفاضة تشرين، أم في انتفاضة عام 1956، لتأييد مصر في تأميم قناة السويس وضد العدوان الثلاثي عليها، ورفض موقف الحكومة العراقية في مناهضة مصر وسياستها، وضد إرهاب السلطة وقمعها.
لقد أُجبرت القوى الديمقراطية على التحالف فيما بينها، رغم وجود اختلافات مبدئية بينها، في اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني أولاً، ومع تنظيم الضباط الأحرار لإسقاط النظام الملكي ثانياً. وكان توضيح هذا الأمر بالغ الأهمية. ويورد نصير الچادرچي أمثلة كثيرة لسياسات التجاوز الفظ على الحياة الديمقراطية وحقوق المعارضة الوطنية التي كفلها الدستور، منها على سبيل المثال لا الحصر إلغاء نتائج انتخابات عام 1954 حين تقرر أن يكون نوري السعيد رئيساً للوزراء بأمر السفير البريطاني، وحين عمد الأخير إلى حل المجلس النيابي وحل الأحزاب السياسية وصدرت مراسيم إسقاط الجنسية في العام 1955 عن شخصيات وطنية وديمقراطية، وحين حرم منظمات المجتمع المدني كالشبيبة والطلبة ورابطة المرأة وحركة أنصار السلام. وعن هذه المرحلة يتحدث نصير الچادرچي برؤية ثاقبة وموضوعية عن دور والده، الشخصية الديمقراطية المتميزة، في عدد من المسائل المهمة في صفوف المعارضة العراقية وعلاقاته المتشعبة الواسعة بالشخصيات السياسية والثقافية وصلابة مواقفه ورفضه المساومة منذ أن استوزر أول مرة بعد انقلاب بكر صدقي العسكري وحكمت سليمان في العام 1936 ممثلاً عن جماعة الأهالي وجمعية الإصلاح الشعبي، واستمرار هذه المواقف في العهد الملكي في مواجهة عبد الإله بن علي، الوصي على عرش العراق حينذاك، كما يشير إلى سجن والده وسجنه أيضاً. ومن متابعة مذكراته يشير بأمانة وصدق بأن تعامل السلطات معه باحترام وكذلك من جانب الشخصيات السياسية العراقية البارزة، كانت نتيجة لكونه ابن كامل الچادرچي، ولكنها كانت لدوره ومواقفه السياسية أيضاً، وفي هذا التقدير موضوعية عالية وتواضع أمام شخصية متميزة كوالده، إضافة إلى إنه قد تعلم من الوالد جملة مسائل أهمها، صلابة الموقف والجرأة في المواجهة، إضافة إلى الصراحة والوضوح في إعطاء الرأي واتخاذ الموقف الحازم. ويشير نصير الچادرچي بصدد ما حمله معه من نهج وسلوك وممارسات من بيت والديه إلى الآتي:
"إن حديث أي إنسان عن حياته طيلة فترة خمسة وثلاثين عاماً قضاها من عمره يحتاج إلى مئات الصفحات، ولكن بالنسبة لشخص تربى بأجواء وطنية تحت خيمة أحد رواد النهج الديمقراطي في العراق، جالسَ ورافقَ شخصيات وطنية وديمقراطية فمن المؤكد أن يكون متذمراً وناقماً على السلوك والنهج غير الديمقراطي الذي مارسه النظام طيلة الحقبة الزمنية التي حكم بها." (مذكرات نصير الچادرچي ص 306) 
ومن هنا يمكن القول بأن مذكراته الشخصية، رغم ورود ألـ "أنا" فيها كثيراً، إلا إنها كانت في الموضع الصحيح وموضوعية دون غمط حق الآخرين أو أدوارهم، كما لاحظنا تلك الذاتية الصارخة في الكثير من كُتّاب السيرة الشخصية لمناضلين وشخصيات سياسية وثقافية عراقية. ويعطينا نصير الچادرچي صورة دقيقة عن مفاوضات تشكيل جبهة الاتحاد الوطني ودور الأحزاب فيها والعلاقات التي نشأت عبره مع الضباط الأحرار ولاسيما مع رفعة الحاج سرّي. وربما فاتته هنا الإشارة إلى أن الحزبين القوميين (الاستقلال والبعث) رفضا مشاركة الحزب الديمقراطي الكردي في جبهة الاتحاد الوطني، مما تقرر تكليف الحزب الشيوعي العراقي في أن يكون صلة الوصل بين اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي الكردي (الكردستاني لاحقاً).
وحين تأتي المذكرات على ثورة 14 تموز 1958 يطرح نصير الچادرچي رؤية والده والحزب الوطني الديمقراطي والاختلافات التي حصلت في هذا الحزب إزاء سياسات عبد الكريم قاسم ورؤيته لمسيرة قاسم. وفي الموقف من سياسات قاسم تتباين الآراء في الساحة السياسية العراقية حتى الوقت الحاضر. ولكن تشخيصات كامل الچادرچي كانت صائبة ودقيقة، ولكنها تميزت بالشدة، وربما لم تسمح لقاسم على التراجع، إن كان التراجع ممكناً لعسكري وطني ونزيه مثله، ولكنه من حيث المبدأ لا يختلف قاسم عن العسكر في موقفه من السلطة والقناعة بأنه الحامي الوحيد للثورة، وأن الشعب هو الذي منحه هذه السلطة وعليه ممارستها بالشكل الذي يراه هو مناسباً! ولا شك بصواب التقدير القائل بفردية قاسم ونزعته في الحكم، مع الإقرار بوطنيته ونزاهته، ولكن الدرب إلى جهنم يمكن أن يمر عبر النوايا الحسنة وعن هذا الطريق أيضاً. وذكر الكاتب تفاصيل اللقاء بين عبد الكريم قاسم وكامل الچادرچي بناء على طلب الأول والطريقة التي قابل بها الثاني قاسم والتي كان فيها الكثير من القسوة والصرامة، وأقول بعض الخشونة، رغم إنها من حيث المبدأ لم تكن بعيدة عن الواقع والضرورة. وينتهي نصير الچادرچي في وصف اللقاء بما يلي:
"كان لقاءً عاصفاً كثيراً ما تداولناه في مجالسنا الخاصة.. أما انطباعي الذي خرجت به فقد كان ذا دلالتين وتحسب للشخصيتين. لكامل الچادرچي.. جرأته وصراحته وحرصه على الوطن عند أعلى المناصب في الدولة. ولعبد الكريم قاسم.. أدبه الجم واحترامه للشخصيات الوطنية" (أنظر في ها الصدد من ص 235/236).
ولنصير الچادرچي التقدير صائب عن مسؤولية عبد الكريم قاسم في انتكاسة الثورة أولاً، وفي تصفيتها عبر انقلاب شباط الفاشي عام 1963 ثانياً. إلّا إن هذا التقدير يحتاج إلى استكمال، كما أرى، وبهذه الصورة: كان قاسم المسؤول الأول عما انتهى إليه وضع العراق في عام 1963، ولكن الأحزاب السياسية العراقية دون استثناء، وأن اختلف حجم دورها ومسؤوليتها، تتحمل المسؤولية ايضاً، بسبب جموحها في المشاركة أو الوصول إلى السلطة أو محاولات تنظيم انقلابات عسكرية ضده، وبسبب ضعف وعيها وقدرتها على رؤية وقراءة صحيحة لموازين القوى والعوامل المحلية والإقليمية والدولية الفاعلة في الوضع السياسي حينذاك، أو تصلبها المبدئي. لقد تورط قاسم بمعارك داخلية وخارجية عديدة في آن واحد من جهة، ولاحق القوى الديمقراطية، ولاسيما اعتقال الشيوعيين وزجهم بأحكام قاسية في السجون، التي هي الأخرى ارتكبت أخطاءً في حينها من جهة أخرى، ثم تورط في حرب بكردستان العراق من جهة ثالثة، وقرَّبَ القوى المتآمرة ضده ووضعها في مواقع المسؤولية العسكرية والمدنية من جهة رابعة، وبهذا وفَّر قاسم الأرضية الصالحة لنجاح التآمر المحلي والإقليمي والدولي على ثورة تموز التي كانت تعيش انتكاستها قبل ذاك. ولا شك في أن لموقف قاسم غير الإيجابي والمتأثر بالحاشية العسكرية القومية القريبة منه إزاء القيادة الكردية ومطالبها حينذاك، وموقف القيادة الكردية المتعجل التي سارعت إلى إعلان ثورة أيلول 1961 ضد حكومة الثورة ودخولها في تحالف مع القوى البعثية والقومية المتآمرة ضد الجمهورية، على قاعدة عدو عدوك صديقي، قد ساعد في تسهيل مهمة القوى البعثية التي جاءت بقطار أمريكي-بريطاني إلى السلطة. يقدم نصير الچادرچي لنا لوحة پانورامية عن ثورة تموز والسياسات الإيجابية والسلبية التي مارستها قادة الثورة وبموضوعية عالية وفهم عميق لأهداف الثورة التي نُكبت بالعسكر. حين أسترجع أحداث تلك الفترة، وأنا من جيل نصير الچادرچي ذاته، أود تسجيل الرأي التالي: لقد لعب قاسم دوراً مهماً في شق وحدة الحزب الوطني الديمقراطي من خلال كسبه محمد حديد والجناح الذي تشكل في حينها إلى جانبه، واستعداد الأخير للمساومة مع قاسم، ربما بهدف إصلاحه، ولكن الحصيلة الفعلية كانت في غير صالح مسيرة الثورة ولا في مصلحة قاسم، كما إن هذا الانشقاق في الحزب الوطني الديمقراطي قد لعب دوراً سلبياً في قدرة هذا الحزب، الذي تأسس في العام 1946، والذي يحمل التراث النضالي والفكري لجماعة الأهالي وجمعية الإصلاح الشعبي منذ العام 1933، على التأثير المناسب والضروري في أحداث ما بعد ثورة تموز وعلى سياسات قاسم، خاصة وأن مساومة جناح محمد حديد ومسايرته لسياسات قاسم، قد اضعفت القدرة على تغيير سياسات قاسم. لقد لعب الحزب الوطني الديمقراطي دوراً نضاليا وإصلاحياً مهماً وحيوياً منذ تأسيسه حتى قيام ثورة تموز 1958 وكان محفزاً للنضال وواجه عنت السلطات الملكية واستبداد حكامها ولاسيما نوري السعيد، وكثيراً ما أُجبر الحزب على تعطيل نشاطه أو غلق جريدته، الأهالي ومن ثم صوت الأهالي، التي كانت مطلوبة شعبياً. كما إن قاسم لعب دوراً غير سليم في محاولته شق وحدة الحزب الشيوعي العراقي بدفع داود الصائغ إلى تشكيل حزب كارتوني حينذاك من أجل رفض منح الحزب الشيوعي إجازة عمل أو التعاون معه بذريعة وجود حزب آخر هو الحزب الشيوعي العراقي! لقد برزت لدى قاسم سياسة "فرق تسد!"، وكان مخطئاً في ذلك!   
لقد حصلت بين 1963-1968 سلسلة من الانقلابات القومية-البعثية اليمينية المتطرفة وعاني الوطنيون والديمقراطيون الأمرين على أيدي هذه النظم السياسية الاستبدادية وقواها القومية المتطرفة. ويشير نصير الچادرچي إلى اعتقاله بعد انقلاب شباط 1963 واعتقال المئات بل الآلاف من الناس الديمقراطيين والشيوعيين وأنصار عبد الكريم قاسم، وجمهرة كبيرة من المثقفين الذين التقى بهم في المعتقل ومعاناتهم من أساليب التعذيب وإساءات الحكام الجدد والسجانة. وفي هذا القسم من الكتاب، ومع إشارته إلى ما تعرض له من ضرب وإساءة، إلا إنه ركز على ما أصاب الآخرين من جور وتعذيب واضطهاد، سواء أكان في معتقل النادي الأولمبي، أم في معتقل "أبو غريب" مع المثقفين ومعاناتهم في ليالي التحقيق المريعة مع المعتقلين. إن الكاتب يقدم صورة حية لمعاناة المثقفين في ظل الحكم الفاشي والعذابات التي تعرضوا لها ومعاناة عائلاتهم. ويذكر نموذجاً واحدا عن قذارة السجانين، وليس كلهم طبعاً ويمدح منهم رؤساء العرفاء، ولم ينج من قبضة الحرس القومي ورجال الأمن البعثيين حتى المجانين من الناس أو المرضى بالصرع. ويمكن الاطلاع على هذا السلوك الهمجي على ص 254 من الكتاب. 
وغَدَرَ البعثيون والقوميون بالكرد، كما كان متوقعاً، الذين تحالفوا معهم لإسقاط حكومة قاسم، فشنوا الحرب مجدداً في كردستان العراق ضد الشعب الكردي وقيادته. ولم تمض فترة طويلة حتى انقض الحلفاء القوميون على الحكام البعثيين ليمارسوا أساليب مماثلة في تعذيب حلفاؤهم البعثيين وخصومهم الجدد وأصدروا كتاباً بعنوان (الكتاب الأسود) يتحدث عن خسة ودناءة وفضائح البعثيين، ولكنهم نسوا مشاركتهم في الخسة والدناءة والفضائح، ومساهمتهم في جريمة تنظيم قطار الموت حينذاك الذي حمل المئات من الضباط والعسكريين السجناء من بغداد في عز الصيف بقطار شحن حديدي إلى نقرة السلمان، كاد أن يهلك الجميع لولا نخوة وشجاعة أهل السماوة.
وفي الفصل الثالث، وتحت عنوان "الحياة تحت ظلال خيمة سوداء"، يكتب نصير الچادرچي مذكراته عن 35 عاماً من حكم البعثيين بالعراق، ويتطرق إلى الأوضاع في ظل النظام القومي بين 1963-1968 وعشية انقلاب القصر والمخابرات العراقية ووصول البعثيين إلى السلطة ثانية. ويشرح سياسة البعثيين في محاولة منهم تحسن قبح وجوههم بسياسات التقرب من الوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين. ويشير إلى أحداث مهمة منها على سبيل المثال لا الحصر اتفاقية أذار للحكم الذاتي بكردستان العراق، التي أُجبر عليها البعث نتيجة تدهور أوضاع نظامه في الحرب ضد الشعب الكردي وقيادته السياسية، ثم عن محاولات البعث لوضع دستور جديد أو مع مرافقته للشاعر الكبير محمد مهدي لجواهري، ومعهما الشخصية الوطنية عبد اللطيف الشواف، في زيارة لنادي المنصور وحديثه مع سكرتير النادي كاظم الخلف، وما حصل له في النادي ورواية نصير الچادرچي الشيقة عن الشخصية النجفية التي انتقلت إلى بغداد وأقام فيها واراد أن يقيم مجلس عزاء للإمام الحسين، وطالب القارئ بعدم ذكر السنة ولا المسيحيين ولا بني أمية في حديثه، ولم يكن من القارئ إلا أن قال لصاحب الدار: "لا مانع، ولكن حينها سأقول بأن الحسين قد مات صعقاً بالكهرباء ولم يمت بواقعة الطف استجابة لطلباتك." (مذكرات نصير الچادرچي ص 313). وهنا أراد نصير الچادرچي أن يشير بشكل غير مباشر، كيف كان الناس حينذاك يتصرفون باحترام إزاء مشاعر الآخرين ولا يريدون الإساءة لأصحاب المذهب أو الدين أو الرأي الآخر بأي حال.                       
ويتطرق نصير الچادرچي إلى اعتقال شقيقه المهندس المعماري والفنان الكبير، رفعة الچادرچي، وما حصل له في المعتقل ومعاناة العائلة، ولاسيما أمه وزوجته، وسعيهم لإطلاق سراحه. وفي هذا المقطع من الكتاب يقدم لنا نصير مشهداً مسرحياً أو سينمائياً ممتازاً لنتبين منه حقيقة سلوك المستبدين في الأرض الذين لا يحترمون كرامة الإنسان ويتصرفون وفق أهواءهم وسلوكهم النرجسي والمرضي بعيداً عن الشعور بالمسؤولية إزاء الإنسان. ويشير لنا إلى كتاب "بين ظلمتين" الذي صدر بتحرير مشترك بين رفعة الچادرچي وبلقيس شرارة، زوجة رفعة. والكتاب يجسد الدكتاتورية بأبشع صورها واخس سلوكياتها وأفدح عواقبها على الفرد والمجتمع. وقد تسنى لي الكتابة والنشر عن هذا الكتاب القيم. ويمر الكاتب أيضاً على معاناة العراقيين في الحصول على شهادة الجنسية العراقية وما حصل لأبنة شقيقه باسل الچادرچي المهاجر إلى كندا (ريمة) وما حصل لها في دائرة الجنسية وقول مدير الجنسية الذي صرخ بالموظف المعرقل للعملية "إذا كانت حفيدة كامل الچادرچي ورشيد عالي الكيلاني لا تمنح الجنسية العراقية فلمن تمنحها؟ .." (ص 324) وهنا يمكن الإشارة إلى معاناة الكرد الفيلية وعرب الوسط والجنوب في تهجيرهم القسري بعد إسقاط الجنسية العراقية عنهم إلى إيران، حيث وصل عدد المهجرين قسراً بمئات الآلاف إضافة إلى معاناة المرضى والأطفال والعجزة وموت غير قليل منهم بالألغام المزروعة في الطريق.
وفي هذا الفصل يتحدث الكاتب عن الإرهاب الذي تعرض له الشعب العراقي وعن طموحات وأطماع النظام في التوسع وغزو الكويت وحرب العام 1991 بعد أن رفض نظام صدام حسين الانسحاب من الكويت والعواقب الوخيمة التي تعرض لها الشعب نتيجة تلك السياسات المناهضة لمصالح الشعب. ثم ينهي الفصل بالإشارة إلى الحرب في العام 2003 حيث تم إسقاط دكتاتورية البعث وصدام حسين واحتلال العراق من قبل القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة دون تخويل من مجلس الأمن الدولي.
ولاحظت بأن نصير الچادرچي قد تجنب ذكر ثلاث مسائل جوهرية، ربما سهواً أو بسبب حجم الكتاب، أشير إليها فيما يلي:
1.   اتفاقية الجزائر في العام 1975 والانتكاسة الشديدة التي تعرض لها الشعب الكردي وقضيته وتحالف إيران والعراق وبتأييد من الولايات المتحدة وإسرائيل في توجيه الضربة للحركة الكردية المسلحة بقيادة مصطفى البارزاني، والتي اقترنت قبل ذاك بالمؤتمر القطري الثامن لحزب البعث عام 1974 وما أعقبه من بدء الهجوم على الحركة الديمقراطية العراقية وإنهاء عملي للتحالف بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي وما حصل للشيوعيين والديمقراطيين بالعراق.
2.   التهجر القسري الواسع النطاق من جانب النظام العراقي للكرد الفيلية وعرب الوسط والجنوب خلال الفترة بين 1979-1980 والذي أشرت إليه في أعلاه بدعوى "تبعيتهم لإيران!"، والخشية منهم أثناء الحرب التي شنها ضد إيران في العام 1980.
3.   الحرب التي خاضها صدام حسين والقوات المسلحة ضد الشعب الكردي والحركة الكردية المسلحة وضد قوات الپيشمرگة -الأنصار الشيوعيين في العام 1988 وما حصل فيها من إبادة جماعية ضد الشعب الكردي واستخدام السلاح الكيماوي في حلبچة وغيرها، والتي راح ضحيتها عشرات الألوف من الناس الأبرياء من الكرد ومن قوميات أخرى.
لديّ الثقة بأن الكاتب والسياسي الديمقراطي المميز نصير الچادرچي له مواقف واضحة وسليمة إزاء هذه القضايا الثلاث التي وقعت بالعراق في ظل حكم البعث الدموي، قبل هيمنة صدام حسين على السلطة وفي أثناء وجود أحمد حسن البكر، وبعد المجزرة التي نظمها ضد رفاقه في الحزب ومجلس قيادة الثورة للاستيلاء الكامل والمطلق على السلطة بالعراق. ومع ذلك كان لا بد من التنويه إليها.   
 وفي بداية الفصل الرابع من كتاب المذكرات يطرح نصير الچادرچي بدلاً عن القراء سؤالاً مهماً عن موقف شخصٍ ناضل في مطلع شبابه ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية على وطنه وهو سليل أسرة وطنية قضى والده الكثير من سني عمره متنقلاً بين السجون والمواقف والحظر والمحاكمات في سبيل قضية وطنه واستقلاله ونيل شعبه حقوقه كاملة وأهمها الحرية، عن سر قبوله للأمر الواقع من وجودٍ لقوات أجنبية تهيمن على بلده بعد كل تلك السنين من النضال والطموح، فأقول تجاه ما رأيت حينها بأن (الإنسان أهم من الأرض) إلا في حالة أن تكون الأرض هي المحور والنقطة المركزية لنضال الشعب ووحدته من أجل تحريرها واستعادتها من المستعمر والدخلاء كقضية فلسطين، ووجود (داعش) في المحافظات العراقية وآخرها مدينة الموصل." (ص 335/336). هذا السؤال طرحه الكثير منّا على نفسه، ولكن قبل ذاك السؤال الأكثر أهمية هو الموقف من الحرب ذاتها والتي قادت حقاً إلى طرد النظام الدكتاتوري الفاشي، ولكنها، وبسبب ضعف وعي الشعب واستعداده للنضال ضد الدكتاتورية، كانت الحرب لا تعني سوى الاحتلال ومن ثم إقامة النظام الطائفي الذي نهض في أعقاب الحرب والعواقب التي يعيشها العراق ليس بالموصل ونينوى وصلاح الدين والأنبار فحسب، بل وفي العراق كله، ومنها ما يعيشه العراق اليوم في الخلافات المحتدمة مع إقليم كردستان العراق. لقد رفضتُ الحربَ، ولكن، وبعد وقوعها، لم يكن أمامي وأمام غيري، إلا البحث عن سبل مناسبة للخلاص من المحتل ومن الوجهة التي عملت الإدارة الأمريكية وإيران والأحزاب السياسية الطائفية على فرضها على الشعب بالعراق، فرضها النظام الطائفي المقيت الذي يعاني الشعب حالياً من ويلاته المريرة.
تشير المعطيات الواردة في المذكرات إلى الدور الذي سعى نصير الچادرچي إلى القيام به لدرء، أو السعي للوصول إلى نتائج أفضل لصالح المجتمع العراقي، وأعني بها:
1.   الموقف الرافض للتوزيع الطائفي للجنة السداسية فالسباعية، ومن ثم في مجلس الحكم الانتقالي وإصراره على أن يكون ممثلاً للحزب الوطني الديمقراطي لا ممثلا ًعن السنة، وهو موقف سليم وحصيف، إضافة إلى موقفه الرافض لأن يكون حاكم بغداد.
2.   الموقف الرافض للسرعة في وضع الدستور العراقي وإجراء الانتخابات، والتي جسدت مشاركة قوى لا يمكن إلا أن يخرج عنها دستور مشوه في الكثير من مواده واتجاهه العام، وانتخابات لا يمكن أن تأتي إلا بالنتائج السلبية التي ظهرت حيث استطاعت القوى السياسية الطائفية اجتياح المجلس النيابي. وأشير هنا إلى إن المرجعية الدينية والمذهبية الشيعية لعبت دوراً بارزاً وحاسماً ومتفقاً مع موقفي الولايات المتحدة وإيران في تعجيل وضع الدستور وتنظيم الانتخابات، وكانت النتائج كما ارادتها هذه الأطراف الثلاثة وبالضد من مصالح الشعب.
3.   الموقف الرافض لحل الجيش العراقي وعدم دفع رواتب تقاعدية لأفراد القوات المسلحة المسرحة قسراً، والذي مارسه بريمر بأمر من الإدارة الأمريكية، وما يمكن أن ينشأ عن ذلك من عواقب تجويع العائلات وإمكانية اقتناص عناصر منهم من جانب قوى الإرهاب والتطرف. وما كان يخشاه نصير الچادرچي وقوى ديمقراطية أخرى قد وقع فعلاً وبأبشع صوره.
4.   لقد أكد في محادثاته مع أطراف كثيرة إلى أهمية حصول تحالف وطني ديمقراطي بين القوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية على صعيد العراق كله، وكذلك بمشاركة الحزبين الكرديين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، ولكن من المؤسف القول بأن المكاسب الضيقة والآنية قد هيمنت على أغلب الأطراف، مما جعل من المستحيل تحقيق ذلك الهدف النبيل. وقد لعب التحالف الكردي-الشيعي دوره السلبي البارز فيما وصل إليه العراق بعد أن تخلت القيادات الكردية عملياً وفعلاً عن التعاون والتنسيق مع حليفها السابق والدائم، القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية، وركزت على التحالف مع الأحزاب الشيعية الطائفية التي تخلت عنها كلية!
5.   كما يتبين من مجرى الكتاب الجهد الذي بذله نصير الچادرچي وبقية الأخوة العاملين معه، مثل هاشم الشبلي وعبد الرزاق السعيدي وغيرهم في الوصول إلى إعادة تشكيل ونشاط الحزب الوطني الديمقراطي والمشكلات التي واجهت تشكيله والتي لعبت، كما أرى، الكثير من الذاتية والرغبة في قيادة هذا الحزب، والتي كان لها الدور البارز في فشل تلك المحاولات. لقد كان وما يزال مهماً للعراق وشعبه وجود حزب كالحزب الوطني الديمقراطي في الساحة السياسية العراقية لتجميع القوى الوطنية من فئات المجتمع وبشكل خاص ما تبقى من البرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة والمثقفين الديمقراطيين، وكذلك من عمال وفلاحين، إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي وقوى سياسية يسارية وديمقراطية أخرى، لينتهج السبيل المناهض للطائفية والشوفينية والعنصرية ويمارس سياسة إصلاحية ديمقراطية يبعد الوطن عن الطريق المعوج الذي هو فيه الآن، وما تسبب ويتسبب به من كوارث ونكبات. وقد نشأت مراسلة بين أستاذي الفاضل نجيب محي الدين وبيني حول أهمية وجود مثل هذا الحزب وضروراته وضرورات وجود شبيبة، إناثاً وذكوراً، فيه، إذ بدونها يستحيل بناء الحزب مجدداً وتطوره ولعب دره المنشود بالبلاد.
6.   ولا شك في صواب الموقف الذي اتخذه نصير الچادرچي من اللقاء بصدام حسين يعد اعتقاله ورفضه الشماتة بهذا الأسلوب المشين الذي مارسه موفق الربيعي مع الدكتاتور الذي أذاق الشعب العراقي مرً العذاب. وقد أعلنت موقفي في حينها بأن من الأفضل للعراق التخلي عن أحكام الإعدام بما في ذلك التخلي عن تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين، لا من باب الرحمة به، بل من المبدأ الفعلي القائل بإن أحكام الإعدام لا تنفع أحداً ولن تغير من طباع المستبدين ولن تقدم لهم دروساً مفيدة، وخير دليل على ذلك سلوك رئيس الوزراء السابق والقائد العام للقوات المسلحة الذي انتهج في فترة حكمه بين 2006-2014 سياسات وأساليب لا تختلف كثيراً عن صدام حسين والعواقب المريعة التي نشأت عنها، وهو ما يزال يسعى لفرضها على الحكم والمجتمع وكذلك نشاطه المحموم في العودة إلى السلطة!       
لقد تضمن هذا الفصل تفاصيل مهمة غير مطروقة سابقاً، سواء أكان في الموقف من حاكم العراق الأمريكي والمستبد بأمره پاول بريمر، أم من القوى السياسية الطائفية ونهجها وسلوكياتها، أم في مجمل الأوضاع الجارية والتي دعته إلى رفض ترشيح نفسه للانتخابات الثانية التي جرت بالعراق لقناعة تشكلت لديه بأن الأوضاع تسير بالاتجاه الغلط، وهو ما وقع حقاً.
إن كتاب نصير الچادرچي، والملاحق التي جاءت في نهاية الكتاب، يشكل شهادة حية وموضوعية ومهمة عن العصر الذي نحن فيه، عن الفترة التي تقع بين 1933، وهي سنة ولادته، وعام 2017، حيث اُحتل العراق في العام 2014 من عصابات داعش والنضال لتحرير البلاد من رجس هذه العصابات والخلاص من الطائفية المقيتة المهيمنة على البلاد والعواقب التي نشأت وتنشأ عنها إن استمرت في الهيمنة على حكم البلاد. أشعر بأن المكتبة العراقية قد اغتنت بهذا الكتاب وكذلك سيغتني بمعلومات ومعارف ومواقف مهمة من يقرأ هذا الكتاب، ولاسيما الشبيبة العراقية، من الإناث والذكور.
وأخيرا أشعر بضرورة وأهمية أن أشير إلى إن الصديق ورفيق النضال الديمقراطي الطويل الأستاذ نصير الچادرچي يعتبر بحق قامة وطنية وديمقراطية شامخة قدمت للعراق وشعبه، بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الديمقراطية واليسارية والعلمانية، الكثير من الخدمات وما يزال يقدم مثل هذه الخدمات النبيلة. إنه أبن ذلك الأب الجليل كامل الچادرچي وابن تلك العائلة الكريمة التي قدمت الكثير من الخدمات في السياسة والأدب والهندسة المعمارية والفن. أتمنى له الصحة الموفورة والعافية وطول العمر
برلين في 15/10/2017
 


307
كاظم حبيب
وماذا بعد...، وهل من سبيل للتعامل العقلاني الحكيم بين بغداد وأربيل؟

حين دعيت مع مجموعة من المثقفين العرب من العراق والدول العربية لندوة عقدت بالسليمانية بتاريخ 16 و17 أيلول/سبتمبر 2017 حول قرار السيد رئيس الإقليم بإجراء الاستفتاء بالإقليم، التي اعتبرت المناطق المتنازع عليها جزءاً من الإقليم، أبدى المثقفون العرب، وأنا منهم، رأياً صريحاً وواضحاً وصادقاً لا لبس فيه، بأن الاستفتاء غير صحيح لعوامل كثيرة ومهمة، بما في ذلك الوضع في البيت الكردي ذاته، وتساءلنا جميعاً، وماذا بعد الاستفتاء؟ لم تكن هناك أذان صاغية لرأينا، بل قوبلنا بعد ارتياح عام من الأخوات والأخوة الكرد. ولكن الكثير من مثقفي كردستان العراق جاء إلينا وقال بوضوح لا لبس فيه: أنتم على حق، فنحن نخشى العواقب، وأنه قرار غير مدروس جيداً ومتعجل، لاسيما وأن القرار يؤكد إجراء الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها، حيث يعتبر مخالفة صريحة للدستور العراقي ومحاولة لفرض الأمر الواقع في وقت ما يزال العراق، ومعه كردستان، يخوضان حربا ضد داعش. لقد عشت أسبوعاً كاملاً بالسليمانية وأربيل والتقيت بعشرات المثقفين الكرد الذين كانت مشاعرهم القومية عالية جداً، ولكن الكثير منهم أيضاً، وبعض سائقي التاكسي، الذين تسنى لي الحديث معه، عبر لي عن خشيته الكبيرة من عواقب الاستفتاء وكان هذا البعض صريحاً معي دون أن تكون لهم معرفة بي. لقد كانت الكلمات التي ألقيت في ندوة السليمانية من الأخوة الكرد ترى بأن الاستفتاء انتصاراً للشعب الكرد، وإنها فرصة نادرة لا بد من الاستفادة منها وأنهم مستعدون لمواجهة كل العواقب.
حين صرح السيد رئيس الإقليم بأن المناطق التي حررتها قوات الپيشمرگة، والتي كانت ضمن المناطق المتنازع عليها، ستبقى جزءاً من إقليم كردستان ولن نخرج منها، نشرت بتاريخ 23/08/2016 مقالاً في جريدة العالم العراقية وفي مواقع كثيرة، منها الحوار المتمدن وصوت العراق والناس ومركز النور، تحت عنوان: "ما الموقف المطلوب من مشكلات المناطق المتنازع عليها بالعراق؟" قلت فيه بأن هذا القرار غير صائب لأنه مخالف للدستور ولأنه سيتحول إلى ألغام في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، إذ لا بد من معالجتها بطريقة دستورية وبالحوار السلمي والديمقراطي بين الطرفين. وقد جاء في مقالي المذكور ما يلي: "صدرت في الآونة الأخيرة عدة تصريحات عن قياديين مسؤولين بإقليم كردستان العراق تشير إلى أن قوات الپيشمرگة لن تنسحب من المناطق التي حررتها أو ستحررها لأنها تعتبر جزءاً من المناطق المتنازع عليها وتشكل جزءاً من إقليم كردستان وستبقى فيه. إن هذا التصريح غير مناسب في هذه المرحلة التي يخوض الجميع النضال لتحرير كل المناطق المحتلة، إذ إنه يخلق المشكلات ويعقد النضال المشترك المطلوب حالياً، وهو بالتالي خاطئ. كما إن مثل هذا الموقف لا يؤسس لحل سلمي ديمقراطي عقلاني لكل المناطق التي تعتبر ضمن المناطق المتنازع عليها، وستخلق أرضية خصبة للصراع والنزاع المستديم، بل وإلى احتمال التصعيد من قوى بعينها من الجانبين تقود إلى إشعال حرب عراقية – عراقية غير مبررة وتقود إلى سقوط ضحايا كثيرة وخسائر فادحة لا معنى لها. أشعر بأن الأخوة بالإقليم لم يفكروا جيداً بعواقب هذه الخطوة على صعيد المنطقة، خاصة وإن إقليم كردستان محاط بإعداء إلداء يسعون اليوم قبل غد إلى وأد الفيدرالية، وإن فيدرالية كردستان شوكة شديدة الألم في عيونهم. واعتقد بأن حكومة وأحزاب إقليم كردستان العراق، التي تعاني من صراعات داخلية معقدة، ستكون في وضع صعب وغير مبرر وغير مطلوب في آن، وهو ما لا ارجوه لها....، لهذا اقترح على رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق أن يدرسوا الأمر بعناية مع جميع القوى والأحزاب الكردستانية، والتمعن في الأوضاع المتوترة الراهنة لا على صعيد العراق حسب، بل وعلى صعيد المنطقة بأسرها، من أجل التعرف على كل الاحتمالات قبل اتخاذ قرار من هذا النوع، ولاتخاذ القرار السليم والمناسب الذي يحافظ على العلاقة النضالية المشتركة والمديدة بين الشعبين العربي والكردي وبقية القوميات بالعراق. " (الحوار المتمدن بتاري 23/8/2016). لم تجر إعادة النظر بهذا الموضوع فحسب، بل اتخذ، كما أرى، إجراء خاطئ أخر هو الاستفتاء، وهو الأمر الذي فاقم المشكلة وعمقها في ظرف غير مناسب تماماً، والذي أدى إلى ما نحن فيه الآن!
ولكن الآن، وبعد أن تم الاتفاق بين أطراف في البيت الكردستاني مع الحكومة الاتحادية باستعادة القوات والإدارة العراقية المشتركة للمناطق المتنازع عليها كلها تقريباً، لا بد من العودة إلى التفكير بحلول ديمقراطية حول العلاقة الأخوية والنضالية المشتركة مع الشعب الكردي والقوميات الأخرى بإقليم كردستان أولاً ومع الشعب العربي بالعراق ثانياً، وتنظيم العلاقات والإدارة الديمقراطية المشتركة في المناطق المتنازع عليها بما يسهم في تعزيز الأخوة والصداقة والتضامن بين جميع القوميات بالعراق الجمهوري الديمقراطي المنشود.
إن العلاقة السليمة مع الإقليم بحاجة إلى إعادة النظر بالدستور العراقي وإلى وضع قوانين حاكمة لهذه العلاقة على الصعيدين الداخلي، بما في ذلك موضوع النفط والمالية والصلاحيات والحقوق والقوات المسلحة.. الخ، والعلاقات الخارجية أيضاً، على وفق أسس الفيدرالية المعروفة دولياً والمجربة جيداً، بما يساعد على تجنب الخلافات والمشكلات بسبب المواد الدستورية الحمالة لأوجه عديدة.           
وإذا كان العراق بحاجة إلى التغيير والديمقراطية والخلاص من الطائفية ومحاصصاتها والفساد، فأن الوضع بإقليم كردستان العراق هو الآخر بحاجة إلى التغيير والديمقراطية والحياة الدستورية والبرلمانية السليمة وحرية الصحافة ومحاربة الفساد، كما إنه بحاجة، وكذلك العراق كله، إلى برامج للتنمية الاقتصادية والبشرية، وبشكل خاص للخلاص من الاقتصاد الريعي والاستهلاكي والعمل الجدي لبناء صناعة وطنية وزراعة حديثة ومتنوعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتوفير الأمن الغذائي والاقتصادي، بخلاف الوضع الراهن حيث لا أمن غذائي ولا اقتصادي والاعتماد على موارد النفط الخام لا غير بالعراق ومنه الإقليم ايضاً، والذي لم ولن يساهم في تقدم العراق كله بما فيه الإقليم.
واليوم وبعد أن حصل ما حصل على الحكومة الاتحادية ان تتخذ مواقف صارمة إزاء التجاوزات التي وقعت وما تزال ترتكب ضد الكرد في المناطق المتنازع عليها والتي تقود إلى مزيد من التوتر والصراع والنزاع الدموي، كما حصل في خانقين والتون كوبري وكركوك وغيرها. إن قرار سحب "قوات الحشد الشعبي: من المناطق المتنازع عليها، بما فيها جماعات "الحشد الشعبي" المحلية مثل "الحشد التركماني والحشد العشائري، سيساعد على إبعاد محاولات الانتقام والإساءات أو التهجير القسري، كما حصل مؤخراً والعمل على إعادة من هجر قسراً أو بسبب خشيتهم من الانتقام إلى مناطق سكنهم.
إن من واجب الأخوة الكرد أن يسعوا إلى إعادة لملمة صفوفهم والدخول بحوار جاد ومسؤول مع الحكومة الاتحادية لتحقيق النتائج المرجوة والعادلة لكلا الطرفين. إن من واجب الطرفين الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت في الفترة المنصرمة وبجرأة من أجل معالجة المشاكل القائمة بروح الأخوة والصداقة والتضامن ولصالح المجتمع العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية المتعددة.
لنعمل من أجل التغيير وانتصار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات واتباع الديانات والمذاهب بالعراق كله، ولنعمل على دحر الطائفية والشوفينية والفساد والإرهاب والتدخل الخارجي في الشأن العراقي. لندحر كل القوى المتطرفة والساعية إلى تأجيج الصراعات والنزاعات الدموية والمليئة بالحقد والكراهية والتي أشار إليها رئيس الوزراء في خطاباته الأخيرة والذين مارسوا الاستبداد والقسوة والفساد في فترة حكمهم بين 2006-2014 والعواقب الوخيمة لتلك السياسات الطائفية المذلة للشعب وقواه الديمقراطية. 
       

308
كاظم حبيب
لتتوقف التحشيدات العسكرية المتبادلة، ليحتكم الجميع للعقل والحوار
في الوقت الذي يتعاظم قلق الناس بالعراق كله حين يرون ويسمعون عن تحشيدات عسكرية كبيرة ومتسارعة من جانب القوات العراقية وقوات الپيشمرگة الكردستانية، وتزداد الخشية من احتمال وقوع صدام عسكري في نقطة ما ليمتد لهيبها إلى كركوك كلها ثم إلى كل المناطق المتنازع عليها وإلى كردستان والشمال كله، تتعالى في الوقت ذاته الأصوات الخيرة والعاقلة الداعية إلى إعمال العقل والعودة إلى الحكمة ودروس الماضي من كون الحروب لا تعالج المشكلات بل تزيدها تعقيداً، وأن الحروب لا يمكن إلا أن تلد حروب أخرى، والدم ينزف دماً، على حد قول الشاعر الجواهري الذي تغنى بكردستان وشعبها.
في هذا الوقت بالذات ترتفع أصوات المتشددين والمتطرفين والشوفينيين الداعية إلى الحرب وتطويق كردستان وتجويعها وكسر شوكة الشعب الذي أعطى رأيه بالاستفتاء في 25/09/2017 2017. إن هذه الأصوات الجاعرة لا تختلف قطعاً عن تلك الأصوات التي كانت تبث سمومها في فترة حكم البعث والدكتاتور الأرعن صدام حسين وحديثه المخزي عن "الجيب العميل!". وها هي إذاعة العراقية تحشد كل من هب ودب من المناوئين للشعب الكردي ليتحدثوا عن ضرورات إنهاء المعركة بسرعة ونقد الحكام بسبب تساهلهم مع الكرد وما حصل بكركوك. 
علينا أن نعلم جميعاً بأن لا يمكن لأي طاغية أو عنصري بشع أن يمنع أي شعب عن الإدلاء برأيه أولاً أو المطالبة بحقه في تقرير المصير. ولكن والإدلاء بالرأي لا يعني نهاية المطاف وبدء الانفصال. وبالتالي فلا معنى من المطالبة بإلغاء أو تجميد الاستفتاء. فما حصل قد حصل، وعبر الشعب الكردي عن رأيه وكان الجميع يتوقع ذلك بالقطع. وعلى الحكومة العراقية أن تبتعد عن عمليات التصعيد ولا تتماثل مع ما تمارسها الحكومتان المستبدتان في كل من إيران وتركيا لخنق الشعب الكردي والانتقام منه لجرأته ونضاله وحصوله على الفيدرالية، والتي لم تكن هدية من الحكومة العراقية بل اكتسبت بنضال هذا الشعب وتضحياته الجسام وبمساندة الشعب العربي وبقية القوميات بالعراق.
إن مطالبة الشعب الكردي بالكف عن طرح مسألة حقه في تقرير المصير لا يجسد وعياً بالحق الدولي لكل الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها ودون وصاية من أحد. وعلى حكومات المنطقة التي فيها أجزاء من الأمة الكردية المقسمة أن تعترف للشعب الكردي في كل منها بحقه الثابت في تقرير مصيره.
صحيح إن طرح الاستفتاء في هذه الفترة وفي الظروف التي يمر بها العراق لم يكن مناسباً، وقد عبرت عن هذا الرأي مراراً وتكراراً لا من منطلق قومي أو شوفيني بل من مصلحة الشعبين وبقية القوميات في هذا الظرف العصيب الذي ما يزال يمر العراق كله بسبب الحرب ضد عصابات داعش المجرمة ولأسباب أخرى بينتها في أكثر من مقال ولقاء. ولم يكن هذا الاستفتاء المتعجل سوى هروبا إلى الأمام من تلك المشكلات الصعبة التي كانت تواجهها سياسات الحكم بالإقليم، وكان الأفضل اختيار وقت آخر لمثل هذه الخطوة وحين تكون كردستان قد وفّرت مستلزمات فعلية لتحقيق هذه الخطوة وما يفترض أن يأتي بعدها.
ومع ذلك فالاستفتاء قد حصل، وليس خاتمة المطاف، كما عبَّرت عن ذلك القيادات الكردية ذاتها، وعلى الحكومتين تقع مسؤولية البدء بالحوار والتفاوض السلمي والديمقراطي لمعالجة المشكلات القائمة التي ستحل مشكلة الاستفتاء من نفسها، فلم يكن قد وقع الاستفتاء لو كانت الحكومات العراقية المتعاقبة قد عالجت المشكلات القائمة، وخاصة مشكلة المناطق المتنازع عليها على وفق ما حدده الدستور العراقي، وعلى وفق الفترة الزمنية المحددة لذلك. إلا إن التسويف والمماطلة وتجاوز الفترة الزمنية والتعقيدات المتفاقمة التي نشأت في فترة حكم رئيس الوزراء السابق هي التي أوصلت الأمور إلى الطريق الراهن والذي يبدو وكأنه مسدود. ولكن ليس هناك من طريق مسدود وعلينا سلوكه، إنه طريق الحوار والحل السلمي الديمقراطي لكل المشكلات العالقة، ولا يمكن لطبول الحرب أن تعالج المشكلة بل لتدق أجراس السلام في كركوك وفي كل العراق.
لنرفع جميعاً شعار السلام وليس الحرب الطريق لحل المشكلات العالقة.
لتخرس كل الأصوات الناعقة والداعية للحرب والموت والدمار، ليخرس كل المتطرفين والمتشددين والشوفينيين في الطرفين.     
     

309
د. كاظم حبيب
هل شاخ الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني أم تخلى عن مبادئ الاشتراكية؟
لم يعد طرح هذا السؤال غريباً عن الأوساط السياسية والشعبية بألمانيا: هل شاخ الحزب الاشتراكي الألماني، أم أنه قد تخلى عن مبادئه الأساسية التي تشكل المضمون الأساسي للاشتراكية، أم شاخت قيادته وكوادره وخطابها السياسي؟ ولم تترك الصحف الألمانية الكبيرة والمعروفة عن نشر المقالات والنقد لهذا الحزب وطرح الكثير من الأسئلة التي تصب بنفس الوجهة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر جريدة الوقت الأسبوعية Die Zeit، أو جريدة برلينر تسايتونگ Berliner Zeitung ، أو جريدة نويس دويتشلاندNeues Deutschland   اليسارية، أو جريدة فرايتاگ. Freitag  كما إن هناك أسئلة أخرى تثار منها مثلاً: لماذا يطرح مثل هذا السؤال منذ سنوات؟ ولماذا لا يلقى صدى ورد فعل إيجابي من جانب قيادة هذا الحزب، وهم يرون كيف تتراجع شعبية حزبهم؟ نحاول في هذه المقالة تقديم رؤية اجتهادية للعوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة وبشكل مكثف.
تشير المعطيات المتوفرة عن النتائج التي حققها الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في عدد من الدورات الانتخابية للبرلمان الاتحادي منذ العام 1949 حتى العام 2017 إلى اللوحة الأتية لعدد منها:

Vgl.: Bundestag.de, Ergebnisse der Bundestagswahlen.
وإذا كانت النتائج في الدورات الانتخابية خلال هذه الفترة الطويلة متقلبة من دورة إلى أخرى، إلا إنها لم تنخفض عن الثلاثين بالمئة إلا في العام 1949، ثم بدأت بالصعود والتقلب والتراجع المستمر منذ العام 2005 حتى الوقت الحاضر. وأسوأ النتاج ظهرت في الدورة الانتخابية لعام 2017. فما هي العوامل الكامنة وراء هذا الواقع بألمانيا؟ في ضوء الدراسات والمناقشات المنشورة يمكن تشخيص عوامل عدة عامة تشمل الأوضاع بألمانيا كلها، بل وأوروبا عموماً من جهة، وعوامل أخرى تخص أزمة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني من جهة أخرى؟                                                 
فمنذ  منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولاسيما منذ انهيار النظام السياسي بالاتحاد السوفييتي ومعه النظم السياسية بأوروبا الشرقية، وكذلك ألمانيا الديمقراطية، وإقامة الوحدة الألمانية، تفاقم ممارسة الحكومات الألمانية المتعاقبة لاتجاه سياسي واقتصادي واجتماعي يميني، ووجد تعبيره في توجهات مماثلة داخل المجتمع الألماني. وإذا كان هذا التوجه قد بدأ منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بممارسة سياسات اللبرالية الجديدة التي انطلقت من الولايات المتحدة وبريطانيا وشملت العالم الرأسمالي كله ، تنامى أكثر فأكثر في العقد الأخير من القرن العشرين وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وتجلى في الانقضاض على المكاسب الاجتماعية التي تحققت خلال فترة الحرب الباردة بين المعسكرين وتقليصها، وفي التشدد مع طالبي اللجوء وإجراء تغييرات متشددة في القوانين والقواعد المنظمة للجوء، وكذلك في الموقف من وجود الأجانب بألمانيا. يضاف إلى ذلك بروز نهج متصاعد في الأوساط الشعبية مناهض للسامية أو لليهود، إذ بدا واضحاً في ارتفاع عدد الجنح والإساءات التي ترتكب في مقابر اليهود أو التحرش بهم.. الخ. "فبحسب التقرير الذي أعدته لجنة مكونة من خبراء عن معاداة السامية في ألمانيا، يساور اليهود في ألمانيا قلق على أمنهم بشكل متزايد بسبب التجارب اليومية المعادية للسامية. لذا طالبت مجموعة الخبراء الذين تم تعيينهم من جانب البرلمان الألماني "بوندستاج" بتحسين سبل تسجيل الجرائم المعادية للسامية والمعاقبة عليها وكذلك تعزيز خدمات تقديم المشورة لضحايا معاداة السامية، ولكن الخبراء حذروا في الوقت ذاته من التسرع في الاستنتاجات. وجاء في التقرير أنه على الرغم من أن معدل الآراء المعادية للسامية بين الشباب ذوي الخلفية المجتمعية المسلمة يزيد على ما هو عليه بين غير المسلمين، وعلى الرغم من أن المهاجرين الوافدين بصفة خاصة من دول عربية وشمال أفريقية يميلون لمعاداة السامية، فإن المسلمين الأكبر عمرا وغير المسلمين يختلفون عن ذلك قليلا. وأفترض الخبراء وجود نحو 20 بالمئة من معاداة السامية الكامنة داخل المواطنين الألمان بشكل إجمالي." (راجع: يهود ألمانيا يشعرون بالتهديد من تزايد العداء للسامية بين المسلمين، تقرير، نشر في موقع المصراوي في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2017). وجاء في تقرير عن معاداة اليهود في الحياة اليومية بألمانيا نشر على موقع دويتشة فيلة DW ما يلي: "وصف الحاخام دانييل ألتر تعرض اليهود لشتائم وإهانات وحتى لاستخدام العنف ضدهم، بأنه "أمر عادي كليا في ألمانيا"، مشيرا إلى أن حوالي ثلث الألمان معادون لليهود. ويضيف: "معاداة اليهود ظاهرة منتشرة في جميع فئات المجتمع". وأصبحت هذه الظاهرة "مقبولة اجتماعيا"، كما يقول ألتر الذي تولى في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي منصب مفوض الجماعة اليهودية في برلين لشؤون مكافحة معاداة السامية." (نشر بتاريخ 04/02/2017، وأخذ المقتطف بتاريخ 10/10/2017). 
أما بالنسبة لمعاداة الأجانب فقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي أعده محاضرون في جامعة "لايبزيج" الألمانية، زيادة عداء الألمان تجاه المسلمين واللاجئين والغجر خلال العام الحالي (2016)، بنسبة تفوق نظيرتها خلال عامي 2011 و2014.  فتتراوح نسبة الرافضين للأجانب بألمانيا بين 40-45% في العام 2016." كما "أعرب 50% من المشاركين في الاستطلاع عن شعورهم بأنهم غرباء في بلدهم بسبب المسلمين في البلاد، في حين كانت النسبة 36،6%  عام 2014، و26،1% في 2011". (راجع: استطلاع: ارتفاع نسبة العداء ضد المسلمين واللاجئين بألمانيا خلال 2016، تقرير نشر في موقع فيتو Veto، في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2017).
تقترن هذه الظواهر السلبية، سواء أكانت بألمانيا أم بالاتحاد الأوروبي عموماً وخلال السنوات العشرين المنصرمة، بأزمة الديمقراطية التي تعاني منها ألمانيا وكذا الاتحاد الأوروبي، ولاسيما في العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، والحكومة والأحزاب السياسية والبرلمان والحكومات المحلية ومجالسها من جهة أخرى، وتراجع شديد في مصداقيتها بين أوساط المجتمع. وفي ذات الوقت تنامي دور القوى والأحزاب اليمينية ونشاطاتها في المجتمع ودخولها في المجالس المحلية وفي مجلس النواب الألماني. وفي الانتخابات الأخيرة مثلاً فاز الحزب اليميني الراديكالي المسمى „البديل لألمانياAlternative für Deutschland " (AfD) بنسبة تصويتية عالية بلغت 12,6% في انتخابات عام 2017 في حين لم يحز في انتخابات عام 2013 أكثر من 4,7% والتي لم تؤهله الدخول في البرلمان الاتحادي الألماني، إذ لم يحصل على النسبة المحددة دستورياً، وهي 5%. وولكن ما هي أسباب هذه الظواهر السلبية؟ فيما يلي محاولة تشخيص بعض المشاكل التي تدفع بهذا الاتجاه اليميني في المجتمع الألماني:
** ضعف العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، والسلطة السياسة والبرلمان الاتحادي والمجالس المحلية من جهة أخرى وتراجع في استشارة الشعب في معالجة مشكلاته واعتماد التمثيل النيابي مع تقلص شديد في العلاقة بين النائب وناخبيه خلال الدورة الانتخابية وعدم الانتباه لحاجاته والتغيرات الطارئة على المجتمع الألماني.
** اتساع الفجوة (المقص) بين الأغنياء والفقراء بألمانيا، بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء، بحيث أصبحت الصحف الألمانية، حتى اليمينية والمحافظة منها، تشكو من هذه الظاهرة وتخشى من عواقبها. فقد أشار النائب اليساري گريگوري گيزي إلى أن 10% من السكان يملكون 61% من صافي الثروة لعام 2011 بألمانيا«، وأن عدد أصحاب اليورو المليارديرية بألمانيا بلغ 830 ألف في العام 2012 بعد أن كان 720 ألف في العام السابق له، أي بزيادة قدرها 110 ألف ملياردير في سنة واحدة رغم الأزمة التي تلف العالم الرأسمالي". والاتجاه في ارتفاع مستمر. ويؤكد ذلك ما يشار في الصحافة إلى ارتفاع في عدد المليارديرية والمليونيرية من جهة، وارتفاع مستمر في عدد الذين يقعون تحت خط الفقر المحدد لدول متقدمة مثل ألمانيا، وازدياد عدد الأطفال الذين يعانون من فقر عائلاتهم. فقد بلغت نسبة الفقراء في العام 2005 (14,7%) من مجموع السكان، وارتفعت هذه النسبة في الأعوام اللاحقة لتصل في العام 2017 إلى (15,7%)، أو ما يعادل 12,9 مليون نسمة في هذا العام. (راجع 2016 و2017(Zeit online. تعتبر العائلة الألمانية فقيرة حين يكون دخل المرأة أو الرجل مع طفل لا يزيد عن 970 يورو في الشهر، وعن 1097 يورو مع طفلين شهرياً، والفقير هو من يقل دخله الشهري 60% عن متوسط دخل الفرد. (ceco.de,Armutgrenze: (   
** اتساع الفجوة في مستوى معيشة الفئات الاجتماعية, وارتفاع نسبة التضخم السنوية، ولكن بشكل خاص ارتفاع إيجارات السكن، بسبب المضاربات بالعقار ودور السكن، ونقص كبير ف عرض الشقق المخصصة للعائلات التي تستحق المساعدة الاجتماعية، وضعف الاستثمارات الحكومية والخاصة الموجهة لهذا الغرض. وهذه الزيادة تجهز على نسبة ارتفاع المدخولات لذوي الدخل المحدود مما يقلص من صافي الدخل المتحقق لهم ويسمح بتراجع مستوى معيشة هذه الفئات الفقيرة ومحدود الدخل من المجتمع. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع في عدد المشردين وبدون مأوى والمحتاجين إلى المساعدة الاجتماعية.
** ومع تقلص عدد العاطلين عن العمل خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغت في نيسان/أبريل من العام 2017 نسبة قدرها 5,8%، إلا إنها ما تزال عالية بين الأجانب، وبشكل خاص بين القادمين الجدد الذين لا يجدون عملاً لهم، مما يدفع بالبعض الكثير منهم إلى بيع جسده في سوق العهر الألماني غير الرسمي. فأخر تقرير نشر في جريدة برلينر تسايتونگ يوم 09/10/2017 أشار إلى ما يلي:" من يتمشى في البارك الكبير لمنطقة تيرگارتن ببرلين سيصطدم بظاهرة غريبة صبية قاصرين وشباب من اللاجئين يبيعون جسدهم بين أشجار البارك لقاء نقود قليلة. وأغلب هؤلاء اللاجئين جاءوا من أفغانستان وباكستان وإيران". (Berliner Zeitung, Nr. 235, Montag, 09.10.2017; S. 17)، علماً بأن هذه الظاهرة لا تقتصر في وجودها على برلين بل هناك تقارير تشير إلى انتشارها في محافظات ألمانية أخرى.
** ضعف سياسة الاندماج الاجتماعي للأجانب عموما ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، ولم تتحسن كثيراً رغم النقد الموجه للحكومة بهذا الخصوص، ولكن وبشكل خاص أولئك الذين بدأوا يفدون إلى المانيا كلاجئين خلال الفترة 2015-2016 بسبب الحروب في الشرق الأوسط وغرب أسيا والأوضاع السيئة للكثير من المجتمعات في أفريقيا. وقد استقبلت ألمانيا مئات الآلاف من اللاجئين إليها خلال عامي 2015 و2016 بحيث عجزت أجهزة الإدارة تنظيم القادمين، وتوفير الظروف المناسبة لهم، مما أدى إلى ارتفاع مستوى التذمر في صفوف المجتمع واستخدم بنذالة من قبل القوى اليمينية واليمينية المتطرفة ضد السياسات الحكومية وضد الأجانب أيضاً.     
** التراجع الشديد في معالجة المشكلات الاجتماعية المتزايدة بألمانيا بسبب غياب برنامج على صعيدي أوروبا وألمانيا لهذا الغرض، مما ساهم في بروز فجوة متسعة في مستوى المعيشة والامتيازات وفي المعالجة الطبية وفي التعليم ورياض الأطفال ...الخ. وقد بدأت الصحافة تنشر معلومات غير قليلة عن غياب المساواة في مجالي التعليم والصحة ووجود مستويين متمايزين للأغنياء وللفقراء.   
** ومن الجدير بالإشارة إلى إن الأحزاب المحافظة واليمينية، في محاولة منها لوقف تقدم القوى اليمينية المتطرفة، تحاول أن تنافسها، بل وتتجاوزها في بعض الأحيان، في طرح الشعارات اليمينية التي لا تضعف التوجه اليميني في المجتمع بل تعززه، ويستفيد منه اليمين المتطرف.     
أما على صعيد الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني فأن الكثير من الدراسات والمقالات ومتابعتنا الشخصية لأوضاع هذا الحزب تؤكد تأثير عوامل مهمة تتسبب في ضعفه والتي يمكن بلورتها فيما يلي:
1. من حيث المبدأ لا يعتبر أي حزب سياسي هدفاً بذاته، بل هو وسيلة أو أداة لتحقيق أهداف الجماعة التي تشكل هذا الحزب أو ذاك، والتي بدورها تعبر أو تسعى للتعبير بهذا القدر أو ذاك عن مصالح فئة أو فئات اجتماعية بعينها. وبالتالي فالأحزاب كوسيلة لا تشيخ، بل بمرور السنين تتراكم لديها الخبرة والتجربة والدروس التي يمكن أن تنفع قيادات الأحزاب وأعضائها في وضع استراتيجياتها وتكتيكاتها. إلا إن من يشيخ في الأحزاب هي القيادات التي لا تتغير لسنوات طويلة ولا تتطعم باستمرار بدماء شابة جديدة ممتلئة حيوية ودفقاً جديداً وقادرة على تقديم مبادرات تسهم في تجديد وتوسيع وتطوير علاقة الأحزاب بالواقع وبالحداثة والمجتمع، ولاسيما الشباب من الذكور والإناث، وتحمل معها تطلعات الشباب وحاجاتهم، وتتخلص من خطابها القديم الذي ربما بلى وتخشب. وإذا حاولنا رؤية ما جرى ويجري في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني خلال العقود الثلاثة الأخيرة فيمكن القول بأن هذه القيادة لم تعرف التجديد الضروري في قوام القيادة وفي توزيع المسؤوليات في الحزب والبرلمان وفي المسؤوليات الحكومية على مستوى المركز والمحافظات، وبالتالي حافظ كبار السن على مواقعهم الأساسية ورفضوا بعناد التنازل عنها لمن هم من أصغر سناً منهم، دع عنك الشبيبة. وهذه المعاناة جعلت الحزب يبدو وكأنه قد شاخ فعلاً، في حين أن الشيخوخة قد شملت القيادة والكوادر وأساليب وأدوات العمل والخطاب السياسي.
2. والمسألة الأكثر تأثيراً على علاقة الحزب الديمقراطي الاجتماعي بأوساط الشعب وأصحاب الدخل المتوسط والمحدود وجمهرة المثقفين تبرز في تخلي الحزب عن عدد من المبادئ الأساسية التي التزمت بها أحزاب الأممية الثانية وميزتها عن الأحزاب البرجوازية بألمانيا وعموم أوروبا، رغم وجود تباين جوهري بين أحزاب الأممية الثانية في فترة تشكيلها ولسنوات طويلة لاحقة، وبين أحزاب الديمقراطية الاجتماعية للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، ولاسيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومساوماتها مع البرجوازية الكبيرة في بلدانها. وأبرز ما لوحظ على هذا الحزب بألمانيا هو تراجعه عن الدعوة الجادة والعمل الفعلي لصالح مبدأ العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة، والعمل على تحقيق المساواة بين المواطنين، وضعف دور المرأة في الحزب وقياداتها والمساواة بينها وبين الرجل في الكثير من جوانب الحياة ومنها الأجر مقابل العمل نفسه. يضاف إلى ذلك استمرار التمايز بين شرق ألمانيا وغربها رغم مرور 30 عاماً على قيام الوحدة الألمانية والذي يبرز في الرواتب التقاعدية ورواتب الموظفين وفي الأجور وبين المرأة والرجل في غير صالح شرق ألمانيا، وكذلك في بطء تطور الشرق مما يؤدي إلى انتقال الكثير من الشبيبة إلى غرب ألمانيا لنقص في فرص العمل وارتفاع حجم البطالة.
3. كما برز بوضوح ضعف اهتمام الحزب الديمقراطي الاجتماعي بالمشكلات الاجتماعية التي تواجه المواطن والمواطنة بألمانيا وعلى المستوى الأوروبي، وضعف برنامجه في هذا المجال، وبشكل خاص بالنسبة للطبقة العاملة صغار المنتجين وأصحاب المحلات الفردية والفئات الأكثر فقراً في المجتمع. وبهذا ترك الحزب هذه الفئات تواجه استغلال متفاقم من جانب كبار الرأسماليين والاحتكارات الرأسمالية المحلية والدولية، ومضاعفة أرباحها، في حين تعاني الفئات الفقيرة من شظف العيش وتراجع مكاسبها الاجتماعية.
4. وفي فترة التحالف بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر برئاسة المستشار گيرهارد شرودر مستشاراً لألمانيا نفذ  ما أطلق عليه بـ "اجندا 2010" التي اعتبرت عملية إصلاح النظام الاجتماعي وسوق العمل بألمانيا والذي ألحق اضراراً فادحة بالفئات الفقيرة والعاملة وذوي الدخل المحدود ...الخ والتي رفضت من أغلب سكان المانيا ورحبت به الفئات المالكة لوسائل الإنتاج والاحتكارات الكبيرة، وكانت له عواقب سلبية على سمعة وشعبية الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر في آن. 
5. إن التحالف بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني والحزبين الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي منذ العام 2005، والذي استمر حتى انتخابات عام 2017، قد أضعف تأثير الحزب في سياسة الدولة الألمانية وأضعف مصداقيته لدى أوساط الشعب الألماني، وبالتالي كانت النتيجة رفض المجتمع لمثل هذا التحالف بين الحزبين الكبيرين الديمقراطي الاجتماعي والديمقراطي المسيحي المتحالف مع الحزب الاجتماعي المسيحي، من خلال تراجع القوة التصويتية لهذه الأحزاب في الدورة الانتخابية لعام 2017.     
6. إن هذه الحقائق تؤكد بأن الحزب الديمقراطي الاجتماعي قد خضع لقوى الجناح اليميني في الحزب والمجتمع في صياغة أهدافه وشعاراته وفي ممارساته اليومية، مما أضعف القوى اليسارية فيه وفي المجتمع، وتجلى ذلك في استعداده للمساومة والموافقة على الكثير من سياسات الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي التي لم تحظ بتأييد المجتمع وكانت سلبية، سواء أكان ذلك في موضوع الحد الأدنى للأجر، أم بصدد نسبة الضرائب التي يفترض أن تفرض على كبار الشركات الرأسمالية الاحتكارية وكبار الرأسماليين، أم بصدد زيادة الراتب التقاعدي للمتقاعدين وتحول الكثير منهم إلى حالة الفقر رغم عملهم الشاق لعقود عديدة، أو الموقف من تصدير المزيد من الأسلحة إلى الدول النامية ومناطق النزاع الساخنة وإلى النظم الرجعية والمعادية للديمقراطية ... الخ.
7. ورغم بروز فرصة تشكيل تحالف سياسي بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب اليسار وحزب الخضر لتشكيل الحكومة الاتحادية في ضوء نتائج انتخابات سنة 2013، رفض الحزب الديمقراطي الاجتماعي تشكيل الحكومة، ودخل في تحالف مع الحزبين المسيحيين، مما أفقد المجتمع الألماني فرصة تحقيق التغيير النسبي المنشود في السياسات الألمانية على الصعد المحلية الأوروبية والدولية. وقد عوقب هذا الحزب في العام 2017 بتراجع نسبة المصوتين له وبخسارة أكثر من خمس نقاط، في حين ارتفع رصيد حزب اليسار وحزب الخضر وعدد المصوتين لهما نسبياً.   
من هنا يمكن القول بأن الحزب الديمقراطي الاجتماعي لم يشخ، بل الشيخوخة شملت قيادته التي عشقت الكراسي على حساب مصالح المجتمع، ولاسيما الفقراء منهم، وتخليه عن الجوهري من المبادئ الاشتراكية ولاسيما العدالة الاجتماعية وفي تخشب خطابه السياسي والاجتماعي. ومن هنا حاول رئيس الحزب الجديد مارتين شولتزMartin Schulz ، الذي ورث القيادة من قائد الحزب اليميني سيغموند غابريل، أن يعيد الاعتبار لشعار الحزب المركزي "العدالة الاجتماعية" نظرياً، ولكنه أصبح رئيساً للحزب في وقت قصير قبل الانتخابات ولم يتسن له بلورة وطرح برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي متكامل يُظهر فيه الفوارق بين أهداف وسياسات حزبه الديمقراطي الاجتماعي وبين أهداف وسياسات اتحاد الحزبين المسيحيين المحافظ. كما بدأ بمحاولة تغيير في قيادة الحزب بعد ظهور نتائج الانتخابات مباشرة حين وضع وزيرة العمل السابقة ونائبة رئيس الحزب اندريا ناليس  Anderea Nahles رئيسة للكتلة البرلمانية الاتحادية للحزب في البرلمان الاتحادي الألماني، وهي السيدة التي تقود الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وبالتالي فهو بذلك أعطى دفعة أولي جديدة نحو اليسار، إذ ربما يتبلور بشكل أفضل في مؤتمر الحزب القادم. ولا بد من الإشارة بأنها ولأول مرة في تاريخ هذا الحزب تنتخب امرأة لقيادة الكتلة البرلمانية الديمقراطية الاجتماعية في البرلمان الاتحادي منذ تأسيس الدولة الألمانية الاتحادية عام 1949.     
وفي ضوء نتائج الانتخابات ومن أجل بذل محاولة استعادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي لتوازنه وعلاقته بالمجتمع والطبقة العاملة والفئات المتوسطة والفقيرة من خلال تأكيد جوهر مبادئه الاشتراكية والسعي لاستعادة تأييد مزيد من بنات وأبناء الشعب الألماني له باعتباره حزب شعبي، ومن أجل تمييز نفسه عن الاتحاد المسيحي الديمقراطي، رفض الحزب المشاركة في الحكم التي جلبت للحزب والمجتمع الكثير من المشكلات، في تحالف مع الاتحاد المسيحي، وقرر البقاء في المعارضة إلى جانب حزب اليسار. وتحاول السيدة ميركل تأليف حكومة جديدة تتشكل من أربعة أحزاب هي الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي والديمقراطي الألماني الحر (اللبرالي) وحزب الخضر. ويطلق على هكذا تشكيلة بتحالف جامايكا لأنه ألوان هذه الأحزاب هي الألوان التي يتشكل منها علم جامايكا: أسود وأصفر وأخضر. وسوف لمن يكون سهلاً تشكيل مثل هذه الحكومة، وستبذل الكثير من الجهود والمساومات المتابدلة لتشكيلها إذ بدون ذلك لا بد من إجراء انتخابات جديدة، إذ أعلن الحزب الديمقراطي الاجتماعية المشاركة مع الاتحاد المسيحي في تشكيل الحكومة بأي حال من الأحوال.   
ومن الممكن ان يبدأ تعاون جديد بين القوى اليسارية بألمانيا بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي والحزب اليساري لا في مواجهة الحكومة الجديدة من تحالف القوى المحافظة بشكل عام، بل وبمواجهة حزب البديل لألمانيا، وهو حزب يميني متطرف معادٍ للأجانب وضد قبول اللاجئين بألمانيا وشعاره "ألمانيا للألمان: وضد "أسلمة المانيا!"، وهو حزب شديد المحافظة ويجد التأييد من النازيين الجدد والقوى اليمينية المتطرفة المماثلة له، ومن تلك الحركة بگيدا ( PEGIDA) (Patriotische Europäer gegen die Islamisierung des Abendlandes) (مواطنو أوروبا ضد اسلمة الغرب) التي رفضت قبول اللاجئين بألمانيا وتظاهرت على مدى ثلاث سنوات ضد الأجانب. وقد حصل حزب البديل لألمانيا على عدد كبير من الأصوات أخذها من المصوتين السابقين لبقية الأحزاب باعتباره حزبا احتجاجيا ويمينياً متطرفاً، وحصل على أصوات بشكل خاص من اتحاد الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي، ولكنه انتزع أيضاً جمهرة كبيرة من مؤيدي الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر وحزب اليسار.
إن الفترة التي سيكون الحزب الديمقراطية الاجتماعي فيها في المعارضة سيبرز ما إذا كان قادراً على تجديد قيادته وتحديث أهدافه وسياساته والدفع باتجاه اليسار لمقاومة الدفع بالاتجاه الميني الذي سيحكم الحكومة الاتحادية القادمة ونشاط القوى اليمينية المتطرفة.
10/10/2017
       

310
كاظم حبيب
السياسات المحمومة لدول الجوار والوضع بكردستان العراق!!
يسعى النظامين التركي والإيراني إلى تصعيد التوتر على الحدود العراقية التركية والعراقية الإيرانية والتهديد باتخاذ إجراءات عقابية ضد الشعب الكردي بهدف خسيس هو تجويع هذا الشعب بغلق الحدود ومنع تصدير النفط أو إيصال شحنات الغذاء وغيرها إلى الإقليم بهدف محاصرته من كل الجهات. هذا الموقف العدواني الذي يحمل في طياته الكثير من الروح العنصرية والاستبداد والظلم يعبر عن طبيعة النظامين في البلدين الجارين وعن طبيعة الحكام في هذين البلدين الذين لا يرعون حرمة ويتدخلون في الشأن العراقي بوقاحة بالغة وكأنهم يتحدثون عن العراق أو كردستان وكأنهما أقضية ومحافظات تابعة لهما يعملون فيها وضدها ما يشاءان. هذا الموقف المتعجرف والعدواني ليس غريباً عمن يزج بعشرات الآلاف من الناس الأبرياء في المعتقلات ويسلط عليهم شتى أنواع التعذيب الهمجي، كما يحصل بتركيا منذ العام المنصرم حتى الآن، أو ما يضمه سجن إيفين وغيره من معتقلي الرأي والعقيدة والموقف السياسي منذ الثورة المسروقة في العام 1979 بإيران حتى الآن. وقد تناغم مع هذا الموقف العدواني مجلس النواب العراقي، لأنه لا يمتلك حريته بل هو خاضع في أكثريته "المسلمة!" لإرادة إيرانية شريرة، وإلا لما اتخذ المجلس النيابي تلك الإجراءات الشرسة التي طالبت حكومة بغداد بتنفيذها، والتي بدأ بعضها بالتنفيذ الفعلي كما جرى في غلق مطاري أربيل والسليمانية.
لم نخف عن القيادات الكردستانية، ولاسيما الحزبين الحاكمين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، رأينا في سياسات الإقليم منذ سنوات وتحالفاته السياسية، سواء تم ذلك عبر مقالات منشورة في الصحف والمواقع العراقية، أم عبر رسائل شخصية أم باسم التجمع العربي لنصرة القضية الكردية، حين كنت أمينها العام، أم عبر لقاءات مباشرة خاصة وعامة وانتقدنا بعض تلك السياسات التي وجدناها لا تنسجم مع أهمية دعم النضال في سبيل الديمقراطية على صعيد كردستان والعراق كله، أم بصدد القوانين التي تصدر عن مجلس النواب العراقي التي كان التحالف الكردستاني يؤيدها وهي في غاية السوء وفي غير مصلحة الدولة الديمقراطية وحرية الصحافة أو الأحزاب أو الانتخابات أو حتى حول العلاقات المتوترة بين القوى السياسية بكردستان العراق ذاتها. وغالباً ما اصطدمنا بأذن غير صاغية على أهمية ما كنا نورده كأصدقاء مخلصين للشعب الكردي ولحقه في تقرير مصيره. حتى شعرنا بأن الأخوة لم يعودوا يرتاحون لرسائلنا وملاحظاتنا أو لنقل بوضوح نقداتنا للوضع، علماً بأننا لم نقصر أبداً في نقد وتشريح سياسات الحكم ببغداد، ولاسيما رئيس الوزراء السابق الذي أغرق العراق بالدم والدموع، وخاصة محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى ومحافظة نينوى، بسبب سياساته الطائفية اللعينة. وحين دعينا إلى اجتماع بالسليمانية لإبداء الرأي حول الاستفتاء لم نبخل على المسؤولين الكرد برأينا حرصاً منّا على سلامة الفيدرالية وما تحقق فيها من منجزات عمرانية لم تعتمد التنمية والاستثمار والتشغيل الإنتاجيين، وحرصاً على تقدمها وتطورها وحذرنا من العواقب المحتملة لإجراءات بعينها لم ينضج ظرفها المناسب، رغم إنها حق من حقوق الشعب الكردي وكردستان العراق. وكانت خشيتنا تأتي من معرفتنا بطبيعة النظام العراقي الطائفي الذي يرفض في حقيقته حق تقرير المصير للشعب الكردي، وكذا الأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، على حد سواء، أولاً وخشيتنا من دول الجوار التي تخشى من التجربة الكردستانية بالعراق وانتقالها إلى كردستان إيران وكردستان تركيا أو إلى الكرد بسوريا ثانياً. وهي لا تختلف كثيراً في طبيعتها عن النظام العراقي الطائفي، إذ لا ترفض الفيدرالية ببلدانها فحسب، بل وترتعش من ذكر كلمة الفيدرالية أو سماع كلمة حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، وكأنها لسعت من حية سامة قاتلة. إنه الموقف القومي الشوفيني الذي يرى لأتباع قوميته كل الحقوق، ويرفض ذات الحقوق للشعوب الأخرى!
لقد طرحت سؤالاً منطقياً بالسليمانية بدا مزعجاً للبعض من الأخوة مفاده: وماذا بعد الاستفتاء؟ اشعر اليوم وأكثر من أي وقت مضى بأهمية وضرورة الإجابة العقلانية عن هذا السؤال من جانب حكومتي أربيل وبغداد، ولا بد من أخذ الواقع العراقي والإقليمي والدولي بنظر الاعتبار. علينا أن نعي إن دول العالم، ولاسيما الكبرى منها، لا تعرف الصداقة بين الدول، بل تعترف بالمصالح فقط، حتى لو كانت لديها قواعد عسكرية ومصالح معينة بالإقليم، فأن مصلحتها مع تركيا العضو في الأطلسي، رغم تحالفها مع إيران الذي لا ترتاح له دول حلف الأطلسي، أكبر بكثير من مصلحتها بالإقليم رغم جوار الإقليم لإيران وأهمية وجود قواتها على الحدود الكردستانية العراقية-الإيرانية. لقد خذلت الولايات المتحدة والدول الغربية وإسرائيل الشعب الكردي في العام 1975 حين تم توقيع اتفاقية العار في الجزائر من قبل نظام البعث والنظام الشاهنشاهي الإيراني وبمباركة تلك الدول. وحينها صدر قرار عن الحزب الديمقراطي الكردستاني أشار إلى أهمية التعلم من هذه التجربة القاسية وما حصل من نزع لسلاح البيشمركة وتسليمها لإيران وما اعتبر نكسة كبيرة للثورة الكردستانية. ومثل هذا الموقف يمكن أن يتكرر من جانب ذات الدول حين تجد مصلحتها في ذلك، وأتمنى ألَّا يحصل أبداً ما حصل في العام 1975 وسنناضل مع الشعب الكردي لكيلا يحصل ذلك. ولكن لا بد من التعلم من دروس الماضي في وضع السياسات الصائبة والمدروسة وغير المرتجلة أو العفوية في هذه المرحلة المعقدة من تاريخ الشعب الكردي بكردستان العراق وتاريخ العراق وقومياته عموماً.
أكرر مرة أخرى وأخرى بأن حل المشكلات القائمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، سواء أكان قبل أم بعد الاستفتاء، يجب ألَّا يعالج بالقوة والعنف والسلاح وسفك الدماء، بل بالحوار السلمي والديمقراطي وبالمرونة المطلوبة لصالح الشعبين وبقية القوميات بكردستان والعراق كله. إن التفاوض السلمي والديمقراطي هو الأداة الوحيدة والناجعة لحل كل ما هو عالق، مع قناعتنا بما يمكن أن يصاحب ذلك من عثرات وانقطاعات وتوترات بسبب من يسعى لإشعال النيران، كما يفعل اليوم رئيس الوزراء السابق ورهطه في تصريحاته وخطبه السيئة الصيت. وللعراق تجارب غنية ومريرة في حل المعضلات عبر الحروب وخاصة مع الشعب الكردي.               


311
كاظم حبيب
الموقف من الاستفتاء في إقليم كردستان العراق
لقد أجرى الكرد استفتاءً شعبياً في إقليم كردستان العراق، وكذلك في المناطق المتنازع عليها في كل من كركوك وديالى ونينوى. وكانت النتيجة واضحة إلى جانب الاستقلال. لم يكن يتوقع أي إنسان عاقل أن يكون التصويت بغير ذلك. ولكن عملية إجراء الاستفتاء وتوقيتها جرى الاختلاف بشأنهما بالعراق والعالم، عدا دولة إسرائيل التي أيدت الاستفتاء. كما اختلفت مواقف القوى السياسية العراقية بشأن الاستفتاء قبل البدء به وبعد النتيجة التي أظهرها الاستفتاء، بين من عمل بحقد وكراهية على التصعيد وإعلان الحرب الكلامية والدعوة لتجويع الشعب الكردي، وبين من أشار إلى خطأ هذا الاستفتاء وضرورة إلغاءه، كما طالبت قوى سياسية بحل المعضلة بالطرق السلمية والتفاوضية والعودة عن اعتبار الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها أمراً محسوماً، لما يمكن أن يجر من مشكلات على العراق عموماً والمناطق المتنازع عليها وإقليم كردستان العراق. لقد حصل الاستفتاء وعلى المجتمع العراقي تلافي تداعياته وما يسعى إليه أعداء الشعوب التي يمكن أن تغرق العراق بالفوضى والدماء والدموع.
وكان أكثر النافخين ببوق الحرب والعدوان رئيس الوزراء السابق والقائد العام للقوات المسلحة حينذاك، السياسي الذي في فترة حكمه تسلمت عصابات داعش مدينة الموصل ومن ثم محافظة نينوى كلها على طبق من ذهب ودون قتال، بل باستسلام وهروب مريعين. إذ دعا إلى مقاطعة شاملة لكردستان والتنسيق مع تركيا وإيران ضد الإقليم لتجويع الشعب الكردي. كما كان وراء القرارات القاسية والظالمة التي صدرت عن مجلس النواب العراقي التي تطالب الحكومة العراقية ورئيسها بتنفيذ تلك القرارات المجحفة بحق الشعب الكردي، والتي تؤكد فرض الحصار جواً وبراً وغلق المطارات بأربيل والسلمانية ...الخ. وجرى التهديد باستخدام القوة والسلاح لكسر شوكة الشعب الكردي، وهو أمر مرفوض وشجبته الحوزة الدينية بالنجف في خطبة لوكيل السيد علي السيستاني، إذ دعا إلى الحوار والتهدئة لمعالجة المشكلة.
وعلى شاكلة نوري المالكي وتصعيده سار المماثل له في الشوفينية والتطرف الديني والمذهبي رجب طيب أردوغان، الذي هدد الكرد بقطع الأرزاق من خلال غلق صنبور النفط المصدر ومنع الشاحنات المحملة بالغذاء من الدخول إلى كردستان عبر تركيا، إذ قال بالحرف الواحد: "لحظة ما نقرر إغلاق الصنبور سينتهي الأمر، سيتم إزالة كل دخولهم، لن يجدوا أكل وشرب لحظة منع الشاحنات عن شمال العراق..". راجع فيديو خطاب أردوغان في موقع Yeni Safak)
ولم يكن موقف الحكومة الإيرانية بأفضل من ذلك، بل أقدمت، على المناورات العسكرية على الحدود العراقية الإيرانية، كما فعلت تركيا، وبدأ التهديد بممارسة ذات السياسة والنهج الشوفينيين والطائفيين المتطرفين. كل هؤلاء يقفون في صف المناوئين لحقوق الشعب الكردي وحقه في تقرير مصيره في أقاليمهم، وبعكس دول العالم التي تؤيد تلك الحقوق، ولكنها اختلفت في الموقف من وقت وأسلوب إجراء الاستفتاء حيث طالبت بتأجيله.
إن العقلاء والديمقراطيين العراقيين والعراقيات من العرب والكرد وغيرهم، وليس المجانين والمهوسين بالشوفينية والطائفية الذين اجتمعوا يوم أمس (04/10/2017) بطهران ليقرروا اتخاذ إجراءات قاسية مع بغداد ضد الشعب الكردي، سيعملون من أجل معالجة الموقف عن طريق التفاوض وحل المعضلات بالطرق السلمية والديمقراطية والعودة إلى اللحمة الاجتماعية التي تساعد على تطور العراق وتقدمه في ظل نظام سياسي مدني ديمقراطي علماني يرفض الشوفينية والعنصرية والطائفية السياسية، كما يرفض التمييز والتهميش والإقصاء ويعمل على تحقيق المصالحة الوطنية والتفاعل الإيجابي بين مكوناته القومية وأتباع دياناته ومذاهبه العديدة ويعترف بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه.
إن العراق يعيش تحت وطأة نظام سياسي طائفي محاصصي يرفض مبدأ المواطنة ويعتمد الهويات الفرعية المفرقة للصفوف والمعمقة لنهج التمييز والتهميش والإقصاء، تماماً كما حصل خلال السنوات الـ 14 المنصرمة والتي كانت ذروتها فترة حكم المصاب بالنرجسية المرضية والمهووس بالطائفية والكراهية لكل ما هو غير شيعي، رغم إن شيعيته تظهر في جيبه وليس في رأسه أو حبه لآل البيت، حيث أساء لأهل البيت أكثر من أي شخص آخر بالعراق بسبب السياسات التي انتهجها في فترة حكمه بين 2006-2014. لقد أصبح هذا الرجل دونكيشوت العراق بجدارة، فهو يحمل سيفه الخشبي ويمتطي دولة القانون ليجهز على كل العراقيين من غير الشيعة وكل الشيعة الذين يقفون بوجهه ويرفضون نهجه المدمر لوحدة العراق. وإذا كان ذلك الإسباني حالماً وواهماً بحرب ضد الطواحين الهوائية، فهذا الشوفيني والطائفي يحلم بحرب ضد كل المكونات الأخرى، وهو الأمر الذي يفترض أن ينتبه له كل من لم ينتبه لعواقب سياساته حتى الآن رغم الإبادة الجماعية التي تسبب بها بالموصل وسهل نينوى ضد الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان وأهل الموصل السنة أيضاً الذين رفضوا التعامل مع عصابات داعش أو وجودها البغيض بمحافظة نينوى.     
إنها الدعوة لكل العراقيين الشرفاء العقلاء أن يمارسوا الضغط الكبير من أجل حل المشكلات القائمة مع رئاسة وحكومة الإقليم بالطرق السلمية والتفاوضية الديمقراطية وأن يمنحوا الوقت الضروري لتجاوز الوضع الراهن، والذي يتطلب حقاً إجراء تغيير جذري وحقيقي في حكم العراق لصالح الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية وليس الدولة شبه الدينية المتطرفة القائمة حالياً. هذه الدولة التي كل حكامها لم يلتزموا دون استثناء لم يلتزموا حتى بالدستور الذي وضعه وأقسموا تنفيذه والدفاع عنه!!!


312
السيدة المصونة هيرو خان إبراهيم أحمد المحترمة
عائلة الفقيد المحترمة
السيدات والسادة أعضاء قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني المحترمون
أشارك الشعب الكردي الصديق خصوصاً والشعب العراقي عموماً الحزن والأسى بفداحة الخسارة الكبيرة التي أصيب بها بوفاة القائد الوطني الكردي والسياسي العراقي المتميز ورئيس الجمهورية العراقية السابق ورئيس الاتحاد الوطني الكردستاني السيد جلال حسام الدين الطالباني، الذي توفي يوم الثلاثاء المصادف 03/10/2017 بعد معاناة طويلة مع المرض، الذي أصيب به اثناء وجوده على رأس الدولة العراقية. إنها خسارة كبيرة وفي هذا الظرف العصيب الذي يمر بها العراق وإقليم كردستان العراق أن تفتقد البلاد شخصية محورية مثل السيد مام جلال الطالباني.
العزاء والسلوى لعائلة الفقيد الكبير ولشعبه الكردي والشعب العراقي الذي قدَّر فيه نهجه الوطني والتقدمي. كما إنه خسارة شخصية لي بسبب الصداقة الطيبة التي ربطتنا منذ العام 1956 حيث كنا موقفين في موقف السراي ببغداد. الذكر الطيب للفقيد الفاضل.
كاظم حبيب 


313
بلاغ صادر
عن اجتماع جمهرة من المثقفين العراقيين من العرب والكرد ببرلين في 30/09/2017
بتاريخ 30/09/2017 عقدت ببرلين ورشة عمل تداولية مفتوحة للجميع شاركت فيها مجموعة من المثقفات والمثقفين العراقيين من العرب والكرد المقيمين بألمانيا وممثلي تنسيقية التيار الديمقراطي ومنظمة الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني ومنسق لجنة المبادرة لتحريك ودعم التوجه صوب التعاون والتنسيق والتحالف بين القوى الديمقراطية العراقية ومن المستقلين، ناقشوا فيها مسألتين مهمتين تحظيان في المرحلة الراهنة باهتمام كبير في الساحة العراقية وبين عراقيي الخارج وهما:
1)   من أجل دعم جهود وحدة القوى المدنية والديمقراطية العراقية في النضال من أجل دولة مدنية ديمقراطية علمانية وضد نظام المحاصصة الطائفية في العراق.
2)   مناقشة ما ترتب من أوضاع سياسية وإجراءات في أعاقب انتهاء الاستفتاء في إقليم كردستان وفي المناطق المتنازع عليه.
وبعد مناقشات مستفيضة بشأن الفقرة الأولى اتفق المجتمعون برفع ما طرح من أفكار وملاحظات ومداخلات في ورشة العمل إلى المؤتمر الأول للقوى المدنية والديمقراطية والعلمانية العراقية المزمع عقده ببغداد في نهاية شهر تشرين الأول من هذا العام 2017. وهم يتمنون النجاح والتوفيق في الوصول إلى نتائج مهمة تشد لحمة القوى الديمقراطية في مواجهة الوضع الراهن والدفع باتجاه التغيير والخلاص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته التي ألحقت أضراراً فادحة بالوطن والمواطن.
وبصدد الفقرة الثانية بعد مناقشات مستفيضة وتبادل وجهات النظر بروح ديمقراطية واعية لأوضاع العراق والمنطقة والإقليم، توصل المجتمعون إلى النقاط التالية:
يرى المجتمعون ما يلي:
1.   للشعب الكردي الحق الكامل في تقرير مصيره بنفسه بما في ذلك حق الانفصال عن الدولة العراقية وإقامة دولته الوطنية المستقلة. كما من حقه ان يجري استفتاء حول الاستقلال ولا يتعارض ذلك مع الدستور العراقي أو القوانين الدولية.
2.   إلا إن المجتمعين يرون بأن إجراء الاستفتاء في هذه الفترة وبالارتباط مع الأوضاع الداخلية والإقليمية وبالأساليب التي تم اعتمادها لم يكن مناسباً. إلا إن الاستفتاء قد حصل وعبر الشعب الكردي عن رأيه في ذلك.
3.   اتخذ مجلس النواب العراقي والحكومة العراقية مجموعة من الإجراءات التي نعتقد بأنها خاطئة وتساهم في تشديد التوتر على الساحة العراقية المتوترة أصلاً وتضعف النضال ضد عصابات داعش لتحرير الأرض العراقية من دنسهم.
4.   ويرى المجتمعون ضرورة الابتعاد الكلي والمطلق عن استخدام السلاح في معالجة المشكلات القائمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق.
5.   ويؤكد المجتمعون لزوم التخلي الكامل عن خطاب إثارة الأحقاد والكراهية من جانب الجميع، وبشكل خاص في وسائل الإعلام والتصريحات المتشنجة، والتزام الدعوة إلى التهدئة والبدء بالتحري عن حلول للمشكلات القائمة.
6.   إبعاد دول الجوار عن التدخل في الشأن العراقي أو طلب دعمها لهذا الطرف أو ذاك، وعلى القوميات بالعراق أن تحل مشكلاتها فيما بينها وبالطرق التفاوضية السلمية والاستفادة من تجارب الماضي السيئة والمدمرة عند استخدام السلاح.
7.   استثناء الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها، سواء أكان تصويت الأغلبية بـ "نعم" أم "لا"، مناطق كردستانية أو عراقية، بل تخضع للحوار وإعادة التصويت في فترة لاحقة وفي ظروف أكثر عقلانية. ومثل هذه الخطوة من شأنها أن تنزع فتيل التصعيد والاحتقان الراهنين في تلك المناطق وفي عموم الوضع السياسي المتوتر، والتي تسعى بعض القوى المعادية للشعب الكردي وعموم الشعب العراقي إلى تشديده، والعودة الجادة لتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي بشأن المناطق المتنازع عليها لمصلحة الجميع.
8.   تنشيط النضال من أجل التغيير الجذري للحكم بالعراق والخلاص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة ودوره في تفتيت النسيج الوطني والاجتماعي للشعب العراقي، ومحاربة الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع، ومكافحة الإرهاب الذي ما يزال يقتل المزيد من البشر ببغداد وغيرها من المدن العراقية.
9.   توحيد مواقف القوى الديمقراطية والعلمانية على صعيد الدولة العراقية، ومنها إقليم كردستان العراق، لمواجهة احتمالات التصعيد وعواقبه على العراق كله.
10.   وفي حالات الضرورة يمكن الاستعانة بالأمم المتحدة لتقريب وجهات النظر والمساعدة في حل المشكلات القائمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
وأبدى بعض الأخوة في ورشة العمل موقفاً لا يرى صواب اعتبار الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها ملغياً، بل ساري المفعول عليها أيضاً، مع البدء بالحوار غير المشروط لمعالجة المشكلات القائمة بين الطرفين.
برلين في 30/09/2017



314
كاظم حبيب
من يروج للحلول العسكرية والتجويع والتشدد بالعراق؟
لم أجد إجراء الاستفتاء ضرورياً، إذ وجدت فيه تصعيداً للخلافات الدائرة في العراق أولاً، وحرفاً فعلياً لمجرى الصراع المتنامي بين القوى والأحزاب الطائفية السياسية، التي مرغت كرامة العراقيين والعراقيات بالتراب وتسببت بمآسي وكوارث مريرة، التي يعاني منها العراق حالياً وبحصول إبادة جماعية بالموصل ونينوى، وبين القوى المدنية الديمقراطية واليسارية العراقية، إذ كان انحسار دور وتأثير القوى وأحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية يلوح بالأفق قوياً من جراء نهجها وتدهور سمعتها وفسادها السائد. فبدأت تخسر مواقعها السابقة واتخذت، لتجاوز هذه الحالة اليائسة، إجراءات ثلاث هي:
1)   تبديل أسماء بعض أحزابها وتغيير تحالفاتها واعتقال صغار فاسديها وترك حيتان الفساد في الحكم؛
2)   ) العمل، وعبر الوساطة الإيرانية، خلق تحالف بين بعض الأحزاب الشيعية وبعض الأحزاب السنية، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين، ممثلة برئيس المجلس النيابي السني، ومتجاوزة بذلك على مصالح الجماهير الشيعية والسنية وكل الشعب؛
3)   شن حملة قذرة ضد القوى المدنية والديمقراطية والعلمانية والحداثوية بدعوى إلحادها، وهي تدرك إن الملحد الفعلي هو الذي أساء ويسيء للدين بتعميم الفساد في بنية الدولة والمجتمع ومن فرط بأجزاء من الوطن وتسبب في موت مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين.
في مطالعتي في لقاء السليمانية بتاريخ 16 و17/09/2017 طرحت رأيي وبينّت المسائل التالية:
** نسبة مهمة من المجتمع العراقي اكتشفت طبيعة جميع الأحزاب السياسية الحاكمة بالعراق منذ إسقاط الدكتاتورية حتى الآن. وقد تجلى ذلك في رفع شعارين متلازمين في المظاهرات التي جرت خلال السنوات الثلاث المنصرمة، وهما: "باسم الدين باگونة الحرامية" و"باسم الله هتكونة الشلاتية". وكان هذا قبل الدعوة للاستفتاء.
** وعلى هذه الأرضية بدأ الصراع المحتدم يدور بين القوى المدنية والديمقراطية واليسارية من جهة والأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة من جهة أخرى، وبدأ الشارع يميل أكثر فأكثر وتدريجياً صوب القوى المدنية.
** وقد أجبرت، حتى المرجعية الشيعية المؤيدة للسياسات السابقة للأحزاب والقوى الدينية، على التخلي العلني عن تأييدها وتطالب بالدولة والمجتمع المدنيين!
** ولكن قرار الاستفتاء قد سهل على القوى الظلامية أن تحول دفة الصراع ليكون وكأنه بين العرب والكرد، وتعبئة كل القوى المناهضة للكرد، سواء في فترة حكم البعث، أم في الوقت الحاضر، ضد الشعب الكردي، رغم التحالف الذي نسجه الكرد والشيعية بين الأحزاب الشيعية والأحزاب الكردية، وتصدر هذا التحالف الحكم بالبلاد طوال السنوات المنصرمة، رغم تنبيهاتنا وتحذيراتنا بخطأ مثل هذا التحالف الكردي-  الشيعي الطائفي وأضراره الشديدة على مصالح المجتمع العراقي.   
** وأكدت، بما لا يقبل الشك، وبـتأييد غالبية المجتمعين في السليمانية، بأن القيادات السياسية الكردية كلها ومعها رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق، لم توفر مستلزمات إعلان الاستفتاء والاستقلال من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية، وهي أمور أساسية ومهمة لتأمين ضمانات استقلال كردستان.
** لم أكن في هذا اللقاء مجاملاً ولا محابياً بل كنت صادقاً ومخلصاً في هذا الموقف وصريحاً مع الشعب الكردي أولاً وقبل كل شيء، وهو الذي يهمني ويهم أصدقاء الشعب الكردي، وهو لا يتعارض أبداً بل يؤكد موقفي الثابت والمستمر من حق الشعب الكردي المطلق في تقرير مصيره بنفسه ودون وصاية من أحد حين تكون الظروف ملائمة وهو الذي يحدد ذلك مع الاستماع قدر الإمكان لنصيحة الأصدقاء، محلياً وعربياً ودولياً. كما كنت أميناً على مصالح شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه التي يمكن أن تتضرر من هذا الصراع الذي يراد فرضه على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العراقية!
والآن انتهى الاستفتاء وعرفنا ما كنا نعرفه دون الاستفتاء، ولكن ربما عرفت الدول الإقليمية والدولية ما كانت تعرفه ولا تريد الاعتراف به قبل الاستفتاء، فما العمل؟
علينا أن نتابع باهتمام ردود فعل جهات داخلية مختلفة، منهم حلفاء الكرد من الأحزاب الشيعية التي راحت تقدم قائمة من الإجراءات لتجويع الشعب الكردي، (راجع موقع إيلاف بتاريخ 25/09/2017
http://elaph.com/Web/Opinion/2017/9/1169285.html)
وفيه المقترحات العدوانية لحنان فتلاوي، أو مقترحات مجلس النواب العراقي. وأغلب هؤلاء الذين وافقوا على تلك الإجراءات في مجلس النواب العراقي لهم أقنعة وجذور ومواقع سابقة في حزب البعث، أو لهم مواقف إسلامية متعصبة ترفض الاعتراف بالقوميات وحقوقها وترى المسلمين كلهم بغض النظر عن قوميتهم ولغتهم "أمة إسلامية! واحدة ذات رسالة خالدة!!! وهؤلاء هم الذين يعلمون بوقاحة لتصعيد المواقف والإساءة لكل المنجزات التي تحققت للشعب الكردي خلال الفترة السابقة، وهو الذي ينبغي رفضه. وهذا الموقف يتناغم تماماً مع القوى الحاكمة المستبدة في كل من إيران وتركيا، والتي تحاول اليوم التهديد بالتدخل العسكري لحسم الموقف ضد الشعب الكردي. هذا الموقف ليس مرفوضاً فحسب بل لا بد من شجبه ومنع وقوعه بكل السبل المتوفرة.
وهناك موقف القوى المدنية والديمقراطية واليسارية التي أنتمي إليها فكرياً وسياسياً، تجد في أن ما جرى لم يكن ضرورياً، ولكن حصل، إذ عبَّر الشعب الكردي عن رغبته في الاستقلال في وقت لاحق وليس الآن. ولكن أرى أيضاً بأن على القيادات الكردية أن تمتنع عن اعتبار التصويت في المناطق المتنازع عليها تصويتاً نهائياً وإنهاءً للخلاف على عائدية تلك المناطق, إن اتخاذ مثل هذا الموقف العقلاني سيساعد على تخفيف الأجواء المتوترة والمتصاعدة يوماً بعد أخر والتي تهدد بعواقب وخيمة على العراق كله، كما إنه يساعد على الدخول بمفاوضات جدية وسلمية وديمقراطية لمعالجة الأمر بصورة صحيحة وحكيمة، إذ أن هناك من ينتظر إصرار القيادات السياسية الكردية على ضم المناطق المتنازع عليها إلى الإقليم ليبدأ نزاعاً عسكرياً مدمراً ويتحول العراق إلى ما جرى ويجري اليوم في كل من سوريا واليمن! إن القيادة الكردية تتحمل اليوم مسؤولية رفع الفتيل من البرميل المليء بالديناميت والقابل للاشتعال في كل لحظة، كما على الحكم الاتحادي الابتعاد عن كل ما يساهم في تعقيد اللوحة، ومنها محاولة إشراك قوى خارجية في الصراع الجاري بالعراق. إن قوى شوفينية ودينية متطرفة في الطرفين تعمل على التخندق ورفض إيجاد حلول سلمية وديمقراطية للمشكلات العالقة ما بعد الاستفتاء وترتفع وتيرة المهاترات الكلامية بما لا يوفر التربة الصالحة لحلول سلمية وديمقراطية.
على الشعب العراقي كله وبكل قومياته أن يفرض على حكام العراق والإقليم كافة أن يجنحوا للسلم وأن يعاقبوا من يحاول دفع الأمور إلى نهاياتها الحزينة والمدمرة، إلى حرب تبدأ ولا يُعرف متى تنتهي، كما لا تعرف العواقب التي ستترتب عليها!
إن من يحاول صب المزيد من الزيت بعد انتهاء الاستفتاء المختلف بشأنه على النار المشتعلة، سوف لن يحصد غير الموت والخراب والدمار للعراق كله، وسيكون النهاية الفعلية لأولئك الذين أقاموا النظام الطائفي -الأثني السياسي بالعراق وروجوا للمحاصصة الطائفية المذلة وعملوا بها ولها ليصل العراق إلى هذه الحالة التعيسة الراهنة.   

315
إشكالية الهوية وحقوق المكونات
د. كاظم حبيب
نحن اليوم لسنا أمام إشكالية نظرية نتحرى عن حل لها أو إجابة عنها، بل نحن أمام حالة عملية ملموسة ومطروحة على بساط البحث والممارسة، إنها إشكالية هوية الشعب الكردي وحقه في تقرير مصيره بنفسه. فما هو مفهوم الهوية في هذا الإطار الذي حددته؟   
أرى إن الهوية بمفهومها الملموس هي التعبير عن، أو التجسيد لـ، وعي الفرد وادراكه لذاته وثقافته ضمن المجموعة الثقافية أو الحضارية التي هو منها ويعيش معها، إنه الوعي الذي يضع الإنسان أمام خياره ورغبته الملحة في اثبات ذاته، وفيما يسعى إليه. وهي باختصار إدراك معنى الحرية كضرورة، كرؤية فلسفية. والهوية بهذا المعنى لا تقتصر على عنصر واحد، فهي تجمع بين ماضي الفرد والجماعة وحاضرهما ورؤيتهما المشتركة للمستقبل، وهي تجمع بعض أو كل العناصر التي يمكن أن تشكل الهوية، ومنها: الثقافة، واللغة، والتاريخ، والذاكرة، والقومية، والوضع النفسي والتطلعات، والعادات والتقاليد، والجغرافية، أو المكان. والفرد الكردي له هويته المشتركة مع البشرية كلها، إنها إنسانيته، ولكن له خصوصيته في هويته، كما لبقية البشر، فهو كردي القومية، واللغة، والثقافة، والتاريخ، وكردستاني المكان، أو الجغرافية، وهو ميزوبوتامي التراث والحضارة، أو عراقي المشاركة في التاريخ والهموم، كما إنه شرق أوسطي وآسيوي في آن واحد. ومن هنا نرى أن ليست للإنسان، ومنهم الفرد الكردي، هوية واحدة، بل هوية مركبة من هويات فرعية، وتعددها لا يلغي الهوية التي يرى فيها شخصه أو شخصيته وثقافته ويركز عليها كفرد ضمن الجماعة التي هو منها. كما علينا أن نرى بأن الهوية ليست ثابتة بل متحركة ومتطورة بتطور وعي الإنسان وقدرته على وعي ذاته وحقوقه ولاسيما حريته باعتبارها وعي الضرورة.
ولكن الهوية قد تصبح قاتلة حين تكون ذات نزعة قومية شوفينية أو عنصرية، أو دينية متشددة أو طائفية متعصبة تميز بين أتباع الديانات والمذاهب، وتمارس التمييز بين الناس على إساس ذلك وتمارس قاعدة الـ "أنا" ضد الـ "آخر"! ويمكن أن تبرز هذه الهوية القاتلة لدى جميع الشعوب والقوميات دون استثناء!
الشعب الكردي يتمتع، كبقية شعوب العالم، بحقه الكامل والحر في تقرير مصيره بنفسه، ودون وصاية من أحد. وهذا الحق مضمون دولياً على وفق وثائق الأمم المتحدة التي نصَّت، على سبيل المثال لا الحصر، على ما يلي:
لـ"جميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها بحرية وإرادة واستقلال وفقاً لمْا تريدهُ، بعيداً عن أية قوة أو تدخل أجنبي. وبعيداً عن أية أعمال بربرية وخزتْ بآثارها الضمير الإنساني، لبزوّغ فجر جديد يتمتعون فيه بحرية القول والعقيدة والتحرر من الخوف والاضطهاد، والدفع بالرّقي الاجتماعي قدمًا، ولتحقيق مستوى أرفع للحياة في جوُ من الحرية الإنسانية والتسامح والأخوة والعيش المشترك، كأسمّى ما ترّنو إليه أيةُ نفس بشرية". [أنظر: حق الشعوب في تقرير مصيرها، تقرير، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 421 الصادر في 4/ كانون الأول/1950، منظمة حمورابي لحقوق الإنسان. 06/08/2017]. فهل من حق الشعب الكردي أن يمارس بكل حرية هذا الحق؟ أطرح هذا السؤال الغريب لأن هناك حكاماً في الدول الأربع التي وزع عليها الشعب الكردي في كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو التوزيع الثاني تاريخياً، يرفضون الاعتراف بهذا الحق بكل شراسة بل خاض بعضهم الحرب أو استخدم الإبادة الجماعية، وما زال بعضهم مستعداً لارتكاب مثل هذه الجريمة، إضافة إلى القوى القومية والدينية اليمينية والمتطرفة التي لا ترى في ممارسة هذا الحق أي شرعية، وهي بذلك تبرهن على إنها ليست حرة، أو لا تفهم معنى الحرية لها وللآخرين.   
لم تكن النظم السياسية العراقية كلها ولا الحكومات التي أقيمت في العهد الملكي، ولا العهود الخمسة للجمهوريات العراقية، منصفة وعادلة مع الشعب الكردي ومع القوميات الأخرى، بل كانت جائرة ومستبدة مع الشعب العراقي كله، ولاسيما مع الكرد والقوميات الأخرى، وعلينا هنا أن نتذكر حرب النظام الدكتاتوري البعثي والإبادة الجماعية في عمليات الأنفال ضد الشعب الكردي، أو سياسات حافة الحرب من جانب النظام السياسي الطائفي برئاسة المستبد بأمره نوري المالكي ورهطه. فكان التمييز والتهميش والإقصاء في صلب علاقة الحكومات العراقية المتعاقبة مع الشعب الكردي والقوميات الأخرى.
لا يمكن لأي إنسان حر وعاقل أن ينكر حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وفيما عاناه خلال العقود المنصرمة، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان حراً ما لم يعترف بحق الإنسان الآخر في التمتع بالحرية الكاملة غير المنقوصة، وبالتالي أدرك تماماً، كإنسان حر وديمقراطي ومادي المنهج والنهج، بأن الشعب الكردي يحلم منذ قرون وعقود ويتطلع إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بدولة كردستانية ديمقراطية حرة ومستقلة. وقد ناضل بعناد واستمرارية من أجل هذا الهدف وقدم لها أغلى التضحيات، ومن حقه الكامل أن يناضل بعزيمة مضاعفة من أجل ذلك. وليس من حق أحد أن يعترض على ممارسة هذا الحق، ولكن من حق أي صديق من أصدقاء الشعب الكردي أن يتساءل: هل حان الوقت المناسب لمثل هذه الخطوة؟ وإذا كان هذا الوقت قد حان فلِماذا الاستفتاء؟ إذ يمكن إعلان الاستقلال.
أشعر، كصديق ثابت للشعب الكردي، منذ أكثر من ستة عقود، وناضل معه في سبيل الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكردي، بأن الوقت لم يحن تماماً للاستفتاء أو لخطوة الاستقلال، بل أشعر بأن العودة إلى استراتيجية التحالف مع القوى الديمقراطية العراقية في رفض التمييز والتهميش والإقصاء وحل الخلافات والمشكلات القائمة بطرق ديمقراطية وسلمية وسريعة، ورفض قانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية السيء لا تأييده، ورفض تشكيل مفوضية الانتخابات على أسس المحاصصة الطائفية، والسعي لتجميع القوى الديمقراطية في مواجهة القوى الظلامية، وحل المشكلات الداخلية بالإقليم وتعزيز الديمقراطية والمؤسسات الدستورية وحقوق الإنسان، هو الطريق الوحيد والأسلم والأضمن الذي يمهد الطريق لتحقيق ما تتطلع له القوميات العديدة بالعراق، ولاسيما طموحات وتطلعات الشعب الكردي في الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية على أرضه. إنها الخطوة الأساسية والضرورية والوحيدة للوصول إلى الهدف المنشود للشعب الكردي وقواه الوطنية. لقد فكرت ملياً بالأمر ليس من منطلق قومي شوفيني، وليس من منطلق وطني عراقي ضيق، بل من منطلق مصلحة الشعب الكردي ومصلحة العراق بكل قومياته في المرحلة الراهنة، وأرى أن يكون قرار إعلان الاستقلال في ظرف أكثر هدوءاً وأكثر مناسباً لمفاوضات مع حكومة أكثر ديمقراطية وواقعية من الوضع المعقد الراهن، كما يفترض أن يتجلى في سياسات ومواقف أخرى من جانب الحكومة الكردستانية بهدف تمتين الصف الديمقراطي الداخلي. كما أرى بأن الشعب الكردي لا يحتاج إلى استفتاء، إذ أن الشعب الكردي يتطلع إلى ذلك اليوم بكل شغف وتلهف، ولن يضيف الاستفتاء، إلا للرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بأن الشعب الكردي يريد الاستقلال. كنت أتمنى أن ينحصر الاستفتاء في المناطق التي هي جزء من كردستان، ثم تترك المناطق التي تخضع لمصطلح "المتنازع عليها" لترتيب لاحق بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم لتجنب أي مضاعفات في الوضع العراقي.
هناك، كما يعرف الجميع، الكثير من التعقيدات الراهنة التي يفترض معالجتها قبل هذه الخطوة ومنها حل مشكلة المناطق المتنازع عليها التي راوغ حكام العراق طيلة السنوات المنصرمة على حلها، بل عملوا ضد الدستور، وهم اليوم ينادون بالدستور الذي تخلوا عنه، إضافة إلى مشكلة ومواقف القوميات الأخرى بالإقليم ...الخ.
ومع ذلك فمن يقف إلى جانب قضية الشعب الكردي، يفترض فيه أن يترك التقدير النهائي للشعب الكردي ذاته، وبالتالي فالأمر متروك للشعب الكردستاني فيما يراه مناسباً في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق وكردستان العراق وأوضاعهما المعقدة. أتمنى على الأخوة والأصدقاء الكرد أن يتخذوا الموقف الذي يجنب الشعب الكردي وبقية أبناء وبنات العراق المزيد من المصاعب والمتاعب. وهذا الموقف لا يعني أن على الأصدقاء أن لا يبدوا رأيهم في الموقف، كما يفترض ألا يفسد اختلاف الراي في الود قضية!
لقد انتهى الاستفتاء وليس هناك من شك حول نتيجة الاستفتاء. وجميع القيادات الكردية أكدا بان الاستفتاء لا يعني إعلان الاستقلال مباشرة بل سيخضع للحوار مع الحكومة الاتحادية. إن الوضع ما بعد الاستفتاء يتطلب الكثير من الحذر والحيطة، وأرى ضرورة الالتزام بما يلي:
1.   الابتعاد الكلي والمطلق عن استخدام السلاح في معالجة المشكلات القائمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
2.   التخلي الكامل عن خطاب إثارة الأحقاد والكراهية من جانب الجميع، وبشكل خاص في الإعلام والدعوة إلى التهدئة والبدء بالتحري عن حلول للمشكلات القائمة.
3.   إبعاد دول الجوار عن التدخل في الشأن العراقي أو طلب دعمها لهذا الطرف أو ذاك، وعلى القوميات بالعراق أن تحل مشكلاتها فيما بينها وبالطرق التفاوضية السلمية والاستفادة من تجارب الماضي السيئة عند استخدام السلاح.
4.   عدم اعتبار الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها، سواء أكان تصويت الأغلبية بـ "نعم" أو "لا"، مناطق كردستانية أو عراقية بل تخضع للحوار وإعادة التصويت في فترة لاحقة وفي ظروف أكثر عقلانية.
5.   تنشيط النضال من أجل التغيير الجذري للحكم بالعراق والخلاص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة.
6.   لقد كان الصراع بالعراق قد تبلور قبل إعلان إجراء الاستفتاء بكردستان بين القوى الديمقراطية ومن يرفض الطائفية، وبين القوى السياسية الطائفية الحاكمة. وقد تسبب الوضع الأخير إلى حرف هذا الصراع باتجاه أن يتحول ليكون بين العرب والكرد! وهو أمر خطير لا يجوز السماح به. وبالتالي لن يستفيد من ذلك إلا أولئك الذين تسببوا بنكبة العراق في الموصل ونينوى وغرب العراق، من أمثال رئيس الوزراء السابق ورهطه المُضلل والفاسد، ولهذا لا بد من العودة إلى الوضع الطبيعي إلى خوض الصراع لصالح الشعب من خلال أجراء التغيير في واقع الحكم بالعراق لصالح الديمقراطية والعلمانية والمجتمع المدني الديمقراطي.   

 
   


316
كتاب "مسيحيو العراق .. أصالة .. انتماء .. مواطنة"
سيصدر في شهر تشرين الثاني/ كانون الأول 2017 كتاب "مسيحيو العراق .. إصالة .. انتماء .. مواطنة .." عن دار نينوى. يقع الكتاب بحدود 900 صفحة ويحمل 30 صورة والكثير من الوثائق المهمة عن أحوال المسيحيين بالعراق.
يتضمن الكتاب ثلاثة أجزاء موزعة على 17 فصلاً و31 ملحقاً من الوثائق والتقارير والرسائل والصورة عن الكثير من النكبات التي حلت بالمسيحيين ومنها الاجتياح الأخير للموصل ونينوى. والكتاب يقدم سجلاً تاريخياً مكثفاً عن أوضاع المسحيين بالعراق وعن ودورهم الحضاري المميز بالثقافة العربية عموماً والعراقية على وجه الخصوص. ويتناول الكثير من جوانب مشاركتهم في الريادة والرفد الثقافي والإنساني، وعن دورهم في النضال الوطني والديمقراطي بالعراق، إضافة إلى موجات التمييز والاضطهاد والعسف التي تعرضوا لها خلال تاريخهم المدي بالعراق منذ دخول المسيحية إلى العراق في القرن الأول الميلادي، في أرض الرافدين، ميزوبوتاميا، مروراً بالعهد الملكي، وانتهاءً بالجمهوريات الخمس العراقية، أي حتى الوقت الحاضر وما حصل لهم قبل وفي أعقاب اجتياح الموصل وسهل نينوى في ظل الجمهورية الخامسة، في ظل الدولة الطائفية – الأثنية ومحاصصاتها المذلة للشعب والوطن والمواطنة.   
وأنشر هنا كلمة الشكر التي سيتضمنها الكتاب للدعم والمساعدة التي قدمت لي خلال إنجاز هذا الكتاب. وقد عملت على إنجاز هذا الكتاب ما يقرب من ثلاث سنوات، أملي ان يعبر بشكل أمين عن هذا الجزء الرائع من أبناء وبنات الشعب العراقي. كما يتضمن هذا الإعلان مفردات هذا الكتاب وهو خير عون أولي لمعرفة ما في الكتاب. يمكن أن يتعاون الأخوة في الخارج وفي بعض المدن لتسجيل أسماء من يرغب بنسخة من الكتاب لتدبير الأمر مع الناشر وإرسالها بالطائرة عبر بيروت، كما جرى مع كتاب "الإيزيدية ديانة عراقية – شرق أوسطية قديمة".
كلمة شكر وتقدير
لم يكن في مقدوري إنجاز هذا الكتاب، وأنا الباحث بمفردي دون سكرتارية أو سكرتير، وكذا كتبي الأخرى التي صدرت خلال الأعوام الستين المنصرمة، لولا الدعم الذي توفر لي من عدد كبير من الأخوات والأخوة والأصدقاء الكرام الذين زودوني بالكتب الضرورية وبالمعلومات المفيدة عبر الرسائل أو عبر إعلامي بمواقع ومكتبات يمكن العثور فيها على ضالتي في البحث والتقصي. وأخص هنا بالذكر الأب الدكتور شليمون إيشو خوشابا، مسؤول دار المشرق الثقافية بدهوك، الذي أهداني مجموعة من الكتب المهمة التي افادتني كثيراً، كما ساهم الأخ كامل زومايا بتقديم مجموعة أخرى من الكتب، إضافة إلى تزويدي بالمعلومات والتقارير التي أفادتني كثيراً. وجدير بالذكر إن الأخ السيد حميد مراد، رئيس الجمعية العراقية لحقوق الإنسان بالولايات المتحدة الأمريكية، قد افادني كثيراً بوضع التقارير السنوية الصادرة عن الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية، ومكتبة الجمعية بأربيل تحت تصرفي وتوفير المعلومات التي كنت أرجو منه توفيرها لي. كما إن السيد روند كوركيس بولص، رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب السريان والسيد أكد مراد، سكرتير الاتحاد، قد فتحا لي مكتبة الاتحاد ومكتبتيهما الشخصية بعنكاوا ووفرا لي الكثير من المعلومات القيمة والصور لهذا الكتاب. وجدير بالشكر أيضاً السيد باسم جميل أنطون والسيد ليث الحمداني على دعمهما لي بتوفير بعض المعلومات التي كانت ضرورية للبحث. وهنا لا بد من الإشارة إلى إن تقارير منظمة شلومو للتوثيق، التي يرأسها السيد خالص إيشوع، كانت ذات فائدة كبيرة بما وفرته لي من معلومات عن النازحين والمهاجرين وعن الانتهاكات الكبيرة التي تعرض لها المسيحيون بالموصل وفي عموم محافظة نينوى. وشكري الجزيل يتوجه أيضاً إلى المهندس هامبرسوم اغباشيان الذي أرسل لي ملخصا لكتابه عن الأرمن في العراق، كما أرسلت له الفصل الخاص بالأرمن لمراجعته بسبب كونه مختصاً بالشؤون الأرمنية. وقد ابدى ملاحظات قيمة ومفيدة استفدت منها. وكذلك الأخ يعقوب البقال الذي أهداني كتابه عن الكلدان في ديترويت باللغة الإنكليزية، وللأخ كمال يلدو من ديترويت على جهده المشكور في الحصول على كتب ومعلومات تفيد الكتاب ذاته. وشكري يتوجه إلى الأخ مازن لطيف علي لدعمه لي ببعض الكتب المتوفرة في مكتبته عن المسيحيين. كما أشكر الأخ المخرج طاهر سعيد متي لتزويده لي مجموعة من الصور عن المآسي التي حلت بالبلدات والكنائس المسيحية.
وشكري يتوجه إلى يونس بولص متي (أبو سيفان)، مدير موقع الناس الالكتروني، الذي بذل جهداً مشكوراً في التعاون معي لإنجاز جرد واسع نسبياً للشهداء المسيحيين في النضال الوطني العراقي، سواء أكانوا أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، وهم الأكثرية، أم أعضاء في أحزاب وطنية وديمقراطية أخرى ومستقلين، إضافة إلى ضحايا الحروب.   
وشكري الجزيل يتوجه بشكل خاص إلى الأب ألبير أبونا بعنكاوة للوقت الذي خصصه لقراءة الجزء الأول من الكتاب، والتي أشار فيها إلى بعض التصويبات فيما يخص الديانة المسيحية. كما أتوجه بشكري الجزيل إلى الأخ الأستاذ علي الكحلة الطائي لتطوعه وتجشمه عناء قراءة الكتاب وتدقيقه. وشكري الجزيل للصديق الطائي ثانية بسبب اختياره عنوان الكتاب الحالي، إذ وضعت للكتاب عدة عناوين، ثم استشرت بعض الأخوة بشأنها أو اقتراح عناوين أخرى لاختيار أحدها. وكان من بينها مثلاً "مسيحيو العراق جزءً أصيل وثابت من أهل العراق" أو "مسيحيو العراق.. مضطهدون في وطنهم". ومن بين المقترحات التي وصلتني اخترت أخيراً العنوان التالي "مسيحيو العراق.. إصالة.. انتماء.. مواطنة"، ليكون عنواناً للكتاب، وهو أحد العناوين المقترحة من الصديق الفاضل الأستاذ على الكحلة الطائي.   
وأخيراً الشكر لزوجتي التي تحملتني طيلة العقود المنصرمة وأنا منشغل بالسياسة والبحث العلمي، وكانت المسؤولة الأولى عن تربية أطفالنا طيلة فترة غيابي عن العائلة لأسباب نضالية، أو اعتكافي في صومعة القراءة والبحث والكتابة، ومنها كتابة المقالات السياسية والاجتماعية وحقوق الإنسان والقوميات والمواطنة، وإنجاز الكتب التي وضعتها حتى الآن تحت تصرف القارئات والقراء الكرام والمكتبة العربية.
لقد قرأت من أجل إنجاز هذا الكتاب عشرات الكتب التي تبحث في أوضاع المسيحيين واستفدت من الكثير من الأبحاث والدراسات والمقالات التي نشرها الكتاب في الصحف والمجلات والمواقع، التي لا يسعني ذكرها كلها، فشكري لهم جميعاً، إذ كانوا جميعاً عوناً لي في إنجاز هذا الكتاب. 
كاظم حبيب، خريف 2017   


د. كاظم حبيب
مسيحيو العراق.. أصالة.. إنتماء.. مواطنة
بغداد – برلين 2017
مفردات الكتاب

مسيحيو العراق.. أصالة.. إنتماء.. مواطنة   1
مفردات الكتاب   2
الإهداء   15
كلمة شكر وتقدير   16
استهلال   18
الجزء الأول   26
الفصل الأول   26
بوابات دخول المسيحية إلى بلاد ما بين النهرين   26
الجماعة الأولى: جمهرة من أتباع الديانة اليهودية   26
الجماعة الثانية   36
أسرى الساسانيين من مسيحيي أنطاكية   36
الجماعة الثالثة   37
أتباع الديانة الزرادشتية (المجوسية)   37
الجماعة الرابعة   40
الأقوام القاطنة في سوريا وبلاد ما بين النهرين   40
2. الرها (أورهاي) المدينة التاريخية   44
3. مدينة نصيبين   47
4. مملكة الحيرة (حرتا)   50
الفصل الثاني   58
الصراعات الأولى بين الكنيستين الشرقية والغربية   58
الجزء الثاني   66
الفصل الثالث   66
النماذج الأولى للتعامل الإسلامي مع المسيحية والمسيحيين وتأثيرها على الفترات اللاحقة   66
المبحث الأول: مواقف القرآن من النصارى (المسيحيين)   66
المبحث الثاني   74
مضمون العهود المقطوعة من النبي محمد للنصارى (للمسيحيين)   74
المبحث الثالث   79
موقف الخلفاء الراشدين من الدين المسيحي والمسيحيين   79
الخلاصة   89
الفصل الرابع   91
أوضاع المسيحيين في الإمبراطوريات الإسلامية   91
المدخل   91
المبحث الأول   94
أوضاع المسيحيين في الدولة الأموية   94
المبحث الثاني   101
أوضاع المسيحيين في الدولة العباسية   101
المبحث الثالث   107
أوضاع المسحيين بين سقوط الدولة العباسية واحتلال الدولة العثمانية للعرق - الدويلات العراقية   107
المبحث الرابع   113
أوضاع المسيحيين في الدولة العثمانية   113
الجزء الثالث   134
أوضاع العراقيين المسيحيين في أعقاب الحرب العالمية لأولى   134
الفصل الخامس   134
المبحث الأول   134
الواقع السكاني المسيحي بالعراق   134
المبحث الثاني   142
أوضاع العراق بعد سقوط الدولة العثمانية وقيام الدولة الملكية   142
واقع المسيحيين في ظل الدولة العراقية الملكية   149
الفصل السادس   155
الجمهورية الأولى   155
أوضاع المسيحيين في جمهورية 14 تموز 1958   155
الفصل السابع   169
أوضاع المسيحيين في الجمهوريتين الثانية والثالثة   169
المبحث الأول   169
الجمهورية الثانية   169
أوضاع المسيحيين في الجمهورية البعثية-القومية المشتركة   169
القوى الداخلية   171
الدول الخارجية   173
المبحث الثاني   179
الجمهورية الثالثة   179
أوضاع مسحيي العراق في جمهورية القوميين العراقيين   179
الفصل الثامن   185
الجمهورية الرابعة   185
أوضاع مسيحيي العراق في جمهورية البعث الشوفينية والمستبدة [1968 - 2003م]   185
المرحلة الأولى   191
المرحلة الثانية   192
المرحلة الثالثة   193
مفهوم الإبادة الجماعية   199
أولاً: الموقف من الشعب الكردي   203
ثانياً: الموقف من عرب الوسط والجنوب الشيعة   204
ثالثاً: الموقف من المسيحيين   205
الفترة الأولى   207
الفترة الثانية   210
تهديم القرى والكنائس واغتيالات ضد رجال الدين المسيحيين   213
في فترة حكم البعث بالعراق   213
المرحلة الأولى: تشمل الفترة الواقعة بين 1963-1968   213
المرحلة الثانية: 1968-1979   215
مذبحة المسيحيين الكلدان في صوريا في أيلول 1969   216
المرحلة الثالثة: الفترة الواقعة بين 1980-2003م   224
الفصل التاسع   228
الجمهورية الخامسة   228
أوضاع المسيحيين في الجمهورية الطائفية – الأثنية 2003-2017   228
المدخل   228
اضطهاد المسيحيين وعدم حمايتهم في سياسات الحكم الطائفي   235
المبحث الثاني   244
اجتياح الموصل وعواقبه المدمرة على العراقيين المسيحيين   244
الشاهد: خيري شنگالي   258
المبحث الثالث   262
التمييز في الدستور والقوانين العراقية   262
الفصل العاشر   269
الاضطهاد الديني والسياسات الشوفينية ضد مسيحيي العراق   269
المدخل   269
المبحث الأول   272
اضطهاد المسيحيين في عراق الامبراطورية الأموية   272
اضطهاد المسيحيين بالعراق في فترة انحطاط الدولة العباسية   275
المبحث الثالث   282
اضطهاد المسيحيين في عراق الإمبراطورية العثمانية   282
المبحث الرابع   297
اضطهاد المسيحيين في العهد الملكي   297
(الآشوريون بالعراق)   297
معركة ديرا بون   306
مجزرة سُمّيل ضد الآشوريين   312
الفصل الحادي عشر   320
العراقيون الأرمن   320
المبحث الأول   320
متى بدأ وجود الأرمن بالعراق   320
المبحث الثاني   326
الهجرة الأرمنية إلى العراق في أعقاب   326
أوضاع العراقيين الأرمن   333
الفصل الثاني عشر   344
السكان ونهج وسياسات التغيير الديمغرافي ضد مناطق مسيحيي العراق   344
المدخل   344
المدخل مفهوم التغيير الديمغرافي   344
المبحث الأول   347
الواقع السكاني المسيحي بالعراق   347
المبحث الثاني   351
التغيير الديمغرافي في العهد الملكي   351
المبحث الثالث   353
التغيير الديمغرافي في عهود الجمهوريات العراقية   353
المبحث الرابع   360
التغيير الديمغرافي في ظل النظام السياسي الطائفي   360
المبحث الخامس   363
التغيير الديمغرافي لمناطق المسيحيين بإقليم كردستان   363
الفصل الثالث عشر   373
النزوح والهجرات المسيحية من العراق   373
المبحث الأول   373
مفهوم الهجرة والعوامل المؤثرة فيها   373
(الجانب النظري العام)   373
واقع الهجرة الدولية   376
المبحث الثاني   396
واقع وعواقب السياسات الطائفية والشوفينية على هجرة مسيحيي العراق   396
الفصل الرابع عشر   405
دور المسيحيين في الحضارة والثقافة العراقية   405
دور المسيحيين في اللغة العربية والأدب العربي   408
أولاً: اللغة العربية   408
ثانياً: دور العراقيين المسيحيين في الأدب العربي   414
أ: في الشعر   414
المثقف والشاعر والمناضل ألفريد سمعان   418
ب. في أدب الرحلات   446
ج: في القصة والرواية   449
ت: في الترجمة   456
ثالثاً: في المسرح   461
الفنان المسرحي البروفيسور الدكتور عوني كرومي   469
"وداعاً أخي عوني!   472
الفنان المسرحي والشاعر الدكتور موفق ساوا   474
رابعاً: في الموسيقى والغناء   481
خامساً: في الصحافة   488
الصحفي والكاتب العراقي المميز الدكتور فائق بطي (أبو رافد)   498
الصحفية صاحبة التحقيقات المميزة مريم السناطي   505
الصحفية والكاتبة المبدعة والمناضلة سلوى زكو   508
سادساً: في المجالس الأدبية والثقافية   528
ثامناً: الأعياد المسيحية بالعراق   539
الفصل الخامس عشر   543
دور المسيحيين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العراقية   543
المبحث الأول   543
دور المسيحيين في الحياة السياسية العراقية   543
أولاً: مشاركة المسيحيين في السلطة التنفيذية   544
ثانياً: مشاركة المسيحيين في السلطة التشريعية   547
أ. المجلس التأسيسي   547
ب. مشاركة المسيحيين في مجلس الأمة   548
1. مجلس الأعيان   548
2. مجلس النواب   548
ثالثاً: في الحياة السياسية العامة   554
المناضل الوطني والشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد)   562
المناضلة السياسية والاجتماعية والحقوقية الباسلة هناء أدور   577
رابعاً: دور العراقيين المسيحيين في القانون والسلطة القضائية   584
المبحث الثاني   587
دور المسيحيين في الحياة الاقتصادية العراقية   587
قطاع الزراعة   589
القطاع الصناعي   593
1. الحرف والمهن التقليدية   593
ب. الصناعة الحديثة   593
دور المسيحيين في قطاع البنوك والتجارة   597
دور المسيحيين في قطاع التأمين   599
دور الأطباء المسيحيين في العراق المعاصر   605
الفصل السادس عشر   608
عواقب الحرب والاحتلال والطائفية السياسية بالعراق   608
خلال الفترة 2003 – 2017   608
[إشكاليات قبل وبعد تحرير الموصل وبقية   608
المناطق المحتلة من عصابات داعش]   608
الفصل السابع عشر   621
آفاق معالجة المشكلات الراهنة والمستقبلة التي نشأت بفعل النظام السياسي الطائفي وعواقب اجتياح واحتلال داعش   621
المبحث الأول   623
المشكلات المحتملة التي ستواجه المجتمع في المحافظات التي خضعت لاحتلال داعش   623
أولاً: مشكلات السكن والبنية التحتية والخدمات   624
ثانياً: معاناة النساء والأطفال النفسية والاجتماعية   627
ثالثا: مشكلات الشبيبة العراقية في زمن الطائفية والفساد والإرهاب والحرب   630
رابعاً: المشكلات العشائرية والتقاليد البالية والمشكلات القومية   641
المبحث الثاني   645
سُبل معالجة عواقب الكوارث التي حَلَّت بالعراق، ولاسيما المناطق التي نُكِبت بداعش   645
المبحث الثالث   654
الخاتمة: مستقبل العراقيين المسيحيين   654
ما العمل؟   666
غالبية المسلمين والمسلمات بالعراق أمام امتحان المواطنة!   675
الملاحق   679
الملحق رقم 1: نص عهد النبي محمد لنصارى (مسيحيي) نجران   679
"نص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران"   679
الملحق رقم 2   682
العراق وفضيحة التعذيب في سجن "أبو غريب" (1 - 4 حلقات)   682
الملحق رقم 3: شهداء معركة "ديرابون"   696
الملحق رقم 4   701
قائمة بأسماء مذبحة سُمَّيل في العام 1933   701
الملحق رقم 5   703
ذكريات عن الإبادة الجماعية للأرمن في الحرب العالمية الأولى   703
مقطع مهم من مقال الدكتور سعد سلوم "أم الارمن تروي قصتها.. عندما تصبح اراكسي "فطوم،"   703
الملحق رقم 6   705
الملحق رقم 7   708
النواب المسيحيون: الكورد الذين استولوا على 53 قرية مسيحية   708
الملحق رقم 8   710
وماذا بعد انتهاء مؤتمر -أصدقاء برطلة- ضد التغيير السكاني لمناطق مسيحيي العراق؟   710
الملحق 9   715
نص قرار المحكمة الاتحادية بشأن التغيير الديموغرافي   715
الملحق رقم 10   718
نص قرار اللجنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة بشأن التغيير الديموغرافي لمناطق المسيحيين في إقليم كردستان العراق   718
الملحق رقم 11   719
عدد الطوائف المسيحية بالعراق والمعترف بها رسمياً   719
الملحق رقم 12   720
فتوى محسن الحكيم ضد الشيوعية   720
الملحق رقم 13   722
محن المسحيين بالعراق   722
الملحق رقم 14   724
نظرة مفعمة بالحزن والألم في رواية "يا مريم"، للروائي المبدع سنان أنطون بقلم كاظم حبيب   724
الملحق رقم 15   729
هل نقرع الأجراس من أجل الدفاع عن المسيحيين العراقيين ومصيرهم في وطنهم؟ بقلم الدكتور سيار الجميل   729
الملحق رقم 16   734
موقف الخليفة عمر بن الخطاب من مسيحيي نجران   734
الملحق رقم 17   737
كتاب وزارة العدل العراقية حول بيع وشراء عقارات المسيحيين العراقيين   737
الملحق رقم 18   738
رسالة من لوزان تكشف حقيقة وفاة الملك فيصل الاول - رشيد كَرمـــة   738
الملحق رقم 19   741
مقالة عن الأب أنستاس الكرملي للصحفي والكاتب علي حسين   741
الملحق رقم 20   742
جداول بالمسرحيات التي قدمت، وغالبيتها لأبناء من عائلات عراقية مسيحية   742
الملحق رقم 21   747
شهداء الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية العراقية السياسيين من بنات وأبناء العائلات المسيحية منذ العام 1949-2017   747
قائمة الشهداء المسيحيين   747
أولاً: السياسيين   747
ثانياً: غير السياسيين   750
أ: ضحايا الحرب العراقية – الإيرانية   750
ب: ضحايا التفجيرات والإرهاب   756
ج : ضحايا كنيسة سيدة النجاة   776
الملحق رقم 22   778
قائمة شهداء رجال الدين المسيحيين والشهيدات المسيحيات وموظفي الدولي   778
الشهداء من الناشطين السياسيين وموظفي الدولة   780
الملحق رقم 23   783
قائمة الشهداء المسيحيين العامة في العراق منذ 2003 بدء الاحتلال ولغاية 9/6/2014، أي قبل اجتياح مدينة الموصل ومحافظة نينوى   783
الملحق رقم 24   801
الرسائل المتبادلة بين كاظم حبيب وباسم جميل أنطون   801
الملحق رقم 25   806
البيان الصادر عن مؤتمر "مستقبل المسيحيين في العراق" الذي عقد في بروكسل للفترة من 28-30 حزيران 2017   806
الملحق رقم 26   809
نماذج من كتابات العنصرية لعصابات داعش المتوحشة على كنائس ودور المسيحيين في بطنايا بالعراق وصور تجسد الخراب الذي حل بالبلدات والكنائس المسيحية   809
الملحق رقم 27   811
التقسيمات الإدارية للواء الموصل في العام 1962   811
الموسوعة الإحصائية عن التقسيمات الإدارية في الجمهورية العراقية   811
الملحق رقم 28   820
تحليل الشخصية المسيحية العراقية للدكتور فارس كمال نظمي   820
الملحق رقم 29   823
اتفاقية منع وقوع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها عام 1948   823
الملحق رقم 30   828
تقرير "عن مدينة الموصل"   828
الملحق رقم 31   831
أوضاع حقوق الانسان في العراق   831
من 01/01/2017 لغاية ولغاية 30 /1/2017   831
المصادر والمراجع   834
الكتب العربية   834
رسائل الماجستير والدكتوراه   840
المواقع   841
المجلات   857
الجرائد   858
رسائل متبادلة   859
المصادر والمواقع الأجنبية   860
   فهرست الأسماء

317
كاظم حبيب
من أين وكيف يبدأ الانطلاق الاقتصادي بالعراق؟
نقاش موضوعي وهادف مع السيد عادل عبد المهدي
الحلقة الأولى: تشخيص الظواهر والعواقب والابتعاد عن الأسباب الحقيقية

نشر الاقتصادي العراقي السيد عادل عبد المهدي مقالاً تحت عنوان "الانطلاق الاقتصادي" وتضمن خمس حلقات بعناوين فرعية مختلفة في جريدة العالم البغدادية خلال الفترة 27/08/-03/09/2017. وهو في جوهره مقالاً نقدياً لواقع الحال بالعراق ومقترحات اقتصادية لتجاوز هذا الواقع المزري. وأشر المقال بصيغ مختلفة عدداً من المشكلات الجوهرية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي والتي يمكن تلخيصها، وأرجو أن يكون تلخيصي دقيقاً وأميناً على مضمون المقال وما أراد الكاتب قوله:
1.   إن الاقتصاد العراقي ريعي، استيرادي واستهلاكي، يعتمد على موارد النفط المالية في تأمين حاجات المجتمع الاستهلاكية عبر الاستيراد.
2.   والاقتصاد العراقي بهذا المعنى اقتصاداً وحيد الجانب ويعاني من خلل في بنيته، ولاسيما في تخلف قطاعيه الإنتاجيين الصناعي والزراعي حيث لا يساهمان إلا بنسبتين ضئيلتين في الناتج المحلي الإجمالي. ويرى بأن ".. فالأموال الريعية السهلة، وتدمير العلاقات الزراعية، وتأميم الصناعة والمصارف والسيطرة على التجارة الاساسية، وهروب الرساميل والخبرات، والهجرة الواسعة من الريف، والحروب والحصار والعقوبات والارهاب والسياسات الفاشلة، دمر هذه القطاعات وجعل البلاد تعتمد على الاستيراد والواردات النفطية. ويرى ضرورة تغيير هذه البنية المشوهة.
3.   لا توجد استراتيجية تنموية حقيقية ولا توجد خطط للتنمية الوطنية الاقتصادية والبشرية، إذ ".. ركزت معظم خططنا على الاستقطاعات والجبايات من اقتصاديات هي ضعيفة اساساً، واللجوء للقروض الداخلية والخارجية". ويرى " إن مزيجاً ناجحاً من استراتيجيات “بدائل الاستيراد ومحفزات التصدير” Import Subsitution and Export Promotion  يمكنها مع الاستراتيجيات الاخرى، ان تحقق نتائج مهمة لانطلاق القطاعات الحقيقية".
4.   ويقول عادل عبد المهدي بوضوح: أن "الاقتصاد هو الاقتصاد الكلي Macro-economy والجزئي Micro-economy، وان قليلين، من اصحاب القرار التنفيذيين والتشريعيين، او حتى بين الجمهور من يقدر اهمية هذه القضايا، ليس لصعوبتها، بل لاعتيادهم على مفاهيم “الاقتصاد السلطاني” ومعادله المعاصر “الاقتصاد الريعي”. وبتعبير آخر لا توجد عقلية اقتصادية تعي مفهوم التنمية، ويتطلب الأم "تغيير عقليات وسياسات، وأولها إزالة التشدد والبيروقراطية كأسباب أساسية للجمود والفساد وهدر الأموال وغسيلها وهروبها". 
5.   ويرى ضرورة أن يلعب القطاع الأهلي (الخاص) الدور الأول في الاقتصاد، "مع اهمية الحفاظ على قوة وفعالية ورشد القطاع العام لإحداث التوازن المطلوب انطلاقاً من ظروفنا الواقعية والبنيانية ولاعتبارات اجتماعية وسياسية. ويرى ضرورة قلب المعادلة بعد أن كان القطاع الخاص تابعاً للقطاع العام، إذ لا بد من تفكيك احتكار الدولة للصناعة والزراعة والتجارة والمصارف والاتصالات والمواصلات والطباعة والاعمال البلدية والمياه والكهرباء والتعليم والصحة والكثير من النشاطات. وان تبدأ القطاعات الاهلية بأخذ المبادرة في جميع هذه النشاطات بدعم وتشجيع الدولة، ونقل الكثير من قدراتها في هذا المجال لمؤسسات المجتمع الفردية والجماعية".
6.   ثم يقترح لضمان الاحتفاظ بأموال الشعب المسروقة ومن السحت الحرام بالعراق من خلال عدة مقترحات أولها: "1 - نقترح –خلال مدة محددة- اعفاء الاموال التي تودع، من كشف مصدرها او اخضاعها للتحاسب الضريبي، وذلك خلافاً للتعليمات الدولية والعراقية المتشددة، والتي تساهم، بوعي او جهل، بهروب الاموال وبقائها خارج الدورة المصرفية. فالدولة تضغط اليوم على موجودات المصارف لتوفر لنفسها الاموال، في وقت تعاني المصارف من ضعف الاقتصاد، وعدم سداد معظم المقاولين لديونهم، لعجز الحكومة عن تسديد مستحقاتهم".
في المقال بحلقاته الخمس العديد من التشخيصات السليمة لطبيعة الاقتصاد العراقي وسماته الأساسية والاختلالات فيه، ولكن فيه زوغان أيضاً عن العوامل الحقيقية وراء هذا الواقع. إذ أن المقال لا يغوص في عمق المسألة السياسية-الاقتصادية-الاجتماعية العراقية، ويقف عند السطح. ولا أدعي أنه لا يعرفها، ولكنه، على اقل تقدير، يبتعد عنها، لأنها تمس الفئة الحاكمة بالعراق كلها، وهو جزءً عضوي منها، فقد تبوأ وما يزال مناصب سيادية في الدولة والنظام السياسي والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية الحاكمة ومن كبار الأثرياء بالبلاد. هناك العديد من المقترحات التي يمكن الأخذ بها لو كان ضد وضع السيد الكاتب يده على الجرح المركزي في الوضع العراقي، إذ بهذا الوضع لا تنفع معه تلك المقترحات ولا حتى أفضل الاستشاريين الاقتصاديين بالعراق، إذ إن التغيير الجذري هو الحل الأمثل للواقع العراقي الراهن. وعليه لا بد لمن ينبري لهذا الموضوع أن يسعى لوضع الأمور التي زاغ عنها الكاتب في نصابها الصحيح.

رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي"
الحلقة الثانية: ما هي طبيعة العلاقات الإنتاجية الفاعلة بالعراق؟
هناك الكثير من الأسئلة التي تواجه كل كاتب اقتصادي عراقي جاد وموضوعي والتي تفرض عليه ضرورة السعي للإجابة عنها، ومنها: ما هي طبيعة علاقات الإنتاج الفاعلة بالعراق في الوقت الحاضر؟ وما هو مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية؟ ما هي طبيعة الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها؟ وما هي طبيعة السلطة التنفيذية والتشريعية على نحو خاص؟ وما هي طبيعة القوى والأحزاب السياسية الحاكمة بالبلاد؟ وما هي سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الداخلية منها والخارجية؟ وما هي عواقبها تلك السياسات على الاقتصاد والمجتمع؟  وهل للدولة العراقية استراتيجية تنموية ورؤية اقتصادية – اجتماعية عقلانية؟ وهل يمكن إصلاح ما خُرّبَ حتى الآن بنفس القوى الحاكمة ونهجها وأدواتها وأساليبها في الحكم؟ وما هو البديل الذي يفترض العمل من أجله لتغيير ما جرى ويجري حتى الآن لصالح المجتمع العراقي ومستقبل أجياله وتقدم اقتصاده وازدهار شعبه؟
نحن لسنا أمام طلسم يحتاج إلى من يفك أسراره، فأسرار العراق مكشوفة أمام العالم كله. وما يجري بالعراق منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية الغاشمة يؤكد طبيعة الأوضاع المزرية فيه. ومع ذلك علينا الإجابة عن الأسئلة التي أوردناها وغيرها في عدة حلقات.
يتحدث السيد عادل عبد المهدي عن "الاقتصاد السلطاني" السائدة في صفوف المسؤولين وأصحاب القرار، أي حكام العراق. ولكن لماذا لا يضع النقاط على الحروف ويقول: أن عقلية الحكام السائدة بالعراق حالياً نابعة من طبيعة العلاقات الإنتاجية الفاعلة حتى الآن في العراق، والتي استردت عافيتها بوجود الفئة الحاكمة الحالية بعد أن أجهزت وأكملت التصفية الفعلية لقانوني الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 والقانون رقم 117 لسنة 1970 وعودة كبار ملاكي الأراض الزراعية إلى الهيمنة على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، إضافة إلى عودة العلاقات العشائرية إلى سابق عهدها في الهيمنة على سكان الريف وسكان المدن العشوائية حيث يعيش فيها أبناء الريف السابقين، وكذلك البدء بمناقشة مجلس النواب وإقرار " قانون مجلس قبائل وعشائر العراق" والمصادقة عليه واعتماد الدولة ونظام الحكم والعشائر على هذا القانون في التعامل اليومي، وهي رده اقتصادية اجتماعية وسياسية مريعة عما تحقق في أعقاب ثورة تموز 1958 حين ألغي قانون العشائر واعتمدت القوانين المدنية في التعامل اليومي في المجتمع. إن هذه العلاقات الإنتاجية المتخلفة والعلاقات العشائرية لا تعيق التطور الرأسمالي بالبلاد فحسب، بل وتعرقل تطور الثقافة الديمقراطية والتلاقح الثقافي، وتعيق نمو الوعي السياسي والاجتماعي الديمقراطي والتنويري لدى الغالبية العظمى من السكان، ولاسيما بين النساء، كما إنها تصبح القيم على سلوك الناس وإرادتهم وخنق حريتهم الشخصية والتصرف الفظ بمصالحهم، لاسيما وان التحالف السابق بين كبار الملاكين والمؤسسات الدينية الذي عاشه العراق قبل ثورة تموز 1958 قد عاد إلى الفعل في المجتمع العراقي، وهو بدوره يمارس ما جرى تأكيد دوره السلبي الكبير في دفع الناس إلى الغيبيات والغوص في الخرافات والأساطير وأعمال السحر والشعوذة، وفي استفحال الثقافة البالية وتشويه استشهاد الحسين بين علي بن أبي طالب وصحبه الكرام بممارسة طقوس غريبة عن الدين والثقافة بدلاً من ممارسة أساليب حضارية في إبراز دورهم في الدفاع عن المضطهدين ضد الجائرين والفاسدين من الحكام. إن العلاقات الإنتاجية السائدة حالياً تلعب دوراً معرقلاً لتطور القوى المنتجة المادية والبشرية، لأن هذه العلاقات تمنع فكرياً واجتماعياً وسياسياً من تحويل الأموال المكدسة إلى استثمارات رأسمالية في قطاعي التنمية الإنتاجية، في الصناعة والزراعة، وكذلك في قطاعات الخدمات الإنتاجية والأساسية للسكان كالتعليم والصحة والنقل والاتصالات والمواصلات ..الخ، وكذلك صوب تطوير الفنون الإبداعية الجميلة، إنها المعرقل لكل ذلك لأنها لا تسمح بطبيعتها استخدام أموال الدولة وأموال القطاع الخاص لتحقيق التراكم الرأسمالي المطلوب وتركيزها على الاستهلاك البذخي الذاتي أو توظيفها في شراء العقارات وبناء القصور في والمضاربات وما إلى ذلك في دول أخرى. وهي بهذا لا تفرط بالأموال، وأغلبها منهوب من خزينة الدول وجزء أساسي من السحت الحرام، بل وتمنع تطور الاقتصاد الوطني وتعظيم الثروة الوطنية وتوفير فرص عمل جديدة للعاطلين عن العمل وللأيدي الجديدة التي تدخل سنوياً في سوق العمل المحلي. إنها سياسة مورست خلال السنوات الـ 14 المنصرمة دون احترام لمصالح الإنسان والمجتمع العراقي واقتصاده الوطني. وإذا كان النظام شبه الإقطاعي في العهد الملكي قد استغل الفلاحين ونهب الكثير من قوتهم، إلا إنه خلا من الفساد المالي في سرقة أموال الشعب من خزينة الدولة، كما جرى ويجري مع عودة بقايا تلك العلاقات بصيغة جديدة للفعل في اقتصاد العراق ومجتمعه. والسرقة والتفريط هنا لا يشمل مئات الملايين بل مئات المليارات من الدولارات الأمريكية، وهي سرقة من قوت الشعب. وكان الدكتور أحمد الچلبي قد بدأ بكشف هذه السرقات والتفريط بالمال العام، إلا إنه وبطريقة ما فيها الكثير من الغموض والشك توفى الرجل على حين غرة وبعد أيام قليلة من تصريحاته المعروفة التي استفزت رئيس الوزراء السابق ورهطه، وعلى وفق معلومات الكثير من العارفين بخفايا الفئات الحاكمة بالعراق. 
إن نظرة فاحصة على مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية، بعد مرور 14 سنة على الحكم السياسي الطائفي الراهن، تكشف عن تخلف شديد في التقنيات المستخدمة في مختلف مجالات الاقتصاد والخدمات الاجتماعية، وعن تخلف في القطاعين الصناعي والزراعي وعن بقاء المؤسسات الصناعية الحكومية مجمدة إلى حين بيعها بأبخس الأسعار للقطاع الخاص، أو حتى لقاء دينار عراقي واحد. ويكفي ان يتمعن الإنسان في القوى العاملة العراقية، التي لا تجد مجالاً للتعليم المهني والفني والتأهيل المستمر، إضافة إلى تخلف شديد في مستوى التعليم المهني المتوفر وكذلك في عموم قطاعي التربية والتعليم في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات، بحيث أصبح العراق يحتل موقعاً متخلفاً جداً في مجال المقارنة مع مستوى التعليم في دول نامية أخرى بمنطقة الشرق الأوسط، دع عنك عن مستواه في الدول المتقدمة.         
من هنا نشير، وبخلاف البحث في الظواهر السلبية القائمة، علينا التفتيش عن العوامل التي تتسبب في بروز تلك الظواهر السلبية، إذ أن العراق يعاني من تشابك بين علاقات إنتاجية متخلفة وعلاقات رأسمالية طفيلية تجنح إلى التوظيف في العقارات والمضاربة وتجارة الاستيراد السلعي الاستهلاكي والبذخي والتحري عن مجالات الربح السريع والتي لا تسمح بتوجيه الأموال المكدسة صوب توظيفات إنتاجية لتنمية الاقتصاد الصناعي والزراعي واستخدام تقنيات حديثة، كما تقف حجر عثرة في طريق تطوير وتقدم القوى العاملة والتعليم بمختلف مراحله والبحث العلمي وتوفير فرص عمل للعاطلين.

رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي"
الحلقة الثالثة: طبيعة ونظام الحكم بالعراق
رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي"
الحلقة الثالثة: طبيعة ونظام الحكم بالعراق
من يعمل في الحياة الاقتصادية والسياسية عملياً، دع عنك المختص بعلم الاقتصاد، يدرك طبيعة العلاقة الجدلية بين السياسة والاقتصاد، فالسياسات الاقتصادية التي تمارس ببلد ما تعكس بدقة طبيعة الحكم والفئات الحاكمة. ويتجلى ذك بوضوح في العهد الملكي وفي العهود الجمهورية الخمس التالية، أي بضمنها نظام الحكم الحالي. ولهذا يشار إلى الحقيقة التالية: إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة!
فالقراءة المتأنية لواقع الاقتصاد والمجتمع بالعراق، ولنهج الدولة الاتحادية وطبيعة السلطات الثلاث فيها، وسياسات الحكومة الاتحادية منذ العام 2005 حتى الآن، وما آل إليه الوضع بعد اجتياح عصابات داعش لمحافظة نينوى وغيرها، تكشف بأن النخبة الحاكمة الحالية تنحدر من فئات اجتماعية هامشية وغير هامشية، ولكنها انسلخت عنها لتشكل مجتمعة فئة جديدة أَطلقُ عليها مصطلح "الفئة الرثة"، وهي في الواقع فئة طفيلية، وهي ليست ذات الفئة التي يُطلقَ عليها في الأدب الكلاسيكي الماركسي مصطلح "البروليتاريا الرثة" أو الفئة الهامشية أو المهمشة عملياً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافاً، إنها الفئات الفقيرة والمعدمة في المجتمع. إن "الفئة الرثة" تهيمن على السلطات الثلاث بالدولة العراقية، وتتحكم بها من خلال السلطة التنفيذية.   
وهذه الفئات الرثة الهجينة تسعى إلى الاغتناء على طريقة القطط السمان، وأغلبها أصحاب نعمة حديثة، إذ إنها تستنزف موارد الدولة من الباطن، وبأساليب مافيوية ورشاوى ونهب وسلب علنيين. وهذا الجزء المؤثر والحاسم في النخبة الحاكمة يطبع عمل الحكومة كله ويميزه ويمنحه سلوكية معينة وإجراءات محددة، إذ تسعى هذه الفئة إلى إنعاش وتوسيع قاعدة الفئات التي يصطلح عليها بالطفيلية، سواء أكان ذلك في قطاع المضاربات المالية، أم في قطاع السمسرة العقارية، أم في قطاع المقاولات والعقود النفطية واستيراد السلاح، أم في قطاع التجارة الخارجية والداخلية، أم في المجالات الاقتصادية والإدارية الأخرى وفي المجتمع عموماً. ويبرز هنا دور العلاقات والسلوكيات العشائرية التي لم تعد تنسجم مع القرن الواحد والعشرين أيضاً، بل تعود إلى علاقات ما قبل الرأسمالية، وهي في نشاطها أسوأ من الفترة التي كان العراق يئن تحت وطأة الهيمنة الاستعمارية المباشرة أو شبه الاستعمارية وسياساتها الاقتصادية ووجود كامل للعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية. إن الواقع العراقي يشير بوضوح إلى تدهور مستمر في الأوضاع العامة. فالوضع القائم بالبلاد يعكس تشابكاً عجيباً يخدم على المدى القريب مصالح النخبة الحاكمة من الفئات الرثة، التي لا يهمها بأي حال تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني والمجتمع المدني، بل يتركز همها وجوهر نشاطها على سبل زيادة ثروتها من سرقة المال العام وتعظيم حساباتها المصرفية الخاصة على حساب الاقتصاد الوطني وقوت الشعب. وهي تدعي محاربة الفساد، ولكنها تحتفي بكبار الفاسدين وتسكت عنهم وتضعهم في أعلى مواقع المسؤولية بالدولة العراقية.
ويتركز ذكاء الفئات الرثة في هدف أساسي هو: كيف تحافظ على الوضع القائم وعلى وجودها في السلطة وإدامته بما يسهم في زيادة فرص نهبها لموارد الدولة وإسكات الشعب ومنع احتجاجاته. ولكنها حتى في هذه القضية فشلت في الاحتفاظ والدفاع عن أرض العراق ووحدته، إذ سمحت هذه "الفئات الرثة" باجتياح "داعش" واحتلاله لما يقرب من ثلث مساحة العراق في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز أياماً معدودة. ومع فرحة تحرير أغلب المناطق، فأن مثل هذه المكاسب العسكرية لا يمكن أن تدوم دون وجود وضع سياسي واقتصادي واجتماعي آخر بالبلاد غير القائم حالياً.
والإشكالية الكبيرة في سياسة هذه الفئة الضارة يكمن في عرقلتها للتنمية الاقتصادية، ولاسيما التنمية الصناعية والزراعية والتنمية البشرية العقلانية، وتتصدى للحداثة وتغيير البنية الاجتماعية، والتي مارسها بول بريمر رغم وجوده القصير بالعراق، إلا إنه كرَّس سياسة وسلوكاً معوجين وفاسدين. ولم يخرج بريمر من العراق إلا بعد أن كرس، وبدعم من النظام الإيراني الطائفي، نظاماً سياسياً طائفياً يقوم على المحاصة الشيعية-السنية-الكردية، ليطمر بذلك، مع أشلاء الحرب، مبدأ المواطنة الحرة والمستقلة والمشتركة بالعراق.
هذه الفئات الرثة والهجينة ليست حديثة العهد بل كانت تشكل جزءاً من قوى المعارضة السياسية للنظام الاستبدادي السابق، وهي التي اتفقت مع الإدارة الأمريكية في أعقاب مؤتمر المعارضة ببيروت عام 1991 على تسلم الحكم، بذريعة أنها تمثل الغالبية العظمى من السكان من الناحيتين الدينية والمذهبية وأن تتفق مع أحزاب سنية وكردية أيضاً. وبالتالي فإن غالبية قوى المعارضة حسمت الأمر على هذه الصورة الطائفية والأثنية في بنية قيادة المعارضة التي وافقت على شن الحرب في سنة 2003م لإسقاط نظام صدام حسين. وكانت تشكيلة الحكم الطائفية القائمة على أساس المحاصصة مطلوبة من الإدارة الأمريكية ومناسبة لمصالحها بالعراق وبمنطقتي الخليج والشرق الأوسط، إذ بهذا الصورة يبقي العراق دون استقرار وفي صراع ونزاع مستمرين يبعده عن التنمية وعن تغيير بنية الاقتصاد الوطني وبنية المجتمع الطبقية ومستوى الوعي السياسي والثقافي. لقد حقق بريمر ما أرادته الإدارة الأمريكية في خلق تلك الأجواء السلبية التي أطلقت عليها "كوندليزا رايز" بـ"الفوضى الخلاقة" Creative Chao، الفوضى المدمرة التي يعاني منها العراق حالياً، بل إن الكثير من دول منطقة الشرق الأوسط تعاني من هذه الفوضى الخلاقة. فما هي السمات التي تميز الفئات الاجتماعية الرثة التي تخلق الرثاثة وتنشرها بالبلاد؟
ابتداءً، يجب أن نشير إلى ضرورة التمييز بين الفئات الهامشية والفئات الرثة، فهما لا يعنيان بشكل تلقائي شيئاً واحداً، كما إنهما ليسا مترادفين، ولكنهما يلتقيان ببعض السمات المشتركة وأهمهما: موقعهما من الإنتاج ومن الملكية لوسائل الإنتاج وفي بعض الأخلاقيات. فالفئات الرثة الحاكمة بالعراق لا علاقة لها بالإنتاج المادي حتى الآن، وهي غير مالكة لوسائل الإنتاج حتى الآن، ولكن تملك الكثير من الأموال المنهوبة من خزينة الدول بسبل كثيرة وغير مشروعة، كما إنها تهيمن على الاقتصاد الوطني وخزينة الدولة من خلال موقعها في الدولة والحكم وفي الأحزاب السياسية المهيمنة حالياً على الساحة السياسية العراقية. وهي تهيمن على موارد البلاد، وخاصة النفط الخام وعوائده المالية المتأتية من التصدير السنوي للنفط الخام، والذي يشكل أكثر من (97%) من صادرات العراق، ونسبة عالية من الناتج القومي الإجمالي ومن الدخل القومي. ففي مقال للدكتور مظهر محمد صالح ورد بهذا الصدد ما يلي: "ما ا زلت الثروة النفطية هي المورد السيادي المالي الغالب الذي تصطف حوله قوة الدولة الاقتصادية والسياسية مركزيا، سواء في دور عوائد النفط في تركيب الناتج المحلي الإجمالي الذي لا يقل عن 45 – 55 % من اجمالي الناتج المذكور أو في موارد الموازنة العامة الاتحادية التي تزيد على 90 %". (أنظر: د. مظهر محمد صالح، قراءة في مستقبل الاقتصاد السياسي للعراق، شبكة الاقتصاديين العراقيين، نشر بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 2017).
والاقتصاد العراقي رهينة بيد هذه الفئة الاجتماعية الرثة التي توجه الموارد المالية صوب مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، وبعيداً كل البعد عن مصالح الشعب والاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبشكل خاص التنمية الصناعية أو حتى استخدام النفط في التصفية وفي الصناعة التحويلية أو في تطوير البنية التحتية، بما في ذلك الطاقة الكهربائية ونظافة المدن والبناء والشوارع. وهي فئة نهابة للثروة الوطنية، وتحت وطأة حكمها يسود الفساد المالي والإداري بكل صوره وأبعاده وعواقبه على الاقتصاد والمجتمع، كما ينتشر الخراب والبؤس والفاقة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والمدنية والحضارية بالمدن.
هذه الفئات الرثة الحاكمة بالعراق لا تعرف الوطن ولا الدين الذي تتبناه شكلياً ولا المذهب الشيعي أو السني الذي تدعي الانتساب إليه، ولا الطائفة التي تتبجح بالدفاع عنها، فالمصالح الذاتية لكل فرد فيها هي الغاية الأساسية، وهي الوسيلة والهدف، إنها السلطة بما تعنيه من نفوذ وهيمنة ومال وجاه وإقصاء واستئصال للفكر الآخر والشخص الآخر والحزب الآخر والشعب الآخر. ولو كان في مقدورها أن تحكم بدون الناس لتخلصت منهم أيضاً! واليوم ينهض تحالف شيعي – سني يمثل الأحزاب الطائفية وليس جماهير الشيعة والسنة وعرابه القيادة الإيرانية، وحديثاً السعودية أيضاً. وهو الذي يفترض أن يفضح. في مثل هذ النظام السياسي لا تنفع التوصيات والمقترحات التي يقدمها الاقتصادي "الإسلامي" عادل عبد المهدي. إن المزيد من الناس بدأوا يدركون تدريجاً طبيعة هذه الفئة وطبيعة الحكم السياسي الطائفي المسؤول عن كل ما حصل بالعراق خلال الـ 14 سنة المنصرمة، وهي التي يجب أن تترك مكانها ليقرر الشعب من يفترض ان يحكم البلاد وعلى وفق أسس ديمقراطية-علمانية وعدالة اجتماعية.
انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابع.

د. كاظم حبيب
رؤية نقاشية مع أفكار عادل عبد المهدي في مقاله "الانطلاق الاقتصادي
الحلقة الرابعة
غياب الرؤية الاستراتيجية والعقلانية للتنمية الاقتصادية والاجتماعي بالعراق
إن عرض اللوحة الاجتماعية للنخبة الحاكمة بالبلاد يشير لنا بأن السياسات الاقتصادية التي تمارس في العراق تعبر عن هذا الخليط الاجتماعي المركب وتتجلى فيها العلاقة الجدلية لا بين السياسة والاقتصادية بشكلها العام والظاهر حسب، بل وبمضامينها الاجتماعية أو الطبقية، التي تحرص على مكافحة الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصناعية المتوسطة والطبقة العاملة وفئة المثقفين الواعين لدورهم ومهمتهم في المجتمع، وتحديث وتنويع القطاع الصناعي وحل المسألة الزراعية وتحديث الزراعية وتنويع بنية الإنتاج الزراعي وتنظيم التجارة الخارجية وتغيير بنيتها لصالح عملية التنمية الوطنية والتصنيع ...الخ، وتوجيه الاستثمارات الحكومية والخاصة لتحقيق التنمية.
حين يكون الحكم على مستوى البلاد والمحافظات بيد هذه الفئات الاجتماعية التي تحدثنا عنها، سيجد المتتبع تجليات ذلك في غياب الرؤية العقلانية أو الرشيدة لعملية التنمية الآفاقية وعلى المدى البعيد أو ما نطلق عليه بـ "إستراتيجية التنمية الوطنية" التي يفترض أن تمتد لعقدين أو أكثر من السنين. وهذا الغياب هو الذي يميز السياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الفعالة والواقعية، حيث يغيب أيضاً التوزيع الرشيد للمهمات والأهداف والتقديرات للاستثمارات على خطط خمسية وسنوية وعلى مستوى الحكومة الاتحادية والمحافظات مثلاً. وفي غياب استراتيجية التنمية الوطنية الشاملة وتقدير حاجات البلاد ذات المدى البعيد للموارد المالية بصورة علمية تقريبية، تغيب أيضاً استراتيجية السياسية النفطية في البلاد وتتحول إلى تصريحات فارغة وتقديرات متباينة ومزاجية يدلي بها هذا الوزير أو ذاك حول كمية النفط التي يراد استخراجها وتلك التي يمكن تصديرها أو التي يمكن استخدامها في عمليات التكرير أو التصنيع الأخرى. وهو ما عاشه العراق وما زال في جولات العقود الخائبة التي وقعها حسين الشهرستاني جزافاً، وهي التي تلحق اليوم أضراراً غير قليلة بالعراق. كما ينطبق هذا النهج غير العقلاني والفاسد على القطاعات الأخرى ولاسيما الكهرباء.
إن هذه الفئات الاجتماعية غالباً ما تكون انتقائية وعفوية وذات رؤية ضبابية لما يفترض أن ينمو ويتطور في العراق حالياً وفي المستقبل. هذا ما عاشت فيه البلاد في فترة حكم القوى القومية والبعثية منذ 1963 حتى سقوط نظام البعث وصدام حسين. لقد امتلكت سلطة حزب البعث جهازاً للتخطيط وكفاءات كبيرة وممتازة وإمكانيات مالية كبيرة ووضعت للعراق خطة بعيدة المدى عمل عليها الكثير من الباحثين الممتازين من أمثال الدكتور عبد الرحمن قاسملو والدكتور صبري زاير السعدي والدكتور جعفر عبد الغني والدكتور كامل العضاض والدكتور فرهناك جلال وصباح كچه چي وعشرات من الخبراء والمختصين غيرهم، إضافة إلى بعض الأجانب، كما وضعت خطط خمسية مهمة، ولكن العفوية والانتقائية والرغبات الذاتية كانت سيدة الموقف التي حددت ما يفترض أن يقام في العراق من مشاريع، وهي التي أبعدت كل الخطط عملياً وتركت صدام حسين وطه ياسين رمضان وعزت الدوري يتحكمون اعتباطاً بوجهة تطور الاقتصاد باتجاه التصنيع العسكري على وفق الذهنية العسكرية الراغبة في القمع والحرب والتوسع.
حين تضع استراتيجية للتنمية الوطنية ستكون بحاجة ماسة إلى معلومات تفصيلية عن واقع العراق الاقتصادي والاجتماعي، وإلى رؤية واقعية وصحيحة للإمكانيات المتوفرة في البلاد من النواحي المالية والفنية والكوادر العلمية والفنية والإدارية والعلاقات العربية والإقليمية والدولية المتحركة ووعي ديناميكية المتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليها، وان تضع أكثر من احتمال، ثم تحاول استخدام عملية التقريب المتتابع للوصول إلى النموذج الأكثر قرباً للواقع القائم والمتغير. ويدخل في التأثير على هذا الأمر الموقف من قضايا مهمة منها مثلاً: النموذج الاقتصادي الذي تسعى إليه النخبة الحاكمة والموقف من التصنيع والزراعة وبقية القطاعات، وكذلك الموقف من التنمية البشرية ومن البحث العلمي ومن القطاعين الخاص والعام والقطاع المختلط والقطاع الأجنبي ...الخ. وأسمح لنفسي أن أجزم بأن الحكومات الثلاث المنصرمة (علاوي والجعفري والمالكي) والحكومة الحالية، رغم وجود مستشارين جيدين، لم تكن، وليس لديها الآن، رؤية علمية وواقعية لما يفترض أن تكون عليه استراتيجية التنمية الاقتصادية والبشرية، ولكن لدى الكثير من الحكام والعاملين في الحكومة وأجهزة الدولة قدرة فعلية خارقة على أساليب وأدوات الاغتناء على حساب المال العام. وهي مشكلة أخرى ترتبط بدورها بالفقرة السابقة، بالطبيعة الاجتماعية للفئات الحاكمة والذهنية التي تتعامل بها مع الشعب العراقي ومع ثروة البلاد.
وحين توضع استراتيجية للتنمية الوطنية يفترض أن يؤخذ بنظر الاعتبار الثروة الخامية المتوفرة في البلاد، أي النفط الخام والغاز المصاحب بشكل خاص، إضافة إلى موارد أولية أخرى، والموارد البشرية والقدرات العلمية والفنية المتوفرة. وعليه يفترض أن يعتمد المخطط للاقتصاد العراقي على النفط الخام، كمادة أولية، وعلى موارد النفط المالية لتحقيق التنمية الاقتصادية وتغيير بنية الاقتصاد خلال 25 سنة القادمة. ولا بد لنا وبالرغم من الأوضاع المرتبكة الراهنة في العلاقات بين العراق والدول المجاورة والعراق والدول العربية، فأن أي استراتيجية تنموية عراقية يفترض فيها أن تأخذ بالاعتبار التعاون والتنسيق العربي والإقليمي، لأسباب ترتبط بمجموعة من العوامل، سواء أكانت من حيث مستوى التقنيات وحجم رؤوس الأموال وحجم الإنتاج ومستوى الإنتاجية والتكاليف والقدرة على التسويق، خاصة وان العراق يعيش في عصر يزداد عولمةً من سنة إلى أخرى، ويفترض أن لا ينسى ذلك بغض النظر عن الملاحظات التي يفترض أن توضع على واقع سياسات العولمة الجارية من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة التي لا تصب في صالح الدول النامية، ومنها العراق، وبشكل خاص من خلال سياسات المؤسسات المالية الدولية ونموذجها للتنمية، تلك المؤسسات التي يتصدرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة.
هناك الكثير من المسائل التي يفترض أن نتطرق إليها في مجال استراتيجية التنمية الغائبة عن العراق، ولكن يمكن الاكتفاء  بالإشارة السريعة إلى مسألة تعتبر أساسية بالنسبة للعراق في ضوء الرثاثة السائدة بالعراق وتلوث البيئة نتيجة عواقب الحروب واستخدم السلاح الكيماوي من جانب النظام، والعتاد المشع من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، التي أدت إلى تفاقم التلوث وعواقبه الوخيمة.  وقد ظهرت أمراض خبيثة عديدة في العراق، وخاصة في جنوبه. ولهذا لا بد للعراق حين يضع استراتيجية تنموية أن يفكر بالتنمية الاقتصادية، وباقتصاد النفط الاستخراجي والتصنيعي، التي يفترض أن تقترن بحماية فعلية للبيئة من التلوث بمختلف احتمالاته، وأخص بالذكر هنا موضوع التنمية الصناعية والزراعية بما يحقق التوافق المناسب والمطلوب بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة والطبيعة. إذ بدون ذلك سيتفاقم تعرض العراق لمشكلات بيئية كثيرة تعرض حياة البشر إلى أخطار كبيرة، كما سيصرف أضعاف ما يصرفه اليوم من أموال على التنمية من أجل إعادة تنظيف البيئة التي يصعب عندها تنظيفها من التلوث. إنها عملية ضرورية ما دام الإنسان يريد أن يعيش على الأرض العراقية وينعم بثرواتها الأولية ويبعد عن أجياله الحالية والقادمة أعباء الأمراض الخطيرة والموت المبكر والخسائر المالية الكبيرة بسبب تلوث البيئة.
ولكن يستحيل تحقيق التنمية المنشودة إلا حين يستطيع المجتمع أن يخلق ميزان قوى جديد لصالح الفئات المنتجة للثروة الاجتماعية، للسلع المادية والروحية، ولصالح البرجوازية المتوسطة والصغيرة، التي تريد استثمار رؤوس أموالها في التنمية الصناعية والزراعية، عندها يمكن تأمين الضغط الضروري على الفئة الحاكمة لتمارس سياسة اقتصادية فيها شيء من الاستقلالية عن مصالح الفئات المالكة للأموال، أو ما يحقق شكلاً من أشكال التوازن في المصالح، بما يسهم في دفع عجلة التطور والتقدم إلى الأمام. ومثل هذه الحالة تستوجب نضالاً شاقاً من جانب القوى المعبرة عن مصالح تلك الفئات لتنعكس في مجلس النواب وفي تشكيلات مجلس الوزراء وفي القوانين والقرارات التي تصدر عن الحكومة ومجلس النواب. وإلى ذلك الحين، إلى حين تحقيق التغيير الجذري، سيبقى العرق يئن تحت وطأة مشكلاته العصية الراهنة.



الحلقة الخامسة والأخيرة
البديل المنشود لتحقيق التنمية والانطلاقة الاقتصادية
يراهن السيد عادل عبد المهدي على نظام الحكم القائم لتحقيق الانطلاقة الاقتصادية، وأراهن من جانبي على إن النظام السياسي الطائفي والمستند إلى المحاصصة الطائفية والذي تقوده أحزاب إسلامية سياسية طائفية، سواء المهيمنة على قيادة الحكم أم المشاركة فيها، وسواء أكانت شيعية أم سنية، غير قادر على تحقيق الانطلاقة الاقتصادية والسير على طريق التنمية الاقتصادية والبشرية المستقلة والواعية لتحقيق التغيير المنشود في البنيتين الاقتصادية والاجتماعية وفي الوعي لدى الفرد والمجتمع بالعراق. كما إنها غير قادرة على الحفاظ على وحدة الوطن وسلامة الشعب. وهذا التشخيص ليس اجتهاداً وادعاءً مني، بل هو حصيلة فعلية قائمة للسياسات والممارسات السيئة وغير الديمقراطية الناجمة عن طبيعة النظام الطائفي وأهدافه ونهجه وسلوكه في التمييز والتهميش والإقصاء للآخر، الذي عاش ويعيش حتى الآن تحت وطأته العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية خلال السنوات 14 المنصرمة والذي اقترن بفساد سائد بالبلاد باعتباره نظاماً قائما ومعمول به. وآخر دليل على ذلك يبرز في قرار إعفاء عبد الفلاح السوداني الذي طالبت هيئة النزاهة باعتقاله، واعتقل فعلاً ببيروت، ثم طالبت الحكومة بإخلاء سبيله لأن قراراً بالعفو صدر عنه من جانب الحكومة الحالية. إن السوداني عضو قيادي في حزب الدعوة الذي يترأسه حتى الآن نوري المالكي، نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء السابق، كما أن رئيس الوزراء الحالي هو عضو قيادي في هذا الحزب الشؤم. وكل الوزراء والنواب أو الأبناء الذين سرقوا وهربوا أو هربوا وأولئك الذين زوروا الشهادات واحتلوا مناصب مهمة، وجدوا الاحتضان والعفو من قبل أحزاب الإسلام السياسي الطائفية، الشيعية منها والسنية، ومن الحكومة المعبرة عن تلك الأحزاب.
لا يمكن للعراق المتعدد القوميات والمتعدد الديانات والمذاهب والمتعدد الاتجاهات الفكرية والسياسية أن يستقيم ويتطور ويحقق الوحدة الوطنية ويعزز نسيجه الاجتماعي الوطني الديمقراطي بوجود مثل هكذا نظام سلفي يعود لقرون خلت، بل لا بد من تأكيد معايير ومبادئ وأسس وأهداف حضارية تعود للقرن الحادي والعشرين، التي من شأنها أن تدفع بالعراق نحو الأمام وليس الانكفاء على الماضي ومآسيه وعلى القوى التي لا تحترم إرادة الإنسان وكرامته: وهنا أطرح بوضوح ما التزمت به قوى التيار الديمقراطي العراقي وما أضافت إليه واقترحته للمناقشة لجنة المبادرة لتوحيد القوى الديمقراطية واليسارية واللبرالية والشخصيات الدينية العلمانية والشخصيات والقوى المستقلة: 
المعايير والثوابت والقواسم المشتركة:
تتفق القوى المستهدفة على المعايير والاسس التالية:
** المواطنة أولاً، واحترام الهويات الفرعية.
** الديمقراطية السياسية والاجتماعية.
 ** الدولة المدنية الحديثة.
 ** العدالة الاجتماعية.
 ** استقلال القضاء.
 ** ضمان استقلال المفوضيات المستقلة عن الأحزاب السياسية والسلطة التنفيذية
 ** احترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وضمان حرية التعبير عن الرأي والتظاهر والاعتصام، وحرية الصحافة.
 ** اللامركزية وصلاحيات موسعة للمحافظات، في ظل عراق ديمقراطي فدرالي موحد.
 ** وضع القوانين والنظم المنظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على وفق     
      الدستور.
 ** احترام التنوع وخيارات الاتحاد الطوعي وحق تقرير المصير على وفق احكام الدستور.
 ** سيادة العراق ارضاً وجواً وبحراً.
 ** نظام الحكم تعددي برلماني.
 ** التداول السلمي للسلطة وفق انتخابات نزيهة حرة وعادلة.
 ** الفصل بين السلطات.
 **  الفصل بين الدين والدولة.
 ** سيادة القانون وانفاذه دون تمييز.
 ** القوات المسلحة الوطنية بصنوفها وتشكيلاتها كافة هي الجهة الشرعية الوحيدة التي تحمل      السلاح دفاعا عن ارض العراق وامنه الداخلي.
 ** الجيش هو المسؤول عن حماية حدود العراق وسيادته.
 ** الشرطة وجهاز الأمن الداخلي هما المسؤولان عن الأمن الداخلي للبلاد.
 ** الاصطفاف الوطني الشامل ضد الارهاب والتطرف والتكفير والفساد.
 ** إعادة النازحين الى مدنهم وديارهم، واعادة الاعمار لمدنهم وتعويضهم.
نحو ميثاق وطني يتضمن:
 إجراء تعديل في الدستور يخلصه من الاختلالات الراهنة، وبما يضمن ترسيخ الديمقراطية والحداثة واحترام مبدأ المواطنة
** وحقوق الإنسان وتحريم التمييز بمختلف أشكاله وضد نشر الكراهية.
 ** تشكيل حكومة كفاءات وطنية عابرة للطائفية ورافضة لها.
 ** الاصلاح الحقيقي (السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي والاداري والمالي والبيئي).
** استكمال تحرير الارض، ومواصلة مواجهة الارهاب وذيوله فكرياً وسياسياً وأمنياً. واستكمال بسط نفوذ سلطة الدولة ودحر الإرهابيين وإنهاء الانفلات الأمني، عسكريا وفكريا.
** حل مشكلات النازحين وقضايا المهجرين الناجمة عن كل فترة الصراع المسلح ورفض التغيير الديمغرافي وإعادة النازحين إلى ديارهم وإعادة الأعمار وتعويض المتضررين.
 ** إطلاق حملة شاملة لمواجهة مبرمجة ومنظمة للفساد واسترداد الأموال، وإجراء محاكمات عادلة      للفاسدين.
 ** استكمال مشروع المصالحة السياسية والمجتمعية على أسس قويمة.
 ** العمل على معالجة قضايا العدالة الانتقالية وحل مشكلات المعتقلين بمحاكمات عادلة للمتهمين أو إطلاق سراح المعتقلين دون مبرر فوراً وتعويضهم.
 ** الاهتمام بقضايا التنمية المستدامة، واستنهاض الاقتصاد الوطني بمزيد من الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية والخدمات الإنتاجية، لاسيما ملفات البنى التحتية، ومنها الكهرباء والماء
     والنقل والمواصلات والاتصالات.
 ** الاهتمام بمشكلة المياه والحصص المائية مع دول الجوار والمنفذ البحري للبلاد.
 ** تنشيط القطاعات الاقتصادية الخاص والمختلط والحكومي بما يسهم في تسريع عملية التنمية
     الاقتصادية والبشرية.
 ** الاهتمام بالسياحة وتوفير مستلزماتها باعتبارها توفي مورداً إضافياً للدخل القومي.
 ** معالجة مشكلة البطالة المتفاقمة ولاسيما بين الشبيبة، وعواقبها.
 ** معالجة تنامي الفقر وتزايد عدد الفقراء الذين يعيشون تحت خطر الفقر المحدد للدول النامية.
 ** الانتهاء من وضع قانون وطني فعال لشركة النفط الوطنية، وربط موارد النفط المصدر بالتنمية المستدامة وعملية التصنيع وتحديث الزراعة وتنويعها، بما يسهم في تخليص الاقتصاد العراقي من طابعه الريعي الاستهلاكي.
 ** العمل على تأمين الأمن الاقتصادي والغذائي للمجتمع العراقي.
 ** وضع القوانين الناظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على وفق الدستور واعتماد المفاوضات في حل المشكلات القائمة بينهما، وكذلك مع الحكومات المحلية في المحافظات.
 ** ايلاء اهتمام استثنائي لقضية المرأة العراقية ومساواتها الكاملة في الحقوق والواجبات مع الرجل.
 ** إيلاء اهتمام خاص بالشبيبة واغناء حياتهم الثقافية والرياضية بمختلف جوانبها.
 ** إيلاء الثقافية الوطنية بجميع حقولها اهتماماً خاصاً وتوفير مستلزمات وصولها لفئات الشعب
      كافة.
 ** إصلاح المنظومة الانتخابية.
 ** إصلاح المفوضيات والهيئات المستقلة ومنع تدخل السلطة التنفيذية بشؤونها.
 ** التدقيق في اختيار شخصيات اعضاء المحكمة الاتحادية العليا وحصرهم بالقضاة المتمرسين المشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية والثقافة.
 ** إصلاح أسس التربية والتعليم والبحث العلمي ووضع برامج علمية وديمقراطية لمختلف مراحل
     الدراسة. التوسع بالتعليم المهني والفني بما يتجاوب مع ضرورات التوسع بالتنمية. إنشاء مجلس 
    وطني أعلى للتعليم يأخذ على عاتقه وضع استراتجية التربية والتعلم
 ** إصلاح نظام الخدمات الصحية والتأمين الصحي والرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي
     والاهتمام بذوي الحاجات الخاصة.
 ** توفير مستلزمات العيش الكريم للأرامل وأيتام سنوات الاستبداد والحروب والإرهاب.
 ** وضع حد للتدخل الخارجي بكل اشكاله في شؤون العراق الداخلية، والعمل لإقامة أفضل العلاقات    مع جميع الدول على أسس الاحترام والمنفعة المتبادلين والمصالح المشتركة.
بمثل هذا البرنامج يتمكن العراق من الحفاظ على وحدته واستقلاله وضمان سيادته وتمتع الشعب بخيراته وتمتع الفرد بحريته وكرامته وحقه في اختيار الدين أو المذهب أو الفكر الذي يناسبه ويحقق طموحاته مع الاحترام الكامل لحرية الآخر، وكما جاء في المثل المعروف "مد يدك بحيث لا تمس أنف غيرك". 

318
من اجل توحيد القوى الديمقراطية العراقية في مواجهة النظام السياسي
 الطائفي ومحاصصاته وضد الفساد والارهاب
تحت هذا الشعار تقييم لجنة تنسيقية التيار الديمقراطي العراقي في المانيا مع لجنة
المبادرة لتوحيد القوى الديمقراطية العراقية  ندوة حوارية حول مبادرات جمع وتوحيد كل القوى الديمقراطية العراقية وذلك في الساعة الثانية عشر  من يوم السبت المصادف 30-09-2017 والدعوة عامة للجميع .
البرنامج
الافتتاح بعزف  على الة العود
كلمة الترحيب
الجزء الاول من الساعة الثانية عشر الى الساعة الثالثة يتضمن طرح  مبادرات كل من
مبادرة التيار الديمقراطي
مبادرة الدكتور كاظم حبيب
مبادرة الحزب الشيوعي العراقي
مداخلة الاستاذ ضياء الشكرجي
لكل مبادرة 20  دقيقة
فترة الغداء
الجزء الثاني من الساعة الرابعة الى الساعة السادسة
البرنامج السياسي للمبادرات ومناقشته
البيان الختامي
NEUES  DEUTSCHLANDالعنوان .
FRANZ-MEHRING-PLATZ -1
10243 BERLIN

319
كاظم حبيب
طبيعة وقوى الصراع الجاري بالعراق
يتبلور الصراع الجاري بالعراق في المرحلة الراهنة فعلياً حول طبيعة الدولة التي يفترض أن تكون عليه بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، والمؤسسات الأخرى التابعة لها. ففي الوقت تسود العراق حالياً دولة طائفية - اثنية سياسية وزعت سلطاتها الثلاث ومؤسساتها العسكرية والمدنية على أسس المحاصصة الطائفية والأثنية السياسية المذلة لمبدأ المواطنة وكل المواطنات والمواطنين بالبلاد، والتي قادت البلاد إلى أسوأ العواقب، سواء أكان بتدمير النسيج الوطني والاجتماعي للشعب العراقي بكل قومياته واتباع دياناته ومذاهبه، أم بإشعال الحرائق الطائفية بين المليشيات الطائفية المسلحة التابعة للأحزاب الإسلامية السياسية وجر القوى الإرهابية الإسلامية المتطرفة والتكفيرية الإقليمية والدولية إلى العراق والتي ما تزال تمارس الإرهاب الواسع النطاق، أم ممارسة القتل على الهوية الدينية والمذهبية في طول البلاد وعرضها، أم بسيادة الفساد المالي والإداري في كل الدولة العراقية، وبالتالي تعطيل عملية التنمية والبناء والتعمير وتوفير الخدمات بالبلاد، أم بتسليم أجزاء عزيزة من الوطن العراقي إلى قوى الإرهاب الإسلامي الدولي (داعش) والبطش بالشعب قتلاً وسبياً واغتصاباً وبيعاً للنساء في سوق النخاسة الإسلامي ونهباً وتدميرا للإرث الحضاري العراقي. هذا النظام السياسي، وهو جزء أساسي ومركزي من سلطات الدولة الثلاث، الذي هيمن منذ العام 2005 على بقية السلطات، يدار من قوى وأحزاب إسلامية سياسية شيعية، مع وجود تبعي لأحزاب إسلامية سياسية سنية راكعة ومشاركة في كل ما وقع للعراق وشعبه من مآسي وكوارث مدمرة ما تزال مستمرة. هذا النظام، الذي يرفض المهيمنون عليه، إجراء أي تغيير حقيقي على قانون الانتخابات وعلى بنية المفوضية العليا "المستقلة!" للانتخابات، ويمارسون الفساد والتزوير والتشويه بأسوأ صوره، هو الذي يجب أن يتغير لصالح دولة ديمقراطية علمانية حديثة، دولة تترك خلفها الهوية الطائفية لصالح الهوية الوطنية وتحترم كل الهويات الفرعية، دولة دستورية ديمقراطية برلمانية نزيهة تكافح الإرهاب والفساد وتطهر البلاد منهما ومن رجس العنصرية والطائفية والإرهاب والعنف والفساد. إن الطائفية السياسية الجارية بالحكم والمجتمع هي من فعل الأحزاب الإسلامية السياسية، وهي لم تأت من فراغ ولم تنزل من السماء، بل من الأحزاب الإسلامية السياسية القائمة بالبلاد ومن دول الجوار ذات النهج والسلوك الطائفيين المدمرين، سواء أكانت حكوماتها تتتبع المذهب الشيعي، كما بإيران، أم المذهب السني، كما بالسعودية وقطر وتركيا، على سبيل المثال لا الحصر. هذا هو جوهر الصراع. وهذا الصراع تخوضه قوى بعينها، تخوضه قوى وأحزاب إسلامية سياسية، سواء أكانت ضمن البيت الشيعي، أم الجماعات السنية، سواء تلك المتحالفة حالياً مع رئيس قائمة "دولة القانون!" وعرابها النظام الإيراني، أم خارج هذا التحالف، ولكنها تمارس النهج الطائفي أيضاً من جهة، والقوى الديمقراطية، سواء أكانت يسارية، أم ليبرالية، أم قوى مستقلة، أم قوى دينية علمانية تؤمن بضرورة إبعاد الدين عن السياسة وعن الدولة من جهة ثانية. في هذه المسألة الجوهرية يفترض أن يكون الموقف واضحاً وجلياً وليس ضبابياً يقود إلى عواقب وخيمة بالنسبة للرؤية السليمة للواقع العراقي ولحركة الأوساط الشعبية والفئات الاجتماعية.
يتبلور اليوم وبشكل ملموس نسبياً اتجاه مهم في المجتمع، ولاسيما بين المسلمين، وهو موجود لدى أتباع الديانات الأخرى بالعراق، بأن على الدولة أن تكون حيادية إزاء الديانات وأتباعها، من أجل تجنب الصراعات الدينية والمذهبية التي سقط في مستنقعها العراق منذ العام 2003 حتى الآن. وهو درس مهم للوقت الحاضر والمستقبل. والقول الذي يشير إلى أن الصراع الجاري ليس مع المسلمين، هو صحيح جداً، ولكن الصراع هو مع تلك الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية التي ما تزال تصر على ممارسة السياسة الطائفة وترفض الدولة الديمقراطية العلمانية وترفض المجتمع المدني الديمقراطي، إذ لا يكفي أن يقول الإنسان ضد الطائفية، وكفى المؤمنين شر القتال، إذ أن الطائفية ليست حالة مجردة، بل هي محمولة من قوى وأحزاب إسلامية سياسية ولديها ميليشيات وعلى القوى الديمقراطية تشخيصها بوضوح ودون مجاملات فارغة لا تقود إلى الرؤية المطلوبة، ولكي لا يلتبس الأمر على الناس ويتشوش الموقف الصحيح المطلوب في الصراع الجاري في المجتمع. نحن في صراع مع الإسلاميين الطائفيين السياسيين الذي فرضوا الطائفية السياسية على الحكم والمجتمع ومارسوا التمييز والتهميش والإقصاء بكل أشكاله المرضية التي وضعت العراق في حالته الراهنة! وهؤلاء هم في الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية التي لم تتخل عن نهجها حتى الآن! 
                   

320
من اجل توحيد القوى الديمقراطية العراقية في مواجهة النظام السياسي
الطائفي ومحاصصاته وضد الفساد والارهاب

تحت هذا الشعار تقيم لجنة تنسيقية التيار الديمقراطي العراقي في المانيا مع لجنة المبادرة لتحريك ودعم التوجه صوب التعاون والتنسيق والتحالف بين القوى الديمقراطية العراقية ندوة حوارية حول مبادرات جمع وتوحيد كل القوى الديمقراطية العراقية وذلك في الساعة الحادية عشر من صباح يوم السبت المصادف 30-09-2017 والدعوة عامة للجميع.
البرنامج
الافتتاح: عزف منفرد على آلة العود
كلمة الترحيب
الجزء الاول من الساعة الحادية عشر الى الساعة الواحدة والنصف ويتضمن:
طرح المضامين الأساسية للمبادرات وأوضاع العراق الراهنة وضرورات وحدة القوى الديمقراطية:
** مطالعة لجنة تنسيق قوى التيار الديمقراطي العراقي في المانيا ويقدمها الأستاذ هيثم الطعان، عضو تنسيقية الخارج وممثل تنسيقية ألمانيا.
** مطالعة منسق لجنة المبادرة لتحريك ودعم التوجه صوب التعاون والتنسيق والتحالف بين القوى الديمقراطية العراقية، الدكتور كاظم حبيب 
** مطالعة ممثل منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ألمانيا
** مطالعة الشخصية الديمقراطية العلمانية المستقلة الاستاذ ضياء الشكرجي
** يدير الندوة الشخصية الديمقراطية العراقية السيد الدكتور صادق اطيمش
لكل مبادرة 20 دقيقة
وقت المناقشة: من الساعة الثانية عشر والنصف حتى الساعة الثانية والنصف
فترة الغداء
الجزء الثاني من الساعة الثالثة والنصف الى الساعة السادسة مساءً
مقترحات البرامج السياسية للمبادرات ومناقشتها
عزف موسيقي
البلاغ الختامي
NEUES DEUTSCHLAND, 10243 BERLIN ,FRANZ-MEHRING-PLATZ -1


321
كاظم حبيب
من أجل عراق ديمقراطي يزيح الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة!

لم يكن سقوط نوري المالكي في أعقاب تسليمه الموصل لعصابات داعش وتسببه بالمجازر والإبادة الجماعية التي وقعت بنينوى سقوطاً له وحده، بل كان سقوطاً مدوياً للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته الطائفية والأثنية المذلة للشعب، سقوطاً للأحزاب والقوى الدينية الإسلامية السياسية الطائفية، الشيعية منها والسنية الحاكمة، كما كان سقوطاً للنعرات القومية الشوفينية وتلك المصابة بضيق الأفق القومي. وكان هذا السقوط إعلاناً بوجود نظام سياسي بمثابة جثة هامدة متعفنة يراد دفنها قبل أن تتسبب بأمراض جديدة. ولكن المشكلة برزت في عدم وجود دفان لها وحامل قادر على النهوض بمهمات الوضع الجديد، مما أدى إلى استبدال الوجوه لا غير، وهو أمر أدركه الكثير من أبناء وبنات العراق بحسهم السياسي الفطري. وكان الحراك الجماهيري وتنوع القوى المشاركة فيه، ابتداءً من الحراك المدني ومروراً بالتحركات المهنية لكثير من التجمعات السكانية والتظاهرات والإضرابات المطالبة بالكهرباء أو غيرها من الخدمات الاجتماعية المغيبة حتى الآن، وانتهاءً بتحرك واسع وقوي ومؤثر لقوى التيار الصدري السياسي-الاجتماعي. بمعنى أخر إن الظرف الموضوعي كان مؤهلاً لا لتغيير الطاقم الحاكم حسب، بل والتخلص من النظام السياسي الطائفي وبناء نظام سياسي ديمقراطي علماني لصالح الشعب المستباح. والخلل في الواقع العراقي يبرز في عدم نضوج الظرف الذاتي، أي عدم نضوج قدرات القوى المناهضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته للنهوض بعملية التغيير السلمي والديمقراطي لمسيرة الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ومجمل الوضع العام بالعراق، مع ادراكنا للدور السيء الذي تلعبه إيران على نحو خاص وعبر تدخلها ووجودها الفعلي بالعراق في استمرار النظام الطائفي ومحاصصاته في الحكم ومناهضة أي تغيير منشود من اشعب العراقي حتى الآن.
هذا الواقع ما يزال إلى حدود غير قليلة مؤثراً في الوضع العام، رغم التحسن المتنامي في الظرف الموضوعي، وانكشاف أكبر لفضائح القوى الحاكمة ومن يقف خلفها، لصالح التغيير، وكذلك رغم تحسن الظرف الذاتي للقوى الساعية للتغيير، أي القادرة بشكل أفضل على تحمل المسؤولية. إذن أين المشكلة؟ المشكلة كما أرى في تبعثر جهود القوى المعارضة للنظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، وفي عجزها حتى الآن عن إيجاد اللغة المشتركة وأساليب النضال المشتركة التي تنعكس في برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي مشترك لكل القوى الديمقراطية التي يعز عليها استمرار معاناة الشعب!
هذا الواقع هو الذي يحرك القوى الديمقراطية العراقية إل التفتيش عن إمكانيات للتعاون والتنسيق والتكامل في النضال لصالح التغيير. ومن هذا المنطلق أيضاً بدأ في الفترة بين عامي 2015/2016 التفكير لدى مجموعة من العراقيات والعراقيين بالخارج حول مدى إمكانية المساهمة في هذا الجهد والمبادرة إلى طرح مجموعة من الدراسات حول أوضاع العراق وبلورة المهمات التي تواجه حركة التغيير الديمقراطي الجذري. وفي حينها تم الاتفاق مع المكتب التنفيذي للتيار الديمقراطي ببغداد على العمل المشترك لإنجاز مثل هذه الدراسات وعقد ورشات عمل لمناقشتها، وتم توزيع المهمات على كتاب داخل العراق وآخرين خارج العراق. وفعلاً أنجزت اربع دراسات مهمة من ثلاث من الخارج وواحدة من الداخل. وتم عقد ندوة في مدينة هامبورغ قدمت فيها الدراسات الأربع للمناقشة. وبعد مناقشتها وإقرارها، أرسلت إلى المكتب التنفيذي للتيار الديمقراطي، كما نشرت عبر الإنترنيت على نطاق واسع. ألا إن ندوات لهذا الغرض لم تعقد بالداخل لمناقشتها.
وفي فترة قصيرة لاحقة تبلور الموقف لدى مجموعة من الإخوان بالخارج، فشكلت لجنة سميت بلجنة المبادرة من أجل حث القوى الديمقراطية العراقية والقوى القومية الديمقراطية والقوى اللبرالية والشخصيات الدينية المتفتحة والمدنية والعلمانية والمستقلة والضغط عليها لتسريع عملية الحوار والمناقشات المكثفة والضرورية حول الموقف من الانتخابات العامة ومستقبل العراق والموقف من النظام السياسي الطائفي المحاصصي، بأمل طرح مشروع أو أكثر لمناقشته من جانب القوى السياسية المناهضة للطائفية والمحاصصة وساعية إلى التغيير الفعلي في الوضع. وقد أطلقت هذه اللجنة المستقلة والديمقراطية اسم "لجنة المبادرة لتحريك ودعم التوجه صوب التعاون والتنسيق والتحالف بين القوى الديمقراطية العراقية". وفي كانون الأول/ديسمبر 2016 أقر المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي العراقي مبادرة مهمة هي دعوة القوى الديمقراطية العراقية إلى التعاون والتنسيق وتوحيد الصفوف لمواجهة الأوضاع المتردية بالعراق وتحقيق عملية التغيير. وقد تبنى التيار الديمقراطي العراق هذه المبادرة أيضاً ووضع في وقت لاحق ومتأخر نسبياً برنامج زمني لإنجاز المهمة.
في الشهر الثالث من عام 2017 توجهت لجنة المبادرة إلى نشر مبادرتها والدعوة إلى مناقشة أوضاع العراق ووضع برنامج عمل للنضال من أجل التغيير الجذري في الواقع العراقي الراهن. صدرت هذه الدعوة في بيان نشر على نطاق واسع، وتضمن عقد مؤتمر عام لكل القوى التي تلتقي في ما بينها على أهداف مشتركة لتضع الصيغة المشتركة لهذا البرنامج كمحصلة لتلك النقاشات المكثفة بين كل القوى الديمقراطية العراقية. وكنا نعتقد بان الوقت متأخر جداً ولا بد من تسريع وتيرة العمل والنقاش للوصول إلى الأهداف المرجوة. وجرى لقاء بين أعضاء من لجنة المبادرة مع المكتب التنفيذي للتيار الديمقراطي بأربيل، وكذلك مع السيدة ميسون الدملوجي عن الوفاق الوطني ومع آخرين بهدف تسريع الحوارات ومعرفة المواقف المختلفة. 
أن متابعة النقاشات والحوارات الجارية بين أطراف ديمقراطية تشير إلى وجود توجه جاد للعمل المشترك ووضع برنامج مشترك، ولكن ما ينقص هذا الحراك يبرز في البطء الكبير في إنجاز الخطوات المطلوبة. وهذا يعني عملياً احتمال حصول تأخر في عقد المؤتمر المنشود. إنها المشكلة القديمة التي تعاني منها القوى الديمقراطية في حركتها للوصول إلى اتفاقات مشتركة.
لا أشك في وجود صعوبات وحساسيات ومشكلات غير قليلة تعترض سبيل العمل بهذا الاتجاه، ولكن لا يجوز لها أن تعيق الوصول إلى برنامج عمل مشترك والبدء بالتحضير إلى عقد مؤتمر عام يحضره من وافق على التعاون والتنسيق، إذ يمكن أن يلتحق من لم ينهِ حتى عقد المؤتمر موقفه من التحالف المنشود وتوحيد القوى في النضال لمواجهة الوضع المتأزم بالداخل.
لقد نشر المكتب التنفيذي المعايير والأهداف التي يراها ضرورية للنضال المشترك في رسالة موجهة إلى القوى الديمقراطية والمناهضة للطائفية السياسية والمحاصصة. وتسلمت لجنة المبادرة نسخة منها. والمقترح يتضمن معايير وأهداف مهمة وواقعية إلى حدود بعيدة. درست لجنة المبادرة هذه الوقة بعناية ووضعت أهم وأبرز تصوراتها المكثفة في صلب ورقة المكتب التنفيذي لقوى التيار الديمقراطي العراقي. وتم إرسالها إلى المكتب التنفيذي للتيار الديمقراطي والقوى الأخرى التي يهمها المشاركة في النقاشات والمؤتمر. وبعد مرور أكثر من شهرين على نشرنا ذلك قمنا يوم أمس بنشرها ثانية وتوجيهها إلى المكتب التنفيذي للتيار الديمقراطي وقيادات الأحزاب والقوى والشخصيات المقصودة في مبادرتنا. وقد نُشرت ورقة العمل المعدلة لورقة التيار الديمقراطي على نطاق واسع وفي مواقع كثيرة، بأمل مناقشتها ومن ثم التوجه لعقد المؤتمر العام في خريف هذا العام 2017، إذ لم يعد هناك وقت كثير قبل الانتخابات العامة القادمة والموقف منها والتحالفات التي يمكن بلورتها في هذا العام وليس في العام القادم.
إن المبادرة الفعلية لمثل هذا العمل تتحمله القوى السياسية الديمقراطية واللبرالية والمستقلة بداخل العراق، لأنه الموقع النضالي الأساسي لعملية التغيير، وما دور الخارج إلا المساعدة في التعبئة والترويج لصالح التغيير. والواقع العراقي يشير إلى إمكانيات ملموسة مهمة تؤكد توجه المزيد من الناس لصالح التغيير، وهذا الجديد في الأجواء العراقية هو الذي استفز القوى الحاكمة ودفعها للبدء بحملة من الافتراءات ضد قوى التيار الديمقراطي ويعكس نفاذ صبرها لخشيتها من خسارة الحكم الذي تتشبث به بلك السبل غير المروعة.   
واحدة من الظواهر السلبية الراهنة بالعراق تبرز في موقف القوى الكردستانية من القوى الديمقراطية العراقية وموضوع التعاون والتنسيق معها لصالح التغيير. فالتحالف الكردستاني والقوى والأحزاب الكردية بكردستان العراق لم تساهم خلال الفترة المنصرمة، ولا تساهم الآن أيضاً، في النشاط السياسي الديمقراطي الضروري للتصدي للمحاصصة الطائفية التي وضعت العراق على كف عفريت. إنها قد اتخذت في البرلمان العراقي مواقف ضد تغيير مفوضية الانتخابات لصالح القوى الديمقراطية ونزاهة الانتخابات وساهمت مع القوى الطائفية على بقاء المحاصصات الطائفية والأثنية في مفوضية الانتخابات فعلياً، كما اتخذت نفس الموقف من قانون انتخابات مجالس المحافظات وأقرت طريقة سانت ليغو 1،9 السيء الصيت والفعل، والآن أقرت أيضاً ذات الطريقة ولكن بـ 1،7، وهي تعرف إن هذه الطريقة مضرة بالحركة الديمقراطية العراقية عموماً وبالحركة الديمقراطية الكردستانية خصوصاً، وهي بهذا تلحق ضرراً بها، شاءت ذلك أم وبمواقف القوى الديمقراطية التي تريد وتسعى إلى التغيير الذي ينفع الشعب الكردي، إضافة إلى إيجابيات التغيير لصالح كل القوميات في المجتمع العراقي. أتمنى على الأخوة والأصدقاء في الأحزاب الكردستانية دراسة المسالة واتخاذ الموقف المناسب لصالح عملية التغيير بالعراق والتي ستخدم القضية الكردية وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه.
وفي ضوء ما تقدم اتوجه بالنداء إلى كل القوى الديمقراطية والقومية واللبرالية والمتدينة العلمانية والشخصيات السياسية المستقلة، العربية والكردية ومن القوميات الأخرى، وإلى كل من تهمه قضية التحول الديمقراطي السلمي للعراق والخلاص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته، إلى تعجيل مشاوراتها ومناقشاتها والاتفاق الأولي على صيغة المعايير والبرنامج العلمي وطرحه في مؤتمر لا يتجاوز بأي حال خريف هذا العام، لكي يمكن خوض غمار النضال السلمي والديمقراطي للتغيير المنشود عبر صناديق الانتخابات، الذي يزداد طموح العراقيات والعراقيين له للخلاص من الأوضاع التي خلقتها القوى التي حكمت العراق طيلة 14 عاماً، وخرائب العراق وشهداءه والفساد هو التعبير الصارخ عن منجزات هذه القوى الحاكمة التي زكمت عفونتها ونتانتها أنوف كل العراقيين. 
كاظم حبيب   

322
كاظم حبيب
هل فقد الحاكم التركي المستبد بوصلة العقلانية السياسية والدبلوماسية!
منذ عدة سنوات والعالم يتابع بقلق الأوضاع المتدهورة سياسياً واقتصادياً واجتماعيا بتركيا، سواء أكان باحتضان الحزب الحاكم لقوى الإرهاب الدولي (داعش وما يماثله) والسماح لها بعبور الحدود صوب سوريا والعراق ومساعدتها بمختلف السبل، أم البدء التخلي عن الحل السلمي والديمقراطي للقضية الكردية بكردستان تركيا وبد الحرب ضد المناضلين في سبيل حقوقهم العادلة والمشروعة، أم باختراق قواته المسلحة إلى الأراضي العراقية بصورة غير شرعية وإقامتها معسكراً لها، كأي محتل، في بعشيقة، إضافة إلى تفاقم نهج التخلي عن العلمانية في بنية الدولة التركية لصالح الإسلام السياسي ومعاداة الديمقراطية والرأي الآخر والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان.
إلا إن هذه التوجهات السلبية في السياسة التركية على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية قد تسارعت بتعجيل مضاعف منذ محاولة الانقلابية الفاشلة التي نفذتها مجموعة من الضباط وضباط الصف والجنود الترك ضد حكومة رجب طيب أردوغان. إذ إن قيادة حزب العدالة والتنمية قد أدارت دفة الدولة بـ 180 درجة، بحيث زجت بالسجن ليس المجموعة الانقلابية الصغيرة فحسب، بل وأمرت بفصل واعتقال عشرات الألاف من المواطنين والمواطنات ممن لا دخل لهم بالانقلاب وجماعته، بحيث شمل ذلك العاملين في أجهزة التعليم كافة والقضاء والسلك الدبلوماسي وكل الوزارات والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص. كما تجاسرت واعتقلت صحفيين يحملون جواز سفر ألماني او من العاملين في مؤسسة العفو الدولية، واعتقال امرأة تحمل الجوازين الألماني والتركي مع طفلها ذي السنتين وزجتهم في السجن بانتظار المحاكمة. والتهم ضد الجميع ليس فقط تأييد محاولة الانقلاب، بل وكذلك تهمة العمل ضد الدولة ومساعدة قوى إرهابية، وهم يعنون بذلك حزب العمال الكردستاني وقوى الإسلام السياسي الإرهابية التي احتضنوها قبل ذاك بالتعاون مع قطر والسعودية.
لقد حول قادة حزب التنمية والعدالة، ولاسيما المستبد بأمره رجب طيب أردوعان، تركيا إلى سجن كبير تعيش تحت وطأته شعوب تركيا، وسجن صغير يضم الآلاف من المعتقلين السياسيين من الترك والكرد والعلويين ومن أتباع فتح الله كولان وغيرهم. ويتسم اردوغان واليوم بالسمات ذاتها التي تميز بها الدكتاتور العراقي صدام حسين، الذي حكم العراق طيلة الفترة بين 1968 -2003، أو المستبد بأمره نوري المالكي الذي حكم العراق بين 2006 - 2014، والتي قادت العراق إلى عواقب وخيمة ومدمرة.   
وعلى وفق ما ينشر في الصحف العالمية عما يجري بتركيا والأخبار المباشرة التي تصل من تركيا تشير إلى أن المستبد بأمره يريد إعادة العمل بقانون يجيز إصدار وتنفيذ أحكام الإعدام بحق المزيد من الناس ممن يتهمهم بتهم ملفقة غالباً ما يلصقها المستبدون بمعارضي النهج الدكتاتوري في الحكم ومصادرة الحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية، ولاسيما حكام الشرق الإسلامي.
بدأ أردوغان في الأشهر الأخيرة بشن حملة هستيرية ضد ألمانيا وساستها، فاتهم ألمانيا والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالنازية، واتهم وزير الخارجية الألماني بشتى التهم السخيفة وأخرها نعته وزير البيئة التركي بأنه يمارس سياسة مستنسخة عن اليمنيين والعنصريين الألمان. ثم أصدر وزير خارجية تركيا مذكرة إلى الانتربول يطلب فيها اعتقال الكاتب الألماني من أصل تركي دوجان أخانلي. وقد اعتقل فعلاً في اسبانيا أثناء قضاء فترة استراحة هناك، ولكن أطلق سراحه بعد 18 ساعة، إلا إنه سيبقى في اسبانيا إلى حين صدور قرار بحقه يسمح له مغادرة اسبانيا.
ويومياً ينبري أردوغان وزراءه بشن حملات إعلامية ضد الدولة الألمانية وحكومتها وبعدوانية شديدة تتنافى مع الأعراف الدبلوماسية. فما الهدف من وراء هذه الحملة الجديدة المركزة ضد ألمانيا؟
يبدو لكل متتبع لمجرى تطور الأوضاع بتركيا إلى أن أردوغان يسعى بجهود محمومة إلى خلق "صورة عدو" مناهض لتركيا ليعبئ حوله الناس الترك ضد هذا العدو الخارجي، ويبعدهم عن التفكير فيما وصل إليه الحال بتركيا في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولاسيما البطالة وتراجع غير مسبوق بعدد السياح إلى المناطق السياحية بتركيا، وتنامي الهجرة التركية وطلب اللجوء السياسي بالدول الأوروبية، ولاسيما بألمانيا. كما يسعى إلى إشاعة الفتنة بين الألمان والترك المقيمين بألمانيا، من خلال دعوة الترك بألمانيا بعدم التصويت لصالح مرشحي الأحزاب الألمانية وذكر بالاسم الأحزاب التالية وكل "حزب يعادي تركيا!"، هي "الحزب الديمقراطي المسيحي وشقيقه الحزب المسيحي الاجتماعي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وحزب الخضر في الانتخابات التي ستجري بألمانيا في 24 أيلول/سبتمبر 2017، باعتبارها أحزاب معادية لتركيا. وبالتالي يحاول تعبئة المزيد من الترك إلى جانبه ضد ألمانيا.
يبدو لكل متتبع إن هذا الرئيس العثماني الجديد و"المسلم القح" قد فقد سلامة التفكير وعقلانية الحكم تماماً وتحول إلى حاكم مستبد لا يراعي حرمة الناس ولا يلتزم بالأعراف الدبلوماسية ولا بنهج سياسي معتدل، ولا بالحفاظ على العلاقات الودية التاريخية بين الشعب التركي والشعب الألماني. وقد ندد قادة ألمانيا بالتدخل الفظ للرئيس التركي في سيادة الدولة الألمانية. كما اتهم وزير الخارجية الألماني سيغمار غابريل أنصار الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بألمانيا تهديد زوجته برسائل وتحرشات دنيئة في وقت تخيم أزمة دبلوماسية جديدة على العلاقات بين أنقرة وبرلين. وأكد وزير خارجية ألمانيا، في تصريح بثته قناة "ان تي في" الإخبارية الثلاثاء، إن حدة أسلوب اردوغان في التعاطي مع برلين دفع البعض على ما يبدو إلى محاولة تهديد ومضايقة زوجتي " (موقع إيلاف مصر، بتاريخ 24/08/2017)، وهي طبيبة أسنان.   
إن من يتابع سياسات حكام تركيا في المرحلة الراهنة يدرك عن حق بإن هؤلاء الساسة، وعلى رأسهم أردوغان، قد فقدوا بوصلة العقلانية في ممارسة السياسة والعلاقات الدبلوماسية الدولية، وهي التي ستجر على تركيا الكثير من المصاعب والمشكلات المعقدة، وخاصة في اتجاه تطور البلاد واقتصادها وحياتها الاجتماعية والعلاقات بين الناس، إضافة على العلاقات مع أوروبا. إلا أن المتضرر من كل ذلك هم أبناء وبنات القوميات العديدة بتركيا من ترك وكرد وأرمن أو مسيحيين عموماً وعلويين وغيرهم، وليس الحكام الذين يريدون إعادة نظام السلطنة المريض والبائد إلى تركيا، واعتبار أردوغان السلطان الجديد فيها!!!               


323
في الذكرى السنوية لاستشهاد المناضل كامل عبد الله شياع
إلى رفاق وأصدقاء المناضل الشيوعي العراقي كامل شياع عبد الله
أنش هذه المادة التي أرسل نصها لي الصديق والرفيق والمناضل المدني الديمقراطي كامل عبد الله شياع (1954 – 2008م) قبل سنوات من استشهاده على أيدي إحدى أو أكثر من المليشيات الطائفية المسلحة التابعة لقوى والأحزاب الإسلامية السياسية بالعراق في الذكرى السنوية لاستشهاده (23/08/2008). وهي مساهمة نظرية مهمة في أطار النقاشات التي كانت وما تزال تدور في الدول الغربية وفي دول العالم الثالث عن الديمقراطية والمجتمع المدني، وعن عمق وعيه بطبيعة المجتمع المدني ودورهما في المجتمعات النامية.
كاظم حبيب   


عودة إلى الديمقراطية والمجتمع المدني
كامل شياع
لا يمكن للحديث عن الديمقراطية والمجتمع المدني أن يتفادى التكرار حينما يتعلق الأمر بتحديد معانيهما وعرض أصولهما ونماذجهما القائمة. هذان المفهومان، المترابطان والمعتمدان على بعضهما، يشكّلان فيما بينهما وحدة عضوية مميزة للمجتمع الغربي الحديث وللفكر السياسي المعبر عنه والمؤسس له.
تطرح هذه الورقة بعض الأسئلة المرتبطة بالنقاش النظري حول المفهومين المذكورين، وحول ممكنات تطبيقهما خارج سياقهما التاريخي والثقافي التقليدي المتمثل بالعالم الغربي الحديث. من المعروف أن النقاش عندنا حول الديمقراطية، أو ما شابهها من نظام يحتكم لإرادة الشعب لا إلى إرادة الحاكم المطلق، قديم يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. ولعل عبد الرحمن الكواكبي في كتابه " طبائع الاستبداد " أول من تصدى للموضوع حين أشار إلى أن " الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة، التي لا تسامح فيها "(ص 32)1. ولئن اعتبر الكواكبي مشكلة الحكم من أقدم المشاكل في تاريخ البشرية، فإنه لاحظ أن الغرب قد قرر لها قواعد أساسية " تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين فصارت تعد من المقررات الإجماعية عند الأمم المترقية" (ص 134). حملت أفكار الكواكبي ومن سبقه من المصلحين رجع ما سمي بصدمة الحداثة التي باغتت مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأوقفتها إزاء مواجهات صعبة وخيارات مؤلمة نفسياً ومعقدة عملياً. أما المواجهات فيجملها التحدي الغربي الذي ما أنفك يعلن عن نفسه منذ القرن التاسع عشر، ولعله سيستمر إلى أجل غير معلوم طالما امتلك الغرب القوة والمعرفة والاستقرار السياسي الذي صار ينعم به، بشكل استثنائي، منذ نيّف وخمسين سنة. لقد ظل التحدي قائماً رغم تغير الدور التاريخي للغرب من صاحب رسالة حضارية إلى مستعمر غاز ومن ثم إلى مركز يتحكم، عن بُعد، بمصير أطراف العالم اقتصادياً وعلمياً كما يحصل حالياً في سياق عملية العولمة وسياساتها. وظل التحدي قائماً حتى بعد أن صار الغرب أكثر تشككاً بشمولية مفاهيمه عن الحداثة والتقدم التاريخي والقيم الثقافية والأخلاقية، وأكثر حذراً في تصدير أفكاره وطريقة حياته التي نفذت فعلياً إلى مجتمعات العالم دون استثناء لتفرض نفسها من الداخل كجزء أصيل من حاجات التطور الواقعية فيها. ولا نقصد هنا الديمقراطية البرلمانية والحريات السياسية فقط، وإنما نشاطات الجماعات المنظمة حول مطالب حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل والحريات الجنسية وحماية الطفولة والدفاع عن البيئة وسواها من القضايا. ونضيف إلى ذلك الإقبال على التسهيلات التي تمنحها ثورة الاتصالات والمعلومات، وشيوع النزعات الاستهلاكية للمنتجات المادية والثقافية. وظل التحدي الغربي قائماً حتى مع انضغاط بعدي الزمان والمكان وتقارب أطراف العالم الذي تحول حقاً إلى قرية صغيرة، وتحقق تجانس متزايد في أنماط الحياة والاستهلاك، واتساع حدود الهجانة الثقافية المميزة للحقبة ما بعد الحداثية المعاصرة، وتفتت المسلمات الكلاسيكية للمركزية الغربية. كل هذا يبرر الأخذ بثنائية ما عادت متداولة كثيراً في أيامنا، هي ثنائية التقدم والتأخر عند الحديث عن التفاوت البنيوي بين مراكز العالم وأطرافه، ذلك أن التفاوت قد تضاعف عملياً مع زعزعة حدود الدولة الوطنية، والعولمة الاقتصادية وتزايد الهجرة إلى المراكز الغنية.
وأما الخيارات فتجلت في طيف من الاستجابات التي نحا بعضها منحى إصلاحياً رفض من الأساس إمكانية التحديث على الطريقة الغربية - التي هي غير ممكنة عملياً - وحاول أن يوفق بين تقاليد الماضي وضرورات التحديث، جامعاً بين إعادة تفسير التراث والانفتاح بصورة انتقائية على المستجدات المادية والثقافية. ونحا بعضها الآخر منحى جذرياً افترض وحدة التاريخ وحتمية التطور باتجاه خطي صاعد، ونظر إلى الهوية الحضارية كنتيجة للتغيير وليس مقدمة له. من المهم أن نشير هنا إلى أن هذه الاستجابات لم تثمر حتى الآن عن بدائل مقبولة وراسخة على جميع المستويات، تطمئن الشعور العام في مجتمعاتنا بعسر الحاضر وغموض المستقبل. إنها لم تتمكن إجمالاً من التفاعل الإيجابي مع الفرص التاريخية الموجودة دائماً بتواز مع وجود الضرورات والتحديات الفكرية والعلمية والسياسية.   
لنعرض أولاً لمحة عن مفهومي الديمقراطية والمجتمع المدني، ونبدأ بالأولى التي نستدل عليها من غيابها عن حياتنا في ماضيها وحاضرها. ذلك أن نقيضها ظل هو السائد و " الصالح" لكل الأزمان بهيئة حاكم مستبد أو دولة متسلطة أو علاقات اجتماعية قائمة على التراتبية والأبوية، الأمر الذي ساعد على ترويج التعميم القائل بأن الديمقراطية حكر على المجتمعات الغربية المسيحية دون سواها، وأنها ميزة جوهرية للفكر الغربي مقارنة بنقيضه الشرقي الاستبدادي. في الواقع أن مصطلح الديمقراطية الذي يعود أصله إلى القرن الخامس قبل الميلاد ويشير إلى شكل محدد من أشكال الحكم يتيح للشعب حكم نفسه بنفسه، ما كان أبداً من المسلمات المجمع عليها من قبل المفكرين ورجال الحكم عبر تاريخ أوربا. فقد عارض الديمقراطية كل من أفلاطون وأرسطو، لأنهما وجداها عاجزة عن تحقيق مثالهما الأعلى للمجتمع السياسي. وطواها النسيان طيلة فترة العصور الوسطى، لتدخل من جديد مجال التفكير في القرن الثالث عشر الميلادي، قبل أن تتجسد في تنظيمات المدن-الدول خلال عصر النهضة. أما في العصر الحديث فقد فرضتها الثورة الفرنسية بالسلاح والدم، لكن أمرها، كنظام سياسي، لم يحسم نهائياً في غرب أوربا إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أي بعد القضاء على الفاشية. الدولتان الغربيتان الوحيدتان اللتان استمر فيهما العمل بالمؤسسات الديمقراطية دون ردة أو انقطاع هما بريطانيا والولايات المتحدة. في مفهومها المتعارف عليه حالياً تقوم الديمقراطية على ركائز عدة تشمل حرية التعبير والاجتماع، المشاركة في الاقتراع العام، حرية الصحافة، المشاركة السياسية، سيادة القانون والانتخابات. هذه الركائز ليست مجرد إجراءات شكلية لتنظيم واحتواء الصراع السياسي، لأنها مستمدة من نظرة فلسفية لطبيعة المجتمع والسلطة وحقوق الأفراد وحرياتهم. وبمقدار ما يتعلق الأمر بتطبيق الديمقراطية خارج السياق الغربي، فإن من السذاجة توقع تحققها دفعة واحدة حسب الطلب، كما أن من الصعب استنباتها في شروط اجتماعية وسياسية وثقافية ما زالت تنظر إلى السلطة كمُلكية فعلية أو رمزية، وإلى الأفراد كرعايا ضمن سلّم تراتبي لوشائج عائلية أو طائفية أو قبلية. إن الاعتراف بالتحقق التدريجي للديمقراطية في مجتمعات لا عهد لها بها، وهو تحقق نابع من جدلية التاريخ لا من كرم النظريات، ينبغي أن يتلازم مع الانتباه إلى أنها قضية نضال دائم، وإلى أن التعامل الجدي معها يستدعي مراجعة جذرية لمنظومة المفاهيم والعلاقات السائدة. لتبني الديمقراطية كثقافة وكمبدأ لتنظيم الصراع السياسي ثمن لا بد من دفعه.
أما إذا تطرقنا إلى المجتمع المدني فسيلتبس الأمر قليلاً، لأن هذا المصطلح الحديث نسبياً قد حمّل منذ شيوعه دلالات متنوعة. لنتأمل وصف جان جاك روسو لماهية المجتمع المدني. يقول في السطور الأولى من الجزء الثاني من مقالته المشهورة والمعنونة" خطاب حول أصل التفاوت بين الناس " ، إن " الإنسان الأول الذي سوّر قطعة من الأرض وأعلن للناس : هذه ملكي ، ووجدهم سذجاً بما فيه الكفاية لتصديقه، كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني. كم من الجرائم والحروب والقَتَلة، كم من الرعب والنوائب كان يمكن توفيره على البشرية لو خرج واحد من الناس ………وصاح بهم: إحذروا هذا الدجال؛ ستلحق بكم كارثة لو نسيتم بأن ثمار الأرض ملكنا جميعاً، وأن الأرض نفسها لا تعود ملكيتها لأحد ". لا حاجة هنا للتأكيد على الدلالة السلبية للمجتمع المدني القرين بالملكية الفردية المذمومة العواقب، فهي واضحة في النص بما فيه الكفاية. المجتمع المدني كمرادف للأنانية الناتجة عن الملكية الفردية ورد تشخيصه عند هيغل أيضاً. فهو عنده والمجتمع البرجوازي صنوان، حيث يبدأ الفرد فيه يعي نفسه كإنسان مختلف عن إنسان المجتمعات القديمة التي حصرت المواطنة بحدود البلد. فالإنسان البرجوازي لا يستمد هويته إلا من تخطي الحدود الوطنية، لأن تلك الهوية تمثل تجلي العقل الشامل في التاريخ. في الوقت نفسه فإن هذا الإنسان البرجوازي لا يكرّس نفسه، كما فعل أسلافه القدماء، للحياة العامة فقط، لأنه ينتمي فعلياً إلى طبقة لا تريد أن تفرط بمصالحها الخاصة. لكي نتصور بشكل أوضح مفهوم هيغل للمجتمع المدني ينبغي أن نضعه في سياق مفهومه للدولة كما عرضه في " فلسفة الحق"، حيث تجد الدولة في العائلة والمجتمع المدني المقدمتين التاريخيتين والمنطقيتين لوجودها. الحركة الثلاثية للجدل الهيغلي والقائمة على الأطروحة ونقيضها وتركيبهما تبسط نفسها هنا بالشكل التالي: هناك أولاً العائلة التي تسودها روح الولاء المطلق للجماعة، وتعبر عن حالة نموذجية للأخلاق الغيرية التي تبرر التضحية بالفرد لمصلحة الجماعة. وهناك ثانياً المجتمع المدني الذي يسوده ولاء الفرد لنفسه ولمصلحته الخاصة، ويجسد نموذجاً للأخلاق الفردية الأنانية. وهناك أخيراً الدولة التي هي تركيب يوفق بين نمطي الولاء الجماعي والفردي، ويوحّد بين المصلحة الشاملة للأفراد والفرقاء وبين غاية المجتمع ككلية قائمة بذاتها. قصد هيغل من الأنماط العامة الثلاثة المذكورة تفسير حالة المجتمعات المختلفة عبر التاريخ، فالعائلة تكثف روح المجتمعات القديمة، كالمجتمع اليوناني مثلاً، والمجتمع المدني يكثف روح المجتمع البرجوازي، أما الدولة فتكثف الصورة المثالية لجدل الوحدة والاختلاف، وهي الصورة التي أصبحت، كما يذهب بعض دارسي هيغل، حقيقة واقعة في المجتمعات الليبرالية.
لننتقل الآن إلى كارل ماركس الذي كتب في مقالته " المسألة اليهودية" (1843) أن ما يعدّ حقوقاً للإنسان إطلاقاً ما هو في الواقع إلا حقوق الإنسان كعضو في المجتمع المدني، أي الإنسان الأناني المنفصل عن بقية البشر وعن الجماعة. فحق الإنسان في الحرية، بالنسبة لماركس الشاب، ليس سوى حقه في الملكية الخاصة الذي يتيح له أن يتصرف بموارده وفق مشيئته دون اعتبار للناس الآخرين وباستقلال عن المجتمع. أما المساواة البرجوازية فتعني مساواة الجميع في أن يكونوا أشبه بالذرات المكتفية بذاتها. لكن المفهوم الأهم في المجتمع المدني هو مفهوم الأمن، حيث يضطلع المجتمع بدور الحارس الذي يحمي حقوق وملكية أفراده. لذلك لا يبدو المجتمع المدني، برأي ماركس، مؤهلاً للسمو فوق أنانيته التي تعتمد ديمومتها على ضمان الأمن.
استكمالاً لهذه المقدمة، لابد من الإشارة إلى إن مفهومي الديمقراطية والمجتمع المدني وسواهما من المفاهيم كالمواطنة والمساواة والحريات الفردية والعلمانية، موضع جدل دائم حول شموليتها وصلاحيتها لكل المجتمعات الحديثة أو المنخرطة في الحداثة. فدعاة النزعة النسبية في المعرفة يرونها نتاجاً خاصاً بثقافة وبتاريخ الغرب، دون أن يكفوا عن انتقادها من منظورات أيديولوجية عامة أو أخلاقية محلية، في حين يعتبرها أندادهم من دعاة موضوعية المعرفة ملكاً للتجربة الإنسانية العابرة لتباين المجتمعات، ولا يميزون فيها خطراً على الهوية أو تهديداً للخصوصية الثقافية اللتين يفهمونهما بمنطق التغير لا بمنطق الثبات. لكن لا يهمنا هنا أمر هذا الجدل في صورته النظرية المستندة على مسبّقات وحلول جاهزة. ما يهمنا أن هناك، من الناحية العملية، تجارب عديدة، في اليابان والهند مثلاً، للجمع بين توظيف هذه المفاهيم في المجال السياسي، وبين مقاومتها في المجال الثقافي والرمزي. على هذا المستوى الذي ينطلق من عدم وجود تعارض جذري بين الديمقراطية وقيم المواطنة والمساواة من جهة، وبين التقاليد والأعراف السائدة، من جهة أخرى، يكون من الممكن التوصل إلى الاستنتاج البراغماتي القائل بأن الديمقراطية كفكرة وكقيمة كافية لتبرير نفسها بنفسها، وأنها لا تستمد وجودها وشرعيتها من غاية تسبقها وتعلو عليها، غاية مصدرها العقل أو العدالة أو المساواة أو الصالح العام أو الإيمان الديني. فإذا كان أساس الديمقراطية في ذاتها وليس خارجها، فإن مرجعها الوحيد يكمن في ممارستها كفضاء مفتوح مفعم بالعفوية، والمرونة وروح الاستقلال، كما يدعي الكاتب الأمريكي بنجامين باربر.2. برأي هذا الكاتب، ينحصر السؤال الفعلي للديمقراطية في تفعيل وتوسيع المواطنة، أي في قدرة النظام الديمقراطي على استيعاب فئات جديدة، محرومة من التمتع بحقوقها، للمشاركة في إبداء رأي أو صنع قرار. لذلك تكون حدودها مرنة ومنفتحة لمساعي تعميم المساواة بين الأفراد لتشمل المرأة والرجل، الأبيض والأسود، أبن البلد والمهاجر. باختصار أن الديمقراطية هي عملية مستمرة لإشاعة المساواة دون اعتبار لفوارق الجنس، أو العرق أو الدين أو اللغة.
لنا أن نسأل هنا، هل يمكن تبني هذا التصور، الليبرالي في جوهره والمحايد ثقافياً في ظاهره، من قبل مجتمعات، كمجتمعاتنا الراهنة، صارت أغلبية فئاتها تراهن على الدين لأن يكون المرجع الأول والأخير لمفهوم السلطة السياسية فيها؟ هل يتاح للديمقراطية أن تكون مرجعاً لذاتها ضمن منظومة اعتقاد أخروي تعتبر نفسها هي الأخرى كاملة ومكتفية بذاتها؟ وهل يمكن للديمقراطية أن تأخذ مداها المتخيل في سياق ثقافات تتمحور حول الحفاظ على وحدة الجماعة قبل، أو أحياناً بالضد، من حرية الفرد؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة ينبغي التنويه إلى أن رفض الديمقراطية ليس من اختصاص الفكر الديني المتفاوت في مرونته واستعداده للمراجعة والاجتهاد، وأن إعاقة تطبيقها ليس حكراً على الحركات الدينية المتنوعة في استجابتها لروح الإصلاح والتغيير. ففي هذا وذاك تشاركها قوى اجتماعية تحركها عوامل دنيوية بحتة كالروابط العائلية والقبلية وروح الزعامة وامتلاك الثروة والامتيازات. كذلك ينبغي التنويه إلى تباين موقف الأديان من قضية التطور الاجتماعي والحريات والحقوق المدنية. ونستفيد في هذه النقطة من تفسير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر لظاهرة الرأسمالية التي ربط نشوءها بالمذهب البروتستانتي المعروف بدعوته إلى تبني أخلاق تقوم على العمل الصارم والزهد في الحياة الدنيا، مما يوفر فرصاً أكبر لتراكم رأس المال. وقاده تعميم نتائج بحثه التاريخي إلى الاستنتاج أنه إذا كانت بعض الأديان تيّسر تطور الرأسمالية، فإن بعضها الآخر يعيق هذا التطور. من منظور قابل للمقارنة بمنظور ماكس فيبر لاحظ المفكر الفرنسي الكسيس توكفيل (1805-1859) وجود علاقة انسجام بين المعتقدات الدينية المسيحية وروح الحرية في العالم الجديد، أي أمريكا التي درس تجربتها في كتابه " الديمقراطية في أمريكا" (1835). فالمجتمع الحديث، بالنسبة له، يعثر على تفسيره في الديمقراطية، وليس في العلاقات الاقتصادية الرأسمالية كما ذهب ماركس، أو في الإنتاج الصناعي كما ذهب أوغست كونت. لكن ما هو جوهر تلك الديمقراطية عند توكفيل؟ إنه يتلخص في المساواة العامة في الشروط الاجتماعية بحيث يتمتع كل فرد دون استثناء بحق اشغال الوظائف والمهن وحمل الألقاب وجني الامتيازات. لكن هذه المساواة (القانونية) لا تتضمن مساواة في الثروة أو في القدرات الطبيعية التي لا يمكن أن تكون متاحة للجميع بنفس القدر أبداً.
من المؤكد أن للدين الإسلامي في مجتمعاتنا أوجهاً عدة، فهو نظام للمعتقدات الروحية، وهو سلاح أيديولوجي بيد حركات سياسية تدعي التعبير عن رسالته الحقّة، وهو أيضاً أمل طوباوي بتخليص العالم من شروره. وجميع هذه الأوجه ناتجة عن تأويلات متباينة ومتصارعة لماهية الدين ودوره في حياة الإنسان وعلاقته بالسلطة. من المؤكد أيضاً أن أصحاب الحل والعقد في الدين الإسلامي يواجهون اليوم مهمة وصل وفصل روح الدين، وجسده السياسي، ومثاله الحضاري. ولعلهم يدركون أن الوعي الديني الشعبي والممارسة اليومية له لا يفسران بعامل الإيمان الثابت بقدر ما يفسران بعوامل اجتماعية وسياسية متغيرة. فعملية أسلمة المؤسسات والمناهج الدراسية والمظاهر والعادات ولغة التخاطب اليومي تسير فعلياً يداً بيد مع عملية العلمنة بوصفها اكتشاف أو إعادة اكتشاف للبعد الدنيوي في الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية. والتجربة الإيرانية تظهر بشكل واضح مآل الحماس الديني الذي صنع ثورة أذهلت العالم لبعض الوقت، لينهمك تحت خيمتها في صراع ضار حول موضوع الإصلاح الذي يمس تعاليم الدين الثوري من الداخل. هذا عن السؤال الأول، أما عن السؤال الثاني فيمكن للديمقراطية والدين أن يتعايشا إذا ما حصل إجماع على ازدواجية المرجعية، وهذا غير قائم في الحالة الإسلامية التي ترفض الديمقراطية جملة وتفصيلاً، أو تستعيض عنها بمبدأ الشورى، أو تقدم مسوغات غير صريحة لقبولها. لكن لا ازدواجية المرجعية ولا واحديتها تعني تجنب التصادم بين تأمين الحريات الديمقراطية وحدود العقيدة والتعاليم الدينية. الفرق الأساسي بينهما أن التصادم في الحالة الأولى يكون علنياً ومعترفاً به، أما في الحالة الثانية فيطمس ويلغى. أخيراً، فإن الديمقراطية القائمة على مبادئ المساواة والحرية والحقوق تهدد فعلياً وحدة الجماعات التقليدية، وتزرع التنافس والصراع فيها، ولذلك يبدو مشروعها متناقضاً مع بنى ثقافات تلك الجماعات وحاجاتها، ومع النظم السياسية ذات النزوع الشمولي التي ترفع لواء الدفاع عنها. لكن الديمقراطية القائمة على ثقافة الاختلاف والمسؤولية الفردية والتسامح لا تعمل دون إطار متفق عليه لهوية الجماعة المتعددة الملامح، ولوحدتها المتجددة بفعل الصراع والتغيير.
أما السؤال عن المجتمع المدني فموضوعه العلاقة بين مضمونيه الاقتصادي والسياسي، وقد أشرنا أعلاه إلى مضمونه الأول حسب بعض تعاريفه الكلاسيكية. لكننا نلاحظ في النقاش المعاصر حصول تحول في دلالة المجتمع المدني الذي صار يفهم كفضاء سياسي قائم بذاته دون جذور اقتصادية، أو كفكرة معيارية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السياسي، فكرة لها شحنة نضالية ودعاة متحمسون. يعرّف أرنست غلنر عالم الاجتماع والإناسة البريطاني الجنسية والجيكي الأصل، المجتمع المدني كما يلي: أنه " مجموعة من مؤسسات غير حكومية متنوعة تكون قوية بما فيه الكفاية لموازنة الدولة، وقادرة على منعها من الهيمنة على المجتمع وتفتيته، لكن دون أن يشكل ذلك عائقاً للدولة للاضطلاع بدورها كمحافظ على السلام وكحكم بين المصالح الرئيسية" . يتضح من هذا التعريف أن للمجتمع المدني دور أقرب إلى دور حرب العصابات إزاء سلطة مركزية راسخة وجامدة نسبياً. فهو وإن لا يستطيع مكافئتها في القوة، وليس المطلوب منه أن يكون كذلك، ينبغي أن يكون حاملاً لقضايا عامة أو أداة لمعارضة سياسات قائمة من منطلق تعددية وتنوع المصالح. لئن كان للمجتمع المدني، عند غلنر،3 دور أحادي الاتجاه يستهدف سلطة الدولة، فإنه يكتسب عند بنجامين باربر دوراً مضاعفاً.4 يضع باربر المجتمع المدني في منطقة وسطى بين الحكومة والقطاع الخاص، أي بين السياسة والاقتصاد. فيشير إلى أن مكانه ليس في المراكز الانتخابية، وليس في أماكن التسوّق، بل " حيث يتكلم أبناء الحي الواحد والجيران عن الشكل المناسب لسلامة المرور وعبور الشوارع، عن حفظ فائدة مدرسة الحي، عن استخدام الكنيسة لإيواء المشردين.. الخ".
المجتمع المدني لا ينافس الحكومة في امتلاك وسائل القمع الشرعية، كما أن لطابعه العمومي طبيعة تطوعية غير قابلة للخصخصة (الدخول في آليات السوق). المجتمع المدني كما يتصوره باربر هو هوية مدنية يتمتع بها المواطن الذي يجمع بين حريته ومسؤوليته، وتتيح له مراقبة الحكومة والسوق معاً، هوية توفر بديلاً للمواجهة الضيقة المحصورة، في دولة كالولايات المتحدة، بين الدولة والفرد المنعزل، والحكومة والقطاع الخاص، والسياسيين الفاسدين والمقترعين الغاضبين. ثمة ما يستوقف المتأمل في المفهوم الإيجابي للمجتمع المدني عند غلنر وباربر، فهو ينزع عنه سماته الفردية والأنانية التي شخصها مفكرون مثل روسو هيغل وماركس، ويوكل له مهمة حماية المصلحة الجماعية. ثم يقوم، أي التعريف، بتعميمه كأداة للمشاركة السياسية صالحة لجميع المجتمعات بغض النظر عن تطورها الاقتصادي ورسوخ التقاليد الديمقراطية فيها. لهذا يمكن اعتبار الانتشار الواسع المتحقق في العقود الأخيرة لفكرة المجتمع المدني دليلاً على درجة العولمة الحاصلة لقيم الديمقراطية والتعددية والمواطنة المتاحة للأفراد في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية. على أن لهذه القضية بعداً آخر غير بعد التحقق العالمي السريع أو التدريجي لمثالات اعتبرت حتى وقت قريب ملكاً لنمط الحياة البرجوازية، إذ يرى البعض كبنجامين باربر، في كتابه الآنف الذكر، أن المجتمع المدني مهدد في معاقله وفي أطرافه بالتفتت والانحسار تحت ضغط انبعاث التطرف الديني والنزعات الأثنية والقبلية، من ناحية، واندفاع قوى العولمة لضمان سوق عالمي مقياسه الأخير الربح المادي وأداته الرئيسية ترويج الاستهلاك بكل أشكاله، من ناحية أخرى. وجه الخطر في هاتين الحركتين يتمثل في ميلهما الشمولي الذي لا يخلو من العدمية حينما يتعلق الأمر بالخير العام للمجتمع ومواطنيه. بالإضافة إلى ذلك فإن مجال المجتمع المدني، في حالة مجتمعاتنا المعاصرة، متنازع عليه بين قوى الإسلام السياسي والقوى العلمانية، اللتين تلتقيان في توظيفه لمقاومة احتكار الدولة لمصادر القوة وصنع القرار. لذلك ليس من المحتم أن يكون المجتمع المدني حاضنة لأفكار وقيم مدنية ودنيوية تعكس المجال العام دون المجال الخاص المشحون بوعي ديني أصيل أو مصطنع.5     
أخيراً، فإن المسار المعقد للديمقراطية والمجتمع المدني في مجتمعاتنا يطرح بإلحاح بحث شروطهما الثقافية والسياسة التي هي موضوع للتفسير التاريخي، وإن ظهرت حيناً وكأنها تعصي حركة التاريخ.  (انتهى)
الهوامش
  عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. دار النفائس، بيروت 1986.
2 أنظر مقال بنجامين باربر في كتاب " Democracy and Difference " إعداد سيلا بن حبيب. وكذلك كتابه " Jihad vs. McWorld " (1996).
3 أرنست غلنر ، "Conditions of Liberty   " . دار بنغوين؛ لندن.
4 بنجامين باربر، " Jihad vs. McWorld " ص  281.
5 أنظر مثلا تقرير " الحالة الدينية في مصر" في كتاب " النصّ والرصاص " لنبيل عبد الفتاح. دار النهار 1997.


                                         


324
كاظم حبيب
الموقف من حق تقرير المصير والاستفتاء بإقليم كردستان العراق
منذ عقود والحزب الشيوعي العراقي والكثير من القوى الديمقراطية والتقدمية اليسارية، وكثرة من الأوساط الثقافية العراقية، كانت وما تزال وستبقى إلى جانب حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه دون وصاية من أحد. هذا هو مبدأ أساسي من مبادئ حق الشعوب الحرة في تقرير مصيرها، وليس هناك من له الحق في التشكيك بهذا الحق، إلا إذ كان يتخذ موقفاً قومياً شوفينيا أو دينياً مناوئاً ينطلق من الموقع القائل بالأمة الإسلامية، في حين إن الدول التي تدعي إنها دول مسلمة، برهنت على إنها الأكثر قومية وشوفينية من غيرها، والمثال الساطع على ذلك إيران وتركيا والسعودية، أو حتى دول المغرب الأفريقي في موقفهم الرافض للاعتراف بوجود شعب أمازيغي وبحقوقه المشروعة والعادلة.
لقد تبنيت مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها منذ انضمامي إلى الحزب الشيوعي العراق في أوائل الخمسينات من القرن الماضي وفي العهد الملكي، واستمرار اعترافي واحترامي لهذا المبدأ في أحلك الظروف القاسية جداً في فترة الحكم البعث الدكتاتوري. وقد عبر عن ذلك بوضوح كبير القائد الكردي الديمقراطي المميز والصديق الغالي الطيب الذكر الأستاذ جوهر نامق (1946 – 2011م) حين تحدث في العام 2002 في المؤتمر الأكاديمي الأول لعمليات الأنفال في إقليم كردستان العراق، الذي عقد بأربيل وبرعاية الحكومة الكردستانية، في إجابته لمن شكك في موقفي من القضية الكردية، بسبب بحث قدمته في ذلك المؤتمر وتحدثت عن المضمون الفاشي والعنصري لـ "عمليات الأنفال" الإجرامية، عمليات جريمة "الإبادة الجماعية" التي ارتكبها حكم البعث والحزب الحاكم ومن معه بحق شعب كردستان العراق، تلك العمليات التي تكثفت بشكل خاص في العام 1988، إذ قال ما يلي: أن "أستاذي الدكتور كاظم حبيب، وكان الأخ جوهر طالباً في قسم الاقتصاد في الجامعة المستنصرية حينذاك، كان يتحدث عن كردستان وليس عن شمال العراق في العام 1970، حين كان الآخرون لا يجرؤون على ذلك ويتحدثون عن شمال العراق، وكان يقف مع حق الشعب الكردي في تقرير مصيره". وفي رسالة موجهة لي ومؤرخة في 03/11/2004 كتب جوهر نامق سالم ما يلي: "من كان في تلك الحقبة وفي عراق صدام حسين (1968-1972) وهي فترة دراستي في قسم الاقتصاد بكلية الإدارة والاقتصاد بجامعة المستنصرية، يجرأ أن يذكر في محاضراته وبحوثه الأكاديمية العلمية أن يكتب ويلفظ شمال العراق بكوردستان والكورد بالشعب الكوردي، وأن يربي طلابه على أسس علمية تقدمية واضحة المعاني والأهداف.". ثم كتب يقول: كيف ننسى موقفكم يوم كنت عضواً مشرفاً على الانتخابات الطلابية في كلية الإدارة والاقتصادي بجامعة المستنصرية وكنا مرشحين ضمن الجبهة الطلابية بارتياً وشيوعياً وحركة اشتراكية وناصريين، أمام الاتحاد الوطني عام 1969، خاصة أثناء فرز الأصوات تشد أزرنا وتهدئ اندفاعنا وتحسم كمشرف الخلاف دون مراعاة لممثلي السلطة واتحاد البوليسي، وكيف ننسى وأنت تشارك معنا في الأغاني والبستات الشعبية الوطنية في سفراتنا العلمية إلى تعاونيات الطارمية في وقته...". (رسائل متبادلة بين كاظم حبيب والأستاذ جوهر نامق سالم موجودة في أرشيف كاظم حبيب).       
في العام 2001 أنجزت كتاباً بعنوان "لمحات من نضال حركة التحرر الوطني للشعب الكردي في كردستان العراق"، وتأخر نشره حتى عام 2005، وطبعة ثانية في العام 2010، وضعت في الكتاب رؤيتي للقضية الكردية وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره ومعاناته في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة، إضافة إلى كتابي الأقدم الذي أنجزته في العام 1984، حين كنت في حركة الأنصار الشيوعيين المرتبطة بالحزب الشيوعي العراقي، بعنوان "الفاشية التابعة في العراق". وقد نشر الكتاب عن الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي حينذاك، ثم طُبع ثانية في العام 2008 مع مقدمة ضافية جديدة للكتاب، أوضحت في هذا الكتاب أيضاً موقفي من الحركة التحررية الكردية أو "الكردياتية"، وهي رؤية تتعارض وتصطدم مع رؤية ونهج وسياسات حزب البعث الحاكم حينذاك ومع كل القوى القومية الشوفينية التي ترفض الاعتراف بحق تقرير المصير، وليس كل القوميين الديمقراطيين الذين يعترفون بهذا الحق وهم مستعدون لتأييده.
فموقفي من القضية الكردية وحق تقرير المصير ليس بجديد، ولا بدعة، وهو جزء من تاريخي السياسي في الحزب الشيوعي العراق وفي الحركة الديمقراطية العراقية وفي حركة الأنصار الشيوعيين، وكذلك في النضال اليومي حتى الآن، وسيبقى كذلك. ولم يكن هذا الموقف من القضية الكردية معزولاً عن موقف الحركة الشيوعية والحركة الديمقراطية بالعراق من النضال المشترك للشعبين العربي والكردي وبقية القوميات من أجل الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكردي وفي جميع الفترات المنصرمة حتى العام 1992 وبشعارات متنوعة.
في العام 1992 تعرض التحالف السياسي في الجبهة الكردستانية إلى بعض المصاعب، وجرى تخلي عن الجبهة فيما بعد، علماً بأن الحزب الشيوعي العراقي كان قد اقترح في سياساته ومواقفه موضوع الفيدرالية الكردستانية وأيد قيامها، إذ تراجع هذا التحالف الديمقراطي مع الحزب الشيوعي العراقي وأصيب بخلل اوضح بعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة في العام 2003 ودخول الأحزاب الكردستانية في تحالف مع الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية تحت واجهة المظلومية الكردية والشيعية، وجرى الابتعاد عن التحالف الاستراتيجي مع الحركة الديمقراطية العراقية ومع الحزب الشيوعي العراقي، رغم إن هذا التراجع لم يعلن عنه من جانب القوى الكردستانية ولكنه حصل فعلاً. ولم يكن سببه، أو من جانب، الحزب الشيوعي العراقي والحركة الديمقراطية العراقية، بل من جانب الأحزاب الكردستانية، ما عدا الحزب الشيوعي الكردستاني. وهنا أود تأكيد أني أعبر عن وجهة نظري وليس عن رؤية أو موقف الحزب الشيوعي العراقي، ولم اتجنب الإشارة الواضحة والصادقة إلى هذه الحقيقة في صلاتي وعلاقاتي ولقاءاتي مع الأخوة المسؤولين في الأحزاب الكردستانية بصورة شخصية(منفرداً) أو ضمن رسائل شخصية وأخرى عبر التجمع العربي لنصرة القضية الكردية المنشورة وغير المنشورة، وعبر وفد ضم عراقيين وعرب وكرد، فيه وجهت نداء وتأكيداً بأهمية العودة إلى التحالف الاستراتيجي بين الحركة الديمقراطية العراقية، وفي طليعتها الحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية وديمقراطية أخرى، وحركة التحرر الوطني الكردستانية بإقليم كردستان العراق. وكانت الحجة التي تطرح عن هذا التراجع التحالفي تشير إلى ضعف الحركة الديمقراطية العراقية. وهي حجة لا تصمد في النضال بين القوى الحليفة استراتيجياً، إذ من واجب الذي يشعر بالقوة أن يساعد في إنهاض وتقوية الذي يعتقد بكونه ضعيفاً، علماً بأن الجميع كان وربما ما يزال يحسب ضمن القوى الديمقراطية على الصعيد العراقي كله. الحركة الديمقراطية العراقية بحاجة إلى الأحزاب الكردستانية لأنها تشكل من حيث المبدأ ضمانة ضد وقوع العراق فريسة للقوى الإسلامية السياسية التي حكمت العراق معها طيلة السنوات المنصرمة، وكانت سنوات عجاف وجدب ومرارة، وضد إقامة دولة ثيوقراطية.   
الحركة الديمقراطية العراقية لم تخف مرارتها من هذا الموقف ولم تتقبله، ولكن لا يمكن إجبار حليف استراتيجي على العودة إلى التحالف ما لم يقتنع بضروراته، إذ أن "حلفاء" الكرد الجدد ليسوا بـ "حلفاء" استراتيجيين حقيقيين، بل هم حلفاء إسلاميون شيعيون تكتيكيون، كما هو موقفهم من الديمقراطية، فهي بالنسبة لهم أداة وليست فلسفة واستراتيج لبناء العراق الجديد.
يفترض أن تقدر الأحزاب والقوى السياسية الكردستانية الظروف التي تمر بها الحركة الديمقراطية العراقية، وعموم الشعب العراقي بكل قومياته، والمصاعب التي تواجه الجميع في ظل وجود نظام طائفي سياسي محاصصي غير ديمقراطي من جهة، يشارك فيه الكرد ويتحملون جزءاً من أوزاره، وأن الصراع الذي نشب بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان على مدى الفترة المنصرمة قد جعلت الكثير من القوى والعناصر العراقية العربية التي كانت بجانب الشعب الكردي أن تتخلى عنه، وهي لم تكن وليست هي الأن ضد الشعب الكردي، ولكنها لا ترى صواب سياسات حكومة إقليم كردستان في الكثير من القضايا، وهي ترفض أيضاً السياسات التي مارسها المالكي قبل ذاك إزاء الشعب الكردي، ولا حتى العلاقات غير الودية والأساليب المتبعة حالياً من جهة ثانية. كما إن الموقف الإقليمي والدولي، الذي تبلور أخيراً، بسياسات غير ودية أو منافقة، وفي جوهرها مناهضة، للشعب الكردي وقضيته العادلة من جهة ثالثة. وكذلك فأن البيت الكردي ذاته متضعضع وغير موحد وقابل للتفاقم وكذلك الشكوى من تراجع في الحريات العامة من جهة رابعة. إضافة إلى ذلك استمرار الحرب بين عصابات داعش والقوات العسكرية الاتحادية وقوات الپيشمرگة الكردستانية والمتطوعين من جهة خامسة، ومن ثم وجود مناطق متنازع عليها يمكن أن تتفجر الصراعات والنزاعات الدموية فيها من جهة سادسة. يُفترض في كل هذا أن يدفع الأخوة قادة الأحزاب والقوى الكردستانية وحكومة إقليم كردستان أن تفكر بكل ذلك وتدرسه جيداً وتستخلص الاستنتاجات الضرورية لكي تقرر بعدها: هل عليها استفتاء الشعب الكردي على الاستقلال، والشعب الكردي لا يحتاج إلى استفتاء، فهذا حقه ومن حقه إعلانه متى يشاء، وإذا وجد الان الأمر ممكنا فليعلن الاستقلال دون استفتاء. ولكن الشعب الكردي والقيادات الكردستانية والحكومة الكردستانية ترى كلها، كما أرى وأسمع، بإن الوقت غير مناسب لإعلان الاستقلال، وربما بعد سنة أو سنتين، وبالتالي فالسؤال المنطقي هو: ما فائدة الاستفتاء في هذا الظرف المعقد الذي تمر به كل القوميات في العراق؟ إذا كان أمر الاستقلال سيؤجل لفترة أخرى فليكن الاستفتاء إن وُجد ضرورياً قبل إعلان الاستقلال.
لم تكن النظم السياسية العراقية كلها ولا الحكومات التي أقيمت في العهد الملكي، ولا العهود الخمسة للجمهوريات العراقية، منصفة وعادلة مع الشعب الكردي ومع القوميات الأخرى، بل كانت جائرة ومستبدة مع الشعب العراقي كله، ولاسيما مع الكرد. فكان التمييز والتهميش في صلب علاقة الحكومات العراقية المتعاقبة مع الشعب الكردي. لا يمكن لأي إنسان عاقل أن ينكر ذلك. ولكن رد الفعل يفترض أن يكون في ظرف أكثر هدوءاً وأكثر مناسباً لمفاوضات مع حكومة أكثر ديمقراطية وواقعية من الوضع الراهن، كما يفترض أن يتجلى في سياسات ومواقف أخرى من جانب الحكومة الكردستانية بهدف تمتين الصف الديمقراطي الداخلي.
لا يمكن أن يكون الإنسان حراً ما لم يعترف بحق الإنسان الآخر في التمتع بالحرية الكاملة غير المنقوصة، وبالتالي أدرك تماماً، كإنسان حر وديمقراطي ومادي المنهج والنهج، بأن الشعب الكردي يحلم منذ قرون وعقود ويتطلع للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في دولة كردستانية ديمقراطية حرة ومستقلة. وقد ناضل بعناد واستمرارية من أجل هذا الهدف، ومن حقه أن يناضل بعزيمة مضاعفة من أجل ذلك. والسؤال هو: هل حان القوت المناسب لمثل هذه الخطوة؟ أشعر، كصديق للشعب الكردي وناضل معه في سبيل الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكردي، إن الوقت لم يحن تماماً لمثل هذه الخطوة، بل أشعر بأن العودة إلى استراتيجية التحالف مع القوى الديمقراطية العراقية في رفض قانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية السيئ لا تأييده، ورفض تشكيل مفوضية الانتخابات على أسس المحاصصة الطائفية، والسعي لتجميع القوى الديمقراطية في مواجهة القوى الظلامية، هو الطريق الوحيد والأسلم والأضمن الذي يمهد الطريق لتحقيق ما يتطلع له الشعب العراقي عموماً، وطموحات وتطلعات الشعب الكردي في الاستقلال والسيادة الوطنية خصوصاً. إنها الخطوة الأساسية والضرورية والوحيدة للوصول إلى الهدف المنشود للشعب الكردي وقواه الوطنية. لقد فكرت ملياً بالأمر لا من منطلق قومي شوفيني ولا من منطلق وطني عراقي ضيق، بل من منطلق مصلحة الشعب الكردي في المرحلة الراهنة ومصلحة الشعب العراقي بكل قومياته عموماً، وقد بينت رأيي في مقال سابق، ووجدت بأن من يقف إلى جانب قضية الشعب الكردي، يفترض فيه أن يترك التقدير النهائي للشعب الكردي ذاته، وبالتالي فالأمر متروك للشعب الكردستاني في ما يراه مناسباً في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق وأوضاعه المعقدة. أتمنى عليهم أن يتخذوا الموقف الذي يجنب الشعب الكردي وبقية أبناء وبنات العراق المزيد من المصاعب، وهذا لا يعني أن عليه ألَّا يبدي رأيه بذلك!
   
   
 

325
د. كاظم حبيب
وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ     فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ
المتنبي
ما ان أدرك المشعوذون والدجالون وعبدة المال والسحت الحرام بأن شعوذتهم ودجلهم بالدين والتمسح بأذيال المرجعية الشيعية بالنجف، التي لفظتهم أخيراً بعد أن جلبوا لها وعليها الكثير من الإساءات والمتاعب، ولكنها ما تزال ترعاهم، حتى بدأ صراخهم وعويلهم وخشيتهم على شعب العراق من المدنيين والعلمانيين والحداثيين. فحشدوا الأتباع والمرتزقة، ثم بدأوا يطلقون شحنات قذرة ومتلاحقة من الاكاذيب والمزاعم الرخيصة والحاقدة ضد الشيوعيين والمدنيين الديمقراطيين والعلمانيين والمتنورين من أبناء الشعب وبناته ليحذروا الناس منهم، بذريعة أنهم عملاء للأجنبي! وهنا يصح المثل العربي على أصحاب هذه الجوقة البائسة "رمتني بدائها وانسلت!". إنهم يعودون، ومعهم كبيرهم، ليغرفوا من ترسانة المستعمرين وبعثيي عام 1963 والشيخ الذي حلل دم الشيوعيين باتهامهم بالإلحاد، التهم والإساءات ذاتها ضد من هم من أكثر الناس إخلاصاً وحرصاً على شعب العراق والوطن المستباح منذ 14 عاماً بوجودكم على رأس السلطة. ولكن هيهات ان يصدق المتنورون من أنباء شعبنا العراقي هذا الكذب والتشويه الممزوج بالكراهية والحقد للآخر ولفكره ووجوده، فهم قد خبروا صدق وإخلاص الشيوعيين والديمقراطيين والتقدميين وعموم اليسار العراقي على مدى عقود الدولة العراقية. والشمس لا يمكن منع إشعاعها ودفئها بغربال! ويصح عليهم، بهذه التهمة التي يوجهونها لغيرهم، المثل الشعبي "اللي جوه اُبطه عنز يبغج"، أو بتعبير أدق، "وكل إناء بما فيه ينضح". إنها الوقاحة بعينها، فهم الذين يوجه الشعب لهم أصابع الاتهام، بسبب خنوعهم وخضوعهم لقرارات دولة الجوار الشرقية، فمن هو الذي يذهب يومياً وكلما "حمت الحديدة" إلى إيران لا ليسأل المشورة فحسب، بل ويطلب القرار ليمارسه!
هؤلاء الذين دنسوا أرض الوطن بتسليمهم جزءاً عزيزاً من وطننا المستباح بالطائفية والفساد والإرهاب إلى عصابات داعش المجرمة، وهؤلاء هم الذين تسببوا بما جرى من إبادة جماعية بالموصل وسنجار وبقية مناطق سهل نينوى وتلعفر، وهم الذين تسببوا بموت عشرات الآلاف من الجنود والضباط والمتطوعين وقوات الپيشمرگة في المعارك التي أجبروا على خوضها لإنقاذ البلاد من دنس المحتلين الأوباش بالموصل وعموم نينوى ومناطق أخرى من العراق، وما زالوا يناضلون لتحرير باقي المناطق من رجسهم. هؤلاء الذين تسببوا بكل ذلك يشتمون من رفض كل ذلك ورفع صوت الاحتجاج لتغيير الأوضاع من أجل إنقاذ البلاد من هذه الزمرة الطائشة التي استولت على الحكم ووضعت البلاد في مستنقع كله نتانة وتخلف. نعم شارك المتطوعون الديمقراطيون والشيوعيون وغيرهم في هذه المعارك واستشهد منهم من استشهد، ولكنهم أكدوا وما زالوا يؤكدون بأن المعركة ليست عسكرية فقط، بل وفكرية وسياسية واجتماعية، أولاً وقبل كل شيء، وأن الصراع ينبغي أن لا يتوجه ضد أفكار داعش الإجرامية والتكفيرية فحسب، بل وضد الفكر الطائفي السياسي أيضاً الذي يحمله أولئك الحكام الذين تسببوا بهذه المآسي التي يمر بها ويعيشها شعب العراق. إنهم ما زالوا على رأس الدولة العراقية وفي السلطات الثلاث.
إن هؤلاء الذين يشتمون الشيوعيين والديمقراطيين والعلمانيين وكل اليسار العراقي هم الذين دنسوا الدين بنهبهم للمال العام والعقارات ودور السكن الحكومية وقصور الدولة العراقية، هؤلاء هم الذين بسلوكهم هذا خانوا القسم الذي أدوه بالحفاظ على استقلال العراق وسلامة شعبه، ففرطوا بالعراق وشعبه، ورغم ذلك لا يستحون من اتهام الناس الطيبين والمخلصين للشعب والوطن بالإلحاد والتحلل الاجتماعي. إن الملحد والجاحد والمتحلل اجتماعياً والسارق لحقوق الشعب هم أنتم وليس غيركم يا من أسئتم للدين بالنهب والسلب ونشر الفساد وتشكيل المليشيات لقتل الناس وسلمتم الموصل ونينوى لعصابات داعش بقرارات تعيسة أدت الى خراب البلاد وموت العباد. تذكروا ما جرى في معسكر سبايكر وما جرى بسنجار العزيزة!! والآن تحاولون أيضاً فرض طريقة للانتخابات المحلية ومن ثم الانتخابات العامة بطريقة مجحفة ومسيئة للديمقراطية لتنهبوا أصوات الشعب وتبقوا في السلطة، لا لتحكموا الشعب بالعفة والنزاهة والصدق، بل لتواصلوا نهب البلاد والمزيد من السحت الحرام وخراب البلاد وموت العباد. فمن هو الجاحد والملحد بحقوق الشعب والمتحلل اجتماعياً والمتسخ اخلاقيا، ومن هو الذي نشر الرثاثة والمخدرات والعهر بالبلاد؟ ومن هو الذي فتح مكتباً للمتعة بالكاظمية؟ ألستم انتم من أشاع الرثاثة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية بالبلاد؟ ألستم انتم من مارس بميليشياته القتل على الهوية وتسبب في موت مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين بسبب سياساتهم الطائفية وممارسة التمييز الديني والمذهبي، والآن تريدون رمي أوزاركم على من يسعى لتنظيف البلاد منكم ومن أمثالكم ومن رثاثاتكم. من كان السبب وراء وقوع الإبادة الجماعية بالموصل وسنجار وسهل نينوى عموما، وكذلك ما حصل بالأنبار ولاسيما الفلوجة، وصلاح الدين وديالى؟ من كان السبب وراء السبي والاغتصاب وتشريد الملايين من البشر العراقي؟ ألستم أنتم وليس غيركم من فعل ذلك وليس الشيوعيين والمدنيين والديمقراطيين العلمانيين والمتنورين من شيوخ الدين.
 لقد كتب الكثيرون، ومنهم مجموعة من المؤمنين الطيبين والصادقين عن نزاهة الشيوعيين واليساريين والديمقراطيين العلمانيين، وفي الوقت ذاته خرجت المظاهرات، ومعهم الملايين من أبناء وبنات الشعب تهتف ضدكم وتقول: "باسم الدين باگونه الحرامية" و" باسم الله هتكونة الشلاتية"!
أنتم الذين تحاولون العودة الى أوراقكم البالية القديمة وتستعيرون من ترسانة القوى الاستعمارية والقوى البعثية وشيوخ الدين السيئين والقوى المتخلفة والقوى الطائفية المتطرفة افتراءات الإساءة للشيوعيين واليساريين والديمقراطيين العلمانيين لتستغلوا جهل الكثير من البشر لتقنعوهم بأكاذيبكم المكشوفة وتمارسون نصيحة وزير الدعاية النازي غوبلز الشهيرة لأتباعه:
"اكذبوا، ثم اكذبوا، ثم اكذبوا، لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس".
بدأتم بنشر فضائحكم انتم وليس غيركم بعد أن ارتفعت روائح العفونة إلى عنان السماء، فكل المتهمين بالفساد منكم وممن وضعتموهم في مواقع المسؤولية، وغالبا كانوا وما زالوا، يحملون شهادات مزورة، ولكن انتم وليس غيركم تلاحقون وتعتقلون صغار المتهمين بالفساد وتتركون "كبيرهم الذي علمهم السحر"، سحر النهب والسلب والفساد وشطف أموال السحت الحرام، والكثير من أمثاله الذين يقفون في الصفوف الأمامية من حكام الدولة العراقية دون تقديمهم للمحاكمة، بل هم يحتلون أعلى المراكز في السلطات الثلاث.
أنتم الذين فرطتم بمئات المليارات من الدولارات ولم تبنوا المدارس والصفوف وتوفروا الرحلات والكتب للتلاميذ والطلبة، ولم تبنوا المستشفيات والمستوصفات للشعب، وبعد مرور 14 سنة على حكمكم لم تصل الطاقة الكهربائية للناس لمواجهة جحيم صيف العراق ولا برد شتاءه. أنتم من خصص وصرف عشرات المليارات من الدولارات الأمريكية لبناء مشاريع الطاقة الكهربائية. ولكن أين هي تلك المشايع الوهمية، وأين هي الطاقة التي وعدتم بها الناس، وأين هي الفلوس التي خصصت لهذا الغرض؟ الواقع يقول: لا مشاريع أنشئت، ولا تمتع الناس بالكهرباء، ولا الأموال عادت الى خزينة الدولة! بل ذهب 90% منها الى جيوب من حكم البلاد طيلة السنوات المنصرمة.
تتحدث حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها عن حرامي واحد ببغداد إنه "حرامي بغداد"، والآن يواجه الشعب آلاف الحرامية ممن ارتدوا لباس الدين وتحدثوا زوراً باسمه، لينهبوا المليارات الناشفة من الدولارات النفطية، على حد قول أبناء وبنات شعبنا. لقد أصبح العراق، بوجودكم على رأس الدولة والسلطات الثلاث طيلة السنوات المنصرمة، من أكثر دول العالم فساداً مالياً وإدارياً، كما إن بغداد أصبحت واحدة من أكثر مدن العالم رثاثة وهي مليئة بالنفايات. لقد أصبح العراق بهمتكم دولة يعيش فيها مئات ألوف الارامل واليتامى والأطفال المشردين وملايين النازحين المحرومين من العيش الكريم! وأصبح في العراق أكثر من 40% من السكان تحت خط الفقر، وأكثر من 30% يعانون من البطالة ممن هم قادرون على العمل، ولاسيما الشباب والشابات، فهل بعد هذا تريدون رمي أوساخ أفعالكم بوجوه الأخرين. والسؤال المهم هو: هل هناك من عاقل يمكن أن يصدّقكم؟
سيشتمكم التاريخ بأكثر السباب عنفاً لأنكم دستم على كرامة الناس واستهزأتم بعقولهم وضحكتم على  ذقونهم! كفوا عن بيع بضاعتكم الرخيصة على شعبنا العراقي المغدور بكم، فليس هناك من عاقل واحد سوف يشتري منكم سلعكم الرخيصة والعتيقة والبائرة التي تنبعث منها روائح نتنة قديمة واسطوانة مشروخة! ومن هنا لا بد أن نردد مع شاعر العرب الكبير المتنبي قوله:
وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ     فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ


326
د. كاظم حبيب
سيبقى نجم المناضلة المقدامة فاطمة إبراهيم ساطعاً في سماء السودان

أعلن صباح يوم 12 أب/أغسطس 2017 بلندن عن النبأ المحزن، نبأ وفاة المناضلة السودانية ورائدة الحركة النسوية والمناضلة في سبيل حرية المرأة وحقوقها ومساواتها التامة بالرجل على الصعد السودانية والإقليمية والعالمية، والسياسية البارعة والمقدامة فاطمة أحمد إبراهيم، عن عمر ناهز الـ 85 عاماً.
ولدت المناضلة في العام 1932 في بيت تميز بالعلوم الدينية والمعرفة والانفتاح على العالم، وتربت في بيئة معادية للاستعمار والهيمنة الأجنبية والدفاع عن مصالح الشعب وتطوير البلاد، فنشأت وهي تحمل بذرة النضال الوطني والديمقراطي ومدركة أهمية التعليم والثقافة ومحاربة الأمية في صفوف الشعب، ولاسيما بين النساء، في انتزاع الحقوق وتحقيق التقدم لشعب السودان.
التحقت بوقت مبكر، في العام 1952 بالحزب الشيوعي السوداني لتناضل في صفوفه في سبيل تحقيق الأماني العادلة والمشروعة للشعب السوداني، في سبيل بناء وطن حر وديمقراطي، ينزع عنه أغلال التخلف والأمية والتبعية ويعمل لتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية المشوهتين ويكافح ضد البطالة والفقر والحرمان وفي سبيل العدالة الاجتماعية.
ساهمت فاطمة إبراهيم في تأسيس الاتحاد النسائي السوداني في العام 1952، وانتخبت في العام 1956 رئيسة لهذا الاتحاد، وكانت في الوقت ذاته رئيسة تحرير جريدة صوت النساء منذ العام 1955، وهي جريدة الاتحاد النسائي السوداني. 
انتخبت فاطمة أحمد إبراهيم عضوة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، ولعبت دوراً مهماً في تعبئة نساء السودان في النضال من أجل حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل. وخلال فترة نضالها على راس الاتحاد النسائي السوداني تحققت الكثير من المكاسب للمرأة السودانية، والتي حاولت النظم الدكتاتورية والإسلامية السياسية سلبها من جديد. إلا إن نضال المرأة السودانية، ورغم كل الصعوبات ما يزال يتصدى لتلك المحاولات الرجعية المناهضة للمرأة وحقوقها في المجتمع السوداني. 
وبسبب دورها النضالي النسوي والوطني في السودان انتخبت في العام 1991 رئيسة لاتحاد النساء الديمقراطي العالمي لسنوات عدة، ولعبت دوراً مهماً في نضال المرأة على الصعيد العالمي وساهمت بتنشيط حركة التضامن بين نساء العالم عموما، ونساء الدول العربي والبلدان النامية خصوصاً، وتركت بصماتها الواضحة على هذه المنظمة بسبب روحها النضالية العالية، وشغفها بالعمل لصالح المرأة وعمق إنسانيتها وتواضعها. وكانت تتذكر دوماً قول إمها حين كانت تقف، وهي شابة، أمام المرأة لتتزين طويلاً: "كفاية قيمتك ما في شعرك وتجميل وجهك، قيمتك فيما بداخل راسك – احسن تملأيه بالقراءة، والمعرفة -". ونتيجة لدورها النضالي على الصعيد العالي منحت في العام 1993 جائزة الأمم المتحدة لحقوق الانسان (UN AWARD) .
وفي خضم النضال من أجل الحريات العامة والديمقراطية في السودان وضد الدكتاتورية تعرضت فاطمة إبراهيم للاعتقال عدة مرات، كما تعرض زوجها الشفيع أحمد الشيخ، العضو القيادي في الحزب الشيوعي السوداني والقائد النقابي المعروف للاعتقال، ثم أقدمت الدكتاتورية النميرية في العام 1971 على إعدامه رغم الاحتجاجات العالمية ضد هذا العمل الجبان.
في العام 2006 منحت مؤسسة أبن رشد للفكر الحر جائزتها السنوية إلى السيدة والرفيقة المناضلة فاطمة إبراهيم. وجاء في حيثيات قرار منحها الجائزة ما يلي:
" ان الفائزة من أبرز الساسة في بلادها حيث كان اسمها رمزا لنضال المرأة السودانية " ضد حكومات القمع العسكرية وواجهت منذ بداية نضالها صعوبات مع تكوين الاتحاد النسائي السوداني في ظروف اجتماعية صعبة في العام 1952" حيث لعب الاتحاد النسائي دورا في أن تظفر المرأة السودانية في العام 1964 بحق التصويت وحق الترشيح لدخول البرلمان. وفي العام 1965 صارت فاطمة ابراهيم أول نائبة في البرلمان.
وتابع البيان الذي تلقت رويترز نسخة منه بالبريد الالكتروني أن الفائزة عملت على " تحديد سن الزواج ومنع الزواج الاجباري وتعدد الزوجات وإلغاء قانون الطاعة". وقال البيان ان فاطمة ابراهيم وزوجها القائد النقابي الشهير الشفيع أحمد الشيخ رفضا التعاون مع جعفر النميري بعد أن قاد انقلابا عسكريا في العام 1969 وترتب على ذلك أن " أعدم النميري الشفيع ووضع فاطمة ابراهيم في الاقامة القسرية لمدة عامين ونصف".
إنها المرأة الجليلة التي لم يتوقف نضالها للحظة واحدة رغم وجودها في المنفى، كما وقفت باستمرار إلى جانب نضال النساء العراقيات والحركة الديمقراطية العراقية، وهو ما أكده بيان الحزب الشيوعي العراقي في رسالة التعزية والمواساة التي وجهها إلى الحزب الشيوعي السوداني، حيث جاء فيها:
"اننا نقدر عاليا الدور الذي نهضت به الفقيدة على الصعد كافة، داخل السودان وخارجه، ولا ننسى مساهمتها الفاعلة في حملات التضامن مع نساء وشعب بلادنا، ما جعل لها مكانة خاصة في وجدان الشيوعيين والديمقراطيين العراقيين، اسوة بشهداء حزبكم الخالدين عبد الخالق محجوب والشفيع احمد زوج الفقيدة الكبيرة، وغيرهما ".
التعازي القلبية لعائلة ورفاق وأصدقاء المناضلة الشجاعة والمرأة المقدامة فاطمة أحمد إبراهيم والذكر الطيب للفقيدة العزيزة.

327
د. كاظم حبيب
سبل معالجة عواقب الكوارث التي حلت بالعراق، ولاسيما المناطق التي نكبت بداعش!

هناك العديد من التصورات المطروحة التي ترى ضرورة الالتزام بها لمعالجة أوضاع ما بعد داعش، أو ما بعد التحرر من عصابات داعش، في حين ما يزال العراق يواجه نظام المحاصصة الطائفية والفساد الذي تسبب في ما تعاني منه الموصل وسهل نينوى وبقية المحافظات الغربية. 
من أجل أن تكون المعالجة فاعلة وناجحة وسريعة نسبياً على مستوى العراق كله فلا بد من إجراء تغيير جذري في طبيعة الدولة ونظام الحكم الطائفي-الأثني القائم بالعراق منذ العام 2003 العراق لصالح الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية والحكم المدني الديمقراطي الدستوري البرلماني النزيه. ولا يمكن أن يتم ذلك إلّا بتأمين تغيير فعلي في ميزان القوى لصالح القوى المدنية الديمقراطية المناهضة للنزعات الطائفية والأثنية في الحكم وفي المجتمع واعتماد مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة بين أبناء الوطن الواحد المتعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والفلسفية والسياسية. أي إقامة دولة تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات والفصل بين الدين والدولة والدين والسياسة، وتمنع قيام أحزاب تستند على الدين أو المذهب، وتلك التي تمارس الطائفية السياسية في مناهضة الديانات والمذاهب والفرق المذهبية، وحين يبدأ المجتمع بانتخاب وتكوين مؤسساته الديمقراطية والنزيهة في سلطات الدولة الثلاث. هذه الوجهة في النضال يمكن ألّا تتحقق بالسرعة التي يتمناها الإنسان العراقي، رجلاً كان أم، بسبب التركة الثقيلة لعقود طويلة من الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والحروب والحصار والحرمان والعنف الحكومي وغير الحكومي، إضافة إلى التركة الجديدة التي أضافها النظام السياسي الطائفي الحالي منذ اعام 2003 إلى تلك التركة الماضية، والتي يجد المتتبع واقعها في تخلف مستوى وعي المجتمع وقدرته على مواجهة الأحداث وميله نحو الطائفية السياسية وخضوعه الشديد لشيوخ الدين وأحزاب الإسلام السياسي بفعل وتأثير شيوخ الدين. لا يخطئ من يشير إلى حصول حراك في وعي الإنسان وإدراكه لما يجري اليوم بالعراق، وهذا ما يؤكده محاولات أحزاب وقوى الإسلام السياسي الحديث عن الأخطاء السابقة وعن المدنية وعن تغيير في سلوكها. ولكنه لم يصل إلى المستوى القادر على التمييز بين الغث والسمين، بين الصدق والكذب في الادعاءات الجديدة وفي تحقيق التغيير المنشود، ولهذا يستوجب مواصلة العمل لتسريع إعمال العقل لمتابعة ما يجري بحس ديمقراطي مرهف ومسؤولية وطنية. وإلى أن يتحقق التغيير المنشود في الواقع العراقي لا يمكن ولا يجوز للنازحين والمتضررين من السياسات الطائفية والنهج العدواني المدمر منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة أولاً، ومنذ الاجتياح الداعشي للأنبار وصلاح الدين والموصل وعموم سهل نينوى وعواقبه ثانياً، أن ينتظروا معالجة أوضاعهم إلى أن يتحقق التغيير الجذري المنشود، بل لا بد من العمل في إطار الوضع الراهن باتجاهين: العمل من أجل الحل الجذري لوضع الحكم بالعراق، والعمل من أجل التغيير المباشر والسريع في أوضاع النازحين والمناطق التي حررت من داعش واستكمال تحرير المناطق التي ما تزال تحت احتلال عصابات داعش المجرمة. من هنا يستوجب العمل بجميع الأساليب والأدوات المتوفرة لزياد الضغط الشعبي الداخلي والإقليمي والدولي، سواء أكان على مستوى الرأي العام العالمي، أم على مستوى المجتمع الدولي (الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية، والمنظمات الإنسانية، ومنها منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية)، لصالح ممارسة سياسات عقلانية في المناطق التي تعرضت للإرهاب الداعشي والطائفية السياسية، لصالح النازحين الذين يعانون الأمرين وأولئك الذين ما زالوا في المناطق التي اغتصبها داعش وحررت أخيراً. فما العمل؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالأفكار التالية القابلة للتحقيق:
** إبقاء التقسيمات الإدارية التي كانت قبل هيمنة داعش على الموصل والمناطق الأخرى على حالها أولاً ودون تغيير. على أن يتم تشكيل لجنة عراقية مستقلة ومحايدة تماماً ومن شخصيات مقبولة من جميع الأطراف، مع مشاركة دولية من جانب الأمم المتحدة وعناصر مختصة في القانون الدولي، تقوم بدراسة الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق حول المناطق المتنازع عليها استناداً إلى المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 لوضع مقترحات ملزمة للتنفيذ من جانب الحكومتين لحل تلك الإشكاليات وآليات تنفيذها على أن ينتهي العمل بذلك خلال سنتين فقط كحد أقصى.
** تشكيل حكومة محلية مستقلة عن الأحزاب والقوى السياسية العراقية قوامها شخصيات مستقلة تكنوقراطية من أبناء وبنات محافظة نينوى، تدرك عمق المشكلات التي كانت بسبب النشاط الطائفي السياسي والتي تراكمت بفعل الاجتياح لمعالجة جملة المشكلات التي تعاني منها محافظة نينوى بمركزها الموصل وأقضيتها ونواحيها. إن إبعاد كل العناصر التي شارت في ما وصل إليه الحال بالموصل وسهل نينوى أمر ضروري لتجنب بروز إشكاليات جديدة.
** تشكيل هيئة إعمار مركزية ترتبط بالحكومة المحلية وتابعة من حيث المبدأ للحكومة الاتحادية لتمارس نشاطها في إعادة بناء البنية التحتية التي دمرتها المعارك، ولاسيما الماء والكهرباء والشوارع والجسور، إضافة إلى إعادة إعمار الدور المدمرة جزئياً أو كلياً، وتنظيم عملية إعادة النازحين وحل المشكلات المحتملة بين الجماعات السكانية على أسس ديمقراطية وإنسانية، والتصدي لمحاولات أخذ الثأر أو أعمال الانتقام.
** وضع ميزانية مالية كافية وعلى وفق برنامج مدروس لإعادة إعمار المناطق المخربة وإعادة النازحين وتأمين البنى التحتية الضرورية باتجاهين: المسائل الآنية التي لا تقبل التأجيل وتلك التي تنجز بمرحلة لاحقة.
** تشكيل هيئة من شخصيات مستقلة واعية لما حصل في هذه المنطقة من العراق لتمارس عملاً إنسانياً كبيراً هادفاً إلى توفير أجواء المصالحة والتسامح والعودة إلى العيش والحياة المشتركة، على أن تبدأ عملها منذ الآن، لأن هذا هو السبيل العقلاني الوحيد القادر على تجاوز كوارث الماضي والحاضر ببناء جسور الثقة والأخوة والمودة والاعتراف المتبادل بالآخر والتسامح.
** منع وتحريم أي تدخل أجنبي ومن دول الجوار بالشأن الداخلي لمحافظة نينوى أو كركوك أو المحافظات الأخرى والعراق عموماً التي تعرضت لإرهاب داعش، واعتبار أي تدخل من أي طرف إقليمي أو دولي بمثابة محاول ثلم الاستقلال والسيادة الوطنية والتأثير السلبي على السير السلمي والديمقراطي للأحداث. 
** العمل على سحب السلاح، كل السلاح من ايدي السكان وفرض احتكار السلاح بيد الدولة، مع العمل المتواصل لتثقيف أجهزة الدولة العسكرية والمدنية بروح المواطنة المشتركة وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والسلام والعدالة اجتماعية.
** تحريم الدعاية الطائفية السياسية والأثنية المحرضة ضد الآخر والمحفزة للصراع والنزاع وتقديم الفاعلين للقضاء، إذ أن معاناة العراق من الطائفية السياسية والحكم الطافي السياسي كان مريراً وكلف المجتمع مئات الآلاف من الضحايا ومئات المليارات من الدولارات الأمريكية وخراب ودمار شامل وأحقاد وكراهية واسعتين.
** تأمين مراكز طبية ونفسية لمعالجة المصابين بمختلف العلل الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة والنزاعات الطائفية والأثنية، وبشكل خاص بين الأطفال والصبية والشبيبة، وكذلك بين النساء. ولا بد من جلب المختصين من بلدان أخرى للمشاركة في هذا العملية، إضافة إلى إقامة وتنشيط مراكز البحوث النفسية والبحث العلمي ووضع برامج للمعالجة. فالدراسات المتوفرة تشير إلى أن داعش قد استخدم الأطفال المختطفين لأغراض شتى، ومنها تدريهم على العنف والتوحش في قتل المناهضين لتنظيم داعش. وفي هذا الصدد كتب الباحث الدكتور علي عبد الرحيم صالح، في بحثه الموسوم "الجنود الأطفال في العراق.. دراسة نفسية عن أطفال الخلافة والموت والانتحار" نشر في جريدة المدى بتاريخ 5/5/2015 ما يلي: "بعد تلقين الاطفال وضمان ولائهم للجماعة، يقوم القادة والمدربون الداعشيون باختبار قدرات الاطفال ومدى تحملهم للمهمات القتالية في معسكرات خاصة مثل معسكر (اشبال ابي بكر البغدادي) ومعسكر (ابن تيمية) ومعسكر (اطفال الخلافة)، وبهذا الصدد تقوم الجماعة الاسلامية المتطرفة بتصنيف الاطفال وفق المهمات المرغوبة والملائمة لمستوى قدراتهم البدنية والعقلية والاجتماعية، ووفقا لذلك يمتلك داعش صنوفا متعددة من الجنود الأطفال".  ثم يشير في موقع آخر من بحثه إلى الآتي: "يستعمل داعش اليات نفسية شديدة الخطورة مع الاطفال عند توجيههم وتلقينهم عمليات القتل والذبح، إذ نشاهد في الكثير من مقاطع الفديو المنشورة على مواقع الانترنيت بعض الاطفال يقومون بالقتل وقطع الرؤوس، وحرق جثث الجنود والمدنيين. واشار عدد من الاطفال الذين تم أسرهم على يد القوات العراقية الى بعض هذه التقنيات: فبعد ان يتعرف القادة الداعشيون على استعداداتهم للقوة والعدوان، يقومون بتدريبهم على قطع رؤوس دمى ترتدي زيا عسكريا يشبه الجنود العراقيين أو الاميركان، وذلك بعد القيام بذبح الجنود الاسرى امامهم، ويكون ذلك مصحوبا بجو من التكبير والتهليل والتشجيع، وبصورة تدريجية ومع التلقين وزرع الكراهية في نفوس الاطفال يكون (اطفال الخليفة او ابناء ابي بكر البغدادي) قد تحولوا الى ذباحين محترفين."  ومن هنا تنشأ المهمة الخطيرة للحكومة العراقية في إعادة تأهيل الأطفال بعد الانتصار على داعش عسكرياً، إذ ستبقى اثار ذلك الاحتلال كبيراً على الأطفال الذين عاشوا ما يقرب من ثلاث سنوات تحت حكم عصابات داعش القتلة. وهنا يمكن العودة إلى بحث قيم للدكتور فيان عبد العزيز والمهندس الاستشاري نهاد القاضي الموسوم " أزمة ما بعد الأزمة وحقوق ضحايا جرائم حروب التطهير العرقي"، حيث تقدم الدراسة مقترحات مهمة لمعالجة المشكلات النفسية للنساء والأطفال بعد الانتهاء من كارثة احتلال الموصل وعموم نينوى.
 
** اتخاذ الإجراءات الضرورية الكفيلة والعمل المسؤول من قوى واعية لإزالة أثار النشاط الفكري والإفتائي والعملي الذي مارسته عصابات داعش في مناطق نينوى والأنبار وصلاح الدين والحويجة وغيرها من المناطق التي تعرضت لاجتياح أو تأثير هذه القوى. 
** توفير مراكز صحية ومستوصفات متنقلة للعمل في القرى والأرياف والمناطق النائية التي تعرضت للاجتياح والتدمير لمعالجة سكانها والعائدين منهم إليها.
** دفع تعويضات مجزية لمئات الألاف من السكان الذين تعرضوا للأذى وتحملوا أضراراً مادية ومعنوية بما يساعدهم على النهوض ومواصلة الحياة والعمل.
** قيام القضاء بتشكيل محكمة مدنية تعتمد المعايير القانونية والإنسانية المتقدمة لمحاسبة من تسبب في سقوط الموصل وسهل نينوى والأنبار وصلاح الدين بأيدي عصابات داعش والعواقب التي ترتبت عليها، والتي ما تزال وستبقى تعاني منها لفترة غير قصيرة. إن مثل هذه المحاكمات الشفافة والعادلة من شأنها أن تحقق العدالة المنشودة وتمنع ممارسة مثل هذه السياسات والأساليب في العمل السياسي، إضافة إلى محاسبة الفاسدين والذي ألحقوا أضراراً فادحة باقتصاد الدولة والمجتمع والمناطق المتضررة.
** قيام وزارة التربية ووزارة التعليم العالي تدريس مواد شرعة حقوق الإنسان بأجزائها المختلفة في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات العراقية ونشرها على نطاق واسع، إضافة إلى نشر الأبحاث حول عواقب التطرف القومي والديني والمذهبي والفكري على المجتمع والعلاقات الإنسانية في ما بين افراد المجتمع منن مختلف القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفلسفية والفكرية. 
  ملاحظة: يمكن قراءة الكثير من المقالات في هذا الصدد ونشير هنا إلى: 1) الدكتور سيار الجميل في مقال له بعنوان "هل تعود الموصل إلى الحياة.. كما هيروشيما؟ موقع العربي الجميل، بتاريخ 24 تموز/يوليو 2017؛ 2) الدكتورة أسماء جميل رشيد، في بحثها الموسوم "التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل – رؤية استشرافية"، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 389، أيار 2017، ص 28-39.   
2 قارن: سيار الجميل، دكتور، هل تعود الموصل إلى الحياة.. كما هيروشيما؟، الموقع الرسمي للسيد الدكتور. http://sayyaraljamil.com/، بتاريخ 25/07/2017.
3 أنظر: علي عبد الرحيم صالح، دكتور، الجنود الأطفال في العراق.. دراسة نفسية عن أطفال الخلافة والموت والانتحار، جريدة المدى، 5/5/2015.

4 أنظر: المصدر السابق نفسه.
5 أنظر: انظر: فيان عبد العزيز، دكتورة، ونهاد القاضي، أزمة ما بعد الأزمة وحقوق ضحايا جرائم حروب التطهير العرقي، أبحاث مؤتمر أربيل مؤتمر حول "الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ومستقبل الإيزيديين والمسيحيين بالعراق"، في 8 و9 من شهر شباط/فبراير 2015.

6 قارن: أسماء جميل رشيد، دكتورة، "التداعيات الاجتماعية والنفسية لأزمة الموصل – رؤية استشرافية"، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 389/أيار 2017، بغداد، ص 29.   





328
د. كاظم حبيب
مغزى زيارة نوري المالكي ورهطه إلى روسيا الاتحادية!
في هذه الأيام التي أعلن الناس بالعراق عن فرحتهم بطرد غالبة الداعشيين القتلة من الموصل الحدباء والسعي لإيجاد السبل لمعالجة الجراح العميقة التي خلفها الداعشيون بالموصل وعموم محافظة نينوى، يقوم نوري المالكي على رأس وفد من حزب الدعوة وبعض نواب قائمته الانتخابية بزيارة إلى موسكو لمدة أربعة أيام، إذ التقى حتى الآن بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسيلتقي بوزير الخارجية لافروف ومع مسؤولين آخرين. والسؤال المباشر الذي يواجهنا: ما مغزى أو سبب هذه الزيارة المفاجئة وفي هذا الوقت بالذات؟ تشير الكثير من المصادر المطلعة وتصريحات خلف الكواليس، إضافة إلى النهج السياسي العام الذي ينتهجه المالكي، إنه يأمل بالعودة إلى دست الحكم ثانية ليمارس ذات السياسة الطائفية الحاقدة التي وضعت الكثير من مناطق العراق، ولاسيما غرب العراق ومدينة الموصل ومحافظة نينوى بالكامل وشعبها في قبضة عصابات داعش، والتي أدت إلى تنفيذ أكبر عملية إبادة جماعية ضد أتباع الديانات والمذاهب بالعراق، ولاسيما ضد الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان والكثير من أهل الموصل السنة أيضاً. وهي محاولة جادة من نوري المالكي وبتوجيه من علي خامنئي وقاسم سليماني بزيارة موسكو والمبادرة إلى طرح تشكيل محور سياسي عسكري جديد تشارك فيه الدول والقوى السياسية التالية: إيران، وروسيا، وسوريا، وحزب الله اللبناني، إضافة على التحالف الجديد الناشئ ببغداد بأطرافه التالية: نوري المالكي والجعفري، وربما عمار الحكيم بحزبه الجديد "تيار الحكمة الوطني، من جهة، وسليم الجبوري وجماعته الجديدة الاتي انفصلت عن الحزب الإسلامي برئاسة اياد السامرائي، من جهة أخرى، إضافة إلى محاولة كسب جزء من الاتحاد الوطني الكردستاني إليه بدعم من إيران، أن تعذر مشاركة قيادة الاتحاد كلها! وتشير الكثير من المصادر إلى أن طهران وروسيا غير مرتاحتين من سياسة العبادي واقترابه من الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي يجدون في المالكي شخصية مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية ويمكن اعتماده ليكون رئيس وزراء العراق القادم. كما تشير أوساط أخرى إلى أن هذا التحالف من شانه أن يتصدى لمقتدى الصدر وتياره الشعبي الذي يقترب من العبادي ومن اياد علاوي، إضافة إلى طرحه مهمات وشعارات مدنية تقربه من التيار المدني العراقي والحراك الشعبي. كما إن إيران غير مرتاحة من زيارة العبادي إلى السعودية وتخفيف الصراع معها، وبالتالي فلا بد من تقطيع هذه الوشائج الجديدة بمحور سياسي جديد يتصدى لمحاولات العبادي البقاء في السلطة بتحالف آخر!
ولا بد من الإشارة إلى أن نوري المالكي ورهطه وقوى أخرى بدأت حملة سياسية مناهضة للتيار المدني العراقي والقوى الديمقراطية والحراك المدني والشعبي المطالب بالتغيير واتهام هذه القوى بالإلحاد والحداثة والعلمانية وتعبئة القوى الأكثر طائفية ورجعية لمناهضة القوى المدنية والديمقراطية، التي بدأت، كما يبدو، تكسب المزيد من الشبيبة المناهضة للفساد والإرهاب والخراب والرثاثة التي تعم العراق إلى جانبها، بسبب السياسات الطائفية ومحاصصاتها المذلة التي تراكمت بالعراق منذ حكم إبراهيم الجعفري ونوري المالكي حتى الوقت الحاضر. كما علينا ألّا نغفل التشرذم الجديد في القوى الطائفية السياسية التي باتت تخشى على مواقعها، مما دفع بالمالكي وعمار الحكيم وآخرين إلى محاولة مجابهة كل ذلك بالمحور السياسي الرجعي الجديد! 
ويبدو للمتتبع إن هذا المحور السياسي–العسكري الجديد الذي يراد إقامته، على نمط التحالف الذي نشأ مع سوريا، يمكن أن يجر العراق إلى صراع سياسي وعسكري مدمر مع الولايات المتحدة والدول العربية وأجزاء من القوى السياسية العراقية، الذي يمكن أن يحول العراق إلى ساحة حرب فعلية جديدة، كما عليه الحالة بسوريا منذ عدة سنوات، وبالتالي فهذه الزيارة تعتبر مغامرة سياسية وعسكرية عدوانية تعبر عن جو الإحباط الذي يعيشه المالكي ورهطه ومحاولتهم لدفع العراق إلى أتون حرب محتملة على طريقة "إذا مت ظمأناً فلا نزل القطر"، فأما الحكم وإما قلب الطاولة على رؤوس الشعب كله.
إن من مهمة القوى الديمقراطية العراقية بكل أطيافها كشف الحقيقة وفضح أهداف زيارة المالكي إلى روسيا والعواقب المحتملة من وراء تشكيل مثل هذا المحور السياسي العسكري الجديد في وقت يفترض ان يبتعد العراق عن جميع المحاور السياسية العسكرية وأن يجنب نفسه مغبة السقوط في صراعات جديدة مدمرة، وأن ينهض الشعب بهمة وعزيمة للخلاص من نظام المحاصصة الطائفية لصالح الدولة العلمانية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد والإرهاب وبناء السلام وإعادة إعمار العراق والعدالة الاجتماعية من خلال توحيد العمل لصالح التغيير الجذري المنشود بالعراق.       
       


329
كاظم حبيب
النهج الجديد للرئيس التركي المرتد عن الديمقراطية والمستبد بأمره!
حين جمعتنا، الأستاذ الدكتور صادق جلال العظم (1934-2016م) وكاتب هذه السطور (أ. د. كاظم حبيب)، ندوة عقدت قبل عدة سنوات بمدينة كولون بألمانيا، ناقشت تطورات الوضع بسوريا والعراق والنموذج التركي في الإسلام. وفي مجرى المناقشة برز اختلاف واضح بيننا في مسألتين مهمتين هما: الموقف من الحرب التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد الدكتاتورية البعثية وصدام حسين بالعراق ومغزى هذه الحرب وعواقبها، إذ لم يكن الزميل العظم مقتنعاً بخطأ تلك الحرب، في حين أوردت من جانبي العواقب الوخيمة التي نشأت واحتمال تفاقمها في غير صالح الشعب العراقي والمنطقة، إذ أن الحروب الخارجية للإطاحة بالنظم الدكتاتورية لا تعالج المشكلات القائمة بل تعقدها واحتمال ان تلد حروباً أو دكتاتوريات أخرى، حين لا يكون الشعب بقواه الذاتية قادراً على الإطاحة بالدكتاتورية، وحين يكون الشعب عاجزاً عن تأمين الحياة الديمقراطية بسبب عدم نضوج الظروف الذاتية للقوى الديمقراطية والمجتمع. فالتجربة تشير، بما لا يقبل الشك، وفي الغالب الأعم نشوء دكتاتوريات جديدة، لاسيما وإن أهداف الحرب من جانب الدول المشاركة في الغزو لا تتناغم مع أهداف الشعب ومصالحه.
أما المسألة الثانية والمهمة التي برز الاختلاف في ما بيننا فهي اهتمامه الكبير وإبرازه للنموذج التركي "الديمقراطي" في الإسلام، باعتبارها تجربة جديدة رائدة ونموذجاً يمكن أن يحتذى به من الدول ذات الأكثرية الإسلامية. وبذل جهداً غير قليل للبرهنة على ذلك من خلال مقارنة تجربة تركيا بتجارب أخرى غير جيدة بالشرق الأوسط. وكان اختلافي معه قد تبلور في نقطة مبدئية هي أن حزب العدالة والتنمية التركي الذي ولد في رحم حزب الفضيلة الإسلامي وعلى أنقاضه في العام 2001، وهو جزء أساسي من تنظيم الإخوان المسلمين على الصعيد الدولي، ورئيسه رجب طيب أردوگان عضو قيادي في هذا التنظيم والمسؤول عن هذا الحزب بتركيا. ولم يكن أمامه، وهو الشخصية المتطرفة في الحزب الأم، من أجل الولوج إلى الاتحاد الأوروبي وكسب منافع منها، إلا أن يسلك سبيل الديمقراطية معالجة مشكلات الاقتصاد التركي المتفاقمة وإيقاف الحرب المستنزفة للموارد والقوى مع الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني. وإن نجاحه في هذا الاتجاه لن يدوم طويلاً بسبب الأهداف الأساسية التي يحملها هذا التنظيم الدولي وحزبه الإسلامي السياسي. وقد تحقق ذلك مع الأسف الشديد. فبعد تحسن كبير في الاقتصاد التركي بعد إيقاف القتال مع الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني وبدء المفاوضات لحل سلمي، وبعد أن تقدمت علاقاته مع الاتحاد الأوروبي وحظي بسمعة جيدة في الأوساط الأوروبية والعالم، بدأ العد التنازلي للديمقراطي بتركيا، إذ لم تدم هذه الفترة طويلاً، فسرعان ما انقلب على هذه الديمقراطية حين شعر بقوته وقدرته على ذلك بأمل فرض الإسلام السياسي على الدولة التركية والتخلص من العلمانية التي أدخلها كمال أتاتورك إلى تركيا في بداية تشكيل الدولة، ولم يجرأ أي حاكم على فرض النظام الإسلامي على البلاد.
وحين جاء الربيع العربي وتلاحقت الأحداث لتصل جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة بمصر، ومن ثم وصول حزب النهضة إلى السلطة بتونس، حتى بدأ أردوگان يبشر بنموذجه ويكشف عن أوراقه الحقيقة وانقلب على الديمقراطية تدريجاً وتخلى عن الحل السلمي للقضية الكردية وبدأ حرباً ضد الكرد وحزب العمال الكردستاني، وأجج الصراع بسوريا لا في سبيل مصلحة الشعب السوري أو المعارضة المدنية الديمقراطية، بل في سبيل مصالح تركيا أولاً وأخيراً وضد وحدة سوريا، إضافة إلى مطامعه في التوسع على حساب العراق وسوريا. كما بدأ يمارس الاستبداد في الداخل. فأعلن إلغاء البرلمان وإجراء انتخابات جديدة هيأ لفوز حزبه فيه بعد أن فشل قبل ذاك بالحصول على الأكثرية البرلمانية، وأعلن عن رغبته الجادة في تغيير الدستور وإقامة النظام الرئاسي بتركيا، ثم بدأ التخلي الواضح عن الدولة العلمانية لصالح دولة دينية على نمط ما يسعى إليه الإخوان المسلمون. وقد أدى كل ذلك إلى تحرك ملموس في صفوف المعارضة التركية والكردية ضد سياساته، إضافة إلى رفض جماعات في القوات المسلحة لهذه السياسة. فكانت محاولة الانقلاب العسكري ضده، والتي كما يبدو، كان على علم بها وتهيأ لإفشالها بدلاً من اعتقال مجموعة الضباط قبل بدء المحاولة. وكان هدفه الاستفادة من محاولة الانقلاب وفشلها لتوجيه ضربة موجعة لقوى المعارضة كلها وفرض النظام السياسي الذي يريده، فرض نظام إسلامي سياسي إخواني على تركيا.
وبعد فشل محاولة الانقلاب أعلن أردوگان حالة الطوارئ بالبلاد ونشط عملية اعتقل عشرات الآلاف من الضباط وضباط الصف والجنود والشرطة والموظفين في دوائر الدولة ووزارات الداخلية والعدل والقضاء والخارجية والتعليم وغيرها، وكلك المئات من أساتذة الجامعات ونواب في المجلس النيابي التركي وتجار وأصحاب أعمال، كما اعتقل عشرات الصحفيين الأتراك بذريعة التجسس والإرهاب والمشاركة في محاولة الانقلاب أو تأييدها. ثم بدأ يمارس سياسة ابتزاز الدول الأوروبية، ولاسيما المانيا، بسبب الاتفاقية التي وقعتها تركيا مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين، حتى وصل به الأمر إلى اتهام مستشارة ألمانيا باستخدامها أساليب نازية، لأن المانيا منحت اللجوء السياسي لهاربين من تركيا، أو لأنها لم تسلم من يتهمهم أردوگان بالتآمر عليه من جماعة فتاح الله غولان (1941م) والمقيمين بألمانيا منذ سنوات كثيرة. كما اعتقل صحفي الماني من أصل تركي بتهمة مساعدة الإرهابيين، ثم اعتقل رجل ألماني يعمل في منظمة العفو الدولية بتركيا بالتهمة ذاتها وامرأة صحفية، بأمل أن يبتز ألمانيا وميركل.         
واليوم 24/07/2017 تبدأ محاكمة 23 صحفياً تركياً بإسطنبول بتهمة التآمر على النظام التركي، وهو يوم حرية الصحافة بتركيا، مما يؤكد إصرار أردوگان على فرض استبداده العثماني متحدياً الرأي العام التركي والدولي في مطالبتهم بالإفراج عن الصحفيين الذين جل ذنبهم أنهم نشروا الوقائع الجارية بتركيا لا غير، في حين وجهت لأغلبهم "تهمة التجسس وإفشاء اسرار الدولة". والمقصود هنا ما نشرته صحيفة الجمهورية من معلومات وصور عن تسليم نظام أردوگان أسلحة إلى عصابات داعش بسوريا، في حين كان أردوگان ينفي ذلك، فبرز كذبه ودعمه لعصابات داعش الإرهابية.
لقد بدأ أردوگان يفرض نظاماً سياسياً يقترب أكثر فأكثر من نظام السلطنة العثماني ويجعل من نفسه السلطان الجديد لتركيا، بالتالي بدأ يمارس أبشع صيغ الإرهاب ضد المعارضين له ويخوض حرباً مدمرة جديدة ضد الشعب الكردي بكردستان تركيا، كما أساء إلى كل المنجزات التي تحققت سابقاً للاقتصاد التركي، كما انحسرت السياحة الدولية، ولاسيما الأوروبية، إلى تركيا بما ساهم برفع حجم البطالة وحالة الفقر بتركيا.
أن من واجب المدافعين عن حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية وضد إرهاب الدولة والحرب أن يرفعوا صوت الاحتجاج بتركيا ومنطقة الشرق الأوسط والعالم ضد سياسات إرهاب المجتمع واعتقال عشرات الآلاف من البشر دون مبررات قانونية في محاولة لفرض الهيمنة الفردية واستبداد الحاكم المطلق على الشعب التركي بكل قومياته واتباع دياناته. إن المعارضة التركية بدأت بإعادة ترتيب أمورها والنضال ضد سياسات أردوگان الإخوانية المتطرفة، وبدأت بمسيرتها على الأقدام من أنقرة إلى إسطنبول. إن من واجب أحرار العالم تقديم الدعم والتضامن الإنساني معها لكسر شوكة الاستبداد والإرهاب بتركيا.   
       
 



330
كاظم حبيب
ما الدور الذي يراد للحشد الشعبي أن يلعبه بالعراق؟
المجتمع العراقي يقف اليوم أمام محنة كبرى جديدة، إنها محنة الشعب العراقي بـ "الحشد الشعبي" وقادته، والقوى الداخلية والخارجية التي تقف وراءه! ليس هناك في المجتمع العراقي من لا يعرف طبيعة هذا الحشد وكيف تكَّون ومن المسؤول عن تكوينه! وكيف استغلت فتوى السيد علي السيستاني الخاصة بالجهاد الكفائي ليعلن عن تكون هذا الحشد من المليشيات الطائفية المسلحة ولينخرط فيه المتطوعون المخلصون استجابة لفتوى السيستاني. فقوام أو بنية وقيادة هذا الحشد جاءت من المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة وقادة هذه المليشيات، وتشكيلها تم بقرار من علي خامنئي وعبر قاسم سليماني وبالتنسيق مع نوري المالكي، الذي أعلن شخصياً بأنه المُكون الفعلي لهذا الحشد!! فقد جاء في مقابلة صحفية بين موقع إيلاف ونوري المالكي، سأل الصحفي: هل أنت قائد الحشد الشعبي؟ فأجاب المالكي بما يلي: " انا لست القائد الميداني للحشد الشعبي، لكن إذا قلت من أسس الحشد الشعبي، فأقول نعم أنا من اسس الحشد الشعبي، وفكرتي عن تأسيس الحشد الشعبي موجودة منذ 2012، وخاصة في نهاية 2012...". (موقع إيلاف، شيرزاد شيخاني، المالكي لـ «إيلاف»: أنا من أسس الحشد الشعبي في العراق، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2016). 
الحشد الشعبي موزع حتى الآن على قطاعين: القطاع الأول وجمهرة من قادته ساهموا في معارك الموصل وبينهم خيرة المتطوعين استجابة لفتوى الجهاد الكفائي واستشهد منهم الكثير. والقطاع الثاني هو من بقي في مدن المحافظات العراقية وساهموا بقسط كبير جداً في الهيمنة على السكان وابتزازهم ومحاربة من يخالف رأيهم والمشاركة في التجاوز على أملاك وأموال الكثير من الناس، وهم مسؤولون عن الاختطاف والتعذيب وغير ذلك.
والآن انتهت معركة الموصل والجيش العراقي بقيادته الراهنة قادر على تطهير العراق من رجس الدواعش وبقايا القاعدة ومن لف لفهم، وانتهى دور الحشد الشعبي. ولم تعد هناك أي ضرورة لبقاء الحشد الشعبي أو بقاء مسلحين خارج القانون، ولا بد من اتخاذ قرار سريع بحل هذا الحشد وفرض تسليم أسلحته للقوات المسلحة العراقية، قبل أن تصبح كارثة جديدة تذكرنا بالأعوام السالفة. هذا ما ينبغي ان يكون عليه القرار الحكيم، إذ انتهى مفعول الفتوى وتحررت الموصل من هيمنة العصابات المجرمة، التي تسبب بها قادة المليشيات الشيعية المسلحة المتطرفة بسياسات أحزابهم وتصرفات القوى الطائفية المقيتة. فهل سيوافق قادة الحشد الشعبي، وهل سيخضعون لقرار لا بد أن يصدر عن رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة بحل الحشد الشعبي وتسليم أسلحته كافة، ام سيرفضون ذلك ويتحدون الدولة بأسرها؟ نحن أمام موقفين هما:
أولاً، موقف رئيس الوزراء العراقي من اتخاذ القرار المطلوب، وثانياً، موقف قادة الحشد الشعبي من حل حشدهم!
لا نعرف الموقف الذي سيتخذه رئيس الوزراء بهذا الصدد، فهو قد عود العراق منذ مجيئه للسلطة، عدا التعبئة لتحرير الموصل، أنه لم يتخذ أي قرار بشأن الجماعات التي أوصلت العراق إلى هذا المستنقع الضحل والنتن، كما لم يتخذ أي قرار صائب ضد تلك الشخصيات التي نهبت العراق وداست على كرامة الشعب وسلمت الموصل سهل نينوى ومحافظات أخرى إلى عصابات داعش المجرمة؟ بل هم ما زالوا في قيادة الدولة وفي مجلس النواب وفي كل مكان. ولهذا لا ندري هل سيجرأ على اتخاذ مثل هذا الموقف ويتحدى غريمه نوري المالكي ورئيس حزبه وقائمته! واجبه الرسمي يتطلب منه حماية العراق من الفوضى والصراع السياسي والاجتماعي والعسكري ويحتم عليه اتخاذ الموقف الصحيح، حل الحشد الشعبي كله ومنع وجود سلاح خارج الجيش والشرطة العراقية. إنه أمام قرار صعب، ولكن لا يجوز تجاوزه أو تأخير اتخاذه، ومن يتأخر يعاقبه التاريخ دون أدنى ريب!!
أما موقف قادة الحشد الشعبي فقد برز في عدة تصريحات في الآونة الأخيرة ابتداءً من قاسم سليماني وبعض المسؤولين الإيرانيين ومروراً بالمالكي وأبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي .. وانتهاءً ببقية المجموعة القيادية في هذا الحشد! فلنأخذ بعض هذه التصريحات وما تعنيه بالنسبة لأوضاع العراق الراهنة:
جاء في تصريح اللواء قاسم سليماني وقائد فيلق القدس الإيراني والقائد الفعلي للحشد الشعبي ما يلي:
قال قائد فيلق القدس للحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، إن الحشد الشعبي حوّل الجيش العراقي إلى "جيش حزب اللهي" على حد قوله، مضيفا أن الانتصار على داعش في معارك الموصل سبب "تدخل العلماء وتشكيل الحشد الشعبي". كما نقلت وكالة "تسنيم" الإيرانية شبه الرسمية عن سليماني إشادته في كلمة له أمام طلاب "جامعة الإمام الحسين للعلوم العسكرية" بما وصفه بـ"الانتصار الأخير في الموصل" معتبرا أن "تدخل العلماء وتشكيل الحشد الشعبي، منحا الشعب العراقي قوة إيمانية وعقائدية وجعله يقف من خلال هذه القوة بوجه تنظيم داعش الإرهابي." أنظر: CNN بالعربية، بتاريخ 19/07/2017. وفي تصريح آخر للجنرال الإيراني، محمد على فلكي، قائد فيلق "سيد الشهداء" فى اغسطس العام الماضي 2016، والتي قال فيها إن مليشيات الحشد، ستكون نواة لـ"الجيش الشيعي بالعراق.
أما قيس الخزعلي، رئيس ميليشيا "عصائب أهل الحق" فقد قال في تصرح له ما يلي: تحرير الموصل "هو تمهيد لدولة العدل الإلهي". وزعم أن تحرير المدينة "انتقام وثأر لقتلة الحسين لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد". وفي هذا يتفق مع ادعاء المالكي بمدنية كربلاء. وأضاف في تصريح آخر قوله: "أنه بظهور من وصفه بصاحب الزمان، وهو الإمام الثاني عشر الغائب عند الشيعة، فإن قواتهم ستكون قد اكتملت بالحرس الثوري في إيران وحزب الله اللبناني وأنصار الله (جماعة الحوثي) في اليمن وعصائب أهل الحق وإخوانهم في سوريا والعراق، وفق تعبيره." وفي ورقة بخط يده كتب ما يلي: باسم رب الشهداء، إلى كل الشرفاء...، إلى كل الطلقاء... حشدنا قائم حتى ظهور القائم، التوقيع الجندي قيس الخزعلي. بتاريخ 26 تشرين الثاني 2016." (موقع NRT (. وبهذا الصدد يمكن أيراد مئات التصريحات لقادة الحشد الشعبي والأحزاب الإسلامية السياسية التي تصب بذات الاتجاه.         
إن وجود الحشد الشعبي كقوة مسلحة شيعية، سواء بشكل مستقل أم كجزء من القوات المسلحة العراقية، سيقود إلى عواقب وخيمة في بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب، وفي بلد عانى وما يزال يعاني من الصراع الطائفي وتعرض أتباع ديانات أخرى للاضطهاد والملاحقة والتشريد والقتل على الهوية والإبادة الجماعية.
إن الموقف السليم هو إنهاء وجود الحشد الشعبي بحله وتسليم كامل أسلحته للدولة العراقية وإنهاء الوجود الإيراني بالعراق، ولاسيما فيلق القدس والأجهزة الأمنية الإيرانية، لأنها ستكون العنصر الفاعل والمؤذي للتطور المستقل للعراق. إن تقديم الشكر لمن قاتل لصالح تحرير الموصل والوقوف بإجلال أمام الشهداء الذي سقطوا في معارك تحرير الموصل واجب وطني لا شك فيه، ولكن انتهاء مهمة هذا الحشد يفترض أن تعني حله دون تأخير لمصلحة العراق وشعبه بكل قومياته واتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والفلسفية. إنها المحنة التي يفترض أن تنتهي قبل أن تتفاقم!
     


331
كاظم حبيب
عادت البغي حليمة إلى عادتها القديمة.. عادت والعود أسوأ!!!

اُعتقل شابان عراقيان بمدينة ميسان (العمارة) بذريعة توزيعهم جريدة طريق الشعب، الجريدة الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي الذي حصل على إجازة رسمية للعمل السياسي بالعراق، والذي تجاوز عمرة الثالثة والثمانين سنة وعمر صحافته الثانية والثمانين عاماً. وبعد الاحتجاج الشعبي بالداخل والخارج أطلق سراح الشابين المناضلين. ولكن هذه الجريدة المناضلة والشعبية تواجه منذ العام 2003 المزيد من الصعوبات والتحرش الدائم بمن يوزع الجريدة أو من يبيعها أو من يوصلها إلى الباعة. وهذه الحرشة والإساءة والاعتداء بالضرب على المناضلين من موزعي الجريدة وعلى باعة الصحف لأنهم يبيعون جريدة طريق الشعب مع بقية الصحف اليومية لا يعبر عن موقف فردي من هذا المعتدي أو ذاك، بل يؤكد بما لا يقبل الشك بأن هناك جهة معينة أو جهات بعينها لا تريد الخير لهذا الوطن ولا تريد إيصال الكلمة الحقة والخبر الصادق والتنوير الاجتماعي إلى الناس ببلادنا، بل تريد كتم هذا الصوت والدوس على حقوق الإنسان، بما في ذلك حق توزيع الجريدة وبيعها وقراءتها، هذا الحق المضمون دستورياً.
إن هؤلاء البلطجية، هؤلاء العيارين البؤساء، هؤلاء الفاسدين الذين يعتدون على طريق الشعب ويمارسون انتهاك الدستور العراقي لقاء مبالغ من السحت الحرام، لا يمثلون أنفسهم، بل يعبرون عمن يقف وراءهم ويدفع بهم لممارسة هذه الأفعال النكرة. إن هؤلاء المرتزقة الجبناء يتحركون بفعل أسيادهم داخل العراق وخارجه، وهي بداية ينبغي أن نتصدى لها، لأنها محاولة لاختبار موقف الناس والمجتمع عموماً منهم، ومن أفعالهم النكرة، تماماً كما فعلوا مع الشاب الفنان المسرحي كرار نوشي الذي قتل بلا ذنب، بل لمجرد كونه فناناً يملك حساً فنياً مرهفاً ومتقدماً وثقة بالنفس ووعياً لحقه في أن يكون فناناً حراً، بهدف جس نبض المجتمع في الموقف من قتل الفنانين وحاملي راية الحرية الشخصية والحق في الإبداع الفني. ويورد البيان الصادر عن المنتدى العراقي لحقوق الإنسان ما حصل في الآونة الأخيرة ببغداد ما يلي:
"إننا في المنتدى العراقي لمنظمات حقوق الإنسان نجد ان عمليات القتل والخطف قد انتشرت بالآونة الأخيرة بشكل يبعث على القلق الشديد والاعتقاد بحدوث انفلات أمني كبير وخطير، فقد قتل بالتعذيب الشاب ذو (17) عاماً "حسين مازن الشامي " في كربلاء بحجج منافية للقانون ومتعارضة مع واجبات أجهزة الشرطة ذاتها الذي عذب بيد بعض رجال الشرطة نفسها. وكذلك مقتل الشاب " علي هاتف السلامي " أثناء تظاهره بتحسين خدمة الكهرباء في النجف، وهناك أخبار بوجود شهيد أخر و (5) جرحى أصيبوا أثناء التظاهرة." (انظر: نداء المنتدى العراقي لحقوق الإنسان للوقف الفوري لعمليات القتل والخطف في البلاد في 13/07/2017).
ويعتقد بشكل كبير إن سبب مقتل الفنان المسرحي " كرار نوشي " هي بسبب مظهره الذي لا يناسب جماعة المتشددين من المجاميع المسلحة ، وقد رميت جثته في منطقة شارع فلسطين في بغداد .
إن من يقف وراء القتلة هم من يقف وراء البلطجية الذين يطاردون موزعي وباعة جريدة طريق الشعب، هذه الجريدة المناضلة التي تحمل ميراث وتقاليد صحافة الحزب الشيوعي العراقي منذ صدور أول جريدة له "كفاح الشعب"، تلك الجريدة الغراء التي صدرت في 31 تموز/يوليو 1935 وفي فترة وزارة ياسين الهاشمي وبصورة سرية، وبقية صحافة الحزب الأخرى على مدى 82 عاماً، إضافة إلى إنها تحمل تقاليد وميراث الفكر الديمقراطي والتقدمي والمادي لكل المناضلين الصحفيين والكتاب والأدباء والفنانين على مدى تاريخ العراق الطويل، إنها الصحيفة التي تعبر بصدق وحق عن حاجات الشعب ومصالحه ومستقبله. في العام 1946 عين السياسي العراقي سعد صالح وزيراً للداخلية ولم يبق فيها سوى ثلاثة شهور حيث استقال بعدها، وساهم في تأسيس حزب الأحرار قال فيما بعد بأنه يثق تماماً بما تكتبه جريدة "القاعدة"، التي كانت لسان حال الحزب الشيوعي العراقي حينذاك، لأنها صادقة في ما تنقله للقراء. إنها شهادة واقعية وموضوعية صادقة، وهي الآن تحمل ذات الموضوعية والصدق.
هؤلاء البلطجية ومن يقف وراءهم يريدون كبت وخنق هذا الصوت الهادر بالكلمة الحرة والصادقة الذي لم يتوقف طوال 82 عاماً ولن يتوقف بالرغم من كل أولئك المستشرسين والمستقوين بمن هم في الحكم من فاسدين وإرهابيين عاجزين عن خوض الصراع والنقاش الفكري والسياسي بطرق سلمية وديمقراطية، فيلجؤون إلى العنف والإيذاء والإساءة والاعتقال. أولئك الذين بدأوا يروجون ضد المدنية والعلمانية، ثم ليدّعوا بأنهم مدنيون!!! ولكن السؤال العادل هو: بأي حق تقوم الأجهزة الحاكمة في محافظة ميسان باعتقال الشابين اللذين قاما بتوزيع الجريدة وتعرضا للاعتداء من أوباش بدلاً من اعتقال أولئك الأوباش الذين مارسوا الاعتداء، إن لم يكونوا هم ممن ساهم بالإيعاز إلى هؤلاء الأوباش لضرب ومنع مواصلة توزيع جريدة طريق الشعب؟ اليس من حقنا أن نقول عاد هؤلاء البغاة لممارسة ما مارسوه قبل ذاك ولسنوات كثيرة.. ولكن هذه العودة أسوأ وأشد إيذاءً، لهذا يستوجب إيقافهم ومنعهم من التمادي، إنه العهر السياسي بعينه يمارسه من يخشى الصدق والنزاهة في السياسة والإعلام والاقتصاد والحياة الاجتماعية!!!       


332
كاظم حبيب
حصيلة الانتصار العسكري بالموصل
حين يعلن العراقيون والعراقيات فرحتهم بالانتصار العسكري بالموصل وطرد الغزاة المجرمين القتلة، دواعش العراق والعالم الإسلامي، من شذاذ الآفاق، من مدينة استمر احتلالها ثلاث سنوات بالتمام والكمال وبعد أن ظل الغزاة يعيثون بالمدنية وبقية مدن وارياف وحضارة محافظة نينوى فساداً وقتلاً وتشريداً وسبياً واغتصاباً مريعاً وبيعاً للنساء والأطفال في سوق النخاسة وتخريباً في كل مكان. فلهم الحق في إعلان الفرحة، باعتباره نصراً وطنياً، نصراً لكل الشعب، للعراق كله. وقد حيا الحزب الشيوعي العراقي هذه المناسبة، كما حيت قوى سياسية أخرى ومنظمات حقوق إنسان ومجتمع مدني هذه الانتصارات العسكرية، ومنهم المنتدى العراقي لحقوق الإنسان، كما حييت ذلك بأكثر من مقال حين كانت القوات المسلحة على وشك تحقيق النصر العسكري. والآن أحيي الشعب والقوات المسلحة وأهنئها على هذا النصر العسكري.
ولكن، والشعب في احتفالات النصر العسكري، وفي خضم المعاناة المديدة التي مرّ بها وما يزال يعاني منها الأمرين، لاسيما النازحون والمهجرون ومن فقد عزيزاً أو عزيزة له أو فقد جميع افراد عائلته، ومن هدم داره ومن فقد كل ما يملك، هذه المعاناة المتشابكة مع فرحة الانتصار العسكري، يتساءل جميع العقلاء من الناس، وفي مقدمتهم أصحاب الرأي السديد والحكمة والتحليل العلمي والتجربة، بوعي ومسؤولية وحرص شديد على كل أهل العراق: من هم المسؤولون ومن كان السبب وراء حصول هذه الكوارث والمآسي أولاً، ومن سلّم الموصل إلى الداعشيين القتلة بقرار من مسؤول أعلى سلطة تنفيذية، وماذا فعلت السلطات الثلاث، وعلى رأسها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس مجلس النواب، لمحاسبة هؤلاء المسؤولين عن كل هذه الكوارث؟ ثم التساؤل يتواصل عن حصيلة المعارك والحصاد الفعلي من الشهداء والمعوقين والجرحى والمشردين ... والخراب والدمار لهذا الانتصار العسكري ثانياً، وعن العواقب المحتملة لفترة ما بعد طرد داعش من الموصل، علماً بأن داعش ما زال موجوداً بالعراق (تلعفر، الحويجة وغيرهما) حتى الآن ثالثاً، وعن استمرار وجود فكر الدواعش لا في صفوف جمهرة من أهل السنة، بل وما يماثله في صفوف وممارسات جمهرة من الشيعة، ونماذج منها شاخصة للعيان، وتصريحاتهم تنذر بأبشع العواقب رابعاً، وكيف ستعالج أوضاع أهل الموصل وسنجار وتلسقف وبطناية بعد الانتصار العسكري خامساً؟
نعم سحقت فصائل من القتلة والمجرمين بالموصل، وأسر من أمكن أسره، وهرب من استطاع الهرب واختفى من استطاع الاختفاء إلى حين، بعد أن أصبح الآن جزءاً من خلية نائمة، ولكن فكر وممارسات هؤلاء الأوباش ما تزال فاعلة بالعراق وستبقى لفترة غير قصيرة. وبالصراحة الضرورية نقول بأن الشعب يتحمل مسؤولية مواجهة كل الاحتمالات والمفاجآت، إذ بدأت بعض النذر الصارخة التي لا تبشر بالخير، ومنها: اعتبار النصر شيعياً وليس وطنياً، ثم الاحتفال بضابط واحد من ميسان وكأن النصر لشخص وعشيرة ومدينة واحدة، وليس عراقياً وليس مئات الآلاف من الجنود وضباط الصف والضباط والمتطوعين الذين صنعوا بدمائهم الزكية هذا النصر، ثم الوقائع التي نشرتها منظمة العفو الدولية وجهات حقوقية أخرى لما يحصل من انتهاكات فظة بالموصل في خضم فرحة الانتصار العسكري وتحرير الموصل، إضافة إلى امتناع الكثير من أبناء الموصل ومناطق أخرى من محافظة نينوى من العودة خشية حصول عمليات انتقام وقتل بدعوى الثأر من أحفاد قتلة الحسين أو غير ذلك من الخزعبلات!!!
فرحة النصر العسكري يجب ألّا تنسينا أولئك الذين يرتدون لباس الثعالب الماكرة، الذين راحوا اليوم يدلون بتصريحات وكأنهم لم يكونوا السبب وراء مآسي العراقي منذ العام 2005 حتى الآن!
إن قادة في حزب الدعوة وحزب المجلس الإسلامي الأعلى، وهم يقودون السلطة التنفيذية، وهم ينفذون قرارات قاسم سليماني بالعراق، هذه القرارات التي لا تعبر عن مصالح الشعب العراقي، بل تجسد مصالح الدولة القومية الفارسية التي لها أطماعها بالعراق، قد أثمرت عن:
** تدمير محافظات غرب العراق وشماله، ولاسيما الموصل الحدباء وسنجار وتلعفر وبرطلة وبطناية وتلكيف وتلسقف .. وعشرات المدن الأخرى، إضافة إلى دمار الفلوجة وعموم الأنبار وصلاح الدين ومناطق من ديالى ..الخ.
** تشتيت سكان هذه المناطق وتعريضهم للقتل والتشريد والنزوح والهجرة بهدف تركيعهم وإخضاعهم لقرارات الأحزاب الإسلامية الشيعية المتطرفة وتلك المشبعة بروح الثأر والانتقام، وكأن هؤلاء البشر هم من قتل الحسين وصحبه!! إنها محاولة لكسر شوكة أتباع الديانات والمذاهب، ولاسيما أهل السنة، للفئة البغية الحاكمة، وهو أمر لا يجوز الابتعاد عن تشخيصه، لأنه يستهدف تدمير ما تبقى من لحمة الشعب!! 
** من سيعود إلى مناطق سكناه السابقة سوف لن يزيد عن 30-50 % من مجموع سكانها، وهو أمر بالغ الضرر بالعراق وقواه العاملة والمنتجة ولاسيما الشباب منهم.
** إن المليشيات الشيعية المسلحة تمارس أدوراً مختلفة وترتبط بمصالح مع قوى مختلفة، منها من يرتبط بإيران، وهي التي تشكل القسم الأكبر من المليشيات المسلحة بالعراق، ومنها من يرتبط بقوى داخلية ذات مصالح سياسية واقتصادية خاصة بها، ولكنها لا تبتعد عن دول الجوار، ومنها عصابات قتل ونهب وسلب وفوضى، ولكن كلها تمارس الإرهاب وتجلب أشد الأضرار للوطن والشعب، وهي لا تخدم العراق بأي حال بل يحركها الجشع والانتقام والهيمنة على السلطة، وهي التي تشكل الجزء الأكبر من قوى "الحشد الشعبي"، في حين إن هذا الحشد يضم في صفوفه أيضاً عراقيون نجباء تطوعوا بناءً على دعوة الجهاد الكفائي للسيد علي السيستاني. وحتى اليوم لم يتحدث السيد السيستاني ولا من ينطق باسمه عن "حشد شعبي"، بل يتحدثون عن متطوعين، وهو أمر بالغ الدلالة.
** ولكن هذه القوى التي يجري الحديث عن كونها خاضعة للقائد العام للقوات المسلحة، والتي هي بالأساس في أغلبها ميليشيات مسلحة، تعود لقوى وأحزاب سياسية عراقية الاسم إيرانية الانتماء، وهي التي تطالب اليوم بالسلطة السياسية، كما شكل قادة تلك المليشيات أحزاباً سياسية أجيزت فعلاً!! ويؤكد هؤلاء القادة في بعض أحاديثهم عن انتصار أصحاب الحسين على أصحاب يزيد، والمقصود هنا ليس داعش، بل أهل السنة، قيس الخزعلي النموذج الأسوأ مع صاحبه نوري المالكي لهؤلاء البغاة!! 
** وقد بدأت جماعات مختلفة تمارس عمليات الاغتيال والاعتقال والتعذيب في عدد من محافظات العراق والتي أشار إليها بوضوح بيان المنتدى العراقي لحقوق الإنسان، ومنها الاغتيالات بكربلاء والنجف وبغداد والاعتقالات في ميسان وبغداد، إنه الانفلات الأمني الذي تسعى إليه هذه القوى لتطيح برئيس وزرائها وتنصب غيره مكانه، لأنها إن دوره قد انتهى ليعود المالكي أو من يماثله ليخدم مصالح إيران مباشرة.   
إن العراق بحاجة إلى تغيير جذري في السلطات الثلاث، إلى إبعاد كل الفاسدين الذين نهبوا البلاد وسبوا الشعب، وكل الذين ساندوا الإرهاب بمختلف السبل، إلى تغيير المفوضية العليا للانتخابات وقانون الانتخابات وفرض الرقابة الدولية على الانتخابات ...الخ، ليستطيع الشعب معالجة عواقب ما تسببت به قوى الإسلام السياسي الحاكمة بالعراق.
النصر العسكري يستوجب نصراً على الفكر الطائفي والفكر التكفيري والفكر الشوفيني والفكر الذي يميز بين أبناء الشعب على أساس القومية والدين والمذهب والجنس، النصر العسكري يستوجب استكماله بإزاحة ومحاسبة من تسبب بما حصل بالعراق خلال السنوات المنصرمة منذ الاحتلال الأمريكي وإقامة نظام المحاصصة الطائفية العدواني والتدميري. ِ                             

333
وداعا رفيقنا وصديقنا العزيز د. صادق البلادي (أبو ياسر)
فجعنا، والحزن والأسى، يعمنا، بتغييب الموت عنا، رفيقنا وصديقنا العزيز والمناضل الوطني-الشيوعي المقدام د. صادق البلادي صباح يوم الجمعة المصادف 07-07-2017 بعد إصابته بنزيف في الدماغ لم يمهله طويلا. لقد فقدت عائلة الرفيق أبو ياسر، زوجته الاخت ام ياسر وابنه العزيز ياسرب ألمانيا، وعائلته الكبيرة بالبصرة، زوجاً وأباً وأخاً وابناً نبيلا وكريما، كما فقد رفاقه في الحزب الشيوعي العراقي وأصدقاءه ومحبي شخصيته وكتاباته، شخصية سياسية وطنية معروفة وكاتبا حاذقا واصل نضاله السياسي والثقافي في صفوف الحزب أكثر من ستة عقود. لقد حمل صادق البلاد، مع رفاقه المناضلين، راية النضال في سبيل الحرية والديمقراطية والاستقلال والسيادة الوطنية، في سبيل السلام والصداقة والتضامن الاممي ومن اجل العدالة الاجتماعية، وبقي طوال حياته النضالية أمينا لحزبه وشعار المركزي "وطن حر وشعب سعيد"، أمينا لشعبه والطبقة العاملة والفلاحين وكادحي العراق.
لقد رفض الحروب، كل الحروب والعسكرية والدكتاتورية والفاشية، وأدانها، وناضل في سبيل السلام ورفض الغزو الامريكي للعراق وشجبه بقوة، وأدان الاحتلال والطائفية السياسية ونظامها السياسي ومحاصصاتها المذلة، واحتج بحزم على وجود وإرهاب المليشيات الطائفية المسلحة كافة وعدوانها على اتباع الديانات والمذاهب، وناضل ضد التمييز بمختلف أشكال ظهوره.
عمل الفقيد مع منظمات المجتمع المدني، ولاسيما منظمات حقوق الانسان وهيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق، ضد احتلال الموصل وأدان بشدة عصابات داعش الاجرامية وما حصل للإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان من عمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي وديني في محافظة نينوى ومناطق اخرى من العراق. لقد كان من الداعين المخلصين لوحدة العراق والتآخي والتضامن بين قومياته واحترام وممارسة حقوق الانسان وحقوق القوميات، لاسيما حقوق الشعب الكردي، وحقوق بقية القوميات بالعراق.
بموته المبكر فقدنا رفيقاً وصديقاً واخاً كريماً وعزيزاً وبَقى حتى قبيل وفاته بقليل يناقش سبل تطوير العمل النضالي في سبيل تحقيق التغيير الجذري المنشود بالعراق لإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية والمجتمع المدني الديمقراطي الحديث، وكان من الداعين إلى تعزيز العمل بين الشبيبة لدورهم الفعال في النضال من أجل التغيير.
التعازي القلبية والصبر والسلوان لعائلته ورفاقه وأصدقاء الفقيد ومحبيه، والذكر الطيب للفقيد العزيز د. صادق البلادي
كاظم حبيب، 07/07/2017


334

د. كاظم حبيب


الدراسات العلمية المتخصصة والوقائع الحياتية برهنت، بما لا يقبل الشك أو التأويل، إن المثلية الجنسية ناجمة عن مسألتين علميتين هما الجانب البيولوجي عند الإنسان، ذكراً كان أم أنثى، أولاً، وعن الجينات الوراثية ثانياً، وكلاهما لا يتحكم بهما الفرد، بل تتجلى في نزعاته وتوجهاته الجنسية الطبيعية، وهي ليست سمة يمكن التحكم بها من جانب الرجل المثلي أو المرأة المثلية. فالباحث العلمي محمد الجلالي في بحثه الموسوم "حقيقة المثلية الجنسية .. رأي العلم"، قدم لنا فيه رأياً علمياً مستنداً إلى كمية هائلة من الأبحاث العلمية والتجارب الحياتية على الصعيد العالمي التي تؤكد ما يلي:
"( المثلية الجنسية – Homosexuality) هي الانجذاب العاطفي والنفسي والجنسي لنفس النوع – اي انجذاب – (ذكر × ذكر) او (انثي × انثي)، وهو توجه جنسي سليم ومعترف به طبياً كأحد التوجهات الجنسية الأساسية، والتوجه الجنسي هو توصيف للحالة الجنسية والنفسية للشخص.
* ما هو سبب المثلية الجنسية ؟
ليس سبباً واحداً فالمثلية الجنسية متداخلة الأسباب ..في الواقع المثلية الجنسية سببها مرتبط بعاملين وهما بيولوجي وجيني. ^ ) السبب الجيني : العلاقة بين التوجه الجنسي والبيولوجي ..
في اول مراحل تكوين الجنين يكون ظاهرياً وفزيائياً انثي او بالمعني الأدق (جنس محايد)  ويستمر لمدة 5 او 4 اسابيع من التخصيب نتيجة سيطرة كروموسوم X ، وبعد ذلك يبدأ ويظهر مفعول كروموسوم Y وهو الكرموسوم المنتقل من الذكر ويحمل SRY gene ، المسئول عن تثبيط بعض صفات كروموسوم X وفرض صفاته الخاصة والذي يتواجد في الذكر ..
في منطقة في المخ اسمها (SDN) وهو اختصار لـ( sexually dimorphic nucleus )  ويتواجد بجانب الـ( hypothalamus –  تحت المهاد ) هو – SDN – المسئولة عن التفضيلات بين الجنسين حيث تتغير حجمها تبعاً لتغير ( التوجه الجنسي ) فمثلاً توجد في الذكور المغايرين اكبر عن غيرهم  .." (أنظر: محمد الجلالي، حقيقة المثلية الجنسية .. رأي العلم"، موقع سيكولوجي، 05/07/2017).
وفي توثيق مهم لعالم النفس البروفيسور الدكتور قاسم حسين صالح كتب تحت عنوان (اوقفوا الاستهتار بحياة الناس) ما يلي:
"في 1987 استدعتني مديرية شرطة بغداد لقضية علمية، هي معاينة مجموعة شباب (مخنثين) بالمصطلح الشعبي، ومصابين باضطراب الهوية الجنسية بالمصطلح العلمي، الذي يعني ان مشاعر الشاب تكون انثوية ويرى انه ولد في الجسم الخطأ، ورفعت توصيتي الى وزارة الداخلية بان الجهة المعنية بمعالجة هؤلاء هي مستشفى الرشاد للطب النفسي.
في 2010 قامت جماعة محسوبة على قوة سياسية شيعية بألقاء القبض على شباب وغلق مخارجهم بالسيكوتين وتقييدهم وراحوا يستمتعون بموتهم .. فكتبنا وقتها مقالة بعنوان (طنطا-يمكنك مراجعتها في الحوار المتمدن).. اوضحنا فيها انه يوجد في كل المجتمعات جنسيون مثليون وان قتلهم يعد جريمة لأن(ربهم خلقهم هكذا!).. فجاءنا تحذير مبطن بتهديد .
اليوم يقتل الشاب (كرار) بطريقة بشعة بالحجة نفسها، مع انه وصف بانه ممثل مسرحي.
العقل السياسي الاسلامي يثبت على مدى 14 سنة بأنه.. متخلف، جاهل، احمق، ومستبد.. وان فضحه واجب كل انسان يحترم حق الحياة ويقدسها."
وإذ أتفق مع الأستاذ الفاضل في أغلب ما ذهب إليه، إلا أني اختلف معه في كون هذه الحالة ليست اضطراباً نفسياً أو أن المثلي ولد بالجسم الخطأ، بل هي حالة طبيعية نتيجة للجانب البيولوجي والجانب الجيني. وهو ما يؤكده العلم والعلوم النفسية أيضاً. إن ما ارتكب بحق من سُدّت مؤخرته بالسيكوتين، ومن قتل قبل أيام، وأعني به الشاب الطالب في معهد الفنون الجميلة كرار نوشي بذريعة المثلية، هما جريمتان بشعتان ينبغي أن يلاحق مرتكبيها وتقديمهم للقضاء لإصدار الحكم العادل بحق القتلة باعتبارهما مارسا القتل العم مع سبق الإصرار. ومع إن المعلومات التي وردت لي لا تؤكد مثليته الجنسية، ولكن قتل لشبهة بها.
لقد اقرت مجموعة من برلمانات أوروبا الغربية قوانين لا تبيح المثلية في المجتمع فحسب، بل وحقهم في الزواج وتبني الأطفال. وهذا ما حصل في البرلمان الاتحادي لألمانيا الاتحادية بتاريخ 30/06/2017 حين أقر قانوناً يقضي بحق المثليين بالزواج وتبني الأطفال والوراثة وما إلى ذلك. وفي ألمانيا وحدها يوجد مكا يقرب من 4 ملايين مثلي، وهكذا الحال في بقية دول العالم. لقد كانت ألمانيا وكذلك الكنيسة الكاثوليكية تعاقب المثلي عقاباً صارماً، وهو ما تمارسه الدول الإسلامية بدعوى الدين، وكلها دون استثناء إما دكتاتورية بشعة، أو تتمسح بديمقراطية شكلية، في حين إن الإسلام لم يحرم المثلية ولن تجد آية واحدة في القرآن تحرم المثلية، بل هناك تحريم في بعض الشرائع التي وضعها البشر ولا تستند بالضرورة إلى القرآن أو تعتمده، بل اجتهادات شخصية. وفي هذا الاجتهاد اختلافات أيضاً. فالمذهب الحنفي المستند إلى الإمام الفقيه (أبو حنيفة النعمان 80-150 هـ/ 699-767م) لا يعتبر المثلية الجنسية زناً، لأنها لا تنجب ذرية، على سبيل المثال لا الحصر. (أنظر: أبو حنيفة النعمان، موقع قصة الإسلام، بتاريخ 05/07/2017) 
على منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني المدركة لدورها في المجتمع أن ترفع صوت الاحتجاج ضد هذه الجريمة الجديدة البشعة وتستنكر ممارستها من قوى وعناصر مجرمة، متخلفة وجاهلة وأن تطالب بتقديم الجناة إلى القضاء لملاحقتهم وإنزال أقسى العقوبات العادلة بحقهم لكي يرتدع غيرهم من ممارسة جرائم مماثلة.   

335

كاظم حبيب
النصر العسكري والمطاف الذي يسعى إليه الشعب!
الانتصارات العسكرية التي بدأت تتحقق يوماً بعد آخر والمقترنة بتدمير مواقع عصابات داعش المجرمة بالموصل وتقليص مواقعها وإزالة فعلية لشبح "دولتها" اللقيطة بالعراق، وتحرير نينوى بالكامل من تلك العصابات الشريرة، أمر يسرُ كل العراقيات والعراقيين دون استثناء، ولاسيما بنات وأبناء نينوى الحبيبة. هذا النصر العسكري يدق مسماراً جديداً في نعش القوى الإرهابية والعدوانية لا بالعراق حسب، بل وفي العالم الذي يواجه القتل والتدمير الوحشي والجنوني من جانب عصابات داعش. 
إلا إن هذا النصر العسكري، الذي كلف الشعب العراقي المزيد من الضحايا البشرية، شهداء التحرير، والكثير من الجرحى والمعوقين، إضافة إلى آلام وأحزان ودموع وتشريد الملايين من البشر كنازحين ومهاجرين ومشردين بالعراق وبالشتات العراقي، وكذلك الخسائر المادية الحضارية لآثار العراق الفريدة، والذي كلف خزينة الدولة عشرات المليارات من الدولارات الأمريكية أيضاً، لا يتوطد بهتافات الفرحة وسعادة النصر العسكري ولا بدموع العائدين الذين فقدوا الكثير من أبنائهم وبناتهم وما يعتزون به، بل النصر يتحقق بالعمل على كنس كل العوامل التي كانت سبباً وراء ما حصل بنينوى، وقبل ذاك بالأنبار وصلاح الدين وديالى وبغداد وغيرها من مدن العراق، بتغيير جذري للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة، بالتوجه صوب الدولة الديمقراطية الحديثة، الدولة التي تقوم على أساس المواطنة الحرة والمتساوية والواحدة، وليس على أساس الهويات الفرعية القاتلة، التي تسببت في موت مئات ألوف البشر بالعراق، والتي ستمارس موت الكثير أيضاً إن تواصلت سيادة هذه الهويات الفرعية على هوية المواطنة العراقية. إن القادم سيكون أمر وأقسى وأدهى إن استمر النظام السياسي الطائفي والمحاصصات الطائفية وذات الوجوه السياسية القميئة التي تسببت في الأعوام المنصرمة بما يعاني منه العراق حالياً.     
إن النصر العسكري يتوطد بتغيير كامل للسياسات التي مورست حتى الآن، بإعادة بناء الدولة الهشة الراهنة، بناء الدولة الديمقراطية الحديثة والعصرية وإقامة المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، حيث كلاهما يرفض الطائفية والتمييز الديني والعنصرية ونشر الكراهية القومية والدينية والمذهبية والفلسفية أو الفكرية، كلاهما يعتمد مبادئ وقيم ومعايير لائحة حقوق الإنسان الدولية وبقية المواثيق والعهود الدولية (شرعة حقوق الإنسان) ويلتزم بتنفيذها والرقابة الصارمة على تنفيذها، دولة ومجتمع يسعيان إلى بناء التفاهم والثقة والاحترام المتبادل بين القوميات بالعراق وأتباع الديانات والمذاهب، والالتزام الثابت بحقوقها ومصالحها والتنسيق في ما بينها لصالح العراق الديمقراطي العلماني الحديث.
إن بناء المجتمع وتوطيد أركان الدولة الديمقراطية أثناء وبعد تحقيق النصر العسكري لا يتطلب التسامح بين العراقيات والعراقيين من كل القوميات والديانات والمذاهب والفلسفات لما حصل لهم حتى الآن حسب، بل يتطلب أولاً وأساساً وقبل كل شيء الاعتراف المتبادل بالوجود القومي المتعدد وبالوجود الديني والمذهبي (مذاهب دينية وفلسفية) المتعدد أيضاً وبالحقوق والواجبات، لأنه الطريق الوحيد والمناسب لضمان وحدة العراق ووحدة نسيجه الوطني والاجتماعي وتأمين تطوره السياسي وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتنظيف بيئت الملوثة.
إن الاعتراف المتبادل يتطلب أيضاً التسامح ممن تعرض للانتهاك، ولكن لا يجوز إهمال محاسبة من تسبب عن سبق إصرار بتدمير وحدة العراق ووحدة شعبه بمختلف قومياته واتباع دياناته وممارسة سياسات التمييز الديني والمذهبي والقومي بأبشع الصور والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، والتي تسببت في نشر الكراهية والأحقاد والموت بالبلاد، ومن ثم فرض الاحتلال على أجزاء من وطننا الحبيب. إن فرحة النصر لا تتم إلا من خلال التغيير الحقيقي للنظام والنهج أولاً، وبإعادة النازحين والمهاجرين الراغبين في العودة وتعويضهم وإعادة إعمار المناطق المدمرة ثانياً، وحل المعضلات العالقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق على أسس سليمة وعلى وفق دستور ديمقراطي عصري معدل لصالح توطيد الدولة العراقية الديمقراطية ثالثاً، ومحاسبة من كان السبب في ما تعرض له الوطن والشعب من خسائر بشرية وحضارية ومالية رابعاً.
على القوى المؤمنة بدولة ديمقراطية علمانية حديثة ومجتمع مدني ديمقراطي أن تتوحد في النضال من أجل تحقيق هذا الهدف لضمان تغيير ميزان القوى لصالحها لتحقيق هدف إزاحة من يسعى إلى تكريس ما كان سبباً في مآسي وكوارث العراق خلال الأعوام المنصرمة والمعرقل للتغيير الجذري المنشود. 
 



336
كاظم حبيب
هل هي زلة لسان أم إنها جزء من ثقافة بالية تلاحقنا؟
في مقال كتبته قبل فترة وجيزة تحت عنوان "كفوا عن الضحك على ذقون الشعب، كفوا عن مهازلكم!!، جاء في موقع منه عن بعض شيوخ دين ممن استجاب لإرادة السياسة الفاشية لنظام الحكم البعثي - القومي في العام 1963 حين كفر الشيوعيين، وبالتالي أحل دم الشيوعيين والقوى المدنية والعلمانية باعتبارهم ملحدين! و"على النسق ذاته بدأت حملة شعواء تمارسها مجموعة من أصحاب العمائم، وهم جمهرة من شيوخ دين سياسيين انحازوا ضد إرادة ومصالح الشعب حين راحوا يؤججون المشاعر وكأن الشبيبة العراقية كلها بدأت تنحاز صوب الإلحاد. وهم يعرفون إن ليست هناك مثل هذه الظاهرة، بل إن هناك رفضاً متعاظماً واحتجاجاً ضد شيوخ الدين الفاسدين والمتربعين على رأس السلطة وفي الأحزاب الإسلامية السياسية الذين مسخوا الدين بسلوكهم اليومي المناهض لمصالح الشعب. ويقف على رأس هؤلاء نوري المالكي وعمار الحكيم، والأخير يعيد إنتاج تاريخ جده الأسود في هذا المجال." وكان لزاماً عليّ أن أكتب "يعيد تاريخ جده المخزي مثلاً، وليس الأسود! والسؤال الذي يستوجب الإجابة عنه هو: هل كان هذا الخطأ زلة لسان منّي، أم إنه يشكل جزءاً من تراثنا الثقافي العربي والإسلامي، بل والبشري، السلبي الذي صبغ اللون الأسود دون أدنى مبرر بالسوء؟ ألم يكن هذا الاستخدام جزءاً من التراث الاستعماري والعبودي الذي مارسته القوى العنصرية ومن ثم الاستعمارية، ومنهم المستعمرون المسلمون العرب، ضد الشعوب السوداء بذهنية عنصرية وقحة وعلى امتداد عشرات القرون، بحيث ما تزال هذه المخلفات السيئة عالقة في أذهان حتى القوى الديمقراطية والتقدمية وأنصار حقوق الإنسان في العالم، وأنا منهم؟ نعم هذه هي الحقيقة المرة التي يفترض أن نعترف بها ونكافحها!     
حين قرأ زميلي الفاضل والمناضل الدكتور محمد أحمد محمود، صاحب كتاب نبوة محمد، مقالي المذكور أعلاه، اشار لي برسالة شخصية بأن المقال قد أعجبه كثيراً، ولكن حين وصل إلى الموقع الذي ذكرت فيه اللون الأسود بموقع السوء، كما جاء في أعلاه، أشار بأنه انزعج كثيراً، رغم معرفته بنيتي الحسنة، وهو على حق تماماً، إذ أن الألوان كلها واحدة ولا يجوز تمييز لون منها بالإساءة، كما جاء في مقالي. لقد أدركت بأن ما كتبته لم يكن زلة لسان، بل كان بتأثير الثقافة البالية التي ما تزال تعيش معنا ونستخدمها دون أن نعي سلبياتها وأسباب نشوئها ومدى إساءتها للآخرين من أخوتنا وأخواتنا من ذوي البشرة السمراء أو السوداء. لقد تعودنا أن نقول بالسوق الأسود بدلاً من القول بالسوق الموازي، وأن نقول حظه الأسود، بدلاً من أن نقول حظه العاثر، وأن نقول تاريخ الرجل الأسود بدلاً من أن نقول تاريخ الرجل المخزي، على سبيل المثال لا الحصر.
لقد علمني الدكتور محمد محمود درساً ثميناً لن إنساه، وأتمنى على جميع أنصار حقوق الإنسان وجميع الكتاب وعموم المجتمع أن ينتبهوا إلى ذلك ليتخلصوا معي من ترديد ما وصل إلينا من خطاب يعود للثقافة البالية في جميع لغات العالم تقريباً وفي جميع الحضارات التي مرت بها البشرية، ربما في ما عدا الأوائل الذين لم يكونوا يعيشون تحت وطأة العنصريين والمستعمرين، دون أن نعي وعياً سليماً ما وراء ذلك. ليس هناك ما يميز اللون الأسود عن اللون الأبيض أو الأحمر إلا في الثقافة والنظرية العنصرية التي قسمت البشرية إلى ثلاثة أجناس وربطتهم بأبناء النبي نوح الثلاثة "يافت وسام وحام", وله كما يقال أبن رابع، وادعت هذه النظرية إن يافت هو الجد الأكبر للجنس الآري، الجنس الذي يتميز بالسمو والخلق الكريم والإبداع والمبادرة والخلق والسيادة. ثم ادعت إن سام هو الجد الأكبر للساميين أو الآسيويين، ومنهم العرب واليهود، وهم الوسط بين جنسين، فهم أقل شأناً من الآريين، ولكنهم أعلى شأناً من الحاميين أو الأفارقة، إذ ادعت هذه النظرية العنصرية البالية بأن الجد الأكبر للحاميين أو الأفارقة هو حام بن نوح. وبسبب خطيئة ارتكبها حام، صبغ "الله" أبناءه وأحفاده باللون الأسود، وكتب عليهم أن يكون خدما أو عبيداً لأسيادهم من الجنس الآري، ومن ثم للجنس السامي! هل هناك نظرية وقحة أوقح من هذه النظرية العنصرية؟ إننا هنا نتبين بوضوح مدى وقاحة هذه النظرية وتخلفها وعدوانيتها، إذ يفترض أن ننتبه إليها في كتاباتنا التي نرددها في غالب الأحيان دون أن نعرف مصدر هذه الأسطورة الخرافية والعلاقة التي شوهها العنصريون، العلاقة بين اللون الأسود والسوء، أي علينا أن ننتبه في استخدامنا لكلمة أسود أو اللون الأسود لكي لا نتحول إلى عنصريين دون أن نعي ذلك. هناك مصلحات أخرى في اللغة العربية التي يفترض ان ننتبه إليها أو يفترض أن نتجاوز لغتنا الذكورية ونجعلها ذكورية أنثوية في آن واحد والتي سأعود إليها في مقال آخر.


337
د. كاظم حبيب
نحو معالجة جادة ومسؤولة لبعض لمظاهر السلبية في حركة حقوق الإنسان العراقية!
من ينظر قليلاً إلى الوراء ويستعيد مسيرة حركة حقوق الإنسان بالعراق، سيجد دون أدنى ريب، أنها قطعت شوطاً مهماً في التعامل مع وقائع انتهاك حقوق الإنسان والتجاوزات الثقيلة على المبادئ الأساسية التي تبلورت وتراكمت عبر الفترة الواقعة بين صدور اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول /ديسمبر 1948 والمواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي صدرت في النصف الثاني من العقد السابع من القرن العشرين حتى الوقت الحاضر، والتي شملت الكثير من اللوائح المهمة جداً مثل حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق السجناء السياسيين وحقوق المواطنين والمواطنات من أصل أهل البلاد وحق تقرير المصير للشعوب صغيرها وكبيرها والحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة...الخ، وهي بهذا المعنى قدمت بعض المنجزات المهمة لصالح حركة حقوق الإنسان وإنها قد اكتسبت خبرات قيمة يمكن أن تكون زاداً مهماً للوقت الحاضر ولقادم الأيام والأعوام.
إلا إن واقع الحال يقول بأن هذه الحركة الإنسانية النبيلة كان في مقدورها أن تقدم أكثر مما تحقق لها حتى الآن لو لم تكن تعاني من عدد من العلل التي تحولت عملياً إلى مشكلات تواجه العاملين والعاملات فيها، وعرقلت، وهي ما تزال تعرقل، ما كان يمكن أن ينجز لصالح الإنسان العراقي الذي كان وما يزال هدفاً أساسياً من أهداف قوى الاستبداد والقهر والتمييز والعنصرية والطائفية السياسية المقيتة والتمييز الصارخ ضد المرأة ومعاناة الطفولة، سواء أكانت هذه القوى في الحكم أم خارجه.
لا شك في أن بعض هذه العلل ذات طبيعة موضوعية ناشئة عن طبيعة المجتمع العراقي الذي يعاني من تخلف اقتصادي واجتماعي ومن قدرة القوى المناهضة لحقوق الإنسان من تزييف وتشويه وعي الإنسان في ظل الأمية والخراب الفكري والردة الاجتماعية التي تعم البلاد منذ ما يزيد عن خمسة عقود، إضافة إلى وجود فئات رثة تحكم البلاد منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة حتى الآن. وإذا كان الإرهاب قبل ذاك يمارس من حكومة صدام حسين، فأنه اليوم يمارس من جهات كثيرة بحيث حولت حياة الشعب العراقي إلى جحيم لا يطاق والخسائر البشرية لا تحصى ولا تعد. كما إن الفساد كان سائداً في فترة حكم صدام، واليوم تحول إلى نظام سائد ومعمول به وتمارسه السلطات الثلاث دون حياء. إن الفساد والإرهاب سائدان اليوم بشكل يصعب على الإنسان السوي تصوره لأن ممارسيه يشكلون جزءاً من قوى السلطة ومن خارجها، ولكن من الأحزاب الحاكمة.
وإذا كانت هذه العلل ناتجة عن واقع موضوعي قائم، ولكن هناك أيضاً تلك العلل الذاتية التي ترتبط بطبيعة العاملين والعاملات في هذا المجال، والتي لا تنفصل بطبيعة الحال عن واقع المجتمع ذاته ومستوى تطوره وتقدمه ووعيه.
ومثل هذه العلل القائمة لا تقلل من النجاحات المطلوبة والضرورية لحركة حقوق الإنسان لإنصاف المظلومين والمنتهكة حقوقهم الأساسية فحسب، بل إنها تضعف من التفاف الناس حولها ومن مصداقية العاملين والعاملات فيها أمام المجتمع، والتي تُستثمر بأبشع الصور من جانب المناهضين لحقوق الإنسان والساعين إلى إفشال جهودها ووجودها أصلاً، وهي التي تعتبر شوكة فعلية في عيون مغتصبي ومنتهكي حقوق الإنسان، بمن فيهم الحكومات المتعاقبة والمسؤولين على مستوى العراق كله. فما هي هذه العلل والمشكلات التي تواجه حركة حقوق الإنسان العملية؟
1.   مع الأهمية البالغة لوجود منظمات تدافع عن حقوق الإنسان العراقي في الداخل والخارج، إلا إن المشكلة تبرز في وجود عدد متزايد من هذه المنظمات التي تعود فعلياً لأحزاب سياسية حاكمة أو حتى غير حاكمة لا تلتزم بمعايير حقوق الإنسان. فهي تنتقد انتهاك الحكومة العراقية بحق حين تنتهك حقوق الإنسان بفظاظة، ولكنها تسكت حين تنتهك هذه الحقوق من جانب حكومة الإقليم أو مجالس المحافظات. وهي تنتهك الأحزاب السياسية التي تنتهك حقوق الإنسان، ولك نها تنسى انتهاك أحزابها والعاملين فيها حين تنتهك حقوق الإنسان. ومثل هذا الواقع يضعف مصداقية عمل منظمات حقوق الإنسان، في حين إن المنتهك لها هي بعض هذه المنظمات غير المستقلة. وهنا لا بد من التمييز السليم بين هذه المنظمات وتلك التي لا تلتزم بالمعايير الحقوقية لحركة حقوق لإنسان، رغم صعوبتها التمييز احياناً.
2.   إن الكثير من العاملات والعاملين في حركة حقوق الإنسان لم يدرسوا بعناية كبيرة مبادئ ومعايير حقوق الإنسان منذ العام 1948 حتى الوقت الحاضر والتي بلغت عشرات الوثائق واللوائح المهمة جداً. وبعضهم لم يقرأ بالتفصيل حتى اللائحة الدولية لحقوق الإنسان. إنها تشير غياب الرغبة في القراءة والتعلم والتفاعل مع هذه الوثائق وسبل متابعة انتهاك حقوق الإنسان. ومنظمات حقوق الإنسان الجادة يفترض فيها أن تساعد، لا في نشر وترويج هذه الوثائق واللوائح فحسب، بل وأن تُدّرسها للعاملين والعاملات فيها، لكي تحصنهم من وقوعهم بالذات بانتهاك حقوق الإنسان ضمن عائلاتهم أو في المحيط الذي يعملون فيه. وأرى بأن هذه المشكلة كبيرة حقاً، سواء بالنسبة لمن يعملون بداخل العراق أو خارجه، والتي تتجلى في ضعف الاهتمام بالاجتماعات والندوات التي تمس حقوق الإنسان.
3.   تجد هذه الوقائع انعكاساتها في العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين العاملين والعاملات في هذا المجال الحيوي الذي يستوجب التناغم والانسجام والتفاعل الودي بينهم وتبادل الخبرة والمعرفة. إذ تبرز المنافسات غير الودية والحساسيات وضعف الاحترام المتبادل والمشاكسات والشللية إلى حد بروز أحقاد وكراهية وعدم قبول الآخر أو العمل معه، وهي تجليات للحساسية المفرطة والمزاحية التي تقود إلى تدهور العمل أو إضعافه أو تى التخلي عن بعض الكفاءات بسبب كل ذلك أو بعضه. والتجارب التي مرت بنا تؤكد العواقب السلبية لهذه الظاهرة على عمل اللقاءات والمؤتمرات والاجتماعات التي تنظمها منظمات حقوق الإنسان.
4.   الفهم الخاطئ لمبدأ الحيادية في عمل منظمات حقوق الإنسان. فمنظمات حقوق الإنسان ليست حيادية إزاء المبادئ التي تعمل بها وتستند اليها في نشاطها. فليست هناك حيادية بين الضحية والجلاد، سواء أكان هذا الجلاد شخصاً أم جماعة أم حزباً أم حكومة، وسواء أكان الضحية من هذه القومية أو الدين أو المذهب أو الفلسفة أو الفكر الذي يحمله، فالإنسان هو الإنسان مهما كانت الخلفية القومية والدينية والمذهبية والفكرية التي يحملها، والانتهاك هو انتهاك ولا يمكن تفسيره بغير ذلك. والحيادية لا تعني السكوت بل عدم التمييز بين الضحايا أياً كان، وبين الجلادين أياً كان. فعلى سبيل المثال إن مارسنا النقد وشجب التجاوز على حقوق الإنسان من جانب الحكومة العراقية، لا يجوز بأي حال السكوت عن تجاوزت مماثلة تقوم بها حكومة إقليم كردستان على حقوق الإنسان أو المجالس المحلية في المحافظات مثلاً. هنا تستوجب الحيادية التامة، إذ أن انتهاك كرامة الإنسان بأي شكل كان هو تجاوز فظ على أهم مبادئ حقوق الإنسان ولا يجوز السكوت عن بعض منتهكيها وشجب غيرهم ممن ينتهك حقوق الإنسان. إذ عندها تفقد منظمات حقوق الإنسان في مثل هذه الحالة مصداقيتها وأساس عملها الإنساني النبيل. فلا حياء ولا خشية ولا سكوت على من يرتكب حقوق الإنسان بأي شكل كان، وبالتالي فمن نافل القول أن نؤكد بأن من يخشى النقد أو يهابه لأي سبب كان، عليه الكف عن العمل في هذا المجال إذ إنه أفضل له وللمنظمة التي يعمل فيها. وهي أفضل من ممارسة التمييز وغياب الحيادية الضرورية.
5.   بسبب ضعف اهتمام الكثير من أعضاء منظمات حقوق الإنسان بالداخل والخارج بقضايا حقوق الإنسان ، فأن المسؤولين غالباً ما يتخذون قرارات فردية أو لا يعودون إلى هيئاتهم القيادية للمداولة واتخاذ القرار المناسب بهذه القضية أو تلك. وتبقى المسألة محصورة بالأمين العام أو أي تسمية له تمنحها النظم الداخلية. وعدم أو ضعف الاهتمام يساهم في اعتياد المسؤول في عدم العودة للهيئة القيادية أو للهيئة العامة في أهم الأمور التي تستوجب المداولة والمناقشة واتخاذ القرار الشرعي.
6.   أغلب العاملين في مجال حقوق الإنسان جاءوا من مواقع سياسية ثلاثة، إضافة إلى مجموعة من المستقلين، والمواقع:
** الحركة القومية العربية أو الحركة القومية الكردية؛ ** الحركة اليسارية؛ ** الحركة الإسلامية السياسية. وغالباً ما يكون هؤلاء مشدودين إلى أحزابهم السياسية ويصعب عليهم اتخاذ موقف الحياد إزاء احتمال ممارسة أحزابهم لانتهاكات معينة لحقوق الإنسان. إن المتابعة الفعلية لعمل تنظيمات حقوق الإنسان على مدى الفترة الواقعة بين 1980 حتى الوقت الحاضر، يمكن تأكيد حقيقة إن الكثير من هذه التنظيمات لم تكن حيادية نهائياً أو بالشكل المطلوب الذي تستوجبه لوائح حقوق الإنسان. وحين تكون هذه القوى خارج السلطة، فأنها تكون مستعدة لشجب ممارسات الحكم، وحين تكون قواها أو أحزابها بالسلطة تنسى حقوق الإنسان. ويمكن أن نؤكد ذلك بالنسبة للجميع خلال العقود الخمسة أو الستة المنصرمة. ولا بد لهذه الحالة من أن تتغير وأن تستقل منظمات حقوق الإنسان عن الارتباط بهذا الحزب أو ذاك، وأن تعزز من استقلاليتها. هذا لا يعني أن أعضاء منظمات حقوق الإنسان، قيادة وقاعدة، لا يجوز لهم أن يعملوا في احزاب سياسية، ولكن عليهم أن يخلعوا رداء حزبيتهم حين يعملون في منظمات حقوق الإنسان. أما المنظمات المرتبطة بقوى الإسلام السياسي فأن مبادئ حقوق الإنسان ترفض تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي أو عنصري، وبالتالي فأن وجودها يعتبر مخالفة صريحة لمبادئ حقوق الإنسان.
7.   الظاهرة السلبة الأخرى تبرز في وجود رغبة في الظهور والروح الاستعراضية، ففي المؤتمرات ينشطون ويلتقطون الصور وينشرونها مع تعليقات عن مشاركتهم أو زيارتهم السريعة "ليتفقدوا" النازحين، ولكن في العمل الفعلي على مدار السنة لا تجد لهم حضوراً واعياً وفاعلاً ف ي الدفاع عن حقوق الإنسان. وهي المسألة التي يفترض تشخيصها بأمل أن ينتبه هؤلاء لأهمية مشاركتهم في العمل وليس لاستعراض مشاركتهم الشكلية  فقط، وهي ملاحظة لا تهدف للإساءة لأحد.
8.   إن مبدأ التضامن بين منظمات حقوق الإنسان في نضالها ضد انتهاك هذه الحقوق يعتبر واحداً من أهم المبادئ الذي يفترض أن تمارسه هذه المنظمات، فهو أحد الأدوات الأساسية بيد ضحايا النظم الاستبدادية واللاديمقراطية في الدفاع المشترك ضدها وإثارة الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي ضد الجلادين ومنتهكي حقوق الإنسان. كما إن التضامن يسهم في تعريف منظمات حقوق الإنسان العراقية للمنظمات الأخرى في سائر أرجاء العالم من جهة، ويمنحها فرصة الحصول على التضامن من منظمات مماثلة لها في الدول الأخرى، لاسيما وإن العراق يعيش منذ ما يقرب من ستة عقود تحت سياط الجلادين ومنتهكي حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، حين قررت هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراقمسيحيين الأقباط بمصر بعد الاعتداءات الغاشمة وإشعال الحرائق في الكنائس وقتل الكثير من البشر، وقتل الكثير من البشر، اعترض أحد الأشخاص وطالب بحصر عمل الهيئة في شؤون العراق فقط. وقد رُفض هذا الطلب من الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب وأشارت إلى أهمية هذا النوع من التضامن حتى من جانب التضامن معنا ونحن بأمس الحاجة له بالعراق. التضامن بين منظمات حقوق الإنسان لصالح الإنسان وحقوقه مسألة ضرورية وأساسية ولا يجوز التخلي عنها بأي حال.
أتمنى على منظمات حقوق الإنسان مناقشة هذه الملاحظات وتشخيصها بكل صراحة ووضوح للتخلص منها لصالح العمل وتقدمه ولصالح الإنسان العراقي. ويمكن أن تلعب مواقع حقوق الإنسان والمجلات دورها في هذا المجال. لقد ابتعدت عن تشخيص المنظمات أو الأشخاص، لأنها ظواهر عامة تشملنا جميعاً وتدعونا جميعاً للتعاون من أجل إزالتها وتحسين عملنا، إذ إن ما ينتظرنا أكثر بكثير مما مررنا به حتى الآن في مجال انتهاك حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب الدينية والفكرية والسياسية.   

338
كاظم حبيب
كفوا عن الضحك على ذقون الشعب، كفوا عن مهازلكم!!
الأحداث الجارية على أرض الواقع بالعراق تشير إلى عدد من المسائل السلبية والمتفاقمة التي أحاول هنا تلخيص أبرزها في الآتي:
** محاولات محمومة يمارسها رئيس الوزراء الأسبق للإساءة إلى القوى المدنية والعلمانية الديمقراطية والتحريض ضدها بمختلف السبل، تماما كما أجج بسياساته الطائفية الشرسة قبل ذاك الصراع ضد المواطنين والمواطنات من أتباع المذهب السني في الأنبار والفلوجة وصلاح الدين والموصل، ومن ثم خطابه التعس بمدينة كربلاء حين طرح بعنجهية فارغة إن "الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا .... المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد..."، بدعوى فجة ومريبة وظالمة إن أهل السنة كلهم من أتباع يزيد بن معاوية، ولذلك لا بد لأنصار الحسين، أي الشيعة، من خوض الصراع ضدهم! إنها الهستيريا بعينها!
** وعلى ذات النسق بدأت حملة شعواء تمارسها مجموعة من أصحاب العمائم، وهم جمهرة من شيوخ دين سياسيين انحازوا ضد إرادة ومصالح الشعب حين راحوا يؤججون المشاعر وكأن الشبيبة العراقية كلها بدأت تنحاز صوب الإلحاد. وهم يعرفون إن ليست هناك مثل هذه الظاهرة، بل إن هناك رفضاً متعاظماً واحتجاجاً ضد شيوخ الدين الفاسدين والمتربعين على راس السلطة وفي الأحزاب الإسلامية السياسية الذين مسخوا الدين بسلوكهم اليومي المناهض لمصالح الشعب. ويقف على رأس هؤلاء نوري المالكي وعمار الحكيم، وبعضهم يعيد إنتاج تاريخ جدهم الأسود في هذا المجال.
** وانسجاماً مع هذا التوجه بدأ أئمة الجوامع والمساجد يشنون حملة ظالمة ضد القوى المدنية الديمقراطية وضد والشيوعيين، وهم ينهلون من ترسانة ذات شيوخ الدين الذين ارتضوا السير بركاب المستعمرين واستجابوا للقوى الفاشية في شتم الشيوعيين والديمقراطيين وتكفيرهم بدعوى الإلحاد!
** وبدأت في ذات الفترة موجة من التصريحات لقادة الحشد الشعبي، الذي اُعتبر من جانب السلطة وبقانون إنه يشكل جزءاً من القوات الخاضعة للقائد العام للقوات المسلحة، وهي بالتالي قوة عسكرية لا يحق لها، كحشد وكأفراد، المشاركة في العمل السياسي، وهم يطالبون بأن يكون رئيس الوزراء من الحشد الشعبي، وبتعبير أدق من قوى المليشيات الشيعية الطائفية المسلحة، التي ارتكبت الجرائم بحق الشعب العراقي قبل أن يطلق السيد السيستاني فتوى الجهاد الكفائي، وتنخرط فيه قوى من المليشيات الشيعية المتطرفة، التي قال عنها نوري المالكي إن هو مؤسسها، والموجود من المليشيات الشيعية المسلحة في المدن العراقية، وبعيداً عن الجبهة، يمارسون أساليب إذلال الشعب تماماً كما تمارسها المنظمات الإرهابية الأخرى. اقرأوا تصريحات قيس الخزعلي وهادي العامري بهذا الصدد!
** وفي هذه الفترة ترفض الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية المهووسة بالطائفية والسيطرة على الحكم تغيير قانون الانتخابات وبنية "المفوضية المستقلة للانتخابات"، وهي التي فقدت مصداقيتها في أعين الشعب العراقي، ويستوجب تبديلها على أسس أخرى تماماً بعيداً عن المحاصصة الطائفية في تكوين عضويتها. وإصرار قوى الإسلام السياسي على ذلك مخالفة صريحة وفجة للدستور العراقي!
إن الضجة التي يثيرها الإسلاميون السياسيون ضد شبيبة العراق وضد القوى الديمقراطية بذريعة الإلحاد تعتبر مخالفة لبنود الدستور العراقي، التي تضمن الحريات والحقوق الأساسية للفرد، للمواطن والمواطنة، تضمن حقه في اعتناق الدين الذي يشاء أو العقيدة التي يراها تنسجم مع توجهاته وفلسفته، والعقيد لها وجوه كثيرة. ولم يكن عبثاً تسجيل الدستور هذه الحقوق في أكثر من مادة دستورية، وخاصة حرية العقيدة والتي لا تقتصر على دين واحد بعينه أو على أديان عدة. 
** كما إن المحور الذي تشكل بعد زيارة رئيس مجلس النواب إلى إيران والمتكون منه ومن نوري المالكي وعمار الحكيم وبعض الأحزاب الشيعية الأخرى هدفها، إعادة نوري المالكي أو أحد قياديي الحشد الشعبي إلى رئاسة الحكومة العراقية وبموافقة بعض القوى الكردية. وهو أمر يخالف العقل والمنطق، يخالف ما جرى ويجري للعراق بسبب وجود طائفيين متطرفين، من أمثال رئيس الوزراء السابق، على رأس السلطة التنفيذية.
إن هذه الوقائع لا تجري بمعزل عن الدور الرئيسي الذي تمارسه إيران بالعراق. وكل تلك الوقائع تسمح لي بالاستنتاج الذي طرحته قبل عدة شهور بأن الدولة العراقية تعتبر اليوم "دولة شبه مستعمرة" لدولة إيران الإسلامية السياسية المتطرفة، سواء اعترف البعض بذلك أم لم يعترف، فالحاكم بأمره بالعراق هو قاسم سليماني المرتبط مباشرة بالمرشد الإيراني وبنوري المالكي، تماماً كما كان باول بريمر، الحاكم باسم البيت الأبيض بالعراق، وكان يفعل ما يشاء بغير حساب!
ويتجلى هذا الواقع المرّ بوضوح كبير في تقرير "مجموعة عمل مستقبل العراق" الذي أعدته لجنة أمريكية برئاسة السفير الأمريكي ريان كروكر، الذي وضع نصب عينية مصالح الولايات المتحدة أولاً وقبل كل شيء، في مواجهة النفوذ الطاغي والمهيمن للقيادة الإيرانية على العراق وقراراته ولمصلحة إيران مباشرة. فهنا يلاحظ المراقب إن صراع المصالح بين الولايات المتحدة وإيران وحلفاء الاثنين بالعراق والمنطقة يجري على أرض العراق وعلى حساب مصالح الشعب العراقي وإرادته واستقلال بلاده وسيادتها المفقودة.   
إن منطقة الشرق الأوسط تغلي بالصراعات بين قوى لا تريد الخير للعراق وشعبه وتريد الهيمنة عليه، وهي تريد استخدام العراق ساحة لصراعاتها وفرض مصالحها على حساب مصالح الشعب العراقي. ولا يمكن لقوى الإسلام السياسي الحاكمة أن تقود البلاد إلى شاطئ الأمن والسلام والتقدم، لأنها جزء من هذا الصراع المناقض لمصالح البلاد فهي امتداد لغيرها من القوى الإقليمية الفاعلة بالعراق، فهي ومصالح الشعب على طرفي نقيض.
ليس من مصلحة العراق أن يكون طرفاً في هذه الصراعات التي تخاض زوراً باسم المذاهب الدينية وتريد زج شعوب المنطقة بها، في حين إنها ليست سوى صراعات تعبر عن مصالح الفئات الحاكمة والمتحكمة بشؤون شعوبها والجاثمة على صدور الناس، وتريد الهيمنة على العراق. وليس في مقدور القوى الحاكمة حماية العراق وشعب العراق من هذا الصراع الدائر بالمنطقة لأنها تشكل جزءاً من هذا الصراع وامتداداً له، وهو الذي يفترض أن تفهمه شعوبنا لتتصدى له وتفرض إرادتها بتغيير جذري للواقع الراهن، وألّا تخشى من تهديدات من يحاول تصوير العراق وكأنه أصبح "مرتعاً للإلحاد"، كما حاول ذلك عمار الحكيم تصويره في خطبته الفجة الأخيرة. علينا ألّا ننسى الكذبة الكبرى التي كان يطلقها هتلر وگوبلز كلما أحسا بالضيق: "افتروا، ثم افتروا، ثم افتروا، لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس!". لقد خدعتم الشعب كثيراً وطويلاً، وأملي ألّا ينخدع الشعب هذه المرة، فالإنسان العاقل يفترض ألّا يلدغ من جحر مرتين!!!               



339
كاظم حبيب
وفاء لنضال رفيق الدرب الطويل الرفيق عزيز محمد بعد وفاته
وفاءً لمناضل كرَّس حياته للوطن والشعب والحزب والتضامن الأممي

صورة التقطت في كانون الأول/ديسمبر 1983 في وادي لولان بإقليم كردستان العراق أثناء وجودنا في حركة الأنصار الشيوعيين

حتى أيامه الأخيرة كان الرفيق عزيز محمد يحمل هم الوطن كله، هم العراق وشعب العراق، هم كردستان وشعب كردستان، هم الإنسان العراقي، هم الحزبين الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني، هم وجود قوى غير إنسانية على رأس السلطة. كانت اللقاءات به كلها ممتعة ونقاشاته رصينة تدور حول همومه العامة وليس الخاصة. كان شديد الحرص على إيصال رأيه ونقده بصراحة ووضوح لمن يعنيهم الأمر، رغم رغبته في صياغة ملاحظاته في قالب غير خادش لمستمعيه لإدراكه بحساسية الآخرين في ظل الظروف المعقدة والمتشابكة الجارية بالعراق منذ سنوات. قال لي: إن الرفاق لا يتقبلون ملاحظاتي الصريحة والناقدة بصدر رحب، فمن حرقتي وحرصي عليهم أواجههم بكل صراحة. ذكرته مرة بأنه قال لي، حين وجهت نقداً شديدأ وحماسياً في اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في العام 1974 ببغداد بشأن موضوع محدد: يا رفيق أبو سامر كسرت الرگية (بطيخة حمراط)، وضيعنا الحب واللب". فضحكنا معاً..
رغم كل الأوضاع المتدهورة، ورغم الوضع الصحي الصعب، لم يفقد الأمل، ولو للحظة واحدة، بعودة الحياة والحركة للشعب العراقي ولشعب كردستان، ولكنه كان يخشى أن يخسر العراق المزيد من الضحايا في تحرير الأرض وإعادة البناء والخلاص من القوى المستبدة والقوى التي تسببت بكل ذلك. في زيارتين قمت بهما له بأربيل في كانون الثاني/يناير 2017 كان ما يزال حيوي في نقاشه وفي طرح وجهات نظره، رغم بطء حركته. وكان الحزب الشيوعي الكردستاني على وشك أن يعقد مؤتمره السادس. كانت ذاكرته نشطة، تحدث لي عن التقرير والبرنامج والملاحظات التي تكونت لديه والتي سيطرحها على المؤتمرين ورغبته في أن يستعيد الحزب عافيته وجماهيريته، رغم كل الصعوبات المحيطة به وبالحركة الديمقراطية. وكان يخشى أن لا تستقبل ملاحظاته بصدر رحب! كانت ذاكرته نشطة جداً، سواء أكانت لماضي الأيام والسنوات، أم للفترة الت نحن فيها. إذ كان متابعاً للأحداث أولاً بأول، سواء على صعيد كردستان أم العراق، أم المنطقة العربية والشرق الأوسط. وكان الحوار معه ممتعاً وغنياً.
تحدثت له قبل ذاك عن كتاب جديد للمناضل البروفيسور الدكتور محمد محمود من السودان، المقيم قسراً ببريطانيا، والموسوم "نبوة محمد – التاريخ والصناعة – مدخل لقراءة نقدية"، [صادر عن مركز الدراسات النقدية للأديان، لندن، بريطانيا، سنة النشر: ط 2 /2013، 472 صفحة]. شوقته لقراءة الكتاب. جلبته له، قرأه في فترة قصيرة، أعجب به أيما إعجاب بسبب معالجته العلمية والوثائقية لمسألة النبوة عموماً. كان عزيز محمد كثيف القراءة، نهم بمعنى الكلمة، ولكنه كان شحيح الكتابة.
كنا رفيقين في حزب واحد وعملنا معاً ومع بقية الرفاق عشرات السنين، ولكن على امتداد تلك السنوات لم نكن صديقين بالمعنى الصحيح للكلمة، إلا في السنوات العشر الأخيرة تقريباً، حيث واظبت على زيارته كلما زرت كردستان العراق، مرة بمفردي وأخرى مع زوجتي أم سامر وثالثة مع صديقنا المشترك الحاكم بوتان، فتوطدت علاقتنا الصداقية وتعززت وحاول بعضنا معرفة الآخر بشكل أفضل. وحين كان يأتي إلى برلين لزيارة ابنته العزيزة شيرين، كان لا يفوت فرصة اللقاء والحديث وتبادل الرأي.
آخر زيارة لي له، سواء أكان مع عدد من الأحبة، ومنهم نهاد القاضي، وغالب العاني وعبد الخالق زنكنة وفارس نظمي ومحسن شريد ووليد شريف، أم بمفردي، وقبل مغادرتي أربيل، حين قبلته في جبينه وودعته أدركت، إن حادث الوقوع ليلاً والعملية الجراحية التي أجريت له قد أنهكته تماماً وسرقت منه رحيق الحياة، ولن يعيش طويلاً. أخبرت الرفاق حيدر الشيخ علي وكمال شاكر وهادي محمود، وكذلك رفاق المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراق الذين كانوا حينذاك بأربيل، وكانت آراء من التقى به متفقة  مع ما شعرت به وأنا أودعه، وهو يرسل تحياته لأم سامر وبقية الرفاق والأصدقاء. وكان في انتظار ابنتيه فينك وشيرين وزوجته كافية.
لقد مات الرفيق عزيز محمد، ولكنه ترك أرثاً غنياً من النضال الوطني والطبقي في صفوف الحركة الوطنية العراقية وحركة التحرر الكردية وفي صفوف وقيادة الحزب الشيوعي العراقي. لقد قاد الحزب الشيوعي العراقي طوال 27 عاماً في أصعب السنوات وأكثرها تعقيداً وحراجة. لقد أصاب مرة وأخطأ أخرى، لم يكن وحده في ذلك، بل شاركنا معه في الصواب والخطأ، سواء أكان ذلك في المكتب السياسي أم اللجنة المركزية أم في عموم الحزب.
لقد جاء عزيز محمد من قرية كردستانية صغيرة في شمال كردستان العراق، لم يكمل تعليمه، ولكن بنضاله الشخصي ودأبه على المطالعة والقراءة النقدية أصبح قائداً لحزب شيوعي عراقي، واحداً من أبرز وأكبر الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية والشرق الأوسط في فترة من فترات نضاله المديد. لم يكن، ولم يدّعِ يوماً أنه واحداً من منظري الحركة الشيوعي العالمية، ولكنه كان واحداً من خيرة مناضلي الحركة الشيوعية العالمية، الذي لم يفقد بوصلة النضال الوطني والطبقي ولو للحظة واحدة حتى الرمق الأخير. لقد كان مخلصاً لتراث وتقاليد الحزب الشيوعي العراقي في حبه للطبقة العاملة العراقية والفلاحين والكسبة والحرفيين ولمثقفين الثوريين ومن كل القوميات، ولم ينس يوماً إنه قد انحدر من عائلة فقيرة ولكنها كريمة، ومن أمة كردية عزيزة وشعب كردي مناضل، إنه كردي القومية، عراقي الوطنية، وأممي الهوية والمبادئ.
فقدنا عزيز محمد، الرفيق والأخ والصديق والمناضل، ولكن ترك خلفه تجربة غنية يمكن للحزبين الشيوعي الكردستاني والشيوعي العراقي وللحركة التحررية الكردستاني والحركة الديمقراطية العراقية ان تستفيد منها في نضالها المرير في المرحلة الراهن وفي المستقبل.
ليبقى عزيز محمد ونضاله البطولي شعلة وهاجة، كشعلة بقية شهداء الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية والديمقراطية واليسارية العراقية، تنير درب المناضلين من اجل إقامة وطن حر وشعب سعيد.
وبهذه المناسبة الحزينة أنشر أخر مقال كتبته عن الرفيق عزيز محمد ونشر على موقع الحوار المتمدن-العدد: 5163 بتاريخ 15/05/2016. أي قبل عام من تاريخ وفاته تقريباً.       
الرفيق عزيز محمد في حواره الممتع مع الصحفي حمدي العطار (الزمان) / كاظم حبيب

ليس سهلاً بالمرة الحصول على لقاء صحفي مع الرفيق عزيز محمد، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي العراق. فهو مستودع أسرار الحزب الداخلية وعلاقاته الإقليمية والدولية، والأممية منها على وجه الخصوص، ولعقود عديدة خلت. وإلى الآن، وهو يقترب من نهاية الثانية والتسعين من عمره المديد. يمتلك رأياً واضحاً وناضجاً في كل ما يجري بإقليم كردستان العراق، والعراق عموماً، وفي منطقة الشرق الأوسط، وعلى الصعيد الدولي. فهو متابع سياسي واجتماعي وثقافي نشط، وقارئ هميم ونهم للكتب، وله ذاكرة نشطة عن أحداث وشخصيات الماضي والحاضر، ولم تفته حتى الآن أحداث العراق الدامية ببغداد أو نينوى أو الأنبار أو غيرها، فهو قريب منها ويعاني مع الآخرين من عواقبها. إنها ليست بسمات جديدة لدى الرفيق عزيز محمد، بل هو معروف بها. عزيز محمد مستمع ممتاز، وقليل الكلام، ويتحدث حين يُسأل، عندها يدرك المقابل إنه أمام شخص يمتلك معرفة جيدة ومعلومات كثيرة وخبرة غنية. إنه لبق في أحاديثه، مالك لزمام اللغة العربية. جمله قصيرة غير معقدة، واضحة، ودقيقة، كمن ينقش في الحجر. إن ما قرأته له حتى الآن كان قليلاً، ولكنه كان واضحاً ودقيقاً في ما كتب. عزيز محمد مثقف عضوي ناضل منذ نعومة أظفاره، ولم يتخل عن ذلك حتى في شيخوخته الراهنة، وهو مقتنع تمام القناعة بما ناضل ويناضل من أجله، مشحوناً بإيمان إضافي بالقضية ذاتها، قضية الفكر الماركسي والنضال من أجل الاشتراكية، والتي تعني عنده العدالة الاجتماعية وسعادة الشعوب وازدهارها وسلامها الدائم، وغياب الاستغلال والاستعباد والحروب والدمار. وعلى هذا الطريق الطويل والصعب، طريق اليسار الاشتراكي، أو الشيوعي، لا يمكن للإنسان أن يصيب دوماً، فهنا يصيب وهناك يخطئ، وهي من سمات الأنسان الطبيعي. وكما قال عيسى المسيح "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". وكمناضل من أبناء شعب كردستان وشعب العراق، وضع نفسه في خدمة قضيتين متلازمتين، قضية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية للعراق كله من جهة، والحقوق القومية للشعب الكردي وبقية القوميات بالعراق من جهة ثانية. وقد تجلى كل ذلك في النضال من أجل الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي، ومن ثم الفيدرالية وحق تقرير المصير للشعب الكردي. وكان واثقاً من أن النضال المشترك للعرب والكرد وبقية القوميات هو الطريق الوحيد لتحقيق الشعارات والأهداف الوطنية والقومية والديمقراطية. وقد التزم بثبات بشعار الحزب " وطن حر وشعب سعيد". إنه أبن بار للشعب العراقي وللشعب الكردي في آن، وهو ما ميزه في نضاله المديد. وهو يناضل في العراق ومن أجل شعب العراق بكل قومياته، لم ينس قضيتين مهمتين في نضاله: حركة التحرر الوطني العربية ومنحها الكثير من وقته وجهده، وبضمنها قضية الشعب الفلسطيني وعدالة هذه القضية ودعوته ضمن نضال الحزب لدولتين متعايشتين بأمن وصداقة وسلام على الأرض الفلسطينية، الدولة الفلسطينية والدولة الإسرائيلية، وقضية الأرض والأمة الكردية الموزعة والمقسمة على أربع دول في منطقة الشرق الأوسط ووحدتهما، وحدة الأرض والأمة الكردية. لقد كان عزيز محمد، وما يزال، من الملتزمين بشعار مرحلة النضال ما بعد الحرب العالمية الثانية، الشعار المركزي الذي رفعه الحزب بقيادة الرفيق فهد, وكتب عنه حسين محمد الشبيبي كراسه المعروف "الجبهة الوطنية الموحدة"، وأكده في فترة توليه قيادة الحزب الشيوعي العراقي، بغض النظر عن المصاعب والملابسات التي رافقت تطبيقه في نضال وتاريخ الحزب الطويل. 
إن عدم رغبته في اللقاءات الصحفية ينبع من تجنبه الخوض في، أو الانجرار إلى، قضايا لا تعتبر حتى الآن ماضياً منتيهاً، بل هي ما تزال حاضراً مستمراً، تستوجب الدقة في فهمها والتعبير عنها أو حتى إعطاء الحكم بشأنها من جهة، وخشيته من احتمال تشويه تصريحاته لغرض في نفس يعقوب، أو لسبق صحفي غير صحيح، أو لعدم فهم محاوره محتوى ما أراد قوله وصاغه بالطريقة التي فهمها من جهة ثانية، إضافة إلى ابتعاده عن احتمال حصول إساءة لمن اساءَ إليه، وتجنبه الإساءة لمن يستحق ذلك، كجزء من تربيته العائلية والحزبية. في فترة النضال المشترك والمستمر اتفقنا واختلفنا في الرأي، وهو أمر طبيعي، وربما ضروري، حين يكون غير مفتعل، ولكن لم يؤثر على العلاقات الإنسانية والاجتماعية، على العلاقة الرفاقية والصداقة، وعلى الود والاحترام المتبادلين.         
اللقاء الحواري الأخير، الذي تم مع الكاتب والصحفي السيد حمدي العطار (جريدة الزمان)، الذي وجه له الكثير من الأسئلة المهمة في مجالات كثيرة ومهمة، ابتداءً من أوضاع الحزب في السابق وحالياً وعن الحزب الشيوعي الكردستاني وسبب قيامه، وعن الدول الاشتراكية وعوامل انهيارها، وانتهاءً بالأسئلة عن الشيوعية وآفاقها وعن الأوضاع بالعراق وكردستان العراق، كان مهماً وحيوياً، رغم إن جزءاً من الحوار لم نطلع عليه ولم ينشر. ويبدو لي إن هذا اللقاء هو استكمال للقاء الذي أجراه الصحفي المميز والصديق توفيق التميمي قبل عدة سنوات، مع ملاحظة مهمة هي أن هذا الحوار كان أكثر قدرة في التعبير عن رأي الرفيق عزيز محمد بشأن واقع الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الحزب الشيوعي وقيادته في الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الاشتراكية، وهي مسألة مهمة جداً وضرورية.، إذ كان لهذه الأخطاء الفادحة تأثيرها السلبي الكبير على مجمل الحركة الشيوعية العالمية وحركة اليسار العالمية وحركة التحرر الوطني بالبلدان النامية، ومنها العراق.   
لا أنوي المرور على كل المحاور التي تطرق لها الرفيق عزيز محمد، رغم أهميتها والحاجة إلى مناقشتها، بل سأركز على نقطة واحدة مهمة حقاً طرح رأيه فيها ولأول مرة وعلى النحو التالي: "إن انهيار الاشتراكية أو دول المعسكر الاشتراكي لا يتعلق بفشل الاشتراكية، بل ترتبط بالممارسة والتطبيق والأخطاء المرتكبة من قبل الأحزاب الشيوعية الحاكمة...، إن الاشتراكية ستبقى هدفا تناضل البشرية من أجله، ما دام هناك الاضطهاد والتفاوت الطبقي والاجتماعي، لا بد أن تنتصر الاشتراكية في النهاية." (جريدة الزمان، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي العراقي عزيز محمد في حوار مع (الزمان): الأحزاب الشيوعية الحاكمة فقدت مصداقيتها وتحولت إلى نخب ذات امتيازات، حمدي العطار، عدد يوم الثلاثاء 10/5/2016).
هذا التقدير الذي طرحه الرفيق عزيز محمد، وفيه تفاصيل مكثفة لرؤيته للأخطاء التي ارتكبها قادة الدول الاشتراكية من الناحيتين النظرية والعملية، وفقدان الحس الثوري، وفقدان العلاقة الحميمة مع المجتمع، وعدم فهم الحرية باعتبارها وعي الضرورة، وهي مقولة فلسفية تجسد الرؤية السليمة لضرورة الحرية في المجتمعات الاشتراكية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وهو الجزء الأول من الفكرة التي طرحها عزيز محمد، أما الجز الثاني منها فيكمن في حقيقة إن الاشتراكية قادمة لا ريب في ذلك، إنها مستقبل البشرية، وهو استنتاج سليم جداً، ويعبر عن فهم لطبيعة وفعل القوانين الخاصة والعامة للنظام الرأسمالي العالمي أولاً، وعن فهم لطبيعة وحركة وفعل قوانين التطور الاجتماعي ثانياً. وما يجري بالدول الرأسمالية المتقدمة وفي العلاقات الداخلية بين الطبقات والفئات الاجتماعية من جهة، والعلاقة بين هذه الدول والدول النامية، أو حركات التحرر الوطني، ونضالها من أجل التقدم الاجتماعي من جهة ثانية، يدلل بما لا يقبل الشك بأن الصراعات الطبقية والتفاوت المتفاقم والفجوة المتسعة بين مالكي وسائل الإنتاج، ومالكي قوة العمل الجسدية والفكرية، بين الأغنياء والفقراء، آخذة بالتنامي المتباين في سرعته بين دولة وأخرى، والذي يعيد الصراع الذي تفاقم في أوائل القرن العشرين، متخذاً اليوم نهجاً مماثلاً، مع فارق أساسي، يبرز في كون يتم في ظل النظام الرأسمالي الأكثر عولمة، والأكثر استغلالاً، والأكثر هيمنة على العالم، والأكثر فساداً وتدميراً لثروات وموارد الشعوب، والمقترن بمنجزات الثورة العلمية والتقنية، ثورة الاتصالات والمعلومات، ثورة الإنفوميديا Infomedia Revolution  الجارية، التي تتضمن الجمع بين الحوسبة والاتصالات والإعلام أو المعلوماتية.       
قبل أكثر من عشرين عاماً نشرت مقالاً في جريدة الزمان، جرى تشويه عناوينه الداخلية، فقاطعت النشر في الجريدة منذ ذلك الوقت حتى الآن. إذ شوه محرر الجريدة ما كتبته، عندما وضع عنوان ثانوي كان كما يلي: " يقول حبيب الاشتراكية سقطت وإلى الأبد"! قدمت احتجاجاً للجريدة، إذ لم يكن هذا العنوان ولا مضامين المقال تشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، بل كان من عنديات محرر الجريدة، إذ إن المقال، ومقالات كثيرة أخرى ومحاضرات قدمتها في مختلف الدول الأوروبية وفي ندوات كانت وما تزال تؤكد ما أشار إليه الرفيق عزيز محمد، حيث اكدت ذلك وفي محاضرات ولقاءات ومقالات كثيرة يمكن أن يعثر عليها القارئ أو القارئة في موقع الحوار المتمدن:
** الرأسمالية لها بديل، إنها الاشتراكية، ولكن متى يمكن البدء ببناء الاشتراكية؟ إنه السؤال الأهم. إن مستلزمات تكوين البديل تنشأ في رحم النظام الرأسمالي، ولا شك في أنها ستتخذ وقتاً غير قصير، وإن الرأسمالية ما تزال تمتلك رصيداً لم يأت أجلها النهائي.
** إن انهيار أو سقوط الدول الاشتراكية القائمة في الواقع:
•   لا يعني بأي حال من الأحوال انتصار الرأسمالية على الاشتراكية؛
•   ولا يعني بأي حال من الأحوال فشل الاشتراكية كفكر وكأسلوب إنتاج بديل عن أسلوب الإنتاج الرأسمالي.
•   وإن سقوط النظم الاشتراكية القائمة في الواقع ارتبط بأخطاء فكرية وسياسية، نظرية وعملية، من جانب من قاد الدول الاشتراكية منذ البداية، وبشكل خاص قاد الدولة السوفييتية، وهم الذين كانوا يقودون الدول الاشتراكية بعد قيامها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي كان يقود الحركة الشيوعي العالمية، ويؤثر بقوة على مجمل الحركة اليسارية العالمية إيجاباً أو سلباً.
•   وأن الأحزاب الشيوعية وقادة الدول الاشتراكية لم يعوا بما فيه الكفاية، العلاقة الجدلية بين الاشتراكية والحرية، بين العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان الأخرى، بين الواقع والحلم، وتعجلوا كثيراً في حرق المراحل التي لا يمكن ولا يجوز القفز عليها، وأساءوا بذلك للمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية وللنظرية العلمية التي قال عنها انجلز بـ "إن الماركسية ليست عقيدة جامدة، بل نظرية هادية". لقد سقطوا في رؤية رغائبية ذاتية بحتة، بدلاً من اعتماد واستخدام أدوات التحليل العلمي للوصول إلى الاستنتاجات التي يقررها الواقع الفعلي القائم وتتناغم مع قوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي الموضوعية.
•   إن العراق والدول العربية وغالبية الدول النامية ما تزال تعيش في ظل العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية أو الرأسمالية المتخلفة والتابعة واقتصاداتها مكشوفة على الخارج استيراداً وتصديراً، كما تعاني من ضعف شديد في مستوى تطور القوى المنتجة، والوعي الاجتماعي ما يزال متخلفاً بسبب تخلف بنية الاقتصاد وما يقترب به من تخلف في البنية الطبقية للمجتمع، مما يجعل من الاشتراكية مرحلة لاحقة لمهمات أخرى، أي إن هذه البلدان، ومنها العراق، هي ما تزال في مرحلة البناء الديمقراطي للتخلص من بقايا علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية وبنيتها الاجتماعية والوعي الاجتماعي الناجم عنها، أي إنها ما تزال تواجه تنمية العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الوطنية، وبمشاركة واعية من قطاع الدولة والقطا الخاص، وبناء القاعدة المادية للتحولات اللاحقة. إنها المرحلة التي تستلزم تعاون وتحالف الطبقات الاجتماعية الوطنية التي يهمها تحقيق التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والوعي الاجتماعي.     
إن الشعوب التواقة إلى الحرية والاشتراكية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والأمن والسلام في العالم، ستبقى تناضل ضد الاستغلال والاستعباد، ضد الفساد ونهب الخيرات، وضد العدوان والحروب والإرهاب الفكري والسياسي. إن سقوط الدول الاشتراكية، وأسباب ذلك معروفة، ويشير إليها باختصار وصواب شديد الرفيق عزيز محمد، قد منح الدول الرأسمالية المتقدمة فرصة ثمينة للاستفراد بالشعوب واسترداد المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة والشعوب المناضلة عبر مسيرتها الطويلة، وتكشف من جديد عن بشاعة وجه الرأسمالية المعولمة وممارساتها الفعلية، وعن استعدادها لتشديد الاستغلال، ونهب الخيرات، وشن الحروب الإقليمية وتأجيجها، وتشديد سباق التسلح في العالم، وتشكيل منظمات إرهابية للاستفادة منها ضد نضال شعوبها، كالقاعدة، وداعش، وجبهة النُصرة، وأحرار الشام، وبوكو حرام، وأنصار السنة، وميليشيات طائفية مسلحة شيعية، على سبيل المثال لا الحصر، وتحقيق أقصى الأرباح من خلال التأثير المباشر على حكومات الدول التي تأتمر بأوامرها، وتمارس سياسات مناهضة لمصالح شعوبها، كما هو حال جميع دول الشرق الأوسط ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون استثناء.
إن سقوط الدول الاشتراكية يفترض اعتباره تجربة غنية جديدة للمناضلين من أجل الاشتراكية في كل مكان، تلك التجربة الثانية التي بدأت في ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 الاشتراكية، وهي التجربة التي تلت كومونة باريس في أذار/مارس 1871. وأن من واجب كل المناضلين من أجل العدالة الاجتماعية والأمن والسلام في العالم دراسة هذه التجربة الغنية بكل ابعادها وأشكال ظهورها في الدول التي أقيمت فيها، الآسيوية منها أو الأوروبية، وأسباب انهيارها، لتكون زاداً غنياً للمناضلين في جيش اليسار العالمي من شيوعيين واشتراكيين وماركسيين وديمقراطيين تقدميين.
كان مهماً ومفيداً، كما أرى، أن يتناول الرفيق عزيز محمد قضايا الساعة بالعراق وإقليم كردستان، بالتحليل والتدقيق واستخلاص ما يراه مناسباً حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوترة، وكذلك العلاقات في ما بين الأحزاب الكردستانية الحاكمة وغير الحاكمة، وما يمكن أن يقدمه من نصح على المستوى العراقي وإقليم كردستان العراق، إذ لديَّ القناعة بأن هناك الكثير ممن يستمعون له، وربما يتجاوبون معه بما يطرحه من أراء ومواقف، بمن فيهم قادة الأحزاب، لتجاوز المحنة التي يمر بها الإقليم على أقل تقدير. إذ إن مخاطر كثيرة تحيط بالعراق والإقليم، والعواقب السلبية المحتملة لا يمكن استبعادها، ضمن حساب الاحتمالات التي تواجه مكونات الشعب العراقي القومية. إن المعرفة والخبرة والحكمة والمشورة الذكية مطلوبة الآن، وأكثر من أي وقت مضى، في مواجهة ما يجري على الساحة السياسية العراقية والكردستانية، وهي قليلة نادرة في هذا الزمن الرديء الذي يمر به العراق بتعدد قومياته. إن ما حصل قبل الحرب الأخيرة (2003) واحتلال العراق، في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الغاشمة، وإقامة النظام السياسي الطائفي-الأثني والمحاصصة الطائفية، وما يواجهه العراق والإقليم حالياً، يستوجب بذل الجهد الكبير من جانب القوى الوطنية والديمقراطية لتحليله ثانية وبحيادية علمية عالية، لاستخلاص الاستنتاجات الواقعية المؤثرة التي يمكن أن تقود العراق إلى شاطئ السلام، وهو الذي يقف على حافة حروب أهلية محتملة تحرق الأخضر واليابس، ولن يكون سوى شعوب العراق وقودها، والخاسر الأكبر فيها. وهو ما يفترض العمل على تجنبه، ولن يتم ذلك إلا بالخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والفساد والإرهاب الناشئين عنه. 


340
كاظم حبيب
محنة الشعب في حكامه!
الأيام الأخيرة أعادت لبغداد حمامات الدم المسفوح لتذكر العراقيين والعراقيات، لتذكر من نسي بأن العراق كان وما يزال دولة مخترقة، وأن السلطة التنفيذية القائمة فيها عاجزة تماماً عن حماية سكانها، وأحزابها الحاكمة فاسدة حتى النخاع، فهل يمكن أن تقع هذه السلسلة من التفجيرات ببغداد ليسقط عشرات القتلى ومئات الجرحى في منطقة الكرادة، وسط بغداد، المزدحمة بالسكان خلال أيام معدودات لو لم تكن سلطاتها الثلاث فاسدة ومخترقة ومتصارعة على السحت الحرام؟!   
كان الشعب العراقي وما يزال يعيش محنة مستديمة، محنة الشعب في حكامه، في العلاقات الإنتاجية البالية التي تعيد دوماً إنتاج حكام لا يختلف بعضهم عن البعض الآخر إلا بالاسم، وليس بالأهداف والأساليب والسلوك والعواقب. وحين يحن الشعب أو غالبيته لماضٍ مريضٍ، يعتقد إنه كان الأفضل من النظام القائم حالياً، بسبب شدة قساوة ورثاثة الجديد القائم، ولكنه ينسى إن الماضي المريض هو الذي أسس للحاضر الأكثر مرضاً والأشد قسوة على الشعب والأكثر كراهية للإنسان وحقوقه ومصالحه.
محنة الشعب في حكامه، الذين يدعون إنهم جاءوا لخدمة الشعب والدفاع عن مصالحه، وبهذا الستار المهلهل يفرضون على الشعب أن يقوم بخدمتهم وأن يدافع عن مصالحهم، التي هي ضد مصالح الشعب جملة وتفصيلا. هكذا كان العراق في العهود القديمة المنصرمة، وهكذا كان في العهود الإسلامية، وهكذا هو في العهد الملكي، وهكذا هو الآن! أين يكمن العيب، في الشعب أم في حكامه؟
العيب يكمن في الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الشعب والحكام، في العلاقات الإنتاجية التي ما تزال سائدة والتي لم تتغير منذ قرون، وما حصل عليها من تغيير لم يكن سوى القشرة التي سرعان ما تستبدل بقشرة أخرى من ذات الجنس، في حين لا يعالج لُب القضية، جوهرها الأساس، أي لا يجري تغيير علاقات الإنتاج التي كانت وما تزال تتحكم بالواقع القائم وفي سلوكيات الناس والحكام.
العيب في طبيعة الحكام، فهم يجدون في العلاقات المتخلفة والاستغلالية السائدة إنها تستجيب لمصالحهم، وبالتالي لا يسعون إلى تغييرها، بل يسعون إلى تكريسها. والعيب في المجتمع الذي لم يرَ النور ولم يعرف التنوير الديني والاجتماعي حتى الآن، وبالتالي لا يستطيع في غالبيته إدراك أهمية تغيير علاقات الإنتاج لتساهم في تغيير الواقع القائم ومن ثم تغيير الحكام الذين يفرضون إرادتهم على الشعب.
والعيب في علاقات الإنتاج يتجلى في مجمل البناء الفوقي القائم بالعراق، الذي هو نتاج تلك العلاقات المتخلفة والبالية والسائدة، ولاسيما في الفكر والسياسة وفي بنيتي الاقتصاد والمجتمع، وفي سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها وهيئاتها، في المؤسسات والمرجعيات الدينية، في الأحزاب والمنظمات، وفي الثقافة بمختلف حقولها.
ولكن، حتى في هذا المجتمع المتخلف، تبرز التناقضات، وتنشأ عنها الصراعات، بين القديم البالي والمعرقل لأي تحول جديد، وبين الجديد المتطلع للتغيير. ويتجلى ذلك في الفكر والسياسية والاقتصاد، في القوى والأحزاب والمنظمات، في الثقافة وفي مجمل البناء الفوقي.
وعلى مستوى وعمق وشدة هذه التناقضات وما ينشأ عنها من صراعات فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وفي مجمل البناء الفوقي، يتحرك المجتمع صوب أحد احتمالين: استمرار التخلف والجمود النسبين، أم التغيير صوب الجديد الأكثر إشراقاً. وميزان القوى هو العامل الحاسم في تحديد الوجهة في الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية الجارية بالبلاد.
ميزان القوى لا يتغير بسهولة وبسرعة ولا وفق الرغبات، بل يخضع لعوامل كثيرة، بما فيها وبشكل خاص بدور تلك القوى الساعية للتجديد وفي مدى وعيها للواقع وقدرتها على طرح الشعارات والمهمات التي تستجيب لمصالح الناس مباشرة وصواب ربطها بالقضايا الوطنية المهمة التي تمس المجتمع كله أولاً، وفي مدى قدرتها في الوصول إلى من يملك القدرة على التغيير، إلى المجتمع، إلى فئاته التي تتطلع للتغيير، والتي هي متضررة من بقاء علاقات الإنتاج المتخلفة والبائسة والبناء الفوقي الناتج عنها، ومنها السلطات الثلاث، لاسيما السلطة التنفيذية. وميزان القوى لا يتغير ما لم تدرك القوى الساعية للتغيير بأن كلاً منها لا يستطيع تحقيق التغيير ما لم تلتقِ كلها عند معايير وقيم مشتركة وبرنامج بحد مناسب تلتقي عنده كل القوى الديمقراطية ويمتلك الجاذبية الواقعية في تعبئة فئات المجتمع المتضررة من بقاء الوضع الراهن، والتي تشكل عملياً غالبية المجتمع.
مهمة القوى الساعية للتغيير ليست سهلة، رغم إنها تتحرك على وفق قوانين التطور الاجتماعي، إذ إن عصي الماضي الغليظة توضع دوماً في عجلة التغيير والتقدم، ويحتاج المجتمع إلى صنع عجلة قوية فولاذية متماسكة تستطيع تكسير، بل تحطيم، تلك العصي الغليظة المعرقلة للسير بالمجتمع والدولة إلى الأمام.
لا يكفي أن يكسب للتحالف من هو مع القوى الديمقراطية وبرنامجها حالياً، بل هناك الملايين من الناس التي يجب ان تكسب في هذه المعركة التي ما تزال غير متكافئة. فهناك الكثير من الجماعات التي لم تحسم موقفها لأسباب مصلحية مؤقتة، أو دينية مشوهة زيفت وعي الإنسان، أو علاقات عشائرية بالية لم تعد مناسبة لهذا القرن الواحد والعشرين، على سبيل المثال لا الحصر، التي يجب ان تكسب. بل يمكن ويجب التحري عن القواسم المشتركة لتكون الحامل الفعلي للتغيير.               
إن القوى الإسلامية السياسية الطائفية المتطرفة، وكل القوى المتحالفة معها من الجبهة اليمينية القومية الشوفينية المتطرفة، بكل تنوعاتها، تعمل اليوم على تشكيل تحالفات سياسي-اجتماعي لإجهاض تحقيق التحالف الديمقراطي المدني، لإفشال أي تغيير جذري منشود، وهي تمارس عملية تشويه صورة القوى الديمقراطية بكل السبل المتاحة لديها، بما في ذلك استخدام بشع لإعلام الدولة ومؤسساتها الإعلامية. وهذا الواقع يفرض على القوى الديمقراطية أن تجد الوسائل النضالية العمية التي تسهم في تفكيك هذه الجبهة اليمينية المتطرفة وتحت هوية الإسلام السياسي، الذي برهن على فساده القاطع ومشاركته في كل ما يعيق تقدم المجتمع وازدهاره وتكريس رثاثة البلاد كلها، لتستطيع المواجهة الناجحة والسلمية أمام هذه القوى التي ألحقت أبشع الأضرار بالشعب العراقي والدولة العراقية، التي جعلتها ليس هشة وعليلة فحسب، بل ومخترقة بسيادتها واستقلالها من قبل دول الجوار والدول الكبرى. 


341

كاظم حبيب
قراءة في مسرحية "لسعة العقرب" للكاتب المسرحي والصحفي ماجد الخطيب
   

الكاتب: ماجد الخطيب
الكتاب: لسعة العقرب/ مسرحية بوليسية ساخرة
الناشر: المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش
سنة الإصدار 2017
ردمك: 978-9954-28-577-0

قدم الكاتب المسرحي والصحفي المميز ماجد الخطيب مجموعة مهمة من المسرحيات الساخرة للمكتبة العربية والكتابة المسرحية والمسرح. فقد ألف ونشر حتى الآن ثماني مسرحيات، وترجم عشر مسرحيات. كما ألف ونشر كتاباً ممتازا وغنياً بالمعلومات والتحليل القيم لشعر وحياة الشاعر والناقد والصحفي الألماني هاينريش هاينه (1797 – 1856 م) تحت عنوان "روح الشعر الألماني". وكانت اغلب رواياته تبحث في الهم العراقي وكوارثه والتحولات الجارية على الإنسان العراقي، وخاصة على مثقفيه إيجاباً أو سلباً، وعلى العلاقة المعقدة والمتوترة بين المثقف والسلطة. وكان في جميع مسرحياته، وهي في الغالب الأعم غير مباشرة، ولكنها ذات هدف واضح وفكرة ناظمة لأعماله، فهي تعالج إشكالية الدكتاتورية والحريات العامة وحرية المثقف والإنسان عموماً. وهكذا كان الأمر بالنسبة للمسرحيات المترجمة، ولكن على مستوى أعلى وأبعد من الهم العراقي، بل هم الإنسان في القرن العشرين والحادي والعشرين، هم الإنسان في صراع ضد شرور الاستغلال والاضطهاد والتمييز والحروب. وكان في الغالب الأعم يمزج بنجاح بين الجدية والهزل، بين المأساة والملهاة. نجد هذه الثنائية في فئران الاختبار، أو عاشق الظلام، أو حفرة السيد على سبيل المثال لا الحصر. وتطرح مسرحية "ثور فالاس" إشكالية الصراع المعقد والمتشابك بين المثقف، ومنهم الفيلسوف، والسلطة ومحاولات السلطة أو الحاكم المستبد شراء المثقفين، والأنانية التي يمكن أن تجد طريقها إلى نفوس بعض المثقفين، ولكن ليس الجميع. وهي من أكثر المسرحيات تجلياً لهذا الصراع وأكثرها شراسة وعدوانية من جانب السلطة إزاء المجتمع والواعين منهم والمثقفين على نحو خاص.
أما المسرحية الجديدة، التي صدرت لتوها (الشهر الخامس 2017)، فهي تختلف عن مسرحياته السابقة الساخرة أيضاً. إذ أنه اختار اسلوباً آخر في كتابتها، الأسلوب المعروف في لغة كتاب المسرحيات والسينمائيين بـ "الپارودي (Parod"، الذي عرَّفه المؤلف ذاته بـ "المحاكاة الساخرة"، الأسلوب الذي يستخدم أحداثاً وشخصيات معروفة عالمياً وفي حقول ومجالات كثيرة ليوظفها في مسرحيته الساخرة التي تدفع الإنسان إلى الابتسام والانتعاش من روح التهكم الواعية لما تريد ومن المضمون المأساوي المبطن للحالة الساخرة. هذا النوع من فن الكتابة المسرحية أو حتى في الشعر والقصة والرواية والسينما قد استخدم من كبار المخرجين السينمائيين، منهم على سبيل المثال لا الحصر، شارلي شابلن، الفريد هتشكوك وكيفن ينولدز.. الخ. وقد حققوا نجاحات باهرة في افلامهم. ولا أدل على ذلك فلم هتلر لشارلي شابلن.
إلى ماذا ترمي هذه المسرحية الساخرة العراقية بامتياز، رغم شخوصها الدوليين في أحداث بعيدة عن العراق؟ من عرف ماجد الخطيب أو قرأ له يدرك إن هاجسه الأساس هو العراق وما يجري فيه منذ 14 عاماً، سواء أكان ذلك ببغداد، أم بالبصرة، أم في أي مدينة عراقية أخرى، بل بكل الدول العربية. والزمان والمكان هنا محددان في القصر وعلى الساعة الثانية عشر ليلاً، ولكنهما، الزمان والمكان، مع ذلك مفتوحان أيضاً. إنه يريد أن يقول لم يعد الوقت خمس دقائق قبل الثانية عشر، بل أنه الثانية عشرة تماماً، وعليكم أن تعوا عواقب الغفلة والنوم والسكوت على الفساد والقتل المتواصل. وإن المكان نفس المكان حيث يوجد القاتل والمقتول، أو "حاميها حراميها"، إنها "المنطقة الخضراء العراقية"، إنه الحي الذي يسكن فيه في الغالب الأعم حكام ولصوص وقتلة وجواسيس وعيون فاقعة!
حين تُقرأ المسرحية بعناية سيجد القارئ أو القارئة إنهما أمام هدف ثابث وواضح لا يتزعزع، وخلف هذا الهدف فكرة تتجسد أكثر فأكثر بعد كل مشهد من المشاهد وتتجلى في الشخصيات الرئيسية والثانوية التي اختارها في مسرحيته الساخرة، وأساليب العمل التي منحها لهذه الشخوص العديدة.     
ليس القتلة بالمسرحية سوى محترفي قتل الإنسان، تدربوا على السرقة، وممارسة القتل لإخفاء جريمة السرقة، أو القتل لأغراض السرقة. وحين يكون الحامي هو الحرامي ذاته، يصعب اكتشاف القاتل أو السارق، فهما شخص واحد، إنها الثنائية في الواحد. هنا يقدم لنا ماجد الخطيب حقيقة الأمر حين يترك لهولمز فرصة تشخيص الحالة. لقد أعطى الكاتب أسماً مهما للمسرحية تجسد لسعة العقرب. وفي هذه اللسعة تضعنا أمام الشخصية الإجرامية الفرنسية المعروفة من جهة، وأمام إن المفروض في المجتمع أنم لا يلدغ من جحر مرتين، وكم هي المرات التي لدُغ الشعب من ذات الجحر من جهة ثانية!
بدأت المسرحية بجريمة واحدة، لطباخة قصر الملك. ولكن سرعان ما ترك الكاتب أن تتوالى الجرائم التي ترتكب في القصر وفي ساعة محددة. لقد وضع القارئ والقارئة أمام أحداث متتالية متصاعدة تزيد من التوتر والتأزم في المسرحية وتزيدها تعقيداً وتشابكاً. حتى شارلوك هولمز وصاحبه لم يكن سهلاً علهما اكتشاف الفاعل أو الفاعلين، بعد أن انتقلا إلى مسرح الجريمة ليحققا في أول جريمة ارتكبت في القصر، إذ أدركا بحسهم البوليسي إنهما أمام مجموعة صغيرة جداً من البشر تتشابك أساليبهم وتلتقي وتتصارع مصالحهم في آن، إنها الجدلية العفوية في المسرحية. فأحد هؤلاء يجلس على عرش المملكة، ويمارس آخرون حماية المملكة، وكل منهم يمارس الجريمة بطريقته الخاصة.. إنها المأساة والمهزلة أو الملهاة التي لا يمكن إلا أن يدركَ القارئ والقارئة مغزاها والوجهة التي يؤشرها المؤلف.
لقد استخدم المؤلف تلك الشخصيات والأحداث التاريخية خير استخدام، وبحبكة متماسكة ومحكمة، وبرؤية ثاقبة وساخرة، شخصيات من حضارات عديدة في مسرحية قصيرة ذات بعد إنساني عميق وتهكم ساخط على الحكام والحاشيات، سواء أكانوا ملوكاً أم رؤساء، فهم متساوون بالدول العربية في ما يرتكبونه من جرائم بحق شعوبهم.. فوزير خزنة الملك سكوربايت، "لم يكن غير اللص الشهير "العقرب"، الذي دوخ باريس بسرقاته، ووزير مالية الملك "لم يكن غير آكل لحوم البشر هانيبال ليكتر"،.. إنها شخصيات ووظائف رمزية في المسرحية لا يمكن أن يخطئ القاري دورها في المقارنة بين ما جرى ويجري بالعراق .. حتى البوليس السكوتلاندياري يهرب من مسرح الجرائم التي ترتكب يومياً وفي ساعة محددة ومكان محدد.. إنهم يعرفون القاتل وغير قادرين على اعتقاله فيهربون منه لكي لا يصلهم سكين القاتل وينحر رقابهم. لقد قتل المسرحي والصحفي هادي المهدي.. وقتل الشخصية الديمقراطية والمدنية كامل عبد الله شياع وقتل آخرون في فترة حكم من قال يوماً "أخذناها بعد ما ننطيها"، وفي فترة حكمه جرى التحقيق ولم يعلن عن القاتل! فمن القاتل؟ إنها حالة التوتر المتصاعدة .. التي تقترب من الذروة.. حتى شارلوك هولمز وصاحبه لا يستطيعان طرح الحقيقة، ولكنهما يكتشفان الحقيقة.. فوزير الداخلية الذي وقعت هذه الجرائم في عهده يزور مقر الحزب الذي استشهد أحد أعضاء هذا الحزب المميزين، ولكن الزائر لا يعلن عن القاتل، رغم معرفته المؤكدة بهوية القاتل!!
كلما ابتعد ماجد الخطيب عن مسرح الجريمة الفعلية في مسرحيته، اقترب منها قارئات وقراء المسرحية أكثر فأكثر وحلوا طلاسم الأحداث والشخصيات التاريخية. لقد سّهل ماجد الخطيب، باختيار تلك الأحداث التاريخية والشخصيات المعروفة عالمياً، على القارئ والقارئة إمكانية الاقتراب من حقيقة ما يجري بالعراق وأحداثه المأساوية وعجز المجتمع عن الاعتراف بما يعرفه عن القتلة، وعن رفضه ولفظه لهم!
في ذروة المسرحية يلسع هولمز وواطسون القاتل بحيلة عقرب الساعة، لكن لص الجواهر الشهير بالـ "عقرب" (المتخفي بشخصية وزير المالية) يلسعهما بدوره، ويفتعل مقتله كي يهرب بجواهر الملكة وخزينة المملكة. وهنا تأتي لسعة العقرب لتمنحنا وجهة ثالثة في مجرى المسرحية. ولكن ذروة المسرحية مستمرة ومتصاعدة، فالقتلة يتسترون بأسماء أخرى وينتقلون من مسرح جرائم بعينها، ليلجوا مسرحاً أخر، ليحموا الملك، ليمارسوا جرائم أخرى. فهم في حمى الملك أو الحاكم! ولنستمع إلى هذا الحوار الذي يضعنا أمام الاكتشاف الرئيسي، أمام ذروة المأساة والمهزلة، حوار بين هولمز وواطسون والذي يقود بهما إلى الهرب من القتل المحتم:
هولمز:    هل أخطأنا في حساباتنا؟
واطسون:   أما يزال القاتل في القصر؟
هولمز:      جاك السفاح هرب..
واطسون:    من بقي في القصر؟
هولمز:    (يضرب جثته، يشم الجثة) 
يا إلهي عطر الكولونيا مجدداً.. عطر الملوك؟؟؟
      (يبهتان للحظة)    
هولمز:      لنهرب من هنا..
واطسون:   إسرع (يخرجان هاربين)..

342
الأخوات والأخوة الأفاضل مسؤولي الأحزاب والقوى الوطنية الديمقراطية والشخصيات الديمقراطية العراقية
تحية طيبة
نرسل إلى حضراتكم رؤية لجنة المبادرة حول المعايير والبرنامج الذي يمكن أن يكون قاعدة للنقاش بين قوى وأحزاب الحركة الوطنية والديمقراطية والمدنية العراقية، أملين أن نسمع رأيكم بهذا الخصوص
مع خالص الود ووافر التقدير
د. كاظم حبيب
منسق لجنة المبادرة لتحريك ودعم التوجه صوب التعاون والتنسيق والتحالف بين القوى الديمقراطية العراقية
في 30/05/2017

المعايير والثوابت والقواسم المشتركة:
تتفق القوى المستهدفة على المعايير والاسس التالية:
•   المواطنة أولاً، واحترام الهويات الفرعية.
•   الديمقراطية السياسية والاجتماعية.
•   الدولة المدنية الحديثة.
•   العدالة الاجتماعية.
•    استقلال القضاء.
•   ضمان استقلال المفوضيات المستقلة عن الأحزاب السياسية والسلطة التنفيذية
•    احترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وضمان حرية التعبير عن الرأي والتظاهر والاعتصام، وحرية الصحافة.
•   اللامركزية وصلاحيات موسعة للمحافظات، في ظل عراق ديمقراطي فدرالي موحد.
•   وضع القوانين والنظم المنظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على وفق الدستور.
•   احترام التنوع وخيارات الاتحاد الطوعي وحق تقرير المصير على وفق احكام الدستور:
•   سيادة العراق ارضاً وجواً وبحراً.
•   نظام الحكم تعددي برلماني.
•   التداول السلمي للسلطة وفق انتخابات نزيهة حرة وعادلة.
•   الفصل بين السلطات.
•   الفصل بين الدين والدولة.
•   سيادة القانون وانفاذه دون تمييز.
•   القوات المسلحة الوطنية بصنوفها وتشكيلاتها كافة هي الجهة الشرعية الوحيدة التي تحمل السلاح دفاعا عن ارض العراق وامنه الداخلي.
•   الجيش هو المسؤول عن حماية حدود العراق وسيادته.
•   الشرطة وجهاز الأمن الداخلي هما المسؤولان عن الأمن الداخلي للبلاد.
•   الاصطفاف الوطني الشامل ضد الارهاب والتطرف والتكفير والفساد.
•   إعادة النازحين الى مدنهم وديارهم، واعادة الاعمار لمدنهم وتعويضهم.


نحو ميثاق وطني يتضمن:
•   الالتزام بالدستور لحين تعديله بآليات دستورية، وبما يضمن ترسيخ مبدأ المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وتحريم التمييز بمختلف أشكاله وضد نشر الكراهية.
•   تشكيل حكومة كفاءات وطنية عابرة للطائفية ورافضة لها.
•   الاصلاح الحقيقي (السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي والاداري والمالي والبيئي).
استكمال تحرير الارض، ومواصلة مواجهة الارهاب وذيوله فكرياً وسياسياً وأمنياً. واستكمال بسط نفوذ سلطة الدولة ودحر الإرهابيين وإنهاء الانفلات الأمني، عسكريا وفكريا.
•   حل مشكلات النازحين وقضايا المهجرين الناجمة عن كل فترة الصراع المسلح ورفض التغيير الديمغرافي وإعادة النازحين إلى ديارهم وإعادة الأعمار وتعويض المتضررين.
•   إطلاق حملة شاملة لمواجهة مبرمجة ومنظمة للفساد واسترداد الأموال، وإجراء محاكمات عادلة للفاسدين.
•   استكمال مشروع المصالحة السياسية والمجتمعية على أسس قويمة.
•   العمل على معالجة قضايا العدالة الانتقالية وحل مشكلات المعتقلين بمحاكمات عادلة للمتهمين أو إطلاق سراح المعتقلين دون مبرر فوراً وتعويضهم.
•   الاهتمام بقضايا التنمية المستدامة، واستنهاض الاقتصاد الوطني بمزيد من الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية والخدمات الإنتاجية، لاسيما ملفات البنى التحتية، ومنها الكهرباء والماء والنقل والمواصلات والاتصالات.
•   الاهتمام بمشكلة المياه والحصص المائية مع دول الجوار والمنفذ البحري للبلاد.
•   تنشيط القطاعات الاقتصادية الخاص والمختلط والحكومي بما يسهم في تسريع عملية التنمية الاقتصادية والبشرية.
•   الاهتمام بالسياحة وتوفير مستلزماتها باعتبارها توفي مورداً إضافياً للدخل القومي.
•   معالجة مشكلة البطالة المتفاقمة ولاسيما بين الشبيبة، وعواقبها.
•   معالجة تنامي الفقر وتزايد عدد الفقراء الذين يعيشون تحت خطر الفقر المحدد للدول النامية.
•   الانتهاء من وضع قانون وطني فعال لشركة النفط الوطنية، وربط موارد النفط المصدر بالتنمية المستدامة وعملية التصنيع وتحديث الزراعة وتنويعها، بما يسهم في تخليص الاقتصاد العراقي من طابعه الريعي الاستهلاكي.
•   العمل على تأمين الأمن الاقتصادي والغذائي للمجتمع العراقي.
•   وضع القوانين الناظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على وفق الدستور واعتماد المفاوضات في حل المشكلات القائمة بينهما، وكذلك مع الحكومات المحلية في المحافظات.
•   ايلاء اهتمام استثنائي لقضية المرأة العراقية ومساواتها الكاملة في الحقوق والواجبات مع الرجل.
•   إيلاء اهتمام خاص بالشبيبة واغناء حياتهم الثقافية والرياضية بمختلف جوانبها.
•   إيلاء الثقافية الوطنية بجميع حقولها اهتماماً خاصاً وتوفير مستلزمات وصولها لفئات الشعب كافة.
•   إصلاح المنظومة الانتخابية.
•   إصلاح المفوضيات والهيئات المستقلة ومنع تدخل السلطة التنفيذية بشؤونها.
•   التدقيق في اختيار شخصيات اعضاء المحكمة الاتحادية العليا وحصرهم بالقضاة المتمرسين والمشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية والثقافة.
•   إصلاح أسس التربية والتعليم والبحث العلمي ووضع برامج علمية وديمقراطية لمختلف مراحل الدراسة. التوسع بالتعليم المهني والفني بما يتجاوب مع ضرورات التوسع بالتنمية. إنشاء مجلس وطني أعلى للتعليم يأخذ على عاتقه وضع استراجية التربية والتعلم
•   إصلاح نظام الخدمات الصحية والتأمين الصحي والرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي والاهتمام بذوي الحاجات الخاصة.
•   توفير مستلزمات العيش الكريم للأرامل وأيتام سنوات الاستبداد والحروب والإرهاب. 
•   وضع حد للتدخل الخارجي بكل اشكاله في شؤون العراق الداخلية، والعمل لإقامة أفضل العلاقات مع جميع الدول على أسس الاحترام والمنفعة المتبادلين والمصالح المشتركة.
•   
 


343
رسالة مفتوحة
إلى السيدة المصونة حرم الروائي المبدع الطيب الذكر عبد الرحمن منيف المحترمة

تحية طيبة
حين وصلت إيران في العام 1981 في طريقي إلى إقليم كردستان العراقي للالتحاق بحركة الأنصار الشيوعيين العراقيين بصورة سرية وبجواز سفر سوري، كان رفيقي وصديقي المناضل الشيوعي حيدر الشيخ علي موجوداً في إيران ويعمل بجهد لا مثيل له ومثابرة وحيوية وهمة عالية، لإيصالنا إلى الإقليم، وهو يتحمل تبعات الانتقال من طهران إلى أورمية (الرضائية)، ومنها إلى مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في راجان الإيرانية، ومنها ننتقل إلى جبال كردستان العراقية حيث الأنصار الشيوعيين المناضلين ضد دكتاتورية البعث الصدامية. لم يكن الرفيق حيدر الشيخ علي غافلاً عن المخاطر التي يتعرض له عبر هذا العمل السري المعقد لمساعدة الرفاق القياديين من الحزب الشيوعي والكثير من المناضلين الشيوعيين للوصول إلى الإقليم عبر طهران للمشاركة في النضال ضد الدكتاتورية الغاشمة ومن أجل الحياة الحرة والديمقراطية للشعب العراقي. كان معي في هذه الرحلة الرفيق مهدي عبد الكريم، أبو كسرى، أو أبو العباس، وباقر إبراهيم، أبو خولة وزوجته الفاضلة.
ولكن الأمن الإيراني استطاع أخيراً إلقاء القبض على الرفيق حيدر الشيخ علي، الذي زُج به في سجن إيفين لسنوات عدة متهمين إياه بالتجسس، وهو منه براء براءة الذئب من دم يوسف، والذي كان يناضل بحزم وإصرار ضد النظام القائم بالعراق. تعرض خلال اعتقاله وسجنه، سواء أكان أثناء التحقيق معه، أم أثناء وجوده في السجن، إلى التعذيب الذي يصعب لأي إنسان اعتيادي تحمله، إلا إن هذا الرفيق كان قد قًدَ من حديد، إذ صمد صمود الأبطال، كما يرد في الأساطير القديمة والحديثة، تلك الأساطير التي تتحدث عن بطولات اجترحها مناضلون دفاعاً عن وطنهم وشعبهم وحزبهم والمبادئ التي يحملونها ويدافعون عنها. سنوات من العذاب والمعاناة التي لا يمكن لأي إنسان أن ينساها أو يمر مرور الكرام على ذكرها، إنها العيش بين ظلمتين مريعتين مقترنة بأبشع أساليب التعذيب التي مارستها أجهزة الأمن والسجن الإيرانية والتي لا تختلف عن أساليب التعذيب الهتلرية والتي استخدمها صدام حسين بالعراق أيضاً مع مناضلين شيوعيين وديمقراطيين أو سياسيين مناهضين له ولنظامه، انتهت بهم إلى الموت على أيدي تلك الحثالات من البشر. الكثير من رفاق الدرب الواحد من شيوعيي حزب توده الإيراني ومن فدائيي خلق ومجاهدي خلق استشهدوا تحت التعذيب. ولكن الرفيق حيدر صمد ولم يعترف ولم يجُن ولم يمت، كما كانوا يسعون إلى تحقيق بأساليبهم الخبيثة والدنيئة في التعذيب، والذي ما زال يمارس بإيران ضد سجناء الرأي وفي سجن إيفين ذاته، بل بقي كنخلة شامخة ومثمرة.
وحين أمكن تحريره من السجن بوساطة قادة الدولة السورية المكثفة، وصل إلى إقليم كردستان العراق وتسنى لي ولغير من الرفاق والأصدقاء اللقاء به والاستماع إلى روايته المريرة عما لاقاه في هذا السجن الرهيب وعلى أيدي جلاوزة شيوخ الدين الإيرانيين الذين لا يعرفون الرحمة ولا يملكون ضميراً إنسانياً حياً. كان كل منا يستمع إليه ويعيش عذاباته ومراراته. كنا نصغي إليه وعيوننا شاخصة إليه وأفواهنا مفتوحة وكأن فوق رؤوسنا الطير، ونرجو منه المزيد. لم يحدثنا فقط عن نفسه، بل كان يتحدث على نحو خاص عن الرفاق والمناضلين الإيرانيين الذين كانوا يعانون شتى صنوف العذاب النفسي والجسدي على أيدي نفس الجلاوزة المعممين الذي لا يعرفون الله وليس في قلوبهم مسحة من حب الإنسان. وكان يؤكد لنا بأنه كان يعاني أكثر بكثير مما لو كان التعذيب يقع عليه، حين كان يرى كيف يمارس هؤلاء الأوباش أساليب التعذيب الهمجي بحق الشيوعيين والتقدميين والديمقراطيين الإيرانيين الأبطال التي كانت تمارس في القرون الوسطى وكذلك الأساليب الحديثة المأخوذة من ترسانة الهتلريين والفرنكويين وبينوشيت أيضاً.
كنا نحث الرفيق حيدر على كتابة مذكراته لتصدر في كتاب، ولم يفعل، إلى أن التقى يوماً برفيقه وصديقه الدكتور فالح عبد الجبار، فبدأوا بتسجيل الأحداث بتفاصيل مذهلة لما يتمتع به حيدر من ذاكرة طرية ونشطة وتفصيلية روح مرحة وساخرة في آن. تم تسجيل أثني عشر شريطاً دام التسجيل اياماً وليال طويلة. احتفظ بها فالح ليفرّغها وينشرها باسم حيدر في كتاب.
التقى الدكتور فالح عبد الجبار صدفة بالروائي البارع عبد الرحمن منيف وحدثه عن معاناة حيدر الشيخ علي في سجن إيفين وتسجيل أحاديث مهمة معه على أشرطة (كاسيت). طلب عبد الرحمن الاستماع إلى الأشرطة لأن حديث فالح قد أبهره، استعارها منه لعدة أيام، ولم يعدها له منذ ذلك الحين! أي منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي. أنتج عبد الرحمن منيف من هذه الأشرطة الرواية المعروفة بعنوان "الآن، هنا" وصدرت في العام 1991. أنها رواية تحكي قصة حيدر الشيخ علي في سجن إيفين.
لم يشر كاتب الرواية عبد الرحمن منيف في الرواية إلى شخصية حيدر الشيخ علي، ولا إلى الأشرطة التي تسلمها من فالح عبد الجبار والتي تعود لحيدر، بل منح حيدر اسماً آخر كان بعيداً كل البعد عن أي اسم لعراقي أو كردي عراقي. كما لم يشر في المقدمة إلى أصل هذه الكاسيتات ولمن تعود ولم يقدم الشكر حتى للجهد المبذول في تسجيل الأشرطة. وبالنهاية لم يعدها واحتفظ بها، وهي ليست له!!! يمكن أن ندرك السر وراء هذا الامتناع، ولكنه مرفوض قطعاً ولا ينسجم مع الصورة التي نمتلكها علن الروائي عبد الرحمن منيف.
استمر الدكتور فالح عبد الجبار يطالب الأستاذ منيف بالكاسيتات، والأخير استمر بالمماطلة، وعَدَ بإعادتها لصاحبها، ولم يفعل! إلى أن توفي عبد الرحمن منيف، وخسرنا بموته جميعاً والمكتبة العربية وعائلته شخصية كبيرة وكاتباً مبدعاً وقامة كبيرة في كتابة الرواية.
حاول الصديقان حيدر وفالح الوصول إلى عائلة الفقيد الكبير واستطاعا فعلاً الوصول إلى السيدة المصونة حرم الروائي الفقيد. أوعدت بحديث مع حيدر، وبلطف كبير، على إعادتها له، باعتبارها ملكه الخاص وحياته ومعاناته الشخصية مثبتة على هذه الأشرطة التي ما تزال تحتفظ بها حرم الفقيد عبد الرحمن منيف. كما إنها نشرت صورة لجزء مما جاء في الأشرطة والذي يؤكد وجود الأشرطة لدى السيدة الفاضلة. مرت الشهور تلو الشهور ولم تُعِد السيدة الأشرطة إلى حيدر ولا إلى فالح. وقطعت الصلة ولم ترد على النداءات التلفونية. إنها معضلة!       
حين كنت في أربيل قبل أسبوعين (النصف الأول من الشهر الخامس 2017) حدثني، مع جمهرة من الأصدقاء، عن موضوع الأشرطة الموجودة لدى السيدة حرم عبد الرحمن منيف وما جرى له معها وعدم تسليمها الأشرطة له، رغم وعدها، ورغم المطالبة المستمرة والإلحاح بضرورة إعادتها له، باعتباره ملكاً له وليست من الأشياء الشخصية للكاتب الفقيد عبد الرحمن منيف.
إن الصديق الفاضل والقيادي في الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني حيدر الشيخ علي، وكان وزيراً في حكومة إقليم كردستان العراق ممثلاً للحزب الشيوعي الكردستاني، يعاني من هذه المشكلة التي لا تريد السيدة الفاضلة حلها بإعادة الأشرطة له وتزيده معاناة فوق معاناته من المرض العضال الذي أصيب به منذ سنوات.
نحن جميعاً شهوداً على هذه الواقعة ونطالب السيدة الفاضلة حرم الفقيد عبد الرحمن منيف إعادة الأشرطة إلى المناضل حيدر الشيخ علي وبسرعة، إذ لا يعني التشبث والإصرار على عدم تسليمها سوى الإساءة للصديق حيدر ولمن يرفض تسليمها أيضاً، إذ من غير المناسب تعقيد القضية ودفعها إلى مسارات أخرى.
أملي كبير بأن السيدة المصونة ستستمع إلى صوت العقل والضمير وتعيد الأشرطة بالسرعة الممكنة إلى الأخ حيدر الشيخ علي أو إلى الأخ الدكتور فالح عبد الجبار. وإلى هذه النتيجة نحن بالانتظار،
مع وافر التحية والتمنيات الطيبة
أ‌.   د. كاظم حبيب
في 18/05/2017 

344
كاظم حبيب
خطوة إلى الوراء .. خطوتان بذات الاتجاه، فإلى أين يراد بالعراق؟

من يتابع الوضع في دولة العراق منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة على أيدي الغزاة والمحتلين الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم وقيام النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته الطائفية والأثنية المذلة للشعب ومبدأ المواطنة الحرة والمتساوية، دع عنك تلك المآسي والحروب والحياة العجفاء التي عاشها العراق قبل ذاك وفي ظل نظام البعث الإجرامي، يدرك في أي دولة هشة أو شبه دولة يعيش المجتمع العراقي، ويدرك العواقب المريرة التي عانى منها وما يزال في ظل حكام الصدفة والأوضاع الرديئة التي جاءت بهم إلى السلطة بحيث أصبحت الدولة العراقية دولة لصوص بالمعنى الدقيق للكلمة، دولة تكاد تحترق أو تغرق فليأخذ من هو قادر على أخذ ما يستطيع منها كل ما فيها قبل نهاية الدولة المفجعة. هكذا فكر ويفكر، وهكذا عمل ويعمل من كان وما يزال يحمل فكراً رثاً وعقلاً مفرغاً من أي مضمون وضمير. حكامه لا غيرهم سلموا العراق للحرامية، لأنفسهم وغيرهم، للإرهاب المسلح الداخلي والإقليمي والدولي، للمليشيات الطائفية المسلحة التي أذلت الشعب ودفعته إلى الاستكانة والرضوخ، وإلى التنظيمات الإرهابية الأخرى التي قتلت وسلخت جلود البشر ونهبت خيراته وقوت الشعب ثم احتلت جزءاً عزيزاً منه، إذ ما تزال القوات المسلحة العراقية والپيشمرگة والمتطوعون يناضلون بإصرار من أجل استعادة الأرض الطيبة المحتلة وتحريرها ويحققون نجاحات عسكرية مهمة وبتضحيات كبيرة وغالية.
وفي الجانب السياسي نتابع ممارسة القوى المشاركة في حكم البلاد كل السبل التي لا تقضي على الفكر والنهج العدواني للقوى الإرهابية بسياساتها فحسب، بل وتساهم في بقاء هذا الفكر المماثل لها على أرض العراق ليعود بصيغ أخرى إلى واجهة الأحداث بالعراق.
دولة العراق، وليس السلطة التنفيذية وحدها، بل البناء الفوقي العراقي في أغلبه، بدلاً من أن تخطو خطوات إلى الأمام، والعراق بحاجة ماسة لها، يخطو خطوة إلى الوراء ثم تتبعه خطوات أخرى بذات الاتجاه القاتل، خطوات أخرى وأخرى إلى الوراء. وهي الكارثة الراهنة التي يقدمها لنا مجلس النواب العراقي الذي يحق لنا أن نردد قول الشاعر الرصافي:
علم ودستور ومجلس أمةٍ                  كل عن المعنى الصحيح محرف
مجلس يفرض قانوناً للانتخابات ليس هناك أسوأ منه، وقانوناً عن حرية التعبير ليس هناك اردأ منه في تغييب الحريات والدوس على حقوق الإنسان وحرية التعبير، ومفوضية مستقلة للانتخابات ليست مستقلة، بل هي قائمة على المحاصصة الطائفية المذلة ويصر على بقائها بهذه التشكيلة الطائفية والأثنية السيئة. ونسبة عالية من أعضاء مجلس النواب لا يحق لهم دستورياً الجلوس في مقاعدهم، والعودة إلى ما كانوا يملكون قبل إجلاسهم على مقاعد المجلس وبعده، سيدرك الشعب حجم المبالغ المسروقة من خزينة الدول بحيل شرعية ونهب فعلي.
والاقتصاد العراقي مخرب تماماً منذ اللحظة الأولى لتسلم العراق من جانب حكام الصدفة في العام 2003، بدأت عملية زيادة التخريب بدلاً من إعادة التعمير، وسُرقت أموال تقدر وتتراوح بين 250-400 أو 500 مليار دولار أمريكي، وليس هناك من حسيب أو رقيب، حتى ازداد عدد الدور والعمارات والحسابات المصرفية لهم ولأكثر الوزراء وقادة الأحزاب الإسلامية السياسية السنية منها والشيعية في الداخل والخارج والبعض الآخر أيضاً. فليس هناك من عملية إنتاج فعلية بالبلاد، فبلادنا ريعية استهلاكية لا غير، إذ ليس هناك في مفهوم هؤلاء الحكام ما يمكن أن يطلق عليه بالاستثمار الإنتاجي لتنمية الصناعة والزراعة بالبلاد. الفئات الهامشية والعاطلة عن العمل في تنامي، في مقابل قلة قليلة من مالكي الملايين والمليارات. خصصت مبالغ هائلة لمشاريع اقتصادية وخدمية، وإذا بأكثر من 95% منها وهمية، فذهبت الأموال أدراج الرياح ولم يبق منها ما يمكن أن ينفع البلاد. صرفت المليارات (40 مليار) بأمل إقامة مشاريع لإنتاج الطاقة الكهربائية وإذا الشعب نصف يومه أو أكثر بلا كهرباء. ولسان حال الشعب يقول:
ذهب الحمار بأم عمر فلا رجعت ولا رجع الحمار!
أينما تنظر تجد اليباب والخراب والرثاثة والفاقة والبطالة والنهب والسلب، فهل ملّ المجتمع من ذلك وهل سيتحرك ليكنس من كان وما زال السبب وراء هذه الحالة. الإجابة ما تزال غامضة، إذ المشكلة لا تكمن في الرغبات والإرادة وحدهما، بل بوعي الإنسان لواقعه ورفضه لهذا الواقع وسعيه لتغيير هذا الواقع. إنه الثلاثي الذي لا بد منه لتغيير الواقع القائم تغييراً فعلياً وجذرياً!
هناك تململ سليم ومتواصل وفاعل، إنه الحراك المدني الديمقراطي، هناك تململ في صفوف قوى شعبية متدينة ترى بوضوح نسبي ما جرى ويجري بالبلاد وتريد التغيير، ولكن لا تزال لم تجد الدرب المناسب لهذا التغيير، وقوى الحراك ما تزال في بداية الطريق وحركتها ما تزال بطيئة تستوجب التنشيط، ولكنها واعدة. الفكر السياسي المتخلف والرث ما يزال مؤثراً وفاعلاً بفعل مؤسسات وأحزاب وتنظيمات وشخصيات قائمة، داخلية وإقليمية ودولية، تمارس تزييف الوعي وتشويهه، وتمارس الإحباط وتزوير الوقائع والتاريخ، وتمارس الخداع وصرف جزء من الأموال المنهوبة أو القادمة من وراء الحدود وتوزيعها بصيغ مختلفة على الفقراء والبؤساء والمحرومين من الناس لشراء ذممهم دون وعي منهم بما يجري، من أجل إبقاء الجهل والوعي المزيف بالواقع المرير الذي يعيش تحت وطأته الشعب العراقي. إنهم يحولون الأنظار عن واقع الناس بما يمارسونه من طقوس حزائنية وبكائية وتنظيم مسيرات مدمرة للصحة والنفس. لم يكن الشهيد الكبير الحسين بن علي بن ابي طالب يطرأ في باله أن يوماً سيأتي يلجأ فيها غشاشون ومخادعون ونهيبية وسراق عواطف وأموال يسعون إلى تأجيج العواطف وتوسيع اللطم والتطبير وضرب الزنجيل (السلاسل ذات النهايات الحادة) ليفرقوا الصفوف ويزيدوا الصراع والقتل على الهوية باسمه، باسم الحسين الشهيد وصحبه الكرام، وهو منهم بريء، كما فعل رئيس الوزراء السابق حين أكد على أن معركة الحسين وأنصاره ضد يزيد وأنصاره ما تزال قائمة!، ليجنوا المزيد من الأموال، من هؤلاء الفقراء المخلصين للحسين بن على وتراثه النضالي، وليبقوا في السلطة ليمارسوا ذات السياسات التي أذاقت الشعب مرَّ العذاب. إن هؤلاء يدفعون بالعراق إلى إقامة دولة ثيوقراطية مستبدة، وإيران نموذجهم الأعلى، ونحن جميعاً نعرف وأدرى بما يجري بإيران وما فيها من فساد وبؤس وفاقة وبطالة وحرمان ووعي مزيف ومشوه ومكاتب زواج متعة معتقة لأسباب عديدة، وهم من وافق على فتح أول مكتب لهم بالعراق ليدوسوا على كرامة المرأة من هذا الباب أيضاً! إنه درب الصدّ ما ردّ، وعلى الشعب وقواه الوطنية الحية والواعية منع ذلك!
إن الخلاص من هذا الوضع المزري لا يتم بالصلوات ولا بالدعوات ولا بالنداءات، بل بالعمل الواعي الكثيف والمستمر، ولاسيما مع الشباب والنساء، كمن يحفر في الصخر ويدرك ما يريد، من أجل رفع وعي الناس وثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على تغيير الأوضاع حين يأخذوا أمر التغيير في أيديهم، وحين يدركون بأن كسر القيود المعطلة للوعي والمحبطة للنضال من أجل التغيير لا يتم إلا بالعمل لإبعاد هذه القوى والعناصر، التي عطلت وعيهم وزيفته وزورت إرادتهم وسرقت رزقهم وشوهت حياتهم بشتى السبل، من قيادة الدولة بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية.
إن بشائر طيبة تلوح بالأفق، ولهذا ازداد ونشط تحرك هؤلاء الساسة، الدخلاء على السياسة، ليتهموا المدنيين والعلمانيين، ورئيس الجمهورية العراقية السابق والحالي، هما من العلمانيين الذين أعلنوا ذلك بأنفسهم وعلناً، وهما مقصودان بذلك أيضاً، بأنهم "حكموا البلاد 70 سنة ثم سلموا البلاد إلى الإرهاب"، أي تزوير للوقائع وأي تشويه للتاريخ أكثر من هذا الذي مارسه هذا "القائد المغوار!" والذي قال عنه أحد "فقهاء هذا الزمان!!" بأنه قائد إسلامي كبير!!!، ونسى إن "هذا!" هو المسؤول عن تسليم البلاد إلى الإرهابيين وليس العلمانيين والمدنيين الذين يناضلون اليوم للخلاص من هذه المأساة الدامية.
لنعمل من أجل لحمة القوى المدنية والعلمانية والديمقراطية والقومية الديمقراطية والمتدينة، التي ترفض ربط الدين بالدولة، وكل المستقلين الديمقراطيين الذين يرفضون الوضع الراهن ويسعون لتغييره، لنعمل مع التجمعات الشبابية في القشلة وساحة التحرير وشارع المتنبي، لنعمل في الأحياء الشعبية لنطرق أبواب الناس ونتحدث معهم، رغم كل الصعوبات التي ندرك وجودها، من أجل إقامة الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، ولنردد مع الشاعر العراقي طيب الذكر كاظم السماوي
وإذا تعانقت الشعوب (في العراق) فأي درب يسلكون!
وإذا تكاتفت الأكف (في العراق) فأي كف يقطعون!
           

345
الدسوقي: الوجه الناصع لغد ناصع .. بقلم: د. محمد محمود

جاء في صحيفة التغيير  الإلكترونية بتاريخ 9 مايو 2017 أن محمد صالح الدسوقي البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما تقدّم بعريضة لمحكمة أم درمان جنوب طالبا تغيير صفة ديانته في بطاقته الشخصية من مسلم إلى لاديني. وأوردت صحيفة حريات الإلكترونية بتاريخ 10 مايو أن الأجهزة الأمنية اعتقلته وقيّدت ضده بلاغ رِدّة تحت المادة 126 من القانون الجنائي.
خبر صحيفة التغيير قصير ومقتضب ويقع في سطور قليلة إلا أنه يمثّل في تقديرنا أكبر تحدٍ للنظام الإسلامي في السودان منذ انقلابه صبيحة الجمعة 30 يونيو 1998، بل وأكبر تحدٍ للحركة الإسلامية وللإسلام نفسه داخل السودان وخارجه. هذا الشاب الذي وُلد في ظل نظام الإسلاميين وترعرع في ظلّ منهجهم المدرسي والتربوي التلقيني وطغيان إعلامهم وهو يعمل على غسل الأدمغة وإعادة صياغة الوعي والسلوك، استطاع أن يهزم كل هذه العوائق الجبال ليعيد النظر في نظامه الاعتقادي كمسلم ويتحرّر منه وينعتق ويقرّر الخروج من الإسلام. وما فعله الدسوقي على هذا المستوى، مستوى تحرير وعيه واكتسابه لاستقلاله الفكري، ليس بالطبع بأمر فريد لا سابقة له --- فالسودانيون يوجد بينهم عدد من اللادينيين من كل الأجيال، بما في ذلك جيل الدسوقي، وهو عدد لا نعرفه بالضبط في الوقت الحالي وليس من الضروري في تقديري أن نعرفه لأن القضية الأساسية في نهاية الأمر هي إقرار مبدأ حرية الفكر والتعبير وتوطينه في القوانين وبذا نساوي بين كل المواطنين سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين. إلا أن الدسوقي فعل أمرا فريدا لم يُسبق إليه حسب علمنا وهو أنه ذهب لمحكمة ليعلن أنه لاديني وليطالب المحكمة بالاعتراف بهذه الوضعية الجديدة. وربما يقفز لبالنا حدث آخر شبيه وقع في الخمسينيات وهو إعلان الراحل مصطفي حامد الأمين خروجه من الإسلام واعتناقه للبوذية. إلا أن ثمة فرق حاسم بين ما فعله مصطفي حامد الأمين وما فعله الدسوقي، إذ أن الأول خرج من دين ليدخل دينا آخر (وإن كان علماء الأديان يختلفون حول طبيعة البوذية، إذ يعتبرها البعض فلسفة وليست دينا منظّما)، بينما أن موقف الدسوقي أكثر جذرية لأنه خرج من النظام الديني برمته وأصبح لادينيا.
لا شكّ أن خروج مصطفي حامد الأمين من الإسلام كان صادما بشكل خاص لأسرته ذات المكانة الدينية، إلا أنه لم يتعدّ في سودان الخمسينيات تلك الحدود ولم يهزّ المؤسسة الدينية أو يشكِّل تحديا للقوانين السائدة. بيد أن الوضع يختلف اختلافا كليا في سودان اليوم، إذ أن سودان اليوم يعيش أسير نظام يجمع أسوأ استبدادين: الاستبداد العسكري واستبداد الدولة الدينية. ولأن انقلاب يونيو 1989 هو انقلاب الحركة الإسلامية المنوط به تحقيق برنامجها وإعادة صياغة المجتمع وفق "مشروعها الحضاري" و"منهجها الربّاني" فإن ما يميزه عن الانقلابين اللذين سبقاه هو وجه الاستبداد الديني. والسودانيون قد قاوموا انقلاب الإسلاميين منذ يومه الأول وما زالوا يقاومونه: قاوموه بكل مظاهر الاحتجاج السلمي وقاومه بعضهم بحمل السلاح في مواجهة عنفه ودمويته. إلا أن الملاحظ أن هذه المقاومة ظلت ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى. صحيح أن الكثيرين رأوا بأم أعينهم خواء الحلّ الإسلامي وبؤسه وفقد الكثيرون إيمانهم بالإسلام إلا أن وعيهم هذا لم ينشىء خطابا جديدا مستقلا ونشطا في مواجهة الإسلام في المجال العام واكتفت حركة المعارضة بالتعبير عن نفسها بلغة الخطاب التقليدي للمعارضة السياسية. وهذا الخطاب التقليدي للمعارضة تجنّب بشكل عام التصدي للوجه الديني للنظام كما تتمثّل في المادة 126 (مادة الرّدّة) وعقوبات الشريعة (وإن كنا نستثني في حالة الدسوقي التصريح الشجاع لحزب المؤتمر السوداني الذي تضامن معه في الحال ودعا لإلغاء مادة الرِّدّة ونتمنى أن يتبع ذلك مواقف شبيهة من باقي القوى السياسية المعارضة، كما نستثني مقاومة الناشطات النسويات المستمرة في مبادرة مقاومة العنف ضد المرأة، ونشيد بشكل خاص بموقف التحدّي المتميّز للبنى حسين الذي أجبر النظام على التراجع). ومن الطبيعي أن تتجنّب أكبر قوة حزبية مؤثّرة في المعارضة السياسية وهي حزب الأمة الدخول في تحدٍ مع البرنامج الديني للنظام لأن حزب الأمة حزب طائفي منحاز للشريعة. وما نلاحظه أنه ورغم أن الحزب الشيوعي (القوة الأساسية في اليسار) غير منحاز للشريعة إلا أنه دفع ثمن هامش الحرية المسموح له بالتحرّك فيه وقرّر مهادنتها، علاوة على تراجعه على مستوى الخطاب باستبعاد تعبير "علمانية" واستبداله استبدالا غير علمي بتعبير "مدنية". وفي هذا الجو المهادن تعزّزت نزعة ضارة ومنافقة فكريا بذر بذرتها عبد الخالق محجوب بكتابه أفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين (وهو كتاب لا يشبه باقي كتاباته التي تتميّز بمحاولاتها الجادة لتحليل الواقع السوداني وتوطين أفكار الاشتراكية فيه) ودخل البعض حلبة المزايدة الفكرية بطرح قراءات "إصلاحية" للإسلام تدّعي نزع "تشويه" الإسلاميين عنه.
وهكذا وبينما فشل النظام في قهر المعارضة السياسية إلا أنه نجح في مجال القهر الديني واستطاع أن يفرض خطابه وعلاماته الإسلامية على كل مناحي الحياة (وأبرز هذه العلامات فرض الحجاب على النساء، وحتى على نسبة كبيرة من السودانيات اللائي يعشن خارج السودان، علاوة على الفصل الاجتماعي للجنسين الذي أصبح سمة من سمات مجتمعات السودانيين في الداخل والخارج). وكانت البطاقة الشخصية باشتمالها على دين حاملها من العلامات البارزة التي أُقْحِمت عن قصد لفرض حضور الهُوية الإسلامية في كل المعاملات الرسمية.
وفي وجه هذا القهر الديني الشامل بكل صلفه واستعداد المادة 126 المعلن لقطع الرقاب تقدّم الدسوقي شامخ الرأس لمحكمة أم درمان جنوب ليعلن لها خروجه من الإسلام ويطالبها بإثبات هويته الجديدة كلاديني في بطاقته الشخصية. وَضَعَ الدسوقي المحكمة ونظامها أمام مطلب حرية فكرية ملحّة وضاغطة تريد أن تتجسّد فعلا حرّا يتحرّك في واقع الناس، وهو مطلب ظلّ الإسلام يرفضه ويواجهه بالعنف عبر كل تاريخه الذي تلا لحظة تأسيس محمد لدولته وإعلانه للجهاد. ولقد ظلّ الكابوس الذي يلاحق الدولة الإسلامية طيلة تاريخها ويهدد بكشف خوائها هو تلك اللحظة التي يواجهها فيه فرد مواجهة علنية بخروجه من الإسلام. ولقد اعتمدت الدولة الإسلامية ومنذ فترة محمد على تواطؤ بينها وبين غير المؤمنين وهو ألا تمسهم بأذاها طالما ارتضوا أن يكونوا منافقين يتظاهرون بالإسلام ويستبطنون لاإيمانهم --- وهكذا كان النفاق وظلّ وضعا متلاءما مع مصالح الدولة الإسلامية إذ ساهم في حفظ تماسكها واستمرارها. ولا نشكّ أن سدنة المشروع الإسلامي في السودان ومنذ لحظة انقلابهم ظلوا يرتجفون هلعا من كابوس احتمال تلك اللحظة التي ينقلب فيها مواطن سوداني على التواطؤ النفاقي ويكسر حاجز الصمت والخوف من الإسلام فيتكشّف بؤس المشروع وتتكشّف هشاشته الفكرية.
إن اللحظة التي قدّم فيها هذا الشاب المغمور رسالته القصيرة التي تقع في سبعة عشر سطرا وتتألف من أربع وثمانين كلمة والمكتوبة بخطّ اليد استغرقت في الغالب دقائق، إلا أنها دقائق تمثّل لحظة فارقة تحمل في أحشائها أكبر المعاني للذين يحلمون بحرية الفكر والتعبير في بلادنا، بل وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي وخاصة أقطاره التي تحكمها قبضة الشريعة. في تلك الدقائق المثقلة بالمعنى الكبير لتلك الحرية التي تنبع منها باقي الحريات حمل هذا الشاب المغمور على كتفه الهمّ الكبير للوطن وقضيته الكبرى وارتفع لمستوى فِعْل لم يُسْبق إليه: فِعْل الخروج المعلن من الإسلام أمام محكمة تجسّد بطش نظام إسلامي هو من أكثر الأنظمة قهرا وعَسْفا وعُتُوا وانتهاكا للحقوق في عالم اليوم. هذا الفعل المذهل الشجاع هو فعل شخص قرّر أن يثور على واقع النفاق والصمت والخوف من الإسلام وقرّر أن يكسب نفسه حتى لو خسر العالم كله لأن واجبه الأخلاقي يفرض عليه أن يكون صادقا كل الصدق مع نفسه ولأن توقه لحريته يعني ضرورة أن يعيش حياته وهو متّحد الظاهر والباطن.
عندما دخل الدسوقي محكمة أم درمان جنوب كان مغمورا ويقتات تاريخا صنعه الآخرون مثله في ذلك مثل الغالبية الساحقه من المواطنين العاديين. ولكنه وفي تلك اللحظة التي قدّم فيها عريضته خرج من مجال المواطن العادي المنفعل بالتاريخ ليدخل مجال المواطن الذي يريد أن يساهم في صناعة الفعل التاريخي، فعل التغيير من أجل عالم أكثر حرية وأفضل. وبرسالته الخطية القصيرة التي أعلنت أن لحظته كلاديني قد أزِفت وضع الدسوقي بصمة لن تنمحي في سجل كفاحنا من أجل حرية الفكر والتعبير. والدسوقي منذ هذه اللحظة الفارقة التي صنعها بموقفه لم يعد مغمورا وإنما أصبح عَلَما فارقا ووجها ناصعا لغد ناصع يجسّده جيله وهو يحمل آمال الوطن وأشواقه لغد محرّر من كل أشكال القهر.
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم وحاليا مدير مركز الدراسات النقدية للأديان
kassalawi99@hotmail.com

346
كاظم حبيب
قرية "جه له مورد" تحتفي بالذكرى التاسعة والعشرين للمؤنفلين منها
أخبرني صديق عزيز عن وجود احتفالية تأبينية بالذكرى التاسعة والعشرين الحزينة لمؤنفلي قرية "جلمود" التابعة لقضاء كويسنجق التابع لمحافظة أربيل بإقليم كردستان العراق، واستفسر من الصديق نهاد القاضي، الأمين العام لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق، ومني إن كان يهمنا حضور هذا الاحتفال. وافقنا مباشرة ودون تردد على المشاركة.
على الساعة السابعة إلا ربعاً من صباح يوم الأربعاء 10/05/2017 وصل الصديق على محمود، الملقب بـ "على سياسي" بسيارة بيكاب إلى باب الفندق حيث نقيم برفقة رفيقه صاحب السيارة كاك فاتح لنرافقهما إلى مكان الاحتفالية. انطلقت السيارة باتجاه كويسنجق، وقبل وصولنا مركز القضاء انحرف بنا فاتح صوب طريق ترابي متعرج تاركاً الطريق العام المبلط قاطعاً التلال والسهول والجبال الواطئة بسرعة كبيرة مزعزعاً عظامنا والأضلاع المتزعزعة أصلاً ولم يرحم أنين عظامنا. بعد ساعتين ونصف الساعة وصلنا إلى سفح جبل مشرف على القرية المنكوبة حيث أقيم على قمتها مسرح صغير على عجل ليكون منصة للخطابة بذكرى هذه الفاجعة الأليمة. وفي طريقنا إلى القرية التقينا بعدد كبير من العائلات والأفراد المتوجهين بسياراتهم صوب موقع الاحتفال التأبيني مرتديين ملابسهم الكردية المعبرة عن حزنهم الشديد وبعيداً عن تلك الملابس الزاهية التي عرفت بها النساء الكرديات الشجاعات، إذ فقدت هذه العائلات أعزاء لها في تلك الكارثة اللعينة، في عمليات الأنفال الجهنمية التي نفذها الدكتاتور صدام حسين ونظامه الدموي على مدى تسعة شهور ابتداءً من شباط/فبراير حتى أيلول/سبتمبر 1988. ولم يكن ما حصل فاجعة اعتيادية، كما ينفذها الكثير من المستبدين في بلدان أخرى، بل كان إبادة جماعية وضد الإنسانية بكل ما تعنيه هذه المجازر وما يتضمنه الجينوسايد من مضامين.
حين وصلنا كان سفح الجبل الصغير مكتظ بالنساء والرجال والصبية المرافقين بل وبعض الأطفال حيث حملتهم أمهاتهن لموقع الاحتفال. كان الحشد كبيراً حيث عرضت صور من تبقى ممن فقدوا القسم الأكبر من عائلاتهم، وهم نساء ورجال كبار السن ومقعدين، وكان قد أبعدوا إلى نقرة السلمان، ثم عاد البعض منهم ولم يقتل أو يموت هناك. كيف ارتكبت هذه الجريمة البشعة حيث راح ضحيتها 480 شخصاً من أهالي قرية جلمورد فقط؟ لقد سطرت أسماؤهم، مع عدد كبير آخر بلغ مجموعهم 1629 اسماً، وكلهم من أبناء منطقة ومن عشيرة شيخ بزيني، على لافتات علقت على جانبي المسرح. 
وقعت هذه الجريمة ضمن المرحلة الرابعة من عمليات الإبادة الجماعية، التي أطلق عليها الدكتاتور صدام حسين بعمليات الأنفال، التي بدأت في الشهر الخامس من العام 1988. فقد وصل خبر لأهل قرية (جلمورد) إن الأفواج الخفيفة التابعة للجيش العراقي قادمة باتجاه قريتهم والقرى المجاورة. فقرر أهل هذه القرية ترك قريتهم والاختفاء في سهل بعيد نسبياً يصعب الوصول إليه. إلا إن واحداً من جحوش المنطقة كان قد توجه لزيارة أقارب له بين المختفين من أهل القرية، وكان مُراقباً ومُلاحقاً من جهاز استخبارات النظام المرافق للأفواج الخفيفة. هذا ما نقله لي أحد المشاركين في هذه الاحتفالية من الذين كرموا لنشاطهم في الدفاع عن ضحايا الأنفال. فتمكن جهاز الاستخبارات من تحديد المكان الذي التجأت إليه العائلات الهاربة من بطش القوات العسكرية العراقية. فتم تطويق المكان من قبل عساكر النظام الدكتاتوري وجلاوزته، حيث سلبوا وضربوا أولاً، ثم وضعوا في تراكتورات قادتهم إلى مكان مجهول وانتهى كل أثر للأطفال، بمن فيهم الرضّع، والنساء والرجال، بمن فيهم كبتر السن والمرضى، منذ تلك اللحظة من يوم 10/05/1988 حتى يومنا هذا، كما لم يعثر على قبور جماعية لهم حتى الآن، علماً بأن التحريات عن القبور الجماعية قد عثرت على مئات القبور الجماعية بعد الخلاص من النظام الدكتاتوري بإقليم كردستان في النصف الثاني من عام 1991 ومن ثم بعد إسقاط النظام العنصري الدكتاتوري كلية في العام 2003.
لقد اكتسحت قوات النظام الدكتاتوري المطلق، المدججة بالسلاح وملغمة بالكراهية والحقد، التي بثها في صفوف قواته ضد الشعب الكردي، 14 قرية من قرى هذه المنطقة حيث نقل من كان فيها في تلك الفترة إلى منطقة أخرى لينتهوا إلى غير رجعة، حيث لا يعرف مصيرهم حتى الآن. وقد نشرت أسماء هذه القرى وسكانها المؤنفلين على النحو التالي: 
القرية      عدد المؤنفلين         القرية        عدد المؤنفلين
جلمود      480             قسروك         208
گرد خبر    198            سرچنار      127
توتقل      127             كاني هنجير      100
شيخان    95            گلناغاجي گورة   90       
جوغليجة   90              أسكة ندربكي      36
قميشة      34             گلناغاجي چووك   26
قودرته      13            ماملسي      5
المجموع الكلي 1629 شخصاً مؤنفلاً.
وفي ذات الفترة، وفي قرى مجاورة هي كوب تبه وعسكر أعطى المجرم على حسن المجيد الملق بــ "علي كييماوي" أوامره بضرب القريتين بالكيمياوي فأدى إلى قتل عدد تراوح بين 150-170 شخصاً من سكان القريتين، ثم حضرت الأفواج الخفيفة لتؤنفل الجرحى من سكان القريتين عن بكرة أبيهم. كان ذلك يوم 03/05/1988. إنه ليوم وأيام وأشهر عار في جبين النظام الدموي وفي جبين القوات والقيادات التي نفذت تلك العمليات الجبانة والهمجية.
في هذه الاحتفالية رفع علم كردستان على سارية مرتفعة، كما علقت على جوانب المسرح شعارات منددة بعمليات الأنفال وممجدة بضحايا الأنفال وشعارات عن مضمون الإبادة الجماعية، باعتبارها جرائم إبادة جماعية لا تعرف التقادم في محاسبة المسؤولين عن التخطيط لها وتنفيذها. وتشير أغلب المصادر إلى أن ضحايا الانفال بلغ عددهم 182 ألف مؤنفل. ولكن الأسماء التي حصل عليها حيث تدفع حكومة الإقليم رواتب لعوائل الضحايا 63 ألف عائلة، كما وزعت عليهم قطع أرض لأغراض بناء دار عليها للسكن.
في وقف الحضور دقيقة حداد على أرواح المؤنفلين وقرأوا النشيد الوطني الكردستاني، أي رقيب، ألقي بعدها عدد من الأشخاص المسؤولين في الاحتفال كلمات بالمناسبة، كما قدمت المقاطع الحزينة، وألقيت بعض القصائد الشعرية المعبرة عن المأساة والكوارث التي لحقت بالشعب الكردي في عمليات الأنفال المرعبة.
طالب المشاركون في هذا الاحتفال والخطباء بمحاكمة من خطط ونفذ هذه العمليات الإجرامية ضد المضمون العنصري والفاشي المشين، ومحاكمة قاد تشكيلات الجحوش التي ساندت النظام في جرائمه ضد الشعب الكردي وفي عمليات الأنفال والتي أطلق عليهم النظام بـ"الفرسان!".
لقد كان لي شرف المشاركة في المؤتمر الأكاديمي لعمليات الأنفال الذي عقد في أربيل عام 2002، وفي حينها زرت العديد من العائلات المهجرة والتقيت ببعض الهاربين من جحيم الأنفال وزرنا حلبچة التي ضربت بالكيمياوي وحصدت الضربة خمسة آلاف شهيد ومثله من الجرحى والمعوقين. لهذا كان ضرورياً ومفيداً أن التقي ثانية بعائلات ضحايا الأنفال الذين نكبوا بأقاربهم الأعزاء.   
لقد كانت تجربة غنية لي وللصديق الأستاذ نهاد القاضي أن نحتك بعائلات المؤنفلين، وأن نعيش مشاعرهم والأجواء السائدة في صفوفهم رغم حرارة الشمس المحرقة التي أرهقت الكثيرين ممن هو بعمري وعلى مدى عدة ساعات متواصلة. لقد سيطرت علينا الكآبة والحزن الشديدين حين مررنا بعدد من القرى المؤنفلة، ولكن سعدنا أيضاً لعودة الحياة إليها. إن من واجبنا، بل من واجب البشرية جمعاء النضال الصارم والمتواصل لكي لا تتكرر مثل هذه الجرائم البشعة لا بالعراق أو كردستان أو نينوى فحسب، بل وفي كل أنحاء العالم ويسود السلام والوئام للبشرية جمعاء. لقد كنا نعتقد بأن ما حصل بكردستان لن يتكرر ثانية بالعراق، ولكن النظام السياسي الطائفي والحكام الطائفيين عملوا بكل السبل غير المشروعة والمخالفة للدستور وبسياساتهم الشوفينية والطائفية ودون هوادة قد وفّر مستلزمات ما حصل بالموصل ونينوى، وقبل ذاك في محافظات غرب العراق، الت سهلت مهمة اجتياح داعش للموصل فنينوى وممارسة الإبادة الجماعية بحق المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان والكثير من أبناء وبنات السنة وتدمير الموصل والكثير من مناطق نينوى منذ حزيران/يونيو 2014 في فترة حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. 

347
كاظم حبيب
من يوجه أجهزة الأمن والمليشيات الشيعية المسلحة من أمام ستار؟
بعدد التجاوز غير القانوني والمدان على الحرم الجامعي، ثم الاعتداء المخالف للشرعية الدستورية على طلبة جامعة القادسية من ميليشيات طائفية وأمنية مسلحة واستخدامهم السلاح وجرح البعض منهم وضرب البعض الآخر، وبعد الاعتداء الإجرامي على  مقر محلية الحزب الشيوعي العراقي في مدينة الديوانية، وهو حزب مجاز رسمياً  ومسؤولية الدولة حماية مقراته وأعضاء الحزب، ورغم الاحتجاجات السياسية والشعبية ضد هذين الفعلين الخسيسين، جرى فجر يوم 08/05/2017  اختطاف ٧ من المواطنين الناشطين في الاحتجاجات المدنية وهم 1. عبد الله لطيف فرج عضو مكتب سكرتارية اتحاد الطلبة العام في جمهورية العراق، 2. سامر عامر موسى، 3. زيد يحيى، 4. حيدر ناشي حسن، 5. احمد نعيم رويعي، 6. علي حسين شناوة و٧. حمزة  من أماكن سكنهم في وسط بغداد.
إن هذا الفعل المشين والجبان، وهو عمل خارج إطار الشرعية الدستورية والقوانين المرعية وحقوق الإنسان، من جانب أجهزة أمنية وميليشيات شيعية متطرفة وخاضعة لإرادة غير مسؤولة وإرهابية، لإرادة تحكم العراق ليس من وراء ستار أو خشية من أحد، بل تمارس الحكم الفعلي على هذه الأجهزة وتوجهها كما تشاء لفرض إرادتها واستبدادها على المجتمع وضد القوى المدنية والعلمانية ،على وفق ما هدد به وما جاء في خطاب رئيس الوزراء السابق والمستبد بأمره بالعراق الذي ادعى زيفاً بحكم المدنيين والعلمانيين سبعين عاماً وأنه سلموا الحكم بيد الإرهابيين! وهي فرية ما بعدها فرية وقحة. وهذا السلوك المشين يأتي نتيجة منطقية لعدم تقديمه للمحاكمة للتهم الكثيرة الموجهة له من جانب هيئات وقوى وشخصيات حقوقية، كما ثبت ذلك من تقرير اللجنة البرلمانية الذي وضع في أدراج مجلس الوزراء والسلطة التنفيذية ليتراكم عليهما الغبار إلى حين.
إن على السلطات الثلاث أن تحتج على هذه العمليات غير الدستورية من خفافيش الليل، وهم يذكرون المجتمع بأفعال أجهزة أمن النظام الدكتاتوري السابق والدكتاتور صدام حسين، وأن تعمل على إطلاق سراح المختطفين والمعتقلين في السجون السرية لهذه المليشيات المسلحة والجبانة فوراً، وهي مسؤولة بشكل كامل عن صحة وأرواح النشطاء السبعة. إني إذ أدين هذا الفعل المناهض لحرية التعبير والتجمع والتظاهر وحقوق الإنسان، أطالب، ومعي الآلاف المؤلفة من المناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلم الاجتماعي، في سبيل دولة مدنية ديمقراطية اتحادية وعلمانية، إدانة هذا الفعل الجبان وإطلاق سراحهم فوراً والكف عن هذه الممارسات غير الخاضعة للدستور والقوانين العراقية.
 




348
كاظم حبيب
من هم مزورو الوقائع والتاريخ بالعراق؟
قبل أيام قليلة بدأ رئيس الوزراء السابق بشن حملة جديدة مشحونة بالكراهية والحقد والعدوانية التي لا تختلف قطعاً عن عداء السلفيين المتطرفين كافة لكل ما هو عقلاني ونبيل في عراقنا الحبيب، وفي الوقت ذاته ممجداً كل ما هو رث ومدمر لشعبنا العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والديمقراطية، لكل ما هو مدني وعلماني ينسجم مع ما توصل إليه العالم من حضارة إنسانية نبيلة وقيم ومعايير ديمقراطية متقدمة لممارسة الحكم بالعراق. لقد أدعى، وهو يدرك زيف ما يدعيه، بأن العلمانيين الذين حكموا العراق 70 عاماً سلَّموا البلاد إلى الإرهابيين!، فهل هناك من كذب أكثر من هذا الافتراء وزييف الوقائع والتاريخ؟ وهو كما يبدة يعتقد بأن الناس مغفلون إلى هذه الدرجة التي تمر عليه مثل هذه الفرية الوقحة! ولكنها في ذات الوقت فهي محاولة بغيضة وفاشلة لإبعاد التهمة الموجهة له أساساً. ولا يجسد هذا الهجوم سوى الضعف الشديد الذي يعاني منه رئيس الوزراء السابق والعزلة الخانقة التي يعيشها، إذ عاد ليغازل بعض القوى دون استعدادها للتحالف مع من تسبب في اجتياح الموصل ونينوى ومحافظات أخرى قبل ذاك. علينا هنا أن نتذكر ما قاله هتلر وردده وزير أعلامه هملر: "اكذبوا، ثم اكذبوا، ثم أكذبوا، لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس"!
السؤال الذي يزداد طرحاً في الساحة السياسية العراقية والعربية هو: من أدخل الإرهاب إلى العراق، هل المدنيون والعلمانيون أم رئيس الوزراء الأسبق ومن ثم رئيس الوزراء السابق ومن معه من القوى الطائفية السياسية المقيتة؟  ألم يكن رئيس الوزراء السابق، ومن هم معه، من عمل على إقامة النظام السياسي الطائفي بالبلاد وميز بشراسة وإصرار بين القوميات وأتباع الديانات والمذاهب بالبلاد؟ ألم يكن هو ومن هم معه، من ألغى فعلياً هوية المواطنة العراقية من قاموس النظام السياسي الطائفي المحاصصي وفرض على المجتمع والدولة الهويات الفرعية وأساء إليها وحولها إلى هويات قاتلة لهويات فرعية أخرى، كما استجابت لذلك ومارست، بدفع منه ومن هم معه من الطائفيين شيعة وسنة، المليشيات الطائفية المسلحة، الشيعية منها والسنية، في القتل على أساس الهوية؟ ألم يكن هو، ومن هم معه ورئيس حزبه  السابق من أدخل الميلشيات الشيعية المسلحة والمنفلتة من عقالها إلى وزارة الداخلية والأمن الوطني تعيث التي ما زالت تعيث بالعراق قتلاً وفساداً؟ ألم يكن هو، ومن هم معه، من سمح، وبقرار من رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، الذي هو نفسه دون غيره، بالانسحاب أمام عصابات داعش الإجرامية، أي انسحاب 40 – 45 ألف جندي وضابط ورجل أمن أمام حوالي 1000 شخص من مجرمي داعش، وتسبب هذه الهزيمة المدمرة في تحقيق الاجتياح الكامل للموصل وسهل نينوى، وفي توفير مستلزمات تنفيذ أكبر عمليات إبادة جماعية ضد أبناء وبنات شعبنا من الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان والكاكائيين وغيرهم في محافظة نينوى، عمليات قتل وسبي واغتصاب وبيع النساء في سوق النخاسة والتشريد والتهجير القسري والسلب والنهب للمواطنين والمواطنات؟ ألم يكن هو، ومن هم معه، يا من يحاول اليوم التهرب من مسؤوليته ورميها على عاتق من تعرض لإرهابه في العام 2011، وفيما بعد أيضاً، وكذلك الآن في الديوانية والقادسية؟ ألم يكن هو، ومن هم معه، من تسبب في سرقة ونهب أكثر من 250 مليار دولار أمريكي، حين كان رئيساً للوزراء بمشاريع وهمية؟ وفي عهده البغيض وسني حكمه العجاف تم صرف 40 مليار دولار لإقامة مشاريع للطاقة الكهربائية، ورغم ذلك ينقطع الكهرباء عن أهل العراق أكثر من 12 ساعة يوميا؟
إنه ما زال يسعى للعودة إلى رئاسة الوزراء وهو المسؤول، مع غيره من الطائفيين السياسيين بامتياز، عن كل ما حل بالعراق وعن مئات الألاف من القتلى والجرحى خلال السنوات المنصرمة ومنذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة؟ وهل يعتقد إن ذاكرة الشعب بهذا القصر، وإذا كانت كذلك، فهي نتيجة لتجهيلهم الشعب وبث الخرافات والأساطير والأموال أيضاً لتزييف الوعي وتشويه القيم وغسل الذاكرة وشراء الإرادة.
إن من يقبل التعاون معه لا يمكن أن يكون إلا مماثلاً له في سوء النية والكراهية والحقد ضد الإنسان وحقوقه وحريته وحياته الديمقراطية والكريمة.
سيذهب كل المستبدين المناهضين للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة إلى مزبلة التاريخ ولن يبقى سوى الشعب وقواه التي تناضل من أجل هذه المبادئ النبيلة.

349
ملحق البيان الختامي الصادر عن المؤتمر الثاني لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق
انتهت جلسات اليوم الثاني للمؤتمر الثاني لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق بمدينة تلسقف في سهل نينوى بمحافظة نينوى بتاريخ 02/05/2017، بعد أن جرى انتخاب الأمانة العامة الجديدة وتسليم الأمانة العامة السابقة مهماتها للهيئة الجديدة. وقد شكر المؤتمر أمين عام وأعضاء الأمانة العامة السابقة على ما أنجزته من مهمات في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيدات. وكانت الهيئة السابقة قد انُتخبت في المؤتمر الأول للهيئة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012 بمدينة السليمانية وبدعم من السيد رئيس الجمهورية مام جلال الطالباني، وهم السيدات والسادة نرمين عثمان، نهاد القاضي، د. تيسير الألوسي، راهبة الخميسي، د. عقيل الناصري، جورج منصور، د. صادق البلادي، كامل زومايا، د. كاترين ميخائيل، نور نجدت, ماجدة الجبوري، مازن لطيف وديندار شيخاني. كما أضيف إليها السيد علاء مهدي رئيس فرع الهيئة في أستراليا. وجرى انتخاب السيد نهاد القاضي أميناً عاماً للهيئة. وفي مجرى العمل قدم السيد جورج منصور استقالته من الأمانة العامة. وقد انتخب القاضي السيد زهير كاظم عبود عضواً في الأمانة العامة، ولكنه تفرغ للعمل عضواً في المجلس الاستشاري للهيئة. 
وفي المؤتمر الثاني للهيئة جرى انتخاب السيدات والسادة التالية أسماؤهم أعضاء في الأمانة العامة الجديدة:
نهاد القاضي، راهبة الخميس، د. كاترين ميخائيل، سوزان خديدة خلت، بشير شمعون دوراشعيا، عارف الماضي، فارس إلياس كتي، فوزي البريسم، عقيل كاظم التميمي، سليمان خدر سليمان، خيري فوزي إلياس, فاتن عبد الإله أحمد ومازن لطيف.
واجتمعت الأمانة العامة الجديدة وانتخبت السيد نهاد القاضي أميناً عامة للفترة القادمة بين مؤتمرين، كما جرى الاتفاق على استكمال توزيع العمل بين أعضاء الأمانة العامة وتشكيل اللجان الضرورية لإنجاز مهمات الهيئة على وفق توصيات المؤتمر الثاني.
الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق
أربيل في 03/05/2017   

350
البيان الختامي للمؤتمر الثاني لهيئة أتباع الديانات والمذاهب في العراق
على مدى يومي 1-2/5/2017 عقد في مدينة عنكاوة/إقليم كردستان العراق المؤتمر الثاني لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق حضره جمع كبير من الضيوف والمندوبين من مختلف أنحاء العراق، ولاسيما من بنات وأبناء الذين انتهكت حرمات مناطقهم من جانب قوى الظلام والاستبداد والقهر والسبي والاغتصاب والسلب والنهب والقتل، من إيزيديين ومسيحيين وشبك وكاكائيين وبهائيين وزرادشتيين وتركمان، على أيدي عصابات داعش الإرهابية، إذ امتلأت قاعة المحاضرات الكبيرة في الجامعة الكاثوليكية وقاعة مقهى السلام في مدينة تلسقف المدمرة في سهل نينوى في اليومين الأول والثاني على التوالي. كما شارك أعضاء من الأمانة العامة والهيئة العامة من بعض الدول الأوروبية.   
وبعد الوقوف دقيقة صمت حداداً على أرواح الشهداء من ضحايا قوى الطائفية المسلحة والتنظيمات الإرهابية من قوى القاعدة وداعش وغيرهما.
بعد ذلك قدم الزميل السيد كامل زومايا كلمة اللجنة التحضيرية للمؤتمر للمؤتمر الثاني، حيث عرض فيها عواقب السياسات الطائفية التي كانت وما تزال تمارس في العراق، والتي أدت إلى تغييب كامل لهوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية، والتشبث غير العقلاني بالهويات الفرعية القاتلة باعتبارها الهوية الرئيسة لكل فئة وطائفة، والتي أدت إلى انتشار الإرهاب الدموي إلى مناطق كركوك وديالى، وإلى تنفيذ عمليات الإبادة الجماعية بحق الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان في محافظة نينوى و قضاء سنجار. ودعا إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بدعم النازحين والتصدي لعمليات التغيير الديمغرافي ومساءلة المسؤولين عما حصل في العراق منذ سقوط الدكتاتورية حتى الآن.
ثم افُتتح المؤتمر بكلمة الامانة العام لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب قدمها الزميل السيد نهاد القاضي، الامين العام للهيئة ورئيس اللجنة التحضيرية، حيث رحب بالحضور الكريم والواسع والمتنوع للضيوف والمندوبين وتمنى للمؤتمر النجاح. ثم عرج بكلمته على المشكلات التي تواجه العراق في مجال انتهاك حقوق أتباع الديانات والمذاهب وما تعرضوا له من ابتزاز وتهديد وقتل وتشريد ونهب للدور ومحلات العمل وقتل على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة قبل وبعد اجتياح الموصل، سواء أكان ذلك في وسط العراق، أم جنوبه، أم في محافظتي بغداد ونينوى، ومن ثم عبر الاجتياح لمحافظة نينوى على أيدي إرهابيي داعش ومن شارك معهم في عمليات الإبادة الجماعية. وطرح المطالب المهمة التي يسعى المجتمع العراقي إلى تحقيقها لإنقاذ العراق من براثن الطائفية السياسية والإرهاب والفساد والميليشيات الطافية المسلحة.
ثم القى الزميل القاضي السيد زهير كاظم عبود كلمة الهيئة الاستشارية لهيئة الدفاع حيث تطرق إلى العوامل التي تسببت في تشكيل هيئة الدفاع في العام 2004 والمهمات التي نهضت بها والتي يفترض أن تواصل النهوض بها بسبب طبيعة النهج والسياسات الطائفية التي التزمت بها الدولة العراقية بسلطاتها وتخليها عن مفهوم المواطنة وخوض الصراعات الطائفية المدمرة لوحدة الوطن والشعب. وبرزت عواقب جريمة الإبادة الجماعية، ولاسيما ضد الإيزيديين الذين تعرضوا للقتل والسبي والاغتصاب وبيع النساء في سوق النخاسة والتشريد والتهجير القسري، والذي لم يشهده العراق الحديث وبهذه الهمجية التكفيرية وباسم الإسلام، وكذلك ما تعرض له المسيحيون والشبك والتركمان من إبادة جماعية. وطالب بتغيير هذا الواقع المر والتخلي عن نهج الطائفية السياسي والتمييز الديني والمذهبي والفكري وضد المرأة، واستكمال تحرير الأرض والشعب وإعادة النازحين إلى مناطق سكناهم وإعادة إعمارها وتعويض المتضررين ومساءلة كل المسؤولين الذين تسببوا بما جرى ويجري بالعراق ولاسيما منذ اجتياح الموصل وسهل نينوى.
 ثم قدم الزميل السيد محسن شريدة، عضو مكتب السلم العالمي في جنيف، كلمته التي عرّف فيها طبيعة ومهمات مجلس العالمي وعلاقته بالدول والنامية وقضايا السلام والدفاع عن حقوق الإنسان والقوميات وأتباع الديانات والمذاهب وعلاقة المجلس الحميمة بقضايا العراق وبمنظمات المجتمع المدني المناضلة في سبيل حقوق الإنسان وأدان جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت بالعراق.
بعد ذلك قدمت السيدتان البروفيسورة أليسا يودن فوركن، النائبة الأولى للرابطة الدولية لعلماء الجينوسايد، والدكتورة إيرينا فكتوريا، سكرتيرة الرابطة، تقريرين مهمين عن مفهوم وطبيعة وشرط اعتبار الجرائم المرتكبة في العالم ومنها العراق جرائم إبادة جماعية ونقلا تجارب الرابطة بهذا الصدد لما حصل في بلدان أخرى. ثم قدما العديد من التوصيات للعراق لكي يستطيع معالجة هذه المسألة لصالح المتضررين من الجينوسايد في الموصل وسهل نينوى.
بعد ذلك قدم الزميل أمين عام هيئة الدفاع عن أتباع الديانات المهندس الاستشاري نهاد القاضي تقريرا تفصيلياً وشاملاً عن أوضاع أتباع الديانات والمذاهب، ولاسيما أتباع الديانات التي تعتبر ضمن ما يطلق عليه بـ "الأقليات الدينية"، في مختلف المجالات والمستويات، والعواقب المرعبة التي لحقت بالإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان وسقوط آلاف الضحايا من النساء والأطفال الذين تم سبيهم واغتصابهم وبيعهم في سوق النخاسة "الإسلامي"، وما نشأ عن ذلك من نزوح لمئات الآلاف من سكان المناطق التي تعرضت للاجتياح في محافظة نينوى، إضافة إلى نزوح مئات ألوف أخرى من مناطق غرب العراق. كما حدد الأسباب الكامنة وراء هذه الهمجية في التعامل مع أتباع الديانات والمذاهب والتي لا تمت إلى القرن الحادي والعشرين وحضارة الإنسان الحديث، وتحت وطأة ذهنية التكفير والنهج عدواني والعنصرية المقيتة والتمييز بين "الأنا" و "الآخر"، وطالب بمعالجة جادة وسريعة لأوضاع العراق باتجاه إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية الحديثة التي تفصل بين الدين والدولة، وبين السلطات الثلاث واستقلال القضاء ومساءلة المسؤولين عما ارتكبوا من جرائم ضد الإنسان العراقي على مدى الفترة المنصرمة، واكد على المواد والقوانين الموجودة في الدستور العراقي التي تنص على حقوق الاقليات، ولكنها لم تطبق، وان طبق بعضها، لم يطبق بالصورة السليمة التي تضمن حقوق الاقليات، ووضع أمام المؤتمرين المواد الدستورية التي تتعارض مع حقوق أتباع الديانات والمذاهب وحرياتهم وطقوسهم الدينية وتمارس التمييز الصارخ بين حقوق الاغلبية والاقليات واكد على إشكاليات التغيير الديمغرافي الحاصلة في فترة حكم النظام السابق والنظام الحالي. كما تطرق الى صمت المرجعيات الدينية عما حصل ويحصل لأتباع الديانات والمذاهب في العراق.
تم بعد ذلك اختيار رئاسة المؤتمر من الزميل الدكتور كاظم حبيب رئيسا وعضوية الزميلة االسيدة راهبة الخميسي والسيد حسام عبدالله
وبعد الانتهاء من إلقاء التقرير دعا الأمين العام للهيئة السيدة ميسون الدملوجي والسيد جوزيف صليوا، وهما عضوان في مجلس النواب العراقي، وكذلك السادة مريوان نقشبندي وخيري بوزاني من مديرية الأوقاف العامة بالإقليم، ونائب رئيس مجلس محافظة كركوك ادورد البير، لمناقشة التقرير والإجابة عن أسئلة الحضور. وتميزت الندوة بالجرأة والصراحة والحيوية في طرح الأسئلة وفي الإجابة عنها. بعدها رفعت الجلسة الأولى لليوم الأول.
وفي الجلسة الثانية قدم البروفيسور الدكتور قاسم حسين صالح مشكوراً محاضرة مهمة بعنوان "التطرف الديني وصناعة الموت"، مؤشراً العوامل الكامنة وراء حصول التطرف في السلوك اليومي لدى أتباع كل الأديان والمذاهب وفي فترات مختلفة، وعواقب ذلك على المجتمعات وسبل مواجهتها. ثم طرح الحضور الكثير من الأسئلة لأغراض المناقشة.   
وفي نهاية الجلسة كرّمت الأمانة العامة مجموعة من نشطاء الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق اتباع الديانات والمذاهب في العراق من الداخل والخارج.
وفي اليوم الثاني من المؤتمر غادر المندوبون مدينتي أربيل وعنكاوة باتجاه سهل نينوى في محافظة نينوى لعقد جلسات المؤتمر الثاني في مدينة تلسقف المحررة. وبعد زيارة مدينة باتنايا المهدمة بنسبة تزيد على 80% منها ورؤية ما فعله المجرمون الأوباش في بيوت وكنيسة المدينة الرئيسية من تخريب وإساءات وكتابات تعبر عن نهجهم العدواني والعنصري، عاد المندوبون إلى تلسقف وعقدوا جلستهم الأولى حيث قدمت الزميلة الدكتورة كاترين ميخائيل تقريرها عن مستقبل الأقليات في العراق، إذ أشارت في خلاصتها إلى الكوارث التي ارتبطت بالإبادة الجماعية التي تعرض لها الإيزيديون، بشكل خاص، والمسيحيون والشبك والتركمان والكاكائيين وغيرهم من أتباع الديانات وطالبت بذات المطالب التي عرضها المشاركون في المؤتمر، وأكدت ضرورة الاستماع لمطالب النازحين وأتباع الديانات بما يحمي كياناتهم ومناطقهم في العراق ويصون حقوقهم القومية والدينية والثقافية والإدارية.
ثم عقدت الجلسة الثانية حيث تم طرح التوصيات التي يرى المؤتمرون تدوينها وإيصالها إلى الجهات المعنية بها وملاحقة تنفيذها لصالح الضحايا وأهلهم والنازحين والمهجرين، ولصالح حماية حقوق جميع مواطني ومواطنات العراق، ولاسيما أتباع الديانات الذين تعرضوا للإرهاب والاجتياح والسبي والاغتصاب والناجيات منهن بشكل خاص. ثم كلف المؤتمر الثاني الأمانة العامة بتحرير تلك التوصيات ونشرها على أوسع نطاق ممكن وإيصالها لكل الجهات المسؤولة عن تنفيذها. 
قدم رئيس المؤتمر باسم المؤتمرين التحية والشكر لأعضاء الأمانة العامة السابقة على نشاطها المتسم بالمسؤولية والحرص، واسيما للذين ساهموا في ذلك النشاط وخاصة الأخ كامل زومايا والأخ حسو هورمي والأخت السيدة راهبة الخميسي. ثم قدم الشكر الجزيل لإدارة الجامعة الكاثوليكية بعنكاوا على توفيرها قاعة المحاضرات لعقد جلسات اليوم الأول، وتم شكر للذين وفروا لنا قاعة لجلسات اليوم الثاني في تلسقف وللقوات المسلحة التي رافقتنا في زيارتنا لمدينة باتنايا، وكذلك قوات حماية تلسقف. ثم قدم الشكر الجزيل لكل الذين قدموا تبرعات غير مشروطة لصالح عقد المؤتمر وإنجاحه.
بعدها عقدت الامانة العامة الجديدة المنتخبة اجتماعيا لانتخاب الامين العام الجديد وتوزيع المسؤوليات، وانتهى المؤتمر بشكر الامين العام لجميع من شارك في المؤتمر وعمل على إنجاحه.
الامانة العامة لهيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق
03-05-2017
ملاحظة: سترسل التوصيات وسبل متابعتها لاحقاً.

351


كاظم حبيب
هل من طريق لتحقيق التفاعل والتعاون والتنسيق بين قوى اليسار بالعراق؟
منذ الانهيار الذي حصل في منظومة الدول الاشتراكية، وفي المقدمة منها الاتحاد السوفييتي، بل حتى قبل ذاك، بدأ التفكير الموضوعي والعقلاني بأن اليسار ليس حزباً واحداً أو كتلة واحدة، بل يمكن أن ينشأ العديد من الأحزاب في البلد الواحد باسم اليسار، أو باسم الاشتراكية، أو الشيوعية، إذ لم يعد حزباً واحداً يمتلك أي حق في احتكار اليسار أو الماركسية. ولم يعد هناك من له الحق باتهام قوى يسارية أخرى بالانحراف عن الخط الماركسي، إذ لا يمكن لحزب أو كتلة أن تحتكر الحق المطلق بتفسير الماركسية على وفق المرحلة التي يمر بها هذا البلد أو ذاك، فالماركسية ليست عقيدة جامدة، بل هي نظرية هادية ومتحركة بالارتباط مع التغيرات الجارية في الزمان والمكان وبالوعي السليم لحركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي. ومن هنا يمكن أن تختلف قوى يسارية في ما بينها في تحليل الأوضاع السياسية، وبالتالي يمكن أن ترفع الشعارات التي ترى ضرورة رفعها في هذه المرحلة أو تلك. وهنا يمكن أن يبرز التباين في وجهات النظر وفي مضمون أو صيغة الشعارات التي ترفع. إنه أمر ممكن، ولا يمكن الحؤول دونه، إذ أن مستوى الأفراد ومستوى الأحزاب متباين من حيث الفكر والوعي بالواقع وكذلك التباين في الممارسة أو التجارب التي مرّ بها هذا الفرد او الحزب..
والوجود المتعدد لقوى وأحزاب اليسار، سواء بأسماء اليسار، أم الاشتراكية، أم الشيوعية، يفترض ألا يقود إلى صراع في ما بينها، بل إلى حوارات مركزة ونقاشات موضوعية وهادئة وبعيداً عن الاتهامات والإساءات بهدف الوصول إلى رؤية مشتركة، أو متقاربة، أو حتى في حالة الاختلاف، يفترض ممارسة الاحترام المتبادل باعتبارها قوى سياسية معارضة لما يجري بالبلاد وتطمح لتغيير الأوضاع لصالح المجتمع، لصالح المجتمع المدني الديمقراطي والدولة المدنية الديمقراطية. ويفترض أن يجري التحري عن نقاط الالتقاء لتأمين التعاون والتنسيق والتضامن بشأنها بين هذه القوى اليسارية، والسعي لمعالجة نقاط الاختلاف بكل هدوء وروية.
توجد الآن بالعراق، إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي، الذي بلغ عمره الآن 83 عاماً ولم يترك الساحة السياسية العراقية والعمل السياسي لحظة واحدة في كل تاريخه العتيد، ستة أحزاب وكتل تعلن عن كونها تنظيمات يسارية وشيوعية، وهي، على حسب علمي، على النحو الآتي:       
1)   الحزب الشيوعي العمالي العراقي؛ 2) اتحاد الشيوعيين في العراق - لجنة بغداد؛ 3) الحزب الشيوعي العمالي اليساري العراقي؛ 4) حزب اليسار الشيوعي العراقي؛ 5) التيار اليساري الوطني العراقي. وهناك بالإقليم 6) الحزب الشيوعي الكردستاني، و(7) الحزب الشيوعي العمالي الكردستاني
بعض أعضاء هذه الأحزاب والمنظمات كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي أو مؤيداً له، واختلف البعض منهم وشكل تنظيمات يسارية جيدة. وفي مثل هذه الحالة يفترض أن تنشأ علاقة ودية في ما بين هذه التنظيمات بغض النظر عن مدى قربها أو بعدها من حيث الأهداف والشعارات أو أسلوب العمل، وأن تحصل لقاءات وحوارات ونقاشات سياسية حول المسائل المختلف عليها، وربما يجد البعض أو كل هذه التنظيمات طريقاً مشتركاً للتعاون والتنسيق والتضامن، وربما تحقيق الوحدة بينها. إن الاختلاف في الرأي وفي التنظيمات القائمة يفترض أن لا يضيع في الود قضية، بل يفترض أن يحصل العكس، أي تنشأ علاقات جيدة وأفضل من العلاقة مع أحزاب ليبرالية أو إسلامية سياسية يمينية في كل الأحوال أو قومية يمينية أو حتى شوفينية، مع احتمال بوجود تطرف لدى هذا الحزب او ذاك من أزاب اليسار على وفق تقدير كل طرف، سواء شخص على إنه نحو اليمين أو نحو اليسار.
وفي الملمات تظهر إمكانيات اللقاء، وخاصة حين تهدد قوى إسلامية سياسية متطرفة وميليشياتها المسلحة أحد أطراف الحركة الوطنية العراقية أو أحد الأحزاب اليسارية كجزء أصيل من الحركة الوطنية العراقية. وفي الآونة الأخيرة تعرض مقر الحزب الشيوعي العراقي بمدينة الديوانية إلى الاعتداء الغاشم من عناصر تابعة لمليشيات إسلامية سياسية متطرفة، أدى إلى تحطيم الأثاث وإلحاق بعض الأضرار بالمبنى ولكن دون ضحايا بشرية. وكان قبل ذاك قد جرى اعتداء مسلح من ميليشيات طائفية مسلحة وإرهابية على جامعة القادسية، مما دفع إدارة الجامعة لا إلى تقديم دعوى ضد المعتدين، بل طرد أربعة طلاب من الدراسة الجامعة لمدة عام واحد وفق القرار الإداري رقم 382 لسنة 2017 على وفق المادة 5 الفقرة العاشرة من تعليمات وزارة التعليم العالي رقم 160 لسنة 2007، في حين كان الواجب يقضي بالالتزام بالمادة الأولى وعلى وفق الفقرات 11، 12، و13 من تلك التعليمات التي ترفض " الدعوة لتنظيمات تعمق الفرقة او ممارسة أي صنف من صنوف الاضطهاد السياسي ) و( تجنب الدعاية لأي حزب او تنظيم سياسي) و( عدم دعوة شخصيات حزبية لإلقاء محاضرات أو إقامة ندوات حزبية او دينية داخل الحرم الجامعي". وقد أرسلت ونشرت الأحزاب والقوى اليسارية المذكورة في أعلاه رسائل إدانة واحتجاج ضد رمي المتفجرات على مقر الحزب بالديوانية وتضامن رفاقي مع الحزب الشيوعي العراقي، كما أرسلت قوى أخرى عديدة رسائل تأييد أو اتصالات هاتفية لذات الغرض. وكان موقف قيادة الحزب الشيوعي العراقي سليماً وناضجاً حين قامت، ولأول مرة، بنشر مقاطع ضافية من تلك الرسائل في جريدة الحزب المركزية وكذلك في الموقع الرئيسي للحزب الشيوعي العراقي. وإذا كانت بادرة الأحزاب والقوى اليسارية جيدة، فأن رد الفعل من الحزب الشيوعي كان هو الآخر جيداً وواعياً لطبيعة المرحلة ومهمات اليسار العراقي، ويأمل المتتبع أن يكون هذا الموقف بادرة جيدة لبدء حوارات ونقاشات بين جميع القوى اليسارية العراقية، ويمكن أن يمسك الحزب الشيوعي العراقي زمام المبادرة، باعتباره أكبر وأعرق هذه القوى في العمل السياسي بالعراق.
وقد نشر الكاتب اليساري رزكار عقراوي مقالاً مهماً يحث فيه قوى اليسار العراقي إلى الحوار، كما طرح مشروعاً مهماً لهذا الغرض. يأمل الكثير من اليساريين العراقيين أن تؤخذ مبادرة رزكار عقراوي على محمل الجد خلال الفترة القادمة. [ http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=556338]
وكما إن من واجب الحزب الشيوعي العراقي القيام بمباحثات مع قوى سياسية عراقية أخرى، كما هو جار الآن عملياً، مع قوى سياسية أخرى بهدف الوصول إلى تحالفات وطنية قادرة على مواجهة الواقع الراهن وتغيير ميزان القوى لصالح الوطن والشعب ومبدأ المواطنة. ولا شك في أن الغرض من وراء هذه اللقاءات والحوارات والنقاشات يفترض أن يتجه صوب تأمين التعاون والتنسيق والتضامن النضالي مع كل القوى السليمة الت ترفض واقع الحكم السياسي الطائفي الذي يعتمد المحاصصة الطائفية المذلة لهوية المواطنة والمفرقة للصفوف بالعراق، والتي تعمل للخلاص من العواقب الوخيمة التي تحملها الشعب العراقي بكل قومياته واتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفلسفية من جراء وجود مثل هذا النظام الثيوقراطي المشوه. وأن يكون النضال من أجل إقامة دولة مدنية ديمقراطية اتحادية تحقق الفصل بين الدين عن الدولة مع الاحترام التام لوجود وحرية كل الديانات والمذاهب، وتفصل بين السلطات وتحترم استقلال القضاء، وتحارب الإرهاب والفساد وتحرِّم وتتصدى لنهج وسياسات التمييز بين المواطنين والمواطنات على أساس قومي أو ديني أو مذهبي أو من حيث الجنس، وتناضل من أجل بناء اقتصاد وطني وتنمية مستدامة تعمل للخلاص من واقع الاقتصاد الريعي والاستهلاكي والفقر والبطالة السائدتين وتأمن الأمن الغذائي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية بالعراق.
 








352
د. كاظم حبيب
واقع وعواقب السياسات الطائفية والشوفينية على هجرة مسيحيي العراق
"بمناسبة انعقاد المؤتمر الثاني للمنتدى العراقي لحقوق الإنسان والمؤتمر الثاني لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق في أربيل في الفترة 29-30/4/2017 و1-2/5/2017 على التوالي أنشر هذا المقال للتضامن مع أتباع المكونات الدينية والمذهبية الصغيرة بالعراق التي عانت وما تزال تعاني الأمرين على ايدي القوى الطائفية والقوى الإرهابية العراقية والإقليمية والدولية، وعلى ايدي المليشيات الطائفية المسلحة." كاظم حبيب 26/4/2017
بدأت هجرة العراقيات والعراقيين المسيحيين منذ العهد الملكي وارتبطت بالموقف من الآشوريين في الأحداث المفجعة لمجزرتي سميل وديرابون 1933، وبعد معاناتهم المريرة قبل ذاك حيث تعرضوا للاضطهاد والقتل والتشريد في الدولة العثمانية في فترة الحرب العالمية الأولى، أولاً، وهجرة مجموعة غير قليلة من الأرمن الذين استطاعوا النجاة من الإبادة الجماعية التي نفذتها الدولة العثمانية في أعوام 1915م1916 بحقهم ووصول مجاميع منهم إلى العراق، بسبب ظروف العيش الصعبة حينذاك، رغم ما حصلوا عليه من دعم من أقرانهم الأرمن الذين كانوا قبل ذاك بالعراق ثانياً. ولم يحصل للمسيحيين في فترة الحكم الملكي بعد مجزرة سميل ما حصل لليهود في عام 1941، والذي عرف بفاجعة الفرهود ببغداد والبصرة، ومن ثم التهجير الجماعي لهم في الفترة بين عام 1950-1952 والتي بلغ عددها أكثر من 120 ألف مواطنة ومواطن عراقي من أتباع الديانة اليهودية.
ثم كان نزوح وهجرة مسيحيي العراق في عام 1959 بعد قيام الجمهورية العراقية الأولى عام 1958، أي بعد أحداث الموصل وإفشال المحاولة الانقلابية للعقيد عبد الوهاب الشواف التي تمت بالتنسيق مع القوميين الناصريين والبعثيين وبدعم من الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) حينذاك، حيث أجبر المئات من العائلات المسيحية ترك الموصل والهجرة إلى بغداد والبصرة للنجاة من التهديد بالقتل والنهب والسلب لهم من تلك القوى السياسية القومية والبعثية والرجعية، وبعد أن وضعت إشارة حمراء على دورهم لتمييزها عن الدور الأخرى لمهاجمتها وإلحاق الأذى بهم.
ثم جاء النزوح الأكبر والهجرة الواسعة في أعقاب انقلاب شباط عام 1963 حيث تعرضت العائلات المسيحية بالعراق عموماً للتهديد والتشريد والقتل وكان منهم من وضع في قطار الموت في العام ذاته، منهم على سبيل المثال لا الحصر الشخصية الشيوعية والوطنية المميزة والشاعر والكاتب الفريد سمعان. وفي فترة حكم عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن محمد عارف بعد انقلابهم على حلفائهم البعثيين في تشرين الثاني 1963 حيث تواصلت هجرة المسيحيين، إذ كانت المضايقات على العائلات المسيحية مستمرة، رغم تقلصها النسبي في فترة حكم عبد الرحمن محمد عارف بالمقارنة مع فترة حكم عبد السلام محمد عارف.     
وفي فترة حكم البعث الثانية لم يعلن النظام عن عداءٍ مباشر للمسيحيين، خاصة وأن مجموعة من قادة ومؤسسي حزب البعث كانوا من المسيحيين. ولكن الممارسة العملية كانت تشير إلى عداءٍ مبطن للمسيحيين لعوامل عديدة بما في ذلك قناعة البعثيين والقوميين الناصريين بأن المسيحين وقفوا إلى جانب الشيوعيين وعبد الكريم قاسم وضد البعثيين والقوميين في محاولتهم الانقلابة في عام 1959 بقيادة العقيد عبد الوهاب الشواف، إضافة إلى قناعتهم بأن الإسلام والعروبة صنوان لا يفترقان، وبالتالي فأن أي دين آخر يعتبر مزاحماً للدين الإسلامي، كما إن أي فكر آخر غير الفكر القومي البعثي لا يمكن إلا أن يكون منافساً ومزاحماً وعدواً للعروبة ولحزب البعث والفكر القومي! وهذا التقدير الخاطئ والمقصود يسري على العراقيين والعرب الشيعة أيضاً. ومن هنا كانت هجرة العائلات المسيحية بطيئة وهادئة في البداية، ثم تنامت حين بدأ البعث بالهجوم على القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي، وحين بدأت الحرب ضد الكرد واعتقاد البعث بأن المسيحيين يقفون إلى جانب الكرد في صراعهم ضد حزب البعث، ثم تفاقمت الهجرة في فترة الحرب ضد الشعب الكردي وبقية المكونات القومية بالإقليم، والحروب الخارجية التي بدأت في العام 1980 ضد إيران ومن ثم احتلال الكويت في عام 1990، فحرب الخليج الثانية في عام 1991 وفرض الحصار الاقتصادي الدولي على العراق لمدة 13 سنة من السنين العجاف والمدمرة لوضع الشعب المعيشي والاجتماعي والنفسي. 
على امتداد سنوات العقد الثامن عمل صدام حسين بكل السبل غير المشروعة على توفير مستلزمات فرض الحكم الفردي المطلق بالبلاد وإبعاد كل المنافسين له في الحكم. وقد بات هذا واضحاً من تخريبه الكامل للعلاقة التحالفية مع الحزب الشيوعي العراقي أولاً، وقبل ذاك مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني، ومن ثم في تنظيم مجزرة جماعية بشعة لرفاقه القياديين والكوادر المتقدمة في حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم أو زج بهم في سراديب السجون الرطبة التي لا ترى الشمس ليخيسوا، على حد تعبير البعثيين أنفسهم. وفي هذه الفترة توفرت كل العوامل الطاردة للمواطنات والمواطنين المعارضين للنظام أو المختلفين معه من وطنهم والهجرة إلى بلد يمكن أن يوفر لهم الحرية والعمل والعيش الكريم والكرامة الشخصية. ولم يمس هذا الموقف المسيحيين وحدهم، بل شمل جميع فئات الشعب وأتباع دياناتها ومذاهبها. لقد أصبح العراق في ظل حكم البعث وصدام حسين تحت وطأة نظام استبدادي شرس وفاشي الأساليب والأدوات، في دولة أمنية بوليسية تمارس أساليب وأدوات عمل فاشية لفرض نفسها على الشعب، وحالة حرب وتجنيد وموت مستمر على جبهات القتال وفي سجون النظام العلنية منها والسرية، وحالة حصار اقتصادي انعدمت فيها سبل العمل والعيش وتفاقمت البطالة والحرمان حتى بدأ الناس ببيع مكتباتهم الخاصة ودور سكناهم ليقتاتوا منها. وكان المسيحيون ضمن من أُجبر تحت وطأة هذه الظروف الاستثنائية للهجرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا. وإذا كان العراق بطبيعة النظم السياسية وسياساتها وإجراءاتها وما زال طارداً للمواطنات والمواطنين، فأن هناك دولاً غربية، لاسيما الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا ودول الاتحاد الأوربي الغربية، كانت وما تزال جاذبة لهم بسبب الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان وإيجاد فرص عمل وحماية الكرامة الإنسانية. 
وفي الفترة التي شن النظام البعثي العدوان على إقليم كردستان والتي أطلق عليها بحملات الأنفال السيئة الصيت واستخدام الكيمياوي في حلبجة وفي غيرها في العام 1988 وعلى مدى تسعة شهور، وهي حملات تميزت بطابع الإبادة الجماعية الفعلية، حيث أجبر الكثير من المواطنات والمواطنين الكرد، وكذلك جماهير واسعة من المسيحيين والإيزيديين وغيرهم على ترك العراق والهجرة إلى الدول الغربية.
إن الأقسى والأكثر إيجاعاً لأي إنسان عاقل في أي دولة بالعالم ينشأ عند الإساءة لكرامته من خلال ممارسة التمييز إزاءه، إذ يتحول عندها إلى مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة، عندها يشعر بأنه لا يعيش في وطنه وبين مواطنات ومواطنين لا يختلفون عنه إلا بالدين أو المذهب أو القومية. وأغلب من غادر العراق من المسيحيين قد تعرضوا لهذا التمييز المجحف واللاإنساني واللاأخلاقي في آن واحد. لقد تعرضوا للبطالة كغيرهم من المواطنين، وتعرضوا للسجن في نضالاتهم مع الشعب، وتعرضوا للتعذيب والقتل كغيرهم من المواطنين، ولم يدفع بهم إلى الهجرة. ولكن حين لا يبدأ التمييز فحسب، بل والمضايقة والإساءة المستمرة، ثم التهديد بالقتل والتشريد من مناطق السكن، عندها يبدأ المواطن بالتفكير بالهجرة والخلاص من الجحيم الذي يعيش فيه. فالتمييز لا يقتصر على النظرة غير السوية إزاء الآخر من دين أو مذهب أو قومية أخرى فحسب، بل يسري على مجالات التوظيف وإبعادهم عن السلك الدبلوماسي ووزارة الخارجية والداخلية والتعليم والمواقع المهمة في القوات المسلحة وفي القضاء...الخ، وحين يصبح التهديد بالقتل والقتل الفعلي على الهوية لا للشخص وحده، بل ولأفراد عائلته وعيشه ودار سكنه ومحل عمله، عندها لا يجد أي مبرر لبقائه في الوطن الذي ولد فيه وترعرع، كما كان وطناً لأجداده منذ قرون كثيرة.
إن معاناة المسيحيين لم تكن قليلة في ظل حكم البعث الثاني، ولهذا أجبر عشرات الألوف منهم على الهجرة إلى الدول الغربية، ولكن ما حصل في ظل النظام الطائفي المقيت فاق كل الفترات السابقة بنسب كثيرة مضاعفة. وهي التي اقترنت بثلاثة عوامل أساسية:
1.   سياسات التمييز إزاء المسيحيات والمسيحيين من منطلق ديني متشدد تمارسه الدولة وسلطاتها الثلاث ومؤسساتها المختلفة.
2.   الإجراءات العدوانية التي مارستها الميليشيات الطائفية المسلحة بمدن الجنوب والوسط، لاسيما بغداد، وفي شمال العراق، بما تعرضوا له من ملاحقة وتهديد وتشريد وقتل وحرق للكنائس ومصادرة للبيوت ومحلات العمل، إضافة إلى النهب والسلب، كما تعرضوا للتغيير الديمغرافي في شمال العراق وبإقليم كردستان العراق. ويمكن إيراد النموذج الآتي ليعبر عن عشرات بل مئات الحالات الأخرى المماثلة أو بصيغ أخرى لمصادرة دور المسيحيين ببغداد وبمناطق أخرى من العراق. فقد نشر الكاتب والصحفي أمير العبيدي مقالاً بعنوان: "العراق ... حيل قانونية للاستيلاء على عقارات المسيحيين"
" يشخص الأطباء حالة المغترب العراقي يونادم ألبير(57 عاماً)، على أنها جلطة دماغية نتج عنها شلل نصفي في الجانب الأيمن من الجسم، فيما يؤكد ولده أن خبر الاستيلاء على بيتهم في ضاحية الكرادة في العاصمة بغداد وبيعه باستخدام أوراق مزورة هو السبب الذي أدى الى شلل والده وإصابته، بحالة نفسية حادة يرفض معها الكلام لأي شخص، وحتى المختص النفسي، الذي يزورهم باستمرار في شقتهم الصغيرة التي استقروا فيها، بعد وصولهم في الصيف الماضي الى مدينة مالمو السويدية.
أجبرت التهديدات الأمنية اليومية واستهداف العراقيين المسيحيين، بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، ألبير على ترك منزله الفخم في العاصمة العراقية والتوجه إلى الأردن، حيث استقر مؤقتاً، مدة ثلاثة أعوام، بينما تم تسجيله وعائلته في برنامج إعادة التوطين الخاص بمملكة السويد التي وصلها قبل 9 سنوات. فادي ألبير، الابن الأكبر للمغترب العراقي المريض، يروي لـ"العربي الجديد" تفاصيل ما وقع معهم "أغلقنا المنزل في حي الوحدة بمنطقة الكرادة بالعاصمة العراقية والبالغ مساحته  1000 متر مربع، سلمنا مفاتيحه إلى إحدى العوائل التي تسكن بجوارنا، منذ فترة طويلة، فوجئنا باتصال منهم أخيراً، بوجود أعمال ترميم وصيانة وتأثيث تجري في بيتهم، وأن المهندس المشرف على الأعمال قدم لهم سند تحويل ملكية جديد صادر باسم المالك الجديد الذي لا يعرفه، أي شخص من سكان المنطقة".
يوضح ألبير الابن لــ "العربي الجديد": أنه وبمجرد تلقيه الأخبار السيئة من بغداد قام وبمساعدة بعض الأصدقاء بتوكيل محام متخصص بشؤون نزاعات ملكية العقارات وأرسل له بالبريد الجوي كافة المستمسكات التي تثبت عائدية المنزل لهم، وأرفق معها مجموعة من الصور الفوتوغرافية العائلية لهم في غرف وحديقة المنزل، ولكن حالة الإحباط تضاعفت لديهم بعد الجلسة الأولى في المحكمة لأن المحامي اعتذر عن متابعة القضية، بكلمات فهم منها ألبير أنه "تعرض لتهديد شديد جعله يرفض الاستمرار فيها على الرغم من كل المغريات المالية التي عرضتها العائلة المغتربة".  (أنظر/ أمير العبيدي، العراق ... حيل قانونية للاستيلاء على عقارات المسيحيين، موقع العربي الجديد، 14 آب/أغسطس 2015).
         
وعلينا هنا ألا ننسى ما لحق بالمسيحيين والمندائيين في وسط وجنوب العراق من اضطهاد وملاحقة وتهديد بالقتل والتشريد واغتصاب الدور ومحلات العمل وحرق الكنائس وقتل المصلين فيها، وإجبارهم على النزوح إلى إقليم كردستان وكذلك الهجرة على الدول الغربية. وحصل هذا الأمر بالنسبة للإيزيديين في المدن التابعة إدارياً للموصل حيث قتل الكثير من العمال والمواطنين بعمليات إرهابية جبانة.
وقد فتحت الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية أبوابها لوصول المسيحيين، وكذلك الكنائس والجمعيات الخيرية المسيحية. وهو أمر فيه جانب سلبي، إذ يشجع على الهجرة من العراق، وهي خسارة فادحة، إذ لمن يعود إلى العراق من يهاجر الآن، والثاني إيجابي يعبر عن روح التضامن والاحتضان وإنقاذ الناس من الحرمان العذاب والقتل المحتمل.     
اجتياح الموصل وعواقبه المدمرة على العراقيين المسيحيين


في يوم الثلاثاء العاشر من شهر حزيران/يونيو 2014 توجهت مجموعة لا يزيد عدده أفرادها عن 800 مسلح من عصابات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش) وعبرت الحدود السورية باتجاه الموصل. واستطاعت أن تجتاح الموصل بسرعة فائقة، إذ لم تواجه مقاومة من الجيش العراقي المعسكر بالموصل ولا قوات الشرطة والأمن العراقي ولا من سكان الموصل. ووجد في ذلك اليوم بالموصل 75 ألف عسكري وأمني عراقي، أي ما يزيد عن أرفع فرق أمنة وعسكرية مزودة بأحدث وأفضل الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة وبتجهيزات هائلة تفوق حاجة هذه القوات لأغراض الدفاع عن محافظة نينوى، بل فيها أسلحة ذات طبيعة هجومية ودفاعية، بما في ذلك * عربات مدرعة و * عربات من طراز "همفي" الأميركية و* دبابات "ابرامز 16" من معسكر الغزلان بالموصل. وكان قبل ذاك قد استولى داعش على قطع سلاح نوعية كبنادق أميركية متطورة بعد هروب قطاعات عراقية من المجمع الحكومي وقتها في الرمادي مع عتادها، إضافة إلى حصول التنظيم على مناظير عسكرية متطورة.1 والمعلومات الموثقة تشير إلى وصول  "كل من قائد القوات المشتركة للجيش العراقي الفريق أول ركن عبود قنبر وقائد القوات البرية الفريق الركن علي غيدان إلى الموصل للإشراف على الخطط الأمنية في المحافظة بعد ورود أنباء عن ظهور المسلحين فيه، إضافة إلى الفريق مهدي العراوي، قائد عمليات نينوى إلى الموصل في اليوم الذي سبق الاجتياح، أي في يوم الاثنين المصادف 9 حزيران/يونيو 2014. 2
لقد انسحبت القوات العراقية الأمنية والعسكرية كلها مع قياداتها التي كانت بالموصل والقائد العام للقوات المشتركة وقائد القوات البرية وقائد عمليات نينوى وبقية القيادات من الموصل هاربة وسلم القادة أنفسهم على الپیشمرگة لحمايتهم من داعش حتى أن يخوضوا قتالاً ولو ليوم واحد. وتواجه الباحث العديد من الأسئلة عن العوامل التي أدَّت إلى هذا الانسحاب الانهزامي الهروبي من جانب القوات المسلحة العراقية؟  ولماذا لم يقاوم سكان الموصل هذا الاجتياح العدواني على مدينتهم؟ ولماذا تركوا مدينتهم يجتاحها الطاعون الإسلامي المتطرف ليستبيحها ويستبيح من فيها من إيزيديين ومسيحيين وشبك وتركمان؟ وما هي العواقب التي ترتبت على ذلك؟ ثم من كان المسؤول عن قرار الانسحاب الكامل أمام قوات الغزو الوحشي الداعشي؟
كان نوري المالكي، رئيس الوزراء في دورته الثانية والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، قد مارس سياسات اتسمت بالطائفية المتشددة والمناهضة للسنة العرب في كل أنحاء العراق، وتجلت في ما حصل قبل غزو الموصل بالأنبار، وخاصة بالفلوجة والرمادي وأنحاء من بعقوبة، من نهج عسكري عدواني لإخضاع السنة لإرادته والتي فسحت في المجال لقوات القاعدة ومن ثم داعش الهيمنة على الفلوجة ومناطق واسعة من الأنبار. هذه السياسة ذاتها مارسها بالموصل، حيث وجه قوات مسلحة وقوات أمنية شيعية وقادة عسكريين شيعة وفاسدين إلى الموصل حيث مارست عمليات تقترب من محاولة تركيع الموصل لإرادته وسياساته، والتي رفضها نساء ورجال الموصل الذين يعتزون كباقي سكان العراق بكرامتهم. ونشأت عن ذلك أوضاعاً استثنائية مناهضة للنظام العراقي وللقوات المسلحة التي تسعت للحط من كرامة الناس وعزتهم وفرض مختلف صيغ الفساد عليهم. كما إن هذا التكديس الكبير للقوات الأمنية والمسلحة جاءت نتيجة هاجسه الشوفيني والطائفي المناهض للكرد رغبته الجامحة بتوجيه ضربة للقيادة الكردية وقوات الپیشمرگة متى سنحت الفرصة وتحركت القيادة الكردية بالاتجاه المضاد له. وبالتالي لم يكن وجود القوات المسلحة بالموصل لحماية الموصل من عدو خارجي، بل كانت موجهة ضد "عدو" متخيل بجموح، هم أهل الموصل والأنبار وصلاح الدين من جهة والكرد من جهة أخرى. ولهذا لم تكن قوات الجيش والقوات الأمنية مهيأة لأي معركة مع الخارج لأنها فاسدة وكانت منشغلة بجمع الأموال وبيع الأسلحة المتاحة في السوق السوداء.
هذا الواقع يجيب عن السؤال الآخر، حين لم يجد أهل الموصل من النظام العراقي ما يدفعهم للدفاع عنه، وبعد أن مارس معهم سياسة التمييز والتهميش والإهمال والإقصاء لأبشع الأساليب المتوفرة لرئيس الحكومة، مما اعتقد الكثير منهم بأن هذه "العصابات" الإجرامية ربما ستساعد في خلاصهم من المليشيات الطائفية المسلحة التي كانت موجودة بالموصل ضمن القوات المسلحة والقوات الأمنية العراقية وتمارس اضطهادهم. حتى إن البعض قد أعلن عن فرحته بوصول عصابات داعش المتوحشة إلى الموصل، باعتبارها قوة إنقاذ لهم من نهج وسياسات نوري المالكي الظالمة بحقهم والموغلة بعدائها لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى والمسيئة لكرامتهم.
كما إن قوات الپیشمرگة هي الأخرى لم تقف بوجه عصابات داعش المسلحة حين اجتاحت سنجار وسمّار وغيرها في الشهر الثامن من عام 2014 وانسحبت أمامها دون أن تقاومها وتدافع عن سكان هذه المدن المكتظة بالإيزيديين بشكل خاص وكذلك عن مناطق أخرى في سهل نينوى وتلعفر...الخ، مما تسبب بوقوع كوارث إضافية هائلة للإيزيديين في المنطقة ولاسيما سنجار. والجميع ما يزال يتذكر مأساة جبل سنجار في عامي 2014 و2015.
لقد كانت هناك خلايا نائمة ومتحركة في آن واحد بالموصل قبل اجتياحها، وهي تابعة لداعش، ولم تكن هناك مقاومة وتصدي لها من جانب القوات المسلحة والقوات الأمنية ولا من جانب السلطات المحلية بالموصل. وحين بدأ الاجتياح برزت قبل يوم من ذلك تلك الجماعات المسلحة وتحركت لتستقبل عصابات الاجتياح وتشاركها استباحة الموصل وشعبها.
العواقب الرقمية لاجتياح الموصل         
** في عام 1980 كان هناك مليون و600 ألف مسيحي في العراق.
** قبل عام 2003 كان هناك 850 ألف مسيحي في العراق.
** عدد النازحين والمهجرين من المسيحيين بعد منتصف 2014 في كل العراق = 200 ألف نازح، و40% منهم غادروا الوطن. ثم تفاقم النزوح ليتراجع عدد السكان المسيحيين إذ:
** يتراوح عدد المسيحيين بين (250 - 300) ألف نسمة.
** عدد الشهداء من عام 2003 ولغاية نهاية عام 2016 قد بلغ = 1214 شهيد.
** عدد الكنائس والمزارات التي فجرت بعد منتصف 2014 في كل العراق = 35
** عدد القتلى المسيحيين الذين استشهدوا بعد 2014 في كل العراق = 107
** عدد الكنائس والمزارات والأديرة الذي تعرض للتخريب والتدمير والحرق منذ سقوط الدكتاتورية في عام 2003 ولغاية نهاية عام 2016 بلغ 149 كنيسة ومزار ودير.3
وفي 28/أذار/مارس 2017 ذكر أمين عام الإحصائيين العرب غازي رحو في لقاء صحفي مع محمد الغزي عن موقع إيلاف بشأن الكنائس المدمرة ما يلي:
" لم تبق كنيسة في الموصل الا وهدمت ودمرت، وكذلك الأديرة دمرت عن بكرة أبيها، وما نهب منها من وثائق وموجودات لا تقدر بقيمة مطلقا، فهناك مخطوطات نادرة تعود الى مئات السنين سرقت وهربت ونهبت، لم يبق سوى دير واحد وهو دير مار متى لأنه على جبل جدا مرتفع وفي منطقة لم يستطع تنظيم داعش في الموصل"،4 الوصول إليه. كم أشار بما يلي: "ومؤخرا، فوجئنا انه وبعد تحرير مناطق في سهل نينوى ان هناك تدميرا لدور المسيحيين من قبل جهات غير معروفة، الجيش يحرر المنطقة ويتقدم، السؤال من دخل هذه المناطق ودمر هذه البيوت."5
وفي ضوء هذه المعلومات يلاحظ المتتبع إن عدد شهداء المسيحيين بين 2004 حتى منتصف عام 2014 بلغ ما يقرب من تسعة أضعاف الذين استشهدوا على ايدي عصابات الجريمة الفاشية داعش، وإن عدد الكناس التي دمرت واعتدي عليها بلغت أكثر من ثلاثة أضعاف الكنائس التي دمرت على أيدي عصابات الجريمة الفاشية داعش. أما عدد النازحين فقد بلغ. 
لقد كان وما يزال النظام الطائفي المحاصصي شراً ووبالاً على أتباع الديانات الأخرى، لاسيما على المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين، وعلى الشبك بكل خاص بعد اجتياح الموصل. إذ إن المسيحيين يواجهون كارثة الهجرة المتسارعة صوب الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا وأستراليا للخلاص من احتمال الموت على أيدي الدواعش أو على ايدي المليشيات الطائفية المسلحة وقوى الجريمة المنظمة بالبلاد. فانحسار عددهم من 1600000 نسمة في عام 1980 إلى حدود 300000 ألف نسمة في عام 2016 يعني تقلصهم بنسبة قدرها 81,25% وما تبقى منهم هو 18,75% فقط، وهذه النسبة في تقلص مستمر برز مع بدية عام 2017 حيث سجل استمرارا في الهجرة وتقلصاً في عدد الموجود منهم بالعراق.
وجاء في تقرير الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية عن النزوح الفعلي من مدن العراق لاسيما بغداد والبصرة والموصل وكركوك قبل اجتياح عصابات داعش للموصل ما يلي:
"من خلال التجاوز على رجال الدين والاعتداء على (114) كنيسة ودير الى جانب عمليات الخطف والابتزاز والقتل من قبل جهات متطرفة متنفذة وعصابات منفلتة وبخطط محكمة واهمال حكومي واضح اضطر المسيحيون الذين اصبحوا مسلوبي الارادة  في مدن البصرة وبغداد وكركوك والموصل الى مغادرة مناطقهم الى اخرى آمنة ومن ثم الى خارج العراق، فكان في البصرة قبل عام 2003 ( 1600 ) عائلة اليوم لا تتجاوز (250) عائلة، وفي مدينة الدورة ببغداد كان يوجد ( 30 ) ألف عائلة اليوم لا يتجاوزن ألف عائلة مع إفراغ شبة كامل في مناطق " الميكانيك والكرادة وبغداد الجديدة والمشتل والنعيرية والغدير وكمپ سارة وشارع الصناعة والنضال و52 وكمپ الگيلاني والبتاوين والسنك ومناطق اخرى متفرقة من العاصمة " والعمل بكل مهنية من اجل سرقة أملاكهم في بغداد والتي بلغت (500) عقار، وفي كركوك كانوا (2000) عائلة اليوم لا تتجاوز (300) عائلة، وفي مدينة الموصل كان هناك ( 13) الف مواطن مسيحي قبل دخول تنظيم داعش الارهابي اليوم افرغت بالكامل ناهيك عن تشريد (120) الف نسمة من مدن سهل نينوى."6
يشير التقرير السنوي الصادر عن منظمة شلومو للتوثيق عن حقائق مذهلة بشأن الإبادة الجماعية التي تعرضت لها العائلات المسيحية وحجم الانتهاكات المريرة. فقد صدر "عهد الذمة عن "دائرة القضاء" في "ولاية الموصل" عن "الدولة الإسلامية" الذي ورد فيه الموقف من وجود المسيحيين بالموصل والذي تضمن ما يلي:
وقد أدى ذلك إلى هروب كل العائلات المسيحية التي تسنى لها الهروب والوصول إلى منطقة آمنة نسبياً، ولكنها لم تنج من ذلك أيضاً، إذ تعرضت 560 عائلة إلى حملة إبادة جماعية ثانية حين هربت من الموصل إلى سهل نينوى ولتهرب مرة أخرى وتتحمل خسائر فادحة في الأرواح وما تملك بعد أن أجبرت على الهرب من سهل نينوى أيضاً نتيجة ملاحقة واحتلال المنطقة من قبل "عصابات داعش الإسلامية". 
ويشير التقرير إلى تعرض 11135 عائلة مسيحية إلى الانتهاك كما يرد في الجدول التالي:

المحافظة أو البلدة   
الانتهاكات التي تم توثيقها
   عدد العوائل   عدد الأفراد
الموصل    1826   6834
بغداد   294   1094
بغديدا – قره قوش   4823   11301
كرمليس    536   1968
برطلة    1548   3249
بعشيقة وبحزانى   683   2022
باطنايا   316   1355
تللسقف   481   1094
تلكيف   368   1584
باقوفا   26   140
الانبار   12   50
شنكال (سنجار)   13   57
الأرمن   111   335
متفرقة   98   411
المجموع الكلي   11135   31494




      
            المصدر: تقرير منظمة شلومو للتوثيق في 10 حزيران/يونيو 2016. أربيل، عنكاوا، مجمع   
                                             كرمليس للنازحين.  ص 3. 

وإذا كان هذا مجموع ما تعرض له المسيحيون بالعراق، فأن ما حصل على ايدي عصابات التوحش الداعشية فقد بلغت على النحو الوارد في الجدول التالي:
   مرتكب الانتهاك   قتل   تعذيب   اختطاف   نقل أطفال     استعباد سبي   عنف جنسي   اجبار على تغيير دين   ترحيل طرد   تهديد
   داعش   115   91   161   1   49   19   30501   30501   2188
  المصدر: تقرير منظمة شلومو للتوثيق في 10 حزيران/يونيو 2016. أربيل، عنكاوا، مجمع كرمليس للنازحين.  ص 6. 

 وإلى جانب هذه الوحشية أصدرت هذه الدولة الإسلامية المجرمة قراراً خاصة قضى بتسعير المرأة في النظام الإسلامي الفاشي الجديد، فوضعت أسعاراً محددة للنساء العراقيات الإيزيديات والمسيحيات اللواتي يتم بيعهن في سوق النخاسة الإسلامي كما في الجدول أدناه:
كما تم تمييز دول الخليج بأسعار تفضيلية وأفضلية في الشراء!! وكان البيع لا يتم بدفعة واحدة بل يجري تداول المرأة المباعة من شخص إلى آخر، وهو التعبير الأكثر وحشية وإساءة للمرأة العراقية ولكل نساء العالم، والعالم يعيش في القرن الحادي والعشرين، حيث يتعارض ذلك مع كل اللوائح والمواثيق والعهود الدولة في مجال حقوق الإنسان وحقوق المرأة على نحو خاص! وإلى القراء والقارئات الكرام بعض هذه الحالات المشينة:
حالة (1): واحدة من النساء اللواتي عشن هذه الحياة الخانقة في ظل الدولة الإسلامية الفاشية، ذكرت السيدة التي قتل زوجها بذبحه أمام عينها (ع. أ. س) وفقدان طفلها (ه. ع) في شهادتها ما يلي:
"دخل تنظيم داعش الإرهابي إلى مدينة الموصل بتاريخ 9/6/2014 فانتابنا الخوف الشديد والفزع. وبعد ثلاثة أشهر من عدم عودة زوجي إلى المنزل ولكوني كنت حامل لم أخرج لأبحث عنه وبعد ولادة أبنتي (م) خرجت لأبحث عنه فدخلت أحد المكاتب العائد للتنظيم الإرهابي لأسأل عن زوجي المدعو (ع.أ.س) وبعد سين و جيم أبلغني المسؤول بأن زوجي ليس عندهم ولم أحصل على أية معلومة صغيرة عن زوجي بعدها سألني المسؤول عن أسمي وبضعة أسئلة أخرى شاهد وشم الصليب مرسوم على يدي فسألني هل أنت نصرانية، إذن جئتِ لتفجير نفسك هنا؟ قلت له ماذا تقول أنت إنني جئت لأسأل عن زوجي المفقود منذ ثلاثة أشهر. فأجبرني وأخذني إلى مدرسة في الموصل أُسمها اليرموك حيث كان هنالك فتيات أخريات فوضعوا في كل صف (30) فتاةً موزعين على 12 صفاً فكان أكثرهم من الإيزيديات والجرجريات والمسيحيات وكان يتناوب على حراستنا ثلاثة أشخاص وفي كل فترة استراحة يعطونا القليل من الأكل وفي إحدى الليالي المشؤومة دخل علينا ثلاثة من جماعة التنظيم في الأربعين والثلاثين من العمر ليسوا عرباً تحدثوا بلغة لم نفهمها فاختاروا ثلاثة فتيات أنا المتحدثة، و (ل) الإيزيدية أبنة الأحد عشر عاماً و (ع) المسيحية. وأجبرونا على ممارسة الجنس معهم فأبدينا المقاومة وتوسلنا إليهم دون فائدة. أمّا الفتاة القاصر (ل) فقد أصابها نزيف لأنها كانت طفلة بعمر (11) عاماً والتي فقدت أُمها أيضاً.
فتناوب عليَّ (8) إرهابيين في كلِّ مرّة يطلّقني أحدهم ويتزوّجني آخر. فكانت تلك الليلة القذرة المشؤومة أسوء ما شاهدته في حياتي بانتهاك للإنسانية، وعشنا حالة نفسية وهستيرية متردية جدّاً فاستمر اغتصابنا كل يوم ولمرّات عديدة، أتذكر اسم واحد منهم (ف.ش) هذا كان يغتصبني دائماً وكذلك الأخريات واستمر الحال بنا هكذا إلى أن علمت بمقتل زوجي المدعو (ع.أ.س) حيث ذبح ورميت جثته في نهر دجلة.
وصادف أن أحد الحراس على المدرسة كان جيراننا فقال لي ما الذي أتى بك إلى هنا، كان أسمه (أ) من منطقة اليرموك. حيث عرض علّي المساعدة فقلت له بأن مفتاح البيت وطفليَّ الولد الكبير (هـ) عمره (11) عام وبنتي المولودة حديثاً (م) عند جيراننا.
فاتفق معي وقابلته على شباك الصف وأعطاني قصاصة ورقية يطلب فيها مبلغ من المال لإنقاذي وكان ذلك الساعة الثانية بعد منتصف الليل. فأخبرته بمكان الذهب فأخذ المفتاح وذهب إلى البيت وأخذ الذهب.
وفي الصباح وجدنا ثلاثة باصات (28) راكب حيث امتلأت الحافلات وتوجهوا الى مكان غير معروف وكان ذلك ليلاً بعدها علمتُ من كلامهم بأنها الحدود السورية، رفضت العبور الى الجانب السوري وقال للمدعو (أ) جيراني بأني لن أبقى هناك مهما كلّف الأمر أي في سوريا واتفق معي أن يضعني في صندوق إحدى السيارات وبعد أن عبرنا العديد من السيطرات التابعة للإرهابيين وانا في حالة يرثى لها وصلنا الى الموصل فانزلوني في أحد الشوارع فأجرت تكسي وأوصلني الى الدار فوجدت طفليَّ فاحتضنتهم بكل لهفة وبعدها اتفقتُ مع المدعو (أ) مرّة أُخرى ليخرجني الى المناطق الآمنة فأوصلني ليلاً الى مكان لا اعرفه وكان قبل أعياد الميلاد حيث كان الظلام دامس والبرد قارص فحملت ابنتي (م) وأمسكت بيديّ ولدي (هـ) وكنت مع مجموعة كبيرة من العوائل فهربنا باتجاه حدود إقليم وكردستان بعدها سمعنا طلقات نارية لم نعلم مصرها ونتيجة الخوف فقدت السيطرة على مسك يد أبني (هـ) ففلت من يدي ولكثرة الجموع لم أعرف أين بقي وإنني لا أعلم مصيره الى اللحظة، أخيراً وصلنا الى منطقة يسيطر عليها البيشمركة.
إنني أعيش حالة من العصبية والنفسية اليائسة بسبب ضياع كرامتي وشرفي كإنسانة وقعت بين وحوش كاسرة وفقدت كل ما تملك." 7
حالة (2): وجاء في شهادة سيدة اخرى ما يلي:
"فاجئنا 50 مسلح مع سيارات عليها أسلحة متوسطة اوقفونا واتصلوا بقائدهم وبعد 15 دقيقة اعادونا الى قره قوش وفي يوم 8/8/2014 حاولنا الهروب فصادفنا سيارة فيه رجلين مسلحين اخذونا الى كرمليس واخذو مني مبلغ 200 الف دينار واعادونا الى قره قوش وفي يوم 22/8 اخذونا الى بيت قرب اعدادية سارة وفصلوا الرجال عن النساء وفي يوم 23/8 اخذونا و3 اخوات (خ. ف. ج) الى الموصل اسكنونا في دار طابقين الطابق الأول يسكنه افراد التنظيم والثاني فيه 3 غرف نحن 7 في غرفة وفي الغرفة الثانية 30 فتاة إيزيدية أعمارهم ما بين 10- 17 سنة كان افراد التنظيم يغتصبون الفتيات الإيزيديات كل ليلة كنا نسمع صراخهم وبعد 8 أيام قال لي احد افراد التنظيم لماذا لا تقومي على الصلاة فزوجك قد اصبح مسلما وفي اليوم التاسع  قالوا لي ان زوجك اسلم، فقلت إن أسلم زوجي فسأسلم لان عليّ اخراج اطفالي الـ 3 وخصاصةً ابنتي التي كان عمرها 11 سنة وكنت أقول لهم انها بعمر 8 سنوات.
 وفي يوم 30/9/2014 اخذونا الى المحكمة الشرعية وجعلونا نُسلم وحولونا الي بيت في منطقة (الكبة) وبعد معاناة شديدة والخوف والرعب وقلة الاكل، ساعدنا أحد وكلاء المواد التموينية وبعد الاتصال بأحد الأشخاص تمكنا من الخروج بحجة الذهاب الى المستوصف وعندما وصلنا الى الجسر كان رجلاً بانتظارنا، قال نريد ان نخلصكم عسى الله يرحمنا فأوصلونا الى مكتب خالد بين الحويجة وكركوك ثم الى إقليم كوردستان."8 وهناك المئات من الشهادات التي لا تؤكد ذلك حسب، بل تزيد عليها من ممارسات وأساليب إجرامية وفسق وفجور ونهب وسلب وتشريد وتعذيب وقتل على أيدي المجرمين أبناء هذه الدولة الفاجرة والفاشية في أساليبها وأدواتها وأهدافها الشريرة.
حالة (3): قدم رجل باسم (ي. ي. ب) من مواليد 1963 من قره قوش شهادته وأدلى بما يلي:
"بعد هجوم عصابات داعش يوم 6/8/2014 ودخولهم قره قوش، خرجنا منها ولكن المدعو (ا. ب. ق) رفض الخروج والقى التنظيم المذكور القبض عليه وبقي تحت حكم التنظيم لمدة 10-15 يوم فهددوه بالقتل او اشهار اسلامه فرفض ذلك كرروا ذلك مرة اخرى لكنه تمسك بالرفض الى ان هاجمه 10 افراد من التنظيم فاطلقوا عليه النار فاردوه قتيلا حسب ما ذكره شهود عيان لنا، نتيجة لذلك تدهورت حالتنا النفسية."9
جاء في شهادة المواطن السيد ماجد، نشرت في صحيفة وموقع العرب الصادرة بلندن ما يلي:
“الذين اقتحموا بيوتنا لسرقتنا واغتصاب بناتنا، وضربنا وقتلنا، لم يكونوا عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، بل كانوا جيراننا، لهذا كانوا يهجمون وهم يغطون وجوههم، حتى لا نتمكن من التعرف عليهم”، ويؤكد العراقي ماجد وهو ينظر متوجسا من طرف خفي إلى ابنتيه، في سن الثماني والخمس سنوات.  كانت ابنتاي صغيرتين جدا ولهذا لم يخطفوهما، لكن الكثير من صديقاتهما لم يحالفهن الحظ، ذات ليلة اقتحم أحد الجيران منزلنا وقال لي: الآن قد حان وقتنا. أبناء هذا الشخص كانوا يلعبون مع أبنائي، ولكنه استولى على منزلي. لن أثق في العرب مرة أخرى ما حييت”، أضاف بنبرة صارمة غاضبة، بينما أبرز بطاقة هوية جاره، قائلا “هذا الشخص أقام في منزلي لمدة عامين، بينما اضطررت للهرب أنا وعائلتي".10
وجاء في نف التقرير ما يؤكد بأن قرى البرطلة، تلكيف والكرمليس وغيرها من القرى المسيحية قد حولتها  ميليشيات أبوبكر البغدادي إلى كومة تراب، كما نهبت كنائسها وتم تدمير أيقوناتها، فضلا عن تدنيس مقدساتها.11
وإذ أشير هنا إلى الجانب البشري وما تعرضوا له، والذي يمكن أن يكتب الكثير عن مآسي شعب بكامله كان من أقدم من سكن العراق وساهم في بناء حضارته الإنسانية العتيدة، فأن الخسائر المادية هي الأخرى كانت كبيرة جداً على وفق المعلومات المتوفرة حتى نهاية أيلول/سبتمبر 2016 كما في الجدول التالي:
المدينة أو البلدة   المنازل   الآليات   المشارع الصناعية    المشاريع الزراعية   المشاريع التجارية
الموصل   1138   425   302   20   631
بغديدي-قره قوش   2753   1054   201   401   854
برطلة   690   229   91   74   309
كرمليس   454   130   44   124   115
بعشيقة وبحزاني   470   54   44   33   140
تلكيف   269   53   32   37   119
باطنايا   200   97   20   51   32
تلسقف   356   44   29   27   141
بغداد   41   29   26   ---   55
المجموع   5915   1995   745   767   2331
المصدر: تقرير منظمة شلومو للتوثيق في 10 حزيران/يونيو 2016. أربيل، عنكاوا، مجمع كرمليس للنازحين.  ص 26. 

والحقيقة هي أن هذه الخسائر المادية التي لم تقدر بالأموال، فأنها لا تشمل ما حصل بالعراق كله للعائلات المسيحية، إذ إن ما حصل ببغداد والبصرة ومناطق أخرى، فهي تفوق هذه الأرقام بكثير والتي ستظهر فيما بعد، حين تنجز دراسات ميدانية على العراق كله لمعرفة الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بمسيحيي العراق وبالكوارث التي تعرضوا لها في ظل حكومة أكثريتها من أحزاب إسلامية سياسية، شيعية كانت أم سنية، وبأغلبية شيعية وذات سياسات تمييزية دينية وطائفية.         
إن ما حصل للمسيحيين، حصل بشكل مرعب بالنسبة للإيزيديين وبشكل مضاعف إذ اعتبروا الإيزيديين فئة ضالة وكافرة يفترض تصفيتها إن لم تتوب وتتحول إلى الدين الإسلامي. وقد نشر الكاتب الكثير من المعلومات في كتابه الموسوم "الإيزيدية ديانة عراقية شرق أوسطية قديمة" في العام 2017. وهنا يسجل الكاتب شهادة السيد خيري شنگالي، كاتب وصحفي التي سجلها وسلمها بيد الكاتب بتاريخ 08/11/2014، التي تضمنت ما يلي:
الشاهد: خيري شنگالي12
بصفتي شاهد عيان أود أن أوضح لحضراكم ما يلي:
* في يوم 3/8/2914 هاجمت داعش قضاء شنگال مستهدفين أكثر من (350) ألف نسمة معظمهم من الإيزيديين وبدأ النزوح الجماعي لأكثر من 250 ألف إيزيدي إلى كردستان.
* ارتكب داعش جرائم القتل بحق الإنسانية وخير مثال على ذلك جريمة إبادة قرية كوجو في يوم 15/8/2014 حيث قتل كل ذكر يبلغ من العمر (10) سنوات وسبي النساء والأطفال لأهدافهم الدنيئة. حيث بلغ عدد القتلى أكثر من (450) إنسان مدني برئ لا لشيء سوى كونهم إيزيديين. وقبلها تم إعدام (86) رجلاً في قرية قتي وسبي النساء والأطفال وذبح آخرين من ضمنهم المواطن يوسف إبراهيم كارس البالغ من العمر (75) سنة.
* موت مئات الأطفال من الجوع والعطش، كما حدثت حالات رمت الأمهات أطفالهن.
* وصل عدد السبايا الإيزيديات إلى (7000) فتاة وامرأة وقد تم اغتصاب العديد منهن وصلت الحالة إلى عقد النكاح لإحدى الفتيات لـ (7) مرات خلال ساعات معدودة.
* الوضع المأساوي للنازحين في جبل شنگال حيث يقدر (1200) عائلة إيزيدية تعاني من الجوع والبرد القارص وهم داخل طوق من أشرس المجموعات الإرهابية، إذ وصلت الحالة بالعائلات أن يأكلوا الأعشاب .. فلا دواء ولا خدمات..
* تفجير المزارات والأماكن المقدسة وسرقة الأموال الخاصة والعامة وتفجير القرى والمؤسسات الحكومية. لذا أتوجه بندائي إلى مؤتمركم الموقر ومن خلالكم لمنظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي وجميع الجهات المعنية باستغاثة أهلنا من النازحين في جبل شنگال والمخيمات المقامة في كردستان، وشكراً                  خيري شنگالي، التوقيع، كاتب وصحفي، 18/11/2014"13 

الهوامش
  أنظر: تعرف على الأسلحة التي استولى عليها "داعش" في الموصل، قناة العربية، 18 تشرين الأول، أكتوبر 2016. 
2 أنظر: تقرير "من يقف وراء انسحاب الجيش من الموصل وتسليمها إلى داعش؟" موقع نقاش في 15/06/2014.

3 ملاحظة: لقد وجه الكاتب استفساراً للسيد حميد مراد، رئيس الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية عن بعض المعلومات الخاصة بأوضاع المسيحيين بالعراق قبل وبعد اجتياح الموصل، ووصلتني منه المعلومات المدونة في أعلاه مشكوراً، ك. حبيب).
4  أنظر: محمد الغزي، 450 ألف مسيحي بقي في العراق فقط!، لقاء مع أمين عام الإحصائيين العرب، موقع إيلاف في 28/مارس 2017.
5 المصدر السابق نفسه.
6 أنظر: التقرير السنوي عن حالة حقوق الإنسان في العراق 2016، الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية، مصدر سابق. ص 32. 
7  أنظر: تقرير منظمة شلومو للتوثيق في 10 حزيران/يونيو 2016. أربيل، عنكاوا، مجمع كرمليس للنازحين.  ص 10. 
8  أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 25.
9  أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 22.
10 أنظر: مسيحيو العراق.. شواهد الوطن المتعدد المهددون بالإبعاد، آلاف المسيحيين لجأوا للفرار الجماعي من العراق إلى أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا، مفضلين منفاهم الاختياري على البقاء في وطنهم.  صحيفة العرب، لندن في العدد 10531، في 02/02/2017.
11المصدر السابق نفسه.
12  ملاحظة: المقصود بـ (شنگال) مدينة سنجار و"خيري شنگالي" يعني خيري سنجاري. ك. حبيب
13  ملاحظة: الرسالة المكتوبة والموقعة بخط يد السيد خيري شنگال موجودة لدى الكاتب. وقد وضع عنوانه الإلكتروني على الرسالة:
kheripuk@yahoo;com   


353
د. كاظم حبيب
ساعة الحقيقة: مستقبل سوريا بين النظام والمعارضة والصراع الإقليمي – الدولي
[1]
حين بدأت الحركة المدنية بسوريا وحمل المثقفون السوريون مشاعلها المضيئة ونشروا بيانهم التاريخي،  ثم تلاه "بيان الألف"، الذي طالب بالديمقراطية والمجتمع المدني وإعادة النظر بالشعار البائس "الحزب القائد والرائد" ..الخ، استبشر الكثير من الناس بالداخل السوري أو بالخارج خيراً، رغم معرفة الجميع بالنهج الفردي الاستبدادي والشوفيني لحزب البعث العربي الاشتراكي واستعداده لممارسة العنف ضد منتقديه، ويزداد هذا العنف وحشية حين يتوجه ضد معارضيه، ولاسيما حين يشعر بأن سلطته باتت قاب قوسين أو أدنى من السقوط. ولهذا كان الأمل بأن الحركة المدنية الديمقراطية تتواصل بصورة سلمية وبعيداً عن السلاح لفرض التغيير تدريجياً وبدعم من الرأي العام العالمي، رغم محاولات النظام جرّ المعارضة ودفعها لتشديد الصراع والتحول صوب ممارسة العنف المضاد، ليتسنى له البطش بها. لم تكن الحركة المدنية الديمقراطية السورية راغبة بالعنف، ولكنها لم تكن موحدة من حيث الفكر والسياسية والمواقف، بل كانت فيها اتجاهات وتيارات أو قوى متنوعة وغير متجانسة، البعض منها ليس من الجماعات المدنية، ولكنه فرض نفسه على القوى المدنية، وبعضه الآخر بعثي منشق أو مسلم إخواني دخل بجبة مهلهلة إلى قوى المجتمع المدني.   
وقد جرت محاولات جادة من جانب قوى سياسية بسوريا وخارجها لمنع المعارضة المدنية من التحول صوب العنف المضاد. ولكن في المقابل كانت هناك قوى إسلامية وبعثية منشقة عن حزب البعث الحاكم بسوريا، وقوى الإسلام السياسي، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين، وقوى قومية يمينية بالية في الفكر والنهج السياسي راغبة في التصدي للنظام بالقوة واستخدام العنف للإطاحة به. وتصورت هذه القوى مجتمعة إن المهمة سهلة! كما إن النظام الاستبدادي تصور خطأ، كما هو حال كل النظم الاستبدادية في العالم، امتلاك القدرة الخارقة على توجيه ضربة قاصمة للقوى المدنية وينهي وجودها بسوريا!
[2]
وجدت الجماعات الأخيرة الرغبة بممارسة السلاح لإسقاط السلطة البعثية تأييداً مباشراً ودعماً متنوعاً من ثلاث مجموعات من الدول والقوى والتي كانت تسعى لحرق الأخضر واليابس بسوريا دون إعارة أي انتباه لما يمكن أن يحصل للشعب السوري حين تتأجج الحرب الأهلية بالبلاد. المجموعة الأولى ضمت دولاً عربية هي قطر والمملكة السعودية وبعض دول وقوى بالخليج العربي، والمجموعة الثانية ضمت تركيا والأردن ولبنان (في ما عدا حزب الله)، ومصر، والمجموعة الثالثة ضمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي. وبدأت هذه القوى الداخلية والإقليمية والدولية مسيرة تشكيل التنظيمات المسلحة بسوريا، التي شاركت فيها قوى كثيرة إسلامية متطرفة، وبعثية وقومية، وقوى مدنية ارتضت لنفسها التعاون مع تلك الدول لاعتقادها بقدرتها على إسقاط النظام عبر السلاح. خاصة وإن النظام كان يساعد لدفع هذه القوى إلى العنف من خلال ممارسة العنف ضد المعارضين واعتقال وتعذيب المناضلين المدنيين بلا رحمة.
[3]
لم تقدر القوى المدنية التي تورطت مع بقية القوى الراغبة في ممارسة العنف المضاد باستخدام السلاح ضد النظام السياسي الاستبدادي المناهض لمصالح الشعب السوري، مستوى التحالف القائم بين سوريا البعث والحكومة الثيوقراطية بإيران وحزب الله بلبنان أولاً، رغم إن العلاقة بين سوريا وإيران كانت معروفة للجميع منذ وجود الدكتاتور حافظ الأسد على رأس السلطة، كما لم تقدر احتمال التحالف بين النظام السوري والدولة الروسية الاتحادية، التي لها تحالف مع إيران من جهة، ولا تملك وجوداً سياسياً وعسكرياً لها في غير سوريا في منطقة الشرق الأوسط، وترتبط بالنظام منذ كان الأسد الأب على رأس السلطة، وبالتالي ستمارس هذه الدول كل ما هو ممكن للاحتفاظ بنفوذ لها في المنطقة عبر الدولة السورية البعثية الهشة والمكروهة.
[4]
وفي المقابل لم يكن التحالف الإقليمي مع الدول الغربية موحداً في ثلاث مسائل:
1)   ما هو الهدف من وراء الإطاحة بسلطة حزب البعث وبشار الأسد؟ 2) ومن هي القوى التي تعتمدها في مقارعة النظام السوري؟ 3) وهل هناك وحدة فعلية أو تحالف متماسك بين القوى المحلية، وهي المتصارعة على السلطة والمال، حتى قبل إسقاط سلطة البعث وبشار الأسد؟ ولهذا لم تكن القوى الغربية ولا حتى الإقليمية قادرة على فرض تصور واحد أو توحيد جهود القوى المعارضة للنظام لخوض المعركة ضده.
ومما زاد في الطين بلة إن النظام السوري كان قبل ذاك قد سمح لكل من قطر والسعودية وتركيا وبعمل وتأييد ودعم من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، استخدام الأرض السورية لعبور المليشيات الإرهابية المسلحة (القاعدة وما انجبته من تنظيمات إرهابية وإقليمية إسلامية متطرفة)، لتبني لها بنية تحتية وقوى وخلايا واسلحة بسوريا، ثم بدأت تستخدمها ضد سوريا أيضاً. وقد ألحق هذا الفعل إيذاءً كبيراً جداً بالشعب العراقي، ولكنه ألحق أضراراً وإيذاءً فادحا بالشعب السوري أيضاً. وقد وجد الكثير من القوى الديمقراطية العربية والدولية ضرورة دعم النضال ضد الحكم السوري الاستبدادي، ولكن لم يكن هذا الموقف مساعداً لها لإدراك خطأ القوى المدنية في التشابك مع القوى التي تحركها تركيا وقطر والسعودية، إذ كانت العواقب وخيمة. 
[5]
في ضوء هذا الواقع تبلورت خمس مسائل جوهرية في صفوف المعارضة السورية:
أولاً: إن القوى الإرهابية المسلحة التي تحوز على تأييد قطر والسعودية وبعض دول الخليج وتركيا والولايات المتحدة أصبحت هي الأقوى وبيدها القرار الفعلي في مسيرة الصراع بسوريا.
ثانياً: تفاقم ضعف قوى المعارضة المدنية السورية بانقسامها إلى جماعتين رافضة للسلاح ومطالبة بالحوار، وأخرى رافضة للحوار من حيث المبدأ رغم الدخول به، وراغبة في مواصلة استخدام القوة العسكرية رغم قناعتها بعدم قدرتها على تحقيق النصر على النظام، وكأن العزة بالإثم منعها عن ذلك!
ثالثاً: التردد الشديد لدى الدول الغربية في تقديم المعونة والسلاح إلى قوى المعارضة السورية المدنية لقناعتها بأن هناك تشابكاً بين قوى الإرهاب وقوى المعارضة السورية المسلحة، وإن هذه المعونة والأسلحة تذهبان إلى تلك القوى الإرهابية المرتبطة بالقاعدة أو جبهة النصرة وفتح الشام ومن ثم داعش وغيرها، رغم إنها كانت من مؤيدي هذه الجماعات الإرهابية التي شكلتها قطر والسعودية وتركيا وسعت إلى تقويتها في فترات معينة.
رابعاً: أصبحت تركيا (إسطنبول) مركزاً ومقراً للمعارضة السورية المتنوعة والمتشابكة وموقع عقد مؤتمراتها، وبالتالي أصبح لها ولحلفائها التأثير المباشر، شاءت المعارضة المدنية أم ابت، القول الفصل في التوجه صوب السلم أو الاستمرار بالقتال.
خامساً: إن استمرار القتال وحصول اختلال في فترة معينة لصالح القوى التي تريد إسقاط الدكتاتورية بسوريا، دفع روسيا بالتدخل في الشأن السوري وتقديم المزيد من الدعم العسكري الروسي والوقوف الثابت في الحرب إلى جانب سوريا لمنع سقوط النظام ودعم استمراره، لأنها تدافع عن مصالحها!     
[6]
هذه الحالة الرجراجة والمترددة ساهمت بحصول تغيرات واضحة في موازين القوى بالاتجاهات التالية:
** في صالح التنظيمات المسلحة الإرهابية ضد قوى المعارضة السورية؛
** في صالح النظام السوري ضد كل القوى التي تقاتل ضده.
** إحساس الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة، بأن الحرب لم تعد قادرة على حل المشكلة بسوريا ولا بد من إيجاد حل سلمي مع روسيا وبالتنسيق مع إيران والنظام السوري والدول العربية لضمان مصالحها أيضاً وعبر التنسيق مع روسيا!
هذا الواقع الجديد أدى إلى احتمال تحرك قوى المعارضة السورية والنظام السوري نحو الحوار بهدف الوصول إلى نتائج مرضية للطرفين، مع رفض قوى الإرهاب المسلحة لهذا الاحتمال وإصرارها على خوض القتال والذي كان وما يزال له تأثيره الملموس على قرار قوى المعارضة المدنية بهذا القدر أو ذاك. ولكن حتى الآن لم يستطع التوازن الجديد، رغم ميله لصالح النظام، إنهاء المشكلة واستمرار القتال أدى حتى الآن إلى العواقب الوخيمة التالية على الشعب السوري واقتصاده وحياته الاجتماعية وأوضاع ما بعد الحرب:
  ** استشهاد أكثر من 400 ألف إنسان سوري خلال السنوات الست المنصرمة.
** إصابة ما يزيد على عدد الشهداء والقتلى بجروح وتعويق وخروج من العملية الاقتصادية.
** نزوح قسري لأكثر من 12 مليون إنسان من مناطق القتال إلى مناطق أكثر أمناً، ومنهم الذين تسربوا صوب الخارج.
**هجرة قسرية لما يقرب من 7 ملايين سوري من مجموع النازحين فيها إلى الدول المجاورة، تركيا ولبنان والأردن والعراق، وإلى الدول الغربية.
** ازمة قاتلة تحيط بالاقتصاد السوري والبطالة واسعة جداً والفقر منتشر في أنحاء البلاد ودمار شامل للبنية التحتية في مناطق واسعة ومدن كثيرة.
** ارتفاع المديونية الخارجية لسوريا بمستويات عالية جداً بسبب استيراد السلاح القادم من إيران وروسيا والقروض المالية التي تتسلمها سوريا من هاتين الدولتين.
[7]
ليس هناك من شك في أن النظام السوري وحزب البعث الحاكم هما المسؤولان بالدرجة الأولى عن الحرب الدائرة منذ ست سنوات، إذ لو كان الدكتاتور الصغير بشار الأسد قد تنازل أمام الحركة المدنية الديمقراطية وأقر بوجوب تحقيق إصلاح وتغيير فعلي في الواقع السوري الذي استمر منذ العام 1970 بعد ما حصل ما يعرف بالحركة "التصحيحية!" لوالده، الدكتاتور حافظ الأسد، باتجاه منح الحريات الديمقراطية واحترام مبادئ حقوق الإنسان وحقوق القوميات وممارسة واحترم الحياة الحزبية والتنظيمات المدنية ...الخ، لما كان على الشعب السوري أن يواجه هذه المعاناة الجارية حتى الآن.
ولكن الدول العربية وتركيا والدول الغربية، وكذلك إيران وروسيا وحزب الله والميليشيات الشيعية المسلحة التي أرسلت مقاتلين تابعين لها ولإيران إلى سوريا، هي الأخرى مسؤولة وبدرجات متفاوتة عما حل ويحل اليوم بالشعب السوري، إضافة إلى تحمل جزء من قوى المعارضة السورية، دع عنك قوى الإخوان المسلمين والبعثيين المنشقين عن حزب النظام، مسؤولية الوضع الراهن. إذ كان على قوى المعارضة المدنية الديمقراطية تمييز نفسها عن القوى الأخرى التي زجتها القوى الإقليمية والدولية في معركة دموية حطبها الشعب السوري لا غيره. وكان هذا التمييز سيساهم في بلورة المناهج والمواقف بما يمنع التشابك الجاري حالياً والمؤذي حقاً للمعارضة المدنية الديمقراطية.
[8]
ومنذ سنوات لم يعد الصراع الجاري في سوريا والحرب الداخلية وحرب التدخل الخارجي، صراعاً أو حرباً سورية-سورية، بل هو صراع إقليمي ودولي، وهي حرب خارجية بامتياز، ولم يعد ممكناً حله محلياً مهما رغب الشعب السوري بذلك، إذ خرج الأمر منذ سنوات من يد الشعب السوري ووضع بيد الدول الإقليمية والدولية ولاسيما إيران وتركيا وقطر والسعودية أولاً، ولكن وبشكل أخص بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية. وهو ما يفترض أن نقتنع به ونعمل عليه.
[9]
وتصور البعض إن الاتفاق أصبح قريباً بعد تولي ترامپ رئاسة الولايات المتحدة على وفق تصريحاته في الحملة الانتخابية، ولكنه سرعان ما تخلى عنها وبدأ يلعب من جديد شرطي العالم. ولم تكن الضربة الصاروخية الأخيرة (59) صاروخاً على القاعدة الجوية السورية إلا محاولة لمسألتين أولاهما القول بقدرة أمريكا على التدخل العسكري بسوريا، وإبراز عضلات الولايات المتحدة أمام العالم، والذي تبعته قذف "أم القنابل" على أفغانستان، ومن ثم استعراض القوة العسكرية، حين وجه حاملة الطائرات "كارل فينسن" ترافقها ثلاث سفن قاذفة للصواريخ، ووعد بإرسال غواصات إلى شبه الجزيرة الكورية. وقد مارس الكذب من جديد في ادعاء أن سوريا هي التي ضربت "خان شيخون" بسوريا بالسلاح الكيمياوي. لا أشك باحتمال قيام النظام السوري بهذا الفعل الإجرامي، إذ إن بعث العراق كان قد مارسه ضد الشعب الكردي وضد حركة الأنصار وكذلك في مناطق أخرى من العراق. ولكن كان على الولايات المتحدة ان تنتظر قرار لجنة دولية مستقلة وحيادية تقوم بالتحقيق بالحادث لمعرفة الفاعل، خاصة وان عصابات داعش قد مارست ذلك بالعراق وضد قوات الپيشمرگة الكردستانية مثلاً. لا اعتقد بأن النظام السوري وروسيا الحليفة هما من الغباء بحيث يسمحون لبشار الأسد استخدام السلاح الكيماوي في هذه المرحلة من الحرب بسوريا ومحاولات إيجاد حل للمشكلة سلمياً، بل إن من استخدم السلاح الكيمياوي كان يريد الابتعاد عن الحل السلمي للمشكلة.
أري بأن الولايات المتحدة تريد بهذا الفعل العسكري المتهور أن توجه أكثر من رسالة، ولكن بعضها بالعناوين الخطأ. فالرئيس الأمريكي الجديد يمكن أن يدفع بمناطق معينة بالعالم إلى حروب تدميرية، ربما تدفع لحرب عالمية ثالثة، كما وُضع العالم على حافة حرب نووية في عام 1964 بسبب أزمة الصواريخ بكوبا أو جزيرة الخنازير.
إن الحل الوحيد لسوريا هو الحل السلمي والذي يفترض أن ينتهي بإبعاد المجرم والدكتاتور بشار الأسد والطغمة المجرمة عن الحكم بما لا يؤدي إلى الفوضى التي سادت بالعراق بعد إسقاط الدكتاتورية وحل الجيش وفتح الحدود أمام أوباش العالم لتدخل البلاد وتعيث فساداً فيها، وكذلك إبعاد تلك القوى التي مارست الإرهاب الدموي وجلبت المليشيات الإرهابية إلى سوريا. وهذا يتطلب كف الدول الإقليمية، ولاسيما تركيا وإيران وقطر والسعودية، والدولية عن التدخل الفظ في الشأن السوري. وهذا الحل سيحتاج إلى وقت غير قصير، وسيعاني الشعب السوري الجريح والمستباح من جراء استمرار القتال والإرهاب والتدمير.       
         

354
د. كاظم حبيب
هل هناك ضمانات لانتخابات حرة وديمقراطية بالعراق؟
من يتابع الأجواء السياسية العراقية، والشعب يقترب من موعد الانتخابات النيابية القادمة، سيجد أمامه ست إشكاليات معقدة جداً تلخص كما يلي:
** طبيعة النظام السياسي الذي تجري في ظله وتحت وطأته الانتخابات العامة وانتخابات مجالس المحافظات.
** طبيعة الأحزاب والائتلافات القائمة بالعراق حالياً.
** الواقع السياسي السائد بالعراق والصراعات الجارية بين الأحزاب الإسلامية والقومية على السلطة والمال والنفوذ.
** طبيعة قانون الانتخابات الجائر الذي يراد ممارسته في انتخابات عام 2018.
** طبيعة المفوضية المستقلة للانتخابات التي ستنظم العملية الانتخابية وتشرف عليها.
** التدخلات الدينية الداخلية والخارجية لقوى ودول الجوار وغيرها في الشأن العراقي والانتخابات القادمة.
في هذا المقال محاولة لمعالجة هذه الإشكاليات من وجهة نظر الكاتب.
******
*1* طبيعة النظام السياسي الذي تجري في ظله وتحت وطأته الانتخابات العامة وانتخابات مجالس المحافظات.
لا يختلف اثنان من العراقيات والعراقيين بأن النظام السياسي السائد بالعراق، الذي أقيم على أنقاض النظام البعثي الشوفيني الدكتاتوري والذي أسقط بقوات أجنبية، هو نظام سياسي طائفي بامتياز ويعتمد المحاصصة الطائفية رسمياً بخلاف ما التزم به الدستور العراقي، وبالتالي فهو إذن، بخلاف الدستور العراقي ولوائح الأمم المتحدة، يمارس التمييز في جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. ومثل هذا النظام السياسي لا يمكنه أن يوفر المناخ السياسي الديمقراطي والنزيه والعادلة للانتخابات، لأنه متحيز أصلاً ضد أتباع الديانات الأخرى، وضد أتباع المذاهب الأخرى، وضد أتباع الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى، فهو نظام شبه ثيوقراطي متخلف ينزع إلى الاستبداد الفكري ومناهض للعلم والتقدم الحضاري، وهو من مخلفات العصور المظلمة. وقد برهن رئيس الوزراء السابق، بسبب سماته الشخصية الأكثر جوراً واستبداداً، عن طبيعة هذا النظام وممارساته والتي قادت إلى سقوط محافظات عراقية بكاملها في أيدي العصابات الإسلامية السياسية المتطرفة من تنظيم القاعدة وداعش وما تعرضت له أجزاء عزيزة من الشعب من كوارث الاجتياح ومآسي الاستباحة وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. وما يزال الحزب والتحالف الشيعي الذي قاد البلاد إلى هذه الكوارث، وكذا التحالف السني المتعاون معه، بعيداً عن مصالح أبناء الشيعة والسنة، يقود البلاد. ويلعب رئيس الوزراء السابق دوراً بارزا وموجهاً، كما برز في خطبته الأخيرة بمناسبة الذكرى 37 لاستشهاد محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى. فهو نهج سيدمر البلاد إن تواصل العمل به حالياً وفي الفترة القادمة. إن النظام السياسي القائم بالعراق ليس من منتجات القرن الحادي والعشرين، بل هو من منتجات القرون المظلمة التي لعب شيوخ الدين في أوروبا وفي كل بقاع العالم، حيثما هيمنوا، دوراً أساسياً في الحكم أو باسمهم حكم المستبدون البلاد وعاثوا فيها فساداً وموتاً للبشر. وها هو الشعب العراقي يعيش هذه المأساة الدامية. فلا يمكن أن تكون هناك انتخابات حرة ونزيهة ونظيفة أو ديمقراطية حيادية في ظل نظام سياسي وأخلاقي غارق في الفساد من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وتسود فيه المليشيات الطائفية المسلحة وتهيمن على رقاب الناس بالتهديد والوعيد والسلب والنهب والاختطاف والابتزاز والتعذيب والقتل.
*2* طبيعة الأحزاب والائتلافات القائمة بالعراق حالياً.
  توجد في البلاد عشرات الأحزاب والكتل السياسية. ولكن الأحزاب المهيمنة على الحكم هي تلك الأحزاب التي لا تمتلك شرعية وجودها أصلاً، لأنها تقوم على أساس ديني وطائفي، فهي أحزاب إسلامية سياسية تعتمد المذهب أو الطائفة الدينية في نهجها وسياساتها ومواقفها، سواء أكانت شيعية أم سنية. فالدستور العراقي، وكذا اللوائح الدولية في مجال حقوق الإنسان، يرفض التمييز بين البشر على أساس الدين والمذهب، في حين إن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية تمارس المحاصصات الدينية والطائفية في نهجها في الحكم وفي قوائمها الانتخابية وتوظيفاتها في أجهزة الدولة، وفي كل السلطات العراقية الثلاث. إن مثل هذه الأحزاب تشكل مخالفة صريحة ومتقاطعة مع الشرعية الدستورية. ولو كانت المفوضية المستقلة للانتخابات مستقلة حقاً، لمنعت مشاركة هذه الأحزاب في الانتخابات الماضية والقادمة، كما إن القضاء العراقي المسيس والحديث الجاري والواسع عن فساده يزكم أنوف الرأي العام العالمي، غير مهتم بالتحري عن مدى ممارسة الدستور العراقي من جانب القوى السياسية الفاعلة بالساحة السياسية العراقية. إن الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية، الشيعية منها والسنية، لا تقبل في عضويتها سنة، إن كانت هذه الاحزاب شيعية، ولا تقبل شيعة، إن كانت هذه الأحزاب سنية، أي إنها لا تقوم على مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية، بل على أساس الهويات الفرعية القاتلة لوحدة الشعب ونسيجه الوطني ووحدة الوطن أيضاً، إذ إن الصراعات التي تخوضها تقوض الوحدة وتدفع باتجاه التقسيم والانفصال.
ولم تكتف هذه الأحزاب بإنشاء أحزابها الطائفية، بل عمدت إلى الإيغال بالعمق الطائفي المقيت، حين أسست تحالفاً شيعياً سمته تحالف "أهل البيت" أو "التحالف الوطني!"، واي تحالف وطني عراقي يمكن أن يضم في صفوفه الشيعة فقط، أي مهزلة هذه التي يعيشها العراق والقضاء العراقي. وقد نتج عن ذلك ان الأحزاب السنية هي الأخرى عمدت إلى إقامة مثل هذه التحالفات المقيتة التي تساهم في تدمير العراق وتعميق الانقسام الديني والطائفي، كما هو عليه حال العراق المأساوي حالياً.   
*3* الواقع السياسي السائد بالعراق والصراعات الجارية بين الأحزاب الإسلامية والقومية على السلطة والمال والنفوذ.
الواقع السياسي الراهن بالعراق معقد ومتشابك ومؤذي إلى أبعد الحدود لكل الشعب وقضاياه العادلة والملحة. ففي الوقت التذي تخوض القوات المسلحة العراقية والپيشمرگة والمتطوعين حرباً ضد العدو الجبان الذي اجتياح العراق بفضل نهج وسياسات حزب الدعوة وقائده نوري المالكي والتحالف الوطني، تحالف أهل البيت، وبفضل أحزاب وأشخاص مثل الأخوين النجيفي والمطلگ والجبوري ومن لف لفهم، تتصارع هذه القوى الطائفية على مصالحها الذاتية، وللهيمنة على الحكم والتصرف بالمال وتأمين النفوذ في المجتمع، إنها المأساة التي يواجهها العراق حالياً. فهذه القوى ما تزال غارقة حتى أذنيها في الصراع على الحكم والمال، رغم خواء خزينة الدولة بعد أن ابتلعوا المئات من المليارات من الدولارات الأمريكية، التي وجهت إلى البنوك الدولية، ولاسيما الإيرانية وغيرها من بنوك الجزر البريطانية وسويسرا ولوكسمبورغ، التي لا رقابة دولية فعلية عليها. إن الصراعات الجارية حالياً، بما في ذلك الصراع على رئاسة وحكومة الإقليم، سوف لن تساعد، وفي ظل الحكم الطائفي، في الوصول إلى أوضاع آمنة لانتخابات نظيفة وسليمة وعادلة. فسوف تمارس المليشيات المسلحة لهذه الأحزاب، وهي ميليشيات خارج القانون وقائمة بالرغم مخالفتها للدستور، دورها في كبت أصوات الناخبين أو شراء تلك الأصوات لأناس فقراء معدمين يجبرون تحت طائلة الفقر، وتأثير شيوخ الدين، انتخاب تلك القوى التي أوصلت العراق إلى الحالة البائسة الراهنة.   
*4* طبيعة قانون الانتخابات الجائر الذي يراد ممارسته في انتخابات عام 2018.
 استطاعت الأحزاب الدينية الطائفية والقومية المشاركة في الحكم والمهيمنة على الأغلبية البرلمانية، فرض نظام جائر للانتخابات البرلمانية العراقية، بعد أن اختارت القاعدة الأسوأ في هذا النظام الانتخابي. وهي لم تكتف بذلك بل تعمد الآن وفي الانتخابات القادمة فرض الطريقة الأكثر إساءة للديمقراطية والأكثر إيذاء للأحزاب الديمقراطية والأكثر تقويضاً للعدالة الانتخابية. فما هو هذا النظام الذي تمارسه القوى الطائفية والقومية التي ارتضت بمساوماتها فرض هذه الطريقة التي يطلق عليها سانت ليغو؟ إليكم ما جرى في انتخابات 2014 على سبيل التوضيح، كما جاء بصواب في مقال للسيد علاء اللامي:
في الانتخابات التشريعية السابقة تم احتساب الأصوات بالطريقة العادية والتي تجري كالآتي:
 - تفرز الأصوات وتحسب ثم توزع على الكتل التي نالتها.
 - يفوز كل مرشح من الكتل فاز بالمعدل المطلوب وهو 30 ألف صوت/ في الانتخابات السابقة كمثال.
-  بعد ذلك تجمع الأصوات الفائضة وتوزع على الكتل الفائزة بأكبر عدد من الأصوات لتكون من حصة المرشحين في كل كتلة حسب ترتيبهم في القائمة وليس حسب ما نالوه فعلا من أصوات.
هذه الطريقة أنتجت في الانتخابات السابقة 17 عشر نائبا حقيقا فقط فاز بأصوات منحت له من مجموع 325 نائبا، باعتراف أحد المحامين المقربين من دولة القانون هو طارق حرب والذي كتب (بالرجوع الى قوائم الفائزين في الانتخابات الخاصة بمجلس النواب يوم 7/ 3/ 2010 وجدنا ان عدد الفائزين في الانتخابات كانوا (17) نائبا فقط، وهذا يعني ان (308) نائب احتلوا مقاعدهم في مجلس النواب على الرغم من عدم فوزهم في الانتخابات، وذلك بسبب عدم حصولهم على عدد الاصوات المطلوبة للفوز وان وصولهم الى مجلس النواب وحصولهم على صفة نائب كانت بسبب حصولهم على اصوات اخرى من الاصوات الممنوحة للكيان السياسي، اي ان جلوسهم في المقعد البرلماني وتحت قبة البرلمان لم يكن بسبب الاصوات التي حصلوا عليها وإنما بسبب الاصوات الممنوحة للكيان (هؤلاء 17 نائبا هم الذين يستحقون الفوز بالأصوات التي نالوها والتي بلغت أو فاقت المعدل المطلوب)، أما الآخرون فقد وزعت عليهم الأصوات التي فاز بها زعماؤهم
مثلا، المالكي فاز بأكثر من 600 ألف صوت في بغداد، وهو يكفيه ثلاثون ألف وهكذا فالأكثر من نصف مليون صوت فائضة عن حاجته وزعت على مرشحين من قائمته حتى لو أن أحدهم لم يفز بأكثر من خمسين، أكرر خمسين صوتا، وهذا حدث في جميع القوائم وليس في دولة القانون فقط. وهنا طرحت فكرة اللجوء الى نظام سانت ليغو. ومما يزيد في الطين بلة إن الطريقة العراقية المعدلة تريد رفع القاسم من 1،4 إلى 1،6 وبالتالي تقود كما يشير الكاتب اللامي بصواب إلى إلحاق أفدح الأضرار بالأحزاب الصغيرة. في حين تعتبر الطريقة الأفضل والأكثر عدلاً تلك التي تأخذ العراق كله كدائرة انتخابية واحدة وتحسب الأصوات لصالح المرشحين في كل قائمة.
*5* طبيعة المفوضية المستقلة للانتخابات التي ستنظم العملية الانتخابية وتشرف عليها.
شكلت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق على وفق القانون رقم 92 الصادر بتاريخ 31 أيار/مايس 2004 باعتباره هيئة حكومية حيادية مستقلة. وقد ثبت ذلك في الدستور العراقي الذي أقر في العام 2005. وهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن تطبيق وتنفيذ الأنظمة والقواعد والإجراءات المتعلقة بالاستفتاءات والانتخابات ومسؤولة أمام البرلمان العراقي. والسؤال المباشر هو: هل هذه المفوضية العليا المستقلة، مستقلة حقاً في عملها؟ لكي تكون المفوضية مستقلة وبعيدة عن تأثير أي حزب من الأحزاب السياسية، أو تأثير الحكومة العراقية، يشترط أن يكون رئيس وأعضاء هذه المفوضية شخصيات حقوقية مستقلة عن الأحزاب والقوى السياسية العراقية. فهل تشكلت هذه المفوضية على هذا الأساس؟ لقد تشكلت المفوضية العليا على أساس المحاصصة الطائفية السياسية، على أساس الأحزاب المشاركة في الحكم وحصتها في الحكومة ومجلس النواب. وهذا الأمر مخالف تماماً للمبدأ الأساس في تشكيل المفوضية، وأعني بهما الحيادية والاستقلالية عن الأحزاب والحكومة وكل الجهات الأخرى ولا تخضع لأي كتلة نيابية، بل هي تابعة لمجلس النواب العراقي. ولهذا، ومنذ أن بدأت المفوضية العليا بتنظيم الانتخابات والاستفتاءات في العام 2005 حتى الوقت الحاضرـ تواجه انتقادات شديدة وشكاوى متزايدة ترفعها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأوساط شعبية واسعة تؤكد عدم نزاهة هذه المفوضية، بسبب تشكيلها على أساس المحاصصة الحزبية الطائفية والأثنية. وقد قدمت عشرات الشكوى بهذا الصدد، ولكن لا أحد استطاع حتى الآن تغيير هذا الواقع السيء رغم مخالفته الصريحة للدستور العراقي ولنزاهة الانتخابات ونظافتها ومصداقيتها أمام الشعب وأما الرأي العام العالمي.
إن الخلل يكمن في قدرة الحكومة والأحزاب، التي تملك أكثرية في هذه المفوضية، التأثير الفعلي، كما حصل في الدورات الانتخابية السابقة، على مجرى الانتخابات ونتائجها والشكوى الصارخة من عدم نزاهتها.
إن الحل المطلوب هو تغيير بنية المفوضية العليا للانتخابات وملئها بشخصيات مستقلة محترمة ومقبولة، لكونها لا تنتمي لأي حزب من الأحزاب السياسية العراقية وتمتلك القدرة على تطبيق قانون الانتخابات دون السماح بتدخل الحكومة أو أحزابها، أيا كانت هذه الحكومة أو كان هذا الحزب. وحتى الآن ترفض الأحزاب الحاكمة إجراء مثل هذا التغيير، تماماً كما ترفض تغيير قانون الانتخابات بما يسمح بتحقيق العدالة الفعلية للمرشحين واحترام حقوق الناخب العراقي وتصويتهم.
*6* التدخلات الدينية والخارجية لدول الجوار وغيرها في الشأن العراقي والانتخابي القادم.
شهدت الانتخابات والاستفتاءات السابقة دون استثناء تدخلاً فظاً من جهات عديدة قادت باستمرار إلى التأثير الفعلي المباشر وغير المباشر على الناخب العراقي. فالناخب العراقي أمام التأثيرات التالية:
-   تأثير المرجعيات الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية التي لا يحق لها كمؤسسات دينية التدخل في الشأن الانتخابي وفي السياسة عموماً، إذ قاد ويقود ذلك، دون أدنى ريب، إلى المزيد من التوترات الدينية والطائفية بالبلاد. وهذا ما حصل فعلاً حين أيدت المرجعية أو المرجعيات الدينية بالنجف الأحزاب الإسلامية السياسية ونوري المالكي بالذات، وهي بالتالي تتحمل مسؤولية أدبية ومعنوية وفعلية لما ارتكبه هذا الشخص بحق البلاد وما وصلت إليه حالة الشعب في الوقت الحاضر. 
-   التدخل الحكومي الفظ في الانتخابات وأحزابها على نطاق العراق كله التي لم تكف عن توزيع الأموال والهدايا والوظائف للناخبات والناخبين الفقراء وغيرهم، وكذلك استخدام الدين في دعايتهم الانتخابية. ويقدم المالكي والنجيفي وغيره نماذج صارخة في هذا المجال. ولا تختلف كردستان عما يجري على نطاق العراق كله بهذا الصدد.
-   التدخلات الخارجية الإيرانية والتركية والسعودية والقطرية وعموم الخليج في توزيع الأموال والدعاية الدينية المباشرة وغير المباشرة للتأثير الفعلي على مجرى الانتخابات العراقية، واستخدام الوسائل الإعلامية وخاصة شاشات التلفزة لانتخاب من يريدون فوزه. إن نتائج هذا التدخل تبرز في نتائج الانتخابات غير النزيهة
والحكومة العراقية هي المسؤولة عن كل ذلك لأن طبيعتها تسمح بحصول كل هذه التجاوزات التي حصلت والتي ستحصل في الانتخابات القادمة ما لم يجر التغيير الجذري المنشود في واقع العراق الراهن. ولا يخفى على أحد ما حصل في العام 2010 حين تدخلت الولايات المتحدة وإيران وعقدت مساومة مذلة بينهما وفرضت على رئيس الجمهورية وبقية القوى السياسية القبول بتشكل نوري المالكي الحكومة الثانية والتي حصلت فيها كل المآسي بما في ذلك استشهاد عشرات ألوف العراقيين وسيطرة الدواعش على المحافظات الغربية وأخيراً اجتياح الموصل قبل فرض انسحابه من الحكومة وعدم تشكيل حكومة ثالثة بعد انتخابات 2014.
لا نغادر الحقيقة إذا ما أشرنا إلى أن الانتخابات القادمة سوف لن تكون حرة وديمقراطية ونزيهة، لأنها ستجري في ظل النظام السياسي الطائفي المحاصصي القائم، وفي ظل وجود المليشيات الطائفية المسلحة، التي تخنق حرية الإنسان وحقوقه وحقه في إداء صوته بحرية وديمقراطية ودون تزييف لإرادته. ولو تابعنا ما يجري الآن لتأكدنا من النوايا المبيتة ضد القوى المدنية والديمقراطية العلمانية، إذ بدأ نوري المالكي، رئيس حزب الدعوة ونائب رئيس الجمهورية دعايته الموجهة ضد القوائم المدنية الديمقراطية والعلمانية، وما سماه بالأفكار الهدامة، في خطبته الأخيرة في الذكرى السابعة والثلاثين لاستشهاد محمد باقر الصدر، وبوجود رئيس الجمهورية، العلماني" ورئيس الوزراء، والتي أعقبها مباشرة الاعتداء على طلبة جامعة القادسية بأزلام مدججين بالسلاح ليحرموا الطلبة من الاحتفال المجاز من قبل الجامعة وجرح طالبين واعتقال طلبة آخرين بدلاً من اعتقال المعتدين، إضافة إلى رمي رمانات يدوية على مقر الحزب الشيوعي العراقي في الديوانية وانفجارها وتدمير الأثاث فيها، والذي يمكن ببساطة تحديد الجهة التي بدأت تعمل بها بعض القوى والأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها المسلحة بالعراق.
إن الموقف الوحيد الذي يفترض التحرك صوبه هو السعي لتحقيق التحالف الوطني والديمقراطي المنشود بالعراق في مواجهة ما يراد لهذا البلد من مستقبل مظلم في ظل الثيوقراطية المتخلفة التي يسعى إليها المعادون لبناء عراق مدني ديمقراطي علماني اتحادي حديث وحر. فهل ستسعى القوى المدنية والديمقراطية إلى ذلك، أم ستعتبر إن الوقت ما زال مبكراً للبحث والسير صوب التحالف المدني الديمقراطي المنشود؟   
لن تكون هناك أية ضمانات لانتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة وعادلة في ظل نظام سياسي طائفي مقيت ومحاصصة طائفية مناهضة للوطن والمواطن وتسبب في كل الكوارث والمآسي التي يعيشها الشعب منذ نيف وعقد من السنين! 

355
كاظم حبيب
الشعب الكردي وحقه في تقرير المصير والوضع الراهن
الشعب الكردي موزع مع أرضه على أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا. لم يتم هذا التوزيع بإرادته المستقلة ورضاه. وإذا كان التقسيم الأخير قد تم في نهاية الحرب العالمية الأولى، فأن التقسيم السابق قد وقع في القرن السادس عشر وفي الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الفارسية، في حين كان في فترة الدولة العباسية كله خاضعاً للدولة العباسية، كما هو حال إيران وتركيا وبلاد ما بين النهرين. وقبل الحرب العالمية الأولى كانت كردستان وشعبها قد قسما على دولتين هما الدولة الفارسية والدولة العثمانية في أعقاب معركة جالديران في العام 1514. وطيلة الفترة المنصرمة لم يخضع الشعب الكردي أو يستكين لهذه الحالة وكان يطمح للخلاص من الهيمنة الأجنبية عليه، تماماً كما سعى الشعب العربي في المنطقة إلى ذلك.   
ومنذ الحرب العالمية الأولى، وبعد قرار إلحاق ولاية الموصل بالعراق، على وفق قرار مجلس عصبة الأمم، فـأن هذا الإلحاق قد تم في ضوء مجموعة من الرسائل والاتفاقات مع الحكومة العراقية والملك فيصل الأول. ولكن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تنفذ تلك الاتفاقات التي سجلت في رسائل متبادلة بين الملك فيصل الأول والحكومة العراقية من جهة، ومجلس عصبة الأمم من جهة أخرى.وقد تسبب موقف الحكومات الملكية إلى نضالات مستمرة وانتفاضات مسلحة من جانب الشعب الكردي لنيل حقوقه المشروع والعادلة. وقد جوبهت تلك النضالات والانتفاضات بالحديد والنا وقمعت بقسوة شديدة. ولكن نضالات الشعب الكردي لم تقتصر على إقليم كردستان العراق فحسب، بل وحصل ذلك بالأقاليم الأخرى أيضاً، ولاسيما بإيران وتركيا، وبصيغ وأساليب وأدوات مختلفة.
اللوائح والمواثيق الدولة كافة تؤكد بحق كل شعب، صغرها وكبيرها، في تقرير مصيره بنفسه ودون تدخل من أحد. وهذا الحق لا يقتصر على شعب كردستان العراق فحسب، بل يشمل الشعب الكردي في بقية أجزاء كردستان الكبرى المقسمة.
وتاريخ العراق الحديث يحدثنا عنن التحام نضال الشعب الكردي بكردستان العراق بنضال القوميات ، أي مع الشعب العربي ومع الكلدان والأشوريين والسريان والتركمان، في سبيل الاستقلال والسيادة الوطنية أولاً، وفي سبيل الحريات الديمقراطية والحياة الدستورية ثانياً، ومن أجل تأمين الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي ثالثاً. وإذ بدأ النضال الكردي في سبيل الحقوق والحريات الديمقراطية، تطور إلى مطلب الحكم الذاتي، ومن ثم إلى الفيدرالية في إطار الدولة العراقية ضمن الحق المشروع في تقرير المصير، بما في ذلك الحق في الانفصال وتشكيل الدولة الكردستانية. وبعد مرور 65 عاماً على إلحاق ولاية الموصل، ومعها إقليم كردستان العراق، بالدولة العراقية الملكية، حقق الخطوة المهمة على طريق ممارسة حق تقرير المصير بإعلان الفيدرالية في إطار الدولة العراقية في العام 1991. ولكن هذا الإنجاز لم يكن الهدف الأخير للشعب الكردي بالعراق، بل من حقه أن يعمل على تحقيق الاستقلال عن الدولة العراقية وتشكيل دولته الوطنية المستقلة. لقد اعترف بذلك الحزب الشيوعي العراقي ورفع الشعار منذ الخمسينيات من القرن العشرين، وكان موقف الكثير من التقدميين والديمقراطيين المستقلين مشابهاً لموقف الحزب الشيوعي العراقي. وكان أول من رفع هذا الشعار هو الشخصية الوطنية والأممية المعروفة والمناضل الماركسي والشخصية الشيوعية البارزة وعضو مجلس السلم العالمي الأستاذ والرفيق الطيب الذكر عزيز شريف (6 تشرين الثاني21 -1904  نيسان(1990  في العام 1950/1951. ثم تجلى بعد ذلك في رفع شعار حق تقرير المصير من قبل الحزب الشيوعي العراقي في العام 1952/1953. واستمر مرفوعاً حتى هذا اليوم.       
منذ فترة والسيد رئيس إقليم كردستان العراق يتحدث عن إجراء استفتاء بشأن ممارسة حق تقرير المصير للشعب الكردي بكردستان العراق. لا أشك ولو للحظة واحدة بأن الشعب الكردي لا يريد ممارسة هذا الحق، بل سيؤكد الاستفتاء على الرغبة الصادقة لدى الكرد في ذلك. ولا أستطيع أن أؤكد رأي القوميات الأخرى بالإقليم بهذا الصدد، إذ يمكن أن يكون الموقف مغايراً. ولكن هذا أيضاً حق من حقوق القوميات الأخرى بالعراق وبالإقليم في آن واحد. وعلى وفق ما أراه بأن الاستفتاء سينتهي إلى نتيجة واضحة هي إقامة الدولة الكردية المستقلة على ذلك الجزء من الأرض الكردستانية التي تسمى جنوب كردستان.
ولكن تنفيذ هذا القرار، كما أرى يخضع لمجموعة من العوامل، التي لا أطرحها هنا لوضع العراقيل أمام تنفيذ ما يتوصل له الاستفتاء، بل انطلاقاً من الواقع الراهن في منطقة الشرق الأوسط عموماً، والعراق والدول المجاورة للعراق خصوصاً وكذلك الوضع بالإقليم ذاته.
وكما أرى فأن مهمة قادة إقليم كردستان دراسة وتحليل ومعالجة المشكلات التالية في ضوء المعطيات الراهنة والمتحركة مستقبلاً وبالوجهة المحتملة:
1.   لا يستوجب تحقيق الانفصال وإقامة الدولة الكردستانية المستقلة إرادة الشعب الكردي حسب، بل لا بد من التيقن من مواقف القوى السياسية الفاعلة بكردستان ذاتها، وكيف هو موقفها الراهن وكيف سيكون موقفها بعد إعلان الاستقلال. إذ لدينا أكثر من تجربة على الصعيد الدولي، ومنها بشكل خاص جنوب السودان الذي ما يزال يعاني من حرب أهلية طاحنة لم تتوصل الأطراف الوطنية فيها، والتي ناضلت طوال سنوات في سبيل الاستقلال، من تحقيق وحدة الصف الوطني. وهي تخوض حرباً منهكمة ومدمرة ومشردة للشعب في جنوب السودان، ومثل هذه التجربة لا بد أن تؤخذ بنظر الاعتبار جدياً. إذ نحن نرى بوضوح كبير الصراع الدائر بالإقليم على السلطة والمال والنفوذ والذي تفاقم في الآونة الأخيرة والذي لا يهدد الوصول إلى موقف موحد فحسب، بل وينشأ احتمال النزاع العسكري الذي توقف منذ العام 1996.
2.   لا بد من ترتيب الموقف مع الحكومة الاتحادية بشأن المناطق المتنازع عليها بصورة سلمية وديمقراطية بما يسمح بالوصول إلى نتائج مرضية للطرفين، ليس فقط لتلك المناطق التي تعتبر كردية والحكومات العراقية المتعاقبة تعتبرها عربية، بل وكذلك لمناطق المسيحيين التي تتداخل بين الإقليم والعراق، وبما يسهم الوصول إلى حلول عادلة ومخلصة. وهي إشكالية كبيرة في ظل النظام والوضع السياسي الراهن. إن القوى القومية، سواء أكانت عربية أم كردية، مستعدة لخوض النزاع العسكري على قطعة أرض صغيرة. وليس في مصلحة جميع القوميات الموجودة بالعراق نشوء مثل هذا النزاع. وأكثر المناطق سخون هي كركوك التي يفترض أن تعالج على وفق المادة 140 من الدستور العراقي وبعيداً عن التسويفات والتأخير التي تقود إلى الوضع الذي نحن فيه الآن ونشوء مشكلة رفع الراية الكردستانية أو رفض رفعها كما في قرار مجلس النواب العراقي.
3.   إن الأوضاع بالعراق وبالإقليم تفتقد للكثير من الحريات العامة والحياة الديمقراطية السليمة، وبهذا يمكن أن تنشأ إشكاليات كبيرة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وتنعكس على الوضع العام بالبلاد، إضافة إلى مواقف الأحزاب المختلفة على صعيدي العراق والإقليم.
4.   ليست المشكلة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم تمس موضوع الأرض فقط، بل هي مرتبطة بالثروات التي في باطن الأرض، ولاسيما النفط، وهذا الأمر يفترض أن يسوى بروح ديمقراطية حريصة على بقاء العلاقات بين الشعبين حتى بعد حصول الانفصال وإقامة الدولة الكردستانية المستقلة. والسؤال هل الوضع الراهن مؤهل لذلك؟
5.   إن إقليم كردستان العراق محاط بالدولة الإيرانية والدولة التركية وسوريا الجريحة، وهي دول كلها لا ترفض الدولة الكردستانية المستقلة فحسب، بل يمكن أن تقوم بعملية مباغتة ضد الإقليم والتي يعجز الإقليم في الدفاع عن نفسه، علماً بأن العلاقات الدولة تقوم على المصالح، ومصالح الغرب مع تركيا أكبر بكثير من مصالحه مع حكومة الإقليم، وكذلك مع حكومة العراق. وهي إشكالية يراد دراستها بعمق ومسؤولية كبيرة.
6.   المشكلة تكمن أيضاً بأن هذه الدول، ورغم الرياء الذي يغلف موقفها حالياً، وبشكل خاص تركيا، فأنها يمكن أن تتفق على خنق الإقليم اقتصادياً وتجارياً، الذي لا يملك أي منفذ على بحر أو مياه إقليمية ولم يهيئ لأي أمن اقتصادي أو غذائي. وليس بغريب على هذه الدول التي تخشى أن تتعزز الحركات المماثلة في الأقاليم الكردستانية في دولها، وهو أمر متوقع طبعاً، ولا بد من أخذه بالحسبان، خاصة وأن السياسة الإقليمية يمكن أن تتجه للتلاقي بين إيران وتركيا والعراق وسوريا ضد الشعب الكردي في كل أجزاءه.
7.   ولا بد هنا من إدراك حقيقة أن الاقتصاد الكردستاني اقتصاد استخراجي ريعي بنسبة عالية جداً، إضافة إلى كونه استهلاكي وليس إنتاجي، وبالتالي فهو يعتمد على النفط الخام تصديراً وعلى الموارد المالية للنفط المصدر في استيراد السلع الاستهلاكية لمعيشة الشعب، وهذه الحقيقة المرة هي نتاج للسياسات العراقية المتواصلة منذ عقود ضد التنمية الاقتصادية عموماً، وعلى صعيد الإقليم خصوصاً، وتواصلت هذه السياسة ضد التوجه صوب الاقتصاد الإنتاجي حتى بعد عام 1992 حتى قبل بدء أزمة الموارد المالية النفطية بسبب انخفاض أسعاره في السوق الدولية.
8.   عليّ كاقتصادي وسياسي عراقي أن أشير بوضوح إلى أن القيادات الكردستانية يفترض أن لا تعتمد على الحماس الوطني وحده، فهذا لا يكفي أبداً، رغم أهميته وضرورته، بل يفترض توفير المستلزمات الضرورية على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية من جهة، وتأمين الوعي الاجتماعي والمستلزمات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لمثل هذه الخطوة من جهة أخرى.
9.   وأخيراً لا بد أن تؤخذ الأوضاع الراهنة في الحرب ضد داعش بنظر الاعتبار لكي لا تتبعثر الجهود التي يفترض توجيهها للمعركة ضد عصابات داعش الإرهابية.
   أضع هذه الأمور أمام أنظار الأخوة الكرد لدراستها ولا شك بأنها غير غائبة عن أنظارهم، ولكن الواقع الذي يعيشه الشعب الكردي حالياً وكل الشعب العراقي يمكن ألا تسمح برؤية كل ما هو ضروري رؤيته حين الإقدام على خطوة الاستفتاء التي اعتقد بأن ليس هناك كردياً واحداً لا يؤيد ولا يوقع بعشرة أصابع علي حق تقرير المصير من حيث المبدأ، ويمكن أن يبرز الاختلاف في التوقيت وفي شروط ومستلزمات الإعلان عن الاستفتاء، ومن ثم ما بعد إعلان الخطوة أيضاً.
يقول البعض من الأخوة أنكم تؤيدون ذلك ولكن غالباً ما تضعون الكثير من المسائل التي أشبه بمن يقول "نعم"، ولكن..! من حمل السلاح مع الكرد بقناعة تامة في سبيل الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكردي، لا يمكن أن يتخذ مثل هذا الموقف السلبي. إلا إن الضرورة هي التي تستوجب طرح المسائل التي يفترض أن تدرس قبل البدء بالخطوة المرجوة، خاصة وأن الشعب الكردي وقيادته كثيراً ما لدغت من الدول الكبرى ومن دول الإقليم ومن الساسة العراقيين والحكومات العراقية المتعاقبة.
وأرى بأن من يدعو إلى ربط إعلان الاستقلال مع نتيجة الاستفتاء كمن يقول: اقتلوني ومالك!

356
 
د. كاظم حبيب
هل من معالجة جادة لمشكلات الاتحاد الأوروبي؟
سجل يوم 25/03/2017 الذكرى الـ 60 لميلاد السوق الأوروبية المشتركة بمدينة روما، حيث تم التوقيع على الوثيقة المشتركة من قبل الدول الأوروبية التالية: فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية وبلجيكا وهولندا ولكسمبورغ. كانت فكرة تأسيس السوق الأوروبية المشتركة قد برزت منذ عام 1951 وطرحت كمشروع بمدينة روما بأمل إقامة وحدة اقتصادية فيما بين هذه الدول لاحقاً. وفي أعوام مختلفة تالية التحقت دول أخرى بالسوق المشتركة. ففي عام 1973 التحقت بها كل من المملكة المتحدة والدانمارك، ثم اليونان عام 1981، وإسبانيا والبرتغال عام 1986، ثم إيرلندا عام 1993، فالسويد وفنلندا والنمسا عام 1995. وفي العام 1992، أي قبل انضمام إيرلندا والسويد وفنلندا والنمسا، تم تأسيس الاتحاد الأوروبي بعد وضع اتفاقية جديدة والتوقيع عليها في مدينة ماسترخت/، وسميت باتفاقية أو معاهدة ماسترخت، وهي مدينة هولندية تقع في الجنوب الشرقي من هولندا. ومنذ عام 2004 بدأ التحاق دول أوروبا الشرقية المنسلخة من اتفاقية التعاون الاقتصادي المتبادل مع الاتحاد السوفيتي السابق والأعضاء في حلف وارشو السابق، إلى الاتحاد الأوروبي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية واتفاقياتها المشتركة، حتى بلغ مجموع دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن 28 دولة هي كالآتي:   
1) بلجيكا، 2) فرنسا، 3) ألمانيا، 4) إيطاليا، 5) لوكسمبورغ، 6) هولندا، 7) الدّنمارك، 8) إيرلندا 9) المملكة المتّحدة، 10) اليونان، 11) البرتغال، 12) إسبانيا، 13)، النّمسا، 14) فنلندا، 15) السويد، 16) قبرص، 17) التشيك، 18) إستونيا، 19) المجر، 20) لاتفيا، 21) ليتوانيا، 22) يالطا، 23) بولندا، 24) سلوفاكيا، 25) سلوفينيا، 26) بلغاريا، 27) رومانيا، 28) كرواتيا.
وفي على 23 حزيران/يونيو 2016 أقدم رئيس وزراء بريطانيا المحافظ ديفيد كاميرون على إجراء استفتاء شعبي ببريطانيا حول بقاء أو انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فاز في الاستفتاء الرأي الداعي إلى انسحاب بريطانيا وجبل طارق من الاتحاد الأوروبي، رغم إن الفارق بين المؤيدين والمعارضين للانسحاب كان ضئيلاً جداً، 51,9 : 48,1 %، فاستقال رئيس الوزراء وشكلت السيدة المحافظة تيريزا ماي وزارة المحافظين الجديدة. وفي 30 من شهر أذار/مارس 2017 قدمت رئيسة الوزراء طلباً رسمياً بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وستستغرق مفاوضات الانسحاب الصعبة والمعقدة والمكلفة جداً لبريطانيا حوالي السنتين، على وفق المادة 50 من معاهدة ماسترخت لسنة 1992. وقد أشاع هذا الانسحاب خشية كبيرة لدى بعض دول الاتحاد، لاسيما ألمانيا المستفيدة الكبرى من وجوده، لاحتمال حصول تداعيات وانسحاب بعض الدول الأخرى منه.   
كل الدلائل التي تحت تصرف الكاتب تشير إلى أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وخاصة مجلس ورئاسة الاتحاد، ومن ثم البرلمان الأوروبي قد تسرعا جداً بدعوة وإلحاق جميع دول أوروبا الشرقية، وبعض تلك الدول كان جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ضمها في عضوية حلف شمال الأطلسي، بأمل قطع الطريق على أي احتمال بالبقاء خارج هاتين المنظمتين السياسية-الاقتصادية والعسكرية، أو إقامة علاقات جديدة مع روسيا الاتحادية، وبأمل خلق طوق اقتصادي-سياسي-عسكري من هذه الدول الأعضاء الجدد في حلف شمال الأطلسي حول روسيا، باعتبارها دولاً مناهضة للدولة الروسية الاتحادية. وكان هذا الموقف أحد أبرز أخطاء المؤسسات الرسمية للاتحاد الأوروبي، لأن الاتفاقات التي كانت قد وقعت مع الاتحاد السوفييتي في حينها تؤكد ابتعاد حلف شمال الأطلسي من الدول المجاورة للاتحاد السوفييتي السابق قبل انهياره والدولة الروسية الاتحادية الجديدة. وكان هذا إخلال بالاتفاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي من جانب الاتحاد الأوروبي الذي تسبب في مشكلات لاحقة وأثار استياء روسيا، ولاسيما حين اقترب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من أوكرانيا، وما نشأ بسبب ذلك من صراعات وقتال وانقسام وإلغاء قرار خروتشوف الصادر في العام 1954 بجعل جزيرة القرم جزءاً من جمهورية أوكرانيا ذات الحكم الذاتي التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. وفي حينها نشرت صحيفة "برافدا"، الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوفييتي، خبراً بجملة طويلة واحدة يوم 27 فبراير/ شباط ،1954 قائلة: "أصدر مجلس السوفييت الأعلى مرسوماً يقضي بنقل ملكية محافظة القرم من الجمهورية الروسية إلى جمهورية أوكرانيا، آخذاً في الاعتبار الطابع التكاملي للاقتصاد، والمجاورة الجغرافية، والروابط الاقتصادية الوثيقة بين محافظة القرم وجمهورية أوكرانيا، ومصادقاً على اقتراح رئاسة مجلس السوفييت الروسي ورئاسة مجلس السوفييت الأوكراني بشأن نقل محافظة القرم من الجمهورية الروسية إلى الجمهورية الأوكرانية. هكذا حصلت أوكرانيا على "هدية من خروتشوف."(أنظر: موقع الخليج، ملحق الاسبوع السياسي، كيف قدم خروتشوف القرم "هدية" إلى أوكرانيا؟ تاريخ النشر: 13/03/2014.
http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/8d6cab89-ed94-4369-83f6- 4b52d3f0b0c0#sthash.7397GgTL.dpuf)         
لقد تغافلت دول الاتحاد الأوروبي عن الفوارق الجدية القائمة بين مستوى تطورها وتطور الدول الاشتراكية السابقة، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة الناشئة في هذه الدول التي بدأت في طريقها المعقد صوب الانتقال التدريجي نحو الرأسمالية، رغم إنها لم تكن في واقع الحال في نظام اشتراكي فعلي.
إن إلقاء نظرة فاحصة على أوضاع الدول التي انخرطت في عضوية الاتحاد الأوروبي على امتداد الفترة الواقعة بين 1957-2017 سيجد أنها غير متجانسة من حيث مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فهناك مجموعة صغيرة من الدول الرأسمالية المتقدمة اقتصادياً، التي وصلت إلى قمة تطورها الرأسمالي على الصعيد العالمي، ولاسيما ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، في حين تليها في مستوى التطور كل من النرويج وبلجيكا وهولندا والسويد والدنمارك وفنلندا، ثم تأتي مجموعة من الدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية، والتي التحق أغلبها قبل عام 1992، ومنها اليونان والبرتغال وإسبانيا، بعدها تأتي الدول التي تقف على حافة التحول صوب الرأسمالية، وهي الدول "الاشتراكية" التي انسلخت من معاهدة التعاون الاقتصادي المتبادل ومن حلف وارشو والتحقت بالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، رغم إنها هي الأخرى متباينة في مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا الأكثر تقدماً بالمقارنة مع بلغاريا ورومانيا، وكذلك الدول التي تشكلت نتيجة التدخل الخارجي والحرب في يوغسلافيا السابقة، وهي الأقل تطوراً أو تلك التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، جمهوريات إستونيا ولتوانيا ولاتفيا. ويتجلى التباين في مستويات التطور في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسات الداخلية، كما في مجالات البحث العلمي والتقدم التقني، وفي مستوى تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وتشوه بنية الاقتصاد الوطني، وانخفاض مستوى إنتاجية العمل والناتج المحلي الإجمالي، وحصة الفرد الواحد من الدخل القومي والبطالة المكشوفة والمقنعة، إضافة إلى ضعف مستوى الخدمات الاجتماعية، ومنها الصحية والتعليم والتقاعد ومستوى الأجور والرواتب ...الخ، رغم وجود جوانب إيجابية كانت فيها وهي في إطار دول "الاشتراكية في الواقع"، في مجال الصحة والتعليم وجوانب أخرى.
لقد كان هذا كله واضحاً لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، ولكنها لم تتخذ أية إجراءات حقيقية فاعلة تساهم في تغيير هذا الواقع ودعم سرعة تطور تلك البلدان للحاق بالدول الأكثر تقدماً وتقليص الفجوة بين الأكثر والأقل تطوراً، بل بذلت الدول المتقدمة جهوداً حثيثة للاستفادة من هذا الوضع غير السليم لصالحها، لاسيما لصالح ألمانيا الاتحادية، التي حققت نجاحات باهرة ومكاسب كبيرة على حساب دول الاتحاد الأقل تقدماً وتطوراً. وهو ما انعكس على العلاقات المتوترة بين تلك الدول وألمانيا بشكل خاص.
لم تكن هناك عجالة في ضم تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي فحسب، بل حصل التسرع في إقرار العملة الموحدة (اليورو) بدلاً من عملاتهم الوطنية وفرضها عملياً على كل الدول ما عدا بعض الدول القليلة مثل السويد والدنمارك وبريطانيا التي حافظت على عملاتها الوطنية. كما إن المعايير التي وضعت كانت وما تزال صالحة للدول المتقدمة في حين إنها ألحقت الضرر بتلك الدول الأقل تطوراً والأكثر معاناة من مشكلات اقتصادية واجتماعية.             
تشير مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ما نضح عن الاحتفال بالذكرى الستينية لتأسيس السوق المشتركة بروما، إلى إن المبادئ التي تعتمدها هي: الحرية والديمقراطية ودولة القانون والسلام. ولكن هذه المبادئ الأربعة، رغم نواقص تطبيقها على وفق معايير التقدم فيها، ينقصها مبدأ أساسي واحد، إذ بسبب غيابه نشأت حقاً أغلب المشكلات الراهنة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، وأعني به العدالة الاجتماعية. إن غياب العدالة الاجتماعية عن مبادئ وواقع ونشاط مؤسسات ودول الاتحاد الأوروبي شمل كامل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعلمية والصحية على سبيل المثال لا الحصر. وقد تفاقم ذلك بممارسة دول الاتحاد الأوروبي نهج وسياسات اللبرالية الجديدة التي عمقت الفجوة بين هذه الدول في جميع المجالات، ولاسيما في مستويات الدخل ومستوى المعيشة ومستوى الخدمات الاجتماعية ومستوى التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ومدى التمتع بالحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وقضايا التمييز في المجتمع، بما في ذلك دور المرأة في المناصب العليا في الدولة والشركات والمؤسسات والمجتمع وفي الموقف من الفئات الفقيرة، كما وسع من قاعدة الفقراء في كل دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الدول الأكثر غنى مثل المانيا الاتحادية. 
والمشكلة الأخرى التي تعاني منها دول الاتحاد الأوروبي تبرز في تفاقم النهج البيروقراطي في مؤسسات الاتحاد الأوروبي الذي بدأت شكوى الجميع منها منذ سنوات كثيرة دون أن تتخذ الإجراءات لمواجهتها لصالح المزيد من الديمقراطية والشفافية في عمل ونشاط الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. ويشار اليوم إلى أن الاتحاد الأوروبي يعاني من أزمة ديمقراطية فعلية. والمشكلة لا تمس الاتحاد الأوروبي وحده بل جميع دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني كلها من هذه الأزمة، أزمة الديمقراطية الناقصة لصالح البيروقراطية المعششة في مؤسساتها والمؤذية لمزيد من دور الفرد والمجتمعات في اتخاذ القرارات والفعاليات والمشاركة الفعلية في ذلك. ويعاني سياسيو الدول الأوروبية من ضعف في مصداقيتهم أمام ناخبيهم، أو أمام مجتمعاتهم، والذي يتجلى في ضعف نسب المشاركة في الانتخابات من جهة، والتذمر المتزايد من سياسات الدول والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، حتى نشأت في كل هذه الدول أحزاباً يمينية تدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي ومن منطقة اليورو، ولاسيما بعد بروز "أزمة اليورو" الراهنة والمستمرة، والتي بدأت تحوز على رضى المزيد من الناس وتحصل على مقاعد في المجالس المحلية والمجالس النيابية وفي البرلمان الأوروبي، في حين واصلت الأحزاب اليسارية الدعوة إلى تغيير في نهج وسياسات دول الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوروبي ذاته لاسيما السياسات الاجتماعية دون المساس بوجوده.   
إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تغيير في الكثير من جوانب نهجه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية والموقف من تفاقم الفجوة بين الفقراء والأغنياء وتزايد عدد ونسبة الفقر في هذه الدول، باتجاه وعي حاجة المجتمع لهذا التغيير وضروراته وممارسته، وبدون ذلك سيتعرض الاتحاد الأوروبي إلى هزات جديدة ربما تفقده الكثير من الدول الأعضاء الحاليين، وإلى مزيد من التذمر والاحتجاج، والشاعر العباسي أبن النبيه قال يوماً "أول الغيث قطر ثم ينهمر المطر". حتى الآن لم يبرز أي توجه لدى الاتحاد الأوروبي للتغيير، ولكن هل ستجبر أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد على اتخاذ بعض الإجراءات، وهل ستكون ترقيعية أم حقيقية، هذا ما ستكشفه الفترة القادمة، رغم علمي بأن التغيير المنشود لن يأتي على أيدي بنية مؤسسات الاتحاد الحالية ولا على أيدي القوى المحافظة المهيمنة هذه المؤسسات حالياً!         
 


357
كاظم حبيب
الجرح النازف: معاناة أهلنا بالموصل!
كل بلدة وقرية وبيت يتم انتزاعها من براثن عصابات داعش يسجل نصراً أكيداً لأهلنا بالموصل ولشعبنا بالعراق، إلا أن تحرير كل شبر من هذه الأرض الطيبة وأهلها الكرام تكلف الشعب العراقي عشرات الشهداء والجرحى والمعوقين والمزيد من الخسائر المادية، بما في ذلك دور السكن ومحلات العمل والبنى التحتية والكنائس والمساجد ودور عبادة أخرى، ودمار شامل. إضافة إلى ما يقترن بكل ذلك من نزوح مرعب ومحفوف بمخاطر الموت برصاص قناصة داعش الأوباش، أو انفجار الألغام التي زرعوها، أو القنابل التي تتساقط يومياً على رؤوس الناس في طريق نزوحهم إلى المناطق الأمنة بعيداً عن جبهات القتال ضد عدو مستهتر ويعيش هستيريا الخسائر الفادحة والهروب المتواصل لمجرميه من ساحات القتال.
وإذا كان القتال في الجولات الأولى قد تحقق بنجاح وبسرعة نسبية مع ضحايا كثيرة، فأن الجانب الأيمن من الموصل، حيث المدينة القديمة وحيث الشوارع والأزقة الضيقة والدور المليئة بالسكان، لاسيما النساء والأطفال والمرضى والعجزة، حيث يستخدمهم التنظيم الإجرامي كدروع بشرية للبقاء والمقاومة أطول فترة ممكنة أمام زحف القوات المسلحة العراقية ضد مواقعه وتطهير الأرض الطيبة من رجسه ودنسه وإجرامه. فالضحايا البشرية من شهداء وجرحى ومعوقين بين صفوف المدنيين والمقاتلين الشجعان هنا مضاعفة، كما إن الخسائر المادية أكبر بكثير من السابق، والتقدم بطيء ومليء بالمخاطر لأهلنا وأحبتنا، للمواطنات والمواطنين بالموصل وللقوات المسلحة العراقية.
ومما يزيد من فداحة الخسائر تلك الأخطاء التي يمكن أن ترتكب عبر ما يطلق عليه بـ "نيران صديقة"، تلك الصواريخ والقنابل التي يمكن أن تسقط على رؤوس المواطنات والمواطنين ومن مختلف الأعمار وتقتل المئات منهم، في حين كان المقصود بذلك أوباش داعش. وليس هناك من يستطيع أن يؤكد صواب هذا الادعاء بأنها "نيران صديقة" أم إنها استخدمت من جانب قوى أخرى في الجماعات الصديقة لتلحق الضرر بأهل الموصل. لا يمكن أن يؤكد هذا الأمر أو ذاك ما لم يجرِ تحقيق جدي وأمين من جهة مستقلة وبحيادية عالية لمعرفة حقيقة ما حصل في شمال الموصل حيث تحدثت الأخبار عن سقوط أكثر من 300 إنسان نتيجة توجيه ضربات صاروخية جوية مميتة ومدمرة من طيران التحالف الدولي على حي ودور سكنية بمدينة الموصل، علماً بأن الناطق الرسمي لقوات التحالف أشار إلى "احتمال!" أن تكون الضربات قد جاءت من طيران التحالف الدولي!
إن أهل الموصل الكرام يواجهون اليوم إرهاب داعش حيث يتعرضون للموت على أيديهم لأسباب كثيرة، بما في ذلك محاولتهم الهروب والنجاة بالنفس، وكذلك نتيجة استخدامهم دروعاً بشرية من قبل مجرمي داعش، إضافة إلى الجوع والحرمان والمرض والعيش في رعب دائم. إن هذا الواقع في الوقت الذي يتطلب التعجيل بإنهاء احتلال الأرض وتحرير أهل الموصل من سجن داعش الكبير، يستوجب في الوقت ذاته الحذر والتيقن من تلك الضربات التي تسمى "ذكية" والتي يمكن أن تخطئ الهدف أولاً، أو من أولئك الذين ما زالوا يتسمون بالطائفة الدنيئة التي يمكن أن تدفع بهم لإيذاء أهل الموصل بشتى الطرق، تماماً كما فعل سيدهم الذي علمهم السحر، رئيس الوزراء السابق المسؤول، مع رهطه، عن احتلال الموصل وبقية محافظة نينوى وغيرها من مدن غرب بغداد والعواقب التي تحملها الشعب من جراء ذلك.
إن تحرير الموصل وبقية الأراضي الخاضعة لعصابات داعش يجب أن تشهد محاسبة جادة وحقيقية لمن عرض أهل الموصل ونينوى لتلك الكوارث المريعة والإبادة الجماعية والأسر والسبي والاغتصاب والقتل والتشريد والنزوح والهجرة التي تعرض لها بنات وأبناء وطننا المستباح بالإرهاب والدواعش الأوباش والطائفية المقيتة من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان والعرب من أهل الموصل الآخرين. إن الشعب العراقي يمهل ولا يهمل، وسيعاقب من يحاول تجنب محاسبة المسؤولين عن كل ما حصل بالعراق خلال السنوات المنصرمة، ولأي سبب كان. وإن الشعب سيجبر الحكام والقضاء العراقي على ذلك، ما لم تمارس المحاكم العراقية، التي ما زالت سجينة الإرادة السياسية لمن هم ما زالوا في مؤسسات وأجهزة الدولة العراقية، دورها في محاسبة هؤلاء المسؤولين. وسيبقى الجرح مفتوحاً ونازفاً إلى أن تتم محاسبة أولئك الذين اغتصبوا العراق وأذلوه وفتحوا أبوابه لهؤلاء القتلة أتباع داعش.





     

358

الصديقات والأصدقاء الأعزاء
الأخوات والأخوة الأفاضل
يسعدني جداً أن أتوجه بالتحية القلبية الحارة والتمنيات الطيبة لكل الأشوريين بالعراق والعالم بمناسبة عيد رأس السنة، عيد الأول من نيسان من كل عام، راجياً لهم الصحة الموفورة والعافية والحياة الهانئة والسعيدة. لا شك إنه عيد كل مسيحيي العراق دون استثناء ويفترض أن يكون عيد كل العراقيين أيضاً، إذ إن الأعياد الوطنية للقوميات المتآخية وأتباع الديانات والمذاهب يستوجب أن تكون أعياداً مشتركة لبنات وأبناء الوطن الواحد. كما يسعدني ان أهنئ كل المسيحيين بالعراق ممن اعتبر تأسيس المجلس الشعبي الكلداني الأشوري السرياني في مثل هذا اليوم الأول من نيسان قبل عشر سنوات مناسبة لوحدة كلمة كل مسيحيي العراق وبعيداً عن التباين في الكنائس أو الطوائف أو التسميات القومية الأخرى، ومع كل الاحترام للآراء والمواقف الأخرى لأبناء وبنات الوطن الواحد.
أيها الأحبة
أعبر لكم عن مشاعر الحزن والألم الشديدين وأشاطركم بهما لما تعرض له هذا الجزء الكبير من شعبنا العراقي، هذا الجزء الرائع من الشعب الذي ساهم ببناء حضارة العراق القديم وساهم في رفد الحضارة العراقية باستمرار وعلى مدى تاريخ بلاد ما بين النهرين والعراق الحديث بالكثير من المنجزات التي وضعت العراق في مصاف الدول الحضارية المهمة في العالم، لما تعرض له خلال القرن العشرين، سواء أكان قبل وأثناء أم بعد الحرب العالمية الأولى، ومنها مجازر سيفو ومجازر الإبادة الجماعية ضد الأرمن وبقية المسيحيين في إطار الدولة العثمانية، ومن ثم في مجازر الأشوريين في ديره بون وسميل في العام 1933 في العهد الملكي، ومن ثم في أعقاب فشل محاولة انقلاب الشواف عام 1959 وبعد الانقلاب القومي البعثي عام 1963 وفي فترة حكم البعث الثانية، وأخيراً في فترة الحكم الطائفي التي نعيشها جميعاً في جنوب ووسط العراق وبغداد والموصل على ايدي المليشيات الطائفية المسلحة والمتطرفة وفي ظل الحكم الطائفي القائم على التمييز بين القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والمناهض لمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة، وكذلك على أيدي القوى التكفيرية بالعراق ومنطقة الشرق الأوسط. وأخيراً ما تعرض له المسيحيون، وكذلك الإيزيديون والشبك والتركمان، خلال اجتياح الموصل من قبل الدواعش المجرمين من إبادة جماعية وضد الإنسانية، بما في ذلك التشريد والنزوح والتهجير القسري لعشرات بل مئات الآلاف من أبناء المنطقة من اتباع الديانات الأخرى، وفرض التحول القسري إلى الدين الإسلامي أو الهجرة القسرية أو القتل، وسلب الممتلكات والاغتصاب والقتل الفعلي والاستعباد وبيع النساء في سوق النخاسة. كما إن مناطق المسيحيين لا تعاني من كل ذلك فحسب، بل وهناك إصرار على إجراء تغيير ديمغرافي فعلي في مناطق المسيحيين لصالح العرب والكرد. وقد حصل هذا في جميع العهود المنصرمة، ولكن وبشكل خاص في فترة حكم البعث الشوفيني والحكم الطائفي الراهن. 
إننا إذ نحيكم بحرارة بهذا العيد الوطني للأشوريين ولكل مسيحي العراق والعراقيين عموما، ننحني إجلالاً للشهداء المسيحيين ولكل شهداء العراق الأبرار الذين سقطوا بسبب الكراهية والحقد القومي والديني والمذهبي، أو في النضال من أجل عراق مدني ديمقراطي اتحادي مستقل تحترم فيه الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ويرفض التمييز بكل أشكاله وصور ظهوره.
أشد على ايديكم في عيدكم الوطني الكبير وأتمنى لكم وللعراق الخلاص من الحكم الطائفي وإقامة الدولة الحرة والمدنية والديمقراطية العلمانية، أتمنى لكل النازحين والمهجرين قسرا العودة إلى مناطق سكناهم واستعادة حقوقهم كاملة وإعادة إعمار المناطق المدمرة بما في ذلك الكنائس والأديرة وبقية دور العبادة، وإعادة بناء المناطق الأثرية التي دمرت على أيدي كل الإرهابيين والمعادين للإنسان وحريته وكرامته.
أتمنى على العراق وشعبه أن يحاسب بصرامة وحزم وعدل كل الذين تسببوا في حصول هذه المآسي والكوارث الجلل لكل الشعب العراقي، ولاسيما للمسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان، أتمنى أن ينصف كل الذين تعرضوا لتلك المآسي المريرة. أتمنى على الجميع أن نعمل لكي لا تتكرر مثل هذه المآسي والكوارث المخالفة لكل ما هو إنساني ونبيل من قيم ومعايير بشرية مشتركة.
مع خالص الود والاعتزاز
أخوكم في الإنسانية والمواطنة كاظم حبيب
01/04/2017
ملاحظة: الشكر الجزيل على دعوتكم الكريمة ولو كانت قد وصلت في وقت مناسب لشاركتكم فرحة العيد.

359
د. كاظم حبيب
نتائج الانتخابات الهولندية واليمين الأوروبي
علق اليمين الأوروبي آمالاً كبيرا على نتائج الانتخابات الأوروبية وتأمل ان تكون لصالح الحزب اليميني المتطرف الذي يترأسه منذ سنوات گیرت ولدرز، خاصة وان استطلاعات الرأي قد أكدت على إن المنافسة ستكون بين حزب الحرية اليميني المتشدد ورئيس الوزراء اللبرالي مارك روتّه الراهن مع وجود 16 حزبا اخر خاضوا الانتخابات الأخيرة في 15/03/2017, حتى إن بعض استطلاعات الرأي قد رشحت حزب الحرية اليميني بالفوز على منافسه وربما تشكيل حكومة يمينية في هولندا. ونتيجة لهذه التقديرات التي بنيت على أساسين هما استطلاع الرأي بهولندا، والتقديرات التي نشأت في أعقاب العمليات الإرهابية التي نفذت بفرنسا وبلجيكا وألمانيا من قبل عصابات داعش المجرمة باسم الإسلام وتحت شعار "لا الله الا الله ومحمد رسول الله"، حيث تصاعد مزاج الخوف من إرهاب قوى الإسلام السياسي والسلفيين والمتطرفين والداعين إلى أسلمة أوروبا، إضافة إلى التهديد بتنفيذ عمليات إرهابية جديدة بأوروبا. وبناء على وجهة نشاط حزب الحرية اليميني الهولندي رفع شعارين مركزيين، هما:
1.لا لقبول لاجئين مسلمين بهولندا وتنظيف هولندا منهم لأنهم يهددون هولندا وأوروبا بالأسلمة، بمعنى اخر هولندا للهولنديين، وأوروبا للأوروبيين.
2.لا للاتحاد الأوروبي والعمل على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
 وفي ضوء كل ذلك قرر اليمين الأوروبي دعم حزب الحرية اليميني بهولندا من خلال المشاركة في الحملة الانتخابية لصالح رئيس الحزب ولندرز، فالتقوا بأمستردام قادة اليمين المتطرف في كل من ألمانيا (فراوغه بيرتي) وفرنسا (مارين لوبان) وهولندا (گیرت ولندرز)، حيث وجهوا خطبهم المناهضة للإسلام والمسلمين أولاً، وضد الاتحاد الأوروبي والدعوة للخروج منه ورفض اليورو في حالة انتصار هذه الأحزاب في الانتخابات القادمة ثانياً. إضافة إلى ذلك برزوا الجوانب السلبية الفعلية الموجودة في سياسات الاتحاد الأوروبي، ولاسيما تنامي الفقر والبطالة والبرودة الاجتماعية والاستغلالية ازاء الفئات الفقيرة والكادحة والمعوزة في المجتمع ... إلخ.
وقد بث هذا التوجه خشية كبيرة لدى قادة الاتحاد الأوروبي، ولاسيما القادة الألمان، خاصة وأن لانتخابات الرئاسية في النمسا قد سجلت نجاحا كبيرا للحزب النمساوي اليميني، رغم عدم وصول مرشح هذا الحزب لرئاسة الدولة، ثم تصاعد نفوذ والقوة التصويتية للحزب الوطني الفرنسي في الانتخابات المحلية الأخيرة في فرنسا والخشية من فوز مرشحة اليمين المتطرف في الانتخابات العامة والرئاسة بفرنسا. ثم فوز حزب البديل لألمانيا في عدد من الولايات الألمانية بمقاعد مهمة في مجالسها المحلية، إضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامپ لرئاسة البيت الأبيض بالولايات المتحدة الأمريكية ونهجه اليميني المناهض للاجئين عموما والمسلمين منهم على وجه الخصوص ...إلخ.
من هنا يأتي نجاح حزب رئيس وزراء هولندا اللبرالي في الانتخابات الأخيرة قد أشاع الفرحة بهولندا وبالقوى السياسية بالدول الأوربية ولاسيما فرنسا وألمانيا والنمسا وفي قيادة الاتحاد الأوروبي، واعتبر مؤشرا إيجابيا في غير صالح اليمين الأوروبي.
ولكن من الضروري الانتباه إلى أربع نقاط جوهرية:
1.   إن حزب الحرية اليميني قد حاز على أصوات أكثر من الدورة الانتخابية العامة السابقة، وبالتالي رفع من عدد مقاعده في مجلس النواب الهولندي.
2.   إن احزاباً يمينية أخرى قد حصلت على أصوات اخرى في الانتخابات.
3.   إن نشاط ودعاية اليمين المتطرف الهولندي قد استطاع ان يدفع بالحملة الانتخابية وبالمزاج الهولندي العام صوب اليمين وأكثر من السابق، بما في ذلك الحزب اللبرالي الحاكم لرئيس الوزراء الحالي.
4.   إن ظاهرة العطاء للأجانب ولاسيما المسلمين عموما والمسلمين العرب منهم بوجه خاص قد ارتفع أكثر من أي وقت مضى. وستشتد هذه النزعة ما لم يجر تغيير فعلي في أوضاع المسلمين عموماً وفي مواقف حكوماتهم من الاتجاهات الإسلامية السياسية في الحكم أو خارجه، وما لم يتغير سلوك اللاجئين المسلمين القادمين إلى أوروبا، وما لم تجر عملية دمج فعلية للمسلمين والمسلمات في مجتمعاتهم الأوروبية، وما لم يتم اعتراف واحترام المسلمات والمسلمين للدساتير والقوانين والثقافة الوطنية في الدول الأوروبية اللاجئين إليها. لا يمكن اعتبار هولندا مؤشرا كافيا لعدم فوز اليمين في الانتخابات القادمة في 06/04/2017 في فرنسا على نحو خاص، إذ من غير المؤمل بأي حال فوز اليمين المتطرف بألمانيا في الانتخابات القادمة، ولكن من الممكن ان يحصل على نسبة تتراوح بين 8 - 12 % من مجموع أصوات الذين سيشاركون في الانتخابات القادمة في شهر أيلول/سبتمبر 2017. ولكن مخاطر فوز اليمين المتطرف في فرنسا محتملاً، ما لم تتجمع القوى ضد مرشح اليمين المتطرف ودعم مرشح واحد يمثل الجناح اللبرالي والاشتراكي الديمقراطي والمستقلين، وربما اليسار الشيوعي أيضاً لمنع وصول مرشحة اليمين لرئاسة الجمهورية الفرنسية.
إن الإشكالية الكبيرة بالنسبة لشعوب دول الاتحاد الأوروبي تكمن فعلياً في طبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على اللبرالية الجديدة التي تمارسها المؤسسات الرسمية التنفيذية والتشريعية للاتحاد الأوروبي وحكومات الدول الأوروبية، لاسيما الأكثر تقدماً مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا على سبيل المثال لا الحصر، وما نشأ عن ذلك من نهج التراجع عن المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحققت في فترة الحرب الباردة لصالح المنتجين والعاطلين عن العمل والفقراء المعوزين وتنامي الفجوة ومقص الفوارق في للمداخيل بين الأغنياء والفقراء وزيادة في نسبة الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر للدول الغنية ومعاناة الكثير من أطفال العائلات الفقيرة. إن هذا الواقع المتفاقم، بنموذجه ألمانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا، هو الذي يثير أوساطاً واسعة من شعوب الدول الأوروبية وتحول نقمتها ضد مجيء اللاجئين، إذ يعتقدون بأنهم يستولون على فرص عملهم ويساهمون في رفع الإيجارات ويقللون الخدمات...إلخ. وهذا التصور ساذج وبعيد عن الواقع، إذ إن أغلب الدول الأوروبية بحاجة إلى الأيدي العاملة الأجنبية ولاسيما الشباب الذين يساهمون في أخذ فرص العمل التي لا يمارسها الأوربيون، كما يساهمون في تحسين الهرم السكاني بالزجاجات والولادات الجديدة ورفع معدلات النمو السكانية، إضافة إلى مساهمتهم في خلق الدخل القومي ودف الضرائب وتوفير فرص عمل أيضاً عبر المشاريع الفردية التي يقيمونها.
إن استمرار الاتحاد الأوروبي وتماسكه يرتبط عضوياً بتغيير السياسات الراهنة التي تمارسها الأوساط الحاكمة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لصالح الغالبية العظمى من السكان المنتجين للدخل القومي والذين دفعوا إلى البطالة والفقر والعوز وطلب المساعدة الحكومية. إن التغيير هو الذي سيسهم في إضعاف قوى اليمين واليمين المتطرف ويعزز رغبة البقاء في الاتحاد الأوربي والتي تستوجب بدورها تجاوز أزمة الديمقراطية الراهنة والمستدامة وضعف الثقة بالنواب والأحزاب السياسية والوجوه البارزة منها.


 
 



360

رسالة جوابية مفتوحة إلى الأخ الفنان التشكيلي منير العبيدي المحترم
تحية ودٍ واعتزاز،
أود أولاً أن أحييكم بحرارة لاستجابتكم للدعوة التي أرسلتها لكم وطرح رؤيتكم وتقديراتكم إزاء الأوضاع بالعراق في المرحلة الراهنة، وأوضاع ومواقف وسياسات القوى السياسية العراقية، ولاسيما القوى الديمقراطية واليسارية، إضافة إلى الموقف من منظمات المجتمع المدني. وأود ثانياً أن أعتذر لكم لتأخري في الإجابة على رسالتكم المفتوحة الموجهة لي، والسبب يعود إلى عدم وجودي بألمانيا خلال الأسابيع المنصرمة، ولذلك لم يتسن لي الاطلاع على ما نشر في الحوار المتمدن، كما إنها لم تصل إلى بريدي الإلكتروني الشخصي لكي أطلع عليها مباشرة.
في رسالتكم المؤرخة في 17/03/2017 والمنشورة على موقع الحوار المتمدن-العدد: 5463 - 2017 / 3 / 17 - 12:35 ، المحور:  اليسار، الديمقراطية، العلمانية والتمدن في العراق، تطرحون فيها رأيكم حول خمس قضايا، حسب تقديري، وعلى وفق ما وردت في رسالتكم، وهي قضايا مهمة تستوجب النقاش الجاد والمسؤول والهادف إلى تحقيق رؤية مشركة أو متقاربة، أو حتى لو اختلفنا أن نحتفظ بعلاقاتنا الإنسانية والاجتماعية التي تجمعنا والاحترام المتبادل الذي يميز هذه العلاقات. وبقدر ما امتداد يدك للنقاش والحوار، فيدي مدودة أيضاً ويد كل الأخوات والأخوة الذين أعمل معهم في القضايا العامة التي سأعالجها في هذه الرسالة الجوابية ممدودة أيضاً وعلى استعداد للحوار، إنها: 
1.   الموقف مما حصل وما يزال قائماً ببرلين في العلاقات المتوترة بين بعض الجماعات العراقية. إضافة إلى الموقف من لقاء مجموعة من العراقيين والعرب بألمانيا الذي بادرت للدعوة له مع أصدقاء آخرين لتنشيط العلاقة والحراك المدني.
2.   الموقف من المبادرة التي طرحتها مجموعة من العراقيات والعراقيين بهدف تشيط الحراك والحوار والنقاش بين أطراف القوى الوطنية والديمقراطية العراقية.
3.   موقف القوى اليسارية من النظم الدكتاتورية السابقة ومن النظام الحالي، ومدى تأثير الصراعات الطائفية على مزاج بعض القوى الديمقراطية واليسارية.
4.   الموقف من منظمات المجتمع المدني في الداخل والخارج.
5.   البرنامج المقترح من قبلكم لأغراض الحوار والنقاش.

أولاً: كما أشرتم بصواب فقد بادرت شخصياً بطرح مقترح عقد لقاء واسع لكل العناصر الديمقراطية العراقية المقيمة ببرلين للتداول حول المشكلات السابقة ومعالجتها بروح بناءة والعودة إلى النشاط الثقافي الذي كان يميز بعض النوادي العراقية ومنها نادي الرافدين ونادي بغداد الثقافي وربما نوادي أو جمعيات أخرى. وإذ استجاب البعض من الأخوات والأخوة، ولكن الاستجابة كانت ضعيفة والرغبة غير متوفرة لدى الغالبية، كما تلمست، والتي لم تتحمس حتى للرد على المبادرة، في حين إن آخرين استجابوا بوضوح وشجعوا الوجهة للتفاعل والتسامح، كأشخاص أو كنوادي مثل نادي بغداد الثقافي، في حين لم يرد نادي الرافدين الثقافي على الدعوة. ولهذا لم أجد ما يساعد على عقد لقاء بين جميع الأخوة أو غالبيتهم. ولكن الدعوة ما تزال مفتوحة، إن نشأ الجو الديمقراطي المناسب لمعالجة المشكلات البسيطة وغير المبدئية التي تسببت في ما حصل. أدرك تماماً بأن الأوضاع المتردية جداً بالعراق والصراع الطائفي المقيت، والفساد والإرهاب وفقدان البوصلة للكثير من الجماعات وما نشأ عنها من إحباطات سياسية وذاتيات، لعبت دورها السلبي الملموس في ما وصل إليه الوضع بالخارج عموماً وفي وضع نادي الرافدين الثقافي ببرلين أو بين العراقيات والعراقيين الديمقراطيين عموماً.
من جانبي لم أتابع ولم أكن حاضراً في ندوة تحدث فيها أستاذ جامعي، كما تشير إلى ذلك، مؤكداً عن إمكانية حل مشكلات العراق لو كان علي بن أبي طالب موجوداً، وصراخ البعض من الحاضرين ودعوتهم لدولة العدل العلوي، إضافة إلى تعليق صورة لفتاة بسن السابعة...الخ، فهذا الأمر كله غريب عن أجواء العراقيين الديمقراطيين، ولاسيما اليسار العراقي. لم أسمع بهذا الأمر قبل أن تذكروه في رسالتكم. وبقدر استنكاركم لهذا الأمر، استنكره أيضاً ويستنكره معي كل عراقي يدرك مخاطر مثل هذه الاتجاهات على العراق ووحدة شعبه ووطنه. وأستغرب جداً إن كان نادي الرافدين الثقافي العراق هو المكان الذي حصلت فيه مثل هذه المحاضرة!!
أما بصدد اللقاء الذي دعوت له مع صديقين فاضلين هما الدكتور حامد فضل الله والأستاذ نبيل يعقوب ببرلين، وقمت بإدارة الاجتماع، فكان محاولة منا لتـأمين علاقات جيدة ومتجددة بين العراقيين وبقية مواطني الدول العربية الديمقراطيين المقيمين بألمانيا، وقد حضره جمع طيب لم يكن فيهم من كان في مسؤولية الأحزاب أو في الحكم في بلدانهم، كما لم يكن بينهم مسؤولين كبار في أحزاب عراقية أو عربية، كما إن الحوار لم يهدف إلى اتخاذ مواقف أو وضع سياسات ومناهج عمل، بل كان الأمر كله لا يتجاوز تداول الرأي بين مجموعة من العراقيين، من عرب وكرد وغيرهما، ومواطنات ومواطنين من الدول العربية. وقد قمت بنشر المداخلات لأغراض الاطلاع على مضمون اللقاء وكان ودياً وناجحاً ومشجعاً على دعوة أخرى لاحقاً، على وفق ما اتفق عليه المجتمعون. وكان الحضور كله من العناصر الديمقراطية والعلمانية، وليس فيهم من مثل النظم السياسية القائمة في منطقة الشرق الأوسط. ولم أجد أي سبب لاعتباره لقاءً سلبياً يندمج ضمن نشاطاتي العامة. ومع ذلك احترم وجهة نظركم بهذا الصدد.   
ثانياً: قبل عدة شهور نشرت مبادرة شخصية أشرت فيها إلى أهمية وضرورة إيجاد صيغة عمل مشتركة بين القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية واللبرالية والشخصيات المستقلة والشخصيات المتدينة العلمانية للنضال المشترك من أجل مواجهة موفقة للقوى الطائفة الحاكمة ومحاصصاتها المذلة للوطن والمواطن. والتقت هذه المبادرة مع وجهات نظر أخوة أخرين منهم البروفيسور الدكتور تيسير الألوسي والأستاذ المهندس نهاد القاضي والأستاذ القاضي زهير كاظم عبود وآخرين. وقد تلمسنا تأييداً أوسع لهذه المبادرة، مما دفعنا إلى دعوة أخوات وإخوة آخرين للمشاركة في تشكيل لجنة تحضيرية لهذا الغرض. وقد صادف أيضاً أن طرح الحزب الشيوعي العراقي في مؤتمره العاشر مبادرة مماثلة، كما طرح السيد الدكتور أياد علاوي مبادرة أخرى، وشكلت لجنة من قوى وأحزاب سياسية لهذا الغرض، كما أشار إلى ذلك. كما صولتنا عشرات الرسائل باتجاه تأييد المبادرة. واستناداً إلى ذلك توجهنا بالعمل ومراسلة كل القوى والأحزاب والشخصيات العلمية والأدبية والسياسية والاجتماعية الديمقراطية المستقلة للعمل من أجل البدء بنقاشات ومفاوضات تمتد لأشهر من أجل إيجاد صيغة عمل مشتركة مناسبة بين كل القوى الرافضة للنظام الطائفي السياسي والمحاصصات الطائفية المدمرة لوحدة الوطن والناسفة للنسيج الاجتماعي الوطني للشعب العراقي. وقد نشرنا أهداف المبادرة وآليات العمل للمناقشة. وأؤكد لك بما لا يقبل الشك أو التأويل بأن كل العاملين في اللجنة التحضيرية هم ممن يرفضون الطائفية السياسية والتمييز الديني والمذهبي والقومي وكل من يقف ضد المرأة حريتها مساواتها بالرجل ويدينون من يمارسها. فهم ديمقراطيون علمانيون بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وقد تجاوز عمرنا بحيث لا يشك أحد بأننا نطمه إلى مركز وظيفي أو موقع أو جاه أو مال، ونحن نتوجه إلى كل القوى التي يهمها الخلاص من نظام الطائفية القائم بالعراق. ولا أدري ما هو المأخذ على ذلك؟ لمن ينبغي لنا أن نتوجه له ما لم نتوجه لمن هم يتحدثون عن الديمقراطية ويعارضون الطائفية والمحاصصات الطائفية بداخل الوطن وخارجه. نحن لا نعمل في فراغ بل في إطار مجتمع معروف بسماته الراهنة والموروثة، وبدولة هشة ومشوهة ومعروفة للجميع، ومع قوى سياسية ديمقراطية ويسارية وعلمانية لا نملك غيرها، ولا نستطيع خلق ما نريده نحن، بل علينا أن نعمل بما هو قائم وما هو ممكن. وعلينا أن نتفق أيضاً بأن الديمقراطية مفهوم واسع ولا يمكن أن نرفض معيارنا على الجميع، كما إن اليسار لم يعد واحدا، وهو أمر جيد، بل متعدد، ولا بد أن نرى الأطياف العديدة في التيار الديمقراطي وفي التيار اليساري، وألا نلغي منها كما نرغب، بل كما يفترضه واقع الحال وسبل الوصول مع الجميع لورقة عمل مشتركة نعتمدها في نضالنا الراهن والقادم في الانتخابات القادمة وما بعدها. المعايير والقيم الديمقراطية التي يتفق عليها الجميع، وكذلك أهداف النضال المرحلي الذي نسعى إليه، فالدولة التي نسعى إليها دولة مدنية ديمقراطية علمانية اتحادية ودستورية ونيابية وتعتمد التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.. الخ.
لا يجوز وضع شروط إضافية تتجاوز الممكن للقاء القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية والمستقلة إلا ما هو مشترك، ونعني به مبدأ فصل الدولة عن الدين، والفصل بين السلطات، والحياة الدستورية الديمقراطية، واستقلالية القضاء، والتداول السلمي والديمقراطي للسلطة، ورفض قيام أحزاب على أساس ديني أو مذهبي، واستقلالية الإعلام ...الخ، وكل ما يدخل في باب العلمانية ذات المضمون الديمقراطي السليم.   
ثالثاً: أخي الأكرم، لا يمكن أن أتفق معكم حين تقولون في رسالتكم المشار إليها في أعلاه ما يلي: "بعد عام 2003 اتضح لنا اننا لم نكن نتعامل مع شيوعيين أو يساريين او علمانيين بل مع طائفيين وقفوا موقفا معاديا للأنظمة السابقة ليس بسبب الظلم و الديكتاتورية و السياسات الدموية كما ادعوا ، بل كان السبب طائفيا فقط". وهذا يعني بأن المعارضة حصلت بسبب سنية النظام!!! ألا ترى معي وبتفكير هادئ وموضوعي إن هذا القول يتجاوز كل ما هو واقعي وحقيقي. وكم في هذا الموقف من تعميم وإطلاق وتجاوز لا معنى له. دعنا نتحاور:
أولاً: الشيوعيون واليساريون لم يكونوا كلهم قد ولدوا في عائلات تدين بالمذهب الشيعي في الإسلام، بل كانوا جميعاً يعملون في حزب عراقي بكل معنى الكلمة، التقوا فيه على حب الشعب والوطن، فهم مواطنات ومواطنون ولدوا في عائلات سنية وشيعية ومسيحية ويهودية ومندائية وكاكائية وشبك وغيرهم، من أتباع الديانات والمذاهب، كما التقى في هذا التيار الكرد والعرب والتركمان والكلدان والأشوريين والسريان والأرمن والفرس وغيرهم.. الخ، فهل كلهم كانوا من الكارهين لتلك النظم لأن قادة النظام من أتباع المذهب السني. وثانياً: هل تعتقد الآن حقاً بأن الشيوعيين واليساريين العراقيين خاضوا النضال ضد النظم الرجعية والاستبدادية السابقة للنظام الطائفي الحالي، لأنه كان نظاماً سنياً؟ أليس هذا تجاوز على نضالك ونضال بقية الشيوعيين واليساريين، وأنا منهم، وكل الذين أعمل معهم وناضلت وإياهم عقوداً كثيرة، ومن استشهد منهم، کان واقفاٌ كنخلة باسقة، هؤلاء كلهم لم يكونوا يوماً طائفيين أبداً، ولا يمكن أن يكونوا كذلك.
وثالثاً: هل تعتقد حقاً بأن نظام البعث كان نظاماً يمثل أتباع المذهب السني؟ وهل تعتقد أنه كان يعبر عن مصالح ومطامح أتباع المذهب السني؟ كلنا يعرف بأن النظام الدكتاتوري السابق قد مارس اضطهاد الشعب كله دون استثناء، لقد اضطهد الشيعة ليس لأنهم شيعة، من حيث المبدأ، بل لأنهم قاوموا سياساته ونهجه. وأنا أتحدث هنا عن أتباع المذهب الشيعي وليس الأحزاب الطائفية المقيتة التي تدعي دفاعها عن أتباع المذهب الشيعي، كما هو حال الأحزاب السنية التي تدعي دفاعها عن أتباع المذهب السني. النظام السابق كان نظاماً بعثياً قومياً شوفينياً يميناً مستبداً، ورئيس النظام كان دكتاتوراً فاشياً في الفكر والممارسة ونرجسياً وسادياً في آن، ولم يكن مؤمناً. وهو لا يختلف قيد أنملة عن الشخص الذي حكم العراق بعد إسقاط الدكتاتورية، سواء أكان الجعفري أم المالكي. ولهذا لا يجوز اتهام كل الشيوعيين واليساريين بأنهم كانوا يكافحون النظام السابق لأنه كان نظاماً سنياً، فهو حكم جائر ومخالف للحقيقة والواقع. وإذا كنت تعتقد بأن النظام السابق كان سنياً، فأنت مخطئ، كما إن النظام الحالي لا يمثل مصالح وطموحات أتباع المذهب الشيعي رغم انتخابهم له، لأن الأجواء والتخلف الاجتماعي وغياب التنوير الديني وضعف الحركة الديمقراطية هي التي تساعد في إعطاء أصواتهم لهذه الأحزاب الرثة. الشيوعيون وكل اليساريين والديمقراطيين ناضلوا بصلابة وعناد ضد الدكتاتورية البعثية وقبلها أيضاً، ولم يكونوا طائفيين أبداً. وهم اليوم ليسوا الآن بطائفيين ايضاً. 
رابعاً، وهل تعتقد أن الشيوعيين اليساريين الحاليين كلهم من عائلات شيعية وليس بينهم من هم من عائلات سنية أو مسيحية أو كردية، لكي يتخذوا الموقف المهادن للنظام الطائفي بالعراق؟ لا اتفق معك في ذلك، وربما تختلف وأختلف في تقييم الوضع بالعراق مع الحزب الشيوعي أو مع قوى يسارية أخرى، ولكن لا يمكن أن يكون موقف هذه القوى والأحزاب ينطلق من نظرة طائفية لما هو قائم حالياً بالعراق!   
ولكني لا اكتمك سراً حين أقول بأن الوضع الذي أعقب سقوط الدكتاتورية ونشوء نظام سياسي طائفي وقيادة الحكم بيد أحزاب إسلامية شيعية متطرفة في طائفيتها وانتقامية في سلوكها، كما في سلوك رئيس الوزراء السابق، أو في سياسات التحالف الوطني أو البيت الشيعي المناهض لوحدة الشعب على أساس المواطنة ويلتزم بالهويات الفرعية القاتلة، قد أبرز بعض الاتجاهات الطائفية لدى عناصر ديمقراطية ويسارية من عائلات شيعية، ولكنه أبرز أيضاً عناصر ديمقراطية ويسارية من عائلات سنية. وهو أمر مخالف للعقل والمنطق! ولكن هذا ما حصل وعلينا تسجيل هذه الظاهرة لمواجهتها والعمل على معالجتها. إلا إن هؤلاء في واقع الأمر قد تخلوا عن ديمقراطيتهم ويساريتهم لصالح الطائفة التي انحدروا منها بالولادة. إن هذا نوع شديد من الردة الفكرية والسياسية والاجتماعية، كما هو حاصل في المجتمع عموماً. كما إن بعض الديمقراطيين واليساريين قد اتجهوا صوب القومية، سواء العربية أم الكردية أم غيرهما، وهو امر لا يختلف عن الانحراف صوب الطائفة والتخلي عن المضمون الأممي، الذي لا ينفي القومية ولكن لا يجعلها قبلته الأساسية بل يحترم قوميته بقدر ما يحترم القوميات الأخرى ويعترف بحريتها وحقوقها المشروعة.
عزيزي الأستاذ منير، لم تكن دقيقاً، ولا أريد أن أقول غير منصف، في الإشارة إلى إن القوى والأحزاب لم تعترف بأخطائها الماضية. والسؤال: عن أي فترة تتحدث؟ إذا كنت تتحدث عن فترة حكم البعث، فقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي مثلاً، تقييما خاصاُ لتلك الفترة، بغض النظر عن مدى قناعتك وقناعتي أو قناعة الآخرين به أو بجزء منه، كما إني نشرت كتاباً كاملاً عن هذه الفترة بعنوان" الفاشية التابعة في العراق"، إضافة إلى نشري كتاباً بـ 11 مجلداً فيه الكثير من النقد والنقد الذاتي لتلك ولنشاطي الشخصي. وهناك الكثير من الكتابات بهذا الصدد. فليس من العدل أن تهمل كلها ويتحول الأمر إلى تعميم وإطلاق لا مبرر لهما. كما إن الكثير من القوى والشخصيات اليسارية، وأنت منهم، قد نشرت انتقادات لاذعة لتلك الفترة والسياسات التي مورست فيها.
واليوم فالقوى الديمقراطية واليسارية لم تقف متفرجة على النظام الحالي، فهي تنتقد النظام بشدة وتطالب بتغييره وشجب الطائفية السياسية والتمييز، وهو كما يبدو ما تقدر عليه حالياً في الظروف التي تمر بها. وعلينا أن نعترف بوجود وجهات نظر متباينة في هذا الصدد، ولا يمكن أن أفرض وجهة نظري على غيري، فأنا أطرح رؤيتي للوضع وأقيمه واطرح استنتاجاتي والمهمات التي أرى ضرورة حملها. ولكن هل يمكنني فرض ذلك على الآخرين. علينا هنا أن نتحاور ونناقش الأفكار، وحسناً فعلت حين نشرت مشروعاً للمناقشة وسنضعه أمام الجميع لمناقشته وكذلك أمام من نريد أن يكون معنا أو نكون معهم لتغيير الوضع بالبلاد جذرياً أي ضد الطائفية.
اختلف معك أيضاً في أن القوى اليسارية التي تناضل ضد النظام الطائفي تستفيد من هذا الوضع، بل الواقع يقول بأن الوضع المزري يلحق الضرر بها وبالشعب العراقي كله، ولهذا من غير المعقول أن يستفيدوا من نظام طائفي مقيت. أما إن البعض يمكن أن يستفيد، فهو أمر ممكن، ولكن ليس على مستوى القوى والأحزاب اليسارية، إلا من فقد هويته اليسارية!   
أما تقييمك لما حصل بالعراق في ظل هذا النظام الطائفي فلا أختلف معك بشأنه، وليس بين من أعمل معهم من أعضاء اللجنة التحضيرية من لا يتفق معك بذلك. فهو نظام فرط بشعب العراق وباستقلال وسيادة البلاد، وخضع قادة الحكم لنهج وسياسة إيران، في حين تسعى قوى أخرى للاستعانة بالسعودية وقطر وتركيا، وكل هذه الدول وقوى فيها لا تريد الخير للعراق وشعبه. ولهذا يفترض أن لا يبقى هؤلاء ولا الحكم الطائفي سائداً بالعراق.
رابعاً: جاء في رسالتكم مجموعة من المسائل التي لابد من التفريق بينها لمعالجتها كل على انفراد. لم يعقد منذ أشهر ببرلين أي مؤتمر عراقي أو عربي، بل حصل لقاء لتداول الرأي بشأن أوضاع منطقة الشرق الأوسط وشعوبها. وقد أشرت بشأنه ومن دعا له ومن شارك به وأغراضه في فقرة سابقة. وبصدد نادي الرافدين الثقافي ببرلين وأوضاعه بينت لكم رأيي أيضاً ولست جزءاً من مشكلات النادي.
ولكنكم طرحتم الموقف من منظمتين هما المنتدى العراقي لحقوق الإنسان، الذي تأسس ببرلين في عام 2013 وحضرت 21 منظمة عراقية من الداخل والخارج، والذي شاركتم في لجنته التحضيرية والذي أدان بقوة ووضوح النظام الطائفي ووضع توصيات العمل ضد الطائفية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي ...الخ. وكان دوركم ملموساً في الجانب الفني من المؤتمر على نحو خاص. كما إن الذين انتخبوا في المؤتمر كان بملء إرادة الحضور، ويمكن أن يتغيروا باستمرار، وهم ليسوا ممن لم تخلق أمهات أخرى غيرهم ليتولوا المراكز الشرفية الطوعية في هذه المنظمة، التي عملت للحصول على إجازة عمل لها بالعراق، وتناضل بعناد رغم كل الظروف ضد الطائفية والتمييز الديني والشوفينية ببغداد وأربيل وفي كل العراق. وتصدر عن المنتدى بيانات ومجلة شهرية من خيرة المجلات التي تصدر حالياً. ورئيس المنظمة منتخب من أعضاء المؤتمر وهو الأخ عبد الخالق زنگنة ومعه مجموعة من المناضلين في سبيل حقوق الإنسان ومشهود لهم بذلك، وسيعقد المؤتمر الثاني بأربيل في 29 و30/03/ 2017 ويمكنكم المشاركة فيه والترشيح للهيئة القيادية ومن يشترك فيه يتحمل أجور سفره ولكن المنتدى يتحمل نفقات إقامته وتغذيته من التبرعات التي وصلتنا من الأخ عبد الخالق زنگنة ومن أصدقاء ومؤيدين لقضايا الدفاع عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني الديمقراطي العلماني، وهي تبرعات غير مشروطة وبغير التزامات.
أما هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق، فكما تعرفون فقد بادرت شخصياً إلى تأسيسها في عام 2004 لتقديري الشخصي لما يمكن أن ينشأ من صراع ديني ومذهبي يفجره الطائفيون المتطرفون. ودعوت إلى عقد مؤتمر على الانترنيت وتحقق ذلك بدعم من أخوات وأخوة عراقفيين في الوطن والمهجر، وحصلنا على عضوية واسعة وتشكلت أمانة عامة لحين عقد المؤتمر الأول. وكنت أميناً عاماً لهذه الهيئة طيلة 10 سنوات، ثم عقد المؤتمر الأول بالسليمانية وقررت عد الترشيح رغم الضغط الودي الذي مورس معي لكي أرشح. وانُتخبت أمانة عامة جديدة طوعية العمل لا رواتب فيها ولا امتيازات بل صرف من الجيب وتعب وإنهاك ونتائج محدودة، بسبب الأوضاع المزرية ذاتها. ورئيس الهيئة الذي انتخبت هو الأخ المهندس الاستشاري نهاد القاضي. وأعضاء الهيئة كلهم ليسوا ممن لم تخلق أمهات آخرين مثلهم أو سواهم، بل هم مستعدون للتنازل أمام اخوات وأخوة أخرين يرشحون للمؤتمر الثاني الذي سيعقد في أيار/مايس من هذا العام (2017). وإذا كانت لكم الرغبة في الترشيح فسأكون أول من يساندكم لأني أعرف جديتكم حين تتسلمون عملاً اجتماعياً وأعرف نضالكم الوطني أيضاً. لو تابعتم عمل هذه الهيئة لوجدتم زيارات بعض اعضاء الأمانة العامة وأمينها العام، وأنا أيضا، كمستشار متطوع لها، وعلى حسابنا الخاص، للعراق وتقديم المساعدات الممكنة والتي جمعناها للنازحين، وخاصة للعائلات الإيزيدية والمسيحية وشرح أوضاعهم المريعة والمريرة. هذه المنظمات لم تشكل منذ ربع قرن، ولكن حتى منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان بالعراق التي تأسست في عام 1995 ويترأسها الدكتور غالب العاني تساهم بتواضع في الدفاع عن حقوق الإنسان، وناضلت مع العراقيات والعراقيين ضد الاضطهاد السابق واللاحق بالعراق. أما منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية (أمراس) التي بادرت أيضاً في العام 1991 على تأسيسها بألمانيا وساندني فيها الأخ حامد فضل الله (السودان) ونبيل يعقوب (مصر) وغيرهم من العراق ودول عربية، ما تزال قائمة رغم تراجع نشاطها. لعبت دوراً مهما في أكثر من عقد ونصف العقد لمساعدة اللاجئين من الدول العربية والدفاع عن حقوق الإنسان بالدول العربية وكنت أميناً عاماً لها حتى عام 1995 وقررت بعدها عدم الترشيح ليحل محلي الأخ نبيل يعقوب من مصر ويتحمل مسؤولية أمانتها العامة. وهي منظمة عضوة في المنظمة العربية لحقوق الإنسان ومركزها القاهر. كل هذه المنظمات لم تكسب امتيازاً واحداً ولم تتسلم فلساً واحداً بل صرفت من جيبها على التلفونات والبريد وحتى السفر للمشاركة في مؤتمرات المنظمة العربية لحقوق الإنسان كان المشاركون يدفعون بطاقات سفرهم، إذ لم تكن المنظمة بحالة مادية جيدة.
هذه المجالات مفتوحة لمن يرغب العمل فيها وليس حصراً على أحد. وحين وجدت نفسي أقل قدرة على تقديم المطلوب، تركت مكاني لغيري، ويمارس هذا الموقف بقية أعضاء الأمانات العامة. فعلى سبي ل المثال لا الحصر انتخبت السيدة نرمين عثمان بأعلى الأصوات في المؤتمر الثاني لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب، ولكنها تنازلت لمن نال أعلى الأصوات بعدها لأنها رأت نفسها مغرقة بأعمال كثيرة ولا تستطيع إداء مهماتها على الوجه المطلوب. وانتخب الأخ نهاد القاضي لهذه المهمة ونشط فيها على أفضل ما تسمح به أوضاع العراقيات والعراقيين بالداخل والخارج. إن وجود أي منا في هذا الموقع أو ذاك ليس امتيازاً بل واجباً إزاء الوطن والشعب، ومن يجد الطاقة لديه للقيام بهذا الدور، فهو ليس مرحباً به حسب، بل ويستحق أن يأخذ الموقع المناسب له، املي أن يزداد عدد من يرغب بذلك.   
خامساً: وبصدد المشروع الذي طرحته فأقول مرة أخرى حسناً فعلت بنشر المشروع الذي تراه مناسباً ليكون برنامج القوى الديمقراطية واليسارية في نضالها من أجل التغيير. وليكن مدار نقاشنا ونقاش بقية القوى الديمقراطية واليسارية. لا أريد أن أناقش مشروع البرنامج في هذه المقالة، بل سيكون موضع نقاشنا وسنرسله إلى بقية القوى التي نسعى للتعاون معها، مع قناعتي بتوفر الكثير من الأفكار والأهداف المهمة والتي يمكن الأخذ بها في أي مشروع يمكن أن يتفق عليه في المستقبل ليكون برنامج النضال المشترك من أجل عراق مدني ديمقراطي علماني اتحادي.
مع خالص الود والاحترام
د. كاظم حبيب
في 24/03/2017
 
     
 
   
     

361
كاظم حبيب
سياسات الاستبداد والإرهاب والقسوة تميز نهج الدكتاتور "المسلم" بتركيا!
نزع الدكتاتور الجديد في العاصمة أنقرة عن النقاع الذي ارتداه طيلة السنوات المنصرمة منذ أن وصل وحزبه، حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بتركيا، قناع الإسلام الحديث والعلماني، القناع الذي استطاع به خداع العالم الغربي، الذي كان يريد أن يُخدع، إذ كان الغرب يعرف منذ البدء أن رجب طيب أردوغان عضو بارز في جماعة الإخوان المسلمين على صعيد التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ومسؤولهم الأول بتركيا. كما أراد أن يخدع المسلمين العرب، بل حتى جمهرة طيبة من العلمانيين العرب، الذين رأوا في سياساته نهجاً جديداً يمازج بين الإسلام والحداثة والعلمانية، حتى طرح البعض "طريق تركيا للإسلام!". وقد نجح أردوغان في "خطته الجديدة المؤقتة" ليكرس مكانته ودوره بتركيا، حين طرح طريقاً آخر غير الحرب لحل المسألة الكردية بإقليم كردستان تركيا ووافق على إيقاف القتال الذي اقترحه حزب العمال الكردستاني، وحاور بالواسطة مع القائد الكردي عبد الله أوجلان، إذ حصل على تأييد الغرب الواسع وبدأت مفاوضات دخول تركيا في الاتحاد الأوروبي. ومن هنا انتعش الاقتصاد التركي وحقق نتائج واضحة برزت في زيادة حجم الاستثمارات السنوية وزيادة فرص التشغيل وتقليص البطالة وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي وتحسن في مستوى معيشة المنتجين وفئات البرجوازية الصغيرة والفلاحين وارتفعت صادرات تركيا صوب الدول الأخرى.
إلا إن الإيديولوجية الإسلامية والشوفينية القومية التي تميز أردوغان وغالبية حكام تركيا من جهة، وأحداث الشرق الأوسط وما حصل في الربيع العربي واندحار الإخوان المسلمين بمصر وتراجع نفوذهم بتونس وفي دول أخرى من جهة ثانية، قد دفعت باردوغان إلى الكشف عن وجهه الإسلامي الإخواني المتطرف والمتخلف والقبيح إلى الواجهة من جديد، فنشأ تحالف جديد في المنطقة اقطابه تركيا والسعودية وقطر، وبدعم من تنظيم الإخوان المسلمين الدولي، ودول الخليج الأخرى، مما ساعد على نشوء الأوضاع الكارثية الراهنة بسوريا، حيث استغل هذا التحالف النهوض الثوري للشعب السوري لبناء الدولة المدنية الديمقراطية بالتأثير على جمهرة من قواها الداخلية، وتنشيط قوى داعش الإرهابية في كل من سوريا والعراق، مما فسح في المجال إلى سقوط الموصل في أيدي الداعشيين القتلة مستفيدين من السياسات الطائفية الشرسة التي مارسها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بالعراق وإزاء محافظات غرب العراق والموصل.
ثم تسارعت وتيرة التراجع والسقوط في حمى الشوفينية والعنصرية التركية إزاء الشعب الكردي بكردستان تركيا فتخلى عن الحل السلمي وراح يمارس الحملات العسكرية ضد الكرد، وانتهك بفظاظة الحدود العراقية لضرب القرى والأرياف الكردية بذريعة وجود مواقع يقول إنها لحزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والقرى الكردستانية العراقية.
ثم راح يدعو الدكتاتور الجديد لنظام رئاسي بتركيا، لينهي تماماً دور مجلس النواب والسلطة القضائية ويحصر كل السلطات الثلاث، إضافة إلى السلطة الرابعة، الإعلام، بيديه وتحت إشرافه ورقابته تماماً.
ووقعت في هذا المجرى محاولة انقلاب عسكرية، التي يزعم أردوغان إنها بتدبير من خصمه السياسي وحليفه السابق فتح الله غولن المقيم بالولايات المتحدة، ليشن أكبر حملة اعتقالات شهدتها تركيا شملت عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين والموظفين في السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية وأعضاء النواب الكرد، وهم يمثلون حزب الشعوب الديمقراطي، بذريعة تعاونهم مع حزب العمال الكردستاني، كما اعتقل المزيد من أساتذة الجامعات والمعلمين وأكثر من 150 صحفياً، وأغلق بعض الصحف، كما فرض الرقابة الصارمة على حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة. وتشير المعطيات الواردة إلى إن أجهزته القمعية والقضائية تمارس القسوة المفرطة مع كل المعتقلين ولا سيما ضد الصحفيين.
لقد مارس رجب طيب أردوغان, دكتاتور تركيا الجديد وسلطانها المنفلت من عقاله سياسة استبدادية وإرهابية قاسية ضد قوى المعارضة التركية والكردية وضد الصحفيين وكل من له رأي آخر غير رأي أردووغان. واخيراً أمر المستبد بأمره باعتقال الصحفي الألماني – التركي دينس يوجيل بذريعة تعاونه مع المسلحين الكرد ودعمه للإرهاب والإرهابيين. ففجر حملة احتجاجات واسعة جداً بألمانيا ودول أوروبية أخرى. إن القضاء الخاضع لأردوغان، بعد أن قام بتغيير الكثير من القضاة وأبعد المستقلين منهم عن المحاكم المدنية، سيصدر حكماً قاسياَ ضد دينس يوجيل، وضد الكثير من الصحفيين الترك والكرد المعتقلين، لهذا يفترض في أحرار العالم أن يرفعوا صوت الاحتجاج ضد سياسات أردوغان المناهضة لحقوق الإنسان وحرية التعبير والصحافة والمفرطة في عدائها للرأي الآخر، وهو ينفذ قانون "مناهضة الإرهاب!"، الذي لا يعني سوى ممارسة الإرهاب ضد منتقديه والمختلفين معه في الرأي والصحفيين.
"وصف مدير منظمة "مراسلون بلا حدود" في ألمانيا، كريستيان مِر، الادعاءات المنسوبة إلى يوجيل بأنها "سخيفة" ودعا إلى إطلاق سراحه فوراً وكذلك جميع الصحفيين المعتقلين حالياً في تركيا." (راجع: موجة انتقادات ضد تركيا على خلفية اعتقال مراسل صحيفة ألمانية DW). أما وزير خارجية المانيا، زيغمار غابريل، فقد انتقد بشدة قرار القاضي. وقال غابريل خلال زيارته للعاصمة الإيطالية روما، إن قرار حبس يوجيل "مفرط في قسوته ما يجعله أيضاً غير مناسب". وأضاف أن القرار "لم يراع القيمة الديمقراطية الكبيرة لحرية الصحافة والرأي، ولم يراع أن يوجيل سلم نفسه طوعاً للقضاء التركي، وأعلن استعداده التواجد بشكل كامل لإجراء التحقيق". (المصدر السابق نفسه). كما شاركت مستشارة ألمانيا في رفضها قرار اعتقال وحبس يوجيل وتقيمه للمحاكمة.
إن الشعوب بتركيا تعيش منذ أشهر حمى الاستبداد والإرهاب والقسوة السادية التي تمارسها السلطات الحاكمة وتحاول أن تدين من كان ضد الإرهاب ومن فضح دور أردوغان باحتضانه عصابات داعش ودعمها وتسهيل مهماتها بالعراق وسوريا وجعل تركيا ظهيراً لها ومعبراً للإرهابيين إلى سوريا والعراق.
إن على صحفي العالم والرأي العام العالمي المطالبة بإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، ومنهم دينس يوجيل، واحترام حقوق السجناء السياسيين وتقديمهم لمحاكمة عادلة وتحت رقابة واشراف دوليين.
لنعمل على فضح دور تركيا، إلى جانب دول أخرى، في ما حصل ويحصل في المنطقة من إرهاب وموت وخراب، ومن تفاقم الصراع الطائفي مع الدولة المستبدة الأخرى، الدولة الإسلامية الإيرانية وتدخلاتها الفظة في شؤون الدول العربية.     


362
كاظم حبيب
أي جحيم يعيش تحت وطأته شعب مصر، ولاسيما أقباطه!!
شعب مصر يعيش الجحيم بعينه، بعد أن اعتقد أنه تخلص من نظام حكم جائر كان بقيادة محمد حسني مبارك بعد أن ورثها عن السادات، الذي أُسقط مبارك ورهطه بثورة شعبية عارمة. وشعب مصر يعيش اليوم في جحيم لا يطاق أيضاً، بعد أن اعتقد أنه قد تخلص من نظام دكتاتوري آخر، هو نظام الإخوان المسلمين الأكثر جوراً وإمعاناً بقهر الشعب وإراداته ومصالحه، بعد أن أُسقط بثورة شعبية عارمة لم تتوقف وبالملايين الثلاثين التي خرجت إلى الشوارع لتعلن رفضها لمحمد مرسي وللإخوان المسلمين الجائرين. وهذا الشعب المصري الأبي الثائر والمتمرد على الدكتاتورية والفساد والإرهاب وضد التمييز بمختلف أشكاله، الذي رفع شعارات الحرية والخبر والكرامة في ثورة الثلاثين من كانون الثاني/يناير 2011، يعيش اليوم تحت وطأة حكم أكثر استبداداً وجوراً، وأكثر فساداً وأقل خبزاً للناس، وأشد ممارسة للتمييز بين أبناء وبنات الشعب المصري بسبب الغنى والجاه وضد الفقير والكادح، ولاسيما الدين، في حين قالها سعد زغلول في العشرينات من القرن الماضي "الدين لله والوطن للجميع"، والذي أخذه عن المؤرخ اللبناني بطرس البستاني في عام 1819.
الغالبية العظمى من الشعب المصري فقيرة، ونسبة عالية تعيش تحت خط الفقر، غالبية جائعة ومغلوب على أمرها ومحرومة من العيش في أجواء الحرية والحياة الديمقراطية والتمتع بحقوق الإنسان، ومنها حرية وحق العبادة على وفق الدين الذي يؤمن به هذا المواطن أو تلك المواطنة. لم يعرف الاقتصاد المصري أزمة كالتي يعاني منها الآن، بما في ذلك البطالة المتفاقمة وارتفاع معدلات الأسعار وانخفاض قيمة العملة الوطنية بعد أن عومها النظام وتحملت نسبة عالية من الشعب المصري خسائر فادحة لهذا السبب. إن العجز في الميزانية العامة يقود إلى الاستدانة الداخلية والدولية وإلى إصدار المزيد من العملة الذي يقود بدوره إلى التضخم وعواقبه على أصحاب الدخول المحدودة والواطئة. كما إن ميزان المدفوعات المصري يعاني من عجز دائم. وبسبب الإرهاب الداخل تواجه السياحة المصرية تراجعاً كبيراً قاد إلى خسائر مالية كبيرة وبطالة إضافية للكثير من العاملين في قطاع السياحة والفندقة. 
الشعب المصري يعيش تحت حكم الدكتاتور العسكري الجديد عبد الفتاح السيسي، والكثير من نشطاء الثورة الشباب هم ما زالوا في سجون السيسي لأنهم تجرأوا على انتقاد السيسي وتظاهروا مطالبين بالحرية والحقوق الديمقراطية وبالخبز والكرامة التي ثاروا من أجلها وأسقطوا نظامين جائرين في ربيع شرق أوسطي خنق ولكن لم يمت حتى الآن. فالويل لمن يواصل اضطهاد الشعب فالثورة الثالثة ستكون عارمة حقاً وستكنس من يحاول تركيع الشعب المصري ومصادرة حقه في العمل والعيش الكريمين.
قوى الإرهاب تمعن في قتل الناس في مناطق مختلفة من مصر تختارها المكان متى تشاء بكل حرية وتقتل العشرات من البشر، والنظام العسكري عاجز عن الدفاع عن الإنسان المصري,
مسيحيو مصر يواجهون القتل وحرق الكنائس والتهجير القسري من قراهم وبلداتهم لأنهم مسيحيون، والنظام أعجز من أن يستطيع الدفاع عنهم وإعادتهم إلى مناطق سكناهم وحمايتهم، وكل ما يعلن عنه إنها الفتنة. ولكن من هم وراء هذه الفتنة العمياء، التي لم تقتصر على العراق وسوريا، بل هي ممتدة إلى مصر وبقية دول الشرق الأوسط؟
ألا يُذكّر مصائر الحكام الدكتاتوريين الجائرين في دول العالم الثالث أمثال باتيستا بكوبا، وسالازار بالبرتغال، وبينوشيت بشيلي، ومبارك ومرسي بمصر، رئيس الجمهورية المصرية الحالي بما يمكن أن يحصل له إن أمعن في اضطهاد الشعب المصري وتجويعه وحرمانه من الحرية والهيمنة على الصحافة واعتقال الصحفيين والتحريض ضد حرية الصحافة والمزايدة في الدين الإسلامي مع المتطرفين، وإهمال حماية المسيحيين الأقباط بمصر، وهم من أصل أهل البلاد، وأقدم ديناً من أولئك المسلمين العرب الذين حطوا بمصر بعد فتحها الاستعماري، وما زالوا يضطهدون المسيحيين. ألا يخشى من غضبة الشعب الجائع والمحروم والمقهور في أرضه والمجبر على الهروب منها للتفتيش عن لقمة خبز يأكلها بحرية وكرامة في الشتات المصري. ألا يخشى من هذا التراكم الهائل لهموم المصريين وسوء أوضاعهم التي لا بد أن تقود إلى ما لا يتحمد عقباه عليه وعلى من يدافع عنه ويكرس وجوده على راس الدولة المصرية.
هل تجرأ سياسي عاقل أن يبيع قطعة من أرض بلاده لدولة أخرى دون أن يطرح ذلك على الشعب والمؤسسات الدستورية على شكليتها، غير الدكتاتور المصري عبد الفتاح السيسي، الذي تجاسر وباع جزيرتين مصريتين للمملكة السعودية، هذه الدولة المصدرة للفكر الإرهابي والإرهاب إلى دول العالم، ولاسيما للدول العربية، والتي أرادت أن تكون جسراً بينها وبين إسرائيل وقاعدة للتعاون العسكري بينهما ضد حركة التحرر الوطني العربية، وغير الدكتاتور صدام حسين الذي ضحى بنصف شط العرب للدولة الإيرانية في مقابل أن يقضي على حركة التحرر الوطني للشعب الكردي في مؤامرته التي تجلت في اتفاقية الجزائر عام 1975 بوساطة أمريكية-جزائرية، ومن ثم أراد استرجاع نصف الشط بالحرب القذرة التي دامت قرابة ثماني سنوات عجاف مع إيران والتي ولدت حروباً أخرى متتالية.
على  حاكم مصر، الذي يسيء بسياسته ومواقفه المتطرفة للقوات المسلحة العراقية، لأنه يتحدث باسمها، ويعجز عن مواجهة الإرهابيين والمسلمين الأكثر تطرفاً الذي يضطهدون المسيحيين الأقباط، ويسعون إلى الضغط عليهم ويفرضوا عليهم الهجرة إلى خارج مصر، أن يدرك بأن الظلم إن دام دمر، ولا يمكن لهذا الظلم والجور والقهر أن يدوم، ما دام هناك هذا الشعب الجريء، شعب مصر الذي ما انفك يطالب بحريته ولقمة عيشه وكرامته وحقوقه المشروعة والعادلة، رغم النشاط الدؤوب لشيوخ دين سيئين دأبوا على تجهيل الشعب ومنع التنوير الديني والاجتماعي عنه ومحاربة كل القوى الخيرة والمناضلة في سبيل مصر حرة وديمقراطية ودولة مدنية ديمقراطية عصرية.   
             

363
كاظم حبيب
الرفيق الدكتور غام حمدون الغائب الحاضر في قلوب وعقول رفاقه ومحبيه
تعرفت على غانم حمدون في العام 1947 حين كان يدرس في الجامعة الأمريكية ببيروت مع شقيقي مهدي حبيب، وكانا يدرسان اختصاصين مختلفين، وقليلاً ما كانا يلتقيان. كنت حينذاك في الصف الرابع الابتدائي. كنت التقيه حين كان يذهب ليمارس الرياضة في ملعب الجامعة ويحيني تحية الأخ الأكبر لأخيه الصغير. وحين غادر شقيقي إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته، عدت أنا إلى العراق. لم التق به بعدها ببغداد أثناء عملنا الحزبي أو السياسي، إلا حين جاء إلى المانيا الديمقراطية للدراسة واختار فرع "اقتصاد العمل" في جامعة همبولدت، وحاز على درجة دكتوراه فلسفة PhD . كان في حينها متزوجاً من السيدة سلوى الجلبي التي عاشت معه طيلة وجوده بألمانيا، ثم افترقا نهائياً. التقينا مرة أخرى ببغداد حين كان عضواً في اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي العراقي، كما كنا، مع أخرين، أعضاء في هيئة تحرير الثقافة الجديدة، وكان يعمل محرراً وكاتباً في جريدة اتحاد الشعب. التقينا مرة أخرى في مدينة الجزائر عام 1979 حين أُجبرنا على مغادرة العراق في أواخر السبعينيات مع الهجوم البعثي ضد الشيوعيين والديمقراطيين. تعين الدكتور غانم في جامعة الجزائر وعمل مدرساً فيها لسنوات عديدة.
في عام 1987 زرت الجزائر قبل عودتي إلى حركة الأنصار بكردستان للمرة الثانية. زرت الهيئة الحزبية القيادية لتنظيم الحزب الشيوعي في الجزائر، وكان الرفيق غانم عضواً فيها والرفيق الدكتور عبد العزيز وطبان مسؤولها. بعد انتهاء الاجتماع طلب الرفيق غانم الانفراد بي. حدثني عن وضعه الصحي ومعاناته، وطلب مني أن أكون وكيلاً له بما يملك من مال وعقار ببغداد، ليكون المال والعقار بعد وفاته للحزب. كان الموقف في منتهى النبل وعبر عن حبه العميق للحزب ومبادئ الحزب التي اقتنع بها مبكراً، وكان الموقف محرجاً أيضاً. الموقف محرج لأن الرفيق ما يزال معافى عموماً وهو قادر على الاحتفاظ بأمواله، وبمقدوره أن يكتب وصية يمكن أن ينتقل ما يملك إلى ملكية الحزب الشيوعي العراقي عند وفاته، كما إنها تعتبر مسؤولية غير مناسبة لي وأنا في طريقي إلى حركة الأنصار بإقليم كردستان، إذ أن من كان ينخرط في الحركة لا يعرف حقاً هل سيعود حياً أم سيستشهد في جبال وقرى وأرياف كردستان، كما استشهد الكثير ولكثير جداُ من رفاق واصدقاء الحزب في الفترة الواقعة بين 1979-1989، أضافة إلى الكثير من المناضلين الكرد هناك من أعضاء الپيشمرگة. فقلت له عزيزي رفيق ثابت، (وكان هذا اسمه الحزبي منذ ولج بوابة الحزب الشيوعي العراقي حتى وفاته وكان ثابتاً على العهد الذي قطعه): أنت ما تزال بصحة مناسبة وأتمنى لك عمراً مديداً وصحة جيدة، كما يمكنك كتابة وصية تجددها كل عام إن شئت، ليتحول كل ما تملك لصالح الحزب في حالة الوفاة. ولهذا أرى ألا تتعجل الأمر، وأنت تتبرع سنوياً خمسة رواتب شهرية من رواتبك السنوية للحزب، كما كان يفعل جميع رفاق الحزب في الجزائر (البقية كانوا يتبرعون بثلاث رواتب في السنة) وهو مبلغ جيد ومناسب. بعد حوار قصير بيننا اقتنع بصواب الرأي الذي أبديته له. وقد عاش الرفيق غانم طوال ثلاثة عقود تقريباً بعد ذلك الحوار. وما بخل على الحزب بأمواله وجهده أبداً.
لقد تميز الرفيق غانم حمدون بامتلاكه ثقافة واسعة وروحاً علمية وعقلانية وتواضعاً جم، وهنا يصدق من يقول: "كلما ازداد علم الإنسان ازداد تواضعه، وكلما قل علم الإنسان قل تواضعه!"، وعمل على وفق الحكمة المندائية التي تقول: "لا خير في عالم لا ينفتح على غيره، ولا خير في جاهل منغلق على نفسه". لقد كان الرفيق غانم من المثقفين العضويين الذين تحدث عنهم غرامشي، والذين وضعوا أنفسهم بالكامل في خدمة قضية الشعب العراقي والفكر الاشتراكي الإنساني، الذي اقتنع به وناضل من أجله والذي حمل رايته بالعراق الحزب الشيوعي العراقي. كان دؤوباً في عمله ولا يمكن أن يؤجل عمل اليوم إلى غد. برز هذا بوضوح في إداء مهماته الحزبية المتنوعة وفي عمله في تحرير الثقافة الجديدة ودأبه على كتابة المقالات وعلى تصحيح ما يرد للمجلة من مقالات ايضاً ولسنوات كثيرة، إضافة إلى علاقاته الاجتماعية الممتازة مع الآخرين.
لقد كان الرفيق غانم صريحاً وهادئاً في نقده، وكثيراً ما كان يوجه النقد لسياسة الحزب في عقد السبعينيات من القرن الماضي، حين كان يعمل في لجنة المثقفين أو في اللجنة الاقتصادية المركزية للحزب (لقم)، ولكنه كان في الوقت ذاته صبوراً وملتزماً بشدة بما يقرره الحزب من سياسات ومواقف عبر اللجنة المركزية أو مكتبها السياسي.
من المحزن حقاً أن يموت رفيقنا العزيز غانم في المنفى بعيداً عن الوطن الذي أحبه وناضل من أجل تقدم شعبه، وأن يكون موته في فترة مظلمة من تاريخ العراق المستباح والجريح منذ عام 1963، وحيث يسود اليوم الحكم الطائفي المقيت والمحاصصة المذلة للهوية الوطنية، هوية المواطنة الحرة والمتساوية، وأن تسود الهويات الفرعية القاتلة، وأن يرى مدينة الموصل، مدينته العزيزة، تحت حكم الأوباش الدواعش الذين مرغوا كرامة مواطنيها من النساء والرجال بالتراب وقتلوا عشرات الآلاف من الناس الأبرياء من إيزيديين ومسيحيين وشبك وتركمان وكرد وعرب ومسلمين، دون أن يحاكم أولئك الذين تسببوا بهذه الكوارث المرعبة بحق شعبنا العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفلسفية والفكرية، بل يراهم ما زالوا يهيمنون على الحكم ويأتمر الكثير منهم بأوامر أسيادهم في دول الجوار.
مات الصديق والرفيق غانم في الغربة، ولكن كان حوله من الرفاق والأصدقاء ما خفف من حجم الصدمة بموته، رغم معرفتنا جميعاً بأوضاعه الصحية الصعبة في السنوات الأخيرة من عيشه بلندن. فالذكر الطيب لغانم حمود والعزاء لكل رفاق دربه ومحبيه وأصدقاءه الكثر. لقد مات غانم، ولكن الفكر الذي ناضل من أجله ما زال وسيبقى يعيش في سماء العراق والعالم.   
28/02/2017   

364
كاظم حبيب
ما موقف السلطات الثلاث من فساد المسؤولين بالعراق؟
لا أتهم أحداً بشكل مباشر بالضلوع في الفساد المستشري والمتحول إلى نظام معمول به بالعراق ومقبول من الدولة بسلطاتها الثلاث والمتفق عليه عالمياً عبر منظمة الشفافية الدولية، لأني شخصياً لا أملك وثائق تدين هذا المسؤول أو ذاك بالفساد، لا أتهم أحداً لأني لست الجهة القضائية التي يمكن أن تحكم على هذا الشخص أو ذاك بالفساد، كما أني لست المدعي العام العراقي لكي أرفع لائحة اتهام ضد هذا المسؤول أو ذاك واتهمه بالفساد. ولكن من حقي كمواطن عراقي، وأنا أقرأ عشرات الاتهامات لا بالسرقة والتفريط بأموال الدولة، بخزينة الشعب فحسب، بل وفرض موظفين على البنك المركزي ليمارسوا الفساد ويسمحوا لرئيس الحكومة باستخدام أموال الدولة كما يشاء. هذا الاتهام لا يوجهه أفراد عاديون ويتحدثون كما يحلو لهم، بل هو اتهام موجه من كان مسؤولاً أول عن البنك المركزي العراقي، من الدكتور سنان الشبيبي، محافظ البنك المركزي، الذي اتهم بالإساءة لوظيفته ومعه نائب المحافظ الدكتور مظهر محمد صالح، والأخير اعتقل لأشهر طويلة، واللذين برأتهما المحكمة بعد إزاحة نوري المالكي عن السلطة، وأسند للأخير منصب المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء الجديد. وكنا نحن الاقتصاديين العراقيين المستقلين، وكثيرون غيرنا، على ثقة ببراءة المتهمين وبقية الموظفين الذين وضعوا قيد الاعتقال دون وجه حق، وبرؤا من التهمة أيضاً. لا أتهم أحداً من المسؤولين بالفساد، ولكن ماذا يقول محافظ البنك المركزي السابق عن رئيس الوزراء السابق؟ لنقرأ ما قاله الشبيبي: (راجع: المقتطفات المنشورة للشبيبي في هذا المقال كلها منشورة في أكثر من موقع ومأخوذة من موقع "وطن يغرد خارج السرب" بتاريخ 21/02/2017، ك. حبيب)
إن “الأموال التي تسلمها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، كانت تكفي لبناء وطن جديد يتسع لـ30 مليون نسمة”.؟
والسؤال المشروع هو: أين ذهبت هذه الأموال والبلد ما يزال يعيش في الرثاثة المدمرة؟ ثم أضاف الشبيبي:
أن “المالكي عيَّن أربعة من أفراد حزبه الحاكم بمناصب كبيرة داخل البنك المركزي وهم ليسوا من ذوي الاختصاص حتى تأثر البنك وأخذت العشوائية تضرب أطنابها، وهم: مدير دائرة غسيل الأموال، ومدير الدائرة القانونية، ومدير مراقبة المصارف، ومدير الدائرة الاقتصادية”.
علماً بأن هذه المهمة ليست من اختصاص رئيس الوزراء، على وفق قانون البنك المركزي، بل هي من مهمات محافظ البنك المركزي. والسؤال هو: لماذا فعل رئيس الوزراء السابق ذلك وتجاوز على صلاحيات البنك وصلاحيات المحافظ وصلاحيات رئيس الوزراء بالذات؟ ويستكمل الشبيبي تصريحاته بالقول:
 "عندما قررت تغيير من عينهم المالكي من أفراد حزبه جاءني كتاب من رئيس الوزراء يمنع إبعاد هؤلاء الفاسدين تضمن تهديدا مبطنا ما بين السطور" ثم استطرد قائلاً : “عندما أبعدت أول عناصر العصابة الفاسدة جن جنون المالكي".
وما حصل هو اتهام الشبيبي بالفساد من قبل رئيس القضاء الأعلى مدحت المحمود واعتقال نائب محافظ البنك المركزي وبعض الموظفات والموظفين. ولكن اتهامات محافظ البنك المركزي السابق لم تتوقف عند هذا الحد بل أكد إن:
“مدير مراقبة المصارف أخذ يبيع الدولار إلى المصارف الأهلية المرتبطة بالمالكي، بمبالغ أقل من السوق ما جعل العراق يخسر ملايين الدولارات يوميا بسبب هذا الفساد وتهريب أموال ميزانية الحكومة إلى الخارج لصالح المالكي وأتباعه”. ثم تابع قوله:
بأن “المالكي عين المدعو علي العلاق، محافظا للبنك المركزي لينهب كل احتياطي الدولة العراقية ومقداره 67 مليار دولار في آخر أيام هيمنته على الحكومة ليسلم السلطة إلى حيدر العبادي وبميزانية خاوية واحتياط منهوب”.
واستنتج الدكتور سنان الشبيبي مسألتين مهمتين هما:
** "المالكي أدخل العراق في أزمة مالية كبيرة لا يستطيع النهوض منها بعد عقد من الزمن حتى لو تحسنت أسعار النفط اليوم”.
** وأن “المالكي تسلم أموالا أكثر من كل حكام جمهورية العراق مجتمعين بدءاً من الزعيم عبد الكريم قاسم إلى صدام حسين، ولم يحقق فيها أي منجز يذكر للشعب العراقي وللوطن”.
وكان من الصحيح ان يقول: أغرق البلاد في مستنقع البؤس والفاقة واحتلال جزء من الوطن!
وإذا عدنا إلى الدكتور أحمد الجلبي الذي توفى فجأة، بعد أن أدلى بتصريحات فيها اتهامات كبيرة للمسؤولين الحكوميين، ولم يكن يعاني من أي مرض قاتل، فهو يطرح ارقاماً تصل إلى مئات المليارات التي لا يعرف أين ذهبت، ولكن الجلبي كان يعرف جيداً أين ذهبت، ولم يصرح بها، وكان على وشك التصريح بها قبل وفاته الغامضة، إذ كشفت الوثائق التي أودعها الجلبي لدى صحيفة المدى العراقية:
"نموذجا لعمليات بيع العملة من قبل البنك المركزي العراقي، والتي يصل مجموعها، خلال حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بين عام 2006  إلى منتصف العام الماضي نحو 312 مليار دولار." (راجع: موقع العرب، وثائق بيع العملة تفجر معركة حتمية على الفساد في العراق، نشر بتاريخ 18/11/2015 وأخذ المقتطف من الموقع بتاريخ 25/02/2017). وهذا المبلغ يرتبط ببيع العملة فقط وليس في مجالات أخرى، إذ ما طرحه الدكتور الجلبي يصل إلى أكثر من 500 مليار دولار أمريكي.
والآن، وبعد كل هذه الاتهامات العلنية والمنشورة من جانب مسؤولين كبيرين أحدهما حي يرزق، والآخر ذهب ضحية تصريحاته، كما يؤكد البعض، ونتمنى ألا يلتحق به الثاني، ماذا يفترض أن تفعل السلطات الثلاث بالعراق، السلطة القضائية ومعها المدعي العام العراقي، والسلطة التنفيذية التي يرأسها قائد من حزب الدعوة ومسؤوله في الحزب متهم بكل ذلك، وماذا سيفعل مجلس النواب، الذي لم يفعل حين طرح عضو المجلس الدكتور الجلي اتهاماته، خشية أن ترد أسماء الكثير منهم ضمن الفساد؟
أي دولة بالعالم تحترم نفسها وتحترم شعبها، ودستورها، وهي تواجه هذه الاتهامات، أن تعمد مباشرة إلى تكليف الادعاء العام برفع دعوى قضائية ضد من وردت أسماؤهم في الاتهام والتحقيق بشأن الأمر. ولكن هل تحترم الدولة العراقية الهشة والمخترقة نفسها؟ السؤال موجه إلى السيد رئيس الجمهورية الذي يمتلك حق تحريك مثل هذه الدعوى، فهل سيفعل؟ لنرى ذلك!         
           

365
كاظم حبيب
مهمات الحركة المدنية الديمقراطية العراقية في المرحلة الراهنة
من يتابع الحراك السياسي الجاري منذ فترة والمتصاعد يوماً بعد أخر سيتلمس دون أدنى ريب مجموعة من المؤشرات التي تستوجب التوقف والتفكير والعمل، منها بشكل خاص:
** العمل المحموم الذي تمارسه قوى الإسلام السياسي في البيت الشيعي الحاكم وميليشياته، من أجل إعادة الوحدة، ولو بصورة شكلية، إلى صفوفها لمواجهة قوى المعارضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته الطائفية المذلة. ويقف في مقدمة شخصيات هذه المجموعة المالكي والحكيم والعامري والخزعلي والمهندس وحزب الله. إنهم لا يسعون للهيمنة على مجلس النواب فحسب، بل الهيمنة على كل الدولة العراقية وجعلها مستعمرة تابعة لإيران الخامنئي، وهي الطامة الكبرى. ويقف على رأس هؤلاء نوري الملكي ويساعده الخزعلي وعصابته.
** العمل المحموم لرئيس الحزب الإسلامي (جماعة الإخوان المسلمين) الذي يسعى إلى كسب القوى الإسلامية السياسية السنية إلى جانبه بهدف وأمل الدخول في تحالف مع المجموعة الشيعية الأولى التي تحركت هي الأخرى صوب رئيس المجلس النيابي العراقي سليم الجبوري، والذي حظي أخيراً بتأييد الخامنئي للتحالف مع المالكي.
** كل القوى الرافضة للدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني وهوية المواطنة المشتركة والساعية إلى تكريس الهويات الفرعية المشتتة للقوى والمفرقة للصفوف والتي يهمها استمرار التمييز والفساد.
** بعض دول وقوى الجوار التي تسعى بكل السبل، لاسيما إيران وسوريا، رغم كارثتها الداخلية، وحزب الله، إلى تأييد هذه القوى وتكريس النظام السياسي الطائفي، في حين دول أخرى، لاسيما السعودية وقطر وتركيا، تسعى إلى استبداله بنظام طائفي آخر، وكل هذا التدخل الفظ مخالف ومناهض لإرادة شعب العراق المتعدد القوميات والديانات والمذاهب.
** وتتصدى هذه القوى لمسائل جوهرية في مقدمتها رفض أي تغيير في النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، ورفض تغيير التوزيع الطائفي لتشكيلة المفوضية المستقلة للانتخابات، ورفض تغيير النظام الانتخابي باتجاه ديمقراطي، ورفض كل المطالب الشعبية الأخرى التي تتصدى للفساد والإرهاب والتمييز ودور المليشيات الطائفية المسلحة في حياة الشعب العامة واليومية.
** نشر الكثير من الافتراءات والإشاعات الكاذبة من أجل إعاقة أي تقارب وتعاون بين القوى الوطنية والديمقراطية العراقية، وهو أمر يفترض أن ينتبه له كل من يسعى لتحالف القوى المناضلة من أجل التغيير.
** في مقابل هذا الحراك المحموم والمتفاقم لهذه القوى، يتابع المواطن والمواطنة بالعراق حراكاً مدنياً وديمقراطيا ما يزال بطيئا جداً لا ينسجم بأي حال مع حاجات البلاد وضروراتها الماسة والملحة التي تستوجب حراكاً أوسع وأسرع وأشمل على صعيد العراق كله، من أجل تعبئة كل القوى التي تضررت وما تزال من سياسات الأحزاب والقوى والفئات الحاكمة، وهي في الواقع العملي تشكل الغالبية العظمى من الشعب العراقي والتي تزيد نسبتها عن 98% من سكان العراق. إن التحالف المنشود يفترض أن يعبئ جميع الأحزاب والقوى التي ترفض الطائفية السياسية، والسياسات الطائفية التي مورست حتى اليوم من جانب القوى الإسلامية السياسية الحاكمة، شيعية كانت أم سنية، فهي لم ولا تمثل، لم ولا تخدم مصالح الشعب بقومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، بل خدمت وتخدم ذواتها وجيوبها والحاشيات الانتهازية الداعمة والمصفقة لها.
إن التحالف الوطني والديمقراطي المنشود يفترض أن يطرح الحد الأدنى من الأهداف التي تسهم في تجميع كل القوى السليمة لخوض الانتخابات بقائمة موحدة يتم الاتفاق عليها، وفي مقدمتها مناهضة الطائفية السياسية والتمييز الطائفي والعنصري وضد المرأة وحقوقها المشروعة وضد الإهمال والتهميش والأقصاء ومن أجل تغيير بنية المفوضية المستقلة وتغيير قانون الانتخابات...الخ، إنها القوى التي يفترض أن تكون مؤمنة بعراق مدني ديمقراطي حديث يرفض تسلط القوى والأحزاب الإسلامية السياسية على الدولة والسلطات الثلاث باسم الدين، وترفض تسلط الدولة على الدين وخدمة مصالح الحكام. فحيادية الدولة إزاء الأديان هو الضامن لاحترام الديانات وأتباعها وطقوسها، واحترام الدولة ودستورها وقوانينها ونظامها الديمقراطي.
لا شك في أن مثل ها التحالف الذي يمكن ويفترض بل ويجب، بسبب واقع العراق الراهن، أن يجمع في صفوفه قوى اللبرالية واليسارية والديمقراطية بأطيافها العديدة والجماعات الدينية المدنية التي ترى في فصل الدين عن الدولة ضرورة فعلية ملحة، من الناحية المبدئية، إضافة إلى ما تسبب به، هذا الربط غير العقلاني بين الدين والدولة، من انتهاكات فظة وعواقب وخيمة على الشعب، بما في ذلك اجتياح العراق من بوابة الموصل والأنبار وغيرها قبل ذاك.
واقع العراق المرير يؤكد أن تعجيل التحرك صوب هذا المهمة، مهمة التحالف الوطني والديمقراطي، لم يعد قابلاً للتأجيل، إذا ما أرادت هذه القوى المؤمنة بالشعب وقضيته العادلة والساعية للخلاص من الفساد والإرهاب والتمييز والموت اليومي والتدخل الخارجي، فالجميع أمام ساعة الحقيقة ابتداءً من الأحزاب والقوى ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والديمقراطية.
في ضوء هذه المهمة العاجلة انبثقت اللجنة التحضيرية التي أطلق عليها "لجنة المبادرة لتحريك ودعم التحضير لانعقاد مؤتمر القوى الديمقراطية في العراق"، والتي وجدت صدى طيب واستجابة واسعة من لدن الكثير من القوى والأحزاب والقوائم الانتخابية والشخصيات الوطنية العراقية من علماء وأدباء وفنانين وإعلاميين وسياسيين، التي نأمل أن تتكلل جهود الجميع بنجاح كبير عبر اللقاءات والحوارات والنقاشات الجارية والمطلوب تكثيفها وتعجيلها وتوسيع قاعدتها لكل المقصودين بالدعوة لتوحيد الجهود لمواجهة التردي المتسارع في أوضاع البلاد الراهنة، لكل من يجد أن النداء موجه له أيضاً، وصولاً إلى عقد مؤتمر توحيد الجهود في تحالف متين.
إن من واجب الشعب كله، ولاسيما قواه الطليعية المعارضة والمناضلة، إفشال مخططات تكريس الطائفية ومحاصصاتها والتمييز والإقصاء والفساد والإرهاب بالبلاد، وإسقاط التدخل الخارجي الفظ في شؤون العراق الداخلية، إنها مهمة كل مواطنة ومواطن سليم العقل والطوية في المجتمع العراقي دون استثناء!
 

366
كاظم حبيب
ما الموقف من نهج السيد مقتدى الصدر وكتلة الأحرار؟
من تابع مواقف السيد مقتدى الصدر على امتداد الفترة الواقعة بين سقوط الدكتاتورية البعثية- الصدامية الغاشمة حتى اليوم سيجد أمامه عدة مسائل مهمة:
** إنه اعتمد على تراث والده الديني بشكل خاص وعلى شعبية الوالد السيد محمد صادق الصدر، الذي استشهد على أيدي جلاوزة النظام البعثي وصدام حسين.
** واعتمد على تأييد القيادة الإيرانية الدينية بإيران له في المرحلة الأولى من علاقته بإيران، إذ كانوا يسعون أن يجعلوه الشخص المماثل لحسن نصر الله بلبنان. وعند عدم خضوعه لقرارات وتوجيهات الخامنئي ورفضه لقاعدة ولاية الفقيه، كما هو ديدن غالبية المراجع الدينية بالعراق، بخلاف حزب الدعوة والمجلس الأعلى وغيره من الأحزاب الإسلامية السياسية التابعة في نهجها وأهدافها للقيادة الدينية الإيرانية ولولاية الفقيه التي هي الآن تتمثل بالخامنئي بإيران، رفع الدعم ووضع بشكل كامل في نوري المالكي وعمار الحكيم. 
** تشكيله جيش المهدي وممارسته العنف المفرط والسلاح في مواجهة من يخاصمه أو في مواجهة القوات الأمريكية باعتبارها قوات محتلة، وقد شارك جيش المهدي كإحدى المنظمات الطائفية المسلحة في الصراعات والنزاعات المسلحة والتي أدت إلى استشهاد أو قتل الكثير من العراقيين. وبعد عام 2008 انسلخ عنه أكثر الجماعات المسلحة والمتطرفة، قيس الخزعلي وجماعته، ولكن السيد ما زال يراوح في علاقته مع الحشد الشعبي والميثاق الموقع في حزيران من عام 2016 مع المكونات الميليشياوية الطائفية المسلحة المكونة للهيكل الأساسي للحشد الشعبي! فهو ضدها مرة ومرة أخرى معها.. الخ.
** لقد كان السيد مقتدى الصدر وما يزال يمارس نهجاً فردياً في قراراته التي يتخذها بغض النظر عن مدى صواب أو خطأ تلك القرارات على وفق اجتهاده الشخصي. وهو أمر لا يمكن أن تركن لمثل هذه القرارات الفردية مصالح الشعب ومستقبله، إذ لا بد أن تخضع تلك القرارات للعقل الجماعي، سواء في إطار كتلة الأحرار أو مع القوى السياسية الوطنية. فليس هناك من البشر من هو معصوم عن الخطأ، والخطأ في مثل هذه الأمور له عواقب وخيمة، ومنها حياة الناس!
** إن المشكلة الكبيرة التي تواجه السيد مقتدى الصدر هو أنه لما يزل يراوح بين قوة أو حزب ديني شيعي، وبين الدعوة لدولة مدنية تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة أحياناً، وهذا الأمر يجعل اللقاء صعباً مع القاعدة الأساسية أو المبدأ الأساس للدولة المدنية، أي الفصل بين الدين والدولة وحيادية الدولة إزاء الديانات والمذاهب واحترامها لكل الديانات وأتباعها وطقوسها الدينية المحترمة.
** إن القاعدة الكادحة المؤيدة للسيد مقتدى الصدر تسعى إلى إجراء إصلاح حقيقي وتغيير فعلي في النظام السياسي الطائفي القائم بالعراق، وهذا لا يتم إلا باعتماد النضال من أجل دولة مدنية ديمقراطية حديثة، ويمكن أن يكون الطريق لها عبر إجراء تغيير فعلي في تشكيلة المفوضية المستقلة وجعلها مكونة من مجموعة من المستقلين الفعليين والحياديين والواعين لما يحتاجه العراق من استقلالية عالية في ممارسة الانتخابات العامة والمحلية أولاً، وتغيير قانون الانتخابات الجائر الحالي، بما يساعد على ضمان النزاهة في الانتخابات، ثانياً، وإقامة تحالف سياسي واسع وعريض يضم إلى جانب اليساريين واللبراليين الديمقراطيين والمثقفين الديمقراطيين والمستقلين، المتدينين المدنيين الذين يرفضون، ولصالح الدين والدولة معاً، ربط الدين بالدولة. وهذه المهمة لا ترتبط بالقوى المدية والديمقراطية، بل بمدى استعداد السيد مقتدى الصدر وكتلة الأحرار إلى التحول صوب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي يحتاجها العراق للخلاص من الواقع المزري الراهن ومن حكومات متعاقبة، لاسيما حكومات الجعفري والمالكي والعبادي، التي لا تؤمن بالإنسان العراقي ولا بحقوقه ولا تعرف سوى إملاء حساباتها في البنوك الأجنبية بالمزيد من أموال الشعب المنهوبة وتسجيل المزيد من العقارات بأسمائها والتي هي بيوت المسيحيين والمندائيين وغيرهم من الهاربين من جحيم الإرهاب بالعراق أو المهددين بحياتهم من قبل المليشيات الطائفية المسلحة المنضوية تحت ما سمي بالحشد الشعبي الذي لا يختلف حالياً عن البسيج أو الحرس الثوري الإيراني، أو الحرس القومي البعثي العراقي سابقاً.
إن المهمة التي تواجه السيد مقتدى الصدر وكتلة الأحرار في مجلس النواب العراقي، كما أرى، تتلخص باتخاذ القرار التاريخي الذي ينقل الجماهير الغفيرة المرتبطة بالسيد مقتدى الصدر وكتلة الأحرار إلى مواقع القوى المدنية التي تناضل من أجل دولة مدنية ديمقراطية حديثة، وبذلك يترك المواقع الطائفية التي يحسب عليها حالياً لصالح وحدة الشعب العراقي، لصالح مبدأ المواطنة العراقية الواحدة والمتساوية والمشتركة على حساب الهويات الفرعية القاتلة لوحدة الشعب وكرامته، مع كل الاحترام للهويات الفرعية. إن مثل هذا القرار يحتاج إلى جرأة كبيرة أتمنى أن يمتلكها السيد مقتدى الصدر وكتلة الأحرار، لأنها الطريق الفعلي لإنقاذ العراق من المجموعة السيئة الحاكمة التي أوصلت العراق إلى ما هو عليه حالياً، والذي هو أشبه بمستعمرة إيرانية من جهة، وتدخل فظ من جانب دول السعودية وقطر وتركيا في الشأن العراقي، والتي تسعى إلى تحويل العراق إلى مستعمرة لها، بدلاً عن إيران، من جهة ثانية.
إن النضال من اجل حرية واستقلال العراق وسيادته واستقلال قراراته يرتبط عضوياً بالنضال من أجل دولة مدنية ديمقراطية حديثة ذات دستور ديمقراطي يرفض ربط الدين بالدولة ويكرس الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والمساواة في المواطنة ورفض أي تدخل أجنبي دولي أو إقليمي بالشأن العراق، كما يسعى لتنمية وتطوير العراق ورفع مستوى حياة ومعيشة شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية.
هذا ما اراه من موقف جديد وملح وضروري للسيد مقتدى الصدر ولكتلة الأحرار وأمينها الدكتور ضياء الأسدي، أتمنى عليهم جميعاً أن يدرسوا هذا المقترح بعناية ورحابة صدر، سواء اتفقوا معه كلياً أو جزئياً.                   

367
كاظم حبيب
تباً لكم يا أعداء حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية بالعراق!
عاد المتوحشون إلى ضرب المتظاهرين والمتجمعين سلمياً وديمقراطيا في ساحة التحرير بالحديد والنار، بالرصاص المطاطي والحي، وبالهراوات والغاز المسيل للدموع، وربما سيستخدمون لاحقاً خراطيم المياه والاعتقال والتعذيب بل حتى القتل. ما لم يحتج الشعب على ذلك ويناضل في سبيل إيقاف هذه الاعتداءات الوحشية. هؤلاء هم اتباع المليشيات الشيعية الذين ولجوا إلى الأجهزة الأمنية مع بدء رئاسة إبراهيم الجعفري، الطائفي الشرس بامتياز، ومن ثم تبعه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الأشرس والأخبث منه في السياسات الطائفية المقيتة والمناورة والتآمر، وهما من قادة حزب الدعوة، وكلاهما كان رئيساً لهذا الحزب المنخور من داخله. وها هم يمارسون الأسلوب نفسه الذي مارسه نوري المالكي في السنوات السابقة في فترة رئاسة حيدر العبادي لمجلس الوزراء، وهو الشخصية الثالثة لحزب الدعوة وفي قائمتهم التي برهنت على إنها قائمة دولة اللاقانون. وإذ تتحدث الأخبار عن شهداء يتراوح عددهم بين 5-7 مواطناً وأكثر من 320 جريحاً، فأن مسؤولية ذلك تتحملها الحكومة الحالية وأجهزتها الأمنية غير المنضبطة والمخترقة من المليشيات الشيعية المسلحة وغيرها، والتي تمارس الإرهاب الفعلي ضد المواطنين والمواطنات.
إن المليشيات الطائفية المسلحة وقوى معينة في الأجهزة الأمنية العراقية المتخندقة تقف اليوم في هذا السلوك إلى جانب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهي تسعى إلى جر المتظاهرين السلميين إلى العنف بكل السبل المتوفرة لديها بسبق إصرار، وإلا لماذا تتوجه هذه القوى الأمنية والمليشيات المتطرفة المسلحة صوب المتظاهرين السلميين الذي يناهضون الفساد ويدعون إلى محاسبة الفاسدين في جميع سلطات وأجهزة ومؤسسات الدولة العراقية وإلى تغيير رئيس وأعضاء المفوضية "المستقلة" للانتخابات، وتغيير القانون الانتخابي، والتصدي للإرهاب الهمجي ضد الشعب العراقي الذي يقتل يومياً عشرات الأشخاص، دع عنك الجرحى والمعوقين والخسائر المادية.
إن على القوى المناهضة للطائفية السياسية والمحاصصات الطائفية والفساد أن تنتبه للمؤامرة القذرة التي يراد جر الشعب إليها، لكي يحصل ما هو قائم منذ خمس سنوات في سوريا، بدلاً من البدء بعملية الإصلاح والتغيير الجذري للنظام الطائفي السياسي اللعين وإقامة دولة المواطنة العراقية الحرة والمتساوية والمشتركة.
إننا أمام محاولات جادة، حتى قبل إنهاء تحرير الموصل، تهدف إلى إشاعة الفوضى في البلاد من خلال التصدي لمظاهرات سلمية يقرها الدستور العراقي وتطالب بأهداف وطنية، حتى الحكومة الطائفية الراهنة دأبت على الادعاء بالمطالبة، ولكنها لم تتخذ أي إجراء بسيط بهذا الصدد. 
الحذر كل الحذر من محاولة جر قوى الاحتجاج المدني للرد على العنف الطائفي بالعنف، إذ إن هذا هو المطلوب، إنها الخطة الجديدة للقوى السياسية المعادية للإصلاح والتغيير والمتعاونة مع إيران والمجموعة الإيرانية العاملة بالعراق بقيادة قاسم سليماني. ومع ذلك لا بد من الاستمرار بالتظاهرات السلمية وتطوير الحركة الاحتجاجية، كما لا بد من فضح الفاعلين والذين يقفون وراء ذلك في بنية السلطة التنفيذية والفئات الحاكمة وبعض الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم ومجلس النواب وتعرية الأهداف التي يسعون إليها.
إن الانفجارات اليومية التي تحصل بالعراق يومياً ليست بالضرورة كلها من قبل عصابات داعش المجرمة، بل لا بد من أن يتوجه التفتيش من جانب رئيس الوزراء إلى تلك الجماعات التي تشكل جزءاً من قوى الإسلام السياسي الشيعية التي تريد إبعاده والمجيء بنوري المالكي إلى السلطة ثانية!
إن الشعب العراقي ينزف دماً. وإذا كان سبب النزيف في السابق النظام الدكتاتوري البعثي ورأسه العفن، فأنه اليوم ينزف بسبب وجود النظام السياسي الطائفي الذي يمارس سياساته التمييز والتهميش والإهمال والإقصاء، ولا بد للقوى السليمة والأمينة والمخلصة لشعبها من التصدي للطائفيين المتعفنين من إيقاف نزيف الدم ووضع حد للمآسي اليومية التي تواجه المجتمع العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية. لا بد من تحالف عريض يتصدى بحزم وعزم ضد السياسات والمحاصصات الطائفية المذلة، ويناضل من أجل إقامة دولة مدنية ديمقراطية اتحادية تضع مصالح الشعب، كل الشعب فوق كل المصالح الطائفية والأثنية والفردية.                 

368
كاظم حبيب
نحو جبهة وطنية واسعة لعقلانيي العراق
الوضع بالعراق يزداد تعقيداً وتشابكاً وخطورة ويزد إيلاماً للشعب وثلماً للاستقلال وغوصاً في نفق طويل مظلماً. والسبب يكمن في إصرار القوى والأحزاب السياسية الدينية الطائفية على نهجها الذي سلكته منذ 13 عاماً وقادت إلى الكوارث والمآسي المريرة التي بلغ عدد ضحايا الشعب مئات الآلاف من القتل ومثلهم من الجرحى والمعوقين، إضافة إلى الخراب والدمار والعجز عن إعادة بناء البنية التحتية، والفساد الذي التهم مئات المليارات من الدولارات الأمريكية، وكذلك التفريط الرهيب بأموال الشعب. وقد ارتفعت نسبة البطالة إلى مستويات لم يعهدها العراق من قبل إلا في فترة الحروب الصدامية، إضافة إلى تزايد نسبة من هم تحت خطر الفقر إلى أكثر من ثلث سكان العراق. في حين ارتفع عدد أصحاب الملايين والمليارات من الدولارات  الأمريكية، لا عبر أعمال مشروعة ونظيفة ودستورية، بل من خلال نهب وسلب أموال الشعب، خزينة الدولة الفارغة!
نحن أمام قوى سياسية وفئات اجتماعية حاكمة تزداد جوراً على الشعب الكادح والفقير، وعلى المثقفين والمبدعين، وعلى البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، وهي تصر على نهجها الطائفي السياسي ومحاصصاتها المذلة للشعب ومبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة، وإصرارها على البقاء بالسلطة مهما كلف الشعب من تضحيات وكوارث وآلام وحرمان وجوع، رغم مطالبة الشعب بالإصلاح والتغيير الجذري بإقامة نظام مدني ديمقراطي علماني اتحادي حديث.
إن الأزمات التي يمر بها الشعب كثيرة وليست واحدة ومتشابكة، بحيث يستحيل الخروج منها من خلال النهج الفكري الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي الراهن، بل لا بد من التغيير. ولا يمكن أن يتحقق هذا التغيير من دون رفع سقف المطالبة الشعبية ورفع مستوى مشاركة الشعب، وخاصة الكادحين والفقراء والمعوزين إلى جانب المثقفين والمتضررين من الواقع الراهن من فئات البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الوطنية والطبقة العاملة وكادحي الريف بالعراق. إن هذا يتطلب النهوض بالمهمات من خلال سعي القوى العقلانية بالعراق للنهوض بمسؤوليتها إزاء المجتمع ومستقبل البلاد الذي حط الآن في حضيض مدمر حقاً وصدقاً.
إن الوقت ليس في صالح الشعب حين يجري التلكؤ بدعوى ما يزال الوقت "سابق لأوانه" لعقد مؤتمر لجميع القوى العقلانية بالعراق. ولا شك في وجود حاجة ضرورية وملحة للقيام بمشاورات ولقاءات واجتماعات بين القوى السياسية العراقية العقلانية، القوى التي يهمها العراق وشعبه، القوى والأحزاب التي تؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنات والموطنين من جميع القوميات والديانات والمذاهب الدينية والفكرية والسياسية، قبل عقد المؤتمر. إن قائمة القوى والأحزاب الديمقراطية من يسارية وليبرالية علمانية وقومية ديمقراطية ودينية ترفض دمج الدين بالدولة، وتسعى للتغيير الحقيقي وليس الادعاء بالتغيير، كما تمارسه الآن الحكومة الحالية أو أدعياء الإصلاح من الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة.
إن الدعوة للتعاون والتنسيق والوحدة الوطنية في جبهة سياسية عريضة لعقلانيي العراق كافة مهمة مركزية وعاجلة وملحة، مع ضرورة التحضير والتشاور الجدي والمكثف والمسؤول خلال الأسابيع القادمة، إذ أن الانتخابات على الأبواب ولا بد من تحقيق الحد المعقول من الاتفاق بين القوى التي تنشد التغيير والمتسمة بعقلانية الفكر والسياسة والمواقف.
أتمنى على الجميع التفكير الجاد والمسؤول بهذه المهمة العسيرة ولكنها نبيلة وملحة، لأن التأخير في تحقيق المنشود يكلف الشعب الكثير من الخسائر البشرية والمادية والمالية ويقلل من فرص الاستفادة والاستثمار الفعال من الانتصارات العسكرية في جبهات القتال لصالح العراق ووحدته وتقدمه.           

369
كاظم حبيب
دور المتدينين العلمانيين مطلوب بإلحاح شديد حالياً!
منذ قرون وقرون كثيرة حتى يومنا هذا يهيمن الغالبية العظمى من شيوخ الدين المسلمين غير الاوفياء لشعوبهم على عقول الناس ويوجهونهم الوجهة الخاطئة والمدمرة التي قال عنها بصواب كبير كارل ماركس عندها يصبح "الدين أفيون الشعوب"، لأنهم يستغلون الدين لمصلحتهم ومصلحة الحكام الذين لم يرحموا شعوبهم. وقد أوصل شيوخ الدين، الذين وضعوا أنفسهم وسطاء ووكلاء بين الإنسان والرب الذي تؤمن به الغالبية العظمى من الشعوب المسلمة، إلى حضيض لا يحسد عليه وفرضوا عليهم فتاوى لا يمكن القبول بها الا الجهلة الأميين الذين لا يعون من أمرهم شيئا، وهم يشكلون الأكثرية الساحقة. الأسطورة والخرافة والغيبيات الدينية المنهكة براد منها أن تنسي الأكثرية السكانية واقعها المر وتغرقها في فرحة التضحية بالحياة الدنيا، لتفوز بالآخرة، باللجنة الموعودة وبالحور العين، لكي ينعموا هم وتنعم معهم الفئات الحاكمة والحكام غير الاوفياء لشعوبهم على حساب الكادحين والمحرومين والفقراء المعوزين من شعوبهم.
لو تابع الناس ما يجري في السعودية بجدية ووعي، لعرفوا الدور الذي يلعبه شيوخ الدين هناك في التجهيل الديني ومنع التنوير وتكميم الأفواه، وممارسة قطع الرؤوس والأكف بذريعة الشريعة والحبس لسنوات طويلة والجلد ومساعدة الحكام السعوديين في البقاء في السلطة ونهب ثروات الشعب في الجزيرة العربية، والتنسيق معهم للاستمرار بممارسة إنتاج وإعادة إنتاج الإرهابين وتنشيط القوى الإرهابية وتمويل الاٍرهاب مالاً وتسليحاً ليس في الشرق الوسط فحسب، بل وبأفريقيا والدول الأوربية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. وتشارك دولة قطر وصعاليكها في هذه العمليات الإجرامية بعلم وسكوت وتأييد جهاز المخابرات المركزية ووزارة الدفاع الامريكية ومراكز قوة أخرى بالولايات المتحدة. ونفس الدور المخزي تمارسه ايران للوصول الى أهدافها الطائفية في منطقة الشرق الاوسط وإفريقيا.
وما يجري بالعراق لا يختلف عما يمارسه غالبية شيوخ الدين الشيعة والسنة، وهم يشكلون سببا رئيسيا، وليس وحدهم، في وصول العراق الى هذا الحضيض والمستنقع النتن الذي يعيش فيه الشعب العراقي. وهم الذين زكوا وما زالوا، شاءوا أم أبو، الحكام الحاليين الذين قهروا الشعب ومرغوا كرامته بالتراب ونهبوا خيرات البلاد وجوعوا نسبة عالية ومتفاقمة من بنات وأبناء الشعب، ونشطوا القتل على الهوية والإرهاب وتسببوا في احتلال جديد لمناطق العراق وما نجم عنه من سبي وتريد واغتصاب وقتل وموت مستمر، إضافة استشهاد الكثير من العراقيين في القتال ضد أوباش داعش المجرمين. ويوماً بعد اخر يزداد وضع الشعب سوءاً ويغوص الحكام في غيهم وجورهم على الشعب ويزداد دورهم في الدوس على بنود الدوس الذي وضعوه هم بأنفسهم.
هذا الوضع لا يتطلب تحرك القوى اليسارية والديمقراطية واللبرالية لمواجهة تدهور متفاقم في أوضاع البلاد فحسب، بل يستوجب أيضاً وبإلحاح شديد وعاجل تحرك جاد ومسؤول من جانب المسلمين المتدينين العلمانيين، الذين يدركون بوعي ومسؤولية دور غالبية شيوخ الدين في التجهيل والخضوع للواقع القائم، واهمية البدء بحركة تنويرية نشطة وفاعلة لكشف ألاعيب الآخرين وعواقب ذلك على المجتمع. ان على العلمانيين من شيوخ الدين والمؤمنين بصواب الفصل بين الدين والدولة وبين الدين والسياسة، واحترام أتباع جميع الديانات والمذهب.
إن العراق بحاجة ماسة إلى عملية تنوير ديني واجتماعي وسياسي ليستطيع من خلاله تدارك ما يجري اليوم بالبلاد، وإن هذه المهمة يتحملها شيوخ الدين والمؤمنين من المسلمين العلمانيين، كما تتحملها القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية واللبرالية، إذ إن السكوت على ما يمارسه شيوخ الدين والمعممين وغير المعممين الجالسين على كراسي الحكم وفي مجلس النواب سيقود العراق إلى كارثة أفظع بكثير مما وصل إليه العراق خلال السنوات المنصرمة منذ إسقاط دكتاتورية البعث الغاشمة.
فليرفع العلمانيون من شيوخ الدين ومن المسلمين المؤمنين صوتهم عالياً وليعملوا من أجل عراق أفضل مما هو عليه الآن، عراق أكثر أمناً واستقراراً وازدهاراً، وأكثر دفئاً للإنسان العراقي واكثر استجابة لحاجاته وتطلعاته ومستقبله.   





370
كاظم حبيب
العراق بين الانتصارات العسكرية والإخفاقات السياسية المتفاقمة!
تتحقق يومياً انتصارات مهمة معمدة بدم الإنسان العراقي في جبهات القتال ضد عصابات داعش المتوحشة بالموصل وضواحيها، وهي نتيجة منطقية للتعاون والتنسيق والهدف المشترك لكل القوى المقاتلة، في حين يتحمل الشعب العراقي ببغداد المزيد من الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وهي نتيجة منطقية أيضاً لإصرار القوى الطائفية الحاكمة على مواصلة نهجها الطائفي المقيت والقاتل لروح المواطنة، والتشبث بممارسة سياسات أكثر تمييزاً وتهميشاً وإقصاءً للمواطنة والمواطن العراقيين، بسبب قوميته أو دينه أو مذهبه أو فلسفته وفكره ورأيه، والإصرار على طرح مشروع بائس ومريب أطلق عليه "مشروع التسوية السياسية، من جانب القوى الأكثر طائفية في البيت الشيعي، من أجل الإبقاء على الحكم النهائي في التسوية بيد التحالف الوطني أو البيت الشيعي، وهو الذي يلغي عملياً مبدأ المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية أولاً، والبدء منذ الآن بتزوير الانتخابات العامة القادمة بطرح قرار الأخذ بالطريقة الأكثر سوءاً لتضمن للبيت الشيعي السيطرة التامة على مجلس النواب ثانياً، إضافة إلى سياسات الإيغال بقهر مصالح الجماهير بما في ذلك مشروع خصخصة مؤسسات الكهرباء وغيرها.
إن الصراعات الدائرة في الساحة السياسية العراقية تؤججها ليس مطامع القوى الطائفية العراقية، وهي وحدها كافة لتدمير العراق كله، كما جرى ويجري حتى الآن منذ ثلاثة عشر عاماً فحسب، بل وبسبب تفاقم التدخل الفظ لإيران، عبر أتباعها الخانعين والخاضعين بمذلة لولاية الفقيه، وعلى رأسهم رئيس الحكومة السابق ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالعراق، وقادة المليشيات الطائفية المسلحة، من جهة، وأولئك الذين يأتمرون بأوامر وتوجيهات السعودية وقطر، من أمثال رئيس مجلس النواب السابق، أو بأوامر تنظيم الإخوان المسلمين الدولي من أمثال رئيس مجلس النواب الحالي ومن لف لفهما.
كان المتوقع أن تبدأ هذه الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة بحملة ضد القوى الوطنية النظيفة في المجتمع العراقي في أعقاب الانتهاء من تحرير الموصل. إلا إن هذه القوى المسيرة من الخارج بدأت اليوم عملها حتى قبل الانتهاء من معارك الموصل، سواء أكان بالاختطاف، أم الاعتقال السري والتعذيب والتهديد، أم بضرب المظاهرات الشعبية والتجمعات، أم بفض الاعتصامات والتجمعات أم بالاعتداء على مدراء المدارس والمعلمين وفي الجامعات لفرض ما يريدون تحقيقه بالقوة. وإذا كان البعض يتأمل بعض الخير من رئيس الوزراء الحالي ويتحدث عن الصراعات الداخلية، فهو أمر لا يعني عدم وجود صراعات داخلية ولا منافسات في ما بين قادة هذه الأحزاب، ولكن كلها تتفق في المحصلة النهائية على فرض الحالة الراهنة وتكريسها بالعراق، والتي لا تعني سوى اغتصاب الإنسان العراقي وسلب حريته وحقوقه الأساسية، بما في ذلك وقبل كل شيء حق المواطنة الحرة والمتساوية.
إن دول الجوار كلها دون استثناء لا تريد الخير للعراق ولا تريد الراحة للإنسان العراقي، بل تريد كل دولة منها فرض نفسها ومصالحها على الشعب العراقي من خلال الحكام الحاليين. وهو الأمر الذي يساعد على تمشية مخططاتها في الهيمنة الفعلية على العراق بهذا الاتجاه أو ذاك وفرض سياساتها عليه، وهو الأمر الذي يتطلب التصدي لها من جانب الشعب العراقي ومقاومتها وتعبئة الشعب لرفضها. ولا يمكن أن يتحقق التصدي لهذا المخطط الإجرامي الذي تقوده إيران من جهة، والسعودية وقطر وتركيا من جهة أخرى، إلا من خلال العمل على توفير المناخ المناسب لتعاون القوى اليسارية، حتى لو كانت هذه التجمعات من ثلاثة أشخاص، وتعاون القوى الديمقراطية واللبرالية العلمانية، حتى لو كان هناك نقاط قليلة يتم الاتفاق عليها من أجل مواجهة المشاريع المناهضة لعراق ديمقراطي مدني علماني اتحادي، وكذلك مع بعض شيوخ الدين المتدينين والعلمانيين والمؤمنين من المسلمين العلمانيين، وكذلك قوى القوميات الأخرى المضطهدة والتي فُرض عليها التمييز والتهميش والإقصاء حتى الآن وسيبقى قائماً ما دام النظام السياسي القائم بالعراق نظاماً طائفياً محاصصياً على أساس طائفي وليس مدنياً ديمقراطياً علمانيا.
لنعمل من أجل التعاون والتنسيق والتحالف بين كل القوى التي ترفض الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية في الحكم، وترفض التمييز والتهميش والإقصاء، وترفض التبعية للدول الأجنبية، وتناضل من أجل استكمال استقلال البلاد وسيادة العراق المثلمة حالياً، ومن أجل بناء دولة مدنية ديمقراطية علمانية اتحادية، وإنقاذ الدولة الحالية من هشاشتها وهامشية دورها.                       

371
كاظم حبيب
نفق العراق المعتم: الطائفية والفساد والإرهاب!
إذا ما أحسست أنك في نفق معتم، عليك عدم الاستسلام،
إذ أن هناك طريقاً للخروج منه"              ستيفن هوكنغ
الثلاثي الذي يهيمن على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العراقية الحالية: الطائفية والفساد والإرهاب، شبيه بذلك الثلاثي الذي عانى العراق منه في ظل الدولة العثمانية وما بعدها لسنوات غير قليلة، ثلاثي الجهل والفقر والمرض. ولكن الثلاثي الجديد التحم منذ سنوات، ويتفاقم يومياً، بالثلاثي القديم حيث يشكل الجهل أساسه وقاعدة ما يبني عليه السياسيون الكاذبون والمخادعون والمناورون لاستمرار الهيمنة الراهنة على السلطات الثلاث بالبلاد رسمياً وتهديد السلطة الرابعة بالويل والثبور والاختطاف والقتل يومياً، إذا ما انتقدت بعض أو كل التجاوزات الحاصلة على الإنسان والمجتمع بالعراق.
الأرقام التي تنشرها وزارة التخطيط العراقية-الجهاز المركزي للإحصاء- يشير بما لا يقبل الشك إلى الأوضاع المزرية والمتفاقمة، إلى النفق الطويل المعتم الذي دخل فيه العراق منذ بدء الاحتلال وبدء توزيع السلطات الثلاث على أسس طائفية وأثنية مقيتة ومدمرة لوحدة العراق، وقيام أحزاب "إسلامية سياسية طائفية" أعلنت منذ البدء، وعلى رؤوس الأشهاد، سياساتها ومواقفها الطائفية الدنيئة بالممارسة العملية الفعلية، باقتسام السلطات الثلاث على أسس طائفية مروعة وطاردة للوطنية والمواطن، ومؤكدة على سيادة الهويات الفرعية القاتلة لوحدة الشعب وحقوقه وواجباته. وأرقام أخرى لم تنشر ولكنها معروفة ومنشور بعضها وهي مرعبة حقاً، منها مثلاً: الحجم الهائل للنهب غير المتوقف لثروات العراق وموارده المالية على امتداد الدولة العراقية، تفاقم حجم البطالة والذين يعيشون تحت خطر الفقر من العائلات والأفراد، ارتفاع كبير جداً في عدد المطلقات في العامين 2015 و2016، ارتفاع عدد الأرامل الإجمالي وعدد المترملات من النساء يومياً بسبب استشهاد أو قتل الذكور في الحرب أو عبر الإرهاب والاختطاف والموت، واستمرار وجود عدد كبير من مزوري الشهادات الذين ما زالوا يحتلون مراكز مهمة في جهاز الدولة العراقي، ثم الارتفاع الكبير في عدد العمليات الانتحارية والتفجيرية لسيارات مفخخة أو غيرها وعدد الذين يسقطون قتلى وجرحى نتيجة هذه الأفعال الإجرامية.
كل هذا وغيره يحصل بالعراق، ومع ذلك فالحكم الذي يقوده حزب الدعوة والتحالف الوطني الشيعي (البيت الشيعي) لا يتورع عن، ولا يستحي من، توجيه قنابل الغاز واستخدام الهراوات والاعتقال لفض الاعتصام، وممارسة التعذيب في التحقيق، لأنهم اعتصموا في ساحة التحرير احتجاجاً على استشهاد شاب لأم ثكلى وعائلة حرمت من ولدها الأخير، في مدينة الثورة على أيدي إرهابيين بتفجير دموي مجرم، في حين إن الاعتصام والإضراب والتظاهر والتجمع هي فعاليات مكفولة للمواطن العراقي والمواطنة دستورياً وعلى وفق القوانين المرعية أيضاً.
إن النفق الطويل المعتم الذي يعيش تحت وطأته الشعب العراقي بسبب الحكم الطائفي القائم ومحاصصاته الطائفية المذلة لا بد له أن ينتهي، ولكن لن ينتهي ما لم يدرك هذا الشعب ما يراد له وأكثر مما وقع حتى الآن لينهض موحداً لفتح طريق الخروج من هذا النفق الطويل المعتم الذي تمارس فيه كل المظالم والتجاوزات على حقوق وحريات الشعب. فالظلم إن دام دمر! نحن نعيش تحت حكم ظالم، متجبر ومخادع وفاسد!   
إن من يريد الخروج من النفق، عليه أن يشمر عن ساعديه لكنس من زوّر إرادة الشعب وشوه حياته وسرق ماله ورفع من عدد المترملات من النساء وعدد الجياع والعاطلين عن العمل ووفر مستلزمات قتل المزيد من البشر بطائفيته وميليشياته الطائفية والإرهابية المسلحة. وليس هناك من قادر على ذلك غير الشعب ومن يعتمده الشعب في قيادة النضال لتحقيق المؤمل والطلوب، أي إقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية واتحادية، دولة تحترم الإنسان وحقوقه وواجباته وتفصل بين الدين والدولة والسياسة وتحتم أتباع كل الديانات والمذاهب وأتاع كل القوميات بالبلاد.     

 



372
كاظم حبيب
الحياء قطرة وليس سطلة!
هل من حياء لدى هذه الحكومة الطائفية؟ هل من احترام لذاتها؟ هل من احترام للإنسان عندها؟ هل من احترام للمجتمع الذي تحكمه بأسوأ الأساليب؟ هل من احترام لنصوص الدستور الذي اقرته ذات القوى الحاكمة؟ هل من احترام للدولة على ضعفها وهشاشتها وفاقة هشاشة القائمين عليها فكرياً وسياسياً؟ كل الدلائل تؤكد بما لا يقبل الشك بأن هذه الحكومة لا تعرف الحياء ولا تفهمه، وإلا لقدمت الحكومة بكامل أعضائها استقالتها بسبب ما حصل ويحصل يومياً ببغداد. إن لم تكن الحكومة، أو بعض أطرافها المتنفذين المالكين للمليشيات الشيعية المسلحة، ضالعة في ما يجري بالبلاد، وأن لم تكن  هي من يقف وراء اختطاف الصحفية العراقية أفراح شوقي، الاختطاف الذي أثار فيها الرعب بصفاقة المختطفين وعدوانيتهم وكرههم للإنسان والحرية والحياة الديمقراطية والتي لا مثيل لها إلا في هذا العراق المبتلى بهؤلاء الأوباش الذين اختطفوا أفراح شوقي، فمن هم أذن من قام بهذا الفعل الدنيء والتجاوز على الدستور؟ قال العراقيون والعراقيات منذ القدم: إن الحياء قطرة واحدة، وليس سطلة حياء!
يرجو البعض من الحكومة أن تتابع الأمر وتكشف عن الخاطفين، وهم على حق طبعا، ولكن يذكرني هذا الموقف بالمثل الشعبي الكربلائي الذي يقول "لا ينتظر من بارح مطر، ولا من شفاثة عافية" (بارح هو فصل الصيف ولا من شثاثة عافية بسبب مياهها المالحة التي كانت تؤذي صحة الإنسان وتسبب انتفاخ البطن الهالك، وشفاثة أو شثاثا هي قرية أو مدينة صغيرة تابعة لعين التمر وجزء من محافظة كربلاء).
حادثتان حصلتا في الآونة الأخيرة تؤكدان تورط قوى في الحكومة بهذا الاختطاف، حادث اختطاف مدير فندق بغداد، وحادث اختطاف افراح، دع عنك الاختطافات والقتول السابقة وربما اللاحقة، إضافة إلى تهديدات وصلت لكتاب عراقيين من ميلشيات شيعية تهدد بالاختطاف والقتل في حالة الهجوم على أحد اقطاب النظام البارزين المتورطين بما حصل ويحصل للشعب العراقي من مآسي وكوارث واحتلال واغتصاب في محافظة نينوى أو ما حصل في المحافظات الغربية العراقية، بأن هذه المجموعة من المسلحين التي اختطفت أفراح شوقي هي جزء من جماعة تعمل كميليشيا أولاً، ولكنها في الوقت ذاته تشكل جزءاً من سلطة الحكومة الراهنة، أو من تيار فاسد وإرهابي فيها، يمارس الاختطاف لمن يريد ومتى يشاء، ويهدد من يريد ومتى يشاء، ويقتل من يريد ومتى يشاء، وليس هناك من يتصدى له أو يحاسبه! فهؤلاء فوق القانون وفوق الدولة، ويشكلون دولة داخل الدولة الهشة وقوات مسلحة إرهابية داخل قوات الدولة!!
أيها العراقيون والعراقيات، إن الفاعل ليس بعيداً عن الحكم الطائفي القائم، وإلا لماذا لم يتحرك رئيس الوزراء بعد أن سمع ما قالته أفراح شوقي بجرأة نادرة في المؤتمر الصحفي يوم أمس 4/1/2017؟ ولماذا لم يتحرك الادعاء العام والقضاء العراقي، ليمارس واجبه الدستوري إزاء إنسانة شريفة دافعت عن حرمة الجامعات والكليات والمدارس العراقية التي يحميها الدستور، وكما طالب به الكاتب الأستاذ عدنان حسين في مقاله العمود في جريدة المدى يوم 4/1/2017 والكثير من المناضلين الشجعان بالعراق.
إن هذه الأساليب الإرهابية القمعية، التي كانت تشكل جزءاً من أساليب وأدوات صدام حسين، هي السائدة حالياً بالبلاد، وهي المنشودة من جانب أغلب القوى الإسلامية السياسية الحاكمة، بهدف نشر التطير وبث الرعب في صفوف كل الكتاب والصحفيين وكل الصحف العراقية التي تتجرأ وتنشر النقد الموجه للحكومة أو لأطراف فيها أو لرئيس الوزراء السابق المسؤول الفعلي عن الحشد الشعبي، أو نقد الحشد الشعبي ذاته والمليشيات المتطرفة الإرهابية الفاعلة بالعراق.
إن من واجب كل الناس الشرفاء بالعراق أن يرفعوا صوت الاحتجاج والاستنكار لما حصل ضد السيدة أفراح شوقي من جانب الجماعة الإرهابية النتنة التي قامت بالاختطاف والتحقيق معها، وتصوير التحقيق لعرضه على من أرسلهم لممارسة هذه الاختطاف، ولبث الرعب في نفس هذه المرأة والصحفية الفاضلة والأمينة على مصالح شعبها وإرادته الحرة المسلوبة، أن يطالبوا بتقديم هؤلاء الأوباش ومن يقف خلفهم ويحميهم إلى المحاكمة العاجلة، إن كان النظام ذاته، أو جزء منه، غير متورط بهذه الجريمة البشعة، أو إن كانت للحكومة وأحزابها قطرة حياء.
   
       

373
كاظم حبيب
جرائم بشعة ترتكب بالعراق والأحزاب الحاكمة سادرة في غيّها!
علم ودستور ومجلس أمة          
                                                       كل عن المعنى الصحيح محرف
عند البحث في الدولة، أي دولة، يفترض أن نتحرى إن أوضاع شعبها، ودستورها، وسلطاتها الثلاث، ونظامها السياسي والاجتماعي وأوضاعها المجتمع الاقتصادية والثقافية والبيئية، ونوعية حكامها ومؤسساتها الدستورية وإعلامها وصحافتها. وحين يبدأ البحث بأوضاع الدولة العراقية الراهنة، فينطبق عليها بدقة كبيرة قول الشاعر معروف الرصافي:
علـم ودستور ومجلس أمة  ...................... كل عن المعـنى الصحيح مُحرّفُ
أسماءُ ليس لنا سوى ألفاظُها ...................... أمّـا معانيهـا فليست  تُعرفُ
من يقرأ الدستـورَ يعلم أنه ....................... وفقـاً لصكّ الاحتلال مصنّفُ
ومعذرة للرصافي الكبير، إذ استبدل كلمة الاحتلال بالطائفية، فيصبح البيت الشعري على النحو التالي:
من يقرأ الدستور يعلم أنه................................... وفقاً لصك الطائفة مصنَّف
مع واقع وجود أشكال من القوى والدول المجاورة المحتلة للعراق بصيغ وأدوات وأساليب جديدة.
ويضاف إلى ذلك ما قاله الشاعر الكبير معروف الرصافي أيضاً
يا قوم لا تتكلموا       إن الكلام محرم
ومن لا يصدق هذه الحقيقة الراهنة ليتذكر الإنسان الرائع كامل عبد الله شياع، وهادي المهدي، ومئات غيرهم، الذين أرسلتهم المليشيات الطائفية المسلحة والعاملة في أجهزة الدولة منذ مجيء الجعفري لرئاسة الوزراء إلى القبر، إضافة إلى ما حصل أخيراً مع السيدة الفاضلة والصحفية أفراح شوقي، التي أنهكها الاختطاف المليشياوي-الحكومي، وأبكاها بمرارة قولها بأن "المعاملة كانت زينة!!!"، تماماً كما كان يُطلب من ضحايا صدام حسين أن لا يتحدثوا بما حصل لهم وإلا فالويل لهم. إنهم يريدون فرض البيت الشعري الثاني للرصافي:
ناموا ولا تستيقظوا       ما فاز إلا النوم
وباختصار شديد، أن الحكومة الطائفية الحالية، التي تقودها أحزاب الإسلام السياسي، مصابة بمرض الجذام الطائفي، وما ينجم عنه من فقدان الحس بأوجاع ومصائب الشعب اليومية، إضافة إلى إصابتها بمرض السرطان الخبيث الذي لا يمكن الشفاء منه، لأنه وصل إلى مراحله الأخيرة التي لا بد أن تقود إلى الوفاة العاجلة أو الآجلة.
لن يتوقف الموت والدمار بالعراق ما لم يتخلص من أردان وجراثيم الطائفية اللعينة التي حطت بثقلها على صدور العراقيين والعراقيات وخنقت أنفاسهم ومرغت كرامتهم بالتراب، وأدت إلى موت مئات الآلاف من أبناء وبنات هذا الشعب المستباح بالطائفية وبشتى صور الاحتلال الأجنبي من الدول المجاورة وقوى الإرهاب المحلي والدولي.
يعتقد البعض بإن العمليات الإجرامية الأخيرة التي أودت بحياة العشرات والمئات من الجرحى والمعوقين جاءت مفاجأة للدولة والحكومة ومجلس النواب والقضاء، وهم مخطئون بهذا التقدير. فالسبب يعرفه القاصي والداني، السبب يكمن في النظام السياسي الطائفي القائم، في الحكومة الطائفية ومحاصصاتها المذلة، في التمييز القومي والديني والمذهبي، في وجود المليشيات الطائفية المسلحة، في استمرار وجود من مارس الإرهاب الحكومي والفساد المالي والإداري والإفساد، وما زال في السلطة وفي أعلى مراكز الدولة العراقية الهشة والبائسة.
على من يحترم نفسه من الكتاب والصحفيين وعموم الإعلاميين، أن يدرك بوضوح بأن محاولة إبعاد أو صرف أنظار الشعب عن السبب الأساس في ما جرى ويجري بالعراق منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة وسلطة الدكتاتور الأهوج والسادي النزعة صدام حسين، مؤذية للشعب ومضرة بمصالحة وتساهم في إدامة الأوضاع السيئة والجرائم البشعة التي ترتكب بحقه والتي يعيش تحت وطأتها الشعب العراقي. إن الإرهابيين الذين يقتلون أبناء وبنات الشعب يومياً مأجورون، جاءوا خصيصاً لإنجاز هذه المهمة مقابل إيمان مشوه ومزيف، أو مقابل نقود قذرة مدفوعة سلفاً، ولكن الشعب يدفع من أمواله الشيء الكثير جداً للحكومة وأجهزة الأمن والشرطة والقضاء ليتصدوا لهذه الجرائم البشعة، ولكنهم، وبسبب طبيعتهم الطائفية السياسية، عاجزون عن إنجاز هذه المهمة، لأن النظام السياسي ذاته "مهور!" من داخله، ولا يمكنه التصدي لمثل هذه الجرائم البشعة واليومية التي تحصل ببغداد وبمدن عراقية أخرى، ولا يمكن إصلاحه بذات القوى التي تقوده اليوم، لأنها ملوثة بجراثيم الطائفية السياسية التي تتسبب بكل ذلك!!
ليس أمام الشعب العراقي غير حل واحد ووحيد، إنه التغيير الجذري الشامل، تغيير النظام الطائفي المحاصصي، بنظام مدني ديمقراطي اتحادي وعلماني يستند إلى دستور ديمقراطي وحياة مدنية وديمقراطية. وإلى أن يقتنع الشعب وقواه الوطنية والديمقراطية والشريفة بضرورة التغيير ويتحمل مسؤولية ذلك، سيبقى الشعب يعاني الكثير من الآلام والكوارث والموت والتعويق والبؤس بسبب وجود هذا النظام!
         
   

374
كاظم حبيب
من المسؤول عن زعزعة الأمن والاستقرار والموت بتركيا؟
بعد أن تسلّم حزب العدالة والتنمية السلطة بتركيا، بدا وكأن هذا الحزب الجديد، برئاسة رجب طيب اردوغان، قد تعلم واستفاد من تجربة ودروس رئيس التيار الإسلامي ورئيس حزب النهضة بتركيا نجم الدين أربكان، ومن تجربته الشخصية في التطرف الديني، حين رفع شعاراً متطرفاً يؤكد أن (مآذننا رماحنا والمصلون جنودنا!)، إذ قُدم بسبب نشره الكراهية الدينية إلى المحاكمة في العام 1998 وحكم عليه بالسجن. وفي العام ،2001 وبعد حظر حزب الفضيلة، أسس رجب طيب أردوغان وعبد الله غول "حزب العدالة والتنمية"، الذي فاز في الانتخابات العامة وتسلم السلطة في العام 2002.
في العام 2004 أدرك رجب طيب أردوغان بأن الحرب ضد الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني لن تجلب له وللشعب التركي والشعب الكردي، وأن النظم السابقة كلها فشلت في إيجاد حل للمسالة الكردية، وأن تكاليف الحرب ترهق بارتفاع مستمر ميزانية الدولة وتنهك الاقتصاد التركي، كما أرهقت قبل ذاك ميزانيات الحكومات التركية المتعاقبة وأنهكت اقتصادا، ورفعت من مديونية تركيا الخارجية. وتحت ثقل الأوضاع السياسية والاقتصادية وفشل معاركه العسكرية ضد الكرد، بادر بانتهاج سياسة انفتاح على الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني، فوافق على تقديم برامج تلفزيونية باللغة الكردية، وحدّ من تدخل الجيش في الحياة السياسية، وتوجه إلى تعزيز علاقاته بالاتحاد الأوروبي، ونشط الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية والخدمية بدلاً من توجيهها صوب اقتناء المزيد من الأسلحة أو إنتاجها بتركيا. وبدت سياساته في حينها وكأنها تميل إلى الوسطية و"الحداثة الإسلامية!"، ومواصلة نهج العلمانية الكمالية. وبادر حزب العمال الكردستاني عبر قائده عبد الله أوجلان، بطرح رؤية جديدة أكثر استعداداً للتفاوض والحل السلمي في إطار الدولة التركية، مما ساعد على فتح باب المفاوضات السلمية مع حزب العمال الكردستاني بصورة غير كباشرة.
ومنذ أن توقف القتال مع قوات الپيشمرگة الكردستانية المسلحة التابعة لحزب العمال الكردستاني، حقق أردوغان وحزبه نجاحات مهمة في مجالات السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، لاسيما تقليص البطالة وزيادة عدد العاملين، وتحسن مستوى معيشة فئات البرجوازية الصغيرة، بمن فيهم العائلات الفلاحية، والطبقة العاملة. كما إن البرجوازية الوطنية والكبيرة التركية حققت أرباحاً كثيرة وضاعفت من استثماراتها. وتطورت علاقا تركيا مع المجتمع الدولي بسبب بروز ظواهر للديمقراطية والمفاوضات مع الكرد بعد توقف القتال، حتى تصور بعض الكتاب المدنيين العلمانيين البارزين، ومنهم الدكتور صادق جلال العظم، بأن تركيا أصبحت تمثل الإسلام الحديث المدني والعلماني، وسيكون نموذجاً يحتذى به! وقد خالفت رأي الدكتور العظم في ندوة مشتركة عقدت في شهر نيسان من عام 2006 بمدينة كولون بمبادرة من الدويتشة فيلة للحديث عن أوضاع العراق والحرب الدولية وعواقبها. وقد شجعت دول الاتحاد الأوروبي هذا النهج الجديد في سياسة تركيا الرسمية، وبدا وكأن مسالة انضمام تركيا كعضو كامل بالاتحاد الأوروبي لم يعد بعيداً!
إلا إن هذه النجاحات المهمة قد استدعت جانب آخر في شخصية أردوغان، التي لم تكن واضحة تماماً، رغم تخرجه من مدرسة دينية وعضويته في الحزب الإسلامي منذ العام 1972، وهي تنظيمات تشكل جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين الدولية، وبرزت في تنامي شعور قاتل بالغرور ونرجسية مرضية واقتناع ذاتي لدى رجب طيب اردوغان بأن العالم الذي رحب به، سيقبل به أيضاً حين يمارس سياسات أخرى على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة وأنه أصبح قوة كبيرة بمنطقة الشرق الأوسط. واقترن ذلك بالانهيار الموقت للربيع العربي واحتواء نتائجه من جانب الأنظمة والقوى الاستبدادية والعسكرية وقوى الاسلام السياسي بمنطقة الشرق الأوسط. وشعر بأنه قادر على ممارسة دور جديد بمنطقة الشرق الأوسط وخلق تحالفات جديدة له، فبادر إلى انتهاج سياسة تدخل مباشر وفظ بشؤون مصر وتونس وليبيا بالارتباط مع انتمائه لتنظيم الاخوان المسلمين الدولي. واقام تحالفاً جديداً مع المملكة العربية السعودية ودولة قطر، وأحتوى أجزاء من المعارضة السورية ودفع بها صوب استخدام السلاح ضد النظام الدكتاتوري البعثي وبشار الأسد، إضافة إلى بدء دعمه المباشر والمكشوف للقوى التي تركت القاعدة وأسست التنظيم الذي أطلق على نفسه "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) وفتح الحدود له للولوج إلى سوريا والعراق مستثمرا الصراعات الدموية والسياسات الطائفية والشوفينية التي مارسها الدكتاتور الصغير رئيس وزراء العراق السابق نوري المالكي. ولم يكتف بذلك بل خلق الذرائع وقطع المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني وبدأ حربه العدوانية ضد الشعب الكردي مجدداً.
إلا إن تحالفه مع السعودية وقطر وسياساته ضد الشعب الكردي بكردستان تركيا، وتعاونه الشديد مع عصابات داعش، التي وفرت له النفط الخام بأسعار خيالية منخفضة، لم تجلب لتركيا وشعوب المنطقة سوى المزيد من الموت والخراب والدمار والبؤس. وأصبح التنظيم التكفيري الذي ساهم بتكوينه وإطلاقه، يهدد تركيا ذاتها، خاصة بعد أن وقفت الولايات المتحدة، التي سكتت قبل ذاك عن دور هذه الدول الثلاث في تشكيل ودعم داعش، ضد تنظيم داعش، بسبب المخاطر التي بدأ يشكلها التنظيم على دول المنطقة وأوروبا، بل وكذلك الأمن القومي الأمريكي. فمنحت الولايات المتحدة حق استخدام القاعدة الجوية انجرلك بتركيا لقصف مواقع داعش بالعراق وسوريا، وأعلنت دخولها في التحالف الدولي ضد الإرهاب. لقد استفز هذا القرار تنظيم داعش الذي كان يحتمي بأردوغان ويحصل على دعم لوجستي كبير وحقق له عمقاً استراتيجياً في الحرب ضد العراق وسوريا. وتدهورت العلاقات مع قادة داعش، وأغلبهم من قادة البعث الصدامي ممن كانوا في القوات المسلحة والمخابرات والأمن بالعراق، فتحركوا إلى تنفيذ عقاب صارخ ضد ردوغان والدولة التركية، بأرسال انتحاريين وتنفيذ عمليات انتحارية.
لقد أدى ارتداد أردوغان عن بعض مظاهر الديمقراطية والعلمانية وعودته إلى ممارسة نهج الإسلام السياسي المتطرف إلى نشوء حرب فعلية بين القوات التركية وقوات الشعب الكردي المسلحة بقيادة حزب العمال الكردستاني أولاً، وإلى حرب أخرى مع عصابات داعش بسبب "خيانته!" لها. ولم يكتف بذلك بل مارس سياسات اضطهاد وغوص في الاستبداد ومحاربة القوى السياسية الإسلامية المنافسة له على السلطة والمال والنفوذ بتركيا، جماعة فتح الله كولن، مما تسبب في بروز محاولة انقلاب عسكري ضد حكومته وضد أردوغان ذاته، رغم إن البعض يعتقد بأن القضية كلها كانت بتدبير منه، وكان بالإمكان إيقافها قبل وقوعها، إلا إنه كان يريد استخدامها كذريعة لتصفية خصومه من اليمين واليسار في آن واحد. وقاد الأمر إلى اعتقال عشرات الآلاف من القوات المسلحة ومن أجهزة الدولة المدنية والقضاء ووزارات التعليم والداخلية والخارجية، وطرد عشرات الآلاف من وظائفهم ورميهم على قارعة الطريق. وخلق هذا الوضع انقساماً في الشارع التركي وعداءً لأردوغان وأتباعه بتركيا.
إن طموح أردوغان لا نهاية له، فهو قد وجه ضربات قاسية لحزب الشعوب الديمقراطي بتركيا وأدخل الكثير من نوابه في السجون بتهم التعاون مع حزب العمال الكردستاني. مما أدى إلى تعميق الشوفينية التركية ضد الكرد والذي يبرز بوضوح في تصريحات المسؤولين الترك. كما أدى إلى الإخلال بميزان القوى في مجلس النواب لصالحه بهدف إجراء تغيير دستوري يتم بموجبه إقامة نظام رئاسي وبصلاحيات مطلقة تقريباً وشكل دور وصلاحيات مجلس النواب التركي. لقد فقد الرجل وعي الواقع القائم والعواقب التي تسبب بها نهجه الشوفيني والديني والطائفي بتركيا وبدول مجاورة. لقد بدأ يشعر بأن الوريث الفعلي لسلاطين الدولة العثمانية وعليه أن يتصرف مثلهم، فبئس الخلف والسلف!
من هنا يمكن أن نعرف بأن هناك أكثر من طرف لم يعد قادراً على تحمل سياسات أردوغان المستبدة، وهو يسع صلاحياته وحكمه المطلق ويقضي على كل ما بدأ به في العام 2004 من إصلاحات ملموسة وإيجابية.
إن الاستقرار الذي نعمت به تركيا قد غادرها، وحل محله عدم الاستقرار وغياب الأمن والمزيد من التفجيرات والمزيد من القتل والدمار باسطنبول وفي غيرها من المدن التركية. وأدى ذلك إلى موت وجرح الكثير من المواطنين والمواطنات الأبرياء وخسائر مادية كبيرة، وإلى تراجع شديد في السياحة التركية وفي سعر صرف العملة التركية وفي ضعف معدلات النمو، إلى تزايد في عدد العاطلين عن العمل والراغبين في الهجرة من تركيا وطالبي اللجوء السياسي بالخارج. والجواب عن السؤال الذي احتل عنوان المقال يشير بما لا يقبل الشك بأن أردوغان هو المسؤول الأول عن تدهور الأمن وتراجع الاستقرار بتركيا، وزيادة عدد القتلى والجرحى الناتجة عن جرائم العميات الانتحارية والتفجيرات الإرهابية بسبب نهجه الإسلامي السياسي المتطرف وتخليه كلية عن حتى مظاهر الديمقراطية والعلمانية وتحالفه التدمير ولفترة غير قصيرة مع عصابات داعش الإرهابية وقوى القاعدة وتدخلة الفظ في شؤون الدول المجاورة. وهو بذلك يقدم الدليل الجديد بأن قوى الإسلام السياسي ليست قادرة، بحكم ذهنية التمييز والاستبداد والرغبة في احتكار السلطة وفرض حاكمية الله على المجتمع، على قيادة البلاد وعلى ممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنها ليست ظالمة ومتعفنة حسب، بل وفاسدة ومفسدة وليست من هذا العصر، وهو ما يؤكده مجرى الأحداث بالعراق في ظل النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية المذلة للوطن والمواطن.         
     



375

مع أطيب التمنيات بالصحة لكم ولعائلاتكم بحلول العام الجديد 2017، وأن يسر المجتمع العراقي فيه بتغيير النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة إلى نظام مدني ديمقراطي علماني يحترم أتباع كل الديانات والمذاهب والاتجاهات الفلسفية ويصون اليمقراطية ويمارسها لصالح المجتمع ويحاسب الفاسدين والمفسدين والطائفيين أعداء الشعب ووحدته الوطنية


كاظم حبيب
 
هل النظام الطائفي ومحاصصاته صالح للعراق؟
"الطائفية لعبة الأذكياء للسيطرة على الأغبياء"
محمد الماغوظ (1934-1006م)
كاتب مغربي
 
حين يدرس الإنسان الديانات والمذاهب الدينية أو الفلسفات والاتجاهات الفكرية سيجد أمامه مدارس فكرية واجتهادات مذهبية كثيرة في كل دين أو مذهب من الأديان والمذاهب في هذا العالم، وهكذا الحال في الفلسفات، سواء أكانت مثالية أم مادية، إذ غالباً ما تتفرع عنها مدارس واتجاهات عديدة باختلافات كثيرة أو قليلة. وهذا الواقع الذي عمره ألاف السنين يؤكد حالة صحية لدى البشر، إنها القدرة على التفكير وإعمال العقل والاجتهاد من جهة، والتعبير عن وجود اختلاف في الزمان والمكان لهذا المجتمع أو ذاك من جهة ثانية، ولوجود التباين في مستويات الفكر والوعي الفردي والجمعي في هذا المجتمع أو ذاك من جهة ثالثة. ولكن هذا التنوع والتباين في الاجتهاد والتفسير في الأديان والمذاهب والفلسفات أو الإيديولوجيات تكمن وراءه مصالح وأهداف متباينة للقوى السياسية والاجتماعية ولدى شيوخ هذا الدين أو المذهب الديني أو هذا الاتجاه الفلسفي أو الفكري أو السياسي أيضاً. ويمكن أن تكون تلك الاجتهادات والتفسيرات نابعة عن مصالح تنسجم مع مصالح المجتمع، كما يمكن أن تكون ذاتية وضد مصالح المجتمع وتقدمه. وإذا كان الأمر الأول إغناء لفكر الإنسان وحياته، فأن الثاني يدفع إلى الجمود والصراع والنزاع والعواقب الوخيمة. إن الاختلاف في الفكر والمماسة والاجتهاد أمر طبيعي في المجتمع البشري، لأنه يعبر عن رؤية اجتهادية مرنة وقدرة على التفكير بشكل مستقل، وكذلك القبول بالاختلاف وبالآخر. وليس في هذا أي عيب أو ضرر، بل إن الاختلاف ظاهرة طبيعية وبشرية، وكذا التخلي عن هذا الدين أو ذاك وهذه الفلسفة أو تلك أمر ممكن. إلا إن العيب يبرز حين يكون التغيير ناتج عن مصالح أنانية وعن أهداف شريرة. ويكون الضرر كبيراً في المجتمع الواحد المتعدد الديانات والمذاهب، لاسيما حين يصبح هذا التنوع في الآراء، أو ما يصطلح عليه بالمدارس أو فروع الديانات والمذاهب أداة بيد عناصر وجماعات طائفية وطوائف متنافسة ومتصارعة ومتقاتلة في ما بينها. عندها يختفي الغنى المنشود في مثل هذا التنوع وتسيطر الفاقة الفكرية ويهيمن الجمود والتعصب والازدراء للآخر. ولهذا كان الكاتب والروائي المغربي الطيب الذكر محمد الماغوط (1934 -  2006م) على صواب حين قال إن "الطائفية لعبة الأذكياء للسيطرة على الأغبياء"، وهو لا يقصد هنا المذهب، بل يؤكد الطائفية السياسية، إذ أن الجهالة في المجتمع تسمح للطائفيين في السيطرة على جمهرة كبيرة من الناس والتحكم بهم كما يشاؤون. علماً بأن هؤلاء الأذكياء لا شك أنهم دجالون وانتهازيون ويجسدون حثالة المجتمع، رغم ذكائهم! ويزداد الأمر سوءاً حين يقرر شيوخ الدين نبذ أو قتل من يتخلى عن دينه، أو من يتحول إلى دين آخر برغبته الخالصة، إذ تبرز هنا بشكل صارخ ذهنية الاستبداد والهيمنة لأيديولوجية واحدة ووحيدة!!
حين يحاول الباحث في المذاهب، وفي جميع الديانات التي برزت بالعراق خلال آلاف السنين، سيجد أمامه الكثر من المذاهب المتفرعة عن تلك الديانات، سواء أكان هذا التنوع والتشظي في الديانات اليهودية أم المسيحية أم الإسلام أم غيرها، إذ كانت في عمومها ظاهرة صحية تجسد الحراك الفكري والاختلاف في الرؤية والاجتهاد في تفسير النصوص. ولكن الكثير من الحكام وشيوخ الدين قد استخدموا تلك المذاهب أو المدارس المتفرعة عنها طائفياً، بمعنى ممارسة سياسات طائفية من الناحية الفعلية، أي التمييز بين اتباع الديانات والمذاهب في التعامل، فهم يفضلون ويحمون ويدافعون عن أتباع هذا الدين أو المذهب، ويهاجمون في الوقت ذاته أتباع دين أو مذهب آخر، أو يمارسون التهميش والإقصاء والتشريد، بل والقتل. وحين يتم البحث في الواقع العراقي على امتداد قرون طويلة، ستتجلى ظاهرة التمييز الديني والطائفي التي سادت في أغلب النظم السياسية التي قامت بالعراق، وهي ترتبط عضوياً لا بالدين أو المذهب فحسب، بل وترتبط بشكل خاص وعضوياً بمصالح القوى الفاعلة والمؤثرة والسياسية المتبنية لهذا الدين أو المذهب، وليس عامة اتباع هذا الدين أو المذهب. وقبل أن يجدها المتتبع بين أتباع الدين الإسلامي، وجدت لدى أتباع الدين اليهودي واتباع الدين المسيحي بالعراق في أوائل دخول اليهودية والمسيحية لبلاد ما بين النهرين. ويمكن أن متابعة هذه الظاهرة في تاريخ العراق الأموي والعباسي والعثماني والفارسي.
أما إذا تابع الباحث الوضع في العهد الملكي، لوجد بأن الحكام قد أكدوا، بوعي أو دون وعي، بأن الإسلام هو دين الدولة، وكرسوا المذهب السني عملياً، ومارسوا سياسة التمييز على أساسين قومي وديني ومذهبي، وتشددوا في فترات ومارسوا العنف، كما حصل مع الكرد، ومع الآشوريين والإيزيديين أو مع الشيعة، ولكنهم عموماً قد مارسوا حالة من اللبرالية إزاء أتباع الديانات والمذاهب. كما تشددوا عل القبول في مجالات معينة، لاسيما في القوات المسلحة أو السلك الدبلوماسي. وإذ ابتعد النظام الجمهوري الأول عن جميع أشكال التعصب القومي والديني والمذهبي في بداية نشوء الثورة في العام 1958، فأن قوى فيه ساعدت فيما بعد على الاندفاع باتجاه التشدد القومي إزاء الكرد، ولكنه بقي منفتحاً على جميع الديانات والمذاهب ولم يفرق بينها. أما النظام البعثي الأول الذي جاء على أثر انقلاب شباط 1963 فقد ولد مشوهاً قومياً ودينياً وطائفياً، رغم إن أغلب قادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة في انقلاب وحكم 1963 كانوا من الشيعية، ولكن دور القوى القومية الطائفية، التي تجلت بشكل خاص في رئيس الدولة عبد السلام محمد عارف والكادر المحيط به، كان بارزاً ومؤذياً، إذ أنهم مارسوا التمييز الديني والتعصب الطائفي بشكل صارخ ومجنون، لاسيما بعد الانقلاب القومي الناصري في تشرين الثاني 1963. وحين حصل انقلاب 17/30 تموز 1968، كان أعضاء القيادة البعثية ومجلس قيادة الثورة بالعراق كلهم تقريباً من البعثيين من أبناء الطائفة السنية. وكان لهذا دوره وتأثيره في واقع الحياة السياسية والاجتماعية العراقية. ونظام البعث لم يهاجم الشيعة باعتبارهم شيعة في البداية، بل كان ضد كل من يقف ضد نظام البعث، ومن ثم ضد صدام حسين، وبالتالي شمل ليس جميع من يعارض النظام السياسي البعثي وحكم صدام حسين، بل وكل من لا يتفق مع هذا النظام، إذ أصبحت القاعدة السارية تؤكد: "من هو ليس معي، فهو ضدي!!!". وكل هذه النظم حصدت بالمحصلة النهائية بهذا الشكل أو ذاك نهايتها الطبيعية.
لم تغب الطائفية بصورة من الصور عن واقع العراق الدامي. ولكن لم يكن الشعب هو المسؤول عن ذلك، بل الحكام هم الذين لعبوا دورهم في إذكاء الطائفية السياسية والتمييز الديني ضد أتباع الديانات الأخرى، إضافة إلى كتب التعليم لا بالعراق فحسب، بل وفي كل دول منطقة الشرق الأوسط. وهو الأمر الذي قاد وما يزال يقود إلى عواقب مريعة في كل دول المنطقة دون استثناء.   
 وحين كانت القوى السياسية المعارضة لنظام صدام حسين تعمل في الخارج، قامت بعض أبرز تحالفاتها على أساس قومي وديني وطائفي، ولم تنفع احتجاجات القوى السياسية الرافضة للتمييز القومي والديني والطائفي. فالتحالفات التي بدأت بمدينة فيينا وتواصلت بلندن وصلاح الدين قبل إسقاط الدكتاتورية استندت إلى ثلاث ثوابت بائسة:
1.   القبول بالحرب لإسقاط الدكتاتورية الغاشمة؛
2.   التخلي التدريجي عن التحالفات السياسية القائمة على التباين في المناهج، قومي، بعثي سوري، شيوعي، اشتراكي، محافظ، مستقل؛
3.   القبول بتحالف قائم على ثلاث جماعات قومية ودينية ومذهبية: الكرد، العرب الشيعة، والعرب السنة، ووزعت عضوية لجان هذه التحالفات على أساس أكثرية شيعية وأقلية سنية وكرد، ودخل القوميون والبعثيون السابقون كسنة في هذا التحالف عملياً.   
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه برز في أعقاب مؤتمر بيروت للمعارضة العراقية في ربيع العام 1991، وتبلور وفرض نفسه وأصبح سائداً بعد تشكيل المؤتمر الوطني العراقي وتعاظم دور الولايات المتحدة في التأثير على القوى السياسية العراقية التي وافقت على خوض الحرب الخارجية ضد نظام البعث الاستبدادي، وبتأييد كبير من إيران. وقد تلمست هذا التوجه بنفسي حين كنت مسؤولاً عن اللجنة السياسية في هذا المؤتمر لمناقشة وصياغة أهدافها ومطالبها. وقد تسنى لي تجنيب القرارات ما يدعو إلى مثل هذه التوجهات.
الشيوعيون وجمهرة من الديمقراطيين والبعثيين العراقيين من مؤيدي البعث السوري، مع تباين هذه القوى في الرؤية والمواقف، رفضوا البند الأول وكذلك رفضوا التحالف بصيغته الثالثة، ولكنهم عملوا من أجل تحالف فكري وسياسي لا قومي وديني وطائفي، ولم ينجحوا في تحقيقه. ولكن الحزب الشيوعي العراقي دأب على حضور تلك المؤتمرات بممثل واحد، عدا مؤتمر فيينا.
وحين أُسقط النظام الدكتاتوري، بتحالف دولي خارج شرعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، أقيم النظام السياسي الطائفي استناداً إلى محاصصة طائفية تبلورت في واشنطن وقبل إسقاط الدكتاتورية، وبمباركة إيرانية، ورفض من قبل الدول العربية الأخرى.
لقد كان المفروض أن ينشأ نظام مدني ديمقراطي اتحادي بالعراق، لكي يستطيع تخليص العراق من أردان النظم الدكتاتورية والتمييز العنصري، القومي والديني والمذهبي، ولكن الذي نهض على أنقاض نظام صدام حسين، تبنى الكثير من بنية وطبيعة أنقاضه. وما عاناه ويعاني منه حتى اليوم هو نتاج طبيعي لطبيعة النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة للشعب ولمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية. وسيبقى العراق يعاني من إشكاليات أخرى مماثلة حتى لو تحررت الموصل، ما لم يلغ النظام الذي يعتمد الطائفية السياسية في الحكم. 
أن الطائفية السياسية التي يمارسها الأذكياء ليخدعوا بها الأغبياء من الناس، هم في ذات الوقت فاسدون حتى النخاع. فليس هناك من يستفيد من التفرقة الطائفية غير الفاسدين والمفسدين. والطائفيون الفاسدون من أتباع كل المذاهب، هم الذين جلبوا الإرهاب للعراق، وهم المسؤولون عن استشهاد مئات ألوف البشر، إضافة إلى رقم أكبر من الجرحى والمعوقين. الطائفية، وليس المذاهب، سم زعاف ينتشر في جسم المجتمع بسرعة عبر الكثير من شيوخ الدين والحكام، ولكن وبشكل أخص عبر الأحزاب الإسلامية السياسية، سواء أكانت شيعية أم سنية، ولهذا فهو غير صالح للعراق ولا لغيره من البلدان.     
 
 
 
 

376
كاظم حبيب
من يحمي مناهضي حرية الرأي ومن يمارس اختطاف الصحفيين وتهديدهم؟
"يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلّم النطق،
              وتقضي الأنظمة العربيّة بقيّة عمره في تعليمه
                               الصمت."
                                                                                    (ذاكرة الجسد)، أحلام مستغانمي
رغم إن المعارك الضارية لتحرير الموصل وأجزاء أخرى من الوطن لم تنته بعد، والوطن لم يتحرر بعد من عصابات داعش المجرمة والقوات التركية الدخيلة، ورغم الشهداء الذين يتساقطون لإنجاز هذه الملحمة الإنسانية والوطنية الذين ننحني أجلالاً لهم، ورغم كل الكوارث والمصائب والخسائر البشرية والمادية والحضارية التي حلت بالعراق منذ سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة، التي كانت كارثة بذاتها، فأن المليشيات الطائفية المسلحة ذات النهج الإرهابي، الفاعلة ببغداد والبصرة وبقية محافظات الوسط والجنوب، لم تنتظر انتهاء المعركة مع داعش، بل كانت وما تزال مستمرة في أفعالها المناوئة للشعب العراقي وإرادته ومصالحه، بل يمكن القول بأنها ضاعفت من افعالها الإجرامية المتمثلة بالفساد وممارسة الإرهاب واختطاف الصحفيين والتهديد بالنسف أو القتل لفرض الصمت عليهم، إضافة إلى تدنيس حرمات البيوت ومصادرة الحرية الشخصية وتدنيس الجامعات وإرهاب المواطنين والصحف والصحفيين، كما حصل مع الكاتب والصحفي المميز علي حسين وصاحب العمود اللاهب لظهور الفاسدين والمفسدين والكاشف عن عوراتهم القبيحة في جريدة المدى الغراء.     
وأصبح الكثير من المهيمنين على هذه المليشيات الطائفية المسلحة يعيش على الفساد المالي وعلى تأمين الحماية للفساد الأخلاقي وحماية مهربي وبائعي المخدرات ومبتزي النقود من العائلات التي يختطف منها ابناً أو بنتاً. إنهم حماة الجريمة المنظمة بالعراق، وهم الذين يلهبون ظهور الناس بالسياط لانتزاع ما لديهم من نقود، وهم الذين يقتلون المسيحيين بائعي الخمور بصورة رسمية وعلى وفق موافقات حكومية والدستور العراقي، ومهددي وقاتلي من يختلف معهم أو عنهم بالرأي ويكشف عن فضائحهم.
بالأمس كتب الدكتور مهدي الحافظ، النائب الديمقراطي المستقل في مجلس النواب العراقي، رسالة إلى رئيس مجلس الوزراء يطالبه بالعمل لفك أسر المختطف "السيد داوود شمو، رئيس مجلس ادارة فندق بغداد واحد الوجوه المعروفة في القطاع الخاص العراقي،...". وقد تم تدخل رئيس الوزراء وأخلي سبيله! فماذا يعني ذلك لكل ذي عين وبصيرة؟ يعني إن من يأمر بالاختطاف ويحرك الأوباش للقيام بذلك هم ممن يقفون على مقربة من الحكم، أو من أطراف في الحكم فعلاً، وإلا لما استطاع رئيس الوزراء وبهذه السرعة وبدون تنشيط أجهزة الأمن العراقية لفك أسر المختطف. كما إن الخاطفين ليسوا من داعش، وإلا لما امتثلوا لطلب رئيس الوزراء أو وساطته! ولم أكن مبالغاً حين كتبت مرة مقالاً قلت فيه إن القتلة هم من أهل الدار. فهم ليسوا من عصابات داعش المجرمة، بل هم من المليشيات الشيعة الذين يشكلون العمود الفقري ولحم وشحم المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة بالعراق، وهم يماثلون عصابات داعش فكراً وممارسة.
وأمس تم اختطاف الصحفية الديمقراطية أفراح شوقي وفي وضح النهار عبر مجموعة من المسلحين الأوباش الذين دخلوا إلى دارها وانتزعوها من أحضان عائلتها ليزجوا بها في أحد أقبية المليشيات الطائفية المسلحة السرية أو الحكومية التي يشرف عليها البعض من قادة هذه المليشيات. إنهم سيهددونها بالقتل وسيبتزونها وسيعذبونها، وهم بذلك يسعون إلى فرض السكوت عليها لكي لا تساهم في فضح الفساد ودوس الحرمات والكشف عن خبايا ما يمارسونه من أفعال ضد المجتمع العراقي وإشاعة الخوف والإرهاب عليه، والسعي المحموم لإشاعة الفوضى لتبديل من يعتبرونه لم يعد يمثلهم كما ينبغي، وجاء بالرغم منهم، بآخر يعتبرونه القائد الفلتة الذي قال عنه أحد نواب مجلس النواب عن حزب الدعوة وقائمة دولة القانون بأنه إذا مات، المستبد بأمره "حفظه الله ورعاه"، فسوف نعيد استنساخه. وهي إشارة واضحة إلى نجاح عملية استنساخ "الخرفان!"، وبتعبير أدق، النعجة "دوللي" التي تم استنساخها في 14 شباط عام 2003 في معهد روزلين في جامعة إدنبرة في اسكتلندا!!!
إن على كل إنسان شريف أن يحتج بشدة على اختطاف السيدة الفاضلة والصحفية العراقية أفراح شوقي وأن يطالب الحكومة القائمة، المسؤولة دستورياً عن حماية أرواح وحرية الإنسان، بما في ذلك حرية الرأي، بالعمل على فك أسر الصحفية وعودتها إلى عائلتها وأطفالها وعملها، ومحاسبة الفاعلين وتقديمهم للمحاكمة لينالوا العقاب المناسب، رغم ضعف القضاء وعدم حياديته واستقلاليته، وارتباطه بعدد من المسؤولين في أعلى مناصب الدولة!!! لم يعد الاختطاف يقتصر على أجهزة الأمن، كما كان في عهد صدام حسين، بل أصبح اليوم تمارسه قوى أخرى لها ميليشياتها المتحكمة في البلاد والتي تمارس أفعالها تحت سمع وبصر الحكومة العراقية ومجلس النواب، بل ورئاسة الجمهورية!   
لنعمل يداً واحدة مع الصحفيين العراقيين لإخلاء سبيل الصحفية من أسرها، سواء أكان هؤلاء من المليشيات الطائفية المسلحة أم من الجماعات العاملة لصالح المليشيات وأحزابها الإسلامية السياسية في أجهزة الدولة الأمنية والتي لا تخشى أحداً في ما تمارسه من أفعال إجرامية بحق الإنسان وحقه في إبداء الرأي ونشره. فكم كانت الكاتبة والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي حين جاء في روايتها "ذاكرة الجسد" على حين كتبت بصدق: "يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلّم النطق، وتقضي الأنظمة العربيّة بقيّة عمره في تعليمه الصمت!!!".       

377
كاظم حبيب
أمسية مع العلامة والشاعر والباحث الأكاديمي فرياد فاضل عمر




 
تعرفت على الصديق الشاعر والأكاديمي والباحث الأستاذ فرياد فاضل عمر ببرلين منذ ما يقرب من عقدين من السنين. وكنا نلتقي أحياناً في ندوات الجالية العراقية أو الكردية أو في محاضرات ومناسبات قليلة. ولكني تعرفت على الزميل فرياد من خلال شعره وبعض ندواته التلفزيونية. لقاءاتنا محدودة بسبب مشغولياته الكثيرة ونشاطاته الفكرية والاجتماعية والتضامنية، إضافة إلى أبحاثه العلمية وتدريسه في قسم اللغات الإيرانية في جامعة برلين الحرة وفي القسم الخاص باللغة والأدب الكرديين، وكذلك انشغاله في البحث العلمي.
قبل أيام التقينا بدعوة منه لزيارة معهد الدراسات الكردية ببرلين وقسم اللغات الإيرانية في الجامعة. فكانت مناسبة جميلة للاطلاع على منجزاته العلمية الكثيرة والمهمة جداً للشعب الكردي أولاً، وللألمان والمتحدثين باللغة الألمانية للاطلاع على ثقافة وأدب الكرد ثانياً، إضافة إلى جهوده الكبيرة في إنشاء هذا المعهد العلمي للدراسات الكردية الذي احتل شقة واسعة في منطقة مهمة وحيوية من مدينة برلين، وتكوينه مكتبة علمية وادبية وتاريخية قيمة تحوي عدة ألاف من الكتب الكردية والعربية والأجنبية ونسخ نادرة من المخطوطات الكردية التراثية.
يمارس الشاعر والباحث العلمي نشاطاً كبيرا في خمسة اتجاهات أساسية هي:
1.   التدريس الجامعي منذ أكثر منذ أكثر من ثلاثة عقود في جامعة برلين حيث يدرس الطلبة اللغة الكردية بلهجتيها الكرمانجية والسورانية، وكذلك الأدب والتاريخ الكرديين، علماً بأنه درس في جامعة بغداد وبرلين، قسم اللغات الإيرانية. كما درس في جامعة السليمانية في قسم الدراسات الكردية في منتصف السبعينات.
2.   يمارس البحث العلمي المكثف. فمنذ أكثر من عقدين وهو منشغل في وضع القواميس الكردية الألمانية باللهجتين الكرمانجية والسورانية، ومن ثم القاموس الألماني الكردي. وهو جهد كبير جداً يخدم بهذه القواميس اللغة الكردية والشعب الكردي خدمة كبيرة لنقل الفكر الكردي من اللغة الكردية إلى اللغات الأوروبية عن طريق اللغة الألمانية، لاسيما وأن كلاً من هذه القواميس يضم أكثر من مئة ألف كلمة وموضوعة بطريقة علمية حديثة، إضافة إلى سعيه الآن لترجمة الأدب الكردي إلى الألمانية، وأنجز لتوه ترجمة الملحمة الكردية "مم وژين"، قصة الحب التاريخية، وسوف تطبع في عام 2017، كما استطاع أن يحقق تأمين ترجمة لها باللغة الإنگليزية، وهي جاهزة للطبع. كما قام بترجمة شعر الشاعر الكردي الكبير والإنساني الخالد عبد الله گوران إلى اللغة الألمانية ونشر باللغتين الكردية والألمانية وبطباعة جميلة، صدر هذا العام 2016. ثم ألف، بالتعاون مع الأستاذ إبراهيم أمين بالدار، كتاباً مهماً تحت عنوان "الألفباء الكردية" طبع في العام 2013. كما وضع لنفسه برنامجا للتأليف والترجمة كبير جداً، اتمنى له التحقق الفعلي خلال السنوات القادمة.     
3.   وأنجز الشاعر المتميز عدداً من دواوين الشعر الحديث بمضامين إنسانية ووطنية رائعة، وروح قومية ذات وجهة أممية غير شوفينية، لغة شفافة ورشيقة تجعل القارئ والقارئة يتمتعان بسويعات سعيدة في قراءة شعره، كما شعرت بذلك وأنا أقرأ شعره باللغتين العربية والألمانية. وقام الدكتور زهدي الداودي بترجمة أحد دواوينه الموسوم قصائد الغربة عن الكردية إلى العربية، صدر في عام 1994. وظهرت له دواوين شعرية باللغتين الكردية والألمانية بعنوان "أنوار صوتية" صدر في عام 1988، وصوت قصيدة غريبة في العام 1993، وصوت في الصمت في عام 1998.
وديوان باللغة الفارسية بعنوان أصوات في الغربة في عام 1999، ودواوين أخرى. وفي قصيدة بديعة في مضمونها أيضاً للشاعر فرياد فاضل عمر ترجمها له الشاعر والمؤرخ الدكتور زهيد الداودي في ديوان قصائد الغربة يقول:
يسألوني:
أيهما تحب أكثر،
عينيك أم وطنك؟
أقول: أحبُ عيَنَي و وطَني،
كلاهما كياني، أحبِهُمُا كبعضهما البعض
ولكن
هاكَ
بهاتين العينين،
فدع ولدي
يرَفُلُ حراً
في
الوطن.

4.   العمل على التنسيق بين معهد الدراسات الكردية ومراكز البحوث والتوثيق الكردية على صعيد الخارج والداخل، حيث تعقد اللقاءات والندوات حول برمجة قضايا الترجمة والتوثيق والنشر الكردي.
5.   وأخيراً يمارس الأستاذ فرياد فاضل عمر مهمة تطوعية ذات أهمية فائقة للتضامن مع الشعوب المهددة بالاضطهاد والتعسف والقتل والتشريد، شعوب الكثير من البلدان النامية في القارات الثلاث، (أسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية)، فهو رئيس منظمة الشعوب المهددة، التي مركزها في مدينة گوتنگن بألمانيا، ولها فروع في دول كثيرة، وتصدر المنظمة مجلة تحت عنوان "المذبحة المنظمة Pogrom ", وهي مهمة معقدة وشديدة التشابك، بسبب دورها التضامني في مواجهة تلك الدكتاتوريات والنظم الظالمة التي تضطهد شعوبها وتصادر حرياتهم وتدوس على كرامتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه النشاطات المهمة التي يقوم بها الأستاذ فرياد فاضل عمر ومعهد الدراسات الكردية لا يحظيان بأي دعم مالي أو حتى معنوي من أي حكومة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ولا حتى حكومة إقليم كردستان أو القوى السياسية الحاكمة. 
لقد كان اللقاء حميماً وتحاورنا حول مختلف القضايا التي تواجه منطقة الشرق الأسط والعراق وإقليم كردستان، وبشكل خاص في مجال التعليم.   
أتمنى للزميل والصديق الأستاذ فرياد فاضل عمر استمرار النجاح في مساعيه العلمية والاجتماعية، وارجو له الصحة وطول العمر لينجز ما أخذ على عاتقه من مهمات وبرامج بشأن تعريف التراث الثقافي والحضاري الكردي لأوروبا والعالم.
 

378
إلى الأخوات والأخوة الأفاضل
اسمحوا لي أن أقدم لكم باسمي وبأسم عائلة حميد العطار وبنات وأبناء شقيقته فارس وميادة وفواز وغادة الصافي الشكر الجزيل للطفكم ومواساتكم القلبية بوفاة العزيز الفنان التشكيلي حميد العطار. أرجو أن يبتعد الأذى عنكم جميعاً وأن لا يصيبكم اي مكروه، وأن تتمتعوا بالصحة الموفورة والحياة الهانئة والعمر المديد
مع خالص الود والاعتزاز
كاظم حبيب

379
كاظم حبيب
مات الفنان التشكيلي حميد العطار في الغربة أيضاً!!



التقطت الصورة في 20/11/2016
في يوم 21/12/2016 مات صديق الطفولة والصبا والشباب، مات الفنان التشكيلي والمحامي، مات ابن أخي حميد مجيد حبيب العطار، مات في الغربة وحيداً في وسط العشرات من لوحاته الزيتية الكبيرة ومجموعة من أعمال الجبس التي احتلت حتى فراش نومه ومقعد جلوسه أمام شاشة التلفزيون والحمام والمطبخ في فوضى لا مثيل لها، مات في شقته الصغيرة بضواحي لندن. عثر عليه، من أقرباء وأصدقاء لنا هم الدكتور محمد الموسوي والدكتور مرتضى الموسوي والدكتورة باسمة الموسوي، ميتاً في شقته صباح يوم الأربعاء المصادف في 22/12/2016، بعد أن تغيب عن حضور لقاءاته اليومية مع مجموعة من العراقيين أصدقاء الغربة القسرية بعيداً عن الأهل والأحبة والأصدقاء، بعيداً عن الوطن الذي أحبه وأُجبر على مغادرته أكثر من مرة منذ العام 1963 إلى برلين، ومن ثم في العام 1980، وهي المرة الأخيرة التي تنقل فيها بين دمشق وبيروت والقاهرة ولندن، حيث كانت مستقره الأخير. وكان الوطن ومصائب الوطن هاجسه الدائم وشغله الشاغل في كل أعماله التشكيلية المتراكمة في الشقة التي عاش فيها كأي فنان بوهيمي. منذ ما يقرب من عشر سنوات بعد أن كف عن الرسم واعتزل الحياة الواقعية الفعلية، بعد أن أصيب بمرض الكآبة والشعور الدائم بالوحدة، وخضع لرغبة ملحة في اقتناء الأعمال الفنية الصغيرة من محلات بيع الأنتيكة والأسواق الخيرية التي تراكمت بالعشرات في شقته الصغيرة، إذ لم يعد يهتم بمأكله ومشربه، ولكنه حافظ على رشاقته ووسامته ونظافة ملبسه حتى اللحظة الأخيرة.     
ولد حميد في 2/2/1933 بمدينة كربلاء ودرس الابتدائية والثانوية فيها، ثم أكمل دراسته العالية في كلية الحقوق في الخمسينيات من القرن العشرين. من زملاء الدراسة المتوسطة والثانوية الكاتب والشاعر والطبيب الدكتور صباح جمال الدين.
 كان فناناً بالفطرة، ثم درس الفن في كلية الحقوق على يد الفنان التشكيلي القدير من الرواد الأوائل عطا صبري. وكان من زملاء وأصدقاء ومعارف حميد العطار مجموعة من الفنانين المبدعين، منهم كاظم حيدر ومحمد مهر الدين وعيدان الشيخلي وفيصل لعيبي وعشرات آخرين من خيرة فناني العراق التشكيليين. شارك في الكثير من المعارض الفنية التشكيلية بالعراق وفي الخارج، وآخر معرض مشترك له كان بمدينة لندن قبل عدة سنوات. 
عرف حميد العطار في بداية حياته الفنية برسم الأسواق البغدادية والطبيعة. وكنت أحتفظ بداري ببغداد بمجموعة من لوحاته الجميلة، بما فيها لوحة الخريف، إلى جانب لوحات أخرى لفنانين آخرين، التي صودرت كلها من قبل جهاز الأمن البعثي في بداية العام 1979 ببغداد، بعد أن صودر البيت أيضاً.
الذكرى الطيبة للعزيز الغالي، للفقيد الحبيب حميد العطار
23/12/2016           

380
بمناسبة قرب حلول أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة
لكم أيها الأحبة التهاني الحارة والتمنيات الطيبة بمناسبة قرب حلول أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة، راجياً لمسيحيي العراق، الذين عانوا الأمرينخلال السنوات المنصرمة، ولبقية ابناء الشعب العراقي وخاصة الإيزيديين منهم، استعادة مفقوديهم والمسبيين منهم، والعودة إلى مناطق سكناهم واستعادة حياتهم الطبيعية الحرة والكريمة والمتساوية، ولنعمل جميعاً من أجل خلاص للعراق كله من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة لكل الشعب وفساده وما يتسبب به من إرهاب وظلم واضطهاد.
لتسد المحبة والوئام والتعاون بين العراقيات والعراقيين من جميع القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، وليسد السلم الاجتماعي في ظل دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحترم المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة، وليسد السلام على أرض السلام الذي فقدته منذ أكثر من خمسة عقود. مع خالص الود والاحترام
كاظم حبيب 



381
هل سيلاحق الشعب نوري المالكي كما لاحق صدام حسين؟
2-2
إن رئيس الوزراء المستبد بأمره قد أزيح عن السلطة في العام 2014 بعد نكبة نينوى، بعد أن أصبح مؤذياً للمرجعية الشيعية بالنجف وللأحزاب الإسلامية السياسية، فوضع في مكانه عضو في قيادة حزبه، حزب الدعوة الإسلامية. إلا إن المالكي لم يستطيع تحمل هذه الإزاحة والإهانة، فصلافته لا حدود لها، إذ أنه يسعى، ومنذ أشهر، للعودة إلى قيادة السلطة وبدعم كبير من إيران. لقد ساعد كل من رئيس الوزراء الحالي ورئيس مجلس القضاء الأعلى في عودة هذا الرجل إلى وظيفته كنائب لرئيس الجمهورية وإلى التحرك النشط، بعد إزاحته منها. فقرار الإزاحة تم بقرار من رئيس الوزراء دون عرضه على مجلس النواب، وكان العبادي يعرف إن مثل هذا القرار الفردي يمكن أن يعيده إلى منصبه، ولم يجرأ على عرض القرار ابتداءً على مجلس النواب، كما أن رئيس مجلس القضاء الأعلى، العاشق المتيم بفكر وممارسات المستبد بأمره، كما تبدو كل مواقفه، أعاده بقرار من المحكمة الاتحادية إلى منصبه السابق، فبدأ بتحركه الجديد المشبوه والمضر. 
يبدو أنه اعتقد بأن الشعب، رغم قصر ذاكرته، نسى ما تسببت به سياساته من موت وخراب ودمار وفساد وإرهاب. ولهذا تحرك صوب إقليم كردستان ليلتقي بقيادات الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير ليزيد من توتر العلاقات بين هذين الحزبين والحزب الديمقراطي الكردستاني ويدفع بها إلى القطيعة النهائية، بعكس المحاولات الأخرى لحل المشكلات بالطرق الدستورية والحكمة ومصلحة العشب. وقدم للحزبين وعوداً بالخير العميم، ووعوده، كما تعود الشعب عليها:
"مواعيد عرقوب لها مثلاً      وما مواعيده إلا الأباطيل"،
إذ ما يزال الشعب يتذكر طلبه مهلة 100 يوم ليصلح كل شيء بعد مظاهرات 2011، ولكنه غاص في مستنقع الطائفية وتخريب العلاقات والاعتقالات الكيفية والتعذيب وغير ذلك. ثم أرسل عضوة حزبه والنائبة في مجلس النواب عن قائمته، حنان الفتلاوي، لتزيد من حدة التوتر وتنشط الخلافات وتلقي بالمزيد من الحطب والزيت على النار المشتعلة! وهذه الزيارات جزء من خطة إيرانية تهدف إلى تعميق الصراع في إقليم كردستان، وخلق أجواء تساعد على البدء بالتهيئة الفعلية لعودة المالكي إلى السلطة!!!
ثم قام أخيراً المستبد بأمره بزيارة إلى الناصرية والعمارة والبصرة. وجوبه بالناصرية بمظاهرات حاشدة لم يتوقعها تتهمه بـ "راعي الفساد" والتسبب بمقتل 1700 مواطن مجند في معسكر سپايكر. أما زيارة المالكي للعمارة، فقد انتهت كسابقتها. فقد طوق المتظاهرون الفندق الذي نزل فيه نوري المالكي، موجين له سلسلة من الاتهامات كالوقوف وراء الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية المتعاقبة بالبلاد، وهم يؤكدون إسهامه الكبير بإذكاء "نار الفتنة" بين فئات الشعب بسبب اتباعه سياسات "طائفية" فاقمت الأوضاع تدهوراً، ويشيرون إلى أن المحافظات العراقية المختلفة لا تزال ترزح تحت نير "الارث السيء للمالكي".
أما زيارته للبصرة، إذ كان يعتقد جازماً، وهو المصاب، كما يبدو، بالنرجسية المرضية، بأنه سيقابل بالورود والرياحين والتسبيح والتكبير بحمده من جانب أهل البصرة الفيحاء. وإذا به يفاجأ بحشود المتظاهرين وهم يهتفون "ملعون المالكي"، و "تبقى المحافظات حرة والمالكي يطلع برة". وما كان من أحد أعوانه إلا توجيه مسدسه صوب الجماهير المحتجة على وجود المالكي بالبصرة.
كم كان محقاً السيد علي حسين في عموده الثامن ابزم 11/12/2016 حين كتب عن تحدي أزلام رئيس الوزراء السابق ما يلي: "إذن لا بد أن يكون الخزاعي في خدمة نوري المالكي، وحزب الدعوة أيضا مناصراً لـ "فخامته"، هذه ببساطة النتيجة الوحيدة التي تخرج بها بعد مشاهدتك للفديو الذي يقوم به عرّاب المصالحة الوطنية  ومُنظّرها عامر الخزاعي وهو يشهر مسدسه في وجوه المتظاهرين. وفي هذا المشهد والحمد لله – أطلّ علينا حزب الدعوة مستفزّاً ليشتم المتظاهرين، ويصفهم بالخارجين على القانون  ويحذرهم من أنّ أمينه العام سيقوم بصولة قانون جديدة، بعد أن يجلس على كرسيّ رئاسة الوزراء قريباً، ..."!!!
هل عرف الشعب العراقي أخيراً ما تمارسه قوات الحشد الشعبي من أعضاء المليشيات الطائفية المسلحة، وبمشاركة بعض فصائل الجيش العراقي المتسمة بالتمييز الديني والطائفي، من هدم وجرف للبيوت ومناطق سكن المسيحيين وكنائسهم في شمال العراق، بهدف منعهم من العودة إلى مناطق سكناهم. وهذا الفعل الإجرامي استكمال لما قامت به عصابات داعش بطرد المسيحيين أو قتلهم وتشريدهم، وما قامت به قيادة المجلس الإسلامي الأعلى بشراء دور سكن واراضي زراعية في برطلة بأسماء من الشبك الشيعة وبأموال إيرانية سخية تدفع لصاحب الدار المسيحي الفقير، وهي شبيهة بما كان يقوم به الصهاينة في شراء دور سكن الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين بدفع مبالغ طائلة لهم مقابل ذلك. إنها جريمة جديدة ترتكب بحق مسيحيي العراق من جانب المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة الملتحقة والمكونة للهيكل العظمي للحشد الشعبي وبقيادة قاسم سليماني الموجود حالياً بالعراق ويقود هذا الحشد، والذي قال نوري المالكي إنه المؤسس لهذا الحشد وقبل دعوة المرجعية لوجوب "الجهاد الكفائي"! 
لم يدرك هذا المستبد بأمره حتى الآن ما ارتكبه من بشاعات بحق هذا الشعب المستباح الذي ما يزال يخوض حرباً مريرة ضد عصابات داعش والتي يقدم فيها أغلى التضحيات، سواء أكانت من القوات المسلحة أم قوات الپيشمرگة أو من المتطوعين، إضافة إلى الخسائر المادية والحضارية التي لحقت وما تزال بالمنطقة وبالثقافة والتراث العراقي الأصيل، كما لم يدرك عظم المعاناة والمرارة التي تواجه جميع النازحات والنازحين والمهجرات والمهجرين قسراً عن مناطق سكناهم، ولاسيما معاناة الأطفال والصبية والشباب. والغريب بالأمر أن المستبد بأمره حرك أزلامه ليشنوا حملة دعائية وقحة ضد الشخصية الثقافية الديمقراطية والناشط المدني والاجتماعي والكاتب الأستاذ على حسين محرر العمود الثامن في جريدة المدى، بسبب نقده الواقعي والموضوعي لسياسات نوري المالكي الطائفية والمصائب التي تسبب بها للعراق وشعبه. وقد ساهم هذا الموقف في الكشف عن طبيعة المجموعة التي لا يهمها رأي الشعب وهمومه ومشكلاته، بل المهم عندهم وعند سيدهم الهيمنة على ما يمكن الوصول إليه بالعراق المنهوب والمنكوب بهم وبغيرهم من الحكام الحاليين!!! وكما قال أبو تمام حبيب بن أوس بن حارث الطائي (788 – 845م):
إن لم تخـش عاقــبـة اللـيالي                  ولم تستح فافعـل ما تشاء
أثق بأن الشعب العراقي سوف لن ينسى محاسبة رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي، وسوف لن ينسى من حاول تبييض الصفحة البائسة لهذا الشخص، ومحاولة إعادة تسويقه، والعواقب الوخيمة التي تسبب بها خلال سنوات حكمه وما بعدها. إن الشعب العراقي يمهل ولا يهمل، وسيبقى يلاحق رئيس الوزراء السابق كما لاحق المجرم صدام حسين، وإذا كان الأول قد حكم عليه بالإعدام شنقاً، وكنت ضد قرار الإعدام، أتمنى أن يحاكم نوري المالكي بعدالة وأن يتلقى عقابه العادل من قضاء عراقي يتمتع بالاستقلالية والنزاهة واحترام القانون، وأتمنى ألّا تكون عقوبته الإعدام، بل الحبس مدى الحياة، إن ثبتت التهم الكبيرة الموجهة له، وتقرير لجنة مجلس النواب عن التحقيق في أحداث الموصل، بأمل أن تتجسد أمامه، وهو في السجن، ما تسبب به لهذا الشعب الأبي والمستباح حتى الآن!!!


382
مسودة مشروع ورقة حول التشاور بين القوى المدنية الديمقراطية
كيف السبيل للبدء بتحقيق وحدة النضال من أجل عراق حر، ديمقراطي ومستقل؟

الأسئلة التي تراود الكثير من عراقيات وعراقيي الداخل والخارج، الأسئلة التي تؤرقهم في تحريهم عن جواب شاف لها هي: هل من نهاية فعلية محتملة للاختلافات والخلافات القائمة بين القوى والأحزاب والشخصيات الديمقراطية المدنية العراقية؟ هل من سبيل لتحقيق الوحدة النضالية بين هذه القوى في مواجهة تحديات المرحلة المعتمة في حياة الشعب العراقي؟ هل من إمكانية لتحقيق جبهة وطنية نضالية موحدة في مواجهة الإصرار على فرض الدولة الإسلامية السياسية واستمرار المحاصصات الطائفية المذلة للشعب العراقي وإذلال مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية، من جانب القوى الطائفية المتحكمة، على الدولة وسلطاتها الثلاث ومؤسساتها والسلطة الرابعة؟ هل من سبيل لوضع برنامج نضالي تجتمع عنده وتدافع عنه وتناضل من أجله كل القوى الديمقراطية، اليسارية منها واللبرالية المدنية الديمقراطية والمدنيين العلمانيين من الإسلاميين؟ هل من سبيل لمواجهة تفاقم مريع في الفجوة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين فئات المجتمع في غير صالح الكادحين والفقراء والمعوزين والأرامل والأطفال في المجتمع العراقي؟ أسئلة كثيرة أخرى تراود الإنسان العراقي المدرك لحقائق الوضع الراهن وما يجري بالعراق وما يراد له الآن وفي المستقبل من آفقٍ معتم ومرير من جانب قوى متسلطة وفاعلة بعينها في الداخل، ومن دول وقوى الجوار العراقي وعلى الصعيد الدولي.
ليس هناك من وصفة جاهزة يمكن أن تقدم لتنهي هذا الوضع غير المقبول وغير المطلوب حالياً في صفوف القوى المدنية والديمقراطية والتقدمية واليسارية بالعراق، رغم التجارب الغزيرة التي مرّت بها عبر العقود المنصرمة ومنذ ولادة الدولة الملكية العراقية الحديثة في العام 1921، ولاسيما منذ الثلاثينيات من القرن الماضي. ولكن كيف يمكن التحري، عبر جهد جماعي مشترك، عن وصفة عقلانية هادفة وذات طبيعة ديناميكية قادرة على التفاعل مع مجرى الأحداث وحركة ووعي الناس لتحقيق الهدف المنشود.
للتو انتهى المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي العراقي وانتخب قيادة جديدة فيها مجموعة من الشباب، الذين يفترض أن يكونوا معبأين بالجديد من الفكر والجرأة على اقتحام الصعاب فكراً وسياسة وممارسة، إلى جانب من امتلك غنى الخبرة الطويلة عبر سني النضال، كما وجه رسائل ودعوات ومشروعاً لتعبئة قوى الحزب ومن هم حوله والقوى المدنية والديمقراطية العراقية، ورؤية سياسية تشير إلى نوع من التغيير الإيجابي في نهجه صوب التعامل  مع السلطة والواقع العراقي المرير.
وللتو تشكل حزب جديد بالعراق هو "حزب التيار الديمقراطي الاجتماعي"، (وكنت شخصياً أفضل له أن يكون اسمه الحزب الديمقراطي الاجتماعي)، الذي يضم نخبة من العناصر الديمقراطية المثقفة وذات الخبرة النضالية الطيبة. وكلا الحزبين يعملان في إطار التيار المدني الديمقراطي العراقي. وفي هذا التيار توجد شخصيات وطنية وديمقراطية ويسارية مستقلة وربما كتل أخرى لم تتبلور كياناتها حتى الآن.
وهناك إلى جانب هذه القوى العديد من الأحزاب والكتل اليسارية التي لم تنسق مع التيار الديمقراطي، مثل الحزب الشيوعي العمالي اليساري وغيره. كما إن هناك عدداً كبيراً من الشخصيات الوطنية والديمقراطية العراقية التي لم تنتم لأي من هذه الأحزاب والقوى السياسية والتي لم تجد فرصة للتعبير عن مواقفها السياسية أو لم تنخرط أصلاً في العمل السياسي ولكن يؤرقها بشدة ما هو حاصل بالعراق.
وعلى صعيد القوى السياسية في إقليم كردستان العراق، التي شكلت في فترات النضال الطويلة، حليفاً أساسياً للحركة الديمقراطية والتقدمية العراقية، ومناضلاً من أجل عراق حر وديمقراطي مستقل، وفي سبيل الحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي، تعيش اليوم ابتعاداً واضحاً عن القوى الديمقراطية والتقدمية العربية وغير العربية بالعراق، وتعاني من صراعات حادة تهدد المكاسب الفعلية التي تحققت لشعب كردستان العراق، وللكرد منهم بشكل خاص. وتلعب القوى الإسلامية السياسية ودول الجوار دوراً كبيراً في تشديد هذه الصراعات وفي إبعادها عن القوى الديمقراطية العراقية. وقد أدى هذا الابتعاد إلى ضعف فعلي وحقيقي في جبهة القوى المدنية والديمقراطية العراقية في غير صالح الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي بالبلاد. وضعف هذه الجبهة يعني تعزيزاً للقوى الطائفية والعنصرية والشوفينية المعادية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والأمن والسلام والتقدم بالعراق.
إن وعي هذه الوقائع الصارخة يفترض مبدئياً أن يدفع بالجميع إلى التفكير بحلول عملية تساعد على تجميع القوى كلها في اصطفاف جديد لصالح ما ناضلوا من أجله عقوداً طويلة ومريرة. فهل في الأفق القريب ما يساعد على تحقيق مثل هذا التوجه الذي تفرضه مصالح كل القوميات المتعايشة بالعراق وأتباع كل الديانات والمذاهب الدينية والفكرية والاتجاهات السياسية غير الاستبدادية وغير الشوفينية والطائفية.
إن السؤال الذي يواجه من يبحث في مثل هذه القضية الشائكة والأساسية هو: كيف نبدأ لتحقيق مثل هذا التوجه العقلاني للقوى المدنية والديمقراطية على صعيد العراق كله؟
الشرط الأساس والبداية المشجعة تستدعي الرؤية المشتركة أو المتقاربة بإن الوضع بالعراق مريض، ومريض جداً، ويستوجب معالجته جذرياً وجدياً، وعبر تعاون كل القوى ذات المصلحة الفعلية بالتغيير والإصلاح الجذريين للعراق الراهن. كما يفترض التمَّيز بالتواضع والاحترام المتبادل في التعامل في ما بين القوى المدنية والديمقراطية العراقية. وإذا ما تم الاتفاق على ذلك، يمكن البدء بالدعوة إلى مؤتمر واسع تلتقي عنده كل الأحزاب والقوى والشخصيات المدنية والديمقراطية واليسارية والإسلامية العلمانية العراقية من العرب والكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان، والجماعات المضطهدة من أتباع الديانات الراغبة في إيجاد الحلول العملية والسلمية للواقع العراقي الراهن وبناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، لتناقش ورقة عمل مكثفة، ذات خطوط عامة وأساسية، يمكن أن يتم اختيار شخصيات وطنية حزبية وغير حزبية لوضعها لتكون قاعدة للنقاش في هذا المؤتمر.
من هنا لا أجد ضرورة لطرح تصورات محددة حول مضمون ورقة العمل، بل إذا ما تم الاتفاق على ذلك عندها يمكن تأمين التعاون لوضع ورقة عمل لهذا الهدف النبيل.     
كاظم حبيب
17/12/2016         


383
كاظم حبيب
هل سيلاحق الشعب نوري المالكي كما لاحق صدام حسين؟
1-2
ابتلي الشعب العراقي على امتداد تاريخه الطويل بالكثير من المستبدين الأوباش الذين أذاقوا الناس الذل والموت والخراب والحرمان. كان المستبدون أمناء للنظم السياسية والاجتماعية الاستغلالية والاستبدادية الظالمة التي أنجبتهم وجعلت منهم سيوفاً قاطعة لرقاب أبناء وبنات المجتمع ممن لهم القدرة والجرأة على التفكير المستقل ورفض الاستبداد وإرهاب السلطة ومقارعتها بشتى السبل المتوفرة. وتميز كل المستبدين بالوقاحة والصلافة وعدم الحياء من أفعالهم ولم يتورعوا عن إقحام الشعب بحروب مهلكة للمجتمع واقتصاد البلاد وكرامة الناس وعيشهم.
كان صدام حسين أبرز وأشرس الحكام المستبدين الذين عرفهم العراق منذ عقود بل وقرون، إذ لم يكتف بضرب معارضيه وقتلهم أو زجهم في السجون لسنوات طويلة وتعريضهم لأبشع أشكال التعذيب النفسي والجسدي حسب، بل وزج الشعب العراقي بعدة حروب متتالية دمرت البلاد وأتت على الأخضر واليابس فيها، وحول العراق إلى سجن كبير. وكان الشعب ضعيفاً ومنهكاً أمام جبروت النظام وأجهزته البوليسية وأدواتها التدميرية، كما كانت القوى المعارضة للنظام قد تلقت ضربات موجعة عجزت معها عن إسقاطه، فاستنجد أغلبها بالولايات المتحدة لإنقاذه من نظام صدام حسين، وكانت في ذلك مثل "المستجير من الرمضاء بالنار"!! إذ لم يكن هدف الولايات المتحدة إسقاط الدكتاتورية والخلاص من الدكتاتور الأهوج بالأساس، بل بأمل تدمير العراق اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وبيئياً، وتسليط نظام سياسي طائفي مستبد ما زال يجثم على صدر الشعب العراقي ليزيد من تدمير بنية المجتمع الطبقية وتشطير نسيجه الوطني وتزييف إرادته وتشويه وعيه الاجتماعي والديني. وهو ما تحقق لها فعلاً.
والنظام السياسي الطائفي الجديد، الذي يعتمد المحاصصة الطائفية والإيديولوجية الدينية المشوهة والواحدة، أنجب الوليد المشوه، المستبد بأمره الأكثر تشدداً في أيديولوجيته الطائفية المتطرفة والأكثر حقداً على الآخر، وهو الأكثر عشقاً للسلطة والمال والنفوذ والأكثر دوساً لكرامة الإنسان العراقي.
لقد انجب النظام الطائفي المحاصصي الجديد أو رعا، مستفيداً من تركة النظام البعثي الشوفيني والدكتاتوري الذي سبقه، مجموعة من الأحزاب السياسية الدينية المتسمة بالرثاثة الإيديولوجية والتطرف والكراهية وتنشيط الأحقاد بين الناس, ومجموعة من السياسيين الذين لا هم لهم سوى ملء الجيوب بالمال الحرام واقتناء القصور في الخارج وعلى حساب جوع وحرمان الملايين من البشر العراقي ومن مختلف القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية.
 لقد ابتلي العراق بدكتاتور صغير يعاني من نرجسية مرضية، عاشق لذاته وكاره للآخر، جيء به في غياب الوعي الإنساني وضعف القوى الديمقراطية، وحصول تحالف مصلحي بين الإدارة الأمريكية والإدارة الإيرانية، وتهليل صارخ من المرجعية الشيعية، وفي ظل تنافس أهوج بين الأحزاب الشيعية والسنية على السلطة والمال والنفوذ، ليمارس الحكم والاستبداد الجامح بالأساليب الهمجية للإقطاعيين في تعاملهم مع الفلاحين الأقنان مستفيداً من الردة الفكرية والاجتماعية التي برزت بقوة في عهد الدكتاتور صدام حسين وتفاقمت في عهد هيمنة بأول بريمر ونوري المالكي على حكم البلاد، وكلاهما كان مستبداً بأمره أو أمر أسياده.
لقد نفذ هذا الدكتاتور الأرعن أجندة التحالف الذي نصّبه في السلطة وأعاد تنصيبه لدورة ثانية، والتي أدّت إلى:
** تمزيق وحدة الشعب قومياً ودينياً وطائفياً وفكرياً وسياسياً، وإشعاله حرباً طائفية طاحنة تجلت في النهج العدواني واللصوصي للمليشيات والمنظمات الطائفية الإرهابية المسلحة، وفي التفجيرات الانتحارية والقتل على الهوية والاغتيالات والاختطافات التي راح ضحيتها مئات الألوف من الناس الأبرياء. 
** التهميش والإقصاء لأتباع القوميات والديانات والمذاهب الأخرى وتعريض نسبة عالية جداً من أبناء وبنات العراق من مندائيين ومسيحيين وإيزيديين، وسنة وشيعة إلى الموت أو الهجرة والتشرد. 
** تجويع الشعب نتيجة غياب السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، وسيادة الإجراءات الاقتصادية الرثة والموجعة للاقتصاد والمجتمع، والمتعارضة مع حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية، فارتفعت نسبة البطالة والفقراء والمعدمين إلى مستويات عالية جداً، يتجنب ذكرها النظام!
** إشاعة سياسات "اكذبوا ثم اكذبوا ثم اكذبوا، لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس"، هكذا تعامل المستبد بأمره مع القوى الديمقراطية والمدنية التي تظاهرت في العام 2011 وكذلك مع مطالب أهل الفلوجة والأنبار وصلاح الدين والموصل، مما أدى إلى المزيد من موت وخراب الناس، وإلى انتعاش قوى الإرهاب والتكفير وسيطرتها على مناطق واسعة من محافظات غرب العراق.
** وكانت الطامة الكبرى في سياسة هذا المستبد بأمره في تكريس نظامه الطائفي، "أخذناها بعد ما ننطيه، والفساد في القوات المسلحة العراقية، كما وضع أعداداً كبيرة منها في الموصل، التي قادت إلى تسليم الموصل لعصابات هجينة وهمجية، عصابات داعش، بقيادة أزلام النظام السابق، ولاسيما من جهاز المخابرات وفدائيي صدام حسين. عندها حصلت أكبر كارثة في حياة الشعب العراقي منذ الحرب العالمية الأولى حتى الآن، حين تم اجتياح الموصل واستباحة أهلها ومناطق واسعة جداً من نينوى من قبل عصابات داعش المسلحة، وتعرض مئات ألوف البشر إلى عمليات قتل وتشريد وسبي واغتصاب وبيع في سوق النخاسة لأخواتنا النساء الإيزيديات، وسبي المئات من الصبيان ايضاً. لقد تسبب في وقوع إبادة جماعية بحق شعبنا من ديانات ومذاهب أخرى بالموصل وعموم نينوى. لقد أراد المستبد بأمره، كما يبدو، أن يلقن السنة والكرد درساً حين يترك داعش تغزو المنطقة، ثم يبدأ بتحريرها ليصبح البطل والمنقذ من جهة، ثم يفرض سياساته وأجندته على السنة والكرد بالقوة من جهة ثانية. وكان ما كان وما هو جاري حتى الآن!! 
** ثم كانت جريمة سبايكر التي راح ضحيتها أكثر من 1700 مجند عراقي كلهم، كما يبدو، من أبناء الشيعة الذي كانوا يتدربون في ذلك المعسكر، ولم يكن بينهم شبيبة سنية أو مسيحية أو إيزيدية، لإن المستبد بأمره كان يريدهم جميعاً من الشيعة، وكانت الكارثة على الشيعة في سبايكر.   


384
د. كاظم حبيب
نقاش هادف حول الحشد الشعبي بالعراق مع الدكتور صادق إطيمش!
نشر الدكتور صادق أطيمش مقالاً في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 2/12/2016 تحت عنوان "قانون الحشد الشعبي ما له وما عليه . . .". أشار فيه إلى البطولات التي سطرها هذا الحشد في مقارعة داعش منذ أن بدأت المعارك وبعد أن دعا المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني إلى وجوب "الجهاد الكفائي". وقسم قوات الحشد الشعبي إلى ثلاث مجموعات كما جاء في مقاله:
"المجموعة الأولى التي يشكلها المتطوعون استجابة لنداء الجهاد الكفائي والذين لم يسبق لهم ان ساهموا في اي من التنظيمات المسلحة التابعة للأحزاب الحاكمة والتي انتظمت في هذا الحشد، وشكلت المجموعة الثانية الكبرى له. اما المجموعة الثالثة فهي التي شملت ابناء العشائر الذين استجابوا لنداء الوطن وانتظموا في صفوف القوى العراقية المقاتلة في مواجهة عصابات الدولة الإسلامية واعوانها. بالنسبة للمجموعة الثانية والتي ارتبطت تشكيلاتها وفصائلها المسلحة بتوجهات مذهبية واصطفافات دينية معينة في اغلب الحالات، وانتماءات حزبية لقوى الإسلام السياسي، وحملت السلاح خارج نطاق المؤسسات الحكومية ومارس بعض أرادها أعمالاً لاقانونية، لا تختلف عن اي عمل ارهابي، انعكست سلباً على الأمن العام في كثير من المحافظات العراقية، وساهمت في تعميق التمحور الطائفي وسياسة المحاصصات التي تمارسها الأحزاب الحاكمة، فإنها شكلت القوة العسكرية الفاعلة في الحشد الشعبي وبرز قادتها بشكل ظاهر على ساحات القتال."
ثم تبنى الدكتور إطيمش وجهة تؤكد ضرورة جعلها ضمن وحدات الجيش العراقي أو الشرطة العراقية، وليس كقوة رديفة لها. وتجلت تساؤلاته "اللا أدرية" ذات المضمون التهكمي في النصين التاليين: "لا أدرى لماذا لا تكون هذه التشكيلة العسكرية ضمن تشكيلات الجيش او الشرطة الاتحادية، ولماذا يكون لها كيان خاص ضمن القوى الأمنية العراقية.؟" ثم "ولا أدرى ايضاً لماذا يجب ان تحتفظ هذه التشكيلات، التي ابدت فعلاً بلاءً حسناً في معارك التحرير، " بهويتها وخصوصيتها؟". 
وعلى العموم، فالدكتور إطيمش كتب بصواب حقيقة المجموعة الثانية وأفعالها قبل وأثناء العمليات الجارية ضد داعش. وعلينا ألا ننسى بأنها وهي تحارب ضد داعش، رفعت الإعلام التي تتحدث عن ثارات الحسين التي لا تعني في الميثولوجيا الشيعية سوى أهل السنة، والتي حاول تكريسها نوري المالكي في خطابه بكربلاء بعد تخليه القسري عن السلطة. ومع ذلك فالكاتب إلى جانب وجود هذا الحشد وقواته، ولكن يريده أن يكون ضمن القوات العراقية. بعد أن قرأت المقال مرتين، أدركت ضرورة مناقشة الدكتور صادق إطيمش لدوره في التنوير الديني والاجتماعي وإمكانية تأثيره على فكر الشباب بالعراق وضرورة توضيح الأمور قدر الإمكان.
لقد أقر مجلس النواب قانون الحشد الشعبي واعتبره رديفاً للقوات المسلحة العراقية بكل أصنافها، وبالتالي أوجد مجلس النواب قوة عسكرية منافسة فعلية للقوات المسلحة وستكون مهيمنة عليها، بسبب دعم الأحزاب الشيعية الحاكمة لها، إضافة إلى إيران الطائفية التي ستمدها بأسباب القوة لتفرض إرادة الأحزاب الشيعية الطائفية وإرادة إيران على البلاد وعلى الشعب العراقي والعراق برمته.
لقد دق قانون الحشد الشعبي أسفين الفرقة بين المسلمين العرب شيعة وسنة. وإذا كانت هذه الفرقة والتنافس المخل والصراع المدمر حتى الآن على مستوى الأحزاب الإسلامية السياسية السنية والشيعية، فأصبح اليوم وبشكل رسمي على مستوى المجتمع والدولة العراقية، وهو الأمر الأكثر خطورة. وعلى المرجعية، التي نادت بوجوب "الجهاد الكفائي" وأنتج بالمحصلة "الحشد الشعبي"، أن تتحدث الآن وتعلن عن موقفها الصريح، ومن منطلق مصلحة العراق كله لا جماعة وطائفة منه، من هذا القانون.
ارتاح لهذا القانون وأيده علانية، سواء أكان التأييد في مجلس النواب أم خارجه، كل من كان يسعى ويعمل لنشر الفرقة بين الشيعة والسنة ليفرض مصالحه، وكل من كان يسعى ويعمل لهيمنة إيران على القرار السياسي العراقي وعلى القوات المسلحة العراقية وعلى الدولة العراقية كلها. وهو الخطر الأكبر الذي يواجه العراق.
لقد أخطأ من أقر وأيد هذا القانون من أبناء المجتمع العراقي بكل قومياته، لأنه سيكون الحاضر دوماً في الصراع العربي الكردي، وسيكون القبضة الضاربة ومن منطلقات قومية شوفينية وطائفية في آن، وسيكون اليد الضاربة في الصراع السني - الشيعي، تماماً كما حصل في الفلوجة والأنبار وصلاح الدين، في فترة حكم المستبد بأمره نوري المالكي، وسيكون الأداة التي ترفض الإصلاح الحقيقي والتغيير بالعراق، وستكون الأداة المساندة الفعلية للمحاصصة الطائفية اللعينة التي مزقت هوية المواطنة لصالح الهوية الفرعية الشيعية، وسيطالب قادة الحشد الشعبي بالسلطة كلها لا "بجزء منها!"، بعد أن يتم طرد داعش عسكرياً من الموصل، وليس فكرياً وسياسياً، كما وليس حواضنه، ما لم يستعيد العراق عافيته بالخلاص من النظام الطائفي المحاصصي الراهن!
إن الحشد الشعبي سيكون، كما عبر عنه نوري المالكي، من "أنصار الحسين"، لينتقم من "أنصار يزيد بن معاوية"، إذ إن المعركة بينهما ما تزال مستمرة، كما صورها الطائفي المهووس. هكذا كان، وهو ما يزال كذلك نوري المالكي، إذ يريد للحشد الشعبي أن يكون قوة رسمية خاضعة للتحالف الوطني بأمل أن يستمر هذا الصراع على صعيد العراق كله، وينتهي بإخضاع الجميع لإرادته!
لقد أخطأ التحالف الكردستاني أيضاً في التصويت إلى جانب قانون الحشد الشعبي، وأمل أن لا يحصدوا عواقب التصويت إلى جانب الأحزاب الشيعية الطائفية، التي لا تريد الخير للشعب الكردي ولا للوحدة الوطنية العراقية، بل تريد الهيمنة والمشاركة الأساسية في نهب أموال الشعب، كما جرى حتى الآن. وإذا كان البعض منهم قد تصور بأن هذا يشدد العداء بين الشيعة والسنة العرب على المدى القريب والمتوسط وبعد الانتهاء من داعش، فهو مخطئ، إذ يمكن أن يتحدا مؤقتاً ليوجها النار ضد الكُرد! 
لقد بدأت فكرة الحشد الشعبي لدى رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في العام 2012 حتى قبل بدء تشدده بعنجهية وبذهنية استبدادية إزاء مطالب أهالي الفلوجة والمحافظات الغربية والموصل، والتي قادت إلى ما هو عليه العراق حالياً. وجاء تصريح المالكي في لقاء مع الشاشة التلفزيونية "آفاق" وقدمت من تلفزيون قناة "النجباء" أيضاً وغيرها، إذ قال بالحرف الواحد ما يلي:
"أمام الاعتصام وانطلاق داعش ومنظمات طائفية أخرى، ما كان أمامي إلا أن أدعو وأسس الحشد الشعبي، نعم أنا المسؤول الأول، أنا الذي أسس الحشد الشعبي، أنا الذي قدمت له كل ما يحتاج من دعم وإسناد، وتأسيس الحشد الشعبي استراتيجية تحدثت عنها منذ زمان، والان صدرت استراتيجيتنا لتواجهه التحديات". وهنا يقصد استراتيجيات التحالف الوطني المعروفة في تكريس النظام الطائفي بالعراق وابتلاع الإصلاحات الجذرية والتغيير الذي يطالب به المجتمع وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، في وثيقة "التسوية الوطنية" التي تكرس الوضع القائم، كما اشار إلى ذلك بصواب الدكتور حميد الكفائي في مقال له تحت عنوان "التسوية العراقية إذ تحتاج إلى قيادة تاريخية كتب يقول: "خطاب التسوية (الحديث) هو نفسه الخطاب القديم، وهو لن يوصِل إلى حل لأزمة كان الخطاب والسياسات التــي بُنيت عليه، قد ولّدتها. الدولة العصرية القوية لا تتحدث عن مكونات وأديان ومذاهب، خطابها ليس فئوياً بل وطني وإنساني، يُشعِر الناس بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وفي الوقت نفسه لا يناقض العقائد أو المذاهب الدينية أو الفلسفية العقلانية السائدة في المجتمع.".(جريدة الحياة بتاريخ الأحد 27 تشرين الثاني 2016).
الحشد الشعبي لم يؤسس بناء على فتوى المرجعية الدينية الشيعية التي صدرت بتاريخ 13/6/2014 والتي أعلنت في بيان لها وجوب "الجهاد الكفائي"، في حين إن تأسيسه كان قد حصل فعلياً قبل ذاك، وبالتالي التحق المتطوعون الذين استجابوا لفتوى المرجعية بالحشد بعد صدور الفتوى. وحتى اليوم لم تتحدث المرجعية ولا من يمثلها بكلمة واحدة عن الحشد الشعبي، بل جرى الحديث والتركيز على كلمة "المتطوعين"، إذ، كما أرى، أدركت المرجعية مخاطر هذا الحشد الشعبي لأسباب ترتبط بطبيعة تكوينه وعمليات الإرهاب التي مارسها وعقائديته المتطرفة وتبنيه لولاية الفقيه الإيرانية وضد النهج الحوزي العراقي.
"الحشد الشعبي" مكون من ثلاث جماعات. لا أختلف في هذا مع الدكتور صادق إطيمش، رغم أن رجال العشائر الذين تطوعوا التزموا بدورهم بقرار المرجعية الدينية الشيعية. ولكن الجماعة الثانية هي بيت القصيد، هي التي تشكل الهيكل العظمي والمركزي والأساسي للحشد الشعبي أولاً، وقادة المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، هم قادة الحشد الشعبي بالمطلق، وعلى رأسهم هادي العامري وأبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي، وأبو الفضل البطاط وغيرهم، الذين تحدث عن دورهم في الإرهاب الذي ما يزال مستمراً من جانب تلك المجموعات من المليشيات التي لم تلتحق بالمعارك في غرب العراق والموصل وبقيت تتحرك في مدن الوسط والجنوب وبغداد لتمارس دورها السابق في الهيمنة والاختطاف والابتزاز والتهديد والقتل، وأن الرئيس المكلف فعلياً لقيادة الحشد الشعبي سياسياً هو نوري المالكي، وعسكرياً هو السياسي والقائد العسكري الإيراني، قاسم سليماني، والمسؤول الديني الأعلى للحشد الشعبي هو السيد علي خامنئي. وهذا ليس ادعاءً مني بل تأكيداً لما تنشره الصحافة الإيرانية وما يتحدث به الشارع العراقي وتعرفه به المرجعية الدينية وكل قوى التحالف الوطني، أي البيت الشيعي العراقي. كما يعرف به السيد مقتدى الصدر، الذي قدم الكثير من الشروط لتجنب ما يمكن أن يقود إليه وجود الحشد الشعبي في الساحة العراقية. وعلينا أن نعرف تماماً بأن نوري المالكي (هو المسؤول عن الحشد الشعبي) وهادي العامري (المسؤول عن ميليشيات بدر المسلحة)، وقيس الخزعلي (المسؤول عن عصائب أهل الحق المسلحة)، وأبو الفضل البطاط (المسؤول عن ميليشيات جيش المختار المسلحة)، وغيرهم، وهم مقتنعون بولاية الفقيه وبولي الفقيه السيد علي خامنئي، مرشد الثورة الإسلامية بإيران، وهم لا يتبعون في التقليد الشيعي السيد علي السيستاني بالعراق، إذ أن الأخير لا يعتقد بولاية الفقيه، كما كان عليه الحال بالعراق منذ البدء. وهذا التقليد لدى الشيعة يلزم المُقلِد اتباع يا يأمر به ولي الفقيه دون غيره.         
يشير قانون الحشد الشعبي إلى العديد من المسائل الخطرة التي يفترض فينا التفكير الجدي بها وهي:
أولاً: إن الحشد الشعبي هو رديف للقوات الأمنية العراقية، وليس جزءاً منها، وهي خاضعة للجنة النيابية في مجلس النواب، وليس لمجلس النواب، كما وليس لوزارة الدفاع العراقية. واللجنة النيابية قائمة على أساس طائفي محاصصي بحت.
ثانياً: الحشد الشعبي تابع للقوات الأمنية العراقية. وهذا المصطلح الجديد، الذي لا يراد منه أن يميز بين الجيش والشرطة وأجهزة الأمن الداخلي، بحيث تقوم كل هذه الأجهزة بكافة المهمات بما فيها حماية الحدود والتدخل في الشأن الداخلي وضد المظاهرات والتجمعات وكل ما تراه الحكومة أو رئيس الوزراء تهديداً للنظام. في حين إن الجيش في العراق يفترض أن تكون له مهمة الدفاع عن الحدود العراقية، والشرطة الداخلية لها مهماتها الداخلية، وكذا جهاز الأمن الداخلي. مصطلح قوى الأمن خطر وبعيد كل البعد عن دولة مدنية ديمقراطية تفصل بين المهمات وتحددها بدقة. وسنرى المخاطر الجديدة المتوقعة في الاستخدام الفعلي لهذه القوى من قبل القوى التي تتحكم بالحكومة الطائفية بالعراق، إن أجلاً أو عاجلاً إن استمرت الطائفية السياسية المقيتة كنظام تحكم العراق.
ثالثاً: منح أفراد الحشد الشعبي الحماية من العقوبات المحتملة في حالة ارتكابهم أعمالاً مخلة في القتال، أي التغطية على ما يمكن أن يحصل ابتداءً. 
رابعاً: المخاطر الجدية لوجود مثل هذا الجيش العقائدي الشيعي الجرار من أعضاء الحشد الشيعي بأمرة رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، الذي يمكن أن يستخدمه في غير صالح الشعب لأنه يلتزم بأيديولوجية يريدها أن تكون السائدة، ويوجه نيرانه وحشده ضد القوى والآراء الأخرى، كما فعلى رئيس الوزراء السابق، وكما يمكن أن يحصل الآن أيضاً بعد إقرار هذا القانون. إذ ان المادتين 4 و5 من هذا القانون تشيران إلى ما يلي:
"المادة ( 4 ) : تخول فصائل وتشكيلات الحشد الشعبي بموجب هذا القانون حق استخدام القوة اللازمة والقيام بكل ما يلزم لردع التهديدات الأمنية والإرهابية التي يتعرض لها العراق وكذلك لتحرير المدن من الجماعات الإرهابية وحفظ أمنها والقضاء على تلك الجماعات الإرهابية وعلى كل من يتعاون معها وتحت أي مسمى كان.
المادة ( 5 ) : تلتزم الحكومة العراقية ومجلس النواب بتهيئة مستلزمات واحتياجات فصائل وتشكيلات الحشد الشعبي العسكرية وغيرها مما يتطلبه قيامها بأنشطتها الأمنية والعسكرية في حال وقوع التهديد الأمني للعراق أو ما يتطلبه بقاؤها في حالة الجهوزية التامة لردع تلك التهديدات."
تأملوا ما يمكن أن يحصل غداً إذا ما اعتبر رئيس الوزراء العراقي، الحالي أو غيره، إن التجمع والتظاهر والحراك الشعبي السلمي والديمقراطي في يوم الجمعة من كل أسبوع يمثل تهديداً لأمن وسلامة الوطن ويعطل عمل الحكومة! وكيف سيتحرك الحشد الشعبي لتنفيذ هذا الأمر! الإرهاب كلمة مطاطة تستخدم اليوم بصيغة وشروط معينة، وغداً بشكل آخر، وعلى وفق طبيعة الحكومة والقوى التي تنتقدها أو تسعى لإزاحتها سلمياً وعلى وفق الدستور العراقي.
لقد صدرت في الآونة الأخيرة قوانين غير ديمقراطية ومخلة بالأمن الداخلي وبحياة المواطن وهوية المواطنة العراقية وبالنزاهة والديمقراطية، منها قانون الأحزاب، إضافة إلى استمرار وجود قانون الانتخابات المشوه، وصدور "قانون العشائر" ودور مجلس الشيوخ العشائري، ومكانته ودوره والصلاحيات الاستثنائية المريبة التي منحت له، هذه القوانين وغيرها يفترض أن نعالجها بجدية ومسؤولية ووعي بعواقبها الآن وفي المستقبل أيضاً لأنها المكملة حقاً لقانون الحشد الشعبي وما يراد منها في الواقع العراقي الجاري.
إن مخاطر وجود الحشد الشعبي بعد الانتهاء من تطهير العراق من داعش كبيرة، ويؤلمني حقاً ألا نرى هذه الجوانب السلبية في وجود وقانون الحشد الشعبي. 
إن المشكلة ليست في طبيعة وجود الحشد الشعبي والقانون الصادر عن مجلس النواب الطائفي وفحواه والصلاحيات الممنوحة للحشد الشعبي ... الخ فحسب، بل وبالأساس في طبيعة النظام الطائفي المحاصصي القائم بالعراق وبالقوى الفاعلة فيه والمؤثرة والفاسدة والرثة التي تحكم العراق كله وتتحكم به، والتي سوف تستخدم هذا الحشد لصالح تعزيز وجودها على رأس السلطة الطائفية وفرض الاستبداد والفساد على الشعب، ولم يكن عبثاً ترديد المتظاهرين "باسم الدين باگونة الحرامية، باسم الدين كتلونه الشلاتیة"!

385
والتي يمكن أن يعيشها الشعب أن استمر أولئك الذين أطلق عليهم الشعب صيحته المدوية " باسم الدين باگونة الحرامية"، "باسم الدين كتلونة الشلاتية"!!!   
       

386
د. كاظم حبيب
قراءة متأنية في كتاب "يهود العراق والمواطنة المنتزعة ثانية!"
في ست حلقات
المرحلة الأولى (1921 - 1933)
من أجل أن يتجنب شعب العراق، ما تعرض له يهود"
العراق من تهجير قسري كامل في الفترة 1950-1951،
ما يــراد له أن يحصـل في المـرحـلة الراهنة لمسيحيي
العراق ومندائييه وإيزيدييه في محافظة نينوى والعراق
عموماً، في ظل النظام الطائفي السياسي، وممارسته
التمييز والتهميش والإقصاء المذلة، ودور قوى الإرهاب
الإسلامي السياسي المتطرفة كافة".

الحلقة الأولى
كان لي لقاءان حميمان مع حشد طيب من العراقيات والعراقيين بلندن، وبحضور مجموعة طيبة من النساء والرجال من مواطنات ومواطني العراقي الذين أجبروا على الهجرة، اللقاء الأول دعا له التيار الديمقراطي العراقي، وكان موضوعه استعراض كتابي الموسوم "يهود العراق والمواطنة المنتزعة" الصادر في العام 2015 عن دار المتوسط بإيطاليا، وعن أوضاع العراق المحتملة ما بعد داعش. اما اللقاء الثاني فتم بلقاء مع تجمع كبار السن من العراقيات والعراقيين الذي ينظمه المنتدى العراقي ويشرف عليه الصديق الطبيب والشاعر الدكتور صباح جمال الدين، واقتصر على موضوع الكتاب. كما حصلت عدة لقاءات حميمة مع أصدقاء عراقيين وعراقيات بدعوات على عشاء، منها على سبيل المثال لا الحصر في دار السيد داوين شكر، والصديق أميل كوهين، أو زيارة للكاتب الساخر والرائع خالد قشطيني أو الكاتب والمترجم الرفيق عادل حبة أو الناشط في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني الرفيق سمير طبلة وزيارة لعائلة أبو عادل أو أبو أوس المحترم، إضافة إلى الرفقة الدائمة مع الكاتب الدكتور محمد الموسوي.
لقد حاولت في هذين اللقاءين أن أقدم كتابي بصيغة جديدة وبشكل مكثف يجسد المحنة الكبيرة والكارثة التي حلت بالعراق وشعبه بسبب خسارته لجزء كبير ومهم وأصيل من بنات وأبناء الشعب العراق الذين عاشوا في العراق ما يقرب من 2800 سنة، إنهم يهود العراق الذين أجبروا على مغادرة العراق بعدد زاد عن 120 ألف مواطن ومواطنة ومن مختلف الأعمار والكفاءات والاختصاصات والمهن والحرف ومجموعة كبيرة من المثقفات والمثقفين اليهود. وأهمية نشر وتقديم الكتاب بمحاضرة أو محاضرات لاحقة في دول أخرى تبرز في ما يتعرض له المسيحيون والمندائيون في العراق، إضافة إلى جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق أبناء شعبنا الكردي والعراق، بحق الإيزيديين وأتباع الديانات الأخرى. وبأمل تحصين شعب العراق ضد هؤلاء المتطرفين الذين يسعون إلى إلغاء وجود هذا الموزاييك العراقي الجميل وتشويه اللوحة الرائعة باقتطاع أجزاء أخرى من اللوحة، أي بإلغاء وجود أتباع ديانات أخرى غير المسلمين في العراق، تماما كما حصل مع يهود العراق!
لقد مرَّ يهود العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين بست مراحل متباينة يمكن بلورتها فيما يلي:
المرحلة الأولى: تمتد هذه المرحلة من العام 1921 حتى العام 1933، أي بين ارتقاء فيصل الأول عرش العراق ووفاته الغامضة في سويسرا في العام 1933.
تمتع يهود العراق في هذه المرحلة بحياة هادئة وهانئة ومشاركة نشطة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي النشاط السياسي في ظل دولة ملكية ذات دستور ديمقراطي وملك كان حريصاً على التعامل مع أبناء الشعب بالمساواة، بالرغم من وجود العراق تحت الانتداب البريطاني حتى العام 1932، والتخلف الشديد الذي ساد المجتمع وهيمنة الأوضاع والأجواء العشائرية والدور البارز للمؤسسات والمرجعيات الدينية وشيوخها. ولم يحصل في هذه الفترة أي اعتداء أو تجاوز فظ على يهود العراق، بل شاركوا بفعالية كبيرة في تأسيس المدارس الحديثة واحتضان تلاميذ من مختلف الديانات والمذاهب، وتشكيل منظمات وجمعيات المجتمع المدني واحترام الهيئة الدينية الموسوية وحاخامها والتمتع بالحرية الدينية وصدور قانون يرسي دعائم لأتباع هذا الدين وأتباع بقية الديانات والمذاهب. ورغم بروز نشاط قومي متطرف (صهيوني) لمجموعة صغيرة من يهود العراق وبشكل رسمي، فأن هذا النشاط والدعوة لهما لم يكسبا أي قاعدة له في أوساط يهود العراق.
لقد ساهم يهود العراق بدور بارز وكبير في مجالات عديدة في حياة الشعب العراقي نشير إلى البرز منها:
** في الاقتصاد عموماً ولاسيما في التجارة الخارجية (الاستيراد) وفي التجارة الداخلية؛
** العمل في وظائف الدولة في حقول التشريع (القضاء) وفي الإدارة العامة للمؤسسات التابعة للدولة كالموانئ والسكك الحديد والجمارك ومصفى النفط والبرق والبريد وغيرها وفي الحياة السياسية. وكان لهم بشكل خاص دور بارز في صياغة الذهب وفي سوق البزازين (القماش)؛
** في مجال الموسيقى والغناء حيث برز أفضل وأكثر الموسيقيين والمغنيات والمغنيين من الأوساط اليهودية العراقية؛
** في المحاسبة والبنوك والصيرفة وفي بدايات انشاط التأمين؛
** وكان لليهود دور بارز في الصحافة الوطنية وفي الإبداع الثقافي كالشعر والقصة والمقالة ونشر الثقافة وتأسيس المطابع. وكان أنور شاؤول (1904 – 1984م) أول من رفع شعار فصل الدين عن الدولة بالعراق ووضع في صدر صحيفته "الحاصد" في العام 1932 شعار "الدين لله والوطن للجميع"، بعد أن كان سعد زغلول قد رفعه بمصر في أوائل العشرينات من القرن العشرين.   
لقد شكل يهود العراق جزءاً أصيلاً من المجتمع العراقي وفاعلاً حيوياً فيه، ولم ينعزل عن بقية أتباع الديانات والمذاهب في "گيتوات" خاصة به، بل كان في سكنه في مناطق عديدة من بغداد مثلاً ومعه عاش المسيحيون والمسلمون، من سنة وشيعة. وكانت تركيبة المجتمع اليهودي لا تختلف عن تركيبة بقية المجتمع من الناحية الاجتماعية أو الطبقية، فكان هناك بعض كبار الملاكين والتجار الكبار والبرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة، ولاسيما المثقفون والحرفيون، ثم العمال، وكذلك الفلاحون المعدمون الذين كانوا يعملون في أراضي الأغوات الكرد، وخاصة بإقليم كردستان العراق، والباعة الجوالة والفقراء الذين كانوا يعانون من شظف العيش، كالغالبية العظمى من شعب العراق حينذاك. ولا بد من الإشارة إلى أن ببغداد مثلاً تعانقت جوامع أو مساجد المسلمين مع كنائس المسيحيين وكُنس اليهود، وفي مدن أخرى وجد المندي بجوار المسجد. وحصلت زواجات بين أتباع الديانات العديدة بالعراق أيضاً. كان هناك شكل من اشكال الاعتراف المتبادل بوجود هذه الديانات وحقها في ممارسة طقوسها الدينية وحياتها الخاصة إلى جانب حياتها العامة فيما بين جميع أتباع الديانات والمذاهب. ولا يشك الإنسان المقارئ للتاريخ عن احتمال وجود نظرة تمييزية مستترة غير مكشوفة تماماً لدى بعض الجماعات المتدينة بشكل خاص.
والحالة الوحيدة التي تظاهر فيها العراقيون في هذه الفترة، ولم تكن ضد يهود العراق، بل شارك يهود بغداد فيها، كانت حين قام الوزير البريطاني والداعية الصهيوني المعروف السير ألفريد مورتس موند Alfred Moritz Mond (1868-1930م) في العام 1928 بزيارة للعراق بدعوة من الملك فيصل الأول. [أنظر: الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية بالعراق 1945-1946. دار وهران. الجزائر. 1986. ص 12].
 وقد جاء في نص تقرير دار الاعتماد البريطاني ببغداد حول هذه الزيارة ما يلي: "اللورد الفريد موند معاضد للحركة الصهيونية زار العراق في أوائل شباط وقبل ذلك قام برحلة إلى فلسطين وحصل على اطلاع تام على أعمال الصهيونية، غير أن زيارته للعراق كانت تعود دراسة الأحوال الزراعية والوقوف على عدم إمكان أو تحسين الزراعة بالإكثار من السماد الكيماوي لها" [ أنظر: كورية،يعقوب يوسف. يهود العراق. ط 1. منشورات الأهلية. لبنان. 1998. ص 110]. وكان هذا غطاء مهلهل للدعوة المذكورة. 
•   انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية حول المرحلة الثانية من مقالة "يهود العراق والمواطنة المنتزعة ثانية".
       
المرحلة الثانية (1934- 1941)
الحلقة الثانية
حصل العراق في العام 1932 على قرار بإنهاء الانتداب البريطاني ودخوله عضواً في عصبة الأمم، بعد أن كانت بريطانيا قد أنهت وضع الدستور العراق في العام 1925، وانتهت قبل ذاك من التوقيع على اتفاقية منح امتياز النفط لشركات البترول الاحتكارية الدولية في العام 1924، ومن ثم التوقيع على معاهدة 1930، التي منحت بريطانيا حق استخدام قاعدتين عسكريتين في سن الذبان (الحبانية) والشعيبة (البصرة) وبضمنها البرتوكولات الملحقة بها، والتي اعتبرت مخلة باستقلال وسيادة العراق. ومن الجدير بالذكر أن عصابات الأمم قد اشترطت على العراق التعامل الإنساني الملزم مع الأقليات بروح الاعتراف بحقوقها ورعايتها، كما في الموقف من القضية الكردية مثلاً، والتي لم تلتزم بها الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي. 
وفي العام 1933 توفى الملك فيصل الأول في ظروف غامضة بجنيف-سويسرا. وكان قبل ذاك قد نصب الأمير غازي نائباً عن الملك في فترة غيابه، ثم نصب ملكاً على العراق في عام وفاة فيصل الأول. لقد وقعت في العام 1933 مجزرتين بشعتين نفذهما رئيس الوزراء رشيد عالي الگيلاني، ووزير الدفاع جعفر العسكري ووزير الداخلية ناجي شوكت وقائد العمليات العسكرية بكر صدقي العسكري، ضد الآشوريين في موقع ديرابون على الحدود العراقية السورية أولاً وفي بلدة سميل في سهل نينوى ثانياً. وقد حصدت الثانية أرواح عدد كبير من النساء والرجال والأطفال قدر بـ 600 شخص من جانب بريطانيا و3000 شخص من جانب الآشوريين كما دمرت 65 قرية من مجموع 97 قرية أشورية. وقد عرفت بكونها من المجازر الدموية والإبادة الجماعية ضد الأشوريين، وكانت عملية ذات مضمون شوفيني وانتقام عدواني ضد الآشوريين. وفي العام 1935 قاد بكر صدقي العسكري معركة أخرى في الفرات الأوسط ضد العشائر المنتفضة حينذاك. وإذ حصلت الأولى في عهد فيصل الأول حين كان في سويسرا وكان الأمير غازي نائباً عنه، وحظيت بعدم رضا الوالد، فأن الثانية حصلت بعد أن أصبح غازي ملكاً على العراق.
لقد تميز الملك الشاب غازي الأول بروح قومية عربية وبعداء واضح ضد الدولة البريطانية ووجود الإنكليز بالعراق، وكان يسعى إلى "استعادة" الكويت لتكون ثانية جزءاً من ولاية البصرة، كما كانت في العهد العثماني. وقد نصب إذاعة خاصة به في قصر الزهور ببغداد كان يذيع منها رؤيته بشأن الكويت وغيرها من القضايا التي آمن بها وعمل لإنجازها. وخلال هذه الفترة اقترب من بكر صدقي العسكري الذي كان يتفاعل بشكل ما مع الاتجاهات القومية العربية، رغم إنه كان كردي القومية. وليس هناك ما يؤكد اعتناقه للفكر القومي المماثل للفكر النازي، رغم اقترابه من القادة العسكريين القوميين في القوات المسلحة العراقية واستقباله للوزير الألماني فرتس گروبة. وفي عهده أقدم ارشد العمري، وزير الاقتصاد والمواصلات، في العام 1934، وبموافقة الحكومة العراقية ورئيسها علي جودت الأيوبي، على فصل 150 موظفاً في وزارته من يهود العراق بذريعة النشاط الصهيوني. [ممارسة السيد ارشد العمري وزير الاقتصاد والمواصلات حين أقدم في العام 1934، وبموافقة الحكومة العراقية، على فصل 150 موظفاً في وزارته من يهود العراق بحجة النشاط الصهيوني . [أنظر: عبد الله، سعد سلمان. النشاط الصهيوني اليهودي بالعراق. مصدر سابق. ص 141. - أنظر أيضاً: السوداني , صادق حسن. النشاط الصهيوني بالعراق 1914-1952. منشورات وزارة الثقافة والإعلام-الجمهورية العراقية, سلسلة دراسات 206. بغداد 1980. ص 84/85. – أنظر أيضاً: عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، الجزء الرابع، ص 29]. 
 وكان أرشد العمري من اشد المعادين لليهود من منطلق إيديولوجي مناهض للسامية.  وكان أرشد العمري من اشد المعادين لليهود من منطلق إيديولوجي مناهض للسامية. وكانت أولى العلامات الفارقة بين سياسة فيصل الأول وسياسة غازي الأول، أي العداء المستتر لليهود والتي نفذها رئيس الوزراء ووزير مواصلاته حينذاك. وفي عهد الملك غازي الأول برز نشاط واسع للوزير المفوض الألماني الدكتور فرتس گروبة بتنشيط الفكر والدعاية النازية المعادية لليهود بألمانيا والعراق. واقترن نشاطه الواسع مع تأسيس نادي المثنى بن حارث الشيباني القومي النزعة والتوجه الفكري والسياسي في العام 1935. ونشأ تعاون وثيق بين الوزير المفوض الألماني ونادي المثنى عبر ثلاثة أساليب: 1) تقديم المحاضرات من محاضرين ألمان في النادي، 2) توزيع النشرات والكتب الألمانية عبر النادي، 3) تنظيم زيارات للشبيبة والفتوة العراقية إلى المانيا.
وكان قبل ذاك قد نشط يونس بحري بعد أن زار ألمانيا في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين وقبل وصول هتلر إلى السلطة، واتفق مع الفريد گوبلز، وزير الدعاية الألماني لاحقاً، بإصدار جريدة "العُقاب" ببغداد. وقد تم هذا فعلاً، وكانت بوقاً صارخاً للدعاية النازية ومؤيداً لغازي في توجهه القومي العربي، كما أصبح فيما بعد مذيعاً في إذاعة الملك غازي الأولى الخاصة، ثم في العام 1935 مسؤولاً عن إذاعة ألمانية العربية وعضواً في الحزب النازي وعضواً في جهاز الغستابو   برتبة ملازم وكان اسمه يوهانس بحري. [أنظر: Source: Reprinted from The Journal of Historical Review، vol. 19، no. 1، p.32] وكان مسؤولاً عن الجواسيس الألمان العرب بالدول العربية.
بعد توقف ثورة الشعب الفلسطيني في الفترة 1936 - 1939 وعجزها عن تحقيق الأهداف المنشودة، بسبب دور بريطانيا وسياستها في تأييد هجرة يهود العالم إلى فلسطين، وصل إلى العراق الحاج محمد أمين الحسيني مفتي القدس وبدأ يعمل مع المجموعة القومية، وبضمنهم رشيد عالي الگيلاني ويونس السبعاوي، الذي قام بترجمة ونشر كتاب كفاحي لهتلر، والعقداء الأربعة [صلاح الدين الصباغ، فهمي سعيد، محمود سلمان وكامل شبيب]، ومحمد علي محمود، داود السعدي، محمد حسن سلمان وعثمان حداد وصديق شنشل وغيرهم وبالتعاون الوثيق مع ساطع الحصري، وتم تأسيس "حزب الشعب" سرياً وترأسه كل من رشيد عالي الگيلاني والمفتي. 
خلال هذه الفترة نشطت الجماعات القومية المعادية للصهيونية والوجودالانگليزي بالعراق وضد اليهود على نطاق واسع وبدأ التحرش الواضح ضد اليهود في الشوارع وضد تلاميذ المدارس الابتدائية والمتوسطة وتوقف تعيين اليهود عملياً في وظائف الدولة. وفي العم 1939 توفى الملك غازي الأولى في حادث سيارة غامض، اتهمت فيه السفارة البريطانية وحلفاء بريطانيا العراقيين بقتله. 
بدأ حزب الشعب الذي تأسس في العام 1940 يعمل على تسلم الحكم بأي وسيلة ممكنة، ولكنه توجه أساساً صوب تنظيم انقلاب عسكري ضد الحكومة القائمة، لاسيما وأن نفوذ القوميين العرب قد تعزز في السياسة العراقية بعد فشل انقلاب الفريق بكر صدقي العسكري واغتياله بالموصل، حين كان يرمي القيام بزيارة إلى تركيا. وقد تم القتل بتدبير من السفارة البريطانية وبالتعاون مع حكام العراق وانتقاماً لترتيب اغتياله للفريق جعفر العسكري.
لقد تسنى لحزب الشعب والعقداء الأربعة القيام بانقلاب عسكري في الأول من شهر مايس/أيار 1941، وهروب أركان الحكومة من بغداد، وكذلك الوصي على عرش العراق عبد الإله بن علي (1913 -1958م)، خال الملك الطفل فيصل الثاني (1935 -1958م). إلا إن القوات العراقية دخلت بمعركة مع القوات البريطانية، ومعها قوات الليفي التابعة للقوات البريطانية (1915 – 1955م) وانتهت باندحارها أمام القوات البريطانية في 30/31/ حزيران/يونيو 1941، حيث هربت اركان الحكومة والعقداء الأربعة، ومنهم رشيد عالي الگيلاني والمفتي ويونس السبعاوي، وزير المالية والذي أطلق على نفسه في حزب الشعب اسم "فرهود". وكانت القوات البريطانية قد وصلت أطراف بغداد (الكرخ) ولم تدخلها، بعد أن تشكلت هيئة مؤقتة للحفاظ باسم لجنة الأمن الداخلي تحت رئاسة أرشد العمري على الأمن والاستقرار. إلا أن هذه الهيئة لم تمارس واجبها الملزم بالحفاظ على أمن سكان بغداد، ومنهد اليهود. ففي يومي الأول والثاني من شهر حزيران/ يونيو 1941 توجهت مجموعات من فدائيي يونس السبعاوي، وهي منظمة شبه عسكرية شكلها حزب الشعب والحكومة لصالح الدفاع عن يونس والنظام الجديد، ومعه جمهرة من الجنود المحبطين والخائبين الذين عادوا من معركة خاسرة مملوئين حقداً وكراهية للانگليز وبعض أفراد الشرطة العراقية، إضافة إلى جماعات من الريفيين وأبناء العشائر المحيطة ببغداد، توجهوا لأنزال جام غضبهم على يهود العراق، وكأنهم المسؤولين عما حصل للجيش العراق والانقلاب المناهض لبريطانيا. فوعت في هذين اليومين مجزرة رهيبة وعدوان شرس يمكن اعتباره محاولة جادة لإبادة جماعية ضد يهود بغداد، علماً بأنه قبل ذاك قد حصل فرهود مماثل ضد اليهود بالبصرة، ولكن لم يقتل فيها أحد، كما إن الكثير من المنهوبات قد أعيدت لأصحابها بفعل تضامن أهل البصرة مع المواطنات والمواطنين اليهود. وفي الآونة الأخيرة "أعلن مدير معهد الأبحاث في مركز تراث يهود العراق، الدكتور تصفي يهودا، عن أسماء 145 طفل رجل وامرأة من قتلى الفرهود التي جمعها خلال ثلاثين عاما من شهادات أقرباء المقتولين". [أنظر: مركز الرافدين للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أقسام الدراسات" بحوث ودراسات ثقافية، يهود العراق ومؤلفاتهم باللغة العبرية،أ. د. شموئيل موريه".  وقد أطلق على هذه العملية الإجرامية بـ "نكبة فرهود اليهود". وتشير الكثير من المصادر إلى أن القوات البريطانية لم تتدخل لوقف نزيف دم اليهود، رغم كونها كانت قادرة على إيقاف المجزرة، ولم يستجب السفير البريطاني كينهان كورنواليس ببغداد لنداءات الاستغاثة. [أنظر: المصدر السابق نفسه ومصادر كثيرة أخرى].
ومن المحزن والمخزي أن نشير هنا إلى إن مجموعة من العنصريين المعادين لليهود وبعض الجهلة والأميين من مستويات منخفضة في وعيها السياسي والاجتماعي والثقافي كانت تردد الأقوال القبيحة والعدوانية التالية: 
حلو الفرهود كون أيصير يومية"
" حلو الفرهود كون ايصير يا خاله"
" أذاني أطرشت من كسر القفاله"
" حلو الفرهود كون أيصير يا عمه"
" أنظر على الشباب اشلون ملتمه".
"حلو الفرهود كون أيصير يومية"!!!
لقد تضافرت كل العوامل السابقة لتنتج هذه الحصيلة المرة لا بالنسبة لليهود فحسب، بل ولكل الشعب العراقي، إذ كانت الأساس الذي بني عليه ما حصل لاحقاً وفي المراحل اللاحقة.

 

المرحلة الثالثة (1942 - 1947)
الحلقة الثالثة 
لقد هزَّت هذه الفاجعة المريعة الوضع النفسي وأعصاب يهود العراق ووضعتهم جميعاً أمام محنة جديدة ذات أبعاد خطيرة، وأمام سؤال صعب هو، وماذا بعد هذه الأحداث؟ لقد كانا يومان بشعان أتيا على علاقة اجتماعية وإنسانية مديدة، رغم مرورها بمصاعب ومشكلات وتجاوزات جمة على مدى تاريخ العراق منذ وصول اليهود الأسرى إلى بلاد ما بين النهرين مروراً بالدولة الفرثية والساسانية ودخول الإسلام إل هذه البلاد وفي الإمبراطوريات الأموية والعباسية والدويلات التي نشأت قبل نشوء الإمبراطورية العثمانية والدولة الفارسية في فترة حكم الصفويين، إلى احتلال العراق من قبل البريطانيين وقيام الدولة العراقية الملكية. لقد أحس اليهود بأن حياتهم بالعراق ستواجه المزيد من المصاعب والانتهاكات. ولكن عودة النظام الملكي إلى البلاد ثانية واستتباب الأمن ومواجهة مخلفات فترة الانقلاب وعواقبه، بدأ المواطنون اليهود يستعيدون وضعهم الطبيعي ويمارسون أعمالهم في مختلف المجالات ولاسيما في الاقتصاد والتجارة والحياة الفنية وتأسيس مدارس جديدة. وحين انتهت الحرب العالمية الثانية انتعشت الحياة الديمقراطية بالعراق تناغماً مع النصر على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، وبرزت قوى وأحزاب جديدة علنية وسرية، وتشكلت منظمات مجتمع مدني، كما برزت في الحياة العامة نشاطات متباينة بعضها معادٍ لليهود تمارسه القوى القومية العربية، لاسيما حزب الاستقلال، ونشاط مدافع عن اليهود تجلى في مواقف الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وكثرة من مثقفي العراق.
وفي ذات الفترة برز نشاط أوسع لعناصر قومية متطرفة (صهيونية) حاولت بكل السبل أن تستثمر فاجعة الفرهود ضد اليهود لتؤكد لليهود أن لا مستقبل لهم بالعراق وأن عليهم مغادرة العراق. ولكنها لم تجد تجاوباً واسعاً ولم تحصل هجرة واسعة بل مهاجرين قلة عبر إيران. ومقابل هذا النشاط الصهيوني ونشاط القوى القومية العربية المتطرفة، دعا الحزب الشيوعي إلى تشكيل منظمة مناهضة للصهيونية أطلق عليها " عصبة مكافحة الصهيونية" التي أسسها الحزب الشيوعي العراق وقادها كوارد شيوعية مثل رئيس العصبة الأستاذ هارون يوسف زلخة، وسكرتيرها العام المناضل يعقوب مصري، ومديرها المسؤول القيادي الشيوعي محمد حسين أبو العيس، التي قامت بنشاطات كثيرة منها المحاضرات والندوات وإصدار الكراسات التي تندد بالصهيونية وأهدافها. وفي البداية ايدها نوري السعيد، ولكنه حاربها بعد أن تم الاتفاق على خطة عدوانية ضد الوجودي اليهودي بالعراق.                 
لقد امتدت هذه الفترة من عام 1942 حتى العام 1947 وتميزت بالإيجابية والنشاط السياسي الحيوي ليهود العراق ضمن الأحزاب الوطنية العراقية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي، وفي الصحافة العراقية والنشاط الثقافي والأدبي العام، ولكنها اقترنت بظواهر سلبية ايضاً ومحاولات جادة لإلحاق الأذى باليهود وتنكيد عيشهم ونشاطهم من جانب جماعات قومية ورجعية صغيرة.
من يتابع دور اليهود في الحياة التجارية العراقية سيجد أن كان لليهود الدور البارز والرئيسي في التجارة وفي عدد التجار وحجم التعامل التجاري وفي تبوء اليهود المواقع الأساسية في غرفة تجارة بغداد. ويمكن للجدول التالي توضيح عدد اليهود في الهيئات الإدارية لغرفة تجارة بغداد بين 1935 – 1951:
عدد التجار اليهود في الهيئة الإدارية لغرفة تجارة بغداد
السنة    العدد الإجمالي لأعضاء الهيئة
(1)    عدد الأعضاء اليهود
فيها
(2)   نسبة %
اليهود
1935-1936   20   12   60
1939-1940   20   9   45
1940-1941   21   10   47,6
1941-1942   21   10   47,6
1946-1947   19   10   52,6
1950-1951   19
       7
ثم تقلص العدد إلى 4   36,8
21,1

وخلال هذه الفترة برز بالعراق مجموعة مميزة من الأطباء اليهود البارعين والصحفيين المميزين وكتاب القصة والشعر والأغنية العراقي وكثرة من الموسيقيين العازفين والملحنين وعدد كبير من المغنين والمغنيات المبدعات. واحتل بعضهم مواقع قيادية في الحزب الشيوعي العراقي، منهم على سبيل المثال لا الحصر ساسون دلال ويهودا صديق يهودا، وقد أعدما في العام 1949 في فترة إعدام يوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي، إضافة على العشرات من المناضلات والمناضلين اليهود الذين زج بهم في السجون لنشاطهم في الحزب الشيوعي العراق، كما كان هناك صحفيون مرموقون مثل السادة أنور شاؤول، سليم البصون، مير بصري، والسيدات استرين إبراهيم، فهيمة إبراهيم حييم، ماتيلدا يوسف داود، رني طويق، إيلانا بصري مارسيل طويق، مليحة أسحيّق ومريم الملا.
وكان أول مناضل عراقي سقط في مظاهرة 28 حزيران 1946 ببغداد هو الشهيد الشيوعي الشاب شاؤول طويق بأيدي شرطة النظام الملكي العراقي التي استخدمت الحديد والنار لتفريق المظاهرة السلمية.   


المرحلة الرابعة (1947 - 1958)
الحلقة الرابعة
ما أن تنفس يهود العراق هواءً نقياً في الأجواء الاجتماعية العراقية وعودة الصفاء نسبياً إلى علاقات الناس الطبيعية بعيداً عن التمييز الديني نسبياً، رغم استمرار فعل الأحداث الأليمة والخانقة لفاجعة الفرهود في ذاكرة اليهود حية وحاضرة دوماً، حتى صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، أي بعد 30 عاما و27 يوماً من صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917. وفي أوائل كانون الأول/ديسمبر قررت الدول العربية المجتمعة في القاهرة رفض القرار والدخول في حرب ضد إسرائيل في العام 1948. ومع إعلان قرار تقسيم فلسطين إلى ثلاثة كيانات، إسرائيل، وفلسطين، والقدس، ووضعها الأخيرة تحت الوصاية الدولية، حتى بدأت النشاطات المناهضة لليهود بالعراق وفي بقية الدول العربية. وصدرت قرارات مجحفة من جانب الحكومة العراقية، بما فيها إبعادهم من الوظائف الحكومية ومنع قبول الطلبة اليهود في الجامعات والمعاهد العراقية، ومنعهم من السفر والتضييق على نشاطاتهم الاقتصادية والتجارية إلى حدود بعيدة، والتحرش بهم في المدارس والشوارع وفي محلات العمل والإساءة لهم بكل السبل المتوفرة. كما حصلت مظاهرات منددة بإسرائيل ويهود العراق وكأن يهود العراق هم المسؤولون عما أطلق عليه بـ"نكبة" فلسطين. وقد منع الحكام ببغداد والقضاء العراقي "عصبة مكافحة الصهيونية ومنعوا صدور جريدتها "العصبة ونشاطاتها وفعاليات مثل الندوات والاجتماعات العام، وقدمت هيئة إدارة العصبة إلى القضاء العراقي وحكم عليهم بالحبس مدداً متفاوتة بذريعة إن معنى عصبة مكافحة الصهيونية هو تأييد الصهيونية لا غير، وكان قراراً بائساً ومضحكاً في آن واحد. وحين كان الحزب الشيوعي العراقي يدافع عن يهود العراق كان يتهم بأنه صديق الصهيونية كذباً وزورا.   
ورغم هذا الجو الخانق واصل يهود العراق نشاطهم في فتح المدارس الجديدة والمشاركة في الحياة العامة وفي الحياة السياسية العراقية، ولاسيما في الحزب الشيوعي العراقي وفي الحزب الوطني الديمقراطي، وفي الإعلام والصحافة العراقية. وقد القي القبض على الكثير من الكوادر الشيوعية وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي من اليهود وزجوا في السجون لمدد طويلة. وفي ذات الفترة بدأ بعض يهود العراق يحاولون الخروج من العراق تفادياً لاحتمالات حصول فراهيد جديدة كما حصل في العام 1941 بالبصرة وبغداد. إلا إن العدد كان محدوداً. وخلال هذه الفترة برزت ظاهرة التفجيرات بقنابل صغيرة في مناطق مختلفة من بغداد اتهم فيها مجموعة من أتباع الصهيونية وعملاء في الموساد الإسرائيلي العاملين بالعراق أرسلوا أو انتدبوا خصيصاً لهذه الأفعال الإجرامية، بهدف نشر الخوف والرعب في صفوف اليهود ودفعه للهجرة إلى إسرائيل. وقد تم إلقاء القبض على بعض من هؤلاء وقدموا على المحاكمة، كما نشر بعض هؤلاء سيرة حياتهم في الموساد وأشاروا إلى دورهم في ذلك. وفي ذات الوقت اشير إلى أن عدداً من الأشخاص من الجماعة القومية العربية المتطرفة المعادية لليهود قد ارتكبوا مثل هذه الجرائم أيضاً لتحقيق ذات الهدف، أي لدفع اليهود إلى ترك العراق. وفي اعقاب هذه الحالة ارتفع عدد الراغبين في الهجرة، ولكنه كان محدوداً جداً والغالبية العظمى كانت إلى جانب البقاء بالعراق ولم تفكر في الهجرة، رغم تفاقم العداء والتضييق الشديد على اليهود وتحويلها إلى جحيم لا يطاق. وتجدر هنا الإشارة إلى أن إعدام رجل الأعمال اليهودي العراقي شفيق عدس بالبصرة في 23/9/1948 بتهمة تصدير مخلفات الحديد للقوات البريطانية في البصرة إلى إسرائيل عبر إيران وتعليق حثته عل عمود الشنق، دون اعتقال شريكيه المسلمين في التهمة، اعتبر انتقاماً ضد خسارة القوات العربية في الحرب ضد إسرائيل، مما اثار رعب اليهود بأنهم جميعاً مرشحون لمثل هذه التهم والأعمال الانتقامية. [رفعة عبد الرزاق محمد، حدث في مثل هذا اليوم: إعدام شفيق عدس، جردية المدى، العدد 2899، في 22/9/2013].
في هذه الفترة كان مطبخ التآمر الدولي على يهود العراق ويهود الدول العربية كما انفك يعمل بجدية وحماس كبيرين لدفع اليهود على الهجرة إلى إسرائيل، وكأنهم كانوا يريدون إفراغ الدول العربية منهم، وتعزيز إسرائيل بهم وبكفاءاتهم المعهودة والمعروفة. وأحد تلك المطابخ كان يعمل بالعراق حيث تم الاتفاق، كما تشير إلى ذلك تسلسل الأحداث، بين بريطانيا وإسرائيل والعراق عبر سفارة المملكة المتحدة بالعراق، وبدعم من الولايات المتحدة، على إصدار قانون يسمح لليهود بالهجرة النهائية من العراق، أي إسقاط الجنسية العراقية عنهم. وقد صدر هذا القانون بنصه التالي:
قانون رقم  (1)
قانون ذيل مرسوم اسقاط الجنسية العراقية رقم 62 لسنة 1933
الوقائع العراقية - رقم العدد: 2816 | تاريخ: 09/03/1950 | عدد الصفحات: 2 | رقم الصفحة: 1
بموافقة مجلسي الأعيان والنواب أمرنا بوضع القانون الآتي : -
المادة الأولى – لمجلس الوزراء أن يقرر [اسقاط] [الجنسية] العراقية عن اليهودي العراقي الذي يرغب باختيار منه ترك العراق نهائيا بعد توقيعه على استمارة خاصة أمام الموظف الذي يعينه وزير الداخلية.
 
المادة الثانية – اليهودي العراقي الذي يغادر العراق أو يحاول مغادرته بصورة غير مشروعة تسقط عنه [الجنسية] العراقية بقرار من مجلس الوزراء .
المادة الثالثة – اليهودي العراقي الذي سبق ان غادر العراق بصورة غير مشروعة يعتبر كأنه ترك العراق نهائيا اذا لم يعد اليه خلال مهلة شهرين من نفاذ هذا القانون وتسقط عنه [الجنسية] العراقية من تاريخ انتهاء هذه المهلة .
المادة الرابعة – على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من أسقطت عنه [الجنسية] العراقية بموجب المادتين الأولى والثانية ما لم يقتنع بناء على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق موقتا أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسميا .
المادة الخامسة – يبقى هذا القانون نافذا لمدة سنة من تاريخ نفاذه ويجوز انهاء حكمه في أي وقت خلال هذه المدة بإرادة ملكية تنشر في الجريدة الرسمية.
المادة السادسة – ينفذ هذا القانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية .
المادة السابعة – على وزير الداخلية تنفيذ هذا القانون .
كتب ببغداد في اليوم الخامس عشر من شهر جمادي الأول سنة 1369 واليوم الرابع من شهر مارت سنة 1950 .
عبد الاله
صالح جبر     توفيق السويدي
وزير الداخلية     رئيس الوزراء
)نشر في الوقائع العراقية عدد 2816 في 9 - 3 – 1950(

وفي فترة لاحقة صدر قانون آخر شمل من ترك العراق من اليهود بصورة مشروعة ولم يعد بعد 3 أشهر إلى العراق، يعتبر قد ترك العراق وتسقط عنه الجنسية، واستثنى من ذلك من تأخر عن العودة لأسباب مرضية أو دراسية. ألغى عبد الكريم قاسم هذا القانون أيضاً، إلا إن عبد السلام عارف قد أعاد العمل بباقانونين.
     
لقد كان هذا القانون جريمة بشعة بحق العراق وشعبه، كان القشة التي قصمت ظهر البعير. لقد بدأ العد الفعلي للهجرة الجماعية ليهود العراقي إلى قبرص، ومنها إلى إسرائيل أو إلى دول أوروبية غربية أو إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا. كما إن القانون وصمة عار في جبين من صادق عليه في مجلسي النواب والأعيان والوصي عبد الإله ورئيس الوزراء توفيق السويدي ووزير الداخلية صالح جبر، وكل من وافق عليه وساند إصداره. وقد لعبت دوائر التحقيقات الجنائية والشعب الخاصة التابعة لها في الألوية والمدن العراقية وأجهزة الدولة الأخرى والقوى القومية والعناصر الرجعية دوراً كبيراً في تنشيط الهجرة بأعمال دعائية واعتقالات مريبة وتضييق الخناق، مما أدى إلى ارتفاع عدد المهاجرين خلال الفترة الواقعة بين 1950 – 1951 إلى 112 ألف مهاجر تقريباً، حيث حط الرحال أكثر من 95% منهم بإسرائيل. وتشير المعلومات إلى أن توفيق السويدي قد حقق له مكاسب مهمة عن كل شخص يستقل طائرة الهجرة باتفاق مع شركة النقل الأمريكية، إضافة إلى ما تم من سلب ونهب للأموال المنقولة لليهود المهاجرين، وكذلك الكثير من الأموال غير المنقولة كدور السكن ومحلات العمل...الخ، بعد صدور قانون تجميد أموال اليهود في سنة 1951. 
لقد سجل هذا القانون الظالم كارثة حقيقية لليهود وللشعب العراقي، خسارة فادحة لهم وللشعب في آن واحد، هم خسروا العراق والعراق خسرهم، إذ فقد أحد مكونات شعبه الأساسية، يهود العراق، الذين عاشوا فيه ومع بقية سكانه ما يقرب من 28 قرناً وساهموا في بناء حضارته في العهود القديمة وفي مراحل التاريخ اللاحقة وفي العهد الملكي لاسيما بين 1921-1951. ولم تقتصر الهجرة على يهود بغداد بل شملت يهود الوسط والجنوب وشمال العراق وكردستان العراق. ثم استمرت الهجرة ببطء لاحقاً حتى قيام انتفاضة الجيش العراقي في 14 تموز 1958 ومحاولة الشعب تحويلها إلى ثورة وطنية ديمقراطية بهدف تحقيقها جملة من المهمات الوطنية والديمقراطية.
 
المرحلة الخامسة (1958 - 1974)
الحلقة الخامسة
يشار إلى أن النظام الملكي بالعراق كان شبه مدني، شبه علماني، مع وجود مظاهر واضحة للتمييز بين أتباع القوميات والديانات والمذاهب. ومع مرور الزمن فقد الكثير من طابعه المدني والديمقراطي الذي تميز به في الفترة الأولى من تأسيس الدولة العراقية وعلى وفق دستوره الديمقراطي. وتجلى ذلك في تشويهه للدستور وتزييف الانتخابات العامة وإصدار قوانين منافية للدستور وحرية الرأي والعقيدة والتنظيم والتظاهر والتجمع التي نص عليها. كما حافظ على علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية والتحالف غير المتكافئ مع الدولة البريطانية وممارسة سياسة غير حيادية بين المعسكرين ولاسيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكان الفقر شديداً والبطالة واسعة والسجون مليئة بالمناهضين لسياسات النظام الملكي وحكوماته المتعاقبة. وقد أدى ذلك إلى تحرك شعبي واسع مناهض للحكم الملكي وحكوماته وحصلت العديد من الوثبات والانتفاضات لاسيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما في أعوام 1948 و1952 و1956. وقد حرك هذا الأحزاب السياسية العراقية التي شكلت جبهة الاتحاد الوطني، كما تحركت تنظيمات الضباط الأحرار لتعلن الانتفاضة على الملكية وإسقاطها في 14 تموز/يوليو 1958. وقد اقترنت بالعنف النسبي حين قتل عدد من أفراد العائلة المالكة، منهم الملك الشاب فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الإله بن علي الوصي على العرش وبعض الأميرات، الذي لم يكن في كل الأحوال ضرورياً، إذ كان بالإمكان نفيهم خارج الوطن. ولعبت المرارات السابقة والغضب والجهل وروح الانتقام البدائية دورها في ذلك.
أعلنت الجمهورية بالعراق واتخذت خطوات سياسية ديمقراطية عامة على الصعيدين الداخلي والدولي في أجواء احتفالية شعبية كبيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر ألغاء حلف بغداد، والخروج من منطقة الإسترليني، وإصدار قانون الإصلاح الزراعي الديمقراطي، وإقامة العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد السوفييتي والعديد من الدول الديمقراطية الشعبية في أوروبا الشرقية، إضافة إلى إلغاء قانون إسقاط الجنسية ضد يهود العراق وتلك المادة التي كانت تشير إلى إسقاط الجنسية عن أي يهودي غادر العراق ولا يعود قبل نهاية ثلاثة شهور.
وإزاء من تبقى من يهود العراق أنهى النظام الجديد قانون إسقاط الجنسية لعام 1950 واتخذ إجراءات جديدة بما في ذلك السماح للطلبة اليهود بالدراسة في جامعة بغداد وفي المعاهد والكليات العراقية، والمشاركة في البعثات الدراسة في الخارج، وكذلك الحق في العمل في دوائر الدولة وفي النشاط الاقتصادي. واعتبر اليهود إن الثورة جاءت لإبقاء من تبقى من اليهود بالعراق وعدم الهجرة، إذ كان من تبقى لا يرغب بالهجرة فعلاً، ومنهم الحاخام ساسون خضوري ومجموعة من الكتاب البارزين والمميزين أنور شاؤل وسليم بصون ومير بصري وغيرهم. والمؤسف حقاً أن عبد الكريم قاسم قد ارتكب خطأ بحق اليهود حين أصر على إقامة برج باسمه في موقع مقبرة اليهود ببغداد. وقد أزيلت المقبرة فعلاً ولكن لم يبن البرج في مكانها إذ قد حصل الانقلاب ضد الجمهورية الأولي في 8 شباط/فبراير 1963. وكانت إساءة كبيرة ليهود العراق في موتاهم وقبورهم. لقد عاش يهود العراق فترة طيبة في أعقاب الثورة، اطلق عليها اليهود بالعهد الذهبي الثاني، إشارة إلى العهد الذهبي الأول في الفترة الملكية الأولى وخاصة في فترة وجود فيصل الأول على رأس الدولة العراقية الحديثة، ولكنها لم تدم طويلاً، إذ جاء انقلاب البعثيين-القوميين ليطيح بحكومة عبد الكريم قاسم ويشن حملة شعواء ضد الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين المؤيدين لعبد الكريم قاسم، كما تعرض يهود العراق إلى حملة مماثلة من جانب الحكم الجديد الذي استحق التسمية بكونه نظاماً فاشياً دموياً.

المرحلة الخامسة (1963 - 1974)
الحلقة السادسة والأخيرة
في 8 شباط/فبراير 1963 وقع انقلاب عسكري قاده البعثيون والقوميون العرب الناصريون بدعم مباشر من أطراف دولية ثلاثة أساسيين هم: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإيران، إضافة إلى شركات النفط الاحتكارية التي ارعبها قاسم بإجراءاته النفطية وتشكيله منظمة الدول المصدرة للنفط، والسعودية وتركيا ودول الخليج العربي، ومن أطراف محلية حيث عقد التحالف السياسي بين القوى القومية والرجعية، ولاسيما قوى بقايا كبار الملاكين والكومبرادور التجاري والعقاريين، وكذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني. وتسلم البعثيون والقوميون السلطة ومارسوا مباشرة حمام دم رهيب ضد الشيوعيين والديمقراطيين وقادة ثورة 14 تموز، وفي مقدمتهم عبد الكريم قاسم، وقادة الحزب الشيوعي العراقي، وزح بعشرات الألاف من المناضلين في السجون والمعتقلات وفي قصر النهاية حيث فقد الكثير منهم تحت التعذيب الهمجي حياته. وتعرض اليهود في هذه الفترة القصيرة على المزيد من الأذى ايضاً.       
وفي خريف العام 1963 حصل انقلاب قام به القوميون بقيادة عبد السلام محمد عارف ضد البعثيين وزج الكثير منهم في السجون. استمر هذا النظام حتى العام 1968 حيث وقع انقلاب بعثي جديد ضد حكومة عبد الرحمن محمد عارف. ولكن في خلال فترة حكم البعث حصلت حرب الأيام الستة في العام 1967 بين الدول العربية وإسرائيل والتي خسر فيها العرب هذه الحرب أيضاً. وقبل بدء الحرب وبعدها شنت حملات ظالمة ضد يهود العراق، سواء عبر الصحافة والتشكيك بوطنية اليهود وكونهم طابوراً خامساً لإسرائيل بالعراق، مما أدى إلى تحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق. ورغم ذلك بقي الكثير منهم صامداً راغباً في البقاء في وطنه الحبيب، العراق.   
وبعد انقلاب البعثيين الثاني بدأت مأساة جديدة لمن تبقى من يهود العراق. فالنظام البعثي لم يكن مناهضاً للقوميين اليهود المتطرفين، أي الصهاينة، بل كان مناهضاً لليهود أينما كانوا. ولهذا بدأ حكمه وبعد عام من وجوده في السلطة بتنظيم مجزرة رهيبة ضد 13 شخصاً من يهود العراق، تم إعدامهم وتعليقهم في ساحة التحرير ببغداد بتهمة التجسس لإسرائيل، وهم براء من هذه التهمة. وقد حشد البعث جماهير واسعة يصل عددهم إلى نصف مليون إنسان، منهم نسوة ليزغردوا فرحاً بارتكاب هذه الجريمة الجديدة. ثم كان قتل عائلة بكامل أعضائها، فيما عدا ثلاثة من أبناء العائلة كانوا خارج البيت، في العام 1973. فقد جاء في كتاب البروفيسور ساسون سوميخ الموسوم "بغداد أمس" بهذا الصدد ما يلي:
"حدثت هذه المصيبة حين داهم جنود أو رجال شرطة بيتهم وذبحوهم ذبح النعاج، الوالدين وأولادهم الثلاثة الذين كانوا معهم في البيت، وقد نجا الأولاد الثلاثة الآخرون بأعجوبة". (ص 150). وقبل ذاك كان قد نفذ البعثيون أحكاماً بالإعدام ضد يهود عراقيين بتهمة العمل لإسرائيل، كما قتل الكثير من المسلمين بتهمة العمل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا، وكل التهم كانت باطلة والأحكام ظالمة متعسفة." [أنظر: أ. د. ساسون سوميخ، بغداد أمس، ترجمة د. محمود عباسي (الكتاب بالأصل باللغتين العبرية والإنجليزية وترجم عن اللغة العبرية إلى العربية)، دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر م. ض. – شفا عمرو/ إسرائيل، ص 150.].
وخلال الفترة الواقعة بين 1963-1975 تعرض يهود العراق إلى مضايقات وتجاوزات شديدة من جانب قوى الأمن العراقي وابتزاز مستمر وانتهاك فظ ومتواصل لحقق الإنسان، كما تم اعتقال الكثير من الأشخاص وقتلوا تحت التعذيب وأعلن عن كونهم هاربين من العراق، من بينهم بعض التجار الأغنياء لكي تتم السيطرة على أموالهم ونهبها! وحين حصلت الاعدامات في العام 1969 ومن ثم حادث العائلة الجبان في العام 1973 من جانب أجهزة الأمن، والاعتقالات والقتل تحت التعذيب، قرر الكثير ممن بقى من يهود العراق مغادرة البلاد، إذ لم يكن قد بقي منهم سوى 3300 نسمة تقريباً، إذ أدرك هؤلاء بأن العراق لم يعد آمناً لهم في كل الأحوال، مما أجبرهم على ترك العراق قسراً، منهم الشخصية الوطنية والشاعر المبدع والصحفي البارع أنور شاؤل والكاتب مير بصري والصحفي المميز سليم البصون وغيرهم، وكانوا على حق كبير، إذ كان النظام البعثي الفاشي قد قرر الإجهاز عليهم تدريجاً في واقع الحال.
لقد كانت نهاية المطاف لوجود اليهود بالعراق ولم يبق اليوم سوى مجموعة صغيرة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين ومن كبار السن. كما أغلق عملياً كنيس "مير طويق" في البتاوين منذ سنوات كثيرة، وهو الكنيس الوحيد المتبقي من كُنس اليهود العراقيين ببغداد.     
 
الخاتمة
** لقد تراوح عدد نفوس يهود العراق في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بين 120000-140000 نسمة، ولم يبق منهم الآن سوى عشرة أشخاص لا غير. 
** تراوح عدد نفوس مسيحيي العراق في سبعينيات القرن الماضي بين 1500000-1700000 نسمة، واليوم وبعد ما تعرض له المسيحيون بالوسط والجنوب والموصل في أعقاب سقوط الدكتاتورية الغاشمة في العام 2003 ومجيء النظام السياسي الطائفي وممارسة الإرهاب ضد المسيحيين من جانب المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة وتنظيم القاعدة الإرهابي، ثم اجتياح الموصل ومناطق من سهل نينوى من جانب عصابات داعش تقلص وجود المسحيين بالعراق إلى حدود 300000 نسمة لا غير.
** تراوح عدد نفوس المندائيين بالعراق في التسعينيات من القرن الماضي بحدود 70000 نسمة، أما اليوم فالتقديرات تشير إلى أن عددهم لا يزيد عن 5000 نسمة فقط، بعد أن تعرضوا لعمليات إرهاب وتهديد وتشريد ونهب وقتل من جانب المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد.
** وقد أُجبر عشرات ألوف الإيزيديين المسالمين في سهل نينوى على مغادرة العراق في أعقاب اجتياح سنجار وزمار وبعشيقة وغيرها من مناطق سكن المسيحيين من جانب عصابات داعش المجرمة التي وغلت في دمائهم وارتكبت أبشع الموبقات بحق النساء والأطفال وأسرت ما يزيد عن 6000 امرأة وطفل، وباعت الكثير من النسوة الإيزيديات في سوق النخاسة "الإسلامي" الإجرامي. لقد كانت عملية إبادة جماعية بكل معنى الكلمة، كما اعترفت بذلك الأمم المتحدة والكثير من منظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية.
** وبسبب الإرهاب الدموي والصراعات الدموية والقتل على الهوية والصراع على السلطة والمال والنفوذ الاجتماعي ازداد عدد اللاجئين العراقيين بالخارج ويتراوح اليوم بين 4،5 – 5,0 مليون نسمة من مختلف الأعمار والديانات والمذاهب، علماً بأنه بلغ في فترة حكم البعث ما يقرب من 3,5 مليون نسمة. وإذا ما استمر النظام الطائفي في السلطة وممارسة المحاصصة الطائفية في توزيع سلطات الدولة العراقية الثلاث ومؤسساتها، فأن عدد اللاجئين سيصل إلى أكثر من ذلك بكثير حتى بعد الانتهاء من تطهير العراق من رجس عصابات داعش، إذ إن رجس الطائفية السياسية نفسه سيساهم في تدمير العراق وشعبه، فالظلم إن دام دمر، ولا يجوز له أن يدوم!
من هنا تأتي أهمية كتاب "يهود العراق والمواطنة المنتزعة" انتزاعاً، إذ أن هناك جهود حثيثة لإفراغ العراق من أتباع الديانات الأخرى ليفرغ الجو في البلاد للصراع بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية والتي ستحصد المزيد من الشيعة والسنة وتدفع بالكثير منهم إلى النجاة في دول الشتات العراقي، في أوروبا وأمريكا وأستراليا وغيرها من الدول. إن الكتاب يحمل في كل صفحة من صفحاته تحذيراً جدياً للشعب العراقي وقواه الوطنية والديمقراطية وكل القوى الخيرة التي لا تريد للعراق هذا المصير، وكذلك للرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، ودعوة ملحة للعمل من أجل مساندة الشعب وقواه الوطنية في جهده لتغيير واقع الحال، لتغيير النظام الطائفي السياسي والتحول صوب الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، الدولة التي تفصل الدين عن الدولة والسياسية، وتؤكد بأن "الدين لله والوطن للجميع"!، إنه الطريق الوحيد للخلاص من  الكوارث المحتملة القادمة والمحن الرهيبة التي يمكن أن تكون أبشع مما عانى منه الشعب حتى الآن، والتي

387
رسالة تحية إلى المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي العراقي
الرفاق الأعزاء
يطيب لي أن أتوجه بتحية الود والاعتزاز إلى أعضاء المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي العراقي، ومن خلالكم إلى شيوعيي العراق وأصدقاء الحزب ومؤيديه والمساندين للقضايا العادلة والإنسانية التي يناضل من أجل تحقيقها منذ نيف وثمانية عقود، ولم يتوقف عن ذلك النضال رغم التضحيات الغالية والخالدة التي قدمها على طريق الكفاح المشرف والمجيد.
يواجه مؤتمركم، مؤتمر الحزب العاشر، قضايا عصيبة، معقدة ومتشابكة وملحة، نتيجة السياسات غير العقلانية المستندة إلى نهج خاطئ ومقيت ومميت، نهج التمييز القومي والديني والمذهبي والفكري، نهج التفريط والتهميش والإقصاء، نهج الفساد والمليشيات الطائفية المسلحة، الذي مورس في العراق منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة وما يزال يهيمن على الساحة السياسية العراقية، النهج الطائفي السياسي والمحاصصة الطائفية المقيتة التي ألحقت أفدح الأضرار بوحدة الشعب والوطن.
ليس النضال اليومي الذي تخوضونه في هذا الظرف العصيب الذي يمر به العراق سهلاً وبسيطاً، بل كان وما يزال معقداً ومعمداً بالتضحيات ودم الشيوعيين وأصدقاء الحزب والشعب عموماً، خاصة وأن القوات المسلحة العراقية والپيشمرگة والمتطوعين يناضلون اليوم بإصرار وعناد لطرد عصابات الغدر والخيانة التي احتلت الموصل ومناطق واسعة من نينوى والمحافظات الغربية، عصابات داعش المجرمة، والتي ساهم حكام العراق بنهجهم وسياساتهم وصراعهم المرير والمدمر حول السلطة والمال والنفوذ ومن وراء ظهر الشعب في تسليمها لتلك العصابات. ولكني أثق بقدرتكم على تذليل الصعاب ووضع النهج والسياسات الصائبة لتجاوز المحن والأزمات والكوارث التي حلت بالعراق خلال العقود الخمسة المنصرمة، ولاسيما خلال الفترة التي أعقبت الدكتاتورية البعثية الفاشية وبعد احتلال الموصل وتشريد سكانه من إيزيديين ومسيحيين وشبك وتركمان وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحقهم وبما في ذلك واقع النزوح غير الإنساني والهجرة المريرة لمئات الآلاف من أبناء وبنات الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفكرية.
إن نضالكم العنيد والشائك ضمن التيار الديمقراطي العراقي سيسهم دون أدنى ريب بتحقيق أوسع جبهة وطنية وديمقراطية ملحة تضم كل القوى الحية والقادرة على المشاركة في النضال وتنويع الحراك الشعبي وتطويره وإغناءه لتحقيق التغيير والإصلاح الجذري المنشود في وضع العراق الراهن، لدحر الطائفية السياسية والمحاصصة المشينة ومعالجة المشكلات القائمة مع إقليم كردستان العراق ومع المحافظات، وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية وبناء العراق الديمقراطي والتقدمي الجديد المنشود وتغيير بنية اقتصاده الوحيد الجانب والمكشوف كلية على الخارج والمستنزف بثرواته وقدراته البشرية، العراق الذي يواجه تدخلاً فظاً ومدمراً من دول الجوار والدول الكبرى التي لا تريد الخير للعراق وقومياته المتآخية منذ قرون.
أحييكم بحرارة وأشد على أيديكم وأرجو لمؤتمركم العاشر النجاح والتقدم ودمتم للنضال
رفيقكم في النضال على الدرب الطويل
كاظم حبيب
برلين في 27/11/2016
         

388
كاظم حبيب
هل يحتاج العراق إلى الحشد الشعبي أو "الميليشيات الطائفية المسلحة"؟

ما تزال المعارك ضد عصابات داعش المجرمة مستمرة ومتصاعدة، والانتصارات تتحقق يوماً بعد آخر، رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات التي تستوجبها طبيعة المعركة القاسية التي تخوضها صنوف القوات المسلحة العراقية وقوات الپيشمرگة الكردستانية والمتطوعون الشجعان. والانتصار النهائي على العدو المتوحش قاب قوسين أو أدنى، إذ يمكن أن يتحقق حتى نهاية هذا العام عسكرياً، ولكن المعركة الفكرية والسياسية ضد الفكر الإسلامي السياسي المتطرف والتكفيري والعدواني ستبقى مستمرة طويلاً، إذ إن الأساس المادي لمثل هذا الفكر ما يزال موجوداً وسيبقى طويلاً إلى أن يتحقق التنوير الديني والاجتماعي بالعراق ومناطق أخرى من العالم الإسلامي، ويتحقق التحول صوب التنمية الصناعية والزراعية والتقدم الحضاري والخلاص من العلاقات المتخلفة ما قبل الرأسمالية وتأثير الأساطير والخرافات التي يروجها جمهرة من شيوخ الدين وليس كلهم!
والمعركة السياسية ما بعد تطهير العراق من عصابات داعش ستكون هي الأخرى قاسية بسبب الأوضاع التي سادت العراق خلال سنوات ما بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية، دع عنك ما تركته فترة حكم البعث الدموية من أثار سلبية عميقة في جسد المجتمع العراقي المتنوع في قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وأفكاره، والتي ما تزال مستمرة حتى اليوم. وبسبب إن المسؤول عن كل ما حدث لم يقدم إلى المحاكمة لينال جزاء تفريطه البشع بالعراق ووحدة شعبه بقومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وتسليم الموصل لعصابات داعش المجرمة.
إن الصراعات الجارية، التي ستتفاقم بعد تحقيق النصر على داعش، تستوجب الرؤية الحكيمة والواعية لما ينبغي أن يحصل بالموصل والمحافظات الغربية ومع رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق، من وضع جديد وتنفيذ خطة طريق تعالج بعقلانية وحكمة المشكلات العالقة بروح ديمقراطية حازمة ومدركة لأبعاد ما يراد للعراق من عواقب وخيمة من دول الجوار التي تدعي الرحمة بالعراق وتعمل على خنق العراق بالسيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عليه. وستكون لهذه الدول أدواتها بالعراق، سواء أكانت تلك الأدوات سياسية مثل الأحزاب وبعض ما يطلق عليه بمنظمات المجتمع المدني والخيرية أو تشكيلات شبه عسكرية (ميليشيات مسلحة)، التي تمارس ضغوطها على العراق وعلى وجهة تطوره التي لن تكون في صالح العراق. ولهذا لا بد من العمل على التصدي لمثل هذه التشكيلات واتجاهاتها الطائفية، ولكن يصعب على نظام المحاصصة الطائفية القائم في الدولة العراقية الهشة والعاجزة عن التحكم بسلطاتها الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، التي تمارس الطائفية بكل أبعادها، تحقيق ما يفترض أن يحصل وهو حل جميع التشكيلات شبه العسكرية التي نشأت في اعقاب سقوط الدكتاتورية، سواء أكانت شيعية أم سنية، وكذلك حل الحشدين، الحشد الشعبي والحشد الوطني، فكلاهما طائفي الوجود والنزعة والسلوك السياسي والاجتماعي والثقافي والعسكري. فالجيش العراقي، وبضمنه قوات الپيشمرگة الكردستانية باعتبارها قوات حرس الحدود، هو الذي يستوجب أن يبقى وحده حامي العراق من احتمال الاعتداء الخارجي، والشرطة العراقية هي التي يفترض أن تبقى حامية العراق من الداخل ضد كل الجماعات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة وضد الفساد المالي والحرامية.
إن الحشد الشعبي تشكل على وفق دعوة المرجعية الشيعية في النجف للجهاد الكفائي، فهب متطوعون شيعة تجاوباً مع الدعوة. ولكن الحشد الشعبي تكون من تلك المليشيات التي كانت قائمة والتي ارتكبت أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي ليس في مواجهة المليشيات والقوات الإرهابية حسب، بل وفي إرهاب أتباع الديانات الأخرى وفي الصراع في ما بينها وضد المجتمع، وهي ما تزال تمارس الإرهاب وابتزاز السكان أينما وجدت في محافظات الوسط والجنوب وبغداد على نحو خاص، ولم يصبح المتطوعون على أساس الجهاد الكفائي سوى أعضاء في هذه المليشيات التي دخلت بقواها السياسية الأساسية في الحشد الشعبي لتشكل هيكل الاتحاد ولحمته وبقياداتها السابقة مثل هادي العامري وأبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي وغيرهم، وبحسب ادعاء المالكي الصحيح أنه هو المؤسس لمثل هذا الحشد، وبالتالي فمثل هذا الحشد لا يصلح أن يكون قوات شبه عسكرية أو عسكرية تابعة للعراق، حتى لو كانت خاضعة للقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع العراقي، لأنها تشكلت على أساس طائفي ولن تكون غير ذلك وستكون سكيناً في خاصرة الشعب العراقي والعراق وأداة بيد إيران ضد مصالح الشعب العراقي. وعلينا جميعاً أن نتذكر الخطاب الوقح للمالكي حين أكد على إن المعركة ما تزال مستمرة بين أصحاب الحسين وأصحاب يزيد، أي أنه اعتبر السنة الحاليين كلهم اتباع يزيد، وهو قول بالغ الحماقة والضرر بالشعب العراقي ووحدته. كما إن الحشد الوطني، الذي تأسس بمبادة من الطائفي البشع أثيل النجيفي ودعم وتدريب تركيا ورئيسها المستبد بأمره والسلطان الصغير الجديد رجب طيب أردوغان، لن تكون إلا سكيناً أخرى في خاصرة الشعب العراقي. إن علينا أن نبعد الحشد الشعبي من المناطق الحساسة التي يمكن أن تحصل فيها عواقب سيئة، كما حصلت في الفلوجة بعد تحريرها، إذ لا يمكن الاطمئنان لأقسام من الحشد الشعبي بأي حال، رغم تأكيد العبادي على إبعادها عن تلعفر، فيمكن أن يحصل فيها اختراق كما حصل في الفلوجة ولن يكن في صالح المجتمع العراقي كله، إذ يمكن أن تستغلها القوات التركية الموجودة في أطراف بعشيقة للتدخل سلبياً في مسارات المعارك الجارية، وهي التي ساهمت بفعالية في تكوين داعش مع حليفها السعودية وقطر وصمت الولايات المتحدة الأمريكية!
لهذا يفترض وبعد انتهاء المعارك وتحقيق الانتصار حل هاتين المؤسستين لصالح الشعب العراقي وحياته المدنية التي نريدها أن تكون حرة وديمقراطية وآمنة. وأن يبتعد البرلمان الاتحادي تماماً عن إقرار قانون يجيز وجود هذه الميليشيات وحشدها الشعبي، إذ سوف لن يكون سوى الأداة المهدمة لوحدة العراق وجيش ودولة داخل جيش ودولة هشة. العراق لا يحتاج بأي حال إلى الحشد الشعبي ولا الحشد الوطني، العراق بحاجة إلى تفعيل الشعب العراقي ودوره ووعيه ومصالحه ومستقبل أبناءه بعيداً عن العنصرية والشوفينية وضيق الأفق القومي والطائفية والتمييز الديني والفكري، بعيداً عن الفساد والإرهاب وحواضنهما.
                     

389

رسالة تحية وتعزيز وتذكير إلى الشسعب الكردي الصديق في إقليم كردستان العراق
أيها الشعب الكردي الصديق، أيتها المناضلات، أيها المناضلون الأحرار
على امتداد عقود كثيرة خضتم النضال البطولي، الذي خضب بدماء أبناءكم وبناتكم وكان مليئاً بالعذابات والحرمان، بالتهميش والاقصاء، للخلاص من كل ذلك ومن اجل نيل الحرية والتحرر والديمقراطية وحقوق الانسان وبناء وطنكم العزيز كردستان. لقد تعرضتم للتهجير القسري والتغيير الديمغرافي والتعريب، بل وصل الأمر بقوى الظلام والفاشية والعدوان أن تسلط أسلحة الإبادة الجماعية وحرق القرى والغابات والمزروعات ضدكم، لأنكم رفضتم الذل والهوان. ولقد حققتم الكثير عبر هذا النضال المجيد ورفعتم عاليا راية نضال الشعوب في سبيل الأمن والسلام والاستقرار والتقدم والمساواة في حقوق المواطنة والكرامة.
كنت معكم، ومعكم كان عشرات الألوف من الشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين والناس الطيبين العراقيين في هذا النضال الدامي والمرير. كنا معكم لنيل حقوقكم القومية العادلة والمشروعة وفي سبيل الحرية والديمقراطية. رفضنا تهميشكم والغاء هويتكم القومية والوطنية، رفضنا جميع أشكال التغييب والاقصاء ضدكم، وشجبنا التغيير الديمغرافي والتهجير القسري والتعريب باعتبارها أدوات تجسد الظلم والاستبداد والشوفينية والعنصرية وضد اللوائح والقوانين الدولية. ارتقينا معكم جبال كردستان وحملنا السلاح جنبا الى جنب واختلطت دماء العرب والكرد والكلدان والآشوريين والسريان والتركمان ومن أتباع جميع الديانات العراقية في معارك النضال المشرف. كنا ندرك ان حريتكم هي حريتنا أيضاً، فليس هناك من شعب حر يقبل باضطهاد شعب آخر. لم نكن ظهيركم فحسب، بل كنا معكم في شوارع النضال وفي المعتقلات والسجون والمنافي، في السهول والجبال. لم يكن كل العرب معكم، وإلا لما استطاع المستبدون ممارسة تلك السياسات، وهذا يرتبط بالفكر والجهل والأمية وعدم إدراك أهمية الحرية للشعوب الأخرى، إدراك الضرورة، لأنهم لم يكونوا أحراراً، لأنهم كانوا مستعبدين.
لم يكن نضالنا معكم وكتفاً إلى كتف فضلا منا عليكم ولا مِنةً، بل كان واجبنا الإنساني والوطني والمبادئ التي استوحينا منها نضالنا معكم، والذي لو لم نؤديه لفقدنا مصداقيتنا في كوننا أحراراً ومناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.
ان نضالنا المشترك وما مرَّ بنا عبر العقود المنصرمة، علمنا درساً لا ينسى، علمنا بأن من يتعرض يوماً للإرهاب والاضطهاد والتهميش والتعذيب والتهجير وحرق البيوت أو تسويتها بالأرض، لا يمكن ان ينسى ذلك أولاً، ولا يمكن أن يقبل بممارستها ويرفض من يمارسها ضد أخرين، سواء أكان فرداً أم شعباً أم جماعة دينية أو مذهبية أو فكرية. إذ لا يمكن ولا يجوز للضحية ان يتحول الى جلاد، إلا إذا كان قد خان كل المبادئ التي ناضل من اجلها وتركها خلفه!
لقد ارتكب النظام البعثي في العراق جرائم الإبادة الجماعية بحق شعب كردستان وبحق الكرد الفيلية، وهم جزء من الأمة الكردية، ولا يمكن أن ينسى الشعب الكردي ذلك، ولا يمكن أن يقبل أن تشوه سمعته النضالية بأفعال تشكل خرقاً للقانون الدولي ولوائح حقوق الإنسان!
أيها الأصدقاء الكرام
لا اكتب هذا لكي أذكركم به، لأني أثق بذاكرة الشعوب التي لا تنسى المبادئ والقيم التي ناضلت من اجلها، ولا تنسى العذابات التي عانت منها ولا تعمد إلى الثأر والانتقام، بل تعتمد الشرعية والقوانين والحلو السلمية والديمقراطية، اذ يمكن للأفراد أو بعض المسؤولين ان ينسوا ذلك لمصالح آنية ورؤية شوفينية، ولكن الشعوب الحرة لا يمكن ان تتخلى عن مبادئها وقيمها ومعاييرها الانسانية، وإلا فقدت قيمة الحرية التي ناضلت من أجلها. ولكني اكتب هذا لأن عدداً من المنظمات الانسانية الحقوقية، التي وقفت الى جانبكم عقودا عديدة من الزمن ودافعت عنكم بإخلاص ومسؤولية، هي التي بدأت تنشر عما يخالف المبادئ التي آمَنتُم به وضحيتم من اجلها وقاسيتم الامرين لتجاوز تلك المحن. هذه المنظمات التي بدأت تنشر عن تجاوزات تمارسها مجموعات من الپيشمرگة الكردستانية في إقليم كردستان العراق ضد العراقيين العرب في كركوك وديالى وفي تلك المناطق الاخرى التي يطلق عليها "المناطق المتنازع عليها" بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، تجاوزات تشير الى تهديم البيوت وتهجير السكان العرب بالقوة والعنف من مناطق سكناهم دون وجه حق. هذه المنظمات ذاتها التي كنا نزودها بالمعلومات المدققة عن تجاوزات النظام الدكتاتوري الفاشي في العراق ضد الشعب الكردي وضد المسيحيين والمندائيين والإيزيديين وغيرهم، وكنا وكانوا صادقين في كل ما نشروه عن تلك الجرائم التي أدانها ويدينها القانون الدولي وتدينها لائحة حقوق الانسان، فهل يمكن ان تحصل من قوى مناضلة مثل ا الپيشمرگة تجاوزات من هذا القبيل ضد السكان العرب؟ هل من المعقول ان تقبلوا بذلك؟
كم أتمنى ان تكون الأخبار كاذبة، ولكن هذه المنظمات لا تكذب ولا تشوه المعلومات وليس لديها أغراض غير إنسانية ضد الشعب الكردي لتشوه ما يجري في العراق، وفي مناطق القتال أو التي تحررت من عصابات داعش المجرمة، وبالتالي فانا ملزم أن امنحها ثقتي، لأني كنت أحد مزوديها بالمعلومات حول انتهاكات تعرض لها الشعب الكردي بالعراق، وكانت معلوماتي دقيقة وصادقة.
ليس من حق أحد ان يمارس التهجير القسري وتهديم الدور وتسويتها بالأرض، ومن يمارس ذلك يرتكب جريمة بحق الإنسانية، وليس من شهامة وكرامة الشعب الكردي ممارسة مثل هذه الأفعال التي تعتبر جرائم في عرف القانون الدولي وعلى وفق لائحة حقوق الانسان وحضارة القرن الحادي والعشرين.
إن لم ارفع صوت الاحتجاج والإدانة لما يحصل، على وفق ما تنشره منظمات حقوق الإنسان، ومنها منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، التي أنا عضو فيها، ستسقط مصداقيتي أمام شعبكم والشعب العربي وأمام المكونات الدينية والمذهبية في النضال من اجل حقوقكم وحقوق بقية الشعوب، من اجل الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني العلماني وحقوق الإنسان، سأفقد مصداقيتي أمامكم وامام الشعب الذي انتمي اليه، الشعب العربي في العراق، وسأفقد اللقب الذي منحتموني إياه والذي أتشرف به واعتز به كثيرا، لقب ووسام "صديق الشعب الكردي".
أتمنى عليكم ان ترفعوا معي صوت الإدانة والاحتجاج ضد مثل هذه الأفعال التي ادانتها منظمة هيومن رايتس ووش ومنظمة العفو الدولية، والتي لا يمارسها غير المستبدين والشوفينيين والعنصريين، ولا يمكن ان يكون الشعب الكردي ولا كل الشعوب من هؤلاء. أتمنى على المسؤولين في الإقليم ان يعلنوا استنكارهم لما حصل وعلى وفق ما نشر حتى الآن من تجاوزات مرفوضة ومدانة، إذ أن الناس والصحافة تؤكد بأن مثل هذه التجاوزات لا يمكن أن تحصل ما لم توافق الأحزاب الكردية الحاكمة في الإقليم على قيام قوى من الپيشمرگة التابعة لها بذلك، وان يعملوا على إيقاف ذلك، لأنه خطأ فادح وجريمة، كما إن لها انعكاسات سلبية على قضيتكم العادلة والمشروعة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية. أنتم شعب حر لا يمكن أن يقبل بما يتجاوز على حرية وحقوق الآخرين!
د. كاظم حبيب
برلين في 15/11/2016
 



390
د. كاظم حبيب
احتمالات أوضاع العراق ما بعد داعش!
يقترب يوم تحرير الموصل ومناطق أخرى من نينوى وأجزاء أخرى من محافظات كركوك وصلاح الدين والأنبار، يقترب يوم النصر على قوى الظلام والتكفير والجريمة المنظمة، يقترب يوم ترفع مختلف صنوف القوات العراقية المسلحة والپيشمرگة الكردستانية والشبيبة المتطوعة وكل المقاتلين في جبهات القتال الأعلام العراقية والكردستانية جنباً إلى جنب لترفرف في سماء العراق وتحت أشعة الشمس المحرقة للأعداء وضوء القمر، يقترب اليوم الذي يُمسح عن جباه الجيش العراقي والشرطة ما علق بها من أدران وعار بسبب تسليم العراق دون مقاومة لعصابات داعش المجرمة، رغم إن المسؤولين عن ذلك ما زالوا أحرارا يمرحون ويسرحون في ربوع العراق ويحتلون أعلى المناصب وكأنهم قادة شجعان، في حين كان الجبن والكراهية والحقد دافعهم الأول في دفع القوات المسلحة والشرطة للهروب من الموصل الحدباء ومناطق أخرى من نينوى، وكانوا السبب، ومن جاء بهم إلى السلطة، وراء كل ما حصل هذا البلد والشعب المستباحين. 
والسؤال الكبير الذي طرح عليّ في ندوات عقدت ولقاءات ومناقشات جرت في أربيل في شهر تشرين الأول/اكتوبر بعنكاوة: وماذا بعد تحرير أرض العراق من دنس العصابات المجرمة؟
الإجابة المباشرة التي لا بد من تأكيدها: إن بقاء العوامل التي تسببت في اجتياح العراق من بوابة الفلوجة بالأنبار وصلاح الدين والموصل، وهي ما تزال قائمة حتى الآن، بل وبعضها متفاقم بالتآمر المتواصل، يعني أن طرد المحتلين من تلك المناطق من أوسع الأبواب، سوف يلجون العراق من أوسع شبابيكه ثانية، وتحت واجهات قديمة وجديدة دون أدنى شك. وأصبح الكثير من العراقيات والعراقيين يدركون إلى حد مناسب بأن الطائفية السياسية والمحاصصة والتمييز الديني والمذهبي والفساد ووجهه الآخر، الإرهاب، الداخلي والقبول بالتدخل الخارجي واستمرار وجود ميليشيات طائفية مسلحة تحتل وتراقب الشعب والمحلات ببغداد وفي بقية محافظات الوسط والجنوب، تماماً كما كان يفعل حزب البعث وأجهزته القمعية والأمنية والجماهيرية، إضافة إلى الدمج غير المشروع بين الدين والدولة وسلطاتها الثلاث وممارسة الأحزاب الإسلامية السياسية المتعارضة مع الدستور العراقي في وجودها وأسس عملها ودعاياتها ...الخ، والصراع الحزبي المتفاقم على السلطة والمال والنفوذ وتحت واجهات شوفينية وضيق أفق قومي بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ...الخ، هي وراء كل ما حصل ويحصل في العراق خلال السنوات التي أعقبت سقوط الدكتاتورية البعثية الصدامية الغاشمة وإلى الآن.   
وهذا يعني، إن الخروج من هذه المِحنة الكبرى يستوجب التغيير الفعلي في طبيعة النظام السياسي القائم وإجراء إصلاحات جذرية عميقة، عمودية وأفقية في البلاد. والوصول الى هذا الهدف يستوجب تحقيق تغيير في موازين القوى لصالح التغيير والإصلاح الجذري. وبدون ذلك سيبقى العراق معرضا للخطر الأكبر، خطر داعش وامثاله وما ينشأ عن ذلك من عواقب مدمرة للعراق وشعبه بكل قومياته واتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفكرية. وعملية تغيير موازين القوى تستوجب تعبئة واسعة جداً لأوساط الشعب على وفق أهداف وشعارات واضحة ومؤسسة بواقعية وموضوعية وفضح القوى التي تعرقل عملية التغيير. إن على القوى الأمينة لشعب العراق ووحدة أرضه تحمل مسؤولية رفع شعارات وطنية ومهنية متناغمة وممكنة تستجيب لمصالح الشعب والوطن وتساهم في التعبئة لأوسع الأوساط الشعبية دون الوقوع في فخ الشعارات المشوهة والمتقلبة التي تحاول حرف النضال باتجاهات غير مسؤولة وغير قادرة على تحقيق المنشود للشعب والوطن.
المخاطر التي تواجه العراق، عدا بقاء خطر عودة داعش او ما يماثله من فكر وسياسات، تبرز في عدد غير قليل من التناقضات والصراعات والنزاعات المحتملة التي من السهولة تفجيرها من الداخل، أو من قبل دول الجوار، أو السياسات الدولية الراهنة، أو بتوافر جميع العوامل السلبية.
أحد العوامل الحاسمة والمباشرة لتحديد اتجاه تطور الأوضاع بالعراق يبرز في الموقف من الموصل ونينوى بعد تحريرهما. فكل عوامل تفجير الوضع فيهما جاهزة ومحتملة: الوجود التركي المسلح والاستفزازي المتفاقم وبإصرار لعين وسكوت دولي مشبوه، وجود العشائر العربية المسلحة بجوار وجود الحشد الشعبي المسلح، إضافة إلى وجود الپيشمرگة المسلحة، ووجود الدور الإيراني والسعودي والقطري على قوى بعينها في العراق وفي المنطقة عموماً، ووجود الجيش والشرطة العراقية، وكذلك وجود القوات الامريكية، التي تتعامل ببراغماتية عالیة على وفق مصالحها المباشرة والملموسة إزاء العراق وتركيا وإيران وقطر و"الدولة الإسلامية اللقيطة!"، وليس وفق مصالح العراق وشعوبه، فهل ستسود الحكمة عبر خارطة طريق منسقة وواضحة في الموقف من الموصل واهله ومن النازحين وسبل التعامل مع المفخخات السياسية التي تواجه الوضع، وخاصة في الموقف من سكان تلعفر والمناطق المتنازع عليها و...الخ.
الصراعات المحتملة بين القوى أو الأطراف الحاكمة المنتمية لأحزاب طائفية على مواقعها في السلطة، وفي ما بين الأحزاب والقوى في كل طرف منها، احزاب شيعية ضد احزاب سنية، وداخل التجمعات السنية والشيعية، بين القوى الحاكمة وميليشياتها المسلحة المرتبطة بالحشد الشعبي، والمستقلة عنه بقياداتها المعروفة، الصراع بين الحشد الشعبي والسلطة الراهنة ذاتها على السلطة حالياً وبعد الانتصار، الصراع المحتمل بين الحشد الشعبي والپيشمرگة حول ما يطلق عليه بالمناطق المتنازع عليها، الصراعات العشائرية بسبب الثارات والانتقام والرغبة في السلطة والمال.
ثم هناك الوضع الاقتصادي البائس الذي يمر به العراق والذي تعاني منه أوسع أوساط الشعب في مواجهة قلة قليلة فاسدة ومتربعة على قمة السلطة وحواشيها ومتخمة بالسحت الحرام وسارقة لقوت الشعب. إذن هناك مخاطر جدية جاهزة لتفجر صراعات سياسية واقتصادية واجتماعية، صراعات دينية ومذهبية وقومية، وتحولها إلى نزاعات دموية، وهناك تحديات هائلة لاسيما الأوضاع الاقتصادية المالية واوضاع النازحين والمهجرين قسراً والتغييرات الديمغرافية الجارية والمتوقعة وعواقبها، وحملات الاغتيالات والتفجيرات ...الخ. فما العمل إزاء كل ذلك؟
ليست هناك صيغة واحدة جاهزة لمعالجة الوضع. فكل طرف من أطراف المعادلة لديه مشروعه ورغباته وسعيه لتنفيذ ذلك، والذي يمكن ان يصطدم بما لدى الأطراف الأخرى من مشاريع ورغبات ومسعى والذي يمكن أن يقود بعضها الى المزيد من الموت بشعب العراق والدمار بالعراق. وهذه المشاريع تتبلور في العمل غير السؤول للتمسك بالنظام الطائفي ومحاصصاته، وهي الأحزاب والقوى الطائفية التي يتنافى وجودها مع الدستور العراقي وحقوق الانسان والشرعية الدولية. وهناك الحل الذي يفترض ان تطرحه القوى الواعية والنزيهة والمسؤولة عن العراق وشعبه، ومنها القوى الديمقراطية واليسارية والليبرالية والدينية المتفتحة التي ترى في العلمانية، في فصل الدين عن الدولة، وفي إقامة المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية الحل الأمثل للمرحلة الراهن وللمستقبل. والصراع الفعلي الراهن والقادم سيبقى بين هذين الاتجاهين والذي يستوجب تغيير ميزان القوى لحسمه سلميا وديمقراطيا لصالح الدولة المدنية الديمقراطية.
تواجه المجتمع ثلاثة احتمالات في أعقاب تحرير الموصل وبقية اجزاء العراق المحتلة من داعش:
1.   ان يسعى كل طرف مشارك في المعارك التخلي عن التنسيق الجاري حتى الآن وفرض ارادته ورغبته وروحه الانتقامية والثأرية، بحيث تعم الفوضى ويسود القتل العشوائي. وهذا الاحتمال سيحول الموصل دون أدنى ريب الى ساحة حرب متشابكة ودامية، إلى حلب جديدة ثم ينتشر النزاع المسلح الى مناطق اخرى من العراق. وفي ظل النظام الطائفي الحالي لا يستبعد نشوء مثل هذه الحالة بأي حال!
2.   ان يسعى كل طرف إلى السيطرة على المناطق التي حررها قبل ذاك وتوقف عند نقاط جرى الاتفاق عليها. ومثل هذا لاحتمال يمكن حصوله، بسبب الأوضاع السائدة وانعدام الثقة بين جميع الأطراف المشاركة علنا او سرا في المعارك الحالية. ولكن مثل هذا الحل دون عودة كل طرف إلى أوضاع ما قبل اجتياح داعش واحتلال نينوى، سرعان ما يفجر نزاعات دامية تقود إلى ذات العواقب في الاحتمال الأول.
3.   ان يسود الشعور بالمسؤولية وتتغلب الحكمة والعقلانية لدى الجميع ويبتعدوا عن الصراع ويعود كل طرف الى مواقعه السابقة ويترك العمل للجيش والشرطة العراقية وأهالي المناطق المحررة لتنفذ خطة طريق عقلانية لإعادة الحياة الطبيعية وعودة النازحين ثم البدء بتنظيم ومعالجة المشكلات آلتي كانت السبب وراء كل ما حصل بالعراق عموما وبالمحافظات الغربية ونينوى وفي العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ومنع تدخل دول الجوار كلها بالشأن العراقي. هذا الاحتمال يتطلب مستلزمات أساسية:
ا. وجود خارطة طريق للموصل ونينوى، ثم للعراق كله، بما فيها المحافظات الغربية وجدول زمني لتحقيق ذلك. وهذا يعني إعادة النازحين إلى مدنهم وقراهم وإعادة إعمار المناطق المدمرة وتعويض الأهالي وانتهاج سياسة حكيمة في التعامل مع البشر كمواطنين متساوي الحقوق والواجبات.
ب. تحقيق التغيير المطلوب في النظام السياسي فعليا وليس كما حصل حتى الان، أي التخلص من الطائفية السياسية والمحاصصات الجارية في الحكم وسلطات الدولة الأخرى ومؤسساته والإصرار على إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي تفصل بين الدين والدولة وتحت شعار: "الدين لله والوطن للجميع".
ج. حصول تحول نسبي في ميزان القوى الشعبية الضاغطة على الحكم لفرض التغيير المطلوب والالتزام بما يجب فعله على صعيد العراق والمصالحة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وتشغيل العاطلين ومكافحة فعلية للفساد ووجهه الثاني الإرهاب. ويستوجب هذا تصعيد العمل الشعبي المناهض للقوى المضادة العازمة على وقف عجلة التغيير والذي بدأ بوضوح كبير في الوقت الحاضر.
د. ضمانات دولية من مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بمنع تدخل الدول المجاورة في الشأن العراقي الداخلي، ولاسيما تركيا والسعودية وقطر وإيران، إضافة إلى إجراء تغييرات فعلية في الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة التي لم يكن العراقيون والعراقيات يثقون بها، وهي التي لعبت دوراً سيئاً وصارخا في كل ما واجه العراق خلال العقود الخمسة المنصرمة.
ويبدو ضرورياً ومنذ الآن التفكير بثلاث قضايا جوهرية:
** سبل تكريس علاقة دستورية وعقلانية واعية بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وحل جميع نقاط الخلاف بينهما على أسس ديمقراطية وسلمية تضامنية.
** العلاقة المطلوبة والمنشودة بين القوميات والجماعات الدينية والمذهبية في محافظة نينوى، لاسيما النواحي الإدارية والثقافية والتربوية والتعليم، ومواجهة ما حصل فيها وعليها من تغيير ديمغرافي مخل بأصحاب الأرض على امتداد العقود التي أعقبت انقلاب شباط 1963 حتى الآن. علماً بأن هناك مطالبات وحلول فرعية مطروحة على الساحة السياسية العراقية من جانب المكونات القومية والجماعات الدينية في نينوى، والتي يفترض أن تدرس بعناية ومسؤولية على المستوى الوطني ووفق التجارب المريرة المنصرمة التي تعرض لها العراق وعاشها أتباع القوميات والديانات والمذاهب في العراق.   
** العلاقة المطلوبة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم من جهة، والمحافظات العراقية والكردستانية العراقية التي يفترض أن تتخذ صيغة الإدارة اللامركزية والتضامنية والتعاون والتنسيق والتكامل من جهة أخرى.
** إيجاد الحلول العملية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة والمتفاقمة بسبب طبيعة الاقتصاد العراقي الريعية والاستهلاكية وغياب الإنتاج المادي والانكشاف على الخارج من حيث المورد المالي النفطي والاستيراد السلعي لإشباع حاجات السكان وعواقبهما على المجتمع.
 
 



391
بثاني أكسيد الكربون، على سبيل المثال لا الحصر. [راجع في هذا الصدد:
]Stiftung Entwicklung und Frieden، Globale Trends، Fakten Analysen Prognosen: Für die Jahre 2000، 2002، 2003، 2004 / 2005، Fischer Taschenbuch Verlag، Frankfurt am Main،[
إن انتهاج سياسة اللبرالية الجديدة في الدول النامية لا تقود إلا إلى تعميق هذه الفجوة وزيادة عدد فقراء العالم وتقود إلى تركيز ومركز الثروة في العالم بأيدي مجموعة قليلة من دول العالم المتقدمة، وهو ما يفترض ألا نقبل به، بل نرفضه بحزم وصرامة ونسعى إلى تغييره.

الحلقة الرابعة
دور الدولة في العراق حتى انقلاب البعث الثاني
تأسست الدول العراقية الملكية في العام 1921، نشأت بعد انهيار الدولة العثمانية وبدء الاحتلال البريطاني للعراق في العام 1917، وفي أعقاب انتفاضة السليمانية 1919 ومن ثم  ثورة 1920، وهي نتاج مركب ومعقد من الذهنية التي سادت العراق في العهد العثماني والتحديث البريطاني للعراق الذي جاء به الاستعمار البريطاني وتجلى ذلك في الدستور الحديث الذي لم يتخلص من مسألتين: التأثير الفكري والسياسي  للعهد العثماني وطبيعة علاقات الإنتاج التي سادت العراق في تلك الفترة أولاً، والديمقراطية البريطانية التي جاء بها الحكم البريطاني للعراق ولكن قرمتها كثيراً الذهنية الاستعمارية البريطانية ذاتها وممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة والسفير البريطاني في بغداد ثانياً.
كان يراد إقامة دولة مدنية تستند إلى الدستور والسماح لعلاقات رأسمالية تهيمن في مجال التجارة والعقار ولكنها لا تقترب من التصنيع وتحديث الزراعة وفي ظل “الإسلام” دين الدولة وقانون دعاوى العشائر العراقية بجوار الدستور الحديث، وكان يراد إقامة دولة وفق سمات حديثة مأخوذة من الدول البريطانية على أرضية فكرية إسلامية يلعب شيوخ الدين في المجتمع دوراً كبيراً وفي ظل استمرار وجود علاقات إنتاج متخلفة، أي أن الأرض لم تحرث لصالح الوطن والمواطنة، بل استمر ما كان يطلق عليه الأمة الإسلامية ورعايا الخلافة الإسلامية عملياً، لقد كانت ثورة العشرين تجسد صراعاً بين الطموح إلى بقاء الوضع على حاله خشية التغيير من جانب شيوخ الدين وفقدان مواقعهم الدينية والاجتماعية والسياسية ومواردهم الاقتصادية، وبين تطلع ذلك الجزء من المثقفين والتجار صوب التغيير وتحديث العراق وفق منظور خليط بين الوطنية والرؤية البريطانية الجديدة.
نشأت في ضوء ذلك علاقات رأسمالية مستوردة في قطاع التجارة وفق ذهنية لبرالية، ولكنها مقرمة ومحصورة في القطاع التجاري وفي صالح المصالح والهيمنة الاستعمارية البريطانية على العراق، وبجوار الدستور المدني أقر قانون دعاوى العشائر وعملا جنباً لجنب في حياة المجتمع العراقي في الريف والمدينة، وبمرور الزمن اتسع النشاط اللبرالي للدولة العراقية بفضل نضال قوى المعارضة الديمقراطية من أجل التصنع وتطوير الزراعة ومعالجة مشكلات الأرض ومن أجل قطاع اقتصادي بيد الدولة وبناء جهاز كبير يمسك بزمام الأمور لصالح النظام السياسي القائم. لا بد لنا أن نلاحظ هنا بأن السلطات البريطانية كانت تسعى إلى بناء دولة سياسية الذي يحتاج بدوره إلى شعب أو أمة، وبين الممارسة العملية المناهضة لمفهوم الدولة وبناء الأمة الذي يفترض أن يجد له أساساً اقتصادياً واجتماعيا وكسر مفهوم الرعية بالمواطنة. هذا التناقض أعاق عملياً تسريع عملية بناء الوطن والمواطنة لحساب الإحساس بالأمة الإسلامية والرعايا، ومن هنا كان دور الدولة مطلوباً، ولكنه معطلاً لدوره في تكون فكر وثقافة الوطن والمواطنة.
وبعد إنهاء الانتداب المباشر ودخول العراق عصبة الأمم الذي سبقته الموافقة على عقد امتياز استخراج وتسويق النفط العراقي مع الشركات البترولية الأجنبية العملاقة وبدء تدفق موارد مالية من النفط الخام إلى الحكومة العراقية تزامن ذلك مع نهاية الأزمة العامة التي شملت العالم كله وبدء تطبيق نظرية كينز في السياسات الاقتصادية الغربية، ولذلك وجد ذلك تعبيره في السياسة الاقتصادية العراقية حين بدأت الدولة  بوضع برامج اقتصادية لعدة سنوات، ثم بدأ الضغط عليها للتصنيع، صدر قانون حماية الصناعة  في العام 1929 مثلاً، وفعّل لاحقاً ونشط دور الدولة وفيما بعد، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، دفع الدولة بإقامة مشاريع صناعية كما في صناعة الاسمنت مثلاً.
وأمكن في ظل انتعاش الكينزية أن توافق الحكومة العراقية على مشاريع صناعية لصالح قطاع الدولة، وخاصة مع المناصفة في عوائد استخراج وتصدير النفط الخام العراقي مع شركات النفط الاحتكارية الأجنبية ونشوء مجلس الإعمار ومن ثم وزارة الإعمار، فالدولة العراقية كانت قد بدأت بإرساء أسس أولية لدولة مدنية مؤسساتية قائمة على منهج لبرالي، ولكنها في الممارسة العملية كانت الحكومة ذاتها تنتقص من هذه الدولة في مجالات السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والمجتمع المدني.
لقد أخذ النظام الملكي من تاريخ العراق في العهود القديمة بعد تشكيل الدولة المركزية، أي بعد توحيد دويلات المدن القبلية، ومن العهود الأموية والعباسية والعثمانية، بعض مهمات الدولة الشرقية وسمات النمط الآسيوي المركزي، إذ كانت طبيعة النظم وواقع المنطقة الجغرافي والمناخي قد فرضا قيام الدولة بمجموعة من المهمات ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكنها أخذت في الوقت نفسه من المدنية والدولة الحديثة بعض ملامحها.
لقد مارست الدولة العراقية الملكية مجموعة من المهمات الخدمية بعد انتهاء الانتداب وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومنها خدمات التعليم والصحة والنقل العام (السكك الحديد والطيران ومن ثم حافلات نقل الركاب في بغداد، وكذلك الري والبزل، كما شيدت جهازاً كبيراً جداً تابعاً للدولة ويعتمد في تدبير لقمة عيشه على الحكومة، وأصبحت الدراسة متجهة بالأساس صوب تكوين موظفين للدولة، رغم التحسن النسبي الذي طرأ في الخمسينات على وجهة التعليم والتخصص والتعليم المهني.
حين سقط النظام الملكي في العراق لم تكن البلاد قد استطاعت تكريس الحياة الدستورية والديمقراطية المؤسساتية، رغم وجود المؤسسات، كما لم تستطع تعزيز وتكريس النهج اللبرالي في الاقتصاد، إذ أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية لم تكن هي السائدة، بل كانت إلى ذلك الحين تترافق مع وجود العلاقات الإنتاجية شبة الإقطاعية في الريف وأحياناً وجود العلاقات الأبوية القديمة في الريف والمستندة إلى العلاقات العشائرية ذات المضمون الأبوي، كما أن البرجوازية الوطنية، وخاصة الصناعية، لم تستطع احتلال موقع مهم في الاقتصاد العراقي، إذ أن القطاع العام كان أقوى من القطاع الخاص في قطاعات مختلفة من الصناعة العراقية بفضل نشاط مجلس ووزارة الإعمار والمشاريع الصناعية المهمة نشأت في الفترة بين 1951/1952 حتى سقوط الملكية في العام 1952، إضافة إلى وجود قطاع صناعي مختلط اهتم بتكوينه المصرف الصناعي العراقي.
بعد سقوط الملكية في انتفاضة الجيش وسعي الشعب إلى تحويلها إلى ثورة بأمل أن تجري تغييراً في علاقات الإنتاج وتطلق العنان لتطور القوى المنتجة المادية والبشرية وتطلق الحريات الديمقراطية وتعزز الهوية الوطنية العراقية والمواطنة العراقية، وكانت فرصة ثمينة لتحقيق الدولة المدنية القائمة على المؤسسات التي تستند إلى دستور ديمقراطي وحياة مدنية ديمقراطية وحياة اقتصادية جديدة تهشم علاقات الإنتاج القديمة عبر تنفيذ صارم لقانون الإصلاح الزراعي وبناء علاقات إنتاجية رأسمالية على أنقاضها وتدفع بالبلاد على طريق التطور الرأسمالي الذي يفرضه واقع العراق حينذاك، وكان هذا التوجه مقروناً بثلاث سمات ميزت العراق على امتداد قرون طويلة مع ملامح حديثة لبعض تلك السمات، وأعني بها ما يلي:
اعتماد المجتمع على الشخصية الكارزمية، على الشخصية الحكومية التي تقف على رأس الدولة، المنقذ من أوضاع المجتمع البائسة وغير الديمقراطية، ونجده شاخصاً في حياة القبيلة وفي دور الخليفة أو السلطان أو الوالي، كما نجده في الميثولوجيا الشعبية وبصور شتى ابتداء من العراق القديم إلى الوقت الحاضر، وقد برزت بشكل صارخ في فترة حكم عبد الكريم قاسم، حيث ارتفع الصوت الصارخ: ماكو زعيم إلا كريم، وعاش الزعيم الأوحد، وأصبح لفترة غير قصيرة معبود الملايين، بل هو لا يزال كذلك، وهو مأخوذ إلى حد ما من الهتاف المعروف لدى الكثير من الشيعة: ماكو ولي إلا علي ونريد حكم جعفري!!
اعتماد المجتمع على حكومة مركزية لتأمين جملة من القضايا التي كانت مسؤولة عنها في السابق أيضاً، ومنها الري والبزل والخدمات الاجتماعية والتوظيف في جهاز الدولة والاعتماد عليها في الحصول على الرواتب والأجور.
الدعوة إلى إقامة قطاع عام تديره الدول ذاتها، إلى جانب الدعوة لإنعاش نشاط القطاع الخاص، وهذه المسألة ترتبط بالتوظيف في جهاز الدولة الاقتصادي من جهة، وبالرؤية الحديثة لدور قطاع الدولة في توفير سلع وخدمات رخيصة للسكان وغالبيتهم تعاني من التخلف والفقر والبطالة والتي لم تعارضها النظرية الكينزية بل ساندتها حتى في المستعمرات أو الدول التابعة أو المستقلة حديثاً.
في هذه الفترة بدأ جهاز الحكم بالتضخم، وكذلك قطاع الدولة الاقتصادي وتفاقم دور البيروقراطية في حياة المجتمع، وعجز النظام الجديد عن حل المعضلات الأساسية التي واجهت المجتمع: ومنها وضع دستور ديمقراطي للبلاد، بناء حياة ديمقراطية ومؤسسات دستورية، الفصل بين السلطات الثلاث، تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، تراجع المجتمع المدني وتنامي ممارسة القوة والعنف في المجتمع وعجز عن حل مشاكل القوميات في العراق، كما سادت الفردية في الحكم وفي اتخاذ القرارات بما فيها تلك التي تمس مصير المجتمع والدولة، ومنها الحرب في كردستان والمطالبة بالكويت على سبيل المثال لا الحصر، لم يكن المجتمع بمستواه الفكري والاجتماعي أو الثقافي العام قادراً على الدفع بالاتجاه الصحيح، بل بحكم تربيته وأسلوب تفكيره قد ساهم في دفع عبد الكريم قاسم إلى تكريس حكمه الفردي والذي انتهى إلى النتيجة المعروفة.
لقد أخذت الدولة باللبرالية الكينزية إلى حدود بعيدة، رغم أنها لم تكن واضحة لمن مارسها في العراق، ولكنها كانت ضعيفة التطور ومتخلفة، وأعني بذلك الدمج بين الاعتماد على الدولة تنشيط القطاع الخاص لمعالجة مشكلة البطالة والتشغيل ومنح الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً بعض المعونات التي تساعد على تحسين ظروف حياتهم، إضافة إلى مشاركة الدولة في الخدمات الاجتماعية، ومنها الحياة الصحية والتعليمية والحياة الثقافية.. الخ.
لم يتسن لهذا الاتجاه أن يستقر فقد سقط بانقلاب نفذه البعثيون وسانده بعض الدول الكبرى على الصعيد العالمي والجمهورية العربية المتحدة والسعودية والأردن وتركيا وإيران على صعيد المنطقة.
والنظام الجديد في الجمهورية الثانية كان نظاماً شمولياً فاشياً في ممارساته السياسية والاجتماعية وفي ساديته ونرجسية قادته وبؤس ثقافتهم وغياب وعيهم الوطني واعتماد موقف عروبي يميني وشوفيني متخلف بعيداً كل البعد عن المدنية وعن اللبرالية بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي، وعن مفهوم الوطن والمواطنة المتساوية، إذ سادت الفوضى وعم الفساد والقتل بالجملة والحرب في كردستان وغياب دور الدولة المؤسسية.
لم يعرف في العراق في هذه المرحلة دولة مدنية مؤسساتية، بل كانت عصابات منفلتة من عقالها سيطرت على الحكم بالقوة، ولكنها سرعان ما سقطت تحت حراب حلفاء الأمس.
برز في فترة حكم الأخوين عارف اتجاه نحو تخفيف الضغط على المجتمع والاعتماد بقدر ما على القوى القومية اليمنية التكنوقراطية ذات الانتماء القومي الناصري، فسعت إلى توسع جهاز الدولة السياسي والإداري والاقتصادي والخدمي وإلى محاولة امتصاص الكثير من العاطلين من الخريجين فيه، كما عمدت إلى الاعتماد على قطاع الدولة الرأسمالي، وإهمال نسبي للقطاع الخاص في حقول الإنتاج والنشاطات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، ولكنها تركت له المجال في المقاولات والمضاربة بالعقارات، كان التركيز على قطاع الدولة قد انطلق من محاولة التماثل والوحدة مع مصر، إضافة إلى اعتماد سياسة تقليم أظافر البرجوازية الصناعية، التي رفضت حكمها وطالبتها بدستور دائم وإقامة دولة مؤسسية حرة والفصل بين السلطات، بتأميم مشاريعها الاقتصادية في المصارف والصناعة والتجارة والتأمين، ولم يكن للدولة أي وجهة مدنية عقلانية، بل كانت دولة استبدادية قائمة على حكم الفرد ووفق أسس قومية عروبية وأسس طائفية بغيضة عجزت عن تحقيق أي مهمة سياسية أو اقتصادية أو حل مشكلات اجتماعية، ولكنها كانت أقل شراسة في القتل والسجن والتعذيب من سابقتها، عطلت تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي وغيرت من محتواه في غير صالح التقدم في الزراعة والريف وسعت إلى تنشيط قطاع النفط الخام ولكنها عجزت عن عقد اتفاقيات مناسبة لصالح الاقتصاد العراقي واستفادت من موارد النفط الخام المصدر لأغراضها الاستهلاكية والعسكرية وحربها المتقطع ضد حركة التحرر الكردية وفرطت في تلك الموارد ولم تنفذ إلا القليل من برامج التنمية الاقتصادية التي وضعتها خلال الفترة 1963-1968.
لقد كانت دولة انتقائية وحكم قائم على الانتقاء في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون أي فلسفة في الحكم أو منهج يضيء لها الطريق فتعثرت كثيراً رغم الانفتاح السياسي النسبي في نهاية حكم عبد الرحمن محمد عارف الذي تسلم الحكم بعد موت أخيه عبد السلام محمد عارف في حادث طائرة في سماء جنوب العراق، لقد سقط النظام الذي انتشر فيه الفساد ودور المضاربة بالعقار والاغتناء على حساب سرقة قطاع الدولة ونهبه من الباطن والاستيراد المفتوح لمن يبني الجوامع والمساجد في العراق، وخاصة من البطانة والمحيطين بالنخبة العسكرية الحاكمة، كما لعب العسكريون والمتقاعدون منهم على نحو خاص دوراً مهماً في الحصول على إجازات استيراد وبيعها لآخرين وفق عمولة، إذ أصبحت باباً رحباً ومفتوحاً للاغتناء على حساب الشعب ومالية الدولة، سقط هذا النظام ومعه الجمهورية الثالثة تحت وطأة ضعفها والتآمر من داخل الحكم والقصر على النخبة القومية اليمينية والشوفينية الحاكمة، وبدأت الجمهورية الرابعة، جمهورية الرعب، على حد التعبير الدقيق للدكتور كنعان مكية، وخلال حكم الأخوين عارف ازداد دور الدولة وازداد الاعتماد عليها، وادعى العاملون في هذه الدولة أنهم يسعون إلى بناء الاشتراكية العربية، وهي في الحقيقة لم تكن سوى لبرالية كينزية مشوهة وانتقائية وثأرية في الممارسة.
ولا بد من الإشارة إلى أن ما تحقق في ظل النظام الملكي من خطوات على طريق التمدن وبناء الدولة المدنية قد انقطع، وكان المفروض أن تواصله ثورة تموز 1958، إلا أنها عجزت عن ذلك بفعل عوامل داخلية وخارجية، مما فسح المجال لتراجع عما تحقق من خطوات على طريق تمدن الدولة والمجتمع وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية والقائمة على الدستور والتقاليد المؤسساتية حتى نهاية حكم العارفين، فماذا حصل لدور الدولة في ظل حكم حزب البعث والطاغيتين أحمد حسن البكر وصدام حسين، وما هي طبيعة النهج الاقتصادي الذي مورس في هذه الدولة الاستبدادية المشوهة، هذا ما سأحاول التعرض له في الحلقة الخامسة.

الحلقة الخامسة
دولة البعث والاقتصاد العراقي
من المعروف أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، فحزب البعث حين وصل إلى السلطة عمد إلى استكمال بناء دولة الرعب البعثية التي بدأ بها في العام 1963 وانقطعت لعدة سنوات عبر ذهنية القوى القومية الناصرية القلقة والمترددة بين الاستبداد واللبرالية،  بناء جمهورية الرعب السياسي والاجتماعي والثقافي، جمهورية الأيديولوجية القومية الشوفينية الواحدة، التي كانت ترفض بقسوة وغلو بقية الإيديولوجيات وتسعى إلى وأدها وتصفية أصحابها فكرياً وجسدياً، الدولة التي كان يقول حاكمها بعنجهية المستبد المطلق والظالم: “أن العراقيين بعثيون وأن لم ينتموا”، شاءوا ذلك أم أبوا! وأن الدولة البعثية باقية وإلى الأبد!!
لقد مارس رأس النظام البعثي كل المجون والعهر السياسي والقهر في التعامل مع الإنسان العراقي ومع الأحزاب والأيديولوجيات الأخرى وسعى بكل السبل المتاحة لديه إلى ضربها وتصفيتها وإسقاط أو قتل المنتمين إلى الأيديولوجيات والأحزاب الأخرى، أياً كان الآخر ما دام غير بعثي بسلوك صدامي، أو غير ملتزم بصيغة ما بالولاء “للقائد الضرورة” و“القائد التاريخي للأمة العربية”، بل قام بقتل جمهرة كبيرة من البعثيين من رفاقه القادة لاختلاف في الرأي أو منافسة في المواقع أو خشية من أمر ما.
لقد سيطر حزب البعث على السلطة وسخر الدولة كلها بما فيها من أدوات قمع للإجهاز على الآخرين، واستثمر لهذا الغرض طاقات الدولة المالية الكبيرة المتأتية من قطاع النفط الاستخراجي على نحو خاص، وبما فيها من أدوات حراسة له ولنظامه، إذ أن الدولة التي عرفناها حتى الآن كانت ولا تزال تمارس مهمتين: مهمة قمع معارضي النظام وحراسة من بيدهم الحكم.
حين استولى حزب البعث على السلطة السياسية عمد إلى اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتأمين هيمنته الكاملة على الحياة الاقتصادية وعلى منتج الثروة في البلاد، على الإنسان، وعلى مصدر الثروة في العراق، النفط الخام، ومن أجل تحقيق ذلك عمد إلى مجموعة من السياسات الملموسة، منها في مجال بحثنا:
توسيع جهاز الدولة بالمزيد من البشر، الناس الذين يعتمدون في عيشهم وتدبير أمور حياتهم اليومية ومصدر أجرهم أو راتبهم على الدولة مباشرة، مثل الجهاز الإداري، وأجهزة القوات المسلحة، بما فيها الجيش والشرطة والأمن الداخلي والخارجي والوكلاء والعيون الساهرة على مراقبة حركة الشعب وشرطة الحدود والأجهزة الخاصة.
توسيع قاعدة نشاط قطاع الدولة الاقتصادي في مجال الإنتاج والخدمات ووضع قطاع النفط الخام بكامل ثروته وعوائده بيد هذه الدولة البعثية، والذي تم بقرارات التأميم في العام 1972.
توسيع دور الدولة في الحياة الثقافية والخدمية بحيث تهيمن على القطاع التعليمي بكل مراحله وبصورة كاملة وعلى أجهزة الإعلام بشكل مطلق وكذلك على مجرى الحياة الثقافية التي صبغت بلون وفكر حزب البعث إلى ابعد الحدود الممكنة، إلا من فلت منها بطريقة “كليلة ودمنة”.
تقليص دور ومكانة القطاع الخاص وجعله خاضعاً لجهاز الدولة البيروقراطي من خلال علاقاته الباطنية أو ما يمنحه من إمكانيات مقيدة برغبة الدولة، فهي التي تمنحه أو تمنع عنه ما تريد، وبالتالي فهو قطاع تابع لها وليس حراً بتصرفاته.
كان النظام ألصدامي انتقائي في تصرفاته وسلوكه الاقتصادي بما يخدم أغراض القائد الفرد، من هنا فأن الدولة البعثية التي نتحدث عنها لم تكن دولة تخضع لمعايير معينة غير معيار الاستبداد وممارسة القسوة والعنف إزاء الإنسان والمجتمع.
لقد أقامت دولة البعث قطاع دولة رأسمالي، ولكنه لم يعتمد على الربح في تسييره الذاتي، بل كان يعتمد على تحمل الدولة خسائر قطاعها الاقتصادي لأنها لم تكن بحاجة إلى أموال مشاريع الاقتصاد العراقي في ما عدا موارد النفط الخام التي تعاظمت منذ عملية التأميم وازدياد الطلب عليه وارتفاع أسعاره وبما أطلق عليها بالفورة النفطية.
سعى البعث إلى تكوين قطاع دولة رأسمالي يكون في خدمة الدولة البعثية وأهدافها وليس في خدمة المجتمع وتطور الاقتصاد الوطني وزيادة معدلات نموه، لقد أبدت قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة اهتمامهما الأكبر بالهيمنة على قطاع الدولة وجعله أداة بيد الحكم من أجل:
** السيطرة على وجهة تطور قطاع الدولة الاقتصادي والتحكم بالمشاريع التي يقيمها والوجهة التي يتطور نحوها.
** السيطرة على قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والمصارف وشركات التأمين، وبالتالي السيطرة على وجهة الاستثمارات ومن يحصل عليها وسبل استخدامها.
** التحكم بالبرجوازية الوطنية وفرض وجهة نظره علها.
** إخضاع المجتمع بأسره لإرادة قيادة الدولة ومصالحها والوجهة التي تسعى إليها.
** إخضاع جميع مكونات الدولة لها وجعل كافة السلطات بيد مجلس قيادة الثورة ومن ثم بيد الفرد القائد، وهي دولة استبدادية ولا تقوم على مؤسسات دستورية بل تنطلق من إرادة ورغبات القائد وممثلة له وليس للشعب.
لقد سادت في العراق في فترة حكم البعث بين 1968-2003 دولة فرضت على الشعب أن يستند إليها في عيشه، ولكنها لم توفر الحماية له، بل استخدمته في حروبها وأجزاء منه في تنفيذ سياساتها في الحروب الداخلية والقمع الداخلي، وكانت دولة الحروب والقمع والإبادة الجماعية وضد الإنسانية والمقابر الجماعية، فهي دولة استثنائية لا تندرج تحت باب من أبواب الدولة المعروفة، بل تمثل شكلاً من أشكال الفاشية السياسية.
لقد عارضت حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية، فتسببت بنشوء اختلالات استثنائية في الاقتصاد العراقي، كانت دولة ريعية، استهلاكية وبذخية متمردة على القيم الحضارية وعلى مصالح الإنسان العراقي، دولة عصابات منفلتة من عقالها لا قيم ولا معايير تسيّرها غير رغباتها الجامحة وأهدافها في الهيمنة والتوسع.
في الفترة الأولى من حكم البعث حيث تعاظم المورد النفطي توجهت السياسة نحو تنمية سريعة لقطاع الدولة وإقامة مشاريع صناعية وزراعية وري واسعة، إضافة إلى التوسع في الخدمات، فكانت السياسة مزيجاً من اللبرالية المنفتحة والتوجيه الحكومي المرتبط بإرادة مجلس قيادة الثورة أو المسؤول عن الاقتصاد العراقي حينذاك، صدام حسين، فانتعشت الفئات المتوسطة العاملة في مجالات الصناعة والمقاولات والصناعات الصغيرة الحرفية وفي قطاع التجارة والعقار، إضافة إلى الأجهزة المتنفذة العاملة في قطاع الدولة وتلك التي كانت تتعامل مع الشركات الأجنبية، وازداد البذخ في إقرار إقامة المشاريع الجاهزة وتسليم المفتاح وازداد عدد دورات الدينار العراقي السنوية وتحسنت السيولة النقدية مع ارتفاع سريع وتضخمي في الأسعار، وأطلق على هذه الفترة النفطية المنتعشة بالفترة الذهبية لعصر البعث، وكان الدكتاتور الأرعن والجاهل طه ياسين  الجزراوي يخطب بصوت مرتفع ويقول : “لدينا الأموال، نريد الأحسن” متجاوزاً كل أجهزة التخطيط التي كانت تحاول إعداد خطط اقتصادية عقلانية ومعقولة.
كتب الصديق الدكتور جعفر عبد الغني، الخبير الاقتصادي، معلقاً بملاحظات صائبة على ملاحظات الدكتور بارق شبر في ضوء تعليق الأخير على المقالة المختصرة للدكتور حيدر سعيد في موقع العالم، إذ كتب يقول فيها ما يلي:
“كنت قد أعددت دراسة تحليلية بعد الإحصاء العام لسنة 1975_1976 فقدت مسودتها مع الأسف الشديد يتبين من خلالها أن أكثر الفئات الاقتصادية استفادة في تلك الفترة كانت الطبقة الوسطى ليس من الموظفين بل من الصناعيين والمقاولين و التجار و الحرفيين، ففي الوقت الذي كانت استثمارات القطاع العام هي الطاغية كانت مؤسسات هذا القطاع تعاني من الخسارة المزدوجة أي كلفة رأس المال و كلفة الدعم المقدم للإنتاج و أن القيمة المضافة المتولدة في هذا القطاع لم تتعد أجور العاملين و حسب، أما القيمة المضافة المتولدة في القطاع الخاص فاغلبها الربح و اقلها الأجور، خطان متعاكسان تماما. ولكن الحكم الصدامي قضى على هذه الظاهرة في نهاية السبعينات عندما صادر مكتسبات هذه الطبقة وسلمها إلى وكلائه ومخبريه وأقاربه، هذه ملاحظة تصحيحية ربما تستحق الدراسة الجدية”. (الرسالة محفوظة في أرشيفي، كز حبيب).
واتسعت في هذه الفترة ظاهرة الفساد المالي على نطاق واسع وفتحت الكثير من الحسابات في الخارج لتحويل العمولات إليها لعدد كبير من المسؤولين وكبار الموظفين المتعاملين في إقرار وتوقيع العقود مع الشركات الأجنبية، وسيطر صدام حسين نفسه على ألـ 5% حصة كولبنكيان في عوائد نفط العراق في أعقاب التأميم، إضافة إلى الأموال التي تسربت إلى القيادة القومية لحزب البعث والقوى المساندة لحزب البعث في الخارج من عرب وأجانب على حساب خزينة الدولة ومصالح الشعب.
ولكن هذه الفترة تعطلت وتراجعت مع بدء حروب النظام وما اقترن بها من توقف للمشاريع الاقتصادية وتدمير البنية التحتية وخاصة في الحربين الأولى والثانية من حروب الخليج ثم غزو الكويت والحصار الاقتصادي.
ومع بدء تنفيذ قرار النفط مقابل الغذاء بحدود منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، بل حتى قبلها، ازداد اعتماد المجتمع على أرزاق الدولة، على كوبوناتها وعلى عطاءات القائد المتسلط، لقد انهار سعر العملة العراقية وانقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة غنية صغيرة جداً هي الفئة الحاكمة والمحيطين بها، والفئة الأكبر، الفقيرة، التي أصبحت غير قادرة على العيش دون تلك الحصة التموينية. وهنا كانت الدولة شراً لا بد منه حقاً لتلك الغالبية العظمى من المجتمع، إذ لم يكن في مقدور البشر العيش دون تلك الحصة التموينية ودون دعم الأسعار، إذ كانت حالة المجتمع قد بلغت الحضيض حين سقط النظام تحت أقدام قوات الاحتلال الأمريكية البريطانية بشكل خاص وحيث صدر قرار مجلس الأمن الدولي باعتبار العراق دولة محتلة من قبل القوات الأمريكية والبريطانية.
وحين ازداد الجرح نزفاً في المجتمع والأوضاع المالية تدهوراً عمد صدام حسين إلى ممارسة خمس مسائل متناقضة مع أوضاع المجتمع والفقر المدقع لنسبة عالية منه:
** زيادة الصرف على احتفالاته بأعياد ميلاده السنوية والعطايا التي يمنحها والهدايا التي يستقبلها من المجتمع وهي مقطوعة من ميزانية مؤسسات قطاع الدولة والدوائر الحكومية.
** زيادة عدد قصوره الرئاسية وقصور حاشيته التي تميزت بالفخامة والبذخ الكبير.
** زيادة عطاءاته من كوبونات لقوى خارجية من أجل كسب ودها ومساندتها لحكمه.
** زيادة مصروفاته على التسلح والتجسس وخنق صوت المجتمع المعارض له.
** زيادة المكاسب للأجهزة القريبة منه والحامية له بما يزيد من اعتمادهم عليه واعتبار مصيرهما مشترك.
من هنا يمكن أن نتبين بأن دولة صدام حسين لم تكن دولة للقانون بل دولة الفرد القائد وهو القانون، ومثل هذه الدولة البعثية لا يمكن أن توضع في خانة الدول اللبرالية أو النظم النيوليبرالية، أو أي شكل أخر من النظم السياسية، ولكنها كانت في كل الأحوال تشكل جزءاً من نظام العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية والرأسمالية الطفيلية والمتخلفة، إنها دولة عصابات شوفينية متمردة، دولة التجسس والبوليس، دولة الاستبداد الشرقي المستحدث بأساليب وأدوات قمعية حديثة. ولكن، في هذه الدولة الريعية، ازداد المجتمع اعتماداً على الدولة في الحصول على جزءٍ أساسيٍ من عمله وقوت يومه. لقد كانت الدولة شر لا بد منه، في حين أن الدولة بعمومها ليست الشر الذي لا بد منه ، بل هي الناظم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والبيئي الذي يمكن اعتماده بجوار المجتمع المدني الديمقراطي الحديث!
إن المحدد لطبيعة الدولة دستورها والقوانين التي توضع في ضوء الدستور والمؤسسات التي تنهض على أساسه، ومن ثم النظام السياسي الذي ينشأ في ضوء ذلك الدستور، وبتعبير أكثر قرباً للواقع وملموسية، في ضوء طبيعة القوى الطبقية التي تقود البلاد وترسم سياساته وتحدد المصالح التي تسعى إليها.

الحلقة السادسة والأخيرة
وماذا بعد البعث وإسقاط الدكتاتورية الغاشمة؟
جمعت الإدارة الأمريكية عدداً كبيراً من السياسيين العراقيين المرتبطين بأحزاب سياسية معارضة أو عناصر مستقلة بمستويات وخبرات متنوعة بهدف تأمين معلومات ضرورية للمسؤولين والقوات الأمريكية التي كانت تقود تحالفاّ دولياً غير شرعي، إذ لم يحض بتأييد مجلس الأمن الدولي، لشن حرب ضد النظام الدكتاتوري في العراق وإسقاطه، ولو كانت المعارضة العراقية قادرة ذاتياً على تحقيق هذا الهدف لما حل هذا التدخل الدولي، إذ أن أساليب النظام الفاشي في مواجهة قوى المعارضة لم تترك أي مجال في تحقيق هذا الهدف بقواها الذاتية، فكان التدخل الخارجي، ومن هنا يمكن القول بأن الظرف الموضوعي لم يكن متطابقاً مع الظرف الذاتي حين أُسقطت الدكتاتورية في العراق في التاسع من نيسان/ابريل 2003، إذ لم يكن في صالح العامل الذاتي. قدمت مجموعة الخبراء التي بلغ عدد أفرادها 132 شخصاً معلومات كثيرة وتقارير غنية عن سبل التعامل مع الظرف الجديد الذي سينشأ في أعقاب سقوط النظام، وأصبحت لديهم ملفات ضخمة في هذا الصدد وفي مختلف المجالات. ولكن على عادة قادة الولايات المتحدة المغرورين وكذلك أولئك الذين نسبوا للعمل في العراق، لم يبدوا أي اهتمام بتلك التقارير ولم يكن هناك من هدف مباشر أمامهم غير إسقاط النظام وتحويل العراق إلى ساحة قتال ضد قوى القاعدة وقوى الإرهاب، إضافة إلى الأهداف الأساسية الأخرى التي تقف وراء كل حرب من هذا النوع وفي منطقة الشرق الأوسط الغنية بخاماتها، وخاصة النفطية منها. ولكن ماذا بعد الإطاحة؟ ليكن الطوفان! وحصل الطوفان فعلاً!
كان بول بريمر يمثل الشخصية النموذجية الأسوأ بين المسؤولين الأمريكيين الذين أداروا دفة الحرب والعمل في العراق، لم يكن بريمر يعرف شيئاً عن العراق ولم يكلف نفسه مشقة قراءة تقارير الخبراء العراقيين، كما لم يبذل جهداً للاستفادة منهم في العراق، بل ضيق عليهم الخناق حتى تخلصوا منه أو تخلص منهم، وكان لرئيس هيئة إعمار العراق العراقي الدور المعلى في تقصير قامة هؤلاء الخبراء وفي هروبهم من العمل معه. جاء بمريمر إلى العراق وهو جاهل بكل معنى الكلمة بتاريخ العراق وأحوال شعبه ومشكلات المجتمع التي تراكمت عبر عقود من الاستبداد الدموي وبعيداً تماً عن وعي طبيعة هذا الشعب، وكان رأسماله الأول والأخير أنه من الجماعة المؤمنة بالنيولبرالية، ومن أتباع المحافظين الجدد في آن واحد، ومن المقربين للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، جاء الحاكم بأمره معتقداً بضرورة ممارسة السياسات التالية:
1. تدمير كامل لدولة البعث في العراق، دون أن يدرك دور الدولة وبعض مهماتها المشتركة في العراق، سواء أكانت بعثية أم غير بعثية، وكانت المصيبة أنه دمر جهاز الدولة العسكري والمدني وسمح للفوضى بالسيادة وللنهب والسلب بالسيطرة على الشارع.
2. تدمير قطاع الدولة والدعوة للقطاع الخاص دون أن يعمل على توفير مستلزمات نهوض قطاع خاص فاعل ومؤثر وقادر على أخذ مهمات إعادة البناء والتنمية في البلاد.
3. رفض عملية التنمية الاقتصادية ورفض التصنيع أو تطوير وتحديث القطاع الزراعي، بل ركز جل اهتمامه على قطاع التجارة الخارجية، أي تصدير النفط الخام واستيراد جميع أنواع السلع. إن تقسيم العمل الدولي الذي يؤمن به هو التصنيع والإنتاج عموماً يتم في الدول المتقدمة، والاستهلاك يتم في الدول النامية، إضافة إلى تصديرها للمواد الأولية دون استخدامها في التصنيع المحلي.
4. وكان يسعى لأن تدير الولايات المتحدة الشؤون العراقية لأطول فترة ممكنة بعيداً عن القوى والأحزاب السياسة، وحين عجز بريمر عن تحقيق ذلك، أُجبر على تشكل مجلس الحكم الانتقالي، وحين أقام هذا المجلس، أقامه على النمط الذي تبناه للعراق، على أساس نظام سياسي طائفي يستند إلى محاصصة دينية وطائفية وقومية مدمرة لمفهوم الوطن والمواطن، وكانت بداية الخراب الفعلي الذي عم العراق في السنوات السبع المنصرمة، والذي وجد التأييد والمساندة من الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، باعتبارها قد مسكت زمام الحكم بأكثرية أعضائها في مجلس الحكم الانتقالي، وفيما بعد ايضاً.
5. وخلال فترة حكمه المباشر، كدكتاتور صغير، ساعد بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الفساد والإفساد الذي كان قائماً أساساً وعلى انتشاره في سائر أنحاء العراق وبين كبار المسؤولين عبر الشركات الأمريكية بشكل خاص والشركات الأجنبية القليلة الأخرى التي عملت مع الشركات الأمريكية في العراق، وخسر العراق عبر النهب والاستخدام السيء مبالغ طائلة من الأموال العراقية والمساعدات الخارجية وكميات كبيرة جداً من النفط الخام.
6. ولم يستطع العراق التقدم خطوات إلى أمام في مجال تأمين إعادة البناء أو إعادة الخدمات أو تشغيل العاطلين عن العمل ومكافحة الفقر والبؤس والفاقة، حتى الإرهاب لم يستطع المساهمة في دحره،
هذه الوقائع يصعب على أي إنسان عاقل أن يشكك بها أو يتجاوزها في الحديث عن العراق في فترة حكم بريمر، وبعد حكمه واصل العراق مسيرته في مختلف المجالات وبشكل خاص في الموقف من الدولة ومن قطاع الدولة ومن الفساد المالي والإداري والمحاصصة الطائفية، كما تم تجميد المشاريع الصناعية التابعة لقطاع الدولة بهدف خصخصتها عملياً، ودفع الدولة أجور العمال والموظفين في تلك المنشآت لأن الحكم لا يريد أن ينشأ في العراق قطاع دولة، رغم أهميته في المرحلة الراهنة وضرورة وجوده،
لم يكن هناك أي تصور عقلاني وإيجابي لبريمر في تنمية الاقتصاد والمجتمع. ربما قد تصور بعض قادة الولايات المتحدة أن سقوط النظام وتدمير الدولة البعثية سيجلبان الحرية والديمقراطية ونشاط القطاع الخاص، ولكن عقليتهما لم تتسع لتدرك بأن سقوط النظام والدولة البعثية من جهة، ونشر الحرية والديمقراطية من جهة  أخرى لا يدخلان بعلاقة ميكانيكية، بل هي عملية معقدة ومركبة وطويلة الأمد، إذ لا يمكن تحقيق ذلك بالتصور والرغبات وبدون دولة مؤسسية تهيئ تدريجاً القاعدة المادية لسيادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أن الدولة هي القادرة ولفترة طويلة حقاً على النهوض بأعباء الكثير من العمليات الإنتاجية والخدمية دون أن يعيق ذلك بناء وتطوير القطاع الخاص من خلال تهيئة مستلزمات نهوضه. إلا إن الولايات المتحدة لم تكن لها مثل هذه النية، بل كانت روح الانتقام تسيطر على جورج دبليو بوش وروح الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، والعراق في القلب من هذه المنطقة. إن تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث أو المعاصر يؤكد بشكل قاطع أهمية الدولة ودورها وجملة من مهماتها، إضافة إلى قطاعها الاقتصادي في مجال اقتصاد النفط والعديد من المشاريع الصناعية والمشاريع الخدمية في المرحلة الراهنة وفي المستقبل أيضاً. وأن نسيان ذلك يقود إلى عواقب وخيمة، تماماً كما حصل في فترة حكم بريمر، وكما هو الوضع الراهن الذي هو استمرار بائس لفترة بريمر.
إن الخطوات التي قطعت في مواجهة نسبية للإرهاب والمليشيات الطائفية المسلحة وفي إعطاء الوعود في توفير إمكانية للشعب على التحرك والتمتع بحرية نسبية وعلى المشاركة بنقد الأوضاع القائمة والدعاية الانتخابية، لم تنفذ، بل ارتد الوضع على أعقابه، واتسمت فترة حكم نوري المالكي بمزيد من الفساد الذي عم البلاد والمزيد من الإرهاب الحكومي والميليشاوي، إضافة إلى الاغتيالات الفردية وتحول العراق تدريجاً إلى أشبه بمستعمرة إيرانية، وانسياب الأموال والأسلحة والمخدرات منها وعبر جميع بوابات الحدود التي كانت ولا تزال مفتوحة لها. ولغيرها.
لا تزال الحكومة العراقية في الوقت الحاضر تمارس سياسة بريمر في مجال الاقتصاد، إذ لا يزال التفكير المهيمن نيولبرالي، ويتسم بالفاقة الفكرية، وخاصة في الموقف من دور الدولة وقطاعها الاقتصادي وسبل التعامل مع مكونات الاقتصاد الكلي، ومن التصنيع وتحديث الزراعة ومن إغراق الأسواق المحلية بالسلع الأجنبية التي تساهم اليوم في تدمير ما تبقى من إنتاج صناعي حرفي أو إنتاج زراعي، حتى لبن أربيل المشهور لم يعد قادراً على الصمود في المنافسة مع الألبان الإيرانية والتركية والسعودية والسورية وغيرها، ولم يعد يصل إلى بغداد لكي تعرّف به وزارة الدفاع العراقية، كما في السابق،
نحن أمام حالة مماثلة لما كان يقول به طه الجزراوي ولكن بصيغة أخرى: “نحن نملك الأموال النفطية، ومن حقنا أن نستورد كل شيء، ولسنا بحاجة إلى تصنيع أي شيء”.  فأغلب الذين يقودون القطاع الصناعي في العراقي اليوم يتبنون الفكر النيولبرالي، وكل المصانع التابعة لقطاع الدولة مجمدة بأمل بيعها بأبخس الأثمان، ولكن مجلس النواب هو الذي أوقف هذا المشروع الذي أراده بريمر للعراق، لقد كانوا يريدون تحقيق الخصخصة التامة قبل الانتخابات القادمة، إذ من الممكن أن يأتي مجلس جديد يرفض الخصخصة الكاملة لمشاريع الدولة، إلا أن المنافسة الانتخابية الراهنة ساعدت على منع بيعها وبالطريقة التي أرادت ممارستها وزارة الصناعة العراقية واستعجلت في تقديم المشروع لمجلس النواب،
نحن أمام نهج غير سليم ومضر بالاقتصاد والمجتمع في العراق، ليس هناك من يقف ضد القطاع الخاص، بل لا بد من وجوده ومساهمته وتطويره، وليس هناك من يريد منع وصول رؤوس أموال أجنبية للعراق، ولكن كيف وبأي شروط وعلى وفق أية معايير، ولكن هناك من يقف ضد قطاع الدولة وضد الدعم الحكومي للفقراء والمعوزين، بما فيها البطاقة التموينية،
العراق بحاجة إلى قطاع الدولة والقطاع المختلط، إضافة إلى القطاع الخاص، العراق بحاجة إلى الدعم الحكومي للفئات الفقيرة والمعوزة والبطاقة التموينية، ولكن ليس للجميع بل للفئات المحتاجة لهذه البطاقة وليس للأغنياء والمتخمين، هنا ينبغي التمييز بين المواطنين لصالح الفقراء والمحتاجين، وسيبقى دور الدولة قائماً ومطلوباً للمشاركة الفعالة في تنظيم الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وفي هذا التقي مع الأخ الدكتور حيدر سعيد حين يقول:
“لقد كانت التجاربُ الأساسية للتحديث في المنطقة، من قبيل تجربة تركيا، هي من صناعة الدولة، غير أن العقل الأميركي لم يستطع أن يفهم منطق الدولة هذا والأهمية التي تحتلها في منطقتنا، ولم ير من فائدة وضرورة لها سوى أنها شرطي يواجه التطرف الإسلامي، وهو الذي جعل الولايات المتحدة تدعم الأنظمة القائمة في المنطقة، بعدما تبيّن لها أن إسقاط نظام صدّام قد أطلق نزعات أصولية نائمة،
"لقد كان التفكير في الدولة في منطقتنا ينطلق من قدرتها على تمثيل المجتمع: هل هي تعبِّر عن أمة واحدة، أو مجتمع متعدد؟ نحن لا نفكر في الدولة، هنا، من حيث انها جهاز بيروقراطي (يبدو، للمفارقة، أن إصلاحه لن يتم إلا بضربة نيوليبرالية)، بل من حيث هي ناظم اجتماعي، وهكذا، يبدو أن السنوات المقبلة ستكون عملا لإعادة إنتاج وبناء وترميم النزعة الدولتية.” (راجع: الدكتور حيدر سعيد، الدولتية وسؤال التحديث، مجلة الأسبوعية، العدد 109 بتاريخ 14م2/2010، بيروت)،
ومن هنا جاء اختلافي مع ملاحظات الدكتور بارق شبر،
الدكتور بارق شبر يتبنى سياسة مقاربة من حيث المبدأ للسياسة التي مارستها ألمانيا الاتحادية، والتي تسمى باقتصاد السوق الاجتماعي، وهي سياسة منبثقة عن النيولبرالية، كما ذكرت في حلقة سابقة، ولكن العراق بحاجة إلى سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي التي تتطلب مسائل أخرى غير التي مورست في ألمانيا، ومنها:
**تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي وكناظم سياسي واجتماعي وثقافي غير مؤثر سلباً على حرية الفرد وحركته الفكرية، بل منشطاً لها ودافعاً للمبادرة والإبداع.
** العمل من أجل توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي وفق أسس عقلانية بين التراكم والاستهلاك، وكذلك بين الاستهلاك الفردي والاستهلاك الاجتماعي، وكذلك سبل توزيع الحصة الموجهة للتراكم، أي للاستثمار بين القطاعات الإنتاجية وتنشيط القطاعات الخدمية المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية.
** تنظيم السياسات المالية والنقدية باعتبارها الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية، وتنظيم سياسات الضريبة وفق أسس تصاعدية على الدخول المباشرة وتقليص الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات، والعودة إلى بناء وتنشيط قطاع التأمين وإعادة التأمين لدوره المهم في عملية إعادة الإنتاج وفي توفير الاستثمارات للتنمية الاقتصادية ومواجهة الكوارث المحتملة..
** مشاركة الدولة في العملية الاقتصادية من خلال قطاعها الاقتصادي، وكذلك تنشيط دور القطاع الخاص والقطاع المختلط ودعمهما ليساهما بالنهوض الاقتصادي العراقي.
**تأمين دور للدولة في التأثير على السياسة الاستثمارية والقروض والتسهيلات الائتمانية للمصارف العراقية بما يشجع على التصنيع وتحديث الزراعة وفرض الحماية للصناعة والزراعة الوطنية من خلال سياسات جمركية فعالة، إضافة على دعم تطوين وتطوير شركات التأمين وإعادة التأمين لتساهم بفعالية في دعم التنمية الاقتصادية وفهم دورها في مجمل العملية الاقتصادية.
** تأمين سياسة فعالة لمكافحة البطالة وتنظيم المساعدات الحكومية من جانب الدولة للعاطلين عن العمل والمحتاجين للمساعدة.
** إصدار القوانين التي تحمي الفئات الاجتماعية المنتجة للخيرات المادية والفكرية من شدة استغلال رأس المال وسوء استخدام الثروة والضرائب التي يدفعها المنتجون وغالبية المستهلكين، ويشمل هذا تنظيم الحد الأدنى للأجور وتحديد ساعات وأيام العمل الأسبوعية والعطل والضمانات الصحية والشيخوخة …الخ.
** تنشيط دور منظمات المجتمع المدني، بما فيها نقابات العمال والمستخدمين والموظفين…الخ، في الدفاع عن مصالح الأعضاء والمجتمع، كذلك دورها كرقيب على الحكومة وأجهزتها والسلطات الثلاث في الدولة والشركات العامة والخاصة في نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي …الخ.
إن هذه الاتجاهات وغيرها لا تلغي وجود الرأسمالية في البلاد وفي مرحلة التحول من علاقات متخلفة إلى علاقات إنتاجية أكثر تقدماً في مضمار التطور التاريخي للنظم الاجتماعية، ولكنها تسعى للحد من الجوانب السلبية الكبيرة في الاقتصاد الرأسمالي، سواء أكان على النطاق المحلي أم النطاقين الإقليمي والدولي.
إلا إن الحكم الحالي بعيد كل البعد عن فهم هذه المسائل، دع عنك فهم القوانين الموضوعية للرأسمالية وميكانزمات (آليات) عمل النظام الرأسمالي ببلد مثل العراق. ولهذا نجد عراق اليوم في وضع بائس جداً، يتجسد فيه الضرر الكبير في الاعتماد على قطاع النفط الاستخراجي وتصديره، وبسبب مكشوفيته على الخارج تصديراً واستيراداً، وللأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية التي عاش العراق في ظل حكومة المستبد بأمره رئيس الوزراء السابق، وفي ظل حكومة رئيس الوزراء الجديد التي تواجه عواقب النهج الطائفي المتشدد السابق وسياساته التدميرية للوحدة الوطنية وفساد الدولة الكاملة في تلك الفترة وحتى الآن، وما نشأ عن ذلك من اجتياح الموصل ونينوى ومحافظات أخرى عبر داعش والتدخل الفظ في الشأن العراقي من قبل دول الجوار. إن العب الأساسي يكمن في طبيعة النظام السياسي العراقي، النظام السياسي الطائفي الذي يغذي الفساد والإرهاب في آن واحد، وهما وجهان لعملة واحدة ويتبادلان الفعل والتأثير.   


392
كاظم حبيب
نقاش مفتوح حول اللبرالية واللبرالية الجديدة وواقع العراق؟
 
الحلقة الأولى: ما هي اللبرالية؟
كتب الزميل الدكتور بارق شبر نقداً موجهاً إلى الزميل الدكتور حيدر سعيد حول موقف الأخير من نقد فكر وممارسات النيوليبرالية في العراق والذي نشر في موقع العالم الذي نشر قبل ذاك مقال الدكتور حيدر سعيد، متهماً إياه وبعض المثقفين بأنهم لم يفهموا هذه المدرسة الفكرية بشكل صحيح وعلى هؤلاء دراستها، إذ يقول " لست بصدد الدفاع عن النيولبيرالية ولكني اعتقد بأنه ينبغي على بعض المثقفين العراقيين فهم أفكار المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية بشكل صحيح، سيما وان كانوا لم يتعمقوا في دراسة مبادئ الاقتصاد الكلي الحديث وسياساته المتعددة الجوانب وفي مقدمتها المالية والنقدية، بالتأكيد لا تعني المدرسة النيوليبرالية اضعاف الدولة او تهميشها كما يفترض الكاتب حيدر سعيد وإنما إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الانشطة الانتاجية والتي غالباً ما تتسم بانخفاض الكفاءة الاقتصادية وهدر الموارد، وهذا واضح في حالة العراق وفي وضع المؤسسات العامة المملوكة للدولة والتي تشكل عبأً كبيراً على الموازنة العامة".
ثم يورد الزميل نموذج العراق في عهد البعث ليبرهن على فشل مشاريع الدولة إذ كتب الزميل د، شبر ما يلي: " من الواضح ان كاتب المقال يخلط بين حجم الجهاز الاداري للدولة العراقية والذي هو متضخم ومترهل بجميع المقاييس وبين الوظيفة الاقتصادية للدولة والتي يجب ان تقتصر من منظور المدرسة النيولبيرالية على بناء وتطوير الاطر (المؤسسات) الملائمة والمساعدة على الانشطة الاقتصادية للقطاع الخاص بما في ذلك الطبقات الوسطى المنتجة وليس طبقة البيروقراطية الطفيلية التي تعيش على الريع النفطي من دون انتاج او خدمات ملموسة للمواطن العراقي، وتجدر الاشارة الى ان الطبقات الوسطى تلعب دوراً محورياً في اقتصادات الدول الرأسمالية والتي تتبنى فلسفة المدرسة النيوليبرالية، من ذلك يبدو لي ان استنتاج الكاتب بأن النيوليبرالية اضعفت الطبقات الوسطى في العراق بعيد جداً عن الواقع، ما حدث فعلاً في الواقع هو عكس ذلك، حيث ان الطبقات الوسطى في العراق وبمفهوم الكاتب المختزل على موظفين جهاز الدولة ازداد عددها الى اكثر من 3 مليون موظف اي ما يعادل حوالي 40% من قوة العمل في العراق، كما تحسن مدخولها بشكل واضح للعيان منذ التغيير في 2003،"
كما ترون فأن الدكتور شبر لا يريد أن يدافع عن النيوليبرالية ولا يرى أنها تريد إلغاء دور الدولة الاقتصادي أو تهميشه، وإنما "إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الأنشطة الانتاجية". [انتهى تعليق الزميل د، بارق شبر، الخبير الاقتصادي الدولي].
كم كان جديراً بالصديق الدكتور بارق شبر أن يرى في ما طرحه الزميل الدكتور حيدر سعيد اختلاف في وجهات النظر وليس "عدم فهم لنظرية اللبرالية الجديدة بشكل صحيح"، إذ أنه في هذا يجافي الواقع ومستوى معارف ووعي الدكتور حيدر سعيد. طبعاً ليس بودي أن أفقد التواضع وأقول للزميل د، شبر، يبدو لي أنت الذي لم تفهم طبيعة هذه المدرسة بكل أبعادها وخاصة الاجتماعية والسياسية والبيئة والعسكرية منها، إضافة إلى الاقتصادية، كما قال هو ذلك بحق جمهرة من الزملاء المثقفين العراقيين المطلعين جيداً على المدرسة اللبرالية واللبرالية الجديدة، بل أتمنى عليه أن يكون في المستقبل أكثر تواضعاً مع المثقفين الاقتصاديين العراقيين، فهم مثقفون حقاً ويدركون جيداً ما يكتبونه، وأن من المفيد للزميل نفسه إعادة النظر برأيه وموقفه من هذه النظرية الاقتصادية وأتمنى له الابتعاد عن محاولة الانسجام مع التيار الرأسمالي النيولبرالي المتوحش الذي ألحق ويلحق أفدح الأضرار بالاقتصاد العراقي وبالفئات الكادحة من المجتمع وخاصة تلك المنتجة للدخل القومي، المدرسة اللبرالية الجديدة، التي هي بالأساس ذات المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية اللبرالية القديمة التي ساد تطبيقها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى حلول الأزمة العالمية الأولى التي فرضت على الرأسماليين والمنظرين الاقتصاديين تعديل بعض أهم جوانبها برؤية كينزية، (جون مينارد كينز John Maynard Keynes، اقتصادي إنجليزي 1883 - 1946)، لدور الدولة وقضايا التشغيل ودور النقود والفائدة، والتي استمرت طوال الفترة الواقعة بين نهاية الكساد العظيم، والتي تجلت حينذاك في سياسة العهد الجديد New Deal لروزفلت، وبين تبني اللبرالية الجديدة في الستينيات من القرن الماضي، التي اقترنت بالتخلي عن النظرية الكينزية والعودة إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ذاتها مع بعض الرتوشات التي زادتها قسوة وظلماً وجوراً على الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل وزادتها شدة في ممارسة الاستغلال على المنتجين الكادحين من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والعسكرية، والتي تجلت بشكل خاص في سياسات رونالد ريگن وإليزابيث تاتچر، وقبل ذاك في سياسات الجنرال أوغستينو بينوشيت في شيلي بعد الانقلاب على حكومة سلفادور الليندي في العام 1973، وفي سياسات المكسيك وأزمتها المالية المدمرة، ومن ثم في سياسات جورج بوش الأب وجورج دبليو بوش الابن وبشكل أخص أضرارها الفادحة على شعوب البلدان النامية في ظل سياسات العولمة التي تفاعلت مع سياسات اللبرالية الجديدة في الولايات المتحدة والعديد من الدول الرأسمالية الأخرى،
والآن من المفيد أن نتبين بوضوح ما هي اللبرالية وما هو الفرق بينها وبين اللبرالية الجديدة، ثم نتطرق إلى مخاطر اللبرالية الجديدة على اقتصاديات العراق بشكل ملموس، وما هو مفهوم سياسة السوق الاجتماعية التي هي من حيث المبدأ اشتقاق نمساوي-ألماني من نظرية اللبرالية الجديدة التي طرحها بشكل خاص فون هايك والتي مارسها بحدود معينة المستشار الألماني السابق لودفيگ ايرهارد في ألمانيا التي هي تختلف عن مدرسة "أولاد شيكاغو" ميلر وفوكسلي الأكثر تشدداً. تؤكد النظرية اللبرالية الكلاسيكية على ثلاث مسائل جوهرية، كما وضعها أدم سميث (1723 - 1790) باعتباره أول من صاغ مبادئ الليبرالية الاقتصادية، وهي:
1.   حرية التجارة 2، حرية كاملة لكل أفراد المجتمع في نشاطهم الاقتصادي، 3، الالتزام بنظام السوق الحر. ويفترض الالتزام بهذه المبادئ من أجل تحقيق الرخاء والرفاهية.
ماذا يعني ذلك؟ إن هذا يعني الكثير من النتائج في ضوء التجارب الفعلية لسياسات اللبرالية في العالم الرأسمالي المتقدم والتي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:
1. سيادة الملكية الفردية على وسائل الإنتاج، وخاصة رأس المال.
2. انقسام المجتمع إلى طبقة مالكة لوسائل الإنتاج وطبقة غير مالكة لوسائل الإنتاج بل مالكة لقوة عملها التي هي مجبرة على تبيعها في سوق العمل، رغم ما يبدو من حقها في بيعها أو عدم بيعها والموت جوعاً.
3. تحقيق أقصى الأرباح الممكنة عند توزيع الدخل القومي بين العمل ورأس المال، بين الأجر وفائض القيمة أو الربح.
4. حرية التجارة ورفض جميع أشكال القيود.
5. ممارسة سياسة مالية ونقدية تتناغم مع الأهداف الاقتصادية للرأسمالية، إذ أن السياسات المالية والنقدية هي الأدوات التنفيذية للسياسة الاقتصادية.
6. عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وما عليها إلا العمل في مجال الرقابة العامة والدفاع عن هذا النظام وحمايته وإصدار التشريعات التي تساهم في استمراره وتطبيق القوانين ضد من يتجاوز على هذا النظام ويطالب بتغييره.
7. عدم الاهتمام بالمسائل الاجتماعية التي تمس قوة العمل وسبل تجديدها وإعادة إنتاجها.
8. الالتزام بحرية حركة السوق وفعل قوانينه بالنسبة لرأس المال والعمل.
9. عدم تدخل الدولة في تحديد الأسعار أو الأجور أو ساعات العمل.
وتقدم لنا الدراسات الغنية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين صورة حية وواقعية عن حياة المجتمعات الرأسمالية المتقدمة حينذاك، وبشكل خاص الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ،،، وغيرها، حيث تجلى في بشاعة وبؤس حياة ومعيشة وشروط عمل الطبقة العاملة والكادحين من جهة والاستغلال البشع الذي كانت تمارسه الطبقة الرأسمالية التي كانت تجد الدعم والحماية من جانب الدولة والتي أطلق فلاديمير إيليچ إليانوف لينين على الحياة الفعلية وانقسام المجتمع البريطاني إلى مجتمعين أو إلى عالمين مختلفين، إلى طبقتين، عالم وطبقة الأغنياء مالكي وسائل الإنتاج، وعالم الكادحين الفقراء المنتجين للخيرات المادية والمالكين لقوة عملهم الفكرية والجسدية، وعلينا أن نتذكر الأسباب التي دعت العمال في الولايات المتحدة إعلان الإضراب في الولايات المتحدة في العام 1886 والذي أقر في الأممية الاشتراكية الثانية في العام 1889 باعتباره يوماً عالمياً لتوحيد لنضال الطبقة العاملة في سائر أرجاء العالم، وكيف جوبه نضال عمال أمريكا من جانب الشرطة وكاسري الإضرابات حينذاك، ويمكن العودة لكتابات ماركس وإنجلز، على سبيل المثال لا الحصر، للتعرف الدقيق على حياة عمال المصانع في بريطانيا، ومنها مانشستر، لنأخذ صورة حقيقية عن تلك الفترة.
لقد أدى تطبيق النظرية اللبرالية الكلاسيكية إلى تعميق الفقر وتوسيع قاعدته وتوسيع الفجوة الطبقية بين المنتجين والرأسماليين ولأنه أهمل كلية الجانب الاجتماعي ودور الدولة الاقتصادي الذي يفترض أن يسهم في تعديل الكثير من قوى السوق الحر، أو قوانين السوق الرأسمالية أو آلية حركة قوانين السوق الحر غير المقيدة، في حين يدعي آرثر لويس (1915-1991) أن العامل الاجتماعي لتعديل البرامج التي تهدف إلى تقليص الفقر وعدم المساواة يجب أن ينبع من السوق بدلاً من أن يأتي من خلال تدخل الدولة، وهذا هو الخط العام للبرالية الكلاسيكية.
إن فشل نظرية اللبرالية الكلاسيكية في مواجهة أزماتها الدورية وأزمتها العامة التي حصلت في فترة الكساد العظيم (1929-1932) قد دفع بمنظري السوق الحر أن يجروا تعديلات مهمة على بعض آليات وأدوات عمل الرأسمالية والتي بلورها بشكل خاص كينز، ولكن لم تستمر هذه الفترة طويلاً حتى عاد منظرو الرأسمالية إلى اللبرالية الكلاسيكية محاولين تجديدها بإضافات على النظرية وممارستها، ولعبت المنظمات المالية والنقدية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الحرة دورها في هذا المجال من خلال سياساتها المالية والنقدية، سياسات الإقراض للدول النامية بفرض شروط اللبرالية الجديدة على هذه الدول ومنها برنامجها المشهور تحت عنوان "سياسة الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي"، التي سنأتي على هذا البرنامج في حلقة لاحقة.
ولا بد من ملاحظة أن تطور وتطبيق هذه النظرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد اقترن بالهيمنة الاستعمارية القاسية جداً لبعض الدول الاستعمارية على مناطق واسعة من بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من أوروبا والتي عانت من الاستغلال البشع لشعوبها واستثمار مواردها الأولية على حساب فقر وفاقة وتجويع هذه الشعوب، وخلال هذه الفترة أيضاً انفجرت الكثير من الثورات الاجتماعية ضد الرأسمالية وبقايا العاقات الإقطاعية وانتصرت ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية في روسيا القيصرية، كما فجرت الدول الاستعمارية الكثير من الحروب العالمية والإقليمية وبشكل خاص الحربين العالميتين الأولى والثانية لأهداف استعمارية استغلالية،
لا شك في أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، وحاملها الطبقة البرجوازية، كانت الأداة التي أمكن بها التخلص من العلاقات الإنتاجية الإقطاعية ومن الطبقة الإقطاعية المالكة للأرض والفلاحين الأقنان، وهي خطوة كبيرة على طريق تقدم المجتمع البشري، رغم أن كلا العلاقتين الإنتاجيتين استغلاليتان.

الحلقة الثانية
ما هي الليبرالية الجديدة؟
أعطى انتصار التحالف الدولي في الحرب العالمية الثانية على دول المحور، ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، التي كانت تهدف إلى الهيمنة على مناطق كثيرة من العالم وإعادة تقسيم مناطق النفوذ الاستعماري القديم لصالحها وانتقاماً لخسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى التي بدأت الحرب الجديدة، زخماً جديداً وكبيراً لحركات التحرر الوطني في المناطق المستعمرة والتابعة في كل من آسيا وأفريقيا، إضافة إلى تنشيط جديد للحركات الديمقراطية والتقدمية في أمريكا اللاتينية، وقد وجدت حركات التحرر الوطني دعماً وتأييداً كبيرين من جانب الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطية الشعبية، التي كانت قد تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وشكلت سوية المعسكر الاشتراكي كنتيجة من نتائج تلك الحرب، وتحررت الكثير من مناطق العالم من الهيمنة الاستعمارية المباشرة وشكلت دولها الوطنية المستقلة ودخلت في عضوية هيئة الأمم المتحدة التي كانت قد تشكلت لتوها لتحل عملياً محل عصبة الأمم، وتلقى الاستعمار القديم الذي استند إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ضربات موجعة وسريعة خلال العقدين الخامس والسادس حتى منتصف السابع تقريباً من القرن الماضي، مما دفع بهذه الدول إلى التفكير بأساليب وأدوات جديدة لمواصلة هيمنتها واستغلالها لشعوب وثروات تلك البلدان الحديثة التكوين، كما لم تستطع المدرسة الكينزية إنقاذ الرأسمالية من أزماتها الدورية أو المظاهر الجدية التي برزتوشكلت بديايات أزمة هيكلية طويلة الأمد للرأسمالية على الصعيد العالمي، والتي أطلق عليها بـ “الموجة الطويلة” كما سميت بـ “موجات كوندراتيف” نسبة إلى الاقتصادي الروسي نيكولاي كوندراتيف Nikolai Kondratieff (1892-1938) الذي اكتشفها والذي صدر بحقه قرار الإعدام رمياً بالرصاص ونفذ فيه في العام 1938 على أيدي أجهزة أمن ستالين القمعية في إطار حملة “التطهير” الكبرى التي تعرض لها الكثير من الشيوعيين والمثقفين الروس المعارضين لسياسات جوزيف ستالين حينذاك، علماً بأنه كان من مؤيدي سياسة لينين التي أطلق عليها بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) التي بدأ بها في العام 1921، وتوقفت مع صعود ستالين إلى قيادة الحزب والدولة حتى قبل وفاة لينين في العام 1924،
لقد دفعت هذه الظواهر الجديدة بمنظري الرأسمالية للعودة والأخذ بمبادئ نظرية اللبرالية الكلاسيكية ضاربين عرض الحائط نصائح وسياسات كينز ومضيفين إليها بعض الرتوشات والسياسات مما سمح لهم بتسميتها بـ “النيوليبرالية” أو “اللبرالية الجديدة”، لقد بدأ منظرو الرأسمالية بالعمل منذ الستينات، رغم بروز بعض هذه الأفكار في الثلاثينات من القرن الماضي بالارتباط مع الكساد الأعظم حيث برزت النيوليبرالية من جهة، والنظرية الكينزية من جهة أخرى، ولكن الأولى لم تستطع فرض نفسها في حينها بل أخذ العالم الرأسمالي بنظرية كينز، وبقيت الأولى جنينية تبحث عن فرصة مناسبة للظهور إلى أن تبلورت أكثر فأكثر في الستينات والسبعينات من القرن العشرين بعد أن بدا لاقتصاديي وسياسي الدول الرأسمالية المتقدمة بأن الكينزية لم تعد مناسبة لتحقيق المزيد من الأرباح التي كانوا يتوقعونها منها، فانتعشت أفكار اللبرالية الجديدة من جديد باعتبارها معارضة للكينزية مع بروز أزمة الدولة السوفييتية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات من القرن الماضي ثم تسارعت مع سقوط الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان “الاشتراكية” في نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، وقد اقترن ذلك بانتشار سريع لفكر وممارسات العولمة الرأسمالية واستثمار ذلك من أتباع هذه النظرية لصالح الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى على نحو خاص، ولكن بشكل خاص لمراكزها الثلاثة: الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية أو الاتحاد الأوروبي واليابان من خلال ممارسة سياسات عولمية شديدة التطرف والاستغلال، فما هو جوهر هذه النظرية الاقتصادية (القديمة) الجديدة التي يطلق عليها أحياناً بالنظرية الكلاسيكية الجديدة   neoclassic؟
اللبرالية الجديدة شارع عريض للفكر البرجوازي في الدول الرأسمالية المتقدمة في مرحلة العولمة، إذ برز فيها العديد من الاتجاهات المتقاربة طبعاً مع وجود بعض الاختلافات، وقد لعب الصراع الفكري والسياسي والعملي مع الاتحاد السوفييتي دوره البارز في سرعة نهوض هذه النظرية، وبشكل خاص المدرسة الألمانية التي أطلق عليها أيضاً بـ Ordoliberalismus وهي التي سميت أيضاً بـ Soziale Marktwirtschaft  أي اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي بدا منظروه يسعون إلى تخفيف الصراع والنزاع بين العمل ورأس المال من خلال جملة من القرارات الإدارية والقوانين التي تضعها الدولة، أي محاولة السيطرة على الصراع الطبقي وتقليص النزاعات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال في مرحلة الصراع والحرب الباردة مع المعسكر “الاشتراكي”،
نحن أمام مدرستين أساسيتين أنبثقتا عن المدرسة الأنگلوسكسونية وهما: (مدرسة شيكاغو) كما يطلق عليها أحياناً (أولاد شيكاغو) ومدرسة فيينا أو النمساوية – الألمانية، وهي كلها تنطلق من حيث المبدأ من القاعدة الأساسية أو المبادئ المتحكمة باللبرالية والتي أشرت إليها في الحلقة السابقة، NÖRR، Knut Wolfgang/STARBATTY، Joachim (Hg،) ]
1999: Soll und Haben – 50 Jahre Soziale Marktwirtschaft، Marktwirtschaftliche Reformpolitik، Schriftenreihe der Aktionsgemeinschaft Soziale Marktwirtschaft، N،F، Stuttgart، S،3-5،[
كان أحد نماذج مدرسة شيكاغو المتشددة دولة شيلي في عهد الدكتاتور أوغستينو بينو شيت، في حين كان النموذج الألماني هو الأقل قسوة،
ومن الجدير بالذكر أن اللبرالية الجديدة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، كما يشاع في غالب الأحيان، بل تشمل الجوانب الفكرية والاجتماعية والنفسية والسياسية والعسكرية والبيئية التي كانت تتجلى بشكل صارخ في سياسات رونالد ريگن في الولايات المتحدة الأمريكية، ومارگريت تاتچر في بريطانيا، وهيلموت كول في ألمانيا وبينوشيت في شيلي على سبيل المثال لا الحصر، ومن ثم اتخذت مسارها الصارخ في سياسات بوش الأب والابن على حد سواء،
لخص الدكتور أشرف منصور في مقال له اللبرالية الجديدة في الدول الرأسمالية المتقدمة على النحو التالي: ” … ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج الأزمة يتمثل في عودة اقتصاد السوق و تركه يعمل بحرية، و التخلص من العبء الثقيل للدولة و أجهزتها البيروقراطية التي تم النظر إليها على أنها من أسباب الأزمة، و التخلي عن كل الالتزامات السابقة للدولة مثل برامج الرعاية الاجتماعية و التأمين و إعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزتها و دينها الوطني، و مع الليبرالية يعود مبدأ حرية المنافسة في الظهور، و تعود الفكرة القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح بفعل قوانين السوق الضرورية، و يعود من جديد مبدأ “دعه يعمل” Laissez Faire، [راجع: أشرف منصور، الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي، موقع الحوار المتمدن، العدد 1787 بتاريخ 6/1/2007،]
ويفترض هنا القول بأن اللبرالية الجديدة تدعو من منطلقها الإيديولوجي البحت إلى الحرية المطلقة للفرد، والمساواة التامة أمام القانون الذي يقود تلقائياً، كما ترى، إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وقصر نشاط الحكومة على الحد الأدنى من المهمات، إذ يفترض أن يقتصر دورها على ضمان تكافؤ الفرص، حماية الفرد، منع التمييز، وضمان الشروط الضرورية لنجاح اقتصاد السوق الحر، وقد اعتقدت مدرسة أولاد شيكاغو (Chicago Boys  (، التي تبنت وعملت على تطبيق اللبرالية الجديدة في شيلي، إلى أن الدولة الاستبدادية أو التسلطية هي وحدها القادرة على تأمين حرية الفرد المطلقة وحرية السوق، (راجع: هريرت شوي، الليبرالية الجديدة : الأسس النظرية والسياسية، من كتاب له بعنوان:
Herbert Shui، Neoliberalismus: politische und theoretische Grundlagen Wollt Ihr den totalen Markt? Der Neoliberalismus und die extreme Rechte، München 1997،
وبدا هذا النهج واضحاً مع انهيار المعسكر الاشتراكي وغياب المنافسة السياسة والاقتصادية بين المعسكرين وتوقف الحرب الباردة مؤقتاً، كما يبدو، إذ اتخذت سياسة اللبرالية الجديدة مساراً رأسمالياً صارخاً أو ما يطلق عليه أحياناً من جانب النقابات(Pur Kapitalismus) في محاولة جادة لانتزاع كل المكاسب الاجتماعية والسياسية التي حققتها الطبقة العاملة وفئات المثقفين والفلاحين خلال العقود الثلاثة التي سبقت سقوط المعسكر الاشتراكي، وبدأ الجو الاجتماعي بالبرود والتوتر، وبدأ الرأسماليون الكبار وممثلو الشركات الاحتكارية والمتعددة الجنسية يرفضون المساومة التي كانت قد برزت في تلك العقود بين العمل ورأس المال وراحوا يشددون بالضغط على جملة من الأمور منها على سبيل المثال لا الحصر: الحد الأدنى للأجور، العمل من أجل العودة إلى ستة أيام عمل في الأسبوع، زيادة ساعات العمل اليومية، عدم دفع أجور عن ساعات العمل الإضافية، تقليص المكاسب الاجتماعية وزيادة الضريبة غير المباشرة المفروضة على السلع والخدمات وتقليص الضرائب عن الشركات وأصحاب رؤوس الأموال والأرباح العالية، ثم الضغط على دور النقابات في الدفاع عن مصالح العمال والموظفين والمستخدمين، وفرض تعريفات إضافية على الأدوية والطبابة والمعالجة الطبية في المستشفيات والمصحات، كما اتسعت البطالة وازدادت نسبة عدد العاطلين عن العمل إلى عدد القادرين على العمل وتقليص مقدار ما يدفع من تعويض شهري للعاطلين عن العمل أو لمستحقي المساعدة الاجتماعية التي تقدم للمعوزين شهرياً…الخ، وتقدم ألمانيا والكثير من دول الاتحاد الأوروبي نماذج صارخة في هذا الصدد، ولم يكن هذا وحده بل جرت عملية خصخصة للمشاريع الاقتصادية التي كانت بيد الدولة وكانت ناجحة وتحقق عوائد مالية جيدة لخزينة الدولة، وكانت في الوقت نفسه عوناً في إنتاجها وأسعارها للفئات الفقيرة والكادحة، سواء أكان في مجال الكهرباء أو الماء أو النقل أو الإنتاج السلعي وغيرها من مشاريع الخدمات العامة والإنتاجية، كما تراجعت أو انتهت مشاركة الدولة في المشاريع الاقتصادية الإنتاجية في عدد غير قليل من المجالات الاقتصادية والخدمية، إذ أن فلسفة اللبرالية الجديدة هي إبعاد الدولة عن كل نشاط اقتصادي واجتماعي وثقافي وجعلها تلعب دوراً رقابياً وإدارياً عاماً، وحتى هذا الدور لم تقم به كما يجب، كما رأينا في أزمة العقارات والبنوك في الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الأوروبية وفي دول جنوب شرق آسيا أو النمور الثمانية أو في أمريكا اللاتينية، وكذلك تفاقم عمليات المضاربات المالية الهائلة في العديد من البورصات التي أدت إلى انهيارات كثيرة في الكثير من دول العالم في الثمانينات والتسعينات وفي الآونة الأخيرة أيضاً، إن اللبرالية الجديدة تستخدم السياسات المالية والنقدية بما يخدم مصالح رأس المال وليست في صالح الكادحين والمنتجين الفعليين للثروة الوطنية وترمي بثقل المكاسب التي تقدم للشركات الكبرى البنوك وغيرها على عاتق دافعي الضرائب، كما حصل في محاولة معالجة الأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة التي لا تزال مستمرة وستبقى لفترة طويلة، والإيذاء الفعلي لهذه الأزمة لا يشمل المنتجين والفقراء والعاطلين عن العمل في الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة حسب، بل وترهق كثيراً كاهل شعوب الدول النامية، وخاصة الفقيرة منها، إن بلداً مثل ألمانيا، باعتبارها واحدة من أغنى الدول الرأسمالية المتقدمة، يوجد فيه الكثير من الأطفال الفقراء، فوفق تقرير نشر في DW دويتشة فيله جاء فيه ما يلي: الجدير بالذكر أن عدد الأطفال الذي يعانون من الفقر يتزايد في ألمانيا سنة بعد أخرى، وتقدر كل من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) والاتحاد الألماني لحماية الأطفال أن 2،5 مليون طفل يعيشون في ألمانيا في ظروف مالية واجتماعية صعبة، أو ما يسمى بالفقر النسبي، وهو مصطلح ينطبق على الحالات التي يكون فيها معدل دخل عائلة ما أقل من نصف متوسط الدخل العام”، كما جاء في الدارسة التي قامت بها مؤسسة هانز بوكلر، المؤسسة التي تعمل بالتعاون مع النقابات العمالية في ألمانيا أوضحت أن هناك نحو 7،4 مليون موظف يحصلون على مساعدات من الدولة لانخفاض دخولهم، وهو عدد أقل من عدد الموظفين الذين يحق لهم الحصول على المساعدات وهو 10 مليون موظف، واتهمت المؤسسة الحكومة الألمانية بأنها لا تعلن إلا نصف الحقائق، وأنها بذلك تتسبب في أن تعيش ملايين العائلات في حالة من الفقر ويعاني معهم أطفالهم، [راجع موقع DW بتاريخ 7/2/2010 مقال تحت عنوان “رعاية الأطفال أولى ضحايا ظاهرة الفقر في ألمانيا”، رغم أن ألمانيا تمارس ما يسمى بسياسة السوق الاجتماعي التي بدأ نسف الجانب الاجتماعي منها تدريجاً مع سقوط الاتحاد السوفييتي على نحو خاص، كما بدأت الحياة الديمقراطية العامة والاستفتاءات الشعبية بالتقلص لصالح التمثيل البرلماني حيث بدأت الفجوة تتسع بين النواب والمجتمع، كما بدأت مصداقية السياسيين والسياسة بالهبوط الشديدين.
إن السياسات التي تمارسها المراكز الأساسية للدول الرأسمالية الصناعية ومؤسساتها المالية والنقدية والتجارية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية) موجهة بالأساس ضد اقتصاديات الدول النامية ولصالح الدول المتقدمة، ويمكن للتقارير السنوية لهذه المؤسسات أن تكشف عن حقيقة تلك الأوضاع وحقيقة زيادة واتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية وبين الأغنياء والفقراء واتساع قاعدة الفقراء والجياع في العالم، والأهم من كل ذلك هو اتساع الفجوة في مجال العلم والتعليم والبحث العلمي ومستوى تطور القوى المنتجة والتقنيات المستخدمة في الإنتاج وحجم الإنتاج الإجمالي ومعدلات الإنتاجية السنوية ومعدل حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي أو الدخل القومي.
إن سياسة اللبرالية الجديدة التي التزمت بها قوى المحافظين الجدد ومارستها بإصرار وتشديد تجلت في الجانب السياسي، أي في سياسة توجيه ما يسمى بـ “الضربات الاستباقية” والعقوبات الردعية والمقاطعة والحصار الاقتصادي بدلاً من المفاوضات والتحري عن حلول سلمية تفاوضية، فالقوة العسكرية هي اللغة المفضلة والعامل الحاسم في حل الخلافات من وجهة نظر اللبرالية الجديدة وقوى المحافظين الجدد، وهو الدور الذي تعطيه هذه النظرية للدولة على نحو خاص، وكان العقدان التاسع والأخير من القرن العشرين وكذلك الفترة الأولى من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نموذجاً لممارسة هذه السياسة المتوحشة،
يشير الكاتبان “تيمونز روبيرتس” و “أيمي هايت” في كتابهما المشترك الموسوم “من الحداثة إلى العولمة” بشأن التوجه الشديد في أمريكا اللاتينية للأخذ بنظرية السوق التي أطلق عليها بسياسة “التعديل اللبرالي الجديد” بصواب إلى أن الوصفة قد تكونت من “سبع خطوات أساسية:
1 – انفتاح من جانب واحد على التجارة الخارجية.
2 – خصخصة شديدة لمشاريع الدولة.
3 – تحرير السلع والخدمات وأسواق العمل من القيود.
4 – تحرير السوق الرأسمالي مع خصخصة شديدة لأرصدة المعاشات الحكومية للتقاعد.
5 – تعديل مالي مرتكز على تقليص شديد للنفقات العامة.
6 – إعادة تشكيل وتخفيض معدل البرامج الاجتماعية المدعومة من قبل الحكومة والتركيز على خطط تعويضية للفئات الأكثر حاجة.
7 – نهاية “السياسة الصناعية” وأي شكل آخر لرأسمالية الدولة، والتركيز على الإدارة الاقتصادية الضخمة، (دياز 1996 Diaz)” [راجع: “تيمونز روبيرتس” و “أيمي هايت، “من الحداثة إلى العولمة” ترجمة سمر الشيشكلي، سلسلة عالم المعرفة 310، أيلول سبتمبر 2004، ص 263.
ويستكمل الباحثان الفكرة فيشيران إلى التغييرات الاجتماعية التي احدثتها هذه الوصفة النيوليبرالية كما يلي:
1 – إعادة تقييم للربح الرأسمالي كأمر مرغوب به ومتطابق ومنسجم مع المصالح الوطنية.
2 – تلازم التقليل من قيمة العمل التنظيمي والصناعة المحلية على أنها “ملاجئ حماية مستأجرة” معادية للكفاءة الاقتصادية.
3 – دعم الاستثمارات الأجنبية كضرورة من أجل تنمية مدعومة ومحمية.
4 – تجديد الثقة بالسوق عبر تقليل التأثيرات من أجل تقليص اللامساواة الاجتماعية.
5 – إعادة توجيه مصادر الفخر والثقة الوطنية بعيداً عن مقاومة التسلط الأجنبي بالتوجه نحو معاودة الدخول بتأهيل جيد في مجالات التجارة العالمية (كاسلز ولاسيرنا 1989و ايفانو 1995، مالك مايكل 1995)”. [نفس المصدر السابق].
لا شك في أن انتهاج هذه السياسة أمكن بها السيطرة على بعض حالات التضخم والارتفاع الشديد في الأسعار، ولكن هذه “الوصفة السحرية!” عجزت عن تحقيق التنمية المنشودة والتشغيل ومكافحة البطالة ومكافحة الفقر والحرمان في تلك الدول التي مارست هذه السياسة بل اتسعت كل تلك المظاهر السلبية فيها، كما عجزت عن إيقاف أزماتها ومنها الأزمات المالية، ومنها ما حصل في المكسيك مثلاً، رغم أن النتائج كانت متباينة نسبياً في هذه البلدان، ولكنها على العموم لم تكن إيجابية، كما إنها حققت بالأساس، وهذا هو الجوهري في اللبرالية الجديدة، الكثير من الأرباح للرأسمال العالمي وللشركات الرأسمالية الاحتكارية المتعددة الجنسية وللبرجوازية الكبيرة في كل دولة من هذه الدول.
إن سياسة اللبرالية الجديدة الموجهة للدول النامية في المجال الاقتصادي تتجلى في وصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تسعى إلى فرضها على جميع الدول النامية على حد سواء والموسومة بـ “الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي”، فماذا يعني ذلك بالنسبة للكثير جداً من الدول النامية؟ هذا ما سنعالجه في الحلقة الثالثة.

الحلقة الثالثة
ما هي مضامين برنامج “الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي”؟
وماذا يراد منه للدول النامية؟
حين انتصرت ثورة تموز 1958 في العراق وثورة كوبا في العام 1959، وقبل ذاك كانت قد برزت حركة الحياد الإيجابي ومن ثم دول عدم الانحياز ومؤتمر باندونغ في إندونيسيا، ومعركة تأميم قناة السويس والعدواني الثلاثي على مصر، وتصاعد حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وتحقيقها نجاحات متميزة، برز اتجاه واضح صوب كسر الطوق المضروب على البلدان النامية، أي على الدول المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة، في علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية وتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية معها، كما برز اتجاه صوب الأخذ من بعض تجارب هذه الدول في مجالات القطاع العام والتصنيع والإصلاح الزراعي …الخ، يضاف إلى ذلك بروز حركة تضامن بين قوى وشعوب ودول حركة التحرر الوطني في القارات الثلاث.
شكل هذا الاتجاه الجديد خطراً جدياً على العلاقات والمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الرأسمالية الأكثر تقدماً، إذ بدأ يعزز دور وتأثير قوى دول عدم الانحياز واتساع تعاملها مع الدول الاشتراكية على حساب العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى، كما أضاف وزناً جديداً في الحرب الباردة لصالح دول المعسكر الاشتراكي حينذاك، مما دفع بمنظري هذه الدول والعاملين منهم في الحقول والعلاقات الاقتصادية الدولية إلى التفكير بوضع أسس جديدة للعمل والتعامل مع الدول النامية والتي تبلورت باتجاهات خمسة، وهي:
تقديم مساعدات مالية إلى الدول النامية في إطار ما أطلق عليه بمشروع التنمية العالمية، وقدرت تلك المساعدات بحدود 0،7 % من إجمالي الناتج المحلي للدول الغنية.
تقديم المزيد من القروض الميسرة إلى الدول النامية لشدها اقتصادياً إليها وزيادة تأثيرها في وجهة تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ربط تقديم تلك القروض بشروط اقتصادية وسياسية واضحة لا تقبل الخطأ في ما تسعى إليه.
إبعاد هذه البلدان قدر الإمكان عن الأخذ ببعض جوانب النموذج السوفييتي في التنمية ودفعها لانتهاج سياسة السوق الحر، إضافة إلى كسبها إلى جانبها في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
العمل من أجل تفتيت قوى حركة التحرر الوطني باتجاهين ملموسين، وهما:
أ. رفع شعار محاربة الشيوعية وتعبئة القوى حوله، باعتباره الخطر المباشر على الدين وعلى القيم والتقاليد السائدة في تلك المجتمعات، وكانت تهمة الشيوعية تلصق بكل الوطنيين الديمقراطيين والتقدميين واليساريين من غير الشيوعيين أيضاً.
ب. تشجيع نشاطات القوى القومية اليمينية وقوى الإسلام السياسية المناهضة للشيوعية لتعزيز مواقعها الاجتماعية والسياسية وتبني نهجها الاقتصادي ومواقفها السياسية، في مقابل تقديم دعم متنوع لها، وكان هذا يتم في العالمين العربي والإسلامي، في حين كانت تستخدم أدوات دينية أخرى في العالم غير الإسلامي.
وانسجاماً مع هذا التوجه وتأكيداً له صدر في العام 1969 التقرير الذي أعده لستر بيرسون، رئيس وزراء كندا الأسبق، تحت عنوان “شركاء في التنمية Partners in Development”، فتبنته الأمم المتحدة وتضمن قاعدة اقتطاع 0،7 % من الناتج المحلي الإجمالي في الدول الغنية لصالح التنمية العالمية في الدول النامية لعقد السبعينات من القرن العشرين.
وقد اقترن هذه التوجه بعدة ظواهر مهمة، وهي:
1. تفاقم غير منظور للرأي العام العالمي، ولكنه كان ملموساً للخبراء الدوليين في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الاشتراكية منذ منتصف السبعينات، خاصة وأن الحرب الباردة كانت تستنزف إمكانيات الدول الاشتراكية مالياً من خلال توجيه الكثير من الموارد المالية والتقنيات الحديثة صوب الصناعة العسكرية وإهمال تحديث القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية والحياة الاجتماعية المدنية، إضافة إلى تنامي علاقات التبادل التجاري في مجال السلاح على الجوانب الاقتصادية الأخرى مع الدول النامية، ويمكن التعرف على  ذلك من خلال كتابات الكاتب الأمريكي ألفين توفلر، في كتابه (الموجة الثالثة) الصادر في العام 1980، وكتابات زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في فترة رئاسة جيمي كارتر، على سبيل المثال لا الحصر.
2. تراجع جدي في المضمون التقدمي والديمقراطي لحركة التحرر الوطني في غالبية الدول النامية، والتي تجلت في بروز نظم استبدادية وشمولية مما أضعف التفاعل بين هذه النظم ومجتمعاتها وقاد تدريجاً إلى عزلتها بسبب إهمالها لمصالح شعوبها ايضاً.
3. ونتيجة لسيادة مثل تلك النظم المستبدة، سواء أكانت تحت تسميات مغرية ولكنها مضببه، مثل “الدول ذات التوجه الاشتراكي”، أم “الدول ذات التطور اللارأسمالي”، أم “حكومات البرجوازية الصغيرة الثورية”، فإنها فشلت في تحقيق عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وأساءت لدور وسمعة قطاع الدولة وموارد البلاد وتوجهاتها الخاطئة نحو التسلح، مما جعل تلك النظم مرفوضة من جانب شعوب بلدانها.
4. تشديد الهجوم الرأسمالي وتقديم نماذج رأسمالية ناجحة في عدد من الدول في جنوب شرق آسيا والتي أطلق عليها بالنمور الأربعة ثم النمور الثمانية، وقاد هذا الواقع إلى اختلال في العلاقة بين الدول الاشتراكية والدول النامية لصالح الدول الرأسمالية المتقدمة، ر غم أن تلك النجاحات جاءت على حساب الفئات الأكثر فقراً وكدحاً.
5. وقد أعطى هذا الواقع الفرصة للمؤسسات المالية والتجارية الدولية لتلعب دورها في طرح أو استكمال المشروع السابق الذي طرحه لستر بيرسون بمشروع جديد من جانب جون ويليمسون نائب رئيس البنك الدولي في العام 1989، أي بعد عشرين عاماً عل المشروع الأول، أطلق عليه وثيقة “توافق واشنطن” (Washington Consenus) التي ادعى فيها أنها يمكن أن ” تطبق على أي فترة تاريخية ، وأي اقتصاد ، وأي قارة ، وباستهداف التوصل بأسرع ما يمكن إلى تصفية أي هيئة أو تنظيم من جانب الدولة أو غيرها ، والتحرير الأكمل بأسرع ما يمكن لكل الأسواق، الثروات، رؤوس الأموال، الخدمات، البراءات، ،، الخ”، وفي النهاية إقامة حكم كسوق بلا دولة، وسوق عالمي موحد ومنظم ذاتياً تماماً “. [راجع: عبد المجيد راشد، سياسة الإصلاح الاقتصادي و فخ العولمة المتوحشة، الحوار المتمدن، العدد: 1744 في 24/11/2006].
ولكن ما هو مضمون هذه الوثيقة، وبتعبير أدق ما هي المبادئ التي اعتمدتها هذه الوثيقة الأخيرة للتعامل مع الدول النامية وتقديم القروض المالية لها؟ إنها جاءت على النحو التالي:
” 1 ـ من الضروري – في كل بلد مدين – البدء في إصلاح المالية العامة وفق معيارين: تخفيض العبء الضريبي على الدخول الأكثر ارتفاعاً، لحفز الأغنياء على القيام باستثمار إنتاجي، وتوسيع القاعدة الضريبية، وبوضوح، منع الإعفاءات الضريبية للأفقر، من أجل زيادة مقدار الضريبة.
2 ـ أسرع وأكمل تحرير ممكن للأسواق المالية.
3 ـ ضمان المساواة في المعاملة بين الاستثمارات الوطنية والاستثمارات الأجنبية من أجل زيادة مقدار – وبالتالي ضمان – هذه الأخيرة.
4 ـ تصفية القطاع العام بقدر الإمكان، وتخصص المنشآت التي تملكها الدولة أو هيئة شبيهة بالدولة.
5 ـ أقصي حد من إلغاء الضوابط في اقتصاد البلد، من أجل ضمان الفعل الحر للمنافسة بين مختلف القوي الاقتصادية الموجودة.
6 ـ تعزيز حماية الملكية الخاصة.
7ـ تشجيع تحرير المبادلات بأسرع الوسائل الممكنة، بهدف تخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 10 في المائة كل سنة،
8 ـ لما كانت التجارة الحرة تتقدم بواسطة الصادرات فينبغي في المقام الأول تشجيع تنمية تلك القطاعات الاقتصادية القادرة على تصدير منتجاتها.
9 ـ الحد من عجز الميزانية.
10 ـ خلق شفافية الأسواق: فينبغي أن تمنع معونات الدولة للعاملين الخاصين في كل مكان، وعلى دول العالم الثالث التي تقدم دعماً من أجل إبقاء أسعار الأغذية الجارية منخفضة أن تتخلي عن هذه السياسة، أما عن مصروفات الدولة فينبغي أن تكون للمصروفات المخصصة لتعزيز البني الأساسية الأولوية على غيرها، [راجع: نفس المصدر السابق].
من خلال هذه النقاط نستطيع أن نتبين الوجهة الطبقية الصارخة التي يراد دفع الدول النامية إليها، إنها باختصار ضد فئات المجتمع المنتجة والكادحة والفقيرة وإلى جانب أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء والمتخمين، وهو برنامج يقود دون أدنى ريب إلى ما يلي:
1.   إنه يقود إلى منح الدولة الحد الأدنى من القدرة على الحركة والنشاط في مختلف المجالات فيما عدا حماية القطاع الخاص والملكية الخاصة ونظام السوق الحر.
2.   وأنه يقود إلى خلق مجتمع طبقي شديد التمايز بين طبقة المنتجين والفقراء، وبين طبقة مالكي وسائل الإنتاج أو رأس المال والأغنياء والمتخمين، والذي يقود بدوره إلى تشديد الاستغلال وبالتالي الصراع الطبقي.
3.   ولا شك في أن مثل هذه الدولة التي تأخذ بهذا البرنامج ستمارس سياسة الدفاع عن مصالح أصحاب رؤوس الأموال من خلال السماح لهم بتحقيق المزيد من الأرباح على حساب خزينة الدولة والمجتمع من خلال تخفيض الضرائب على الدخل (الضريبة المباشرة) وفرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات مما يحمي أصحاب الدخول العالية من ضريبة تصاعدية عادلة وضرورية ويجهد أصحاب الدخول الواطئة.
4.   كما أن هذه الدولة ستقوم بحرمان الفئات الكادحة والمنتجة من أي دعم حكومي للسلع والخدمات ذات المساس المباشر بمستوى حياة ومعيشة تلك الفئات، ولكنها ستمارس باستمرار تخفيض الضرائب على أرباح رؤوس الأموال بذريعة توفير الفرص للاستثمار وإعادة التوظيف وتوسيع عملية إعادة الإنتاج وعدم فتح باب تهريب رؤوس الأموال.
5.   وأن هذا البرنامج لا يقود إلى حرمان الدولة من إقامة المشاريع الاقتصادية، الإنتاجية منها والخدمية، حسب، بل ويطالب الدولة بخصخصة مشاريعها الاقتصادية القائمة فعلاً.
6.   وأنه يقود إلى منع الدولة من إقامة مشاريع صناعية أو تحديث الزراعة، بل جعلها معتمدة على التجارة الخارجية المستنزفة للدخل القومي والتي تحرم البلاد من إمكانية تحقيق التراكم الرأسمالي وتنمية الثروة الوطنية.
7.   ويقود هذا الاتجاه إلى تفاقم البطالة في المجتمع وإلى تنامي التوتر الاجتماعي والصراع الطبقي، والذي يقود بدوره إلى نزاعات سياسية واجتماعية لا مفر منها.
8.   وتهمل الدولة، التي تأخذ بهذا البرنامج، مهماتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، والتي تؤدي بدورها إلى بروز الكثير من المشكلات التي يعجز المجتمع على حلها وتغوص الدولة في وحل المشاكل العويصة.
9.   إن اعتماد الدولة على التجارة الخارجية يقود إلى انكشاف صارخ للاقتصاد الوطني على الخارج، أي التبعية للخارج والاستيراد من جهة، كما يعتبر تفريطاً بأموال الدولة التي يفترض أن توجه لأغراض التثمير الإنتاجي وزيادة التراكمات الرأسمالية لإغناء الثروة الوطنية.
10.   إن تطبيق سياسة الباب المفتوح ليس أمام التجارة الخارجية حسب، بل وأمام حركة رؤوس الأموال والأيدي العاملة والابتعاد عن تطبيق قوانين ملزمة لحماية العمل والعمال وسياسة جمركية عادلة لحماية الإنتاج الوطني من المنافسة الحادة، وضمان الحد الأدنى للأجور.. الخ ستقود إلى عواقب وخيمة من النواحي الاجتماعية والثقافية والنفسية على الفرد والمجتمع.
11.   ومن هنا يمكن القول بأن السياسة المالية والنقدية، بما فيها سياسة المصارف الاستثمارية ودور ونشاط شركات التأمين والسياسة الضريبية والجمركية والأسعار.. الخ، التي تضعها الدولة في هذا النموذج ستكون موجهة لمصلحة أصحاب الاستثمارات الأجنبية والنشاط الاقتصادي الأجنبي وسياسة الاستيراد المفتوحة، وكذلك في مصلحة الفئات المستغِلة في المجتمع وضد المستغَلين.
12.   إن المهمة المركزية لهذا البرنامج هي ربط العملية الاقتصادية لاقتصاديات الدول النامية بالاقتصاد الرأسمالي العالمي عبر عملية إعادة الإنتاج بمراحلها المختلفة من جهة، وتوسيع الفجوة الفاصلة بين مستوى تطور الدول المتخلفة والدول المتقدمة لصالح الأخيرة من جهة أخرى، وتبدو هذه اللوحة أكثر وضوحاً في ظل ممارسة سياسات العولمة في العلاقة بين المجموعتين في عالم واحد منقسم على نفسه: عالم التخلف والفقر وعالم التقدم والغنى، إنها مهمة الحفاظ على بنية وطبيعة التقسيم الرأسمالي الدولي للعمل، أي أن تبقى الدول النامية استهلاكية وريعية بما تصدره من موارد أولية كالنفط مثلاً ومستهلكة لدخلها القومي بما تستورده من سلع استهلاكية وتدور في محيط المراكز المتقدمة، في حين يتواصل التطور في مراكز الدول المتقدمة باعتبارها دولاً منتجة ومصدرة للسلع والخدمات والتقنيات ومغنية ومنمية بمعدلات جيدة لدخلها القومي، ويتجلى ذلك بوضوح كبير في الاختلال الصارخ في المؤشرات الإحصائية وأرقام التجارة الخارجية ونسب المشاركة في الإنتاج الصناعي أو الإنتاج الزراعي، وكذلك الاختلالات في الموازين التجارية وموازين المدفوعات وتفاقم الديون الخارجية للدول النامية والفوائد السنوية المترتبة عليها.
إن إشكالية التقدم والتخلف لا تبدو في الدخل القومي ومعدل حصة الفرد الواحد منه سنوياً فحسب، بل وبالأساس في بنية هذا الاقتصاد ودور القطاعات المختلفة في تكوين الدخل القومي وفي مستوى تطور القوى المنتجة والتطور العلمي والتقني التي هي نتاج لطبيعة علاقات الإنتاج السائدة، وكذلك مستوى ونسب البطالة إلى القوى القادرة على العمل وتوزيعها الإقليمي ومستوى البحث العلمي ومستوى التعليم والأمية وبراءات الاختراع ،، الخ، والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية والبيئية في هذا الصدد كثيرة جداً وصارخة في التمايز بين المجموعتين من الدول، فعودة سريعة إلى التقرير السنوي للتنمية البشرية خلال السنوات المنصرمة مثلاً، أو حتى تقارير البنك الدولي السنوية والكثير من التقارير السنوية الأخرى، بما فيها التقرير الاقتصادي العربي الموحد، يستطيع كل متتبع إدراك واقع هذا البون الشاسع والآثار السلبية الحادة جداً لتلك السياسات النيوليبرالية، التي يقترحها لنا البعض، على حساب اقتصاديات ومستوى حياة ومعيشة شعوب الدول النامية.
إن 80 % من شعوب العالم، وهي الدول النامية، تستهلك 20 % من الكثير من المواد الخام والطاقة وتنتج أقل من 20 % في الصناعة والزراعة وتساهم بتلويث البيئة بنسبة 20 % من غاز ثاني أكسيد الكربون تقريباً، في حين أن 20 % من شعوب العالم، وهي الدول المتقدمة، تستهلك 80 % من تلك المواد الأولية أو تساهم بهذه النسبة في التجارة الدولية أو في الإنتاج الصناعي والزراعي، كما تشارك في تلوث البيئة بنسبة 80 %

393
د. كاظم حبيب
هل أعلن معصوم نهاية عملية التغيير والإصلاح في العراق؟
تشير الأخبار المتداولة بالعراق وخارجه ومنذ عدة أسابيع إلى وجود حراك سياسي مكثف ومتواصل بين بغداد وطهران والسليمانية، هدفه إعادة الاعتبار السياسي لنوري المالكي أولاً، ثم تسويقه للعودة إلى الحكم ثانية تحت واجهة فشب رئيس الوزراء الجديد في تحقيق الإصلاح والتغيير. وتتوج هذا الموقف بصدور قرار عن مجلس القضاء الأعلى بعدم تناغم قرار رئيس الوزراء العبادي بإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية مع الدستور، ولكن القرار لم يعلن عن حق النواب الثلاثة في العودة إلى مناصبهم. إلا إن رئيس الجمهورية فؤاد معصوم قد استقبل نهار اليوم المصادف 29/10/2016 نوابه السابقين الثلاثة ليعلن إلى الملأ عن عودتهم إلى مناصبهم من جهة، وإعلان الإجهاز على عملية التغيير والإصلاح التي أعلنها رئيس الوزراء العبادي منذ ما يزيد عن عام وتوقف عن السير بها، رغم المطالبة المتزايدة بتحقيق التغيير الجذري والإصلاح الفعلي. واقترن استقبال النواب الثلاثة بسفر وفد من جناح معين من الاتحاد الوطني الكردستاني إلى طهران للتباحث حول مستقبل العراق والحكومة الحالية والوضع في كردستان العراق، وليس كل الاتحاد الوطني على ما نقلته الأنباء المحلية والدولية!
من القضايا غير المفهومة بالسياسة العراقية أن يقود الخلاف بين حزبين سياسيين أو أكثر بإقليم كردستان العراق إلى مثل هذه العواقب الوخيمة الجارية على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكردستانية والعراقية في آن واحد. فالديمقراطية بالإقليم معطلة حقاً، ومجلس النواب لم يعد فاعلاً، وحقوق الإنسان تتعرض باستمرار إلى انتهاك في مجالات كثيرة، بما في ذلك دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين وأساتذة الجامعات والمعلمين وحرية الصحفيين...الخ، وتعطلت التنمية الاقتصادية تماماً وتوقفت مشاريع الإعمار والبناء، كما تعاظم التناغم والانسجام والتعاون المخل مع إيران لحزب أو أكثر من جهة، ومع تركيا لحزب أو أكثر من جهة أخرى. وستكون العواقب السيئة لذلك الآن وفي المستقبل لا على الإقليم حسب، بل على العراق كله، وفي المقدمة من ذلك محاولة الإجهاز على حركة الإصلاح والتغيير الجذري المنشود.
لم يكن موقف السيد رئيس الجمهورية منذ البدء حيادياً إزاء قرار رئيس الوزراء بإلغاء مناصب نوابه الثلاثة، إذ كان المفروض أن يدعم هذه الخطوة لأنها كانت تعني البدء بإلغاء المحاصصة الطائفية التي سادت العراق منذ 13 عاماً وما تزال حتى الآن والتي تعمقت في الفترة الأخيرة. كما إنها ضربة موجهة ضد التقارب الجاري بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية، شاء ذلك أم أبى من أبى!
إن التآمر على عملية التغيير والإصلاح سائرة على قدم وساق من جانب حزب الدعوة الإسلامية ورئيسه نوري المالكي وقائمته المسماة ظلماً وبهتاناً بـ "قائمة دولة القانون"، من خلال التحرك باتجاه التشويش على معركة الموصل التحريرية من قوات داعش المجرمة التي احتلتها من خلال قرار انسحاب هروبي للقوات العسكرية العراقية أصدره رئيس الوزراء السابق والقائد العام للقوات المسلحة السابق. والأمثلة على ذلك كثيرة منها المادة التي دست في قانون البلديات بمنع استيراد وإنتاج وبيع المشروبات الروحية التي وجدت الرفض الواسع النطاق في العراق وخارجه، ومحاولة استجواب الوزراء ورئيس الوزراء لسحب الثقة عنهم جميعاً، ليمهد نوري المالكي لنفسه العودة إلى المنصب الذي خلعته الجماهير منه بالرغم منه، وهو الذي صرح "أخذناها بعد ما ننطيها" تماماً كما قالها صدام حسين "جئنا لنبقى"، وتماما كما يقولها أو يفعل بها كل المستبدين حين يستولوا بطرق شتى على أعلى منصب في الدولة، عندها يرفضون التنازل عنه أو يحاولون التمهيد لبقاء الحكم في العائلة "المالكة" الجمهورية الجديدة!
وعلينا أن نتوقع الكثير من المناورات والتآمر خلال الفترة القادمة لا على وجود رئيس الوزراء في الحكم، رغم ابتعاده عن الإصلاح واستجابته لإرادتهم، فحسب، بل على رغبة الجماهير المتسعة والمطالبة بالتغيير الجذري للنظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية والخروج من هيمنة إيران على السياسة العراقية وبدعم من قوى محلية، أو محاول استبدالها بقوى مؤيدة للسعودية وقطر والتي لا تعني سوى السقوط تحت هيمنة السعودية والدويلة القزم قطر.
إن من واجب كل المواطنات والمواطنين الشرفاء تشديد النضال من أجل تحقيق التغيير الجذري وإصلاح الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وبناء العلاقات الإقليمية والدولية للعراق على أسس سليمة ومتناغمة مع الشرعية الدولية، من أجل التحرر من عصابات داعش، التي تجد الدعم والتأييد إقليميا ودولياً وبمستويات مختلفة، ومن وجود قوات إيرانية غير رسمية وميليشيات طائفية مسلحة ولاءها الأول والأخير لإيران من جهة، وقوات تركية محتلة لبقعة من أرض العراق وطامعة في الهيمنة عليه من جهة أخرى. إنها مهمات صعبة ومعقدة ومتشابكة، ولكنها مهمات ممكنة التحقيق ولا بديل عنها عند الشعب العراقي.
 

394

اللقاء التشاوري لمجموعة من مواطنات ومواطني الدول العربية ببرلين (الحلقة الخامسة)
حول الأوضاع السياسية بالدول العربية وأوضاع اللاجئين بتاريخ 2/10/2016
الحلقة الأخيرة
10. مداخلة السيد الدكتور مجيد مسلم (العراق)، 11. تقييم أولي للقاء التشاوري، د. كاظم حبيب
المأزق العربي ودور المثقفين في نهضة الجماهير
لقد عاش العرب ومن بينهم من المكونات من الطوائف والأقليات الأثنية تحت سيطرة الحكم العثماني، الذي لم يسلبهم الحرية فقط، بل ساهم في جهلهم وإفقارهم، مما جعلهم ينتظرون فرصة للتحرر من سطوتهم. لقد كانت الدولة العثمانية مصابة بالضعف والانحلال، لكنها لم تتوقف عن المغامرات والحروب التي أ سقطتها. فبعد هزيمتها وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، صدق الهاشميون بسذاجة وعود بريطانيا التي قطعتها لشريف مكة الحسين بن علي، بإعطاء العرب استقلالهم في دولة عربية من الخليج الي المحيط). لكن نهاية الحرب جاءت بما لا يشتهي العرب. ففي السادس من شهر شباط/ فبراير 1919 وفي مؤتمر باريس تنكر الحلفاء لوعودهم التي قطعوها للحسين، فكانت معاهدة "سايكس بيكو" قد جعلت من العرب دولاً متباينة في الصغر، وممالك قبلية تخدم الأغراض السياسية والاقتصادية للاستعمار ولبعض الدول الرأسمالية ذات المصالح المباشرة، التي كانت وماتزال تمارس الولايات المتحدة بكامل قوتها في هذا المعترك الخطير بعدما شعرت بضعف الدور البريطاني في المنطقة الغنية بالنفط والمصادر الاقتصادية، والمحتدمة بالصراعات المتنوعة. أن معاهدة "سايكس بيكو" جعلت من العرب اثنين وعشرين دولة، ما بين مملكة وامارة، تفصلها حدودٌ مصطنعةٌ يحكمها شيخٌ او أميرٌ او ملكٌ، ثم زرعت بينها بعد الحرب العالمية الثانية دويلة إسرائيل بموجب "وعد بلفور" كهدية للصهيونية العالمية، التي كانت تحوم حول فلسطين اثناء قيام الدولة العثمانية محاولةً شراءها، لكنها جوبهت بالرفض من قبل السلطان العثماني حينذاك، رغم حاجته الى المال. هكذا اصبحت مسألة الدولة الواحدة من الخليج الى المحيط مستحيلةً، كما أصبح الأمن والسلام لعموم المنطقة مستحيلا أيضا، ليس فقط بين الدويلات العربية المصطنعة، بل بينهم وبين الدول المجاورة، ولاسيما تلك التي أنشأها الاستعمار حديثاً على ارض فلسطين، التي تشرد شعبها لاجئين في المخيمات عبر الحدود. فهذه الدولة المصطنعة أيضا أصبحت ذات بأس وقوة، وتحظى بدعم عسكري واقتصادي لا يضاهى، فلذلك فهي وبرغم الحروب المتتالية بينها وبين جيرانها، ترفض حتى فكرة الدولتين، ومازالت تفترس بعناد وغطرسة المزيد من الأراضي الفلسطينية المتبقية لبناء المستوطنات غير المشروعة للقادمين من الصهاينة، ولا زال "الحلم التوراتي" يراودها " دولة تمتد من "النيل الى الفرات". إن حدود البلدان العربية المصطنعة، وبسبب كثرة الأقليّات العرقية والدينية، كعامل اجتماعي مهم، وبسبب منابع النفط الكثيرة والمواقع الاستراتيجية المهمة البحرية والبرية، تعرضت الحدود العربية الى التقسيمات القسرية وأصبحت بين ليلة وضحاه دويلات ممزقة وضع الاستعمار عليها رموزاً تحكمها وتدين له بالولاء والطاعة. وكلما سعت تلك الشعوب العربية الى الإطاحة بتلك الرموز هب الاستعمار لإنقاذها. لقد كبل الاستعمار تلك الدويلات باتفاقيات ومعاهدات ظالمة لازال بعضها مفروضا حتى اليوم، واتبع سياسة "فرق تسد" مستخدماً الطائفية والعنصرية وسيلة لتطبيق تلك السياسة، التي لم تتغير في جوهرها، بل ازدادت حدة وإرهاباً، وهذا ما اظهرته الحروب الكثيرة التي شهدتها المنطقة ولاتزال. إن حرب الخليج بين العراق وإيران هي واحدة من تلك الحروب التي انتجتها تلك السياسة الاستعمارية، ليس لشعب العراق فقط، بل لعموم شعوب المنطقة، وبشكل خاص ما يسمّى ب " العالم العربي" واسباب تلك الحروب معروفة للجميع. إن تلك الحروب وما نتج عنها، وبشكل خاص "حرب الكويت" هيّأت الفرصة المناسبة والذهبية للاستعمار الجيد باحتلال مناطق النفط عنوة، وتوسيع القواعد العسكرية وخلق بؤر جديدة للتوتر في شتى المناطق. لقد أصبح الخليج العربي ملكاَ لها لتنفيذ مشاريعها وبشكل خاص مشروع ما يسمّى "النظام العالمي الجديد. الذي شرع الحكام الأمريكيون بتنفيذه. إن الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة، لم يكتفِ بتقسيمات "سايكس بيكو" الذي قامت به فرنسا وبريطانيا لفرض الهيمنة الاستعمارية على المنطقة، بل خططت الى تقسيم جديد للمنطقة، وبوسائل أكثر همجية، وهي" إشعال الحروب هنا وهناك ثم التطوّع لإطفائها". إن ما حصل في لبنان وما يحصل في العراق وفي ليبيا وسوريا واليمن من جرائم. إضافة الى الحروب التي تشنها الصهيونية لايزال مستمراً. يضاف الى ذلك نشؤ حروب جيدة تقوم بها الرجعيات العربية وفي مقدمتها السعودية وقطر ضد ليبيا وسوريا واليمن يدل على أن ما يسمى "بالعالم العربي" يتعرض الى موجة جديدة من التشرذم والتقسيم والارهاب باسم "حقوق الانسان والديمقراطية" ويعيش حالة لا مثيل لها من الفوضى والحروب والقتل الدمار واستنزاف الموارد الاقتصادية لمنفعة الإمبريالية وحلفائها، ولمنفعة تجّار السلاح عموماً. أن الشعوب العربية مضطهدة اضطهاداً مزدوجاً: اولاً من قبل حكامها الذين ما فتأوا يمارسون الاضطهاد والفساد ضد شعوبهم. وثانياً: من قبل دول الاستعمار الجديد وبشكل خاص الولايات المتحدة الامريكية التي تتخذ "الفوضى الخلاقة" وسيلة لزعزعة الأمن والاستقرار حيثما وجد في المنطقة العربية، بهدف سلب حضارات الشعوب وثقافاتها وإخضاعها للنهج الامريكي المتغطرس وفرضه على الشعوب العربية بالإكراه. إن الشعوب العربية تمرّ اليم بوضع مأساوي يرثى له، وبمأزق يصعب الخروج منه، مالم تأخذ الجماهير دورها الفعال والمميز، وما لم يعد المثقفون الى مسؤولياتهم بفضح الاستعمار الجديد الذي يدعم، وباسم ما يسمّى "بالمسؤولية الإنسانية والأخلاقية" المطاليب الهادفة الى قتل الروح الوطنية، ويؤجج الصراعات الطائفية والأثنية. إنه لشيء مؤسف وخطير أن نجد بعض المثقفين لايزال يدافع وبعناد عن براءة الإمبريالية والصهيونية عما حدث ويحدث ويراهن على أهمية الدور الأمريكي رغم وضوح المشهد السياسي. إنه موقفٌ يدعو الى التساؤل، ألم يحن الوقتُ أن يعيَ المثقفون دورهم الحقيقي والانساني في نشر الوعي بين والجماهير العربية وحثها على نيل حقوقها الاقتصادية والسياسية لمواجهة الإرهاب بشتى أشكاله ولإحباط المشروع الإمبريالي الصهيوني الهادف الى التفتيت والتقسيم. أن الشعوب العربية اليوم تتطلع بنفاذ صبر أكثر من أي وقت مضى الى الأمن والسلام والديمقراطية وحقوق الانسان. إن تلك الأماني لا يمكن تحقيقها بالتضرع والدعاء، بل بالمثابرة والنضال.
فما نيلُ المطالبِ بالتمني                         ولكنْ تؤخذ الدُنيا غلابا
د. مجيد القيسي
2/10/2016
       
11. تقييم د. كاظم حبيب للقاء التشاوري
تقييم شخصي اللقاء التشاوري لمجموعة من مواطنات ومواطني الدول العربية ببرلين
كان هذا اللقاء هو الأول من نوعه بين مواطنات ومواطنين من الدول العربية القاطنين بألمانيا وخاصة برلين، وبالتالي لم يكن متوقعاً حضور عدد أكبر من المشاركين فيه، رغم إن من وافق على الحضور كان أكبر من عدد الذين حضروا. بودي أن أشخص عدد من النقاط التي يفترض أن نعمل عليها سوية في اللقاءات القادمة التي اتفق الحضور على عقدها:
1.   بلغ عدد الحاضرين 29 شخصاً من المهتمين بشؤون الدول العربية والكوارث الحاصلة في أغلبها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ولكن وبشكل خاص منذ بداية هذا القرن وحتى الآن.  والتي تفاقمت منذ انزلاق الربيع العربي في متاهات جديدة لصالح النظم الاستبدادية والإسلامية السياسية المتخلفة ولصالح المزيد من الاستبداد وتغييب الديمقراطية، والمزيد من الحروب الداخلية والاعتداءات الخارجية.
2.   أنصبت النقاشات في الغالب الأعم على الماضي ولم يعر الاهتمام الكافي والمطلوب للمشكلات الراهنة، رغم أهمية الربط بين الماضي والحاضر في واقع الدول العربية وشعوبها.
3.   كان المفروض أن يكون اهتمام المشاركين أكبر حول موضوع البحث، وخاصة بالأحداث الجارية، بالارتباط مع واقع التردي المتفاقم بالدول العربية.
4.   كانت هناك مشاركات جيدة ومتماسكة، وخاصة في المجال العام، إضافة إلى موضوع اللاجئين وبملموسية مناسبة. 
5.   رغم تميز النقاشات بالموضوعية، إلا إن مسألتين نحن بحاجة ماسة إلى تطويرهما:
أ‌.   الاستعداد للاستماع إلى الرأي الآخر بأصغاء.
ب‌.   مناقشة الرأي الآخر بموضوعية وهدوء وبعيداً عن الشعور بالاستفزاز.
6.   ضعف التحضير لعدد غير قليل من الحاضرين للمادة المطروحة للنقاش، والتي كان في مقدورهم إغناء النقاش والمساهمة في بلورة النتائج والاستنتاجات.
7.   أمكن نشر العديد من المداخلات في خمس حلقات، اعتذر البعض الآخر لأسباب صحية أو سفر، وكان بالإمكان نشر مداخلات أكثر لتكون الفائدة أكبر.
8.   كان عدد الإناث الحاضرات ضعيف جداً لا يزيد عن ثلاث نساء، وهو نقص بارز في العلاقات الاجتماعية بين مواطنات ومواطني الدول العربية.
إن تكرار اللقاءات وتحديد الموضوعات بملموسية والطلب من بعض الإخوان تقديم مطالعات بالموضوع تساهم في تنشيط النقاش وإغناءه، كما تساهم في تأمين المزيد من التعارف وتبادل الرأي والمعرفة بين مواطنات ومواطني الدول العربية.
 د. كاظم حبيب

   
 


395
كاظم حبيب
سياسات اليمين الحاكم الاجتماعية السبب في نجاحات اليمين المتطرف بألمانيا
حين تنمو وتتسع ظاهرة سياسية-اجتماعية سلبية ويزداد تأثيرها في مجتمع متحضر مثل ألمانيا، تجد الكثير من الناس غير المتتبعين للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يستغربون من بروزها، وكأنها نشأت فجأة. في حين إن الظواهر الاجتماعية والسياسية لا تنشأ من فراغ وليس بين ليلة وضحاها، بل لها عواملها أو مسبباتها وتراكماتها. وحين لا تجد تلك الظواهر السلبية حلولاً عملية لها، يمكن أن تتحول إلى صراع ثم تنفجر كنزاع متباين الحدة حين يطرأ أي عامل إضافي. حينها لا يشكل العامل الجديد سوى القشة التي تقصم ظهر البعير. أي إن هذه الظاهرة أو تلك كانت تعمل طوال سنوات لأسباب أعمق بكثير من الحدث الأخير الذي تسبب باحتدامها وبروزها على سطح الأحداث. وهذا ما حصل بألمانيا في الانتخابات التي جرت في كل من محافظتي مكلينبورع-فوربومرن وبرلين العاصمة، حين فاز اليمين المتشدد (حزب البديل لألمانيا AfD) المتشابك مع قوى في اليمين المتطرف والمجموعة اليمينية المناهضة لوجود الأجانب والمهاجرين بألمانيا پيگيدا (PEGIDA)، بحصوله على نسبة (%20،8) من أصوات المشاركين في الانتخابات المحلية في مكلينبورغ فوربومرن، والتي فاقت النسبة التي حققها الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو حزب سياسي محافظ (%19،0)، وحقق "حزب البديل لألمانيا" ببرلين (%14,2)، وهو أقل مما حققه الحزبان الديمقراطي الاشتراكي (%30،6) والحزب الديمقراطي المسيحي (17,6%)، ولكن خسر هذان الحزبان الكبيران نسبة عالية من أصواتهما لصالح الحزب اليميني الجديد. علماً بأن حزب البديل لألمانيا يخوض الانتخابات لأول مرة ومضى على تأسيسه ما يقرب من عامين، في حين يطلق على كل من الحزبين الآخرين تعبير "حزب الشعب"، لأنهما يفوزان ويشكلان دوماً الحكومة الاتحادية إما بتحالفهما معاً، أو بتحالف كل منهما مع حزب صغير آخر. واعتبر الكثير من الصحفيين والمحللين السياسيين إن السبب الرئيس في هاتين النتيجتين في انتخابات العاصمة ومكلينبورغ فوربوميرن يعود لسياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وموقفها الترحيبي باللاجئين القادمين من دول الشرق الأوسط وأفريقيا. لم يكن في مقدور المستشارة الألمانية اتخاذ موقف غير الموقف السليم الذي اتخذته وقولها المشهور "نحن قادرون"، أو "سننجز هذه المهمة بنجاح"، "Wir schaffen das"، نتيجة تكدس مئات الألوف من اللاجئين على الحدود الألمانية المجرية وبدء احتمال وقوع كارثة إنسانية، والموقف المخزي لنهج رئيس الحكومة المجرية اليميني المتشدد فيكتور أوربان إزاء هؤلاء المهاجرين. والسؤال العادل الذي لا بد من طرحه هو: إن لم يكن هذا العدد الهائل من اللاجئين هو السبب في زعزعة مواقع المستشارة ميركل وحزبها الديمقراطي المسيحي والأحزاب التقليدية الأخرى، فما هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا التغير النسبي في الفكر والسياسة الملموسين في الواقع الألماني؟ علماً بأن ألمانيا هي الدولة الأكثر غنى، والأكثر استفادة من نشوء الاتحاد الأوروبي وتوسعه، ومن سن قانون اليورو كعملة نقدية لكل دول الاتحاد الأوروبي تقريباً، وعلى حساب دول أوروبية أخرى، مثل اليونان والبرتغال واسبانيا وإيطاليا أو حتى فرنسا...الخ؟ وهنا علينا أن نشير أيضاً إلى أن هذا التوجه اليميني الراهن في المزاج العام لا يقتصر على ألمانيا، بل يشمل أغلب دول الاتحاد الأوروبي، ومنها المجر وبولندا والتشيك وسلوفاكيا، وكذلك فرنسا كما برز في الانتخابات المحلية 2016. 
لقد حققت ألمانيا ما أطلق عليه بالمعجزة الاقتصادية في سنوات العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، حين عشرات الألوف من المهاجرين من تركيا وإيطاليا واسبانيا والمغرب إلى المانيا وشاركوا في الازدهار الاقتصادي الألماني، وحين مارس الدكتور لودفيج ايرهاد مستشاراً ألمانيا، ما أطلق عليه بـ"السوق الاجتماعي" في إطار النظام الرأسمال المتطور، الذي تضمن مساومة تاريخية بين رأس المال والعمل، أو بين الرأسماليين والعمال والمنتجين الآخرين عبر نقاباتهم، حققت مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية للطبقة العاملة والفلاحين ومنتجي الثقافة، نتيجة النجاحات الكبيرة التي تحققت بألمانيا من جهة، وبسبب المنافسة المحتدمة حينذاك بين الدول الاشتراكية، ومعها جمهورية ألمانيا الديمقراطية المجاورة، وبين الدول الرأسمالية، ومعها جمهورية المانيا الاتحادية، من جهة أخرى. وقد ساهم "مشروع مارشال" الأمريكي على تحقيق النهوض السريع لألمانيا الاتحادية ولعدد آخر من دول أوروبا الغربية التي حطمتها الحرب العالمية الثانية 1939-1945. وما تزال ألمانيا حتى الآن تعيش بحبوحة اقتصادية متميزة ومعدلات نمو سنوية عالية نسبياً بالمقارنة مع جميع الدول الأوروبية الأخرى، وإن الأزمة الاقتصادية التي مرّ بها العالم الرأسمالي لم تؤثر كثيراً على اللمان بقدر تأثيرها على شعوب الدول الأخرى. ويشارك المواطنون من أصل غير الماني بدور مهم وملموس لما تحققه المانيا من نمو اقتصادي.
من المعروف إن السياسات الألمانية الاتحادية قد اتجهت منذ الثمانينات من القرن الماضي نحو اللبرالية الجديدة، أي نحو الرأسمالية المتوحشة، كما عبر عنها البروفيسور سمير أمين والبروفيسور الطيب الذكر رمزي زكي، متزامنة مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية (رونالد ريگن) وبريطانيا (مارغريت ثاتچر)، التي تجلت في المجالات كافة، وتفاقمت مع انهيار الدول الاشتراكية وغياب دورها المنافس، واشتدت مع السنوات المنصرمة من القرن الحادي والعشرين حتى الوقت الحاضر. وبرز هذا الاتجاه في جميع المجالات التي تمس حياة ومعيشة الشعب الألماني، وخاصة الفئات المنتجة للخيرات المادية والروحية، إضافة إلى رفضها لسنوات طويلة الاعتراف بوجود مجتمع متعدد الثقافات بألمانيا والتشدد في قبول الهجرة واللاجئين إليها، والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية:
1.    تنامي ثروة المجتمع الألماني وازدياد قدرات الدولة التصديرية، كبلد منتج للسلع ومصدر لها. وتجلى ذلك في معدلات النمو السنوية العالية والدخل القومي، وفي الأرباح التي تتحقق سنوياً لأصحاب رؤوس الأموال والاحتكارات الألمانية الكبرى والعابرة للقارات.
2.    حصول اختلال شديد ومتفاقم في عملية توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي بين الطبقات والفئات الاجتماعية، في غير صالح المنتجين، ومضاعفة أرباح الرأسماليين على حساب المنتجين. فقد ازداد عدد أصحاب الملايين والمليارات بسرعة هائلة خلال السنوات الأخيرة، في مقابل ارتفاع من يحصل على المساعدة الاجتماعية ويعيش في حالة فقر وعوز كبيرين. أليكم الأرقام التالية:
السنة            تزايد عدد أصحاب الملايين
2005               720,000
2008               830,000
2011               951,000
2012               1,015,000
2015               1998,700
ومنه يتبين إن نسبة الزيادة خلال 10 سنوات بلغت 177,6%، أي بمعدل زيادة سنوية بسيطة قدرها 17,7%. وهي زيادة كبيرة جداَ، خاصة وأنها تأتي على حساب المجتمع والمنتجين للخيرات المادية. وخلال السنوات الأربع الأخيرة بلغت الزيادة 110%، أي بنسبة زيادة سنوية بسيطة بلغت 27,5%. (أنظر: خطاب الدكتور گريگوري گيزي في البرلمان الاتحادي الألماني في 2011، وجريدة فرانكفورتر ألگماينة، تحت عنوان "هذا العدد الكبير من المليونيرية يعيش في المانيا"، بتاريخ 23.06.2016). ونسبة هؤلاء إلى السكان لا تزيد عن 2,7% فقط. علماً بأن الضريبة على تلك الأرباح قد تراجعت كثيراً خلال العقدين المنصرمين لصالح الرأسماليين.
3.    في مقابل ذلك بلغ عدد المهددين بالفقر بألمانيا 12 مليون نسمة في العام 2015، أي ما يعادل 15،7% من مجموع سكان المانيا لنفس العام. أما عدد الفقراء الفعليين حالياً فقد بلغ 1,1 مليون شخص في نفس العام. وتشير الإحصائيات إلى إن كل طفل من خمسة أطفال بألمانيا يعيش في حالة فقر فعلية، وفي بعض المحافظات الألمانية كل طفل بين أربعة أطفال. (أنظر:Spiegel Online, Wirtschaft, 16.09.2016 ).
4.    ما تزال فجوة الرواتب والأجور بين شرق ألمانيا وغربها كبيراً لصالح الغرب، إذ على وفق البيانات الحديثة الصادرة عن الوكالة الاتحادية للعمل  (BA) في نورنبرغ لا يزال التباين لجزء كبير من المهن قائماً في الأجور والرواتب بين العاملين في شرق ألمانيا والعاملين في غرب ألمانيا، إذ يصل إلى عدة مئات من الأيوروات في الشهر في غير صالح العاملين في شرق ألمانيا. (أنظر: Onetz  Große Kluft zwischen West und Ost, 11.05.2016.)، كما إن دخل بعض الرأسماليين يزيد عن دخل المتوسط للفرد الواحد عن 1000 ضعف. (خطاب الدكتور گريگوري گيزي في البرلمان الاتحادي الألماني في 2011) 
5.    تقلصت إحصائيات العاطلين عن العمل بألمانيا خلال السنوات الأخيرة لسببين أساسيين هما:
قلة تأثر المانيا بالبطالة بسبب استمرار إنتاجها الموجه للتصدير على حساب الدول الأوروبية الأكثر ضعفاً والأقل قدرة على المنافسة مع السلع الألمانية مثل اليونان واسبانيا والبرتغال.. الخ أولاً، وبسبب تحويل الكثير من العاطلين على إحصائيات المساعدة الاجتماعية ثانياً. ولهذا نجد إن البطالة بألمانيا قد بلغ معدلها الوسطي في العام 2015 (6،4%)، أو ما يعادل 2.795.000 عاطل عن العمل، وهو العدد والنسبة الأوطأ منذ تحقيق الوحدة الألمانية. في حين تشير البطالة على أساس المحافظات إلى إنها تراوحت بين 3،6% من القوى القادرة على العمل في محافظة فيتمبرغ Wittemberg، و10،9% في محافظة بريمن Bremen. أما برلين العاصمة في نفس العام 10،7%. وكانت المحافظات الشرقية تتراوح البطالة فيها بين المتوسط العام وحالة برلين. 
6.    لا شك في أن الحياة بألمانيا قد تحسنت إلى حدود بعيدة بالقياس إلى الفترات السابقة، ولكن هذا لا يغير من حقيقة التراجع في الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة بالنسبة للعائلات الفقيرة والمعوزة والتي تستقبل المساعدة الاجتماعية الشهرية. كما إن هذا يبدو أكثر وضوحاً بالنسبة للمهاجرين واللاجئين غير القادرين في الحصول على عمل.
7.    وتعاني نسبة غير قليلة من السكان من ارتفاع كبير ومستمر في إيجارات السكن، إذ إنها لم تعد قادرة على دفع الإيجار والعيش بكرامة، رغم وجود رصيد لدعم الإيجارات. وتجبر الكثير من العائلات على ترك سكنها والتحري عن سكن أرخص في أطراف المدن الكبرى، خاصة وأن نسب غلاء المعيشة في ارتفاع مستمر. 
8.   ضعف جهود الحكومات الألمانية المتعاقبة في توفير مستلزمات فعلية لاندماج القادمين الجدد إلى ألمانيا في المجتمع الألماني، وضعف رغبة وجدية جمهرة غير قليلة من المهاجرين واللاجئين القادمين إلى ألمانيا في الاندماج الفعلي في المجتمع الألماني، وخاصة تعلم اللغة الألمانية، الطريق الوحيد للاندماج الفعلي، مما تسبب في خلق فجوة بين الطرفين تستثمر باستمرار من جانب القوى اليمينية واليمينية المتطرفة.
9.    ضعف رقابة الدولة الألمانية على دور وخطب وعواقب نشاط أئمة الجوامع القادمين من تركيا والسعودية، والذين يحملون فكراً تكفيرياً ونهجاً معادياً لأتباع الديانات الأخرى والمروجين للعنف ودولة الخلافة الإسلامية منذ الثمانينات من القرن الماضي. وقد أصبح بعض هذه الجوامع مدرسة لتربية جيل من الإسلاميين المتطرفين والذين يعتمدون العنف والدعوة "لأسلمة الغرب المسيحي" أو "ديار الحرب"، في الوصول إلى أهدافهم الرجعية والذين كسبهم داعش إليه فيما بعد.
10.    السياسات غير العقلانية التي مارستها الأحزاب الألمانية في فترات الانتخابات وجعل موضوع الهجرة واللجوء السياسي وكثرة وجود الأجانب، وخاصة المسلمين بألمانيا، والدعاية ضد الثقافات الأخرى ورفض القبول بكون المجتمع الألماني مجتمع متعدد الثقافات ولسنوات طويلة، في مقدمة صراعاتها، وخاصة من جانب الحزب الاجتماعي المسيحي CSU، يليه بعض أبرز السياسيين في الحزب الديمقراطي المسيحي CDU، والتي نشَّطت قوى اليمين المتطرف ومنحتها مستلزمات الهجوم على الأجانب واللاجئين وتحت شعار "أخرجوا أيها الأجانب من المانيا، أو ضد "أسلمة الغرب"...الخ. وقد ارتفعت في سنة 2015 و2016 عدد الاعتداءات المتنوعة على الأجانب وحرق دور أو مخيمات السكن.. الخ. وحصل هذا حتى في يوم الاحتفال بالذكرى السنوية للوحدة الألمانية 3/10/2016 في مدينتي دريسدن وبراندنبورغ.   
11.    إن الانفتاح على الدول الاشتراكية السابقة في إطار الاتحاد الأوروبي قد فتح الحدود الألمانية على تلك الدول. ولم يجلب هذا الانفتاح المنافع فقط، بل جلب معه أيضاً مجموعة من المافيات (الجريمة المنظمة) في مختلف صورها، ومنهم اللصوص والسطو على الدور، إضافة إلى مجموعات غير كبيرة من المهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول أفريقية أخرى، ممن يتعاملون في بيع المخدرات وقضايا الجنس والعنف...الخ، مما خلق الخوف من ضعف الأمن لكبار السن والنساء بشكل خاص.
12.    كل ذلك قد تسبب في تراجع مصداقية السياسيين بين السكان، والتي تنعكس بردود فعل سلبية على عموم الوضع بألمانيا. والتي تجلت كلها في هذا التصدي للسياسات الألمانية التي تمارسها ميركل والتي تفجرت مع دخول ما يقرب من 800000-900000 إنسان مهاجر ولاجئ إلى ألمانيا في النصف الثاني من العام 2015 والنصف الأول من عام 2016 والذي تسبب في مشكلات كبيرة لألمانيا، خاصة وأن ألمانيا لم تكن مستعدة تنظيمياً لاستقبال هذا العدد الكبير من المهاجرين، رغم التحذيرات الكبيرة التي وجهت للحكومة الألمانية وأحزابها الحاكمة في هذا الصدد.       
ومما يثير القلق لدى أوساط واسعة ديمقراطية من الشعب الألماني استمرار بيع ألمانيا للأسلحة لدول في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة للمملكة السعودية بذريعة "أن السعودية عامل استقرار في منطقة الشرق الأوسط!"، كما عبرت عن ذلك المستشارة الألمانية في دفاعها عن أسباب بيع الأسلحة للمملكة السعودية، في حين إن غالبية الشعب الألماني يدرك طبيعة هذه المملكة والحروب التي أججتها في سوريا واليمن والعراق، ودورها في خلق القاعدة ومن ثم داعش مع قطر وتركيا. وتعتبر ألمانيا الدولة الثانية أحياناً والثالثة أحيانا أخرى في بيع السلاح على الصعيد العالمي، وهي أسلحة تقود إلى الفوضى والصراع والحروب والموت والخراب لمزيد من شعوب الدول بمنطقة الشرق الأوسط.
إن ألمانيا تستقبل المهاجرين ليس بسبب إنساني فحسب، بل ولأسباب ديمغرافية، حيث تصل الحاجة السنوية لمزيد من القوى العاملة إلى حدود 500000 نسمة، لتضمن الأيدي العاملة الشابة، وجزء منها متعلم ومدرب، وإلى ولادات جديدة، خاصة وأن نسب الولادة بين العائلات الألمانية في تراجع ملموس.
د. كاظم حبيب
4/10/2016 








396
اللقاء التشاوري لمجموعة من مواطنات ومواطني الدول العربية ببرلين (الحلقة الثالثة)

مداخلات السادة ضياء الشكرجي (العراق)، الدكتور غالب العاني (العراق)، وعصام الياسري (العراق)
4. مداخلة الأستاذ ضياء الشكرجي في اللقاء التشاوري حول واقع العالم العربي
ابتداءً أحب أن أشير إلى أني لا أستخدم مصطلح «العالم العربي»، أو «الدول العربية»، لأن هناك أتباع قوميات أخرى غير العربية يعيشون في العديد من دول هذه المنطقة، ولذا أفضل استخدام «العالم الناطق بالعربية»، و«الدول الناطقة بالعربية»، كما أني أرى خطأ استخدام «العالم الإسلامي» و«الدول الإسلامية»، بل أرى الأرجح استخدام مصطلحي «العالم ذو الأكثرية المسلمة»، و«الدول ذات الأكثرية المسلمة».
بتقديري إن هذا الجزء من العالم، يعيش أزمتين، أزمة معرفية، وأزمة قيم، وفيما يتعلق الأمر بأزمة القيم، فيسود مفهوم مشوه للأخلاق، يختزل في الممارسة الجنسية، متأثرا بالموروث الديني، الذي ما زال يهيمن على عقلية شريحة واسعة من شعوب هذه المنطقة، أو لنقل إنه عاد ليهمين على العقل العام لهذه المنطقة من جديد، وبأشد صور التخلف والتطرف.
كما إن هناك تقديس للتاريخ، بما في ذلك تقديس مفاصله السوداء، وتجميل القبيح منها بإضفاء هالة القداسة الدينية عليها، وبكل تأكيد لا أعني هنا تاريخ الحضارات القديمة المؤسسة لحضارات العالم، كحضارة وادي الرافدين ووادي النيل، بل تلك الحقبة من التاريخ (المقدس)، أي تاريخ الأربعة عشر قرنا الماضية، الذي ما زال يرسم أهم ملامح الثقافة العامة لهذه المجتمعات، كما هو الحال مع عموم مجتمعات المنطقة ذات الأكثرية المسلمة.
كلنا يعرف إن من الركائز الأساسية لثقافة الحداثة كل من قيمة الحرية، وقيمة الإنسان، فنجد هاتين القيميتين إما غائبتين، أو تكادان، وإما مهمشتين، وإما مشوهتين ومحرفتين عن معنييهما الحقيقيين.
وهنا يجب أن نطرح على أنفسنا، ما هو يا ترى دورنا، كشعوب، كأنظمة، وكأحزاب ديمقراطية. وإذا ركنا الأنظمة جانبا، كون معظم أنظمة هذه المنطقة استبدادية، فيبقى السؤال عن دور الشعوب، والأحزاب الديمقراطية.
بالنسبة للأحزاب الديمقراطية، فإما لا وجود حقيقيا لها، وإما إنها لم تستطع أن تجدد نفسها، وإما هي ضعيفة التأثير الجماهيري، وإما تزاول الازدواجية بعدم تجذر التقاليد الديمقراطية في الممارسة الحزبية الداخلية، ومن أهم ذلك عدم مزاولة التداول في مواقع القيادة.
وبالنسبة للشعوب، فهي التي يجب التعويل عليها، ويجب أن تمارس تجاهها التوعية الديمقراطية على أكثر من صعيد، أهمها نشر وتعميق الثقافة الديمقراطية العلمانية، ومفاهيم الحداثة والمساواة وحقوق الإنسان، ونسبية الحقائق، وكما يجب تشجيع عمليات الإصلاح والتنوير الدينيين، وبموازاته مزاولة نقد الدين، وترويض مجتمعاتنا على تقبل استقبال نقد الدين، من أجل نزع القداسة عنه تدريجيا، كشرط أساسي للوصول إلى اعتماد الديمقراطية العلمانية.
وحيث ذكرنا استبداد الأنظمة، لا بد من تشخيص إن الاستبداد يتجسد عندنا على عدة أصعدة، منها الاستبداد الاجتماعي، والاستبداد الديني.
ويجب تشخيص المشكلة الأساس، ألا هي الإسلام وحاكميته على الثقافة والمجتمع والسياسة. فلولا الإسلام لما كانت لدينا ظاهرة الإسلام السياسي، ولولا الإسلام لما كان النزاع الطائفي السني-الشيعي، وما كانت الطائفية السياسية، بل ولولا الإسلام لما كانت ظاهرة داعش، أو الإسلام الداعشي، الذي يمثل صورة من صور الإسلام، وهنا أتكلم عن الإسلام في الواقع، بقطع النظر عن مدى تمثيل هذا الواقع لحقيقة الإسلام أو عدم تمثيله.
ضياء الشكرجي
02/10/2016 – برلين


5. مداخلة الدكتور غالب العاني
الاخوات والاخوة الاعزاء،
قبل البدء بمداخلتي أدعوكم للوقوف دقيقة حداد على ارواح شهداء وضحايا العنف والارهاب والتطرف في الوطن العربي، صحح، في العالم العربي باسم اومرك احييكم جميعا كما أحيي مبادرة الاعزاء د.ك اظم ود. حامد ونبيل الداعين لهذا اللقاء التشاوري متمنيا لنا جميعا النجاح في مهمتنا الانسانية/ الوطنية هذه.
الكل يعلم، بان الأوضاع في منطقتنا اوضاع شديدة التعقيد، ومملوءة المخاطر والتناقضات والاضطرابات والصراعات المسلحة والحروب الاهلية المدمرة والصراعات والمتناحرات الاثنبة والمذهبية والسياسية، والمحصلة هي ان الخاسر الحقيقي الوحيد هي شعوب تلك المنطقة الملتهبة. لا شك بان الدول العظمى ودول الجوار الاقليمية تشترك مجتمعة بصنع هذه الماسي، تشترك بهذا الكم الهائل من الجرائم ضد الانسانية.
الحضور الكريم
عندما اتمعن بالإحصاءات والارقام المخيفة الصادرة من الامم المتحدة ومن منظمات حقوق الانسان وحتى من الدوائر الخاصة في البلدان نفسها، سينتابنا جميعا على الفور الكآبة والاغماء.
يعيش في العالم العربي ما يقارب ال 350 مليون انسان، والارقام والنسب الهائلة التي تعكس مدى التخلف الشديد في كافة المجالات الحيوية،
واخص بها التعليم (الامية)، والصحة والبيئة ومستوى المعيشة وعملية التنمية البشرية الفقيرة..
الخلاصة،
هناك تخلف حقيقي في الميادين الحياتية الضرورية.
هناك تفاوت كبير في مستوى المعيشة بين الدول النفطية الغنية وبقية الدول الفقيرة.
هناك استبداد قومي وديني ومذهبي.
هناك سيادة وطغيان للمفاهيم الغيبية والتطرف والشوفينية.
هناك اختفاء للهوية الوطنية وبروز، بل سيادة الهويات الفرعية الاثنية والطائفية والعشائرية.
هناك توسع سيطرة مؤسسة الفساد المالي والاداري لتشمل كل مرافق الحياة، والتي تمثل الحاضنة الحقيقية للإرهاب وداعش.
كل هذا يحدث بسبب غياب الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية التي تعتمد مبدأ المواطنة الحقة والمتساوية ومبدأ فصل الدين عن الدولة وتكافؤ الفرص واستقلالية القضاء.
بودي ان اؤكد هنا بان اوروبا بوضعها الالي قد تطورت لعوامل وإجراءات ثلاث هي،
1ـ الاصلاح الديني وفصل الدين عن الدولة.
2ـ الثورة الصناعية والعلمية والثقافية/التنويرية.
3ـ استقلالية القضاء.
فهل تم تحقيق أيا من هذه العوامل الثلاث في اي بلد عربي لحد الان- طبيعي، لا..
اننا جميعا نعيش في بلد الدحية والديمقراطية والقانون، لكن مع الاسف الشديد ما نزال نعيش كتلا وجماعات مختلفة رغم الحري التي نتمتع بها هنا، لذا اقترح ان نعمل جاهدين لتكوين لوبي حقيقي يجمع النخبة الواسعة من
جالية الدول العربية على اختلافهم العرقي والمذهبي والفكري، تجمعهم الثوابت والتي يطلق عليها الاخ الدكتور نبيل بوشناق من منظمة ابن رشد بالقيم الانسانية.
نعم هذه الثوابت هي.
1. التحلي بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق القوميات.
2ـ مناهضة العنف والتطرف
3ـاحترام مبدأ الدين لله والوطن للجميع
4ـ فصل الدين عن الدولة
5ـ مناهضة ومحاربة الفساد المالي والاداري.
6ـ التداول السلمي للسلطة.
7ـ اعتماد واحترام القيم الانسانية مثل التسامح واحترام الاختلاف والتعددية الاثنية والدينية والمذهبية والفكرية.
8ـ الدفاع عن حقوق المرأة وحقوق الطفل وكل الحقوق الواردة في الاعلان العالمي
لحقوق الانسان الصادر في 10/12/1948.
9. وضع برنامج عملي لمساعدة المهجرين قسرا وطالبي اللجوء في المانيا
الوقت انتهى، وشكرا لإصغائكم.


6, مداخلة الأستاذ عصام الياسري
اللقاء العربي التشاوري في 2 اكتوبر 2016
الثابت كما أعلن عنه سابقا بأن الاجتماع سيتداول مناقشة محورين لم يكونا حدثا طارئا لكنهما في بالغ الخطورة:
-   الاوضاع في العالم العربي وكيفية ايجاد السبيل لمعالجتها.
-   الهجرة وأزمة اللاجئين.
سأختصر رأيي بالمفيد على ضوء ما جاءت به مداخلة الاساتذة اعضاء إدارة الجلسة، وآمل ان تتجه مداخلات السادة خلال هذا اللقاء الذي تأمل منه الخروج بآراء تفتح أمامنا آفاقا مستقبلية نحو تقريب وجهات النظر حول العديد من القضايا الخطيرة التي تواجه مجتمعاتنا في العالم العربي. وكنت اتصور أن يأخذ الحوار طريقه لشرح الظروف والملابسات، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي احاطت وتسببت في تفاقم الظاهرتين. وأقول كنت أتمنى أيضا أن لا يكون المدخل لهاذين المحورين كما جرت عليه العادة، ممارسة اسلوب التنظير، الذي سئمنا منه ولم يجد نفعاً. ويؤسفني القول إنني لم المس في المداخلتين أي إثارة تقربنا من واقع الاحداث وأسبابها لنبحث موضوعياً في كيفية الاستفادة بجدية من مراجعة اختلافاتنا حول العديد من المسائل باختلاف انتماءاتنا الثقافية والسياسية والفكرية والمجتمعية لنستطيع تقريب وجهات نظرنا إلى بعضنا. وبالتالي ملامسة الحلول والمعالجات الناجعة التي تُيسر على الصعيد الوطني الاصلاح والتغيير.. المداخلة الاولى التي قدمها الاستاذ يعقوب، على قدر أهميتها، انما لم تأت بجديد من هذا القبيل. فالمسألة في بعدها السياسي تدور حول اوضاع العالم العربي وليست بحاجة إلى تنظير لازمنا دون جدوى منذ سبعة عقود ولم يقدم واقعا إضافيا يُغيّر من المعادلة إيجابياً.   

أنا لا يعنيني من الناحية "الموضوعية" التنظير إنما ما يهمني كأي مواطن في عالمنا العربي، يعز عليه وطنه ومستقبل أبنائه حاله حال باقي الأمم، تناول أوضاعنا واقعيا بعيدا عن التنظير الآيدولوجي. وأرى بأن لا مجال للسكوت عن الأخطاء وعلينا أن نشخص الحالات ونكشف المستور الذي أوصلنا إلى كل هذا الوضع الخطير.. ان ما يلحق العالم العربي من أذى لا تستطيع ما يسمى بالأحزاب الوطنية واليسارية والنقابات والنخب الفكرية والسياسية وطبقة المثقفين أن تتنصل عن جزء من أسبابه، فهي قد لعبت في ظروف عدة دورا غير مستحسن.. حسبي ان لا يكون لقاءنا شبيها باجتماع مجلس النواب العراقي، يتحدثون عن الديمقراطية والحقوق العامة والعدالة الاجتماعية، ويستأثرون بالسلطة وممتلكات الدولة وثرواتها.. آمل أن يسير الحوار والمناقشات الاخرى للسادة الكرام في اتجاه صحيح، كما أقترح تكرار عقد مثل هذا اللقاء وتقديم محور واحد خلاله لاستخلاص قيمه الفكرية والعملية. 

وفيما يتعلق بمداخلة الاستاذ فضل الله حول مسألة اللاجئين، وإن كانت شاعرية تسفر في التاريخ والمصطلح، لكنها لم تعالج ما هو مهم في وضع اللاجئين وهمومهم من الناحية القانونية والمجتمعية والنفسية لنبحث عن كيفية تقديم العون وتحمل قسطا من المسؤولية، كما لم نلمس ذكر الاسباب الحقيقية "السياسية والامنية والاقتصادية" التي جعلتهم لان لتركوا أوطانهم ويواجهوا الموت خلال الرحلة نحو المجهول.

أشير للتنوير الى بعض المعاناة:
-   الاضرار القانونية التي يتحملوها جراء افتقار المترجمين الى المهنية اللغوية ومعرفة القوانين الخاصة بقضايا اللجوء والمعاش والسكن، واغلب هؤلاء المترجمين لا يتقنون اللغة الالمانية وأقول حتى العربية أحيانا.
-   الوضع النفسي بسبب انتظار اجراءات البت وتقاعس المحامين في متابعة قضاياهم في الوقت الذي يطالبون موكليهم بأجور عالية دون وجه حق.
-   افتقار اللاجئ الى سكن يليق بالقيّم الانسانية والمجتمعية وغالبا ما يقيم اكثر من خمسة اشخاص في غرفة واحدة تفتقر لكل وسائل الراحة والسلامة.
-   الإيجارات الوهمية واتساع ظاهرة الرشوة وارتفاع معدلها حد خمسة آلاف يورو للحصول على مكان سكن.
-   بالنسبة للعديد من اللاجئين العراقيين، يواجهون صعوبات لمزاولة الدراسة او الحصول على العمل باختصاصاتهم لفقدانهم الوثائق والشهادات ورفض الجهات الرسمية العراقية تزويدهم أو متابعة السفارات لحل قضاياهم.
-   الاندماج وازدواجية المعايير وعدم احترام قواعد حقوق الانسان.

السؤال ما هو دور منظمات المجتمع المدني وابناء الجالية العربية لمساعدة هؤلاء القادمين الجدد ، وما هي أوجه العون التي نستطيع أن نقدمها؟؟

وشكرا جزيلا
 



397
اللقاء التشاوري لمجموعة من مواطنات ومواطني الدول العربية ببرلين (الحلقة الثانية)

مداخلات السادة الدكتور نبيل بوشناق (فلسطين)، والدكتور صادق أطيمش (العراق)، والدكتور طارق الزعين (سوريا)

1)   مداخلة السيد الدكتور نبيل بوشناق
تقديم د. نبيل بشناق
برلين 2 أكتوبر 2016
أفكار مقتبسة من محاضرة لأستاذ الفلسفة التونسي د. عادل متيميت
إن التغيير الذي حصل في فكر الإنسان وتطور الفكر الإنساني الحديث هو ما يفسر لنا الفرق الكبير بما نجن عليه في العالم العربي من تشتت وجهل وفساد واستغلال للإنسان والدين:

1-   ثورة علمية أدّت إلى قلب صورة الكون في ثقافة الفكر الغربي الحديث منذ القرن السابع عشر ميلادي وكانت النتيجة هي ما يمكن وصفه بقرار "استقلالية الكون المادي عن كل سببية خارجية مع الأثر الديني والاخلاقي والسياسي العميق لهذه الثورة. أذكر هنا اكتشافات جاليليو المذهلة.
2-   تلك الثورة العلمية فصلت المتحرَّك عن المحرّك وجسّمت فكرة استقلالية الكائن من خلال إثبات استقلالية الكون وهكذا أصبح الإنسان هو من يشرح ظواهر الطبيعة دون الرجوع إلى نظرية المحرك الاول حسب أفلاطون وجميع الشرائع الدينية.
3-   ونتيجة للثورة العلمية نشأت الثورة الفلسفية والمتمثلة في تحرير العقل من سلطة الاحكام المسبقة وكان لفلسفة ديكارت "منهج الشك" الشهير الاثر البالغ في تبيان قدرة العقل البشري على إدراك الحقائق الاساسية دونما حاجة إلى سلطة معرفية متعالية.
4-   في القرن السادس عشر مرت لحظة تاريخية هي حركة الإصلاح اللوثرية وهي لحظة تحرير الإيمان الديني من دور رقيب السلطة الدينية فأصبح المؤمن قادراً على قراءة وتأويل النص مكّن الفرد من حرية المعتقد لأول مرة.
5-   لحظة التنوير للفيلسوف الالماني كانت في القرن الثامن عشر الذي تكلم عن الإنسان الناضج الواعي الذي تحرر من سلطة الغير وبدا يفكر بنفسه مستقلاً عن فكر الغير وهذا هو شرط الرقي والحرية حسب كانت.
لا يوجد لدينا وصفة سحرية لتغيير العالم العربي والتخلص من أمراضه الكثيرة. لكن علينا التمسك ببعض المبادئ والقيم الإنسانية الراقية ونشرها والدفاع عنها مثل مبادئ: الحرية والمساواة والعدل الاجتماعي ومبدأ المواطنة للجميع دون تمييز في اللون او العقيدة او الآراء السياسية المعتمدة على مبدأ السلم والحرية.
هذه المبادئ كلنا نحلم بتحقيقها .... لكنها لا تتحقق. ربما نحن بحاجة إلى صحوة فكرية وإنسانية أرى من واجب المفكرين والمثقفين العمل على نشر المبادئ المذكورة أعلاه للعمل على ولادة وعي جديد بالإنسان وبمعنى المواطنة. ومن عوائق التطور في العالم العربي خلال القرن الأخير كان التوجه نحو سيادة أيديلوجية واحدة سوء كانت دينية او قومية أو اشتراكية لميلها نحو إلغاء الفكر الآخر واعتباره خطراً وعدواً مما سبب عداوات كثيرة لأسباب تعدد الفكر. هذا هو برأيي الفكر التنويري الذي ينشر تلك المبادئ والإصرار دائماً على أهمية موقع الإنسان /المواطن ليكون في وسط اهتمام الدولة والمجتمع وإعلاء قيم الحرية والديمقراطية والعقلانية وفكر فصل الدين عن الدولة. وشكراً
نبيل بوشناق   



2)   مداخلة السيد الدكتور صادق أطيمش
اللقاء التشاوري في برلين في 02.10.2016

احيكم ايها الأحبة أجمل التحيات راجياً لهذا اللقاء المتميز النجاح التام بالوصول إلى كل ما من شأنه المساعدة على انقاذ الإنسان في بلداننا المغلوبة على امرها بالنهوض نحو المستقبل الذي يليق به.
الموضوع الذي تعالجونه يأخذ اهمية قصوى في هذه المرحلة البائسة التي تمر بها شعوبنا المُستباحة. والحقبة التاريخية التي تشكل سماتها الأساسية بعض المؤشرات الهامة والواضحة لابد من معالجتها على النحو الذي يتناول هذه السمات والتي ارغب بتلخيصها امامكم بالنقاط التالية، آملاً ان تحظى برضاكم لمناقشة مفرداتها بشكل مفصل بغية استنتاج العبر والحلول في آن واحد. إن اهم مميزات المرحلة التي تمر بها منطقتنا تتلخص بما يلي:
1.   ضمور الحركة القومية التي شكلت بعض مفاصلها دفعاً لحركة التحرر الوطني والقومي في المراحل السابقة من تاريخ منطقتنا العربية بشكل خاص.
2.   ضمور الحركة اليسارية التي تواصلت مع حركات التحرر العالمي واستطاعت تبني عناصر التجديد في النضال الوطني والقومي والتضامن الأممي.
3.   الفراغ الفكري الذي تسبب بغياب حركات التحرر الوطني ادى إلى صعود موجة الإسلام السياسي التي تبنت الفكر الديني المتزمت في كثير من الأحيان، ذلك الفكر الذي لا يهتم بالهوية الوطنية قدر اهتمامه بهوية الأمة الإسلامية، مستفيداً من العلاقة العاطفية، وليس الإيمانية، بين الإنسان في بلداننا وبين الدين.
4.   من خلال هذه العلاقة استطاع الإسلام السياسي نشر افكار التخلف والظلامية التي قادت إلى الجهل والارتداد عن التواصل العلمي والتركيز على الجانب العبادي والغيبي.
5.   محاولات الإسلام السياسي استغلال الجهل العام وصعود التوجه الديني، التوجه للدولة الدينية بصورها المختلفة الظاهرة والمستترة، شجع بعض الدول العربية كالسعودية وقطر وسوريا قبل ان ينال شعبها الإرهاب، والإقليمية كتركيا وايران للتمهيد له ومساندته حيث وظفت منظماته الإرهابية لركوب موجة الانتفاضات الجماهيرية التي جعلت منها، بعدئذ، حروباً اهلية كما في سوريا او مذهبية كما في مصر والسودان، او طائفية عشائرية كما في ليبيا واليمن بغية المحافظة على الكيانات الحكومية القائمة وعدم تعرضها لما آلت اليه الأنظمة الحاكمة  في مصر وتونس وليبيا.
6.   اما ما يتعلق بوطننا العراق فإن صعود موجة الإسلام السياسي بعد سقوط البعثفاشية المقيتة فقد مهد لها الاحتلال الأمريكي لوطننا، حيث اثبتت كل وقائع التاريخ بأن هذا التوجه الديني الساعي لتسييس الدين ما هو إلا وسيلة من وسائل الإمبريالية العالمية لقهر الشعوب وذلك منذ تأسيسه في مصر على يد حسن البنا عام 1928 كداع لدولة الخلافة او السلطنة العثمانية الساقطة ولحد الآن. فالإسلام السياسي في العراق الذي انتجت حاضناته الفكرية ومؤسساته الاجتماعية والدينية لحكومات واحزاب طائفية متعاقبة منذ سقوط دكتاتورية البعث ولحد الآن، مارست فيها كل موبقات الطائفية والمحاصصة واللصوصية، مستغلة تراجع الفكر الديمقراطي بسبب السياسة القمعية لدكتاتورية البعث، إضافة إلى شيوع الجهل والمعرفة لدى اوساط واسعة من الشعب العراقي، والتعلق الفطري وليس الإيماني لهذه الأوساط بالتوجه الديني، إضافة إلى سوء حالتها الاقتصادية التي ظلت تناجي الغيب اكثر مما تعالج الواقع المرير الذي تعيش فيه، هذا الإسلام السياسي هو الجرثومة الكبرى التي انتجت كل الويلات التي يعاني منها شعبنا اليوم والتي ينبغي مكافحتها في كل المجتمعات التي يعشعش بها والتي سيقودها نحو الهاوية التي يتعرض لها وطننا العراق اليوم وكل البلدان الأخرى التي حل بها هذا الوباء الخطير، ما لم يُعالَج هذا الوباء بكل جدية وإصرار.

هذا بشكل عام ومقتضب تشخيصي لما تمر به منطقتنا العربية بصورة عامة، ووطننا العراق بشكل خاص. فما هو الحل إذن وكيف يمكننا، كقوى تؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية، التعامل مع هذا الواقع؟

1.   مواجهة الإسلام السياسي وكل ما يجره على اوطاننا من مآس وويلات مواجهة فكرية، غير عنفية، بالدرجة الأولى، وذلك لأننا نملك من الثراء الثقافي والقدرات الفكرية التي نستطيع بها ومن خلالها مواجهة الفكر الظلامي المتخلف لكل قوى الإسلام السياسي وتياراته.
2.   هذه المواجهة الفكرية تحتم علينا مراجعة ودراسة وتحليل فكر الإسلام السياسي دراسة تؤهلنا لاكتساب منظومة معرفية نقارع بها حجج الإسلام السياسي بنفس تلك المنظومة المعرفية التي يتبناها. هذا النوع من الحركات السيادينية (السياسية ـ الدينية) لا يأبه ولا يعترف بالمنطق العلمي الحديث والنظريات الفلسفية والتوجهات الفكرية الإنسانية. إنه يتحرك ضمن اسيجته المغلقة التي يحاول تضييقها على المجتمعات التي يتواجد فيها. لذلك فإن من واجبنا كسر هذه الأسيجة بنفس الوسائل التي بناها بها الإسلام السياسي، اي بالثقافة الدينية الموَجَهة. وبعكسه فإننا سوف لن نستطع إقناع عامة الناس بما نريد تحقيقه لهم، دون ان نتناول مع هؤلاء الناس نفس الحجج والبراهين التي ملأ الإسلام السياسي ادمغتهم بها، عاملين على تقديم البدائل عنها. وهذا الهدف لا يمكن الوصول إليه دون الولوج في أظلم دهاليز فكر الإسلام السياسي. ويمكن في هذا المجال التركيز على بعض المفاهيم الذي تبناها الإسلام السياسي محاولاً تعميقها بين الجماهير كثوابت لمستقبل اوطاننا:
أ: مفهوم الدولة المدنية الذي تلاعب به فكر الإسلام السياسي وقدمه كتعريف لغوي أكثر مما هو ذو مضمون علمي فلسفي في آن واحد. لقد تم التجاوز على هذا المفهوم باعتبار ان الدولة المدنية تعني الدولة التي لا يحكمها العسكر. وعلى هذا الأساس فإن دول المنطقة هي دول مدنية. إن من واجبنا، كقوى مدنية ديمقراطية، فضح هذا المفهوم للدولة المدنية ووضعه امام الجماهير بمضمونه العلمي الصحيح وبصيغة مفهومة ومقبولة لدى ابسط الجماهير.
ب: يتوجه الإسلام السياسي بكل قواه لخلق عدو إلحادي جديد، بعدما فشل مشروعه الإلحادي مع الشيوعية، وذلك من خلال جعل العَلمانية كتوجه يتعارض مع الدين، ساعياً إلى تبني أكثر الأوصاف بدائية لتركيز مفهوم التناقض بين الدين والعلمانية. وهذا ما يجب ان نتصدى له من خلال التنوير بمفهوم الدولة العلمانية التي تشكل الضمانة المثلى لكل دين والحرية الدينية المضمونة لإتباع الديانات المختلفة. ولا ينبغي لنا التراجع عن المقارنة بين الدولة الدينية، او التي تدعي التدين، واهتمامها بالدين الذي تتبناه فقط، مع محاربتها او إهمالها على الأقل للأديان الأخرى، مثال السعودية، اسرائيل، إيران وغيرها، والدولة العلمانية التي تشكل الضمانات الأكيدة لتواجد كل الأديان دون تمييز او تفريق ضمن القوانين التي تتبناها هذه الدولة.
ج: المفهوم السائد لدى الإسلام السياسي حول الديمقراطية جعل منه ركيزة يستند عليها في محاولاته لإقناع البسطاء من الناس على ان الديمقراطية تعني حكم الأغلبية الانتخابية، هذه الأغلبية التي يشتريها الإسلام السياسي مستغلاً الضيق الاقتصادي والفقر الفكري لدى عامة الناس في الدول التي يتواجد فيها بنشاط. إن نضالنا في هذا المجال ينبغي ان يتجه نحو إرساء القناعة بالإنسان كفرد وبكل ما تضمنته المواثيق الدولية ووثائق حقوق الإنسان حول حقوق الفرد الواحد وواجباته في وطنه وعدم التفريط بهذه الحقوق والواجبات بمجرد توفر اغلبية عددية. إن سعينا لأنسنة الديمقراطية يجب ان يسير بشكل موازي لجعل مفهوم الأكثرية العددية مفهوماً انسانياً بالدرجة الأولى وليس سياسياً فقط. وفي هذا المجال لابد لنا ايضاً من التصدي لمفهوم الشورى الذي يضعه مفكرو الإسلام السياسي كبديل للديمقراطية، والعمل على التأكيد على الاختلاف الجذري بين مضموني الشورى والديمقراطية.
د: الأوضاع المزرية التي تعيشها شعوبنا على كافة مستويات حياتها اليومية تحتم علينا العمل على تطوير برامج سياسية واقتصادية وتعليمية وثقافية واجتماعية وصحية وفي كل مجالات الخدمات والاحتياجات الحياتية الإنسانية اليومية، هدفها النهوض بهذه المجتمعات نحو حياة تليق بإنسان القرن الحادية والعشرين. لذلك فإن الاهتمام بهذه المفاصل سيكون الأساس العملي لعلاقتنا مع الجماهير التي لابد لنا من التواصل معها وضخ بعض الأمل في اوساطها من خلال التعليم والتنوير.
3.   ما يساعدنا على هذه المواجهة الفكرية هو ذلك الجو العام الذي تبلور على الشارع في العراق وفي مصر وتونس على وجه الخصوص والذي يشير إلى الصراع بين قوى الإسلام السياسي نفسها وتكالبها على المحاصصة واللصوصية، إضافة إلى رفض الجماهير للإسلام السياسي والأحزاب الذي تمثله وتتبنى شعاراته. لقد تجاوز هذا الرفض الشعبي حدود الرفض السري بالهمس فقط إلى الرفض العلني الصارخ بشعارات ومظاهرات صاخبة تندد برموز الإسلام السياسي وبكل ما نتج عن سياساته التي مارسها في الحكم او خارج الحكم. فلابد لنا من التوغل بين هذه الجماهير وتشديد العزلة بينها وبين الإسلام السياسي وتقديم البدائل الأخرى في كل المجالات التي يعيشها الإنسان يومياً في اوطاننا.
4.   وما ينبغي التأكيد عليه ايضاً في توجهاتنا نحو التغيير المفضي إلى اصلاح ما افسدته الأنظمة السابقة وتعمير ما خربته سياساتها العبثية هو تقديم البدائل الانتخابية والخطط الاقتصادية والبرامج التعليمية والعناية الصحية والارتفاع بمستوى الخدمات لما فيه تحقيق حياة انسانية حديثة. وسوف لن نتمكن من تحقيق ذلك دون العمل وفق نظام سياسي فدرالي ديمقراطي. وهنا ايضاً ينبغي لنا مواجهة فكر الإسلام السياسي بكل ما يتناوله حول الفدرالية واهميتها في تحقيق نظام ديمقراطي لا مركزي ينهي التمحورات العشائرية والصراعات الطائفية والمناطقية والقومية ويؤكد على التعايش السلمي في المجتمع.
5.   وقد يكون من الأهمية تناول الأوضاع الخاصة في كل من سوريا والعراق بالنسبة للقومية الكردية التي عانت من اضطهاد وقمع الحكومات في كلا البلدين، وضرورة التأكيد على الحق الطبيعي للحكم الذاتي وتحقيق المصير، إضافة إلى الوقوف بوجه مختلف الأفكار والحركات الشوفينية التي تغذي العداء القومي وترفض التعايش السلمي بين الشعوب.

هذه، باختصار، بعض النقاط التي ارى ضرورة التطرق اليها في هذا اللقاء الذي ارجو له كل النجاح وللعاملين على تفعيله ومتابعة اعماله سداد الخطى وتحقيق الآمال.
ودمتم للإنسانية واهدافها النبيلة
صادق إطيمش

3) مداخلة السيد الدكتور طارق الزعين
مسودة اقتراحات تقدم الى اجتماع برلين التشاوري في الثاني من اكتوبر 2016

1.   اي اجتماع لنخب عربية وان اختلفت منطلقاتها فهو مفيد، إذا توفرت فيه ارادة الحوار الوطني التقدمي الشفاف.
2.   على الحركات الوطنية، يسارية او قومية الانتماء ان تتجاوز ما مر من صراعات بينها، والبدء بعمل هادف يصب في خدمة ابناء العالم العربي، أيا كانت دياناتهم او اثنياتهم على اساس الاخلاص للوطن، والمواطنة واحترام حقوق الانسان
3.   على اي طرف سياسي ان يحترم هوية الوطن العربي، كأي وطن يحتضن مئات الاثنيات والديانات، لكن هويتها محترمة مثل الهند، الصين، اندونيسيا، كندا ودول اوربية الخ...
4.   الابتعاد عن اساليب التعامل على اسس ايديولوجية بالية، يسارية او قومية منغلقة
5.   الحديث عن تنظيم القاعدة بما فيها داعش واخواتها، يجب ربطه بوضوح بدول العدوان وخاصة امريكا، وشجب تدخله في شؤون الاقطار العربية والاسلامية وغيرها.
6.   وبنفس الوقت تدان جميع اشكال الميليشيات في كل الاقطار العربية مهما كانت مسمياتها.
7.   لقد جاء في مشروع النقاش: تعيش شعوب الشرق الاوسط الخ... يفضل ان تبدل بشعوب العالم العربي لتجنب التطرق الى دول اخرى مثلا إيران أو تركيا او حتى الكيان الصهيوني.
8.   تغيير الخطاب السياسي المألوف وتجديد المفاهيم والتسميات السابقة التي تفرقنا ولتجمعنا: مثلا يفضل ان نطلق عبارة الدول ذات الحكم العشائري الاستبدادي على السعودية ودول الخليج، او ذات الحكم الطائفي المتخلف على إيران والعراق، او ذات الحكم الشعوبي المستبد على تركيا، او ذات الحكم العنصري العدواني على اسرائيل، وكذلك الانظمة الامبريالية على الولايات المتحدة الامريكية، روسيا، الصين وبعض الدول الاوربية. واخيرا تسمية الحركات الدينية العدوانية المتطرفة على تنظيم القاعدة بما فيها داعش واخواتها
9.   الغاء   تسمية القوى الطائفية والاثنية والقومية والشعوبية والاقليمية بأسمائها في كل انحاء البلاد، واعتماد شعار سواسية المواطنة بين جميع المواطنين الذين يقطنون في العالم العربي.
10. العودة الى جذور ومسببات التخلف ومقومات التقدم الحضارية وبناء البنية التحتية، وبالتالي اعادة النظر في:
النظام التعليمي والتربوي والثقافي
النظام القضائي والعدلي
النظام الصحي
النظام الاقتصادي بما فيه الصناعي والمعدني والزراعي والحيواني
النظام الامني والدفاعي
ضمان حقوق المراة
دعم دور الشباب وخاصة الجيل الثاني والثالث خارج الوطن
  مناقشة واقع ومهمات القوى الوطنية واليسارية في الدول العربية والسعي نحو تقاربها ووحدتها في المستقبل
د. طارق الزعين


398
اللقاء التشاوري لمجموعة من مواطنات ومواطني الدول العربية ببرلين (الحلقة الأولى)
بدعوة من الأخوة الدكتور حامد فضل الله والأستاذ نبيل يعقوب والدكتور كاظم حبيب وجهت إلى أخوات وأخوة من مواطنات ومواطني الدول العربية. وجاء في الدعوة ما يلي:
لقاء تشاوري للتداول حول اوضاع العالم العربي والمخرج من الصراعات الدموية ومن الازمة
السياسية الثقافية والاقتصادية الاجتماعية
الأخوات والأخوة الأعزاء
تحية طيبة
تعيش شعوب منطقة الشرق الأوسط فوضى عارمة ومدمرة لحياة سكانها واقتصادها ومجتمعاتها، وتنهش العديد منها حروب أهلية ونزاعات عسكرية مدمرة قابلة للاتساع السريع. وقد كلفت هذه الأوضاع مئات ألوف القتلى وأكثر منها من الجرحى والمعوقين والمفقودين والمغيبين قسرا، إضافة إلى ما يقرب من عشرة ملايين من النازحين في داخل هذه البلدان والمهجرين قسرا الى بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا وغيرها. كما تعيش الدول العربية تحت وطأة نظم سياسية استبدادية وغير ديمقراطية وإرهاب حكومي وغير حكومي وفساد سائد، إضافة على اتساع قاعدة الذين يعيشون تحت خط الفقر الدولي، وفي الوقت ذاته يزداد غنى الأثرياء والفاسدين وتتعطل عملية التنمية الاقتصادية والبشرية ويزداد عدد العاطلين عن العمل والكفاءات الهاربة من هذه البلدان..
لقد قدم إلى أوروبا، ومنها ألمانيا، عدد كبير من اللاجئين من منطقة النزاعات الساخنة في الشرق الأوسط، وخاصة من سوريا والعراق، وهم يواجهون مصاعب جمة في القبول، وتنامي الاتجاهات اليمينية المتطرفة بألمانيا مثل حركة Pegida ، و AfD ، والاعتداءات المتزايدة على مناطق سكن اللاجئين، إضافة إلى نفوذ بعض الإرهابيين من أتباع داعش وممارسة العمليات الإرهابية بألمانيا مثلاً، مما يستدعي مناقشة الموضوع ورؤية ما يمكن ممارسته في هذا الصدد.   
نحن المقيمين في ألمانيا نشعر بالحاجة الماسة إلى التداول والحوار في ما بيننا لفهم ما يجري في المنطقة من تناقضات وصراعات ونزاعات دموية والعوامل الكامنة وراءها والمحرك لها والعواقب الوخيمة لاستمرارها على حياة ومعيشة شعوب المنطقة ومستقبل الأجيال القادمة. لهذا نقترح عقد لقاء يجمع نحو 25 الى 30 شخصا للتداول في هذا المسألة. ونرى انتفاء الحاجة لتقديم ورقة عمل للنقاش، بل يمكن لكل زميل من المشاركين تقديم مطالعة لا تتجاوز ألـ 8 دقائق. بعد الانتهاء من هذه الفقرة يبدأ الحوار والنقاش لمدة ساعتين تقريباً بهدف بلورة الآراء الوصول الى تصورات مشتركة أو متقاربة، يمكن بعدها توحيد الرؤية من خلال تكليف شخصين او ثلاثة لصياغة موقف مشترك يتفق عليه المشاركون في النقاش لنشره في الصحف والمواقع العربية وترجمة النص الى اللغتين الالمانية والإنجليزية، وربما الفرنسية لنشر النص على نطاق واسع. ينتخب الحضور هيئة ثلاثية لإدارة الاجتماع. نقترح ان يكون اللقاء ليوم واحد فقط هو يوم الأحد المصادف 2/10/2016 وعلى الساعة العاشرة صباحا حتى الساعة السادسة مساءً في بناية نويس دويتشلاند أوست بأنهوف- برلين.
نرجو أعلامنا في حالة الموافقة أو عدمها على الحضور
مع خالص التقدير
 كاظم حبيب     حامد فضل الله     نبيل يعقوب   
وقد وجهت الدعوة إلى 65 مواطنة ومواطنة يقطنون ألمانيا تسنى لـ 29 منهم المشاركة في هذا اللقاء التشاوري. ننتظر المحضر لنشر مطالعات الأخوات والأخوة الذين شاركوا في هذا اللقاء. قررنا ننشر المطالعات على وفق ما يصلنا من الأخوة والأخوات لأهمية أن يطلع من يمكنه الاطلاع على ما جرى في هذا اللقاء، علماً بأن اللقاء كان منوعاً من حيث الفكر والسياسة ومن حيث الدول العربية والقوميات، مع حقيقة قلة من حضر اللقاء من الدول العربية. وكان الحضور من العراق والسودان ومصر وسوريا وفلسطين. أدار اللقاء الدكتور كاظم حبيب ولخص في نهاية اللقاء التشاوري ما اتفق عليه الأخوات والأخوة الحاضرون من نقاط للعمل للقاءات القادمة:
1.   تميز اللقاء والنقاش بالطرح الموضوعي عموما والاستعداد للأصغاء للرأي والرأي الآخر والاحترام المتبادل للآراء.
2.   الطلب من الإخوة الثلاث الاستمرار في إدارة هذا العمل واقتراح المواضع والدعوات للنقاش.
3.   عقد لقاء دوري مماثل مرة واحدة بين كل 4-6 شهور كحد أدنى وأقصى.
4.   اختيار محور محدد يتفق عليه الجميع ليكون اساساً للمناقشة.
5.   السعي للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المهتمين بقضايا الدول العربية في المرحلة الراهنة من جميع الدول العربية ومن مواطنيها من القوميات العديدة.
6.   الرجاء من الحضور توفير أسما وعناوين من يمكنهم تأمين إرسال الدعوات القادمة لهم.
7.   الاهتمام الجدي والمكثف بالكتابة والنشر باللغة الألمانية لإيصال وجهات نظرنا إلى الشعب الألماني حول القضايا الملتهبة في المنطقة.
8.   الحرص على نشر كل الأفكار التي تطرح في اللقاءات بتنوعها الفكري والسياسي. ولقد عبر اللقاء عن وجود مشتركات كثيرة بين المشاركين في تنوعهم الفكري والسياسي، مع وجود وجهات نظر متباينة يمكن للقاءات القادمة أن تقرب بينها، أو أن تتوضح الآراء والمواقف والأسباب الداعية لها، وهي مفيدة في كل الأحوال.
واليوم ننشر مطالعة السيد الدكتور حامد فضل الله، من السودان، حول الهجرة واللاجئين إلى ألمانيا ومطالعته كانت تحت عنوان "الخوف من الآخرين".   
الخوف من الأخرين
د. حامد فضل الله \ برلين
أزمة اللجوء وتبعاتها ليست جديدة في العالم، حيث عرف القرن العشرين أزمات لاجئين متعددة مع اشتعال الحروب والصراعات المسلحة، ابان الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو حرب التسعينيات العرقية في أوروبا وإفريقيا. أن تصاعد أزمة اللاجئين الفارين من مناطق الصراعات المسلحة في المنطقة العربية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، تضاف الى سلسلة الاختبارات الكاشفة لمعضلات الدولة القومية، والنظامين الإقليمي والدولي في مرحلة ما بعد الثورات العربية. إذ فرض تدفق ملايين اللاجئين، خاصة من سوريا إلى الجوار الإقليمي، أو الدول الغربية، ضغوطا داخلية وخارجية على الدول المضيفة التي واجهت معادلة صعبة بين الالتزام بالحقوق الانسانية للاجئين، وفقا للاتفاقيات والمواثيق الدولية، وممارسة سياسات تحد من تأثير تدفقاتهم في أمنها وسيادتها.
لن أتعرض هنا الى ازمة اللجوء التي تواجه الدولة القومية أو دول الجوار الاقليمي أو العالم، وانما فقط الى أوروبا وخاصة المانيا. كما لا أتعرض في هذه المداخلة المكثفة الى اشكالية المفاهيم أو التوصيف.. لاجئ أم مهاجر وما يقع بينهما من خلط واستخدامه ايضا سياسيا، بالرغم من تعريف اتفاقية جنيف للاجئين في عام 1951، فاللاجئ من يفر بسبب التعرض للاضطهاد أو بسبب العرق أو الدين أو رأى سياسي، وهذا ما يتداخل مع صفة المهاجر الذي يفر من بلاده، ولكن لدوافع اقتصادية تتعلق بالفقر. 
لا تزال تسيطر ازمة اللاجئين بعد عامِ واحدِ من بدايتها، على العناوين الرئيسة في المانيا وأوروبا. لقد كانت سياسة الباب المفتوح وثقافة الترحيب والمقولة الشهيرة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل " نحن قادرون " والاستقبال الحار وتطوع عشرات الآلاف من الألمان لمساعدة اللاجئين دون مقابل، لفتة انسانية رائعة. والآن انعكست الصورة تماماً بعد الاستثمار الشرس لأحزاب اليمين المتطرف في القضية وربطها بقضايا التهديد الأمني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مستخدمة صحافة الاِثارة ومع مسايرة بعض الأحزاب السياسية لهذا الاتجاه، والتي لم تقدم حتى الآن مقترحات أو حلول جادة، ما عدا المطالبة بإغلاق الحدود، خوفا من الخسارة في الانتخابات، كما حدث مؤخرا في نتائج انتخابات بعض الولايات. وكذلك الخلافات العميقة بين دول الاتحاد الأوروبي حول التعامل مع أزمة اللاجئين، مما ادى الى تغيير بعض قوانين اللجوء لتتحول من الترحيب الى الترحيل.
لعلنا نلقي أولا نظرة سريعة الى بعض الاحصائيات:
يحتاج 5، 13 مليون سوري ــ حسب تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 2016 ــ الى مساعدات إنسانية، 7 مليون منهم يعيشون في داخل سوريا كمشردين و5 مليون كلاجئين خارج سوريا. ان " الازمة "التي يقال انها نتجت من خلال اللاجئين في السنوات الأخيرة في اوروبا، لا يمكن اثباتها، إذا قارنا نسبة متوسط نصيب شعوب الاتحاد الأوروبي، اقل من 26 ،0 في المئة. مقارنة مع لبنان تبلغ 25 في المئة، أو افريقيا أكثر من 30 في المئة وفي آسيا تفوق 40 في المئة. وعندما يدقق المرء في عدد الهاربين منذ عام 2015 ولم يتم حتى الآن ترحيلهم، نجد بالمقارنة، بأن أغنى قارة في العالم استقبلت 5 في المئة فقط من المهاجرين التائهين حول العالم، مقارنة بـ 86 في المئة وجدوا الحماية في دول العالم الثالث. وبالنظر الى هذه النسبة الضئيلة من الوافدين، يثار السؤال، لماذا كل هذه الضجة والخوف والذعر من اللاجئين مثلا في المانيا؟ لقد تعامت المانيا لفترة طويلة عن قضية المهاجرين والاندماج بحجة ان المانيا ليست بلداً للاجئين، حتى تفاقمت وتعقدت المشاكل، إضافة الى أزمة اللاجئين الجدد
أن الاندماج ليس طريقا في اتجاه واحد وانما يعني تحرك الناس من ثقافات مختلفة نحو بعضهم البعض والتحاور على قدم المساواة في الحياة اليومية عن التوقعات المشتركة والاحتياجات المختلفة. إن الاندماج وتطور الكفاءة بين الثقافات يستوجب اللقاء الشخصي والتجاور في السكن، مما يودي الى تجاوز التفرقة والتمييز والمجتمع الموازي.
ان جل اللاجئين من سوريا والعراق وافغانستان في سن الشباب، وهي أكبر ثروة اخفقت اوطانهم في توفير رؤية وآفاق ملموسة لمستقبلهم، فتستطيع المانيا بجانب توفير الحماية لهم ان تقوم بتأهيلهم عن طريق تعليم اللغة الالمانية والاعداد المهني، وتدفع بهم الى سوق العمل بدلا من الاعتماد على المساعدات الاجتماعية وبذلك يصبحون اعضاء فاعلين في المجتمع، لهم حقوقهم وواجباتهم، منها احترام قوانين وقيم وتقاليد البلد واثبات ان تقاليدهم وثقافتهم قادرة على التعايش والتفاعل مع المجتمع المضيف دون الذوبان فيه. ان اهمال قضية الشباب، تدفعهم الى الاحباط واليأس وفقدان الأمل، فالشباب بسبب قلة معرفتهم وقلة خبرتهم، ربما يقعون فريسة سهلة في ايدي المتطرفين. ولعل التجربة الفرنسية خير دليل على ذلك.
لقد فقدت الشبيبة الفرنسية من الأصول المهاجرة بسبب الظروف العائلية غير المستقرة ومن خلال الفشل في المدرسة والمهنة، أي سند. واصبحت غير قابلة للاندماج ومنحرفة اجتماعياً. كما يجب في الوقت عينه عدم انكار مخاوف المواطنين من قضايا الأمن والتطرف الديني والخوف من الهجمات الإرهابية والخوف من المستقبل والعطالة وفقدان الهُوية الوطنية. ويجب ان تُؤخذ مخاوفهم باهتمام وجدية، سواء كانت كلها مبررة ام لا ومهما تم تضخيمها من اليمين المتطرف. وإذا كانت الحكومة الالمانية تعول على ادماج طالبي اللجوء في سوق العمل على مشاركة أقوى من الأوساط الاقتصادية، فيجب عليها ايضا الانتباه بان لا يستغل ارباب العمل العمالة المدربة وغير المدربة للاجئين لضغط الأجور، مما يخلق فتنة وكراهية بينهم وبين المواطنين، الذين يخشون ايضا من ارتفاع معدل البطالة بينهم. وهنا تقع ايضا مسؤولية القوي السياسية الواعية ومنظمات المجتمع المدني، بالشرح والحوار مع المواطنين، فالقضايا اصبحت متشابكة ويعجز التفسير العاجل او النظرة المتسرعة الاِحاطة بها كلها. وكذلك التوضيح بان دعم اللاجئين لن يشكل تهديداً أو تقليصاً على مكتسباتهم الاقتصادية أو الاجتماعية. كما لا خوف على الثقافة الوطنية، فهي السائدة (حتى الآن !!)، ولكن تفاعلها مع الثقافات الوافدة، تخلق مجتمعاً متعدد الثقافات ويؤدي الى اكتساب الأمان والثراء الاجتماعي والثقافي. كما لا أود في هذه العجالة التعرض الى النقاش الحامي والانفعالي احياناً الذي تم منذ سنوات، الذي أثاره كل من أستاذ علم الاجتماع بسام طيبي (الماني من أصل سوري) والسياسي الألماني فريدريش ميرز حول الثقافة القائدة والقومية، وانما اشير في جملة قصيرة ما كتبه إريك هوْبزْباوْم ــ واحد من أشهر المؤرخين المعاصرين ــ منذ سنوات قبل أزمة اللاجئين الحالية " الجماعات والمجموعات العرقية في المجتمعات الحديثة محكومة بمصير التعايش، مهما قد يحلم الكثيرون ايضا بعودة الأمة النقية ".
ولعلني استحضر هنا قصيدة الشاعر والمسرحي الألماني بيرتولد برشت بعنوان " مشهد المنفي1 "
، واصفاً اللاجئ برسول البلوى. فهو يجلب الأخبار السيئة والصراعات والعواصف البعيدة، ليس من وطنه فحسب، بل من كل الإقليم. ويستدعي في الوقت عينه ذاكرة الغرب، مشيراً الى حياتهم السعيدة، وماذا تعني قيم الرفاهية والرخاء والسلام والأمن.
ماذا نستطيع ان نقدمه نحن، الذين نعيش منذ سنوات طويلة في المانيا، الى اللاجئين؟ فنحن ننعم بالحرية والأمان ونملك الوقت، فبعضنا وصل الى سن التقاعد وينعم بالمعاش المستحق وبعضنا عاش تجربة هؤلاء البؤساء وعاش عَسْف السلطة والاضطهاد قبل هروبه أو نزوحه من وطنه. إننا نستطيع أن نعمل مع الكثيرين من الخيرين من الألمان لمساعدتهم، فحن أقرب الى معرفة نفسياتهم، وذلك لنساعدهم على تخطي وضعهم المأساوي المؤقت. وأعود بذاكرتي ايضا الى قصيدة بيرتولد برشت بعنوان " شكوى مهاجر2 ":
أما انا فتسللت ليلا عبر غابة
(ولدتني الأم الخطأ)
ومضينا نبحث عن بلد لا ينبذنا فيه أحد.
ولكن اينما رجوت طالبا ما يسد رمقي
كنت أوصف دوماً بأني عديم الحياء
أنا لست عديم الحياء:
أنا ضائع
ويقول سيجموند باومان " إن المشاكل التي نتجت عن أزمة الهجرة الحالية والذعر المبالغ فيه، أكثر تعقيداً ومثيرة للجدل. يتداخل الشرط القاطع للأخلاق في مواجهة مباشرة مع الخوف من" المجهول العظيم "، الذي يتجسد في حشود الأجانب أمام الأبواب. ان الخوف الانفعالي في وجه الغرباء وما يثيره من مخاطر التي لا يمكن سبر غورها، تتعارض مع الوازع الأخلاقي، الذي يثيره مشهد الانسانية البائس. وعادة ما تكون الجهود الرامية الى الالتزام بالمبادي الأخلاقية واقتناع الاِرادة بتتبعها، هائلة. وعادة ما يكون ايضاً جهد الاِرادة في صم أذنيها عن مبادي الأخلاق موجعاً جداً. ويواصل " تعيش الاِنسانية في أزمة ــ ولا يوجد مخرج أخر من هذه الأزمة الا بالتضامن بين الناس. ولعل باومان يشير هنا ومن بعيد الى الفيلسوف الالماني كَانْت ومقولته عن " الضيافة الكونية " والتي يعرفها كَانْت قائلا " إن الضيافة تعني حق كل لاجئ في ألا يعامل داخل البلاد التي حل بها بوصفه عدواً ".
ولعلنا نتمعن الآن في بعض العبارات المضيئة، مثل قول السيدة سوزانا بير قاضية المحكمة الدستورية: " لا توجد "أزمة لاجئين" وإنما "أزمة حقوق إنسان" في أوروبا. أو كما يقول أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ديدير فاسين " ليس عندنا أزمة ديموغرافية وإنما أزمة سياسة واخلاق ". أو قول هوكا برنكه ورست " ولكن من لا يريد الحديث عن التاريخ الإمبريالي والاستعماري لأوروبا، يجب عليه أن يصمت عند الحديث عن أزمة اللاجئين ".
هل تستطيع السيدة أنجيلا ميركل أن تصمد ليس امام اليمين الألماني المتطرف وصحافة الإثارة فحسب، بل وأمام الأحزاب السياسية التي تشاركها في الحكومة الائتلافية ايضاً، لتواصل سياستها الحكيمة تجاه اللاجئين، التي تجد التأييد من غالبية الشعب الألماني، مستندة إلى المواثيق والقوانين الدولية والليبرالية الملتزمة بحقوق الاِنسان  والمساواة الأخلاقية بين البشر والأمن الاِنساني ومهتدية بها، أم هل سيبدأ التراجع أولا من اجل المصلحة الحزبية الضيقة وخشية فقدان السلطة، وثانياً امام ضغط القوى اليمينية في أوروبا التي تضع الأمن الأوروبي في تعارض مع الأمن الاِنساني والقيم الإنسانية والأخلاقية في عالم معولم. وفي الواقع العملي ليس هناك أي تعارض بين الأمن القومي لألمانيا والأمن الإنساني في قبول اللاجئين الجدد، كما إنه ليس هنا من تعارض بين حرية الأنسان وأمنه، إذ على الدولة أن توفر مستلزمات المسألتين في آن واحد. وإذا ما تراجعت السيدة ميركل أمام ضغوط القوى القومية اليمينية واليمينية المتطرفة والنازية الجديدة، ستلجأ إلى تغيير قوانين اللجوء وتشديدها، ليقف اللاجئون المنهكون الناجون من الموت امام أبواب أوروبا المؤصدة، عندها ستسقط مصداقية السياسة الالمانية والادعاء بالدفاع عن حقوق الإنسان والمواد الخاصة بحقوق اللجوء التي يتضمنها دستور المانيا الاتحادية والمادة الأولى فيه التي تؤكد عدم جواز المساس بكرامة الإنسان.
  المصادر
Bertolt Brecht, Die Landschaft des Exils1ـ
   Bertolt Brecht, Klage des Emigranten2 ـ 
ــ أزمة اللاجئين، ملحق مجلة السياسة الدولية ـ عدد يوليو 2016
Blätter für deutsche und internationale Politik, 9,2016 -
Herfried und Marina Münkler, die neuen Deutschen , Rowohlt . Berlin, 2016 -
Zygmunt Bauman, die Angst vor den anderen, Suhrkamp, 2016 ــ
 
 
 
 



399
كاظم حبيب
هل "التحالف الوطني" .. خطوة إلى الأمام أما خطوات إلى الوراء؟
نشر السيد عادل عبد المهدي، العضو القيادي في المجلس الإسلام الأعلى في العراق، مقالاً بعنوان "التحالف الوطني"... خطوة إلى الأمام"، في جريدة العالم اليومية التي تصدر ببغداد. والسؤال الذي يبادر إلى ذهن الإنسان العراقي السوي هو: هل تشكيل "التحالف الوطني"، أو "البيت الشيعي"، كان خطوة إلى الأمام أم خطوات فعلية كثيرة جداً إلى الوراء، حتى بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع في العهد الملكي؟ اعتقد جازماً أن السيد عادل عبد المهدي لو فكر بالعمق الضروري والحيادية الضرورية لأدرك تماماً بأن هذه الخطوة، التي اقترحها في حينها الدكتور أحمد الجلبي، كانت أكبر إساءة إنسانية وجهت لمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية وسعت إلى تكريس الهويات الفرعية القاتلة، التي لعبت دورها المميز في توجيه ضربة قاسية جداً للوحدة الوط\نية العراقية وللنسيج الوطني الاجتماعي العراقي. وإذا كان المجتمع يتقدم دوماً نحو ممارسة حقوق الإنسان والابتعاد الكلي عما يعيق تطور مفهوم المواطنة المتساوية والمشتركة، فأن الأحزاب الإسلامية السياسية القائمة على أساس المذاهب العديدة، سنية كانت أم شيعية، والتي تمارس، دون أدنى ريب، سياسات طائفية تميز بين أتباع الديانات والمذاهب في غير صالح وحدة المجتمع، تقود تماماً إلى ما هو عليه الحال البائس حالياً بالعراق الطائفي المقيت.
ولكن السيد عادل عبد المهدي لا يكتفي بذلك، بل يؤكد بأن هذه الأحزاب الشيعية المؤتلفة في ما أطلق عليه بالتحالف الوطني، تحتاج إلى وحدته السياسية، تماماً كما أنجزت وحدتها الأمنية بتشكيل ووحدة "الحشد الشعبي". وهنا يفضح السيد عادل عبد المهدي، شاء ذلك أم أبى، طبيعة "الحشد الشعبي" الطائفية التي تعود للأحزاب الشيعية بالعراق من جهة، وللمرشد الأعلى بإيران من جهة أخرى، وهو الأمر الأخطر عموماً على مستقبل العراق. وهذا الموقف السياسي والعسكري ينسف الدعوة الشكلية التي وجهها عمار الحكيم بتشكيل قائمة عابرة للطوائف، إذ إنها شبيهة تماماً بما أقدم عليه نوري المالكي بتشكيل قائمته التي سميت قائمة "دولة القانون"، والتي أصبحت ضد القانون بكل ما تعني هذه الكلمة. وستكون قائمة عمار الحكيم بكل ما تعنى هذه الكلمة ضد مبدأ المواطنة المتساوية والموحدة، بل ستقوم على أساس طائفي محض، فالدعوة موجهة للشيعة وليس لغيرهم، خاصة وقد انتخب الحكيم على رأس تحالف "البيت الشيعي".
علينا أن نذكر السيد عادل عبد المهدي، وهو الذي انتقل من مواقع يسارية قلقة إلى مواقع دينية وطائفية، بأن تشكيل الأحزاب السياسية على أساس ديني ومذهبي يتناقض كل التناقض مع الدستور العراقي على علاته الراهنة أولاً، ومع المبادئ الواردة في لائحة حقوق الإنسان الدولية التي أقرت في العاشر من كانون الأول 1948 وبقية العهود والمواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان ثانياً، ومع العصر والحضارة الإنسانية المتطورة التي يعيشها العالم، وكذلك مع تاريخ وتجارب العراق الطويلة والمؤلمة حقاً. إن النهج والسياسات والمواقف الطائفية التي تميز بين أتباع الديانات والمذاهب لا تقود البلاد إلى الخير والتقدم والازدهار، بل تدفع به صوب الخلاف والصراع والنزاع والقتل على الهوية والإرهاب والفساد الذي يعيش العراق تحت وطأته في الوقت الحاضر ومن أكثر من عقد من السنين. لقد استبدل المحتل الأمريكي والأحزاب الإسلامية السياسة ودول الجوار الاستبداد والشوفينية البعثية بالحكم الطائفي الذي أدين حتى من المرجعية الشيعية التي طالبت بالإصلاح والتغيير وإقامة الدولة المدنية بعد أن أدركت المستنقع الذي سقط فيه العراق جراء سياسات رئيس الوزراء السابق ورئيس التحالف الوطني السابق وقوى وأحزاب التحالف الوطني الشيعي!
إن القوى التي لا تميل إلى النهج الطائفي يفترض فيها أن تنسلخ من التحالف الوطني وأن تفتح أبوابها لكل المواطنين والمواطنات بالعراق بغض النظر عن دياناتهم ومذاهبهم أو قومياتهم. وحين تبقى هذه الأحزاب في هذا التحالف البائس والبالي فكرياً، فكل ادعاء من قيادات تلك القوى عن قائمة عابرة للطوائف أو إنها غير طائفية تكون بعيدة عن الصدق والإخلاص لمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة.
لا أخفيكم حين أقول بأن مثل هذه الدعوات والادعاء بأن التحالف الوطني خطوة إلى الأمام، لا يعني سوى تكريس الطائفية ونهجها المقيت، الذي ضيع العراق في فوضى الإرهاب والفساد، وهما الوجهان للعملة الواحدة، عملة الطائفية السياسية وصراعاتها الدموية والمدمرة للعراق وشعبه. إنها دعوة لتكريس الانقسام المجتمعي وتكريس الصراع على السلطة والمال والنفوذ لا غير.
أتمنى عليكم أن تفكروا بالشعب وبعيداً عن المصالح الطائفية، وأن تمعنوا النظر في ما هو عليه العراق الآن والأسباب التي قادته إلى هذا الواقع المرير والموت المستمر لأبناء وبنات العراق، وحيث تحاول القوات المسلحة العراقية والپيشمرگة بشجاعة فائقة، وبدعم دولي، التخلص من تركة سياسات ونهج رئيس الوزراء السابق والتحالف الوطني العراقي في الأنبار وصلاح الدين والموصل وعموم نينوى والحويجة وديالى وغيرها.     


400
رسالة مفتوحة جديدة إلى سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني المحترم/ الحوز الدينية بالنجف
تحية واحترماً
لقد فكرت كثيراً قبل أن أوجه هذه الرسالة لجنابكم، ولكن شعرت، وللمرة الثالثة، بضرورة الكتابة لكم، لأنكم، من الناحيتين الدينية والاجتماعية، تتحملون مسؤولية كبيرة ورئيسية في مواجهة التدهور المتفاقم في الأوضاع المعقدة والمتشابكة والعسيرة التي يمر بها شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفلسفية والسياسية، ولما وصل إليه العراق في ظل قيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، (البيت الشيعي والتحالف الوطني) للحكم بالبلاد.
فلو عدنا إلى السنوات الأولى بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية – الصدامية الغاشمة، لواجهتنا الحقيقة التالية: أنتم أول من زكى الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية ذات النهج الطائفي المقيت، بعد أن وضعهم المحتل الأمريكي-البريطاني في مقدمة المكونين لمجلس الحكم الانتقالي ورئاسة الوزراء الثانية، وأنتم من طلب من أتباع المذهب الشيعي بالعراق تأييدهم، وأنتم أول من دعوتم إلى انتخابهم في الانتخابات العامة لثلاث دورات انتخابية، 2006، 2010 و2014، وأنتم أول من عجل بسن الدستور الدائم الراهن، الذي يحمل بصمات طائفية وبعيدة عن روح المواطنة وحيادية الدولة ودستورها وسلطاتها الثلاث إزاء أبناء وبنات البلد الواحد، وأنتم أول من ساعد على تكريس النظام السياسي الطائفي بالبلاد. ولهذا فمسؤوليتكم كبيرة من جوانب ثلاثة:
الجانب الأول: تدخلكم كمرجعية دينية مذهبية شيعية بالسياسة، لا كمواطن عراقي له الحق في العمل السياسي، بل كمرجعية شيعية، في حين إن أغلب من تولى المرجعية الدينية في حوزة النجف لم يتدخل بالسياسة، ما عدا السيد محسن الحكيم، وكان أسوأ من قاد الحوزة الدينية بالعراق في فترة الستينيات من القرن الماضي، وأول من شارك في العمل والدعوة للتحالف مع الشيطان، حزب البعث والقوميين الشوفينيين لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم، وبتأييد ودعم من شاه إيران حينذاك. 
الجانب الثاني: أنكم سمحتم لهذه الأحزاب وقياداتها بالتصرف بالمال العام دون أن تتحدثوا وتدينوا دورهم في نهب المال العام، مال الشعب ودون أن تتصدوا فعلياً، وليس قولاً عبر وكلاؤكم بكربلاء والنجف، لهؤلاء الأشخاص الذين تصرفوا باسم الدين الإسلامي والمذهب الشيعي، واستندوا إلى تأييدكم لهم، وهم الذين تستروا بكم لنهب البلاد وسبي العباد!
الجانب الثالث: وعلى مدى سنوات تعرض بنات وأبناء الوطن الواحد، من مسيحيين ومندائيين وإيزيديين إلى أبشع الانتهاكات والتهديد بالقتل والتشريد والسطو على دورهم ومحلات عملهم وما يملكون من قبل المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد قبل أن يتعرضوا لإجرام عصابات القاعدة ومن ثم داعش، دون أن يجري التنديد بهم والتصدي لهم وشجب سياسات الحكومة العراقية منذ العام 2005-حهى العام 2014م من جانب المرجعية الدينية في النجف أو من جانب المؤسسات الدينية السنية. 
وفي العام 2014م، ولأول مرة وبعد خراب البصرة، اتخذتم موقفاً أخر، تميز بالوعي للمخاطر التي أصبحت تحيط بالبلاد، وبعد أن يَسّرَ رئيس الوزراء السابق، ومن معه من حزبه وقائمته وتحالفه الوطني، بسياساته الهوجاء وطائفية الجامحة والمقيتة، اجتياح الموصل ونينوى، وقبل ذاك الأنبار وصلاح الدين والحويجة وديالى. إذ ساعد موقفكم الجديد، مع الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة والمآسي والكوارث التي تعرض أهل نينوى بشكل خاص، وقبل صلاح الدين والأنبار وديالى، بتغيير رئيس الوزراء المستبد بأمره وجيء برئيس وزراء جديد من نفس الحزب والقائمة والتحالف الوطني، الذي لم ينفذ ما وعد به من تخلي عن الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة للشعب العراقي ومن إصلاحات وتغيير فعلي في الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالبلاد. لقد وعدكم ووعد الشعب والحراك اشعبي وأخلف الوعد وواصل السير على سياسة سلفه في أغلب الأمور، فيما عدا موضوع الحرب ضد داعش، والذي تلعب القوات المسلحة العراقية والپيشمرگة دوراً هاماً في ذلك، وبدعم من القوات الجوية الأمريكية وغيرها.
إن دعوتكم للجهاد باعتباره "فرض كفاية" لعب دوراً في تطوع الكثير من المؤمنين المخلصين لشعبهم، ولكنه فسح في المجال في الوقت ذاته للميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، التي ارتكبت الكثير من الجرائم وخاضت المعارك ضد الميليشيات الطائفية السنية المسلحة ومارست معها عمليات القتل على الهوية، إضافة إلى ممارساتها ضد المسيحيين والصابئة المندائيين وغيرهم، والتي تأتمر بأوامر السيد علي الخامنئي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية، أن تسيطر على "الحشد الشعبي" ووضعه تحت قيادتها، وخاصة تحت قيادة شخصيات سياسية عسكرية إيرانية وأخرى عراقية بانحياز إيراني. وهنا سيواجه المجتمع العراقي مشكلة أكبر تعقيداً حتى من وجود داعش، الذي سيقتلع قطعاً، مشكلة مع الميليشيات الطائفية المسلحة المنتمية إلى الحشد الشعبي، بعد التحرير مباشرة، لأنها ملغومة بعناصر طائفية كارهة للآخر وانتقامية لم تع ولم تتعلم من دروس التاريخ حتى الآن، ويبدو أنها لا تريد أن تتعلم ايضاً. وهي تتصرف بالضبط بنفس الذهنية الطائفية لرئيس الوزراء السابق الذي تحدث من مدينة كربلاء حين روج مدعياً استمرار الصراع بين أنصار الحسين وأتباع يزيد! وكان تحريضاً مكشوفاً ضد أبناء الشعب من السنة، على وفق الموروث الشعبي الخاطئ السائد بين الأوساط الشيعية ذات الوعي المزيف والمشوه. 
السيد السيستاني المحترم، أنتم أدرى مني بأن الأجهزة الأمنية والحرس الثوري الإيراني يهيمنان على مواقع حساسة في بنية المئات من الحسينيات والجوامع المقامة بالعراق، وكذلك في جامعة المصطفى، التي صرف على كل ذلك مئات الملايين من الدولارات الأمريكية، والتي أنيطت بها مهمات لا تخدم استقلال العراق وسيادته، بل تساهم في تحويله إلى مستعمرة خاضعة خانعة للحكام بإيران، وإلى تجهيل الشعب بنشر الخرافات والأساطير واللطم والتطبير وضرب الزناجيل (السلاسل) عبر المعممين الفارغين من العلم والمعرفة، والتي نادراً ما تمارس بإيران. ويفترض أن لا تقبلوا بذلك في كل الأحوال. إنهم لا يساهمون في تنوير الشعب دينياً واجتماعياً، بل العكس من ذلك، وهي كارثة إضافية يصاب بها العراق. لقد أصبح العراق تدريجاً ساحة للصراع بين السعودية وقطر وتركيا من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى!         
وعلى وفق قناعتي فأنكم كمسؤول عن أعلى مرجعية بالنجف، ومعكم بقية المرجعيات الشيعية، والمؤسسات الدينية السنية، تتحملون مهم إصلاح ما خرب دينياً واجتماعياً وسياسياً، برفع التأييد عن هذه الأحزاب والجماعات والشخصيات الفاسدة التي أبتلي بها العراق وفي غفلة من الزمن كما ابتلى قبل ذاك بالبعثيين والقوميين الشوفينيين والطائفيين، والدعوة المركزة والمستمر على إقامة دولة مدنية علمانية تلتزم بمبدأ أساس هو "الدين لله والوطن للجميع". إن تأثير المرجعية الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية البارز على أتباعهما المؤمنين يفترض أن يتوجه صوب تأكيد الحرص على الوطن والالتزام بمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية، وبعيداً عن التمييز القومي والديني والمذهبي، وبذلك تقدمون خدمة للوطن والمواطن، رجلاً كان أم امرأة. فهل أنتم فاعلون؟ هذا ما أتمناه، وارجو ألا أكون ممن يمكن أن يطلق عليهم القول، "التمني رأس مال المفلس!".
إن هذه الرسالة موجهة لسماحتكم، ولكنها موجهة في الوقت عينه إلى كل أبناء وبنات الشعب العراقي ليدركوا الوضع الذي أوصلتهم إليه الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة والابتعاد الاستبدادي عن مصالح الشعب وحقوقه وحرياته!
د. كاظم حبيب         










401
كاظم حبيب
من اختطف المدني علي الذبحاوي بالنجف، ولماذا؟
كنت قفد نشرت مقالاً عن اختطاف المناضل المدني والديمقراطي السيد علي الذبحاوي على صفحات جريدة العالم، وقدرت إن العناصر التي اختطفته مناهضة للحراك المدني الشعبي والتغيير الديمقراطي التي تطالب بها القوى المدنية والشعبية الواسعة، إضافة إلى قوى التيار الصدري ومرجعية السيد على السيستاني، بالخطوط العامة للتغيير، وخاصة مكافحة الفساد في الدولة العراقية الهشة وسلطاتها الثلاث الفاسدة والفاقدة للاستقلال والسيادة الوطنية والخاضعة للسياسة الإيرانية، والتخلص من النظام الطائفي ومحاصصاته المذلة للشعب، وتقديم المسؤولين عن اجتياح العراق واحتلاله من عصابات داعش إلى المحاكمة لينالوا العقاب الصارم. كما يطالب المتظاهرون منذ سنوات بتنظيف القضاء العراقي والادعاء العام من الفاسدين والمفسدين، الذين تركوا للسلطة التنفيذية أن تفعل ما تشاء في فترة حكم رئيس الوزراء السابق بعيداً عن الشرعية الدستورية والقوانين العراقية واعتماداً على قوانين أصدرها صدام حسين واستفاد منها المستبد بأمره حتى الآن نوري المالكي، وهذا يعني باختصار إن القضاء العراقي في الجوهر ما يزال باق كما كان عليه القضاء في زمن الدكتاتور صدام حسين. فواضع الكثير من قوانين صدام حسين، قوانين قراقوش والعفترة، هو الآن رئيس القضاء الأعلى بالعراق.
وعلى أثر تزايد عمليات الاختطاف ببغداد والبصرة، يقال إن العبادي قد اشار أخيراً إلى تفاقم عمليات الاختطاف ببغداد ووسط العراق وجنوبه. والمعروف إن رئيس الوزراء هو المسؤول الأول عن أمن العراق وحماية المواطنين والمواطنات من الرعاع الأوباش الذين يمارسون اختطاف المواطنين وتعذيبهم وتركهم على قارعة الطريق وهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة!
لقد جرى قبل ثلاثة أسابيع تقريباً اختطاف المناضل المدني علي الذبحاوي على طريق مطار النجف من قبل ثلاثة عناصر متوحشة ترجلوا من عجلتين مدنيتين نوع (بيك آب)، وفرضوا عليه النزول تحت تهديد المسدس الذي صوب إلى رأسه، واقتيد قسراً إلى واحدة من العجلتين التي انطلقت إلى جهة مجهولة، واحتجز لديهم لمدة 12 يوماً. جرى خلالها التحقيق غير الشرعي معه، وتعرض لشتى صور التعذيب الجسدي والنفسي لانتزاع معلومات مكشوفة للجميع. فالحراك المدني ليس سراً، وقادته غير مخفيين عن الأنظار، وهم أبناء وبنات غيارى على شعبهم ووطنهم.
إن التعذيب الذي مورس مع علي الذبحاوي لم يختلف عن ممارسات أجهزة أمن وجلاوزة صدام حسين القتلة ضد المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين، بل وضد المسلمين ممن كانوا يناضلون ضد حكم صدام حسين، واليوم يمارسون هم التعذيب ضد المعارضين للطائفية والفساد والخراب. إن ضحية الأمس تحول إلى جلاد اليوم وبكل وقاحة. إن الأسئلة التي وجهت له تكشف عن الوجوه الكالحة لهؤلاء، عن هويتهم السياسية التي لا تبتعد عن المعادين للحراك المدني الشعبي منذ العام 2011، إذ طرحت عليه ثلاث أسئلة:     
1)   لماذا تشارك في الحراك المدني الشعبي وما هو دورك ومساهماتك؟
2)   من يمول هذه التظاهرات المدنية الشعبية؟
3)   وهل تتقاضى مبالغ مالية من جهة ما لكي تشارك في هذه الفعاليات؟
من حق الجميع هنا أن يقولوا بوضوح، "اللي جوه ابطه عنز يبغج!"، أو "وكل إناء بالذي فيه ينضح". فهؤلاء الأوباش الذين اختطفوه والذين يقبضون الأموال من إيران ومن مليشيات طائفية مسلحة، ومن أموال السحت الحرام، يعتقدون بأن الذين يشاركون بهذه الفعاليات ليسوا مناضلين وطنيين يشعرون بالكارثة الجارية، بالمستنقع الذي أوقع رئيس الوزراء السابق العراق وشعبه فيه ولم يخرج منه حتى الآن، بل يغوص أكثر فأكثر في أعماق المستنقع، وأن من حق الناس، على وفق الدستور، التظاهر وإبداء الرأي بشأن ما يجري بالعراق من مأسٍ تقتل الحق يومياً بدم بارد. إن الذين اختطفوا الذبحاوي هم الأذلاء الذين يقبضون النقود ليختطفوا ويعذبوا البشر ويمنعونهم عن التظاهر، ويعتقدون بأن الجميع مثلهم عبيد للمال! تباً لكم من مرضى ساديين، تباً لكم من وحوش تمشون على أربع وتركعون أمام الدولار!
لقد عُذِبَ السيد علي الذبحاوي لأنه يناضل في سبيل المجتمع المدني، وفي سبيل التغيير الذي وعد به رئيس الوزراء، ولم ينفذه حتى الآن، ولن ينفذه. لقد عُذِبَ لأنه وقف إلى جانب شعبه في مطالبته بمكافحة الفساد والمفسدين أسياد من اختطفوه وعذبوه، وهو أقرب إلى الموت منه على الحياة، ثم رموه على قارعة الطريق الواصل بين النجف والديوانية، في الجريوية. ويقال إن مفرزة للشرطة عثرت عليه وأوصلته إلى مركز الشرطة ليسلمه قائد شرطة النجف إلى عائلته وكل بدنه مليء بأثار التعذيب الشديد والهمجي. هل بلَّغَ المختطفون، المعروفون للشرطة بهويتهم، الشرطة بوجوده هناك ليجلبوه إلى عائلته، أم تم العثور عليه عن طريق الصدفة؟ هذا الأسلوب في الاختطاف والتعذيب مارسه صدام حسين على نطاق واسع، وعبر هذا الأسلوب تم قتل المئات من الناس المناضلين، أو عذبوا وتركوا على قارعة الطريق ليكونوا عبرة لغيرهم من المناضلين!
خسأ هؤلاء الرعاع الذين يمثلون أكثر أجنحة الإسلام السياسي بالعراق رثاثة وعدوانية وجموحاً، فهم لا يعرفون لغة الحوار، بل التعذيب والقتل هي اللغة التي يعرفونها ويتعاملون بها، وهي هوايتهم المركزية، وهي الأداة المفضلة لدى سيدهم الذي علمهم صنوف التعذيب وسحره، والتي مارسها قبل ذاك في الحراك المدني في العام 2011، ومارسها في الفلوجة وفي ديالى وفي كل مكان من العراق. هذه الأساليب لم تعد تخيف المناضلين من اجل حرية شعبهم ومصالحه الحيوية، وهي التي ترعب الحكام الذين غاصوا في قعر الفساد والجور على الشعب المستباح. وبعد كل هذا هل أدرك القضاء العراقي والادعاء العام واجبه الدستوري؟ كل الدلائل تشير إلى أن الادعاء العام والقضاء بالعراق ما زالا بعيدين كل البعد عن القضاء المستقل التي يطلبها الدستور العراقي على نواقصه الكبيرة.
إن من واجب القضاة والادعاء العام القيام بواجبهم الدستوري بالتحري عن الفاعلين وتقديمهم للمحاكمة، ومعالجة المختطف على حساب الدولة، وتعويضه من قبل الحكومة العراقية المسؤولية عن أمن وحياة المواطنات والمواطنين. إن السكوت وابتلاع كل الجرائم التي تقع بالعراق من خطف وقتل وتفجير، ستساهم في ارتكاب المزيد منها لبث الرعب في صفوف المناضلين والمناضلات في الحراك المدني الشعبي. إن المهم أن يصل التحقيق، وسوف لن يصل إلى معرفة القوى التي تقف خلف هذا الاختطاف والتي يتحدث بها الناس في كل مكان، وكأنها السر المكشوف، على وفق التجارب المنصرمة، بما فيها تجربة المناضل المدني والديمقراطي الشهيد كامل عبد الله شياع، الذي ذهب دمه هدراً وأسدل الستار على القضية، كما أسدل على الآلاف من القضايا المماثلة!!!


402
كاظم حبيب
إلى ماذا يسعى المالكي مجدداً في زيارته للسليمانية؟
أعطت إيران الضوء الأخضر لنوري المالكي بالتحرك السياسي الجديد لتبييض وجهه أمام الشعب العراقي عموماً والشعب الكردي خصوصاً، بهدف ترشيح نفسه مجدداً لدورة جديدة لرئاسة وزراء العراق بعد استراحة قصيرة، مارس فيها عضو قيادة حزبه، حزب الدعوة وعضو كتلة دولة القانون وعضو التحالف الوطني، حيدر العبادي، مهمة رئاسة الوزراء بهدف التهدئة والتخفيف من شدة الاحتكاك بين قوى الإسلام السياسي، وخاصة حزب الدعوة الإسلامية ودولة القانون، والمجتمع العراقي. فنوري المالكي رجل إيران الأول بالعراق، والغالبية العظمى من قيادة حزبه وكتلة دولة القانون والتحالف الوطني، هؤلاء جميعاً يشكلون اللوبي الإيراني، منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة في العام 2003 على أيدي قوات الولايات المتحدة وبريطانيا والتحالف الدولي غير الشرعي. ويختلف عنهم بقدر واضح من التمايز التيار الصدري ومرجعية السيد السيستاني التي ترفض ولاية الفقيه وترفض منافستها على المرجعية بالعراق. ومع المالكي تقف المليشيات الطائفية المسلحة، التي تشكل القوام الأساسي للحشد الشعبي. وهذا الحشد يزداد عدداً وعدة وسلاحاً ونفوذاً وتأثيراً في السياسة العراقية وفي المجتمع، وسيفوق بقدراته الممتدة إلى إيران وحزب الله بلبنان على الجيش العراقي، كما صرح بذلك هادي العامري. وليس السيد عمار الحكيم، الذي أصبح الآن رئيساً للتحالف الوطني (البيت الشيعي)، بعيداً عن هذا النهج وعن القرارات التي تتخذها إيران ومواقفها السياسية وما تريده من العراق وفي العراق، إنه الرجل ذو الوجوه العديدة!
بدأ نوري المالكي جولته السياسية بعقد لقاءات مع قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني بالسليمانية، فما هو الهدف من هذه الزيارة المفاجئة؟
ليس هناك من لا يعرف توتر العلاقة بين الأحزاب السياسية بالسليمانية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. وسبب التباين، إذا أهملنا المسائل التاريخية، يكمن في اختلاف وجهات النظر حول قضاء أساسية مهمة مثل رئاسة الإقليم، حيث تعتبر ولاية السيد مسعود البارزاني منتهية دستورياً منذ أب 2015، وموضوع البرلمان الكردستاني وإبعاد رئيس البرلمان ومنعه من دخول أربيل، وكذلك انسحاب وزراء التغيير للسببين أعلاه، والاختلاف بشأن توزيع الحصة المالية الكردستانية من الميزانية العراقية على المحافظات الكردستانية وسبل استخدامها، وكذلك موضوع موارد النفط المتأتية من استخراجها وتصديرها بكردستان وسبل توزيعها واستخدامها، إضافة إلى موضوع الخلاف في الموقف من تشكيل الوفود نحو الخارج والتمثيل في الداخل... الخ أو الوفود التي تشكل للتفاوض مع الحكومة الاتحادية. إنها خلافات ترتبط بقضية الديمقراطية الغائبة عن الحياة السياسية بالإقليم، كما هو حال العراق كله، وهي إشكالية كبيرة، إضافة إلى سيادة الفساد الذي يعترف به الجميع دون استثناء. وقد عبر عن هذا الغياب للديمقراطية أحد الإعلاميين الكرد بقوله: "أن الديمقراطية في أوروبا لا تصلح لبلداننا"!، وغالباً ما تذرع بهذا القول الكثير من ساسة العالم المستبدين مثل حسني مبارك والسيسي والقذافي، ومن ساندهم من الإعلاميين. وهذا القول خطأ يرتكبه بعض الإعلاميين ويؤذون به من يريدون دعمه تزلفاً!
كما إن العلاقة بين رئاسة وحكومة الإقليم وبين نوري المالكي سيئة للغاية ومعروفة للجميع، والتي يتحمل الأخير مسؤولية كبيرة فيها، ولكن رئاسة وحكومة الإقليم تتقاسم، بهذا القدر أو ذاك، مع نوري المالكي وحزبه مسؤولية العلاقة المتوترة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. وقد أشرت إلى هذا في أكثر من مقال سابق أو لقاء موضحاً مواطن الخلل.
ولا يخفى على أحد من العاملين في السياسة العراقية إن المالكي يعرف توتر العلاقة بين رئاسة وحكومة الإقليم وبين إيران، في حين يعرف أيضاً حسن وتطور العلاقة بين الاتحاد الوطني والتغيير من جهة، وإيران من جهة أخرى، والعكس صحيح مع تركيا.
ومن أجل كسب ود الكرد بالسليمانية، وحيثما يوجد نفوذ للاتحاد الوطني والتغيير بالإقليم من جهة، ولإغاظة الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئاسة وحكومة الإقليم من جهة ثانية، ومن أجل التبشير برغبته في الترشيح المخجل، إن قام بذلك فعلاً، لرئاسة الوزراء والعمل على كسبهم إلى جانبه من جهة ثالثة، قام نوري المالكي بزيارته إلى السليمانية ومحادثاته مع قادة الاتحاد الوطني الكردستاني. فهل سينجح في محاولته الجديدة؟ أؤكد بأنه سوف لن ينجح في ذلك، فالكرد أذكى من أن يقعوا في مثل هذا الفخ، وأكثر أخلاقية من أن ينساقوا وراء مستبد أفلس سياسياً واجتماعياً.
أدرك نوري المالكي تماماً بأنه قد أحرَقَ أوراقه السياسية والاجتماعية بالعراق بيديه، وأمام الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وفقد كامل مصداقيته، وخاصة بعد فاجعة اجتياح الموصل، وقبل ذك الأنبار وصلاح الدين ...الخ. وأدرك الشعب الكردي، الذي عاش مرارة العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وابتعاد المالكي عن معالجة مشكلات المناطق المتنازع عليها رغم وجوده لدورتين وزاريتين أو (8 سنوات) عجاف في السلطة، وشوفينية موقفه السياسي وطائفيته المقيتة لأتباع المذهب السني في الإسلام، سواء أكانوا عرباً أم كرداً، والذي روج له بكربلاء حين تحدث عن استمرار الصراع بين أنصار الحسين وأتباع يزيد، بأن وعود المالكي التي يقطعها للاتحاد الوطني الكردستاني عبر هذه الزيارة جوفاء لا قيمة لها وبن ينخدع بها، ولن يلدغ الشعب الكردي مرة أخرى بعد أن وافق مسؤولوه على تسلم نوري المالكي لرئاسة الحكومة دورة أخرى في اجتماع طهران في العام 2010 مقابل بعض الوعود والتي لم يتحقق أي جزء منها.
سوف لن يكون في مقدور هذا السياسي الانتهازي الفاشل، الذي قال عن نفسه وجماعته ما يلي:
" أنا أعتقد بأن هذه الطبقة السياسية، وأنا منهم، ينبغي ألا يكون لها دور في رسم الخارطة السياسية في العراق، لأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وأنا منهم، ينبغي أن يبرز جيل آخر بخلفية الوعي لما حصل وخلفية الأخطاء التي ارتكبوها". (راجع: شبكة شاع. العراق، آفاق). إن مثل هذا الرجل ينبغي أن يستحي من العودة إلى السياسة اصلاً! 
وبغض النظر عن هذه الزيارة ولقطع دابر محاولات الاستفادة من الثغرات الكبيرة في سياسة الإقليم، أرى ضرورة إعادة رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق النظر في سياساتها، وكذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني وبقية الأحزاب الكردستانية بسياساتها بصورة جدية وعميقة إزاء أوضاع الإقليم ومصالح الشعب الكردستاني بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، وبالتحالفات في ما بينها، وكذلك تحالفاتها مع الأحزاب الإسلامية السياسية، وعدم إقدامها حتى الآن على التحالف مع القوى الديمقراطية والمدنية العربية بالعراق، لتأمين التحالف الكردي - العربي ومع بقية القوميات، بدلاً من التعويل على الأحزاب الإسلامية السياسية التي لم يعد لها مستقبل بالعراق، رغم هيمنتها الراهنة على الحكم.
وبعد زيارة المالكي للسليمانية أطلق المالكي رئيس حزب الدعوة الإسلامية ورئيس كتلة دولة القانون حملة جديدة باتجاه تبييض وجهه ووجه حزبه مع الشعب الكردي ومع بعض الأحزاب الكردستانية واستثمار الخلافات المذكورة سابقاً، والتي يمكن أن نقرأها بوضوح في الزيارة الأخير لحنان الفتلاوي إلى السليمانية لتصب في نفس الهدف الذي سعى إليه المالكي وللتصريحات التي أعطتها لوكالة سارا بريس بالسليمانية، أي لتشديد الصراع بين القوى والأحزاب الكردستانية من جهة، ومع الحكومة الاتحادية من جهة أخرى.

403

واقع ومشكلات حركة اليسار على الصعيدين العالمي والعربي
(4-4)
المهمات المباشرة لقوى اليسار بالدول العربية
1) إن المرحلة الراهنة تضع على عاتق قوى حركة اليسار في المنطقة، بما فيها الدول العربية، مهمات كبيرة وأساسية تتلخص في تشخيص النهج الذي مارسته قبل ذاك والسياسات التي التزمت بها وسعت إلى تحقيقها والأخطاء التي رافقتها، سواء أكان في تحديد استراتيجية النضال أم في تكتيكاته من جهة، ثم بلورة وتشخيص سمات المرحلة الراهنة ومهماتها من الناحية الاستراتيجية والتكتيكية والقوى الفاعلة فيها وأساليب وأدوات النضال ومضامين الخطاب السياسي الذي يراد له الوصول إلى فئات المجتمع من أجل تعبئتها للنضال في سبيل تحقيقها.
2) إن هذه الوجهة في العمل تتطلب عقد لقاءات واسعة بين قوى اليسار في كل دولة وفي منطقة الشرق الأوسط، ومنها الدول العربية، من أجل تحديد تلك المهمات على صعيد المنطقة، والتنسيق في ما بينها في النضال المشترك لصالح الأمن والاستقرار والسلام فيها، ولصالح تحقيق التقدم الاجتماعي في بلدانها، ومواجهة مخاطر الهيمنة الأجنبية والتدخل الفظ في شؤونها الداخلية من جانب حكومات الدول الأجنبية ودول المنطقة، إضافة إلى مواجهة مخاطر الدور الذي تمارسه القوى السياسية المتطرفة، سواء أكانت دينية متعصبة وإرهابية، كما يلاحظ اليوم في العديد من الدول العربية ودول المنطقة، أم الذي مارسته وما تزال تمارسه القوى القومية الشوفينية والمتطرفة أو العنصرية، سواء أكانت عربية أم فارسية أم تركية أم قومية صهيونية بإسرائيل.
3.   إن الدول الرأسمالية المتقدمة واحتكاراتها النفطية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، مصممة وأكثر من أي وقت مضى، على الهيمنة الكاملة على نفط الشرق الأوسط باحتياطه الذي يتراوح بين 65-70% من الاحتياطي النفطي العالمي وعلى أسعاره وتسويقه. ولم يكن ما صرحت به كونداليزا رايس حول تمرير "الفوضى الخلاقة" في الشرق الأوسط، سوى الأداة الجديدة لفرض الهيمنة، بعد تحقيق الصدمة الكبرى في شعوب هذه البلدان، وهو ما يجري اليوم تحقيقه على هذه الساحة من العالم.
4) إن التجارب الغنية التي مرّت بها شعوب الدول العربية في العام 2011 وما بعده، وفي أعقاب الانتفاضات الشعبية في أكثر من دولة عربية، والتي أطلق عليها بـ "الربيع العربي"، يفترض أن تساعد على تشخيص مواطن الضعف والخلل التي رافقت هذه الانتفاضات، وضعف دور ونشاط قوى اليسار والأحزاب الشيوعية فيها. لقد تحولت تلك الانتفاضات في واقع الحال ضد مصالح الشعوب وإراداتها، فيما عدا تونس، ولا بد من دراسة سبل الخلاص من هذا الواقع الجديد، والأساليب والأدوات النضالية الضرورية والجديدة لتجاوز النكسة العميقة الحالية التي أصيبت بها حركة الجماهير الشعبية لتداركها مستقبلاً. إن عوامل ونتائج تلك الانتفاضات لم تنته بعد، وهي في تفاعل مستمر في عمق المجتمعات بالدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وسنشهد ذلك في فترات متباينة لاحقاً.     
5) تعاني دول المنطقة من إشكاليات كبيرة وفيها الكثير من البراميل المليئة بالبارود التي يمكن أن تنفجر في كل لحظة، والتي يمكن أن تتسبب في المزيد من الحروب الإقليمية والموت والدمار وزيادة التخلف وتشديد البؤس والفاقة فيها. فأمامنا يبرز الوجود الأجنبي الواسع النطاق على شكل قواعد وقوات أجنبية وترسانات لمختلف أنواع الأسلحة الهجومية والدفاعية، والتي يمكن أن تعتبر مناطق للصراع والنزاع العسكري بين الدول. كما أن سياسات الدول الاستبدادية وغير الديمقراطية والعدوانية يمكنها أن تخلق بؤراً جديدة للتدخل العسكري الخارجي كما حصل في العراق، حيث قدم النظام الفاشي البعثي الصدامي كل المبررات لحرب الخليج الثالثة، بعد أن خاض حربان غزا فيهما إيران والكويت، وخاض النظام حرباً داخلية ضد الشعب الكردي، مارس فيها الأسلحة الكيماوية والإبادة الجماعية، وحروب أخرى ضد الكرد الفيلية ووسط العراق وجنوبه وجفيف الأهوار، وسمح لأن يقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي – البريطاني، على وفق قرار مجلس الأمن الدولي غير السليم، بالرغم من عدم موافقة المجلس قبل ذاك على تلك الحرب ضد العراق. وكذلك التدخل العسكري للسعودية ودول الخليج بالبحرين، وتدخل التحالف السعودي العربي في حرب عدوانية ضد اليمن، والتدخل الإيراني الفظ في الحرب الجارية باليمن، أو التدخل الفظ للدول الكبرى والدول المجاورة لسوريا، تركيا والسعودية وقطر وقوى خليجية أخرى، في حرب دموية منذ خمس سنوات ضد الشعب السوري، وأصبح الشعب بين مطرقتي النظام والمعارضة والدول المجاورة والدولية، أو ما يجري من نزاع دموي بليبيا. من هنا فأن واجب الشعوب والقوى الوطنية، والقوى اليسارية على وجه التحديد، في هذه المنطقة، ان تعمل جاهدة على إقامة الجبهات الوطنية والتحالفات الديمقراطية لمنع نظمها السياسية من ممارسة سياسات التدخل والعدوان، ومناهضة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، التي قادت وتقود إلى عواقب وخيمة. كما تبرز المشكلة الفلسطينية بشكل صارخ ويومي في حياة سكان المنطقة والعالم، وهي التي يقترب عمر المشكلة من سبعة عقود، والتي تفاقمت عبر السنين، بسبب الحروب والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، والجولان السوري ومزارع شبعا في لبنان، والمشكلة الكردية وحرمان الشعب الكردي في كل من تركيا وإيران وسوريا من حقوقه القومية المشروعة والعادلة وحقه المشروع في تقرير مصيره بنفسه...الخ.
6) ونتيجة لهذا الواقع تواجه المنطقة سباقاً متواصلاً للتسلح وإقامة ترسانات للسلاح الذي يتقادم باستمرار ويتجدد بأجيال جديدة تكلف خزائن هذه الدول المليارات من الدولارات الأمريكية، التي كان وما يزال يفترض أن توجه لتغيير أوضاعها الاقتصادية واجتماعية الثقافية المزرية. والرابح الوحيد من سباق التسلح في هذه المنطقة وفي العالم هي الشركات المنتجة للسلاح والموت والخراب في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمانيا وروسيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا وغيرها من الدول المنتجة والمصدرة للسلاح ومعه الموت والدمار. ومثل هذا التسلح يأتي على حساب توجيه الموارد المالية صوب التنمية الاقتصادية والبشرية وإبقاء الدول تابعة ومكشوفة على الخارج.
7) كما تواجه بعض الدول العربية وبعض دول المنطقة تصاعداً في مسألتين خطرتين على النسيج الوطني والهوية الوطنية لشعوب هذه الدول، وأعني بهما:
أ) التمييز الديني ضد أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام، كما هو الحال في العراق وإيران ومصر والسودان على سبيل المثال لا الحصر،
ب) التمييز الطائفي السياسي كما هو الحال في كل من إيران والعراق ولبنان والسعودية مثلاً.
وتغيب في مثل هذه الدول هوية الوطن والمواطنة وتبرز في مكانها الهوية الدينية والطائفية السياسية المقيتة التي يمكنها أن تمزق النسيج الوطني لكل دولة في كل لحظة، وتتسبب في موت الكثير من البشر، كما حصل بلبنان، أو كما حصل وما يزال يحصل اليوم بالعراق، وكما هو عليه الحال في إيران مثلاً.
8) وتواجه دول المنطقة العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة والخانقة، رغم الغنى الذي تتمتع به بعض دولها، بسبب توفر النفط الخام والغاز الطبيعي وموارد أولية أخرى، التي لم تستخدم بصورة عقلانية واقتصادية لصالح شعوب هذه البلدان. ففي هذه المنطقة الغنية في أغلبها نلاحظ تفاقم الفجوة بين الفقراء الجياع إلى حد الموت، والأغنياء المتخمين حقاً إلى حد الاختناق، بسبب النظام السياسي القائم والتوزيع وإعادة التوزيع والاستخدام غير العادل وغير السليم للثروة الوطنية والدخل القومي، إضافة إلى تخلفها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العام وتفاقم حجم البطالة فيها، وما ينجم عن هذه الظواهر من مواقد ساخنة قابلة للانفجار وأرضية صالحة لنمو التطرف والإرهاب والموت والدمار.
9) وتعاني دول المنطقة من مشكلتين أخريين تتسببان دوماً في تفريخ مشاكل أخرى، وأعني بهما:
أ. مشاكل الحدود والمطالبات بالأرض فيما بين الدول المتجاورة، أو بالدولة الواحدة، خاصة وأن أراضي هذه البلدان مليئة بالثروات الخامية، خاصة النفط الخام والغاز، وتعاني من عواقب اتفاقية سايكس- بيكو.
ب. مشكلة سوء توزيع مياه الأنهر وشحة وصولها إلى عدد من الدول التي تمر بها، كما في حالة العلاقة بين تركيا وسوريا والعراق أو إيران والعراق، أو مشكلات المياه بين الأردن وفلسطين ولبنان وإسرائيل. إن المرحلة القادمة يمكن أن تتسبب مشكلة المياه في نشوء صراعات حادة وإلى نزاعات يصعب تقدير عواقبها على شعوب هذه المنطقة.
10) إن واحدة من أكبر مشكلات المنطقة تبرز في غياب ثقافة الحوار السلمي والديمقراطي والتهديد المستمر باستخدام القوة والعنف والتهديد بالحرب لمعالجة المشكلات القائمة. إن أغلب بلدان المنطقة قد مارست، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، سياسات وعلاقات إقليمية قائمة على مضمون ما جاء في بيت الشعر العربي القائل:
السيف أصدق أنباء من الكتب                    في حده الحد بين الجد واللعب
وقد تسببت ذهنية القوة والعنف والادعاء بامتلاك الحقيقة كلها والحق كله، خلال العقود المنصرمة، بموت ما يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة، سواء عبر الحروب أم عواقبها على الإنسان في المنطقة، وإلى تشريد وتهجير ملايين أخرى في الشتات الدولي، وإلى خسائر مالية تقدر بآلاف المليارات من الدولارات الأمريكية. إذ علينا أن نتذكر الحروب الفلسطينية والعربية الإسرائيلية والحروب العراقية الداخلية والخارجية وحرب السودان والحرب اليمينية والحرب الأهلية في لبنان وحروب دول شمال أفريقيا... الخ.
والمشكلة الكبرى التي تعيش في ظلها جميع دول المنطقة تقريباً تبرز في البرجوازيات الوطنية وفئات البرجوازية الصغيرة التي تسلمت الحكم بالدول العربية عجزت عن تحقيق عملية التنمية والتخلص من العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية وتحقيق الإصلاح الزراعية والتنمية الصناعية واستثمار مواردها المالية النفطية وغير النفطية لتطوير القوى المنتجة, وبالتالي بقيت اقتصاداتها الوطنية متخلفة ومشوهة البنية، اقتصادات ريعية في الغالب الأعم واستهلاكية، وهي بالتالي كانت وما تزال عاجزة عن إشباع حاجات سكانها بالسلع الاستهلاكية المحلية ومجبرة على الاستيراد والانكشاف الشديد على الخارج استيراداً وتصديراً للمواد الأولية من جهة، وعاجزة  عن توفير الحد الأدنى الضروري من الأمن الغذائي والاقتصادي للمرحلة الراهنة وللمستقبل. إن استمر اقتصاد هذه الدول على الحالة هذه الحالة مع استمرار التطور بالدول الرأسمالية المتقدمة، سيوسع الفجوة القائمة حالياً بين هاتين المجموعتين من الدول في غير صالح الدول العربية، خاصة وإن الثورة العلمية والتقنية حاصلة في الدول الرأسمالية المتقدمة، وهي التي تستفيد مباشرة من منجزاتها المتعاظمة. إن التطور الهائل في العالم يسمح بتسريع عملية النمو والتطور في دول المنطقة ويخفف من أعباء المنتجين بسبب التقنيات الحديثة، ولكنه في ظروف الدول النامية، ومنها الدول العربية يدفع بالكثير من العمال إلى جيش العاطلين عن العمل. إن إيجاد الموازنة بين التقنيات والتشغيل يرتبط بطبيعة الحكومات في الدول العربية وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وهي كلها تقريباً عاجزة عن أن تمارس سياسة لصالح شعوبها.
إن عملية تغيير البنية الاقتصادية، تستوجب تغيير علاقات الإنتاج ومستوى القوى المنتجة البشرية والمادية، وهي القادرة بدورها على إجراء تغيير في البنية الاجتماعية، في البنية الطبقية للمجتمع، وبدورها تساهم في تغيير بنية الوعي الفردي والجمعي، وفي تحقيق التنوير الديني والاجتماعي. وهي واحدة من أثقل وأعقد وأكثر المهمات إلحاحاً لشعوب دول منطقة الشرق الأوسط. ويفترض أن نضع حداً للصراع حول دور كل من القطاعات الاقتصادية الحكومية والخاصة والمختلطة، إذ أنها جميعاً مطلوبة في دول المنطقة وضرورة التنسيق والتعاون والتكامل في ما بينها لصالح تعجيل التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي، ولا يجوز خلق صراع في ما بينها غير مناسب وغير ضروري. كما أن هذه الدول بحاجة إلى رؤوس الأموال الأجنبية التي يفترض أن توظف في المواقع أو الفروع والقطاعات الاقتصادية المناسبة التي تخدم التقدم الاقتصادي وتحقق الفائدة للاقتصاد الوطني ولكنها تحقق في ذات الوقت الربح المناسب لأصحاب رؤوس الأموال الأجنبية.
لم تكن قوى اليسار مسؤولة عن هذه الحالة التي عاشت فيها شعوب دول المنطقة والتي لا تزال سائدة فيها. وبالتالي فهي وشعوب المنطقة غير مسؤولة عن ذلك من حيث المبدأ وغير محملة باردان وذنوب هذه السياسات، وإنها كانت مع شعوبها ضمن ضحايا تلك السياسات وعواقبها، وبالتالي فهي القادرة، ضمن قوى وطنية أخرى، على طرح برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي وعسكري متوازن وسليم يسمح بابتعاد شعوب هذه الدول عن الحروب في حل المعضلات وعن سباق التسلح وعن التجويع المتواصل للفقراء والمحرومين ...الخ ودعم بناء دولة ديمقراطية دستورية حديثة، دولة مدنية وعلمانية تلتزم بالتداول الديمقراطي السلمي للسلطة عبر البرلمان وتستند إلى الفصل بين السلطات واحترام القضاء والسلطة الرابعة، أي احترام والتزام مبدأ حرية الإعلام والتنظيم والنشر ...الخ من حقوق للإنسان وحقوق للقوميات وحقوق للمرأة ومساواتها اللازمة مع الرجل. كما إن برنامجاً علمياً وعملياً يسمح بتعبئة فئات الشعب حوله للنضال من أجل تحقيق المهمات الواردة فيه والتي يفترض أن تعبر عن مصالح مختلف فئات الشعب وتشكل القاسم المشترك لها.
إن هذا الواقع يفرض على قوى اليسار وأحزابها مسؤولية صياغة المهمات المباشرة لهذه المرحلة على الصعيد الإقليمي بما يتفق مع مصالح شعوب هذه المنطقة، ويسمح بتحقيق التنسيق والتضامن والتفاعل والتلاقح السياسي والاجتماعي والثقافي في ما بين شعوبها. وهي مهمة ليست سهلة، ولكن النضال من أجلها أم ملزم ونبيل ومشرف للجميع كما إن ذلك يسمح بصياغة المهمات الوطنية لقوى اليسار في كل بلد منها على وفق ظروفها ومعطياتها ومصالح شعبها.
والخلاصة فإن اجتماعاً عاماً يعقد لقوى اليسار في كل دولة، ومن ثم فيما بين قوى اليسار بالدول العربية ودول منطقة الشرق الأوسط دون قيود أو شروط مسبقة، مع تكليف طرف أو أكثر منها لصياغة ورقة عمل تطرح للنقاش وتتضمن القضايا الخمس المشار إليها سابقاً، أي:
1.   تقييم المرحلة المنصرمة واستخلاص دروس التجارب النضالية؛
2.   تحديد طبيعة المرحلة الراهنة ومهماتها بشكل موضوعي وعلمي وعملي قابل للتحقيق؛
3.   تحديد القوى الاجتماعية والسياسية ذات الاهتمام بتحقيق مهمات المرحلة الحالية، مع رؤية آفاقية؛
4.   تحديد أساليب وأدوات النضال من أجل تحقيق تلك الأهداف والدفع بها إلى أمام؛
5.   بلورة خطوات التنسيق والتضامن في ما بين قوى اليسار والقوى الوطنية الأخرى على صعيد المنطقة.
6.   دراسة مدى إمكانية توحيد قوى اليسار في حزب ديمقراطي يساري واحد، أو تحقيق التحالفات في ما بين قوى اليسار، مع أهمية أن يدرس كل حزب شيوعي أهمية إعادة النظر باسمه لا حباً في تغيير الاسم، بل إدراكاً لطبيعة ومهمات المرحلة التي يفترض ان تنسجم مع اسم الحزب.
الهوامش
[1] صموئيل هنتكتون، صدام الحضارات.
2 ميشيل عفلق، في سبيل البعث، البعث العربي والانقلاب، دار المعرفة، 1953. ص5.
ميشيل عفلق، في سبيل البعث، موقفنا من الشيوعية، المصدر السابق نفسه ص 63.
ميشيل عفلق, نضال البعث، الجزء الأول، ص 88.
3 حسين محمد الشبيبي، الجبهة الوطنية الموحدة طريقنا وواجبنا التاريخي، مطبعة الشعب-بغداد. دو تاريخ. ولكن بحدود عام 1947/1948.   
4 فهد، يوسف سلمان يوسف، كتابات الرفيق فهد، من وثائق الحزب الشيوعي العراقي، الطريق الجديد-بغداد، دار الفارابي – بيروت، حزيران 1976. ص 67/68.



404
واقع ومشكلات حركة اليسار على الصعيدين العالمي والعربي
(4 - 3)
واقع ومهمات قوى اليسار في الدول العربية

تعرضت قوى حركة اليسار في منطقة الشرق الأوسط، والدول العربية على وجه الخصوص، إلى ضربات قاسية من لدن النظم السياسية التي تسود في بلدانها وبدعم مباشر وغير مباشر من الدول الرأسمالية المتقدمة. ففي هذه الدول سادت أو ما تزال تسود في غالبيتها نظم سياسية دكتاتورية وأخرى غير ديمقراطية، رغم البراقع البرلمانية المهلهلة التي تلتحف بها، ولكنها كانت وما تزال عاجزة عن ستر عوراتها الفاحشة بأي حال. فإلى جانب حملات الاعتقالات والسجون والتعذيب والقتل والاضطهاد والعقوبات الجماعية في جميع دول الشرق الأوسط دون استثناء، فأن بعضها القليل يكافح اليسار بأساليب وأدوات أخرى، تبدو وكأنها أخف وطأة، ولكنها تصل في المحصلة النهائية إلى ذات العواقب الوخيمة على قوى حركة اليسار. وقد تسنى لبعض النظم السياسية المستبدة أن تروض قوى اليسار وتدخلها تحت خيمتها الخانقة فكرياً وسياسياً واجتماعياً، ولم يبق لها من مضمون اليسار سوى اسمها المفرغ من المضمون، كما لم يبق لها حضور وجمهور يساندها أو يلتف حول شعاراتها.  وقد زاد في الطين بِلة ذلك الانهيار الزلزالي لنظم "اشتراكية" أو رأسمالية الدولة البيروقراطية، وما نشأ عنها من إحباط في أجواء قوى اليسار عموماً.
لم يكن صراع قوى اليسار في دول هذه المنطقة موجهاً ضد حكومات هذه الدول وسياساتها فحسب، بل كان الصراع موجهاً أيضاً ضد سياسات الدول الرأسمالية المتقدمة وشركاتها الاحتكارية التي فرضت هيمنتها على دول المنطقة بصور شتى، والتي كانت تضع قوى حركة اليسار إلى جانب الدول الاشتراكية، أو وكأنها تابعة لها كلية، وبالتالي كانت ترى ضرورة محاربتها لكي تحارب من خلال ذلك وجود الدول الاشتراكية أو الاتحاد السوفييتي فيها. وفي هذا ألحقت الحرب الباردة أضراراً فادحة بحركة اليسار وقواها السياسية ودورها الفكري والسياسي منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
أين تكمن معاناة قوى اليسار بالدول العربية؟ أدرك تماماً حين أجيب عن هذا السؤال، إنه يعبر عن اجتهادي الشخصي المتواضع الذي يعبر عن مشاركتي وتجربتي الشخصية ومتابعتي على مدى بضع وستون سنة من جهة، وعن وجود تباين مع أراء أخرى غير قليلة، وإنها تحتمل الخطأ والصواب والتدقيق من جهة ثانية، ولكنها تهدف إلى المشاركة في تحقيق نهوض جديد وفعال ومؤثر لقوى الحركة اليسارية بالدول العربية، وعموم المنطقة من جهة ثالثة. وألخص تلك المعاناة باتجاهين: ذاتي وموضوعي:
الجانب الموضوعي:
1.   إن استمرار معاناة قوى اليسار ناشئ عن عوامل كامنة في طبيعة علاقات الإنتاج المتخلفة السائدة فيها وتخلف مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية، وفي الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والثقافي لدول هذه المنطقة، إذ إنها لم تشهد حتى الآن عملية تنوير دينية واجتماعية، ولم تشهد نهضة فكرية ضرورية للخلاص من الجهل وأسس الغيبيات المشوِهة لفكر الإنسان ومنغصة عليه حياته. كما لم تتعرف على الحياة الديمقراطية وممارسة حقوق الإنسان، بل كل النظم التي نشأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر كانت وما زالت نظم سياسية غير ديمقراطية واستبدادية عسكرية أو حزبية أو حتى عشائرية وطائفية، وبالتالي لم تكن هذه الدول علمانية تفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والسياسة، في نظمها السياسية، بل كانت باستمرار تدعي بأن دين الدولة هو الإسلام، في حين أن الدولة، أي دولة، ليست سوى شخصية معنوية لا دين ولا مذهب لها، إذ لا يمكن أن يكون لها دين أو مذهب بأي حال. وكانت قوى معينة تسيطر على الدولة باسم الدين وتساهم في الإساءة للمؤمنين بهذا الدين أو ذاك، ولأنها لم تستطع الخروج من التخلف الاقتصادي ومن العلاقات الإنتاجية المتخلفة التي تعيق عملية إعمال العقل والتطور الفكري للإنسان. كما إن إسرائيل، التي تدعي العلمانية بدون وجه حق، تعمل اليوم على فرض اعتبار إسرائيل دولة يهودية، وهو تراجع سلبي شديد، حتى من الناحية الشكلية، بسبب ادعائها الباطل بالعلمانية. وقوى اليسار الإسرائيلي تعاني من سياسات الحكومة اليمينية المتطرفة بإسرائيل.
2.   وفي هذه الدول لعب شيوخ الدين والفكر الديني والخطاب الديني دوره في الإساءة لقوى اليسار وتشويه مراميها ونضالها وبرامجها السياسية والاجتماعية، مما عقد على حركة اليسار تعزيز العلاقات الضرورية مع فئات المجتمع. إذ كان على قوى اليسار وأحزابها، أن تخوض النضال بحزم وصرامة ضد هذه القوى، وأن توضح موقفها من غالبية شيوخ الدين الذين يمارسون نهج تشويه وعي الإنسان وتزييفه. وإذ كانت هذه اللوحة قد برزت في فترات سابقة وقبل الحرب العالمية الثانية، إلا إنها قد تفاقمت في فترات لاحقة، وهي تلعب اليوم دوراً مريعاً ودموياً في عدد غير قليل من دول المنطقة وخاصة في أعقاب الثورة الإيرانية وهيمنة شيوخ الدين المتطرفين على الحكم بإيران، إضافة إلى شيوخ الدين الأكثر تطرفاً بالمملكة السعودية، وكذلك بالعراق والسودان أو غيرهما. كما لعبت القوى القومية الشوفينية، قوى البرجوازية الصغيرة اليمينية، ومنها قوى حزب البعث العربي الاشتراكي، بسياساتها الاستبدادية والشوفينية وممارساتها باسم العلمانية واليسار المشوه، وهي في الحكم أو خارجه، دورها في الإساءة لقوى اليسار وإلحاق أكبر الأذى بها والعمل على تحجيمها. وهو نفس الدور الذي بدأ به ووضعه كمهمة مباشرة منذ العام 1947/1948 ميشيل عفلق وصحبه، حين أسسوا حزب البعث ومنحوه مهمة مكافحة الشيوعية في الدول العربية على وفق تصريحات عفلق بالذات. 2
3.   إن النضال الطويل الذي خاضته الأحزاب الشيوعية وقوى اليسار الأخرى خلال العقود التي تتراوح بين خمسة وتسعة عقود منصرمة كان معقداً ومتشابكاً لأنه تداخل بين النضال ضد الهيمنة الاستعمارية وضد القوى الرجعية في البلاد، وأدى إلى ارتكاب جملة من الأخطاء السياسية والاجتماعية في مجال تحديد مهمات المرحلة، والقوى التي يهمها تحقيق تلك المهمات، وعلاقاتها العامة الداخلية والإقليمية والدولية، والتي استثمرت من جانب القوى المضادة لإجهاض حركة اليسار وتعريضها لأضرار كبيرة. وقد كان للمؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في العام 1952 بقيادة جوزيف ستالين، الذي تحدث فيه عن خيانة البرجوازية لمصالح الشعب والوطن في العالم الرأسمالي، والتي أمنت بها الأحزاب الشيوعية، ومنها دول في منطقة الشرق الأوسط وأعاقت عملية التحالف مع البرجوازية الوطنية. وكان لها الأثر السلبي الكبير على الوضع السياسي، ومنها بشكل خاص اتخاذ حزب تودة موقفاً سلبياً من حكومة وسياسة دكتور محمد مصدق على سبيل المثال لا الحصر، أو إصرار الأحزاب الشيوعية بالدول العربية على إقامة الجبهات الوطنية الموحدة بقيادتها وليس غير ذلك! يمكن بهذا الصدد مراجعة كتاب حسين محمد الشبيبي (صارم)، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، عن الجبهة الوطنية الموحدة طريقنا وواجبنا التاريخي، والذي كتب يوسف سلمان يوسف (فهد)، سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي، مقدمته وصدر في العام 1947/1948، 3 على سبيل المثال لا الحصر.
4.   إن غياب الديمقراطية بالدول العربية ومصادرة حقوق الإنسان وحقوق القوميات وإصدار قوانين تحارب وتسجن الشيوعيين والقوى اليسارية والديمقراطية عموماً أجبر الأحزاب الشيوعية والعمالية في أغلب الدول العربية إلى العمل في السر، وهذه الحالة قد أثرت بشكل سلبي على الحياة الديمقراطية في هذه الأحزاب. يشير الرفيق فهد في كراسه الموسوم "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية بهذا الصدد بصواب، والذي صدر على شكل رسالة موجهة إلى الأخ مقدام، ما يلي:
"فالشيوعيون ليسوا من عشاق السراديب والسجون وليسوا ممن يرتاحون الى تعريض بيوتهم الى غارات الشرطة وإرهاب من فيها وأحيانا أخذهم رهائن - كما حصل في غارات حزيران المنصرم - وليسوا ممن يحبون رؤية وجه الجاسوس الذي يتبعهم كظلهم، ولكنهم يتحملون كل هذه وأكثر منها برغم أنف العدو الذي يحاول تهزيمهم من الميدان _ عن طيب خاطر لسبب يحلونه فوق ذواتهم وفوق بيوتهم، أنهم يعشقون مثلا أعلى في الحياة لطبقتهم وللبشرية أجمع، أنهم يكرهون عن وعي أعداء طبقتهم الواقفين حجر عثرة في طريق تقدم الانسانية."4   
الجانب الذاتي:
1.   إن الواقع الاجتماعي والثقافي والظروف المعقدة التي مرّت بها الحركة اليسارية، وخاصة الحركة الشيوعية كجزء منها، قد أعاقت تطور المستوى الثقافي والمعرفي العام لدى الغالبية العظمى من قوى اليسار وعلى فهمها للماركسية وللواقع الذي تعيش فيه وتناضل من أجل تغييره. وانعكس ذلك على مستوى نضوج القيادة والكوادر والأعضاء وقدرتهم التحليلية، والتي بالرغم من ضعفها، كانت أعلى مستوى من الغالبية العظمى من السكان، خاصة وأن نسبة المثقفين في الحركة اليسارية كانت عالية حقاً ومن فئات البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة بشكل عام. ومن المعروف للجميع بأن من يعمل، يرتكب في مسيرته بعض الأخطاء، وليس هذا بغريب ولا يشكل عيباً، إلا إن العيب حين تدرك هذه القوى أخطاءها ولا تسعى إلى تصحيحها، بل وتعيد ارتكابها بطريقة أخرى. ومع ذلك فأن قوى حركة اليسار لعبت دوراً مهماً وكبيراً في النضال من أجل انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية في مرحلة النضال ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية، وفي عملية التنوير الفكري والاجتماعي والسياسي، وفي انتزاع جملة من المكاسب للمنتجين والكادحين وللمرأة في مختلف الدول التي عملت فيها تلك القوى، بمن فيها وفي مقدمتها الأحزاب الشيوعية.
2.   لقد ارتكبت الأحزاب الشيوعية والكثير من قوى اليسار بالدول العربية خطأ كبيراً حين اعتقدت بأن عليها الالتزام بما يقرره الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، باعتباره مركز وقائد الحركة الشيوعية العالمية، قائد الأممية الثالثة، حتى بعد أن تم حل الكومنترن في العام 1943. وكان الشعار السائد " التعلم من الاتحاد السوفييتي وحزبه يعني تعلم تحقيق النصر". وقد أدى هذا الواقع إلى سقوط الأحزاب الشيوعية في حالة مريرة من الجمود العقائدي وعدم إعمال العقل والمبادرة وانتظار المبادرة والرأي من الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، دون أن يعوا هذه الحقيقة لإيمانهم المطلق بصواب قرارات الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والدولة السوفييتية. إن هذا الخطأ لا يتحمله الحزب الشيوعي السوفييتي وحده، بل الأحزاب الشيوعية في الدول العربية، وحيثما سارت على نفس النهج. وكلنا يتذكر كيف إن الكثير من القضايا الخلافية في الأحزاب الشيوعية في الدول العربية كانت ترفع إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي والعلماء السوفييت لإعطاء الرأي بها، كما حصل بالنسبة للخلافات داخل قيادة الحزب الشيوعي السوري مثلاً، والتي انتهت إلى انشقاق، ثم انشقاقات متتالية، أو الموقف من النقاشات التي دارت في الحزب الشيوعي العراقي حول برنامجه الوطني الذي قدم إلى المؤتمر الثالث في العام 1976. لقد انتهى مركز الحركة الشيوعية، الحزب الشيوعي السوفييتي، ولا يمكن ولا يجوز للحزب الشيوعي الروسي أن يلعب هذا الدور، ويفترض ألا يلعبه أي حزب شيوعي آخر مثل هذا الدور. إذ لا تحتاج الأحزاب الشيوعية بالدول العربية أو غيرها إلى مركز للحركة، بل هي وكل قوى اليسار الأخرى بحاجة إلى التشاور والتداول والنقاش في ما بينها أولاً، وإلى تضامنها في النضال من أجل أهدافها المشتركة ثانياً.
3.   إن التشرنق الفكري السابق أعاق تأمين وحدة القوى اليسارية أو تفاعلها المتبادل وتضامنها في النضال، وكان الصراع والاحتراب الداخلي والانشقاقات والاتهامات بالانحراف والانتهازية والخروج عن الماركسية – اللينينية هو سيد الموقف. والحراك السياسي الفعال، يفترض أن يكون قد انتهى، وأن تمارس الأحزاب الشيوعية وبقية القوى اليسارية التمعن بالمنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخ ودراسة الواقع القائم والإمكانيات والحاجيات ليخرج كل منها إلى وضع استراتيج وتكتيك هذا الحزب أو ذاك دون وصاية من أحد أو تدخل في شؤونه.
4.   إن التغييرات التي تحتاجها قوى اليسار كلها تتجه صوب القواعد التي التزمت بها ومارستها وأخلت بالديمقراطية فيها والتي تجلت بشكل صارخ في حياة الأحزاب الداخلية وفي العلاقات مع الأعضاء ومع المؤيدين والجماهير الواسعة، ومنها المركزية الديمقراطية واسلوب ممارسة النقد والنقد الذاتي والطاعة الحزبية وما يطلق عليه بوحدة الإرادة والعمل وسبل تحقيقها...الخ.
5.   الخشية السابقة من خوض الصراع الفكري إزاء قوى الإسلام السياسي والفكر الديني والتشوهات التي أفسدت وعي الإنسان بالدول العربية، يفترض أن تنتهي وأن تعمل على مواجهة هذه القوى بطريقة ذكية وفاعلة ومحركة للعقل وفعله ونتائج هذا الفعل. إن الدعوة في المرحلة الراهنة يفترض أن تتوجه صوب إقامة المجتمع المدني الديمقراطي، المجتمع العلماني الفاصل بين الدين والدولة، وبين سلطات الدولة الثلاث، واستقلال القضاء، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة ...الخ.



405
واقع ومشكلات حركة اليسار على الصعيدين العالمي والعربي
 
(2-4)
اليسار العالمي والموقف من مشكلات العالم الرأسمالي

حين يتابع الإنسان حركة اليسار على الصعيد العالمي، سيجد أنها وخلال الأعوام المنصرمة حققت بعض النجاح في بعض دول أمريكا اللاتينية، وهي تحاول البناء على ذلك لتوسيع قاعدتها وتحسين قدراتها والدفع بها إلى الأمام، ولكنها لا تزال دون المستوى المطلوب الذي كانت عليه في فترات سابقة. وهي تتحرك في محاولة لمعالجة الأزمة الفكرية والسياسة بصورة جادة، ولكنها ما تزال تعاني منها نسبياً. خاصة وهي تواجه وحدة صارخة لقوى اليمين في مقابل ضعف الوحدة لقوى اليسار والتقدم.
إن القاعدة الاجتماعية لقوى اليسار في العالم كبيرة جداً من الناحية الموضوعية، وتشكل ما يزيد عن 85% من مجموع سكان المعمورة، ولكن نسبة عالية منها لا تساهم في عملية تغيير هذا العالم، لأنها ما تزال بعيدة عن المسرح السياسي والاجتماعي والثقافي، وعن التعليم بشكل خاص، ونسبة عالية منها بعيدة عن إدراك عمق الأزمة التي تعيش فيها والمحن التي تواجهها نتيجة تأثير الفكر الديني التخديري المباشر والبالغ الضرر عليها، والمشوه والمزيف لوعيها بواقعها الرث القائم، وتطلعها الدائم إلى العيش في حياة أخرى هانئة في العالم الآخر، عالم ما بعد الموت!! فمقولة شيوخ الدين ما تزال راسخة جداً في رؤوس الملايين من البشر: "من يتعذب أكثر في دنياه، يعيش مرفهاً أكثر في آخرته!!". وكم كان كارل ماركس صادقاً مع نفسه ومع البشرية حين أكد استناداً إلى هذا التثقيف المشوه "الدين أفيون الشعوب"!! إذ ليس هناك من يربح من هذا التثقيف المبتذل والمقصود غير الأغنياء والميسورين والمستغلين والمتحكمين بالاقتصاد العالمي والإقليمي والمحلي، فهم الذين يروجون لمثل هذا الرأي المبتذل وهم بالذات لا يعملون به أبدا!!!
ولهذا لا بد لقوى اليسار من العمل الدؤوب والجاد مع هذه القاعدة الشعبية والاجتماعية الواسعة وتنشيط دور المثقفات والمثقفين ليزيدوا من اهتمامهم بهذه العملية التنويرية المعقدة والطويلة والصبورة، التي يفترض أن تكون كثيفة ومستمرة ومتنامية.
إن مناهج التحليل التي وضعتها القوى اليسارية والنظريات التي وضعتها استناداً على تلك المناهج، وخاصة المنهج المادي الديالكتيكي والمادي الجدلي، يفترض أن تغتني وتتطور في القرن الحادي والعشرين بالاستفادة من ثلاث مسائل جوهرية: 1) الثورة العلمية والتقنية، ثورة الإنفوميديا، ثورة المعلومات والاتصالات وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على مستوى تطور القوى المنتجة البشرية والتغيرات الجارية في البنية الطبقية للمجتمع؛ 2) استيعاب الواقع الموضوعي القائم بتعقيداته وتشابكاته الكثيرة والعوامل الدولية والإقليمية والمحلية المؤثرة فيه والمتبادلة التأثير؛ 3) التجارب الغنية التي مرَّت بها حركة اليسار العالمية خلال القرن العشرين، والتي اختبرت بها مناهجها ونظرياتها وبرامجها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويفترض أن يساعد كل ذلك على صياغة الأهداف الآنية والمتوسطة وذات المدى البعيد أو الآفاقية، بعيداً عن التحليق في فضاءات وردية دون امتلاك القدرة للوصول إليها في المدى المنظور، ولا النكوص إلى الوراء.
إن قوى الاستغلال في العالم الرأسمالي المتقدم لا تزال متوحشة في رغبتها الجامحة لاستغلال شعوبها وشعوب الدول النامية، وهي التي تتجلى في مستوى الأرباح التي تحققها سنوياً من خلال العمليات الإنتاجية، أو المضاربة في الأسواق المالية، أو نتيجة احتكار أسواق وسلع بعينها، أو نتيجة سيطرتها على الاستثمارات الرأسمالية، وكذلك الهيمنة على براءات الاختراع والتقنيات الحديثة.. الخ. وهي التي تتسبب في المزيد من التناقضات والصراعات والنزاعات على الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، وهي التي تخلق في الوقت ذاته الأرضية الصالحة لعمل قوى اليسار في جميع أرجاء المعمورة. ولكن على قوى اليسار تقع مسؤولية إيجاد السبل والوسائل والأدوات والآليات المناسبة والخطاب السياسي العقلاني المتجدد، لتحريك الجماهير الواسعة للنضال من اجل مصالحها، التي لا تشمل العمال والفلاحين حسب، بل والكسبة والحرفيين والمثقفين والعاطلين عن العمل والمشردين من النساء والرجال، كما إنها تشمل في الدول النامية البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة بكل فئاتها، التي تواجه العنت والمحاربة من الرأسمال الأجنبي ومن الفئات المحلية المتحالفة معه. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما العمل؟
من أجل أن تستعيد قوى الحركة اليسارية على الصعيد العالمي دورها ومكانتها في النضال من أجل عالم أكثر أمناً واستقراراً وسلاماً وأكثر عدلاً وسعادة لبني البشر، من أجل الاشتراكية على المدى البعيد، لا بد لها أن تعيد النظر ببرامجها النضالية على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، من خلال دراسة التجارب المنصرمة وأسباب النجاحات التي تحققت في المسيرة الطويلة منذ ما يقرب من قرنين من السنين، وأسباب الإخفاقات التي تعرضت لها والنكسة الكبيرة التي رافقتها خلال العقود الثلاثة المنصرمة على نحو خاص، والأزمة الراهنة التي تمر بها. كما يتطلب الأمر تشخيص المشكلات التي تجابه البشرية بشكل عام على الصعيد الدولي، وأسبقيات النضال في المرحلة الراهنة وعلى مدى العقدين القادمين مثلاً.
إن الكف عن التفكير بخلق مركز للحركة اليسارية، لا يعني الكف عن التشاور بين مكونات وأطراف هذه الحركة على الصعيدين الإقليمي والعالمي، دون وضع عراقيل أو رفض مشاركة هذا الطرف أو ذاك منها، أو محاولة فرض طرف رأيه على الأطراف الأخرى، إذ أن التشاور والتداول والتفاعل أمر ضروري والتقارب يساهم في بلورة الاتجاهات العامة التي يمكن أن تسير فيها الحركة اليسارية دون إلزام لأي منها بذلك، إضافة إلى الاختلافات في الظروف والشروط المحلية لكل حزب أو جماعة من مكونات هذه الحركة الواسعة.
ويبدو لي أن اهتمام الحركة اليسارية على الصعيد العالمي يفترض أن يتوجه صوب النقاط التالية في المرحلة الراهنة، والتي يكون في مقدورها تعبئة المزيد من الرأي العام العالمي حولها من جهة، مع ضرورة قيام كل طرف من أطرافها في ربط تلك المهمات الدولية بالمهام الإقليمية والمحلية بصورة عضوية وفعالة من جهة ثانية، لخلق التناغم والانسجام في الحركة العامة، إذ أن مستويات تطور البلدان متباين بصورة كبيرة، وخاصة بين الدول الرأسمالية المتقدمة، والتي تشكل مراكز العالم الرأسمالي، والبلدان التي هي على حافة التحول صوب الرأسمالية، والبلدان النامية، التي تشكل محيط تلك المراكز والمُستغلَة فعلياً منها.
تبرز أمامنا مهمات كونية مثل:
**  مخاطر وجود أسلحة الفتك والدمار الشامل، وخاصة الأسلحة النووية والكيمائية والبيولوجية، في الكثير من دول العالم وسبل منع انتشارها أولاً، والعمل على إزالتها من جميع الدول صغيرها وكبيرها.
 ** رفض شن الحروب والعنف واستخدام السلاح، ومنع استمرار سباق التسلح في العالم، الذي يهدد المزيد من البشر بالموت المحقق، ومن أجل حل المشكلات والنزاعات حول الحدود والمياه والمشكلات الأثنية والحقوق القومية للشعوب، إضافة إلى معالجة القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والصراع العربي–الإسرائيلي، بالطرق التفاوضية السلمية وعبر المؤسسات الشرعية والإقليمية والدولية على أسس ديمقراطية وعادلة، وإلزام دولة إسرائيل بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي كافة، والتي اتخذت حتى الآن موقف الاستهانة الكاملة بهذه المؤسسات الدولية وعدم احترام لقراراتها ومصالح الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم. 
 ** العمل على مواجهة تفاقم الاحتباس الحراري والتغيرات الجارية على البيئة الدولية، بسبب تفاقم التلوث بمختلف مكوناته، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتغيير نمط الحياة الاستهلاكية المتفاقمة في البلدان المتقدمة بشكل خاص. ولا بد من تشخيص حقيقة تفاقم الكوارث الطبيعية في العالم، نتيجة الاستخدام غير العقلاني للثروات الطبيعية ونزعة الاستهلاك الموغلة بالتبذير والركض وراء معدلات النمو والربح من تلك القوى التي تستغل الطبيعة والإنسان أسوأ استغلال وترفض التعامل مع مشكلات البيئة تعاملاً حضارياً وإنسانياً.
**  مع القناعة بان ظاهرة العولمة ليست سوى مرحلة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية موضوعياً على الصعيد العالمي، وإنها من حيث المبدأ ليست ظاهرة سلبية بل هي حتمية مرتبطة بمستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية والثورة العلمية الهائلة في التقنيات والاتصالات (الإنفوميديا)، ولكن لا بد من التصدي للسياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة، وإزاء شعوب الدول النامية، إذ إنها تعبر عن نفس جوهر السياسات الاستغلالية للرأسمالية العالمية في مرحلة الاستعمار القديم، التي تعتمد، ومنذ أكثر من عقدين، سياسات اللبرالية الجديدة ذات النهج العنفي والعدواني في التعامل مع شعوب البلدان النامية على نحو خاص، وإزاء شعوبها والفئات الكادحة منها على نحو صارخ. ورغم صعوبة هذه العملية إلا إن في مقدور الدول النامية، وعبر إعادة إحياء منظماتها الدولية السابقة والقائمة، التي يستوجب تطوير مضامينها بما يتناسب والتغيرات الحاصلة في العالم، أن تحقق نتائج إيجابية لتقدمها بوتائر أسرع وتحسين ظروف حياتها ومشاركتها في التنمية وتحسين حصتها في الإنتاج والاستهلاك والتبادل التجاري الدولي وفي توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي، وتقليص سلبيات السياسات المبنية على هذه الظاهرة الموضوعية على شعوب البلدان النامية وكادحي الدول الرأسمالية المتقدمة.
**  إن العالم الذي نعيش فيه عالم واحد، ولكنه منقسم إلى عالمين مختلفين وغير متكافئين ومتصارعين، عالم الدول المتقدمة والغنية المكون من 20% من نفوس شعوب العالم والذي يهيمن على 80% من الثروات المنتجة في العالم، وعالم الدول النامية والمتخلفة والفقيرة المكون من 80% من نفوس شعوب العالم، ولا يحوز إلا على 20% من الثروات المنتجة في العالم. كما أن كل بلد من بلدان هذين العالمين تتوزع الثروة في مجتمعاتها بصورة غير عادلة ومجحفة، فئات قليلة غنية ومتخمة، وفئات كبيرة وكثيرة فقيرة ومحرومة. كما أن مكانة ودور البلدان النامية في التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل وفي التجارة الخارجية، وخاصة الصادرات، ضعيفة جداً وغير متوازنة وغير متكافئة. وتلعب المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة دوراً سلبياً على اقتصاديات الدول النامية والتي يستوجب تغييره لصالح هذه البلدان.
 ** ويتبلور هذا الواقع في الفجوة الكبيرة جداً ليس في التباين الشديد والفجوة العميقة بين مستوى حصة الفرد الواحد من الدخل القومي في كل من هذين العالمين حسب، بل وبالأساس في مستوى تطور القوى المنتجة، وطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في كل منها، ومستوى تقدم أو تخلف البحث العلمي واستخدام التقنيات الحديثة والتصنيع وتحديث الزراعة ومستوى التعليم والأمية...الخ، إضافة إلى أن التباين الشديد والمختل في تقسيم العمل على الصعيد العالمي.
 ** من هذا الواقع غير العادل ومن مستوى التخلف الحضاري وغياب التنوير الديني نشأ وتطور التعصب والتزمت والتطرف الديني، والذي نشأ عنه الإرهاب الديني وانجرار جماعات غير قليلة من البشر إليه، وخاصة في الدول التي أكثرية سكانها من المسلمين. حتى في الدول الريعية المالكة للنفط الخام أو موارد أولية استراتيجية أخرى يلاحظ وجود فجوة كبيرة جداً في الدخول السنوية، مما يسهم في إشاعة التعصب الديني وبروز حاد لظاهرة الإرهاب. ولا شك في أن هناك دولاً تمارس هي الإرهاب الفكري وتتنافس مع تلك القوى الإرهابية في سياساتها المنافية لحقوق الإنسان والحياة العامة والديمقراطية.
 ** إن السياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة على الصعيد العالمي، والجموح الجشع لتحقيق المزيد من الأرباح على حساب الإنسان والطبيعة وتفاقم سياسات المضاربات المالية والفساد المالي المتعاظم على الصعيد العالمي، تؤدي إلى تفاقم حالة الإخلال بالقوانين الاقتصادية الموضوعية، والتي تنشأ عنها أزمات اقتصادية دورية وأزمات مالية واقتصادية عامة وشاملة على الصعيد الدولي، كما حصل في الأزمة المالية-العقارية، التي بدأت في العام 2008 بالولايات المتحدة وامتدت إلى العالم الرأسمالي كله، والتي ما تزال عواقبها فاعلة حتى الآن. مع واقع بروز إمكانيات أفضل للسيطرة على هذه الأزمات الدورية وغيرها دولياً بحكم واقع العولمة الجارية، ولكن عواقبها الشرسة تقع على عاتق كادحي الدول الرأسمالية المتقدمة ومنتجي الثروات والفقراء فيها أولاً، وعلى عاتق شعوب الدول النامية والكادحين فيها على نحو أخص. وهو ما عاشت في أجوائه شعوب العالم خلال السنين المنصرمة وما تزال مستمرة.
 ** إن العالم الرأسمالي الذي أُجبر في سنوات الحرب الباردة على المساومة مع الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين ومع فئات التكنوقراط، والتي تجلت في مكاسب جيدة تحققت لها في مجال تقليص ساعات وأيام العمل والأجور والضمان الصحي والاجتماعي وضمان الشيخوخة والعجز والعطل السنوية وتحسين ظروف العمل والسكن ومشاركة النقابات في الكثير من القضايا التي تمس العمل والعمال، فأن نهاية الحرب الباردة بين الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية وانهيار النظم السياسية في الدول الأخيرة، قد أنهى روح الاستعداد للمساومة لدى أصحاب رؤوس الأموال إزاء مطالب العمال والمنتجين الآخرين والمثقفين، (عدا الفئات العليا من التكنوقراط)، وبدأت روح الجشع ورفض المساومة والإصرار على تحقيق أقصى الأرباح على حساب العمل الأجير. وهي سلبيات بدأت تبرز منذ العقد الأخير من القرن العشرين ولا تزال متواصلة في الواقع المعاش بشكل صارخ، كما سلبت الكثير من تلك المكاسب تدريجاً وعلى مراحل قصيرة خلال الفترة المذكورة، مما يجعل وضع المهمات الاجتماعية ضمن برامج حركة اليسار مهمة آنية وضرورية.
 ** ويمكن تشخيص جملة من الظواهر السلبية المتفاقمة في هذه المرحلة من تطور المجتمع البشري، منها بشكل خاص انتشار الفساد المالي والإداري في هذا العصر وتنامي عصابات الجريمة المنظمة في مجال المتاجرة بالمخدرات والجنس وغسيل الأموال وبأعضاء جسم الإنسان وتهريب البشر، إضافة إلى تفاقم الهجرة البشرية بسبب الحروب المحلية أو الإقليمية. وتزداد نسبة الجماعات البشرية التي تصبح ضحية لكل من هذه الممارسات وغيرها المخالفة لحقوق الإنسان.
 ** كما تتعرض المرأة في الكثير من بلدان العالم إلى الظلم والاضطهاد ومصادرة الحقوق وانعدام المساواة بين النساء والرجال، إضافة إلى تعرض الملايين من الأطفال إلى المزيد من الظلم والاضطهاد وفقدان الحقوق والعمل في سن الطفولة والصبا والمعاناة من سوء التغذية والجوع والحرمان من التعليم والحياة الثقافية.
 ** وتسجل إشكاليات الهروب من الحروب الأهلية والصراعات القبلية والتغيرات المناخية وتلوث البيئة والتصحر والانهيارات والجفاف والشحة والبطالة إلى حركة هجرة ولجوء واسعتين جداً في ما بين المناطق والأقاليم المختلفة والتي تشكل عبئاً ثقيلاً على البشر، وعلى المنظمات الدولية التي يفترض أن ترعى المهاجرين واللاجئين وغيرهم. وأخر المعلومات الدولية تشير إلى بلوغ العدد أكثر من 60 مليون إنسان هائم على وجهه في العالم.
**  وإزاء كل هذه المشكلات، كيف يمكن تنشيط المؤسسات الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والمحكمة الدولية في لاهاي، ومحكمة حقوق الإنسان، واليونسكو، واليونسيف، ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، والكثير من المنظمات الدولية، مثل منظمة العفو الدولية، ومراقبات حقوق الإنسان، ومنظمات حقوق الإنسان الإقليمية والمحلية الأخرى، لتلعب دورها، الذي خبا لفترة غير قصيرة وأصبح لصالح الدولة الأعظم، الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى حساب دور ومكانة تلك المنظمات  والشعوب.
إن تشخيص هذه المشكلات على الصعيد العالمي من جهة، ومعرفة قدراتها في التأثير وتحريك الرأي العام العالمي والحكومات المختلفة بأساليب وأدوات نضالية تفرضها ظروف كل مجتمع من جهة أخرى، يساعدان الحركة اليسارية على صياغة المهمات الآنية على الصعيد العالمي لخوض النضال من أجل حلها لصالح الإنسان والتقدم الحضاري والخلاص من الاستغلال، إذ إن كل فقرة من الفقرات الواردة في أعلاه يفترض أن تصاغ في مهمة أو أكثر لتكون البوصلة والهدف، وهما يؤشران طريق النضال على الصعيد العالمي.
كما أن الربط العضوي في ما بين المشكلات الدولية والإقليمية والمشكلات المحلية سيسهم في وضع برنامج متكامل مرحلي لقوى اليسار بصورة مستقلة في كل بلد من البلدان بشكل ملموس ودقيق وقابل للتحقيق، إنه الضمانة لقوى حركة اليسار في الابتعاد عن الهروب إلى أمام أو النكوص إلى وراء.
إن لقاءات بين قوى اليسار في كل من القارات الخمس أو أقاليم فيها لتنشيط التبادل الفكري والتجربة المتراكمة والنقاش والتفاعل سيساعد على بلورة شعارات تعبر عن تلك المهمات على الصعد الإقليمية أيضاً، ومتابعة تنفيذها، وليس من أجل خلق وحدة شكلية في ما بينها، بل من أجل التنسيق والتنوير العام لمهمات النضال، في حين عليها ان تمارس مهماتها بصورة مستقلة مع ضمان تحقيق التضامن في ما بينها. كما عليها أن تستفيد من تجربة الأحزاب الشيوعية والعمالية التي شابها الكثير من الخلل وضعف الاستقلالية إزاء الحزب الشيوعي بالاتحاد السوفييتي سابقاً وفي علاقاتها ونشاطها الراهن والمستقبلي.



406
كاظم حبيب
واقع ومشكلات حركة اليسار على الصعيدين العالمي والعربي

واقع ومشكلات حركة اليسار على الصعيدين العالمي والعربي. 1
(1) 1
عوامل انتكاسة حركة اليسار على الصعيد العالمي. 1
(2) 6
اليسار العالمي والموقف من مشكلات العالم الرأسمالي. 6
(3) 12
واقع ومهمات قوى اليسار في الدول العربية 12
(4) 17
المهمات المباشرة لقوى اليسار بالدول العربية 17
 
(1-4)
عوامل انتكاسة حركة اليسار على الصعيد العالمي

واجهت مجمل حركة اليسار وأحزابها السياسية على الصعيد العالمي انتكاسة شديدة بدأت زاحفة بصورة سريعة مع الثلث الأخير من القرن العشرين، وتواصلت بوتائر أسرع مع بداية القرن الحادي والعشرين منزلة خسائر كثيرة وكبيرة في قوى هذه الحركة من الناحيتين الفكرية والسياسية، ومشيرة إلى حصول تراجع شديد في قدرة قوى الحركة في التأثير على الفئات الاجتماعية، وخاصة تلك التي تسعى للتعبير عن مصالحها الراهنة والمستقبلية. وكان انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه بقية بلدان المنظومة قد دفع بحركة اليسار إلى المزيد من التراجع، إذ أنها كانت بمثابة الزلزال الذي هزَّ الأحزاب الشيوعية في مختلف بلدان العالم بشكل خاص، ولكنه مسَّ أيضاً بقية قوى اليسار بالعالم بعطب شديد. والذي ما يزال، رغم مرور أكثر من ربع قرن على ذلك، يلعب دوره السلبي في دور ومكانة وتأثير الأحزاب الشيوعية خصوصاً واليسار بشكل عام. يضاف إلى ذلك محاربة النظم والقوى السياسية اليمينية والشوفينية والمتطرفة لقوى اليسار، وخاصة في الدول النامية، متعاونة في ذلك مع الدول الكبرى المناهضة للفكر اليساري عموماً والقوى الحاملة للفكر الاشتراكي ورفض استغلال الشعوب.
لم تكن هذه الانتكاسة غير واضحة المعالم لعدد غير قليل من الباحثين والمتابعين لحركة اليسار في العالم، كما لم تكن مفاجئة لهم، إذ كانت مؤشرات ذلك قد برزت بشكل جلي منذ ستينات وسبعينات القرن العشرين، إذ قدرَ الكثير منهم أن جموداً عقائدياً فعلياً في الفكر والممارسة قد حل بالأحزاب التي تبنت الماركسية-اللينينية والتي ساهمت بأدوار ونسب متباينة في تشويه النظرية الماركسية في الممارسة العملية، ليس في الدول الاشتراكية حسب، بل وفي جميع أو غالبية الأحزاب الشيوعية والعمالية القائمة في مختلف دول العالم. وقد نشأ عن ذلك أزمة فكرية عميقة شملت الحركة الشيوعية والعمالية العالمية وأحزابها السياسية وبقية مكونات الحركة اليسارية العالمية. كما تجلى في عجز قوى هذه الحركة عن إدراك واقع وطبيعة وعمق هذه الأزمة وأبعادها، والعواقب المترتبة على استمرارها، وغياب الاستعداد الفعلي على الاعتراف بوجودها، وما نجم عن ذلك من ابتعاد فعلي عن مواجهتها ومعالجتها. وأدى ذلك إلى استفادة العالم الرأسمالي من كل ذلك، وسعيه إلى تعميق الهوة وتوسيعها، ونشر الحقائق عما كان يجري في بلدان المنظومة الاشتراكية من أخطاء ونواقص وفساد وبيروقراطية وتجاوز فظ على حقوق الإنسان وحقوق القوميات والجمهوريات، السوفييتية، وسوء إدارة وتنظيم، وتراجع شديد في العملية الاقتصادية، بسبب الإهمال أو التعسف والابتعاد عن الفهم الواقعي والتعامل السليم مع القوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي الموضوعية، إضافة إلى إهمال مصالح المجتمع، والغوص في المصالح الذاتية والانتهازية. وعلينا هنا أن نشير إلى الفخ الذي سقط فيه الاتحاد السوفييتي في دخول القوات السوفييتية إلى افغانستان واستنزافها إلى ابعد الحدود واضطرارها إلى الانسحاب غير المنظم بعد فوات الآوان.
وبما إن الدول الاشتراكية لم تنشر أو تنتقد الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها على الصعيدين الداخلي والدولي، فقد فسح هذا في المجال للدول الرأسمالية إلى طرح مبالغات كبيرة، رغم وجود تلك الأخطاء والنواقص والاختلالات التي قادت في المحصلة النهائية إلى انهيار تلك النظم من الداخل أساساً، وليس بفعل العامل الخارجي رغم أهميته ودوره النسبي. 
لقد أدى انهيار المنظومة الاشتراكية إلى عواقب بالغة الضرر ليس بتلك الأحزاب والأعضاء والمؤيدين لها، نتيجة الإحباط الشديد، فحسب، بل إلى تشويه سمعة الشيوعية والاشتراكية وحركة اليسار، التي تعرضت إلى أضرار بالغة في أوساط واسعة من القوى الشعبية في مختلف بقاع العالم، والتي كانت تتوقع نتائج أخرى غير التي حصلت فعلاً.
لقد حاول العالم الرأسمالي والفكر البرجوازي الادعاء بأن الرأسمالية قد انتصرت وإلى الأبد، وأن الاشتراكية قد انتهت وإلى الأبد، وبرز كتاب في مختلف بقاع العالم يروجون لهذه الموضوعة الخاطئة. وفي الحقيقة لا الرأسمالية قد انتصرت، ولا الفكر الاشتراكي قد انهار. إن الانهيار قد أصاب تلك النظم السياسية التي ابتعدت عن الفكر الاشتراكي ومبادئ الاشتراكية، وعن الإدراك الواعي والاستيعاب الجيد والتعامل الذكي والموضوعي مع القوانين الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية، وبالتالي، فأن انهيار الدول الاشتراكية لم يكن مأسوفاً عليه من قبل شعوبها. ومع ذلك فقد شكلت في الواقع التجربة الثانية والجديدة للفكر الاشتراكي وللمناضلين في سبيل الاشتراكية خلال الفترة 1917-1989 بعد تجربة كومونة باريس 1871. 
علينا كمفكرين ومناضلين يساريين في إطار الحركة اليسارية العالمية أن نعترف بأننا ما زلنا نواجه ثلاث مشكلات جوهرية، وهي:
** إن حركتنا اليسارية ما تزال تعاني من أزمتها الفكرية والسياسية، رغم صدور عدد كبير من الدراسات الغنية في هذا المجال، والتي تتجلى في الفكر والسياسة بشكل خاص، والتي لم تُعالج عملياً إلى الآن، رغم اتخاذ جملة من الإجراءات الطفيفة التي لم ترق إلى مستوى المعالجة الجذرية والضرورية. وإنها لم تستطع إلى الآن إعادة علاقاتها الطبيعية مع فئات المجتمع، بل تعاني من جزر شديد غير منقطع. ويمكن أن نلاحظ ذلك في أوضاع الأحزاب الشيوعية في دول الاتحاد الأوروبي، ومنها فرنسا وإيطاليا، التي تعاني اليوم من تراجع شديد في شعبيتها وعلاقتها ودورها وتأثيرها في الحياة السياسية وفي حركة الجماهير الشعبية، بالمقارنة مع ما كانت عليه في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي وتفاقم أزمة الأحزاب الشيوعية والعمالية على الصعيدين العالمي والمحلي.
** وإن قوى اليسار في العالم والقوى المساندة لها ما تزال تعاني من إحباط شديد، بسبب سياسات الهروب إلى أمام، ومحاولة القفز فوق المراحل من الناحيتين الفكرية والسياسية، إضافة إلى جماهير واسعة أخرى لم تجد ما يساعدها لاستعادة ثقتها بحركة وقوى اليسار والنهوض من كبوتها بسياسات أكثر عقلانية وتعبئة لفئات المجتمع. ولا شك في أن هناك من أحبط كلية وتخاذل وترك الساحة النضالية اليسارية.
** وأن هناك قوى كثيرة ذات إيديولوجية مناهضة لحركة اليسار عموماً، ما تزال تسعى إلى تعميق الإحباط والتراجع في الحركة اليسارية، واستثمار الخشية من التجديد لدى قوى الحركة اليسارية على الصعيدين المحلي والعالمي، لتعريضها للمزيد من العزلة والهامشية والضعف. ومن الملاحظ إن قوى حركة اليسار لم تنتبه بعد بما يكفي لمثل هذا النشاط المناهض لها.
والغريب في الأمر إن الأزمة الأخيرة التي شملت العالم الرأسمالي كله، ومعه الدول النامية، ابتداءً من العام 2008، وكانت تتفاعل قبل ذلك بسنوات قبل انفجارها، والتي ما تزال بقاياها فاعلة في أغلب الدول الرأسمالية، كانت أعتا وأقسى من الأزمة العامة التي رافقت الرأسمالية في أعوام 1929-1933، ولكنها مع ذلك لم تستطع تحريك قوى اليسار وإنعاشها وتنشطها للعمل في صفوف الجماهير وإنهاضها لمواجهة القوى الرأسمالية على الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي، من أجل تخفيف أعباء الأزمة على الجماهير الكادحة والمنتجة للخيرات المادية والروحية والقوى العامل المتزايدة العاطلة عن العمل.
في مقابل هذا الواقع تواجه شعوب العالم، مع غياب الدول الاشتراكية وضعف الأحزاب الشيوعية ومجمل حركة اليسار، إصراراً متنامياً من الدول الرأسمالية المتقدمة على:
** مصادرة المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحققت لشعوب الدول الرأسمالية في فترة الصراع بين الشرق والغرب، والسعي لتعميق الاستغلال الذي تتعرض له شعوبها، وخاصة القوى البشرية المنتجة للخيرات المادية والروحية، بمن فيهم الفئات المثقفة.
** غياب الاستعداد لدى القوى الرأسمالية على المساومة، التي مارستها قبل ذاك مع الطبقة العاملة وفئات الفلاحين والمثقفين، بل تحاول اليوم تشديد الاستغلال وتحقيق أقصى الأرباح على حساب العمل الأجير، سواء أكان جسدياً أم فكرياً.
** تراجع كبير في مستوى ممارسة الديمقراطية في الدول الرأسمالية المتقدمة، إذ أن الديمقراطية في هذه الدول تعاني اليوم من أزمة فعلية حادة، وتراجع في مصداقية الحياة السياسية والنخب السياسية الحاكمة، والعودة إلى استخدام القوة في مواجهة الشعوب النامية، أو طبقتها العاملة. كما إن التمثيل في المجالس النيابية لم يعد يساهم في الدفاع عن مصالح الناخبين ودافعي الضرائب، بل في مصلحة الاحتكارات الرأسمالية المحلية والعابرة للقارات (الكونية). 
** ونتيجة لكل ذلك تتفاقم في واقع الحال الفجوة بين الأغنياء والفقراء من حيث الدخل السنوي ومستوى المعيشة ومستوى الخدمات الاجتماعية والحياة التعليمية والثقافية على الصعيد العالمي وعلى صعيد كل دولة أولاً، وتفاقم حجم البطالة في جميع دول العالم دون استثناء ثانياً، وتزايد عدد الأفراد الذي يحتاجون إلى مساعدة الدولة الرأسمالية للحصول على الحد الأدنى من العيش، مع تزايد عدد الفقراء والمعوزين وتزايد عدد الأطفال الذين يعانون من فقر عائلاتهم ثالثا، خاصة في تلك الدول النامية التي لا تقدم الدولة مساعدات ولا توجد ضمانات اجتماعية او صحية لتلك العائلات والأفراد.
** كما تتفاقم حالات الفساد المالي في غالبية دول العالم بدءاً من الدول المتقدمة ومروراً ببقية دول العالم تقريباً، مقترنة بتزايد عدد ودور وتأثير قوى الجريمة المنظمة في جميع المجالات وعلى الصعيد    العالمي.
** ويشهد العالم عودة جديدة واضحة للحرب الباردة، حيث يزداد سباق التسلح بين الدول الكبرى، وكذلك الكثير من الدول الأخرى، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وتزايد عدد النزاعات والحروب المحلية، إضافة إلى تفاقم دور قوى الإرهاب، التي تبني وجودها وتعزز دورها وتأثيرها، في ظل غياب الديمقراطية والحريات العامة، وتفاقم الاستغلال والفساد المالي وغياب العدالة الاجتماعية، مما تسبب بدوره في غياب التنمية وتفاقم البطالة وانتشار قاعدة الفقراء والجهل والمرض في حياة ومعيشة نسبة عالية من شعوب الدول النامية، وخاصة الدول العربية ذات الأكثرية المسلمة، رغم غنى الكثير منها. وبذلك يزداد الاستعداد لممارسة العنف والقوة والسلاح في حل النزاعات الداخلية والإقليمية وفي انتشار التطرف الديني والمذهبي والسياسي وتزايد عمليات الإرهاب الدولي.
** والمعطيات التي تحت تصرفنا تشير بما لا يقبل الشك إلى التدخل الفظ للدولة الكبرى في شؤون الدول الأخرى، وخاصة في دول الشرق الأوسط، وبالتعاون المتين مع النظم الاستبدادية والرجعية وباسم الإسلام، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر، المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا وإيران وغيرها، والتي عملت فعليا وعلى العقود الأربعة المنصرمة على خلق ودعم وتنشيط وتوجيه المنظمات الدولية الإسلامية الإرهابية كالقاعدة وداعش وجبهة النُصرة وغيرها، التي تعتمد الأساليب والأدوات الفاشية في مكافحة الحركات الوطنية واليسارية والتقدم. وقد أدى كل ذلك إلى سقوط مئات الوف البشر قتلى وجرحى ومعوقين!
** وعلينا هنا ألَّا ننسى نهج وسياسات الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء شعوبها وشعوب الدول النامية في إطار العولمة الرأسمالية التي تمارسها قوى اللبرالية الجديدة في إطار العولمة، والتي لا تتميز بتشديد الاستغلال وتحقيق أقصى الأرباح حسب، بل وفي ممارسة سياسة المقاطعة الاقتصادية والتهديد بالحصار الاقتصادي الشامل وشن الحروب المحلية. ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقية تقدم الدليل الساطع على هذه السياسة العدوانية لقوى اللبرالية الجديدة الحاكمة في المراكز المتقدمة للرأسمالية الدولية. 
إن هذه الظواهر السلبية قادت إلى النتيجة المنطقية، إلى تفاقم المشكلات والتناقضات وتنامي الصراعات الطبقية، السياسية والاجتماعية، وتحول بعضها إلى نزاعات سياسية بسبب عدم تأمين المعالجة الناجعة لها. وكل المؤشرات تؤكد بأن الدول الرأسمالية الأكثر تطوراً غير مستعدة للإقرار بأسباب كل ذلك، وبالتالي، فهي غير مستعدة لمعالجتها، لأن طبيعتها الاستغلالية الجشعة تمنعها عن ذلك.
ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى المحاولات الجارية لتشويه مضمون تلك الصراعات، ودفع الناس للتفكير باتجاه خاطئ، أي باتجاه الحديث عن صراع الثقافات والأديان والمذاهب، بعيداً عن حقيقة الصراع الطبقي، أو الاجتماعي، الذي كان وسيبقى فاعلاً في كل العالم الرأسمالي ومحركاً للنضال. وكان صموئيل هنتنكتون1 ، الممثل الفعلي للجماعات الفكرية والسياسية الأكثر تشدداً، قد طرح منذ أوائل التسعينات من القرن العشرين موضوعة "صدام الحضارات"، أو "صدام الثقافات"، أي صدام الديانات الثمانية وأتباعها، وخاصة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، أو بين المسيحيين والمسلمين. وكان من عواقب ذلك تشجيع وتنشيط التمييز والصراع الديني والطائفي في منطقة الشرق الأوسط وفي مناطق أخرى من آسيا وأفريقيا، ومن بين ذلك إقامة النظام السياسي الطائفي بالعراق، وما نجم عنه من تمييز ضد أتباع الديانات الأخرى وصراع بين الأحزاب والجماعات السنية والشيعية، ثم انتقالها إلى القاعدة الشعبية لأتباع هذين المذهبين.
إن هذا الواقع الدولي والإقليمي والمحلي المتفاقم، كان وما يزال يفترض فيه أن يحرك قوى اليسار وأحزابها لتتبنى مطالب الشعب الأساسية وصياغة أهدافها بصورة ناضجة ودقيقة، بعيداً عن الأحلام غير الواقعية التي لن تكون سوى أوهاماً قاتلة، لرسم ستراتيج وتكتيك قوى حركة اليسار ونضالاتها، بالاستناد إلى المنهج العلم المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي بواقعية وموضوعية لقيادة النضال من أجل مصالح الغالبية العظمى من شعوب العالم وكل شعب على انفراد من جهة، وبعيداً عن التحالف اليميني مع قوى لم تعد من هذا العصر، بل هي من ماضٍ سحيق، لم يعد لها أي مستقبل في القرن الحادي والعشرين من جهة ثانية. إن الحاجة ماسة إلى التضامن بين شعوب العالم وقواها المناضلة لمواجهة قوى الاستغلال والحرب والدمار على الصعيد العالمي.

407
كاظم حبيب
أينما تمتد الأصابع الأمريكية يرتفع الدخــــان!
العاقل لا يلدغ من جحر مرتين، فهل فقدنا العقل، بحيث نلدغ من جحر مرات ومرات دون أن نتعلم من دروس الماضي؟ الكثير من القوى والأحزاب السياسية بدول منطقة الشرق الأوسط تردد باستمرار بأن العلاقات بين الدول لا تقوم على الود والحب، بل تستند إلى المصالح لهذه الدولة أو تلك، وحين تتغير المصالح تتغير السياسات والمواقف، فازدواجية المعايير في التعامل مع قضية واحدة أو قضايا متماثلة كثيرة جداً بالمنطقة، والمثل الكردي يقول لا يمكن أن يكون هناك مناخين على سطح واحد. ولكن الأيام تثبت بإمكانية ذلك في سياسات الدول وضد كل المبادئ، وخير مثال على ذلك سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والتي هي الأخرى متحركة ومتغيرة على وفق مصالح هذه الدولة وليس مصالح الشريك او الحليف أو التابع. وإذا كان الموقف من العلاقات بين الدول يقوم على المصالح، فأنه ينطبق أكثر بكثير على العلاقات بين الدول من جهة، والقوى والأحزاب السياسية من جهة أخرى، التي يمكن أن تضحي بها هذه الدولة أو تلك في لحظات، حين تجد مصالحها تفرض عليها تغيير الحلف أو الشريك أو التابع. وخير مثال على ذلك سياسات ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقاتها في منطقة الشرق الأوسط ومع القضية الكردية في الدول التي وزعت على دولتين بعد معركة جالديران بين الصفويين والعثمانيين في العام 1514م، ومن ثم التقسيم الثاني لكردستان في العام 1918 بعد اندحار الدولة العثمانية والألمانية في الحرب العالمية الأولى وعلى أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا، وحرم الكرد من دولتهم الوطنية المستقلة بخلاف كل القوميات الأخرى بالمنطقة. ومن قام بالتقسيم الثاني هي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في ضوء تقاسم اسلاب الدولة العثمانية والاتفاق على توزيع الحصص في استثمار المواقع النفطية. فهل تعلمت القوى والأحزاب الكردية من ذلك؟
لقد خذلت الولايات المتحدة الأمريكية الشعب الكردي بالعراق في العام 1975 بموافقتها على دحر الحركة الكردية التحررية المسلحة لصالح دولة وحزب البعث وإيران الشاه. وقد أشرت إلى ذلك في آخر لقاء صحفي لي مع وكالة هاوار الكردية. وحذرت الكرد السوريين من مغبة وقوع ما يماثلها معهم في علاقتهم مع الولايات المتحدة. ولا يستبعد حصول هذا مرة أخرى مع الشعب الكردي في كردستان العراق، وفي كل لحظة تشعر الولايات المتحدة إن من مصلحتها الاتفاق مع الدول الثلاث الأساسية تركيا وإيران والعراق ضد مصالح الشعب الكردي. ثم كانت المساومة بين تركيا والولايات المتحدة في الموافقة على ضرب حزب العمال الكردستاني في مقابل الموافقة على استخدام القاعدة الجوية التركية أنجرليك من قبل الولايات المتحدة. ثم جاءت المساومة الأخيرة على حساب الكرد السوريين بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، حين اتفق وزيرا خارجية البلدين جون كيري ومولود أوغلو على اختراق تركيا للحدود السورية لطرد داعش من المنطقة الحدودية. ولكن لم تعترض أمريكا على تصفية تركيا لحساباتها مع الكرد السوريين في المنطقة، بذريعة إنها لا تريد أن تقوم دولة أخرى كردية على حدودها. إن احتجاج وزارة الخارجية الأمريكية على مقاتلة الكرد بسوريا ليس سوى ذراً للرماد في عيون الكرد، ليس سوى ضحكاً على ذقون الكرد بسوريا والكرد بمنطقة الشرق الأوسط، إنها المأساة اتي ينبغي لا أن نحتج عليها فحسب، بل وأن ندينها ونتظاهر ضدها ونعلن عن رفضنا لمن يقف معهما ضد هذا الجزء أو ذاك من الأمة الكردية.
لقد علمتنا التجربة في العلاقة مع الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط صواب المقال الذي كتبه الأستاذ محمد شرارة في منتصف الخمسينات من القرن الماضي تحت عنوان "أينما تمتد الأصابع الأمريكية يرتفع الدخان" ونشر في مجلة الوادي العراقية. إن مصلحة الولايات المتحدة يكمن في نفط المنطقة والغاز الطبيعي والمياه الدافئة وقربها من روسيا وإيران، إضافة على أهداف أخرى، ولا يهم أن ينزف سكان المنطقة الدماء لتسيل كمياه دجلة والفرات. إن نقد العلاقة مع الولايات المتحدة لا ينطلق من عقدة الشك بها وبسياساتها والتي يتذرع بها من يدافع عن تلك السياسات، ولا بالشعب الأمريكي، بل يستند إلى واقع تلك السياسات وأهدافها ومحصلتها النهائية أو عواقبها على شعوب المنطقة، ومنها شعب العراق بكل قومياته، وما يعانيه منذ أن شجعت الإدارة الأمريكية صدام حسين على اجتياح إيران في العام 1980، ثم سمحت له بغزو الكويت، ثم الحروب التالية، إلى أن تعاونوا مع إيران لإقامة الحكم الطائفي بالعراق الذي ينغص حياة الشعب العراقي بصراعات ونزاعات دموية بين الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية والقوى القومية الشوفينية وذات الأفق الضيق. إنها الكارثة التي يعيشها الشعب يومياً، وكذا الحال بسوريا واليمن، وكوارث قادم الأيام أكثر بكثير مما وقع حتى الآن. فهل سيتعظ الكرد، كل الأمة الكردية، بهذا الواقع، أتمنى ذلك! المثل يقول: صديقك من نبهك، وعدوك من أراد تنبيهك، ولكن بعد فوات الآوان!!   


408
كاظم حبيب
هل من فرق في الجريمة بين محطمي متاحف نينوى ونصب جواد سليم

هم رعاع، أوباش وقتلة، أولئك الذين حطموا تراثنا العراقي الخالد بنينوى، حطموا تراث أجدادنا الآشوريين والكلدانيين والبابليين الحضاري، ودمروا المتاحف ومراقد الأنبياء والأولياء الصالحين، وأحرقوا الكنائس ودور العبادة وما أمكنهم الوصول إليه. كان هؤلاء القتلة من عصابات داعش، من هذا التنظيم العدواني المناهض للإنسان وحقوقه وحرياته وثقافته وتراثه الحضاري. لقد أثارت تلك الأفعال الدنيئة الرأي العام العالمي باعتبارها جرائم فاحشة ضد الحضارة الإنسانية، إضافة إلى جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبوها بمحافظة نينوى من قتل للبشر وسبي للنساء والأطفال وبيعهم في سوق النخاسة، كما مارسوا الاغتصاب الدنيء. بهؤلاء انزلت شعوب العالم اللعنة عليهم وعلى أفعالهم الدنيئة التي تريد محو ذاكرة العراقيات والعراقيين بتراثهم وحضارتهم الخالدة. هؤلاء سيعاقبهم الشعب ومحكمة العدل الدولية ومحكمة حقوق الإنسان الدولية، ولن يفلتوا من العقاب آجلاً أم عاجلاً.
ولكن ماذا نقول عن أولئك الذين استخدموا البلدوزر بالأمس القريب، وفي وضح النهار، ودمروا نصب الفنان الكبير والفقيد جواد سليم، نصب فنان الشعب الذي وضع تصاميم نصب الحرية في ساحة التحرير، وأُنجز بالتعاون مع المهندس الكبير والفنان رفعت الجادرجي؟ ماذا نسمي مثل هؤلاء البشر الذين يمارسون مثل هذه الأفعال الشريرة؟ أنهم في واقع الحال لا يختلفون قيد أنملة عن عصابات داعش المجرمة، فهم مجرمون أيضاً، وأن توفر لهم المجال لقتلوا كل من خالفهم الرأي أو من يؤمن بدين أو مذهب آخر. وقد فعلوا ذلك منذ العام 2006 حين هجروا المسيحيين والصابئة المندائيين من محافظات الجنوب، أو من بغداد. أنهم أوباش ورعاع لا يختلفون عن أوباش ورعاع داعش، فالإيديولوجية المسيرة لهم والموجهة لأفعالهم واحدة وأن اختلفت في المظهر أو المذهب!!
لا يمكن أن يقوم هؤلاء بهذه الأفعال الدنيئة في وضح النهار دون أن يكون لهم سند يحميهم ويبعد عنهم الأذى المحتمل، وسوف يمارسون افعالاً خسيسة مماثلة لاحقاً، إن لم يكشف القضاء والحكومة التنفيذية عن هذه المجرمين.
ليس هناك من مسؤول عن هذه الأفعال غير الحكومة العراقية، التي فسحت بنهجها الطائفي والمحاصصي والعاجزة عن اتخاذ أي إجراء سليم لمحاربة الفاسدين والمفسدين، أو التصدي لسلوكيات الطائفيين المناهضين لثقافة الشعب وحضارته وتراثه الحضاري، أو الكشف عن ممارسة مثل هذه الأفعال من جماعات إسلامية سياسية متطرفة، ولا يمكن أن تفعل هذه المجموعات مثل هذه الأفعال لو لم يكن لها سند في الدولة العراقية، في الحكومة العراقية، في الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة، في القضاء العراقي، وفي أجهزة الأمن والشرطة وفي المليشيات الطائفية المسلحة، فهم من أتباع الدين الإسلامي!
إن على رئيس الدولة العراقية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان ورئيس القضاء العراقي ورئيس هيئة الادعاء العام بالعراق، إن كانوا جادين ومدركين لطبيعة الفعل الذي مورس بحق النصب، أن يعملوا سوية لتشكيل هيئة مستقلة حقاً لتقوم بالتحقيق بهذا الفعل وتقديم الجناة إلى القضاء العراقي لكي يلقنوا درساً لن ينسوه ويمنع وقوع أفعال مماثلة لاحقاً. كما إن على الحكومة العراقية أن تقرر تكليف فنان عراقي مبدع يقوم بوضع نصب جديد لهذا الفنان الكبير، فنان الشعب والحرية وحقوق الإنسان، جواد سليم يقام في نفس المكان الذي اكتسح بلدورز المجرمين نصب جواد سليم.   

409

كاظم حبيب

نحو تنشيط وتعزيز دور هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق
1-2
لم يكن عملاً عبثياً ولا نشاطاً كمالياً من جانب مجموعة من مناضلي حقوق الإنسان والمجتمع الدني الديمقراطي حين تنادوا لتأسيس منظمة مجتمع مدني تحت اسم "هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق" في العام 2004، إذ أدركت هذه النخبة من المناضلين إن السنوات القادمة سيشهد أتباع الديانات من غير المسلمين ظروفاً صعبة وقاسية، كما سيشهد العراق صراعاً بين الأحزاب السياسية الإسلامين السنية منها والشيعية، بالارتباط مع ما بدأت به الإدارة الأمريكية المحتلة للعراق بإقامة نظام سياسي طائفي ومحاصصة طائفية بالعراق وفتح حدود العراق كلها أمام قوى الإسلام السياسي الإرهابية للولوج إلى البلاد لتشديد الصراع والنزاع بين أبناء البلد الواحدة. وقد اتفقت المجموعة الآتية من النساء والرجال على العمل المشترك لمواجهة هذا الاحتمال والدفاع عن حق أتباع كل الديانات والمذاهب بالعراق بممارسة حقوقهم المشروع في تبني هذا الدين أو ذاك وفي حجرية العبادة وممارسة الشعائر والطقوس الدينية. السيدات نرمين عثمان، ميسون الدملوجي، زكية إسماعيل حقي، راهبة الخميسي، د. كاترين ميخائيل، والسادة د. أحمد برواري، أ. د. تيسر الآلوسي، جاسم المطير، جورج منصور، د. حسن حلبوص، ديندار شيخاني، د. رشيد الخيون، القاضي زهير كاظم عبود، أ. د. سيار الجميل، د. صادق البلادي، صبيح الحمداني (توفى) د. عقيل الناصري، علاء مهدي، د. غالب العاني، أ. د. كاظم حبيب، كامل زومايا، مثنى صلاح الدين محمود، مصطفى صالح كريم، موسى الخميسي ونجاح كيناية. ثم التحقت بهم عشرات الشخصيات العراقية الديمقراطية من أتباع الديانات والمذاهب بالعراق. وقد نشطت هذه الهيئة في عدة مجالات أساسية:
1.   نشر برنامج الهيئة الذي تضمن أهدافها الأساسية والتي تنحصر في الدفاع عن حقوق أتباع الديانات والمذاهب ورفض التعرض أو الإساءة لهم أو التضييق عليهم ومنعهم من ممارسة عباداتهم، وليس من مهمة هذه الهيئة الدفاع الديانات ذاتها، فهذا حق مصون لكل دين ومذهب.
2.   إصدار البيان التي تفضح الجرائم التي ترتكب بحق أتباع الديانات والمذاهب والتي تفاقمت بالعراق وقادت إلى موت مئات الآلاف من البشر من مختلف الديانات والمذاهب على أيدي قوى الإرهاب والمليشيات الطائفية، وأخيراً على ايدي عصابات داعش التي اجتاحت العراق من بوابة الموصل والفلوجة.
3.   عقد الندوات والمؤتمرات التي تشرح أوضاع أتباع الديانات والمذاهب ومهمات الدفع عن حقوقهم المشروع وتعبئة القوى لهذا الغرض.
4.   إصدار الكراسات التي تأخذ على عاتقها ذات المهمات. 
5.   المشاركة في الندوات والمؤتمرات الخاصة بمنظمات المجتمع المدني التي يطرح ممثلو الهيئة المشكلات التي تواجه أتباع الديانات والمذاهب بالعراق.
6.    العمل على جمع التبرعات الممكنة وتوزيعها على المحتاجين من النازحين قدر الإمكان.
وقد تشرفت برئاسة الأمانة العام لهذه المنظمة منذ تأسيسها إلى أواخر العام 2012 حيث عقد المؤتمر الأول للهيئة بمدينة السليمانية بدعم من السيد رئيس الجمهورية العراقية حينذاك الأستاذ جلال الطالباني. وقد اعتذر ت عن الترشيح وتم انتخاب أمانة عامة جديدة وحصلت السيدة نرمين عثمان على أعلى الأصوات وتلاها الأستاذ نهاد القاضي، وقررت عدم ترشيح نفسها لرئاسة الهيئة بسبب أشغالها الكثيرة وتم ترشيح الزميل نهاد القاضي فانتخب بالإجماع لرئاسة الهيئة، وهو رئيس الأمانة العامة الحالي، وانتخبت معه مجموعة من الشخصيات المدنية المناضلة. ومنذ المؤتمر الأول نشطت الهيئة بشكل جيد، وخاصة مع النازحين بالداخل، وأصدرت الكثير من البيانات ونظمت أكثر من فعالية بالداخل والخارج بمناسبة مرور عام على اجتياح الموصل وما حصل فيه من إبادة جماعية بحق الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، وكذلك بنات وأبناء الموصل الذي رفضوا التعاون مع عصابات داعش. 
ولدي القناعة التامة بأن مهمة هذه الهيئة لم تنته مهماتها، بل ازداد وجودها ضرورة ونشاطها أهمية ومشاركتها في كل المؤتمرات والندوات التي تعقد في مجال حقوق الإنسان لطرح المشكلات التي يعاني منها اتباع الديانات والمذاهب بالعراق، كما حصل في مؤتمر برطلة دفاعاً عن المسيحيين وضد التغيير الديمغرافي مثلاً، أو في لقاءات برلين وكولون، ويفترض أن تساهم وتطرح مشكلات هذه الجماعات في مؤتمر المنتدى العراقي لحقوق الإنسان. وعلى عاتقنا جميعاً تقع مسؤولية تعبئة القوى لصالح تحرير النساء الإيزيديات الأسرى والمستعبدات من قبل عصابات داعش باسم الإسلام، وكذلك الأطفال الإيزيديين المختطفين، وأن نعمل من أجل الدفاع عن حقوق النازحين بالوطن والمهجرين قسراً، إضافة إلى مواجهة الأذى والإساءات التي بدأت تلحق بأبناء المناطق المحررة من عصابات داعش بذريعة تعاونهم مع داعش في ؛ين إنها مرفوضة، إذ أن هذه ليست من مهمات الحشد الشعبي، بل من مهمة القضاء العراقي لا غير في تتبع والتحقيق في التهم التي يمكن أن توجه لمن شارك في ارتكاب الجرائم بحق أبناء وبنات الشعب العراقي.
إن عقد أي مؤتمر لحقوق الإنسان يفترض أن تتمثل فيه هذه الهيئة وتطرح المشكلات الملموس التي يعاني منها أتباع الديانات والمذاهب في العراق، وهي ليست ذات طابع حقوق فحسب، بل وذات طابع اقتصادي واجتماعي ونفسي. إن أي محاولة لإبعاد هذه النقطة عن برامج عمل جمعيات حقوق الإنسان يؤثر سلباً على حقوق هذه الجماعات الدينية والمذهبية بالعراق. والأمانة العامة للهيئة تحضر الآن لعقد المؤتمر الثاني للهيئة خلال هذا العام، وهو موضوع الحلقة الثانية من هذا المقال.




410
كاظم حبيب
فساد السلطات الثلاث في دولة هشة ومستعمرة!
لم يكن الواعون من بنات وأبناء الشعب العراقي بانتظار دليل جديد على الفساد المتنوع الأوجه الذي يشمل مجلس النواب كمؤسسة وبغالبية أعضاءه، وبقية سلطات الدولة العراقية، ومنها السلطة القضائية، التي أفرجت على عجل عن رئيس مجلس النواب والمتهم بالفساد، حتى أن رئيس السلطة التنفيذية الفاسدة استغرب من هذه السرعة في إصدار قرار عن القضاء العراقي، والذي لم يسبق له مثيل في سرعته.
ولكن الجديد في ما قدمه مجلس النواب للشعب العراقي هو أن العراق أصبح، ومنذ بدء سنوات حكم الجعفري ونوري المالكي حتى الآن، مستعمرة إيرانية فعلية. فما أن زار رئيس مجلس النواب العراقي، سليم الجبوري، إيران والتقى بالقادة الإيرانيين المسؤولين عن السياسة الإيرانية بالعراق وقدم لهم الولاء التام والتعاون الكامل مع نوري المالكي ورهطه، حتى صدر عن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وبقية القادة الإيرانيين القرار بدعم رئيس مجلس النواب العراقي ومعاقبة وزير الدفاع العراقي الذي تجرأ، ولأي سبب كان، على اتهام رئيس مجلس النواب وبعض الفاسدين فيه، رغم كثرتهم الكاثرة، بالفساد المالي والوظيفي! وما أن عاد التابع الجديد إلى العراق حتى بُلَّغت جميع الأحزاب الإسلامية السياسية العراقية بقرار القيادة الإيرانية، ومن خلالهم بُلّغ جميع أعضاء مجلس النواب من أتباع هذه الأحزاب وإيران بقرار إيران. وما كان من أغلبهم إلا التصويت في صالح سحب الثقة عن وزير الدفاع العراقي. وهكذا انتهى مجلس النواب إلى تأكيد حقيقة أساسية واحدة هي إن القيادة الإيرانية تعتبر اللاعب الأول والرئيسي في السياسة العراقية وفي الاقتصاد العراقي وفي المجتمع، إضافة إلى دور إيران العسكري المباشر وغير المباشر، من خلال المليشيات الطائفية المسلحة التي تشكل الهيكل الفعلي للحشد الشعبي بالعراق. لم يأخذ جميع الأحزاب الإسلامية السياسية بقرار إيران، بل بعضهم رفضه، بغض النظر عن موقفه العام من إيران وقادتها. 
وكم ينطبق قول الشاعر الرصافي الخالد الذي قاله قبل ثمانين عاماً ينطبق تماماً على مجلس النواب العراقي الخائب والعلم والدستور:
علم ودستور ومجلـس أمـة          كل عن المعنى الصحيح محرف
من يأتِ مجلسنـا يصدّق أنه        لـمُـرادِ غيـر الناخبيـن مؤلّــفُ
أفهكذا تبقى الحكومة عندنا        كلَماً تمـوَّهُ للورى وتُزخرَفُ
لقد رفضت كتلة الأحرار والتحالف الكردستاني وكتلة المجلس الأعلى التصويت إلى جانب سحب الثقة، واتهم السيد مقتدى الصدر المجلس النيابي بالفساد وأولئك الذين صوتوا إلى جانب سحب الثقة من العبيدي. وهو على حق في هذا الأمر. وفشل طلب أولئك الذين أرادوا سحب الثقة عن رئيس مجلس النواب باعتباره فاسداً، لأن الأكثرية التابعة لإيران ليست إلى جانب هذا القرار. إنها المصيبة بعينها أن يعود العراق تحت سطوة إيران مرة أخرى، إذ تذكرنا بالعهد الصفوي بالعراق وما عاناه تحت وطأتها، ومن ثم سقوطه تحت الهيمنة العثمانية والتي كانت معاناته أقسى وأطول.
وبوعي عميق وسليم ومؤثر خرجت مظاهرات يوم الجمعة المصادف 26/8/2016 ببغداد ومحافظات الوسط والجنوب وهي تندد بقوة وحزم بقرار سحب الثقة لا دفاعاً عن وزير الدفاع العراقي، بل لتؤكد فساد مجلس النواب المحمي من الفاسدين وإيران، ومن بقية السلطات الفاسدة بالدولة العراقية الهشة والمستعمرة. وسيتسع هذا الوعي تدريجاً ليشمل المزيد من أبناء الشعب العراقي ولينكشف زيف الذئاب التي فتكت بالناس آلاف القرون ولم تترك البشر مع دينهم والرب الذي يعبدون. لنتذكر هذا المقطع من قصيدة شاعر الشعب الراحل محمد صالح بحر العلوم حين كتب بصواب:
ليتني أستطيع بعث الوعي في بعض الجماجم
لأريح البشر المخدوع من شر البهائم
وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم
ومن أنآس (أو مآسٍ) تقتل الحق وتبكي:
أين حقي         
 
 



411
كاظم حبيب
الذكرى السبعون لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني والموقف من التجديد والتغيير
صدر كتاب جديد بعنوان "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟ بمناسبة "الذكرى السبعون لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني (1946-2016)"  ، تحرير الدكتور صديق الزيلعي 
، شارك في كتابته بمقالات مستقلة 26 كاتباً شيوعياً وغير شيوعي أو مستقل، تناول بعضها تاريخ الحزب، كما في البحث المهم للسيد الدكتور محمد محمود، وبعضها الآخر حول الاقتصاد والصيرفة الإسلامية في السودان، كما في مقالة السيد الهادي الهباني، أو مناقشة سياسات الحزب في الماضي وعن فترات النضال المختلفة، كما في مقالة التجاني الطيب، والدعوة إلى تجديد الحزب وبناء حزب ديمقراطي جديد، كما في بحث الدكتور فاروق محمد إبراهيم، أو تطرق بعضهم إلى مناقشة ونقد بعض المسائل المبدئية التي يلتزم بها الحزب الشيوعي السوداني، ومنها قاعدة المركزية الديمقراطية، كما في مقال السيد صديق الزيلعي، ومقالات أخرى تناولت ذكريات شخصية مع بعض القادة الشيوعيين والحياة السياسية السودانية وحياة الطلبة بالخارج، كما في مقال الدكتور حامد فضل الله. كانت لي لقاءات مع ممثلي الأحزاب الشيوعية والعمالية في براغ حين كنت عضواً في هيئة ومجلس تحرير مجلة قضايا السلم والاشتراكية (مجلة الوقت)، ومنهم ممثل الحزب الشيوعي السوداني د. محمد مراد الحاج، كما تسنى لي اللقاء مع الرفيق محمد إبراهيم نقد في موسكو، أطلعت فيها على عمل ونشاط الحزب الشيوعي السوداني وإنجازاته وإخفاقات، ودوره في عملية التنوير الفكري والاجتماعي والضال السياسي. لقد تكرم الصديق الدكتور حامد فضل الله بإعارتي الكتاب لمطالعته. فحفزني على الكتابة مرة أخرى عن اليسار العالمي وبالدول العربية وعن الأحزاب الشيوعية بالدول العربية، ومنها الحزب الشيوعي السوداني، فشكراً له.     
تميز تاريخ الحزب الشيوعي السوداني على مدى الأعوام السبعين المنصرمة بالروح النضالية العالية والاستعداد للعمل والتضحية بالغالي والنفيس لصالح استقلال السودان وحرية شعبه وازدهار اقتصاده وتقدم مجتمعه على أسس ديمقراطية وعلمانية ملتزماً من حيث الواقع بالشعار العام والسليم "الدين لله والوطن للجميع".
قبل تأسيس الحزب الشيوعي السوداني ظهرت بذور أولية للفكر الماركسي في العشرينات من القرن العشرين وتبلورت في نواتات وحلقات ماركسية منذ النصف الثاني من العقد الرابع من القرن الماضي، ولكنها اجتمعت لتشكل الحركة السودانية للتحر الوطني (حستو)، في العام 1946 والتي أصبحت فيما بعد الحزب الشيوعي السوداني.  ومنذ ذلك الحين لم يتوقف نضال الشيوعيات والشيوعيين السودانيين، ولم ينقطع عن تقديم التضحيات الجسام، سواء باستشهاد مجموعة غير قليلة من قادته الشجعان والكثير من أعضاء الحزب وكوادره، أم بزجهم في السجون وقضاء سنوات كثيرة فيه. لست ناوياً في هذا المقال أن أتحدث عن تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ولا عن البطولات التي اجترحها السودانيون من شيوعيين وديمقراطيين وتقدميين في النضال من أجل الشعب السوداني واستقلاله وحريته تقدمه، إذ إن هذه المهمة الكبيرة هي من اختصاص الرفاق والرفيقات في السودان ذاته أو خارجه، بل أحاول هنا أن أتناول المسألة المهمة التي طرحها محرر الكتاب واشارك اجتهاداً في الإجابة عن السؤال المهم والكبير الذي وضعه الكاتب عنواناً للكتاب في الذكرى السبعينية لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني، "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟".
منذ أوائل العقد الأخير من القرن العشرين بدأت أتناول موضوع الأحزاب الشيوعية بالدول العربية وأحاول البحث في مدى إمكانية تجديد هذه الأحزاب التي ارتبطت عضواً بالأممية الشيوعية، الأممية الثالثة، والتي اعتمدت الماركسية-اللينينية كمنهج ودليل عمل ونضال فكري وسياسي. ونشرت بهذا الصدد أكثر دراسة موسعة نشرت في جريدة الطريق اللبنانية في أوائل التسعينات من القرن الماضي، كما نشرت مقالات أخرى ولقاءات صحفيه بشأن أوضاع الأحزاب الشيوعية والعمالية بالدول العربية، ثم خصصت مقالاً آخر عن الحزب الشيوعي العراقي في العام 2006 بعد أن توجه لعقد مؤتمره الثامن في أيار/مايس من العام 2007. إن متابعتي لنشاط ونضال الحزب الشيوعي السوداني والأسس الفكرية والتنظيمية التي يعتمدها في عمله بين الجماهير وفي داخل الحزب ومع الأحزاب والقوى الأخرى تسمح لي في أن أبدي بعض الملاحظات في هذا الصدد، والتي تنطبق تماماً عبى بقية الأحزاب الشيوعية في الدول العربية.
دأب بعض المفكرين والسياسيين العرب الإشارة الواضحة إلى إن الأحزاب الشيوعية قد انتهى أمر وجودها وستنتهي إن آجلاً أو عاجلاً. أختلف مع هذا الرأي تماماً وأؤكد إن الأحزاب الشيوعية بالدول العربية ستبقى قائمة ولن تحل أن تنتهي. ولكن إذا استمر وضعها على النحو الراهن، سوف لن يتسنى له أن تلعب دوراً مهماً وفاعلاً، بل ستبقى هامشية في دورها في الحياة السياسية بالدول العربية بخلاف ما كانت عليه في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وبهذا فوجودها سوف لن يكون له الأثر الذي يسعى إليه الشيوعيون والشيوعيات على وفق المبادئ التي يحملونها والشعارات التي يسعون إلى تحقيقها، وبالتالي فهم أمام واحدة من أثنين إما أن يلعبوا دوراً مهماً وفاعلاً ومؤثراً أو أن يبقوا هامشيين ومعزولين عن حركة الجماهير الواسعة وضعيفي التأثير عليها وعلى الحياة السياسية. فأن اختاروا الطريق الأول فما عليهم إلا التغيير وليس التجديد، وإذا اختاروا النهج الثاني، فهذا يعني أنهم غير جادين في عملية التجديد والتغيير بأي حال أو إنها مجرد أحاديث استهلاكية شكلية. وعملية الاختيار ليست إرادية بحتة، بل هي ضرورة موضوعية فرضها التغيرات الهائلة الحاصلة على العالم كله والذي يستوجب التناغم والانسجام مع هذه العملية الموضوعية الجارية بالعالم.
من عمل في الحركة الشيوعية والعمالية العالمية بوعي ومسؤولية أدرك دون أدنى ريب الجمود العقائدي الذي سقطت فيه الحركة الشيوعية العالمية والأزمة التي عانت منها الأحزاب الشيوعية على صعيد بلدانها، وخاصة بالدول الاشتراكية والتي قادت إلى ما هي عليه الآن، حيث اختفت المنظومة الاشتراكية، وضعفت الأحزاب الشيوعية إلى حد الهزال وعدم التأثير في الأحداث. ويمكن أن نتابع ذلك في الأحزاب الشيوعية والعمالية في دول الاتحاد الأوروبي مثلا، ومنها على نحو خاص الأحزاب الشيوعية في فرنسا وإيطاليا واسبانيا والبرتغال وغيرها من الدول الأوروبية، التي كان لها نفوذ واسع في الأوساط الشعبية وفي النقابات وفي البرلمان، ولم يعد لها هذا النفوذ والتأثير والدور الفاعل. ومن هنا ستشمل ملاحظاتي جميع الأحزاب الشيوعية بالدول العربية وبهذا القدر أو ذاك بسبب تماثلها من حيث الفكر والممارسة السياسية، رغم وجود بعض التباين في تفاصيل أوضاع هذه البلدان، ولكنها كلها في الهم شرق.       
إن من يسعى إلى التجديد الحقيقي والتغيير الفعلي عليه أن يبدأ بنقد الذات من حيث الفكر والسياسة والممارسة، سواء مع المجتمع، أم مع القوى والأحزاب الأخرى أم مع رفاق الحزب والجماهير المحيطة به، أو في علاقته مع الأحزاب الشيوعية والعمالية في الدول الاشتراكية وخاصة مع الحزب الشيوعي السوفييتي في حينها. إن مثل هذه الخطوة تستوجب الجرأة والإقدام من جهة، وستكون الضوء الذي ينير طريق المناضلين وتجنب الزلل المحتمل في العمل والنضال القادمين. إن نقد الماضي صعب جداً، لأن فيه الكثير من الحنين (نوستالجيا) للنضال البطولي وللشهداء الذين سقطوا وللمكاسب التي تحققت، ولكن فيها الإخفاقات التي تعرض لها الحزب والوطن.  أرى بأن المادة الدسمة التي قدمها لنا الدكتور فاروق محمد إبراهيم تشكل معلماً مهماً لمن يريد تطوير الأحزاب الشيوعية بالدول العربية إلى أحزاب جماهيرية واعية لطبيعة المرحلة والمهمات المرحلية التي تقع على عاتقها، وهذا بخلاف المقال النقدي الشديد الذي قدمه عضو قيادة الحزب الشيوعي السوداني الطيب الذكر الرفيق التيجاني الطيب الموجه للمقالة القيمة للدكتور فاروق محمد إبراهيم، وهي نموذج يعبر عن الجمود العقائدي في فهم الماركسية والواقع وطبيعة المرحلة والمهمات التي يفترض ان ينهض بها حزب يتبنى شعارات الحداثة والتقدم. لهذا وجدتني متفقاً تماماً مع البروفيسور فاروق محمد إبراهيم ومختلفاً مع الرفيق التيجاني الطيب..   
إن من عمل في صفوف الأحزاب الشيوعية في الدول العربية يعرف تماماً ثلاث مسائل جوهرية تتسبب في فقدان الكثير من الديمقراطية الداخلية الضرورية لكل حزب شيوعي، وأعني بها، قاعدة المركزية الديمقراطية، التي تخنق الديمقراطية بكل معنى الكلمة وتصل إلى موقف استبدادي يقول "نفذ ثم ناقش"، وليس "ناقش ثم نفذ"، التي أشار إليها بشكل واضح وصريح الدكتور صديق الزيلعي في مقالته المهمة عن أخطار العمل بالمركزية الديمقراطية في الحزب الشيوعي السوداني.  ثم إن الأوضاع السرية في الحزب كانت تمنع من ممارسة الديمقراطية الداخلية، إضافة إلى القمع وغياب الحريات الديمقراطية بالبلدان كلها كانت تنعكس سلباً على حياة الحزب الداخلية. لقد اعتمد الحزب في بنيته الداخلية ونشاطه الداخلي وإزاء رفاقه قواعد صارمة منها "وحدة الإرادة والعمل" و"الطاعة الواعية" و"الضبط الحديدي" و"التنفيذ ثم الاستفسار والنقاش"، وتقود هذه المسألة إلى وضع نفسي معقد، إلى حالة من الازدواجية في شخصية المناضل، قَبِلَ الحزب بهذه الحقيقة أم رفض. وهذا يعني أن الحزب الشيوعي يفترض فيه أن يرفض ازدواجية الشخصية أو انفصامها أو التحدث بلسانين، وهذا يتطلب السماح بوجود منابر فكرية في الحزب، كما هو حال العديد من الأحزاب الشيوعية التي تحولت إلى أحزاب يسارية ديمقراطية لم تعرف المنابر سابقاً، ولكنها تمارسها اليوم وبنجاح. وهذا يتطلب التخلي عن مبدأ المركزية الديمقراطية و "الطاعة الواعية" وبقية القواعد الأخرى المخلة لفكر واستقلالية الإنسان والمقيدة لحرية الإنسان حقاً، والتحول نحو الديمقراطية بكل معنى الكلمة والتي تعني في كل الأحوال ممارسة مبدأ الأكثرية والأقلية، مع احتفاظ الأقلية برأيها والكتابة فيه دون أن يشوش ذلك على موقف الأكثرية في تنفيذ القرارات المتخذة بالأكثرية. لقد ابتدع لينين والحزب الشيوعي السوفييتي مصطلح "الديمقراطية البروليتارية"، والذي انتقدته بصواب وشدة الماركسية الكبيرة روزا لوكسمبورغ في كراسها الغني الذي كتبته عن الثورة الروسية في سجنها وقبل إعدامها، كما انتقدت مجلس السوفييتات في حينها.   
وكلنا يعرف بأن الأحزاب الشيوعية بالدول العربية قد مارست وعلى امتداد الفترات المنصرمة، وبشكل خاص في فترات القادة الأوائل وما بعدهم، نهج عبادة الفرد، الذي بدأ به ستالين في عبادة شخصية لينين، لكي يُعبد هو الآخر أيضاً، وهكذا كان. وهذا يعني التصدي لمن ينتقد تلك الفترة، بحيث لم يجرأ أي شيوعي على انتقاد القادة الأوائل، إلا في فترات متأخرة، ولكنها كانت محفوفة بالمصاعب أيضاً. وهذا يعني أن على هذه الأحزاب أن تتخلى الآن أيضاً عن هذه المسألة التي اشعر بوجودها وتأثيرها السلبي على العمل الجماعي. وهي حالة شبيهة بولاية الفقيه الذي هو القائد الأعلى والمخول من الله في الحكم على الأرض وخليفة النبي محمد والأئمة من بعده، وهو أمر خطير ومجمد لعقل الإنسان وقدرته على التفكير والإبداع والنقد.
من تابع واقع الأحزاب الشيوعية في الدول العربية يعرف بأنها تمنع التكتل وتحرمه، ولكنها ابتليت بالشللية الممنوعة أيضاً، ولكنها مورست في العمل القيادي على نطاق واسع، سواء أكان في المكاتب السياسية أم في اللجان المركزية وفي مواقع أخرى. أؤكد بأنها ما تزال قائمة ومؤذية لعمل الأحزاب الشيوعي، وسبب ذلك غياب الديمقراطية أو نقصها الشديد، والخشية من إبداء الرأي.
غياب الحرية الفكرية في الأحزاب الشيوعية والتركيز في الماضي على الأربعة ثم الثلاثة العظام، وفهد (سوسف سلمان يوسف) السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي السابق والطيب الذكر، وعبد الخالق محجوب، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، وجورج حاوي بلبنان وخالد بكداش (1912-1995 بسوريا، توفي عن عمر بلع الثالثة والثمانين وكان مريضاً وعاجزاً عن العمل، ولكني بقي سكرتيراً عاماً للحزب، مما أدى إلى أكثر من انشقاق في صفوف هذا الحزب. أما ليونيد بريجنيف فبقي سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي حتى وهو يتكئ على شخصين في سيره....الخ، إضافة إلى اتهام الكثير من الشيوعيين والماركسيين بالتحريفية والانتهازية ...الخ، كلها ساهمت بعدم تطور الفكر الماركسي في أغلب الأحزاب الشيوعية والعمالية على الصعيد العالمي وبالدول العربية، كما إن التثقيف الفكري الوحيد الجانب، وإلى نشوء الإيمانية المطلقة بالنظرية الماركسية، وانتظار الجديد في الفكر والممارسة من الحزب الشيوعي السوفييتي قد حول الماركسية-اللينينية إلى دين جديد لا غير، نبيه ماركس أو لينين ومعهما بعض الأولياء الصالحين! واليوم ما أزال اسمع من يتحدث عن التحريفية، في وقت يفترض أن نعترف بأن القراءة الماركسية متباينة من شخص إلى آخر، ومن حزب إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى. ولهذا ليس هناك من محرف وآخر صحيح، بل أن التحليل الموضوعي وفق الظروف الملموسة، هو الذي يفرض نفسه على الواقع المعاش دون اتهام الآخرين بالتحريفية. فباب الاجتهاد الفكري والسياسي يفترض أن يبقى مفتوحاً على مصراعيه لأنه غير مملوك من أحد أو خاضع لحزب بعينه.
• كانت الحرية الفكرية والاستقلالية الفكرية غير واردة في الأحزاب الشيوعية بشكل عام، وغالباً ما كان يمنع الفكر والرأي الآخر من النشر. وقد تسبب هذا في إضعاف القدرات الفكرة وتطور الإمكانيات لدى
وغالباً ما ألتقي بشيوعيين يشكون من عدم نشر كتاباتهم لا لأنها ضعيفة، بل لأنها مخالفة لوجهة نظر القيادة، أو ما يطلق عليه بوجهة نظر الحزب خطأً!
• الشعور إلى حد الاقتناع الفعلي بأن الشيوعي هو أحسن الناس وأكثرهم صلابة ونضالية وأكثرهم وعياً وصواباً وأكثرهم امتلاكاً للحقيقة والحق. أدبيات الأحزاب الشيوعية كانت وما تزال مليئة بمثل هذه الأجواء، أملي أن تنتهي هذه الخرافة، فالشيوعي شأنه شأن أي إنسان آخر لا يمتلك الحقيقة كلها ولا الحق كله، وليس بالضرورة أفضل من بقية المناضلين ولا أسوأ منهم، إذ أن الأمر متباين من شخص إلى آخر ...الخ..
• غياب الاستعداد إلى إدخال تغييرات على القيادات الحزبية، فمن كان مسؤولاً يبقى في قيادة هذا الحزب أو ذاك حتى الموت، أو العجز المطلق عن الحركة، هكذا كان الأمر في الأحزاب الشيوعية والعمالية بالدول الاشتراكية وفي بقية الأحزاب الشيوعية بالدول العربية.
• هناك العديد من الشيوعيات الديناصورات والشيوعيين الديناصورين المخضرمين، مع احترامي الشخصي لهم ولنضالهم الطويل، العاجزين عن رؤية الجديد في العالم والذين ما زالوا يعتقدون بأن المؤامرة العالمية هي التي أسقطت الاتحاد السوفييتي، وليس النخر والخراب والفساد الداخلي في الحزب والدولة وغياب الديمقراطية وسيطرة الهيمنة الشمولية وعدم وجود أرضية اقتصادية واجتماعية مناسبة أو صالحة للاشتراكية وفق معايير ماركس لبناء الاشتراكية، إضافة إلى عملية تشويه نهج المادية الديالكتيكية وممارسة المادية التاريخية بصورة خاطئة ومسيئة وهادفة. إن هذه المجموعة من الشيوعيات والشيوعيين الذين لا هم لهم سوى الحنين غير المجدي للماضي وتمجيده والبكاء على المواقع المفقودة، يفترض فيهم أن يتخلوا عن العمل في قيادة هذا الحزب أو ذاك أو على رأس تنظيماته أو حتى فيها أو على رأس التنظيمات المهنية التابعة لهذه الأحزاب. وهذه المسألة لا ترتبط بالعمر وحده بل بالتربية والتثقيف الحزبي الماضي، الذي ما يزال أكثره حاضراً ومستمراً. إن على هؤلاء أن يتخلوا عن مراكزهم القيادية وأن يتحولوا إلى مشاركين في إبداء الرأي لا غير، وليس إلى مستشارين، وإلا فأن الشباب سيفقد قدرته على التحديث والتجديد والعمل المجدي وسيضيع في زحمة هؤلاء الناس وهوسهم في الحنين إلى الماضي كما هو حال كل السلفيين من كل الأنواع. وكما ألاحظ، فأن الرؤية الستالينية واللينينية، فكراً وممارسة، ما تزال ترهق كاهلهم وتثقل كاهل اهذه الأحزاب أيضاً.
إن لم تلعب الأحزاب الشيوعية دورها الفاعل في التخلص من هذه الظواهر القديمة وغيرها، ستبقى تعاني من الكثير من المعضلات وستبقى تتحرك على هامش الأحداث. إن متابعتي لعمل هذه الأحزاب في الوقت الحاضر لشيوعيين في القيادة والكوادر والقواعد تشير إلى ذلك، وإلى أن الحزب بحاجة ماسة إلى عملية تجديد وتحديث واسعتين وشاملتين، أو إلى تغيير حقيقي وفعلي.
وبالنسبة للحزب الشيوعي العراق قدمت له بعض المقترحات قبل انعقاد مؤتمره الثامن في العام 2007 التي يمكن أن تكون ذات فائدة للحزب الشيوعي السوداني وبقية الأحزاب الشيوعية بالدول العربية والتي أدونها فيما يلي:
• أن يتحول الحزب الشيوعي إلى حزب يساري ديمقراطي يضم في صفوفه القوى اليسارية الديمقراطية التي تتطلع لبناء عراقي مدني، حر وديمقراطي وعلماني، وأن يكون مستعداً لاستيعاب بنات وأبناء المجتمع من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية. وهي مسألة مرتبطة بطبيعة المجتمع وبنيته الطبقية والتغيرات التي طرأت عليه خلال العقود المنصرمة والفترة الراهنة والتحولات الجارية في مفهوم وبنية الطبقة العاملة على الصعيد العالمي.
• أن يكون حزباً يدافع عن مصالح المجتمع العراقي ومصالح الفئات الكادحة والمنتجة للفكر والخيرات المادية والخدمات العامة.
• أن يغير اسمه من الحزب الشيوعي إلى اسم آخر ينسجم مع طبيعة المرحلة الجديدة ومهمات المجتمع الآنية وذات المدى المتوسط والبعيد، وليس المهمات الآفاقية التي تبتعد كثيراً من حيث الزمن. وهذا ما فعله الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي غير اسمه إلى "حزب الشعب الديمقراطي، أو "الحزب اليساري الديمقراطي" أو أي اسم آخر يتفق عليه الحزب. وهي ليست قضية شكلية بل جوهرية ترتبط بواقع البلدان العربية ووعي الغالبية العظمى من شعوبها وحاجاتها الفعلية، إذ لا بد أن ينسجم اسم الحزب مع مضامين المرحلة.
• أن يتخلى الحزب عن مبادئ الطاعة والمركزية الديمقراطية ووحدة الإرادة والعمل على الطريقة الستالينية أو اللينينية، مع الأخذ بمبدأ الديمقراطية والأكثرية والأقلية والانفتاح على الآراء. (راجع هنا مقالة البروفيسور فاروق محمد إبراهيم المشار إليه سابقاً حول الحزب الديمقراطي الجديد المنشود).
• أن يطرح الحزب نظاماً داخلياً جديداُ يقر فيه حق الشيوعي في حرية التفكير في الحزب، وإمكانية بروز اتجاهات متعددة ومنابر فكرية في إطار حزب يساري ديمقراطي، على أن يتم إقرار الخط العام من جانب الحزب بالأكثرية ويمارس فعلاً، ولكن لا يلغي حق الأفراد والجماعات في طرح وجهات نظرهم والدعاية لها ونشرها.
• أن يلتزم بمبدأ تجديد ثلث القيادة كل أربع سنوات ونصف القيادة كل ثماني سنوات، وأن يتغير السكرتير الأول ومكتبه السياسي كل دورتين، في ما عدا إذ تطلب الأمر، إخراج البعض قبل ذاك لأسباب مختلفة ووفق الشرعية والنظام الداخلي.
• أن يخفف من شروط العضوية ويلتزم بالقضايا العامة منها، والتي لا تخل بحرية الإنسان على الانتماء للحزب أو الانسحاب منه.
• أن يلتزم الحزب برنامجاً جديداً يؤكد فيه، (أشير هنا إلى بعض الأفكار البرنامجية وليس كلها ..):
- تمسك الحزب بالمجتمع المدني الديمقراطي واحترامه الكامل لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة والحرية الفردية وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والتعددية الفكرية والسياسية والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة ورفض العنف والحركات الانقلابية واستخدام السلاح للوصول إلى السلطة.
• سعي الحزب إلى تكريس مبدأ فصل الدين عن الدولة في الدستور والقوانين المرعية وإلى احترام جميع الأديان والمذاهب وحقها في ممارسة طقوسها وتقاليدها الدينية الإنسانية، إضافة إلى احترام كل الاتجاهات الفكرية والسياسية التي لا تخل بمبادئ الديمقراطية أو تدعو إلى العنصرية والشوفينية والطائفية السياسية والتمييز الديني القومي والأثني وبمختلف أشكاله الأخرى.
• العمل من أجل إقامة جبهة واسعة باسم "جبهة الديمقراطية والتقدم" بالدول العربية،  تلتقي فيها وحولها كل القوى التي تسعى إلى ذلك لتناضل من أجل تكريس النظام الديمقراطي الدستوري المدني (والفيدرالي)، ومن أجل وضع دساتير إنسانية وديمقراطية وأكثر احتراماً للقوميات والأديان والمذاهب والأفكار وحقوق المرأة والمثقفات والمثقفين والتعدد الثقافي، وبعيداً عن الطائفية السياسية ورفض الدمج بين الدين والدولة.
• الأخذ بمبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يمنح القطاع الخاص حرية الحركة ويحترم قوانين السوق، ولكنه في الوقت نفسه، ويحد من الصراع الطبقي المحتدم في المجتمعات العربية من خلال الحد من درجة الاستغلال التي يتعرض لها المنتجون فكراً وسلعاً مادية أو يمارسون الخدمات العامة، أي من خلال الاستفادة من أدوات السياسة المالية كالضريبة التصاعدية ووضع قوانين الضمان الاجتماعي والصحي والحد الأعلى لساعات العمل والحد الأدنى للأجور ...الخ.
• احترام الحزب للملكية الفردية والمبادرة الخاصة في الاقتصاد، وأن يمارس القطاع الخاص دوره الأساس في عملية التنمية والتطوير الاقتصادي.
• التزام الحزب بالحفاظ على ثروات البلاد الأولية بيد الدولة، ومساهمة قطاع الدولة بتنمية ثروات البلاد واستخدامها العقلاني بالطرق المناسبة والمشاركة في إقامة المشاريع الاقتصادية، الإنتاجية والخدمية، التي يعجز القطاع الخاص عن إقامتها.
• أن يعي الحزب طبيعة العولمة الرأسمالية الموضوعية ويميز بينها وبين السياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة في إطار سياسات اللبرالية الجديدة كأداة بيد المحافظين الجدد. وبالتالي عليه ألا يرفض العولمة، جملة وتفصيلاً، إذ إنها عملية موضوعية لا بديل لها، ولكن يعي كيف يستفيد منها ويوظفها لصالح المجتمع في إطار القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة، مع العمل من أجل تجنب أو تقليص الآثار السلبية لسياسات العولمة للدول السبع الكبار، بسبب التمايز في مستويات التطور والبنية الاقتصادية. وهذا يعني أيضاً بأن على الحزب ألا يدعو للخروج من المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية، بل التعامل معها على وفق الأسس التي تخدم مصالح العراق. فالعراق عضو في المجتمع الدولي واقتصاده يعتبر جزءاً من الاقتصاد الدولي ولا يمكن الانفصال أو الانعزال عنه، بل يفترض الاندماج فيه والاستفادة منه، ورفض الهيمنة عليه وممارسة الضغوط وإجبار الدول النامية على سياسات التكييف الهيكل والتصحيح الاقتصادي.
• الاستفادة القصوى والمناسبة من حرية حركة رؤوس الأموال على الصعيد العالمي لاستثمارها في اقتصاديات الدول العربية، لتعجيل عملية إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع وتسريع عملية التنمية الاقتصادية والبشرية.
• استثمار الثروة النفطية والغاز والموارد الأولية الأخرى باتجاهين: تطوير عملية التصنيع الحديث من خلال استثمار الموارد الأولية المتوفرة محلياً من جهة، ومن خلال تصدير الموارد الأولية وتوظيف رؤوس الأموال في عمليات التنمية الاقتصادية والبشرية من جهة ثانية.
• العمل على ربط عملية التنمية بالبيئة واعتبار حق الإنسان في العيش في بيئة نظيفة جزءاً من حقوق الإنسان المشروعة.
• أن يدافع عن مصالح المجتمع، وخاصة المنتجين ويدعو للعدالة الاجتماعية في عملية توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي وسبل استخدامه ومكافحة البطالة المكشوفة والمقنعة، وتقليص جهاز الدولة وتقليص بيروقراطيته المتشددة.
• تأمين مستلزمات إعادة إعمار الدول العربية التي دمرتها الحروب المتخلفة وتسريع عملية التنمية وتوفير الخدمات الأساسية للمجتمع المحروم منها خلال الفترات المنصرمة، والسعي لإيقاف عملية التضخم الجارية التي تتجلى في ارتفاع متسارع للأسعار التي ترهق كاهل الإنسان الكادح والفقير بشكل خاص بكل الدول العربية دون استثناء.
• احترام حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل في كل المجالات وتحررها من سيطرة المجتمع الذكوري القائم حالياً.
• تطوير وتعزيز دور المثقفات والمثقفين والحياة الثقافية والدفاع عن مختلف الفنون والرياضة والعلوم التي تواجه اليوم هجوماً شرساً من جانب القوى الإسلامية السياسية المتخلفة وغير المتنورة والطائفية المقيتة التي تريد قتل العلم والفن والثقافة والرياضة والتفاعل والتلاقح الثقافي وقتل البهجة والمتعة الفنية في نفوس الناس. إن المثقف بالدول العربية، سواء أكان رجلاً أم امرأة، الذي لا يمارس دوره الآن بصورة طليعية وطبيعية، بسبب الحكومات الاستبدادية والأوضاع البائسة والإرهاب، يفترض أن تتغير وأن تتبنى الأحزاب هذه المهمة وتناضل من أجل استقلالية المثقف وحريته في الفكر والعمل والإبداع وضمان حياته وعيشه الكريم. وهذه القضية تشمل الإعلام ودوره الحيوي.
إن الأحزاب الشيوعية التي تناضل ضد الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي وضد القهر السياسي والثقافي، تدرك بأن هذه المهمات وتحقيقها هي التي تقرب الحزب من هدف بناء العدالة الاجتماعية، بناء الاشتراكية، على المدى البعيد، باعتبارها ليست من المهمات الآنية لهذه الأحزاب.
لا شك في أن بعض الأحزاب الشيوعية بالدول العربية قد اتخذ بعض الإجراءات التصحيحية أو تخلى عن بعض القواعد التي التزم بها سابقاً، ومنها دكتاتورية البروليتاريا، كما حصل في الحزب الشيوعي العراق، ولكني ما أزال أرى إنها بعيدة عما ينبغي ان يحصل في هذه الأحزاب لتتحول إلى أحزاب قادرة على المشاركة في طليعة العاملين لتغيير مجتمعاتهم والنظم الاستبدادية والطائفية القائمة في بلدانهم.
وأخيراً أحيي بحرارة الدكتور صديق الزيلعي على مبادرته في إصدار هذا الكتاب المهم بمناسبة "الذكرى السبعون لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني" وجرأته في طرح السؤال الحيوي "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني ". أتمنى أن يجد صدى للمناقشة والتحليل وإبداء الرأي حول موضوعات الكتاب.
   الدكتور صديق الزيلعي، هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟، مركز آفاق جديدة للدراسات، بريطانيا، 2016.
2  الدكتور صديق الزيلعي، اقتصادي سوداني، وباحث في النقابات وعضو الحزب الشيوعي السوداني، انجز رسالة الدكتوراه بلندن في موضوع تاريخ النقابات والحركة النقابية بالسودان. مقيم بلندن.
3  أنظر: محمد محمود، الحزب الشيوعي السوداني: البيت الذي يناه عبد الخالق، ص 34-48) من كتاب "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟".
4 نفس المصدر السابق. بحث الدكتور فاروق محمد إبراهيم، الحزب الشيوعي السوداني والدعوة لحزب ديمقراطي جديد. ص 274-323.
5  المصدر السابق نفسه بحث للدكتور صديق الزيلعي بعنوان "مقدمة في نقد المركزية الديمقراطية". ص 453-473.




412
المالكي والفواجع التي ألحقها بالشعب العراقي!
كاظم حبيب

نشرت جريدة العالم بتاريخ 15/8/2016 مقتطفات ضافية من تصريحات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، نقلاً عن وكالة "أرنا" الإيرانية، تطرق فيها إلى خمسة مسائل: ضعف الحكومة الراهنة والغارقة في الصراعات الداخلية؛ الدعوة إلى انتخابات جديدة لتشكيل حكومة أكثرية برلمانية؛ اتهام السعودية بأنها منبع للإرهاب وضرورة فرض الوصاية الدولية عليها؛ وشكك المالكي في التآمر على الحكومة التركية؛ ثم اتهم الولايات المتحدة بأنها السبب في كارثة سقوط واحتلال الموصل.
ولدى نوري المالكي القناعة الفارغة والدَّعية بأن حكومته كانت قوية ولم تعان من صراعات وتفكك بالمقارنة مع حكومة العبادي، رفيقه في قيادة حزب الدعوة الإسلامية، الضعيفة والمتهاوية. القول بضعف حكومة العبادي لا غبار عليه، ولكن الادعاء بقوة حكومته وغياب الصراعات السياسية فيها ليس ادعاءً فارغاً فحسب، بل هو التعبير الصادق عن إن هذا النرجسي كان وما يزال يعيش في الوهم ومغترباً تماماً عن واقع العراق والسياسات الاستبدادية القاتلة التي مارسها والتي كلفت البلاد ضحايا تقدر بعشرات المرات أكثر مما حصل سنوياً في فترة حكومة العبادي الضعيفة، كما أنه المسؤول عن كل الكوارث التي حصلت بالعراق منذ العام 2006 حتى صيف العام 2014، بل وحتى الآن. والفارق الوحيد بينهما هو أن المالكي كان السبب، ومعه الإدارة الأمريكية، في كارثة احتلال الموصل وبقية أقضية ونواحي وارياف نينوى وصلاح الدين والأنبار والحويجة، وما حصل فيها من إبادة جماعية وسبي واغتصاب وتهجير وتشريد، في حين يتم الآن في حكومة العبادي الضعيفة حقاً طرد المحتلين الداعشيين الأوباش من العراق. وفي ما عدا ذلك ينطبق المثل الشعبي عن هذين الشخصين "غراب يگلة لغراب وجهك أبگع". أما دعوته لانتخابات جديدة وعاجلة فهي باطلة بسبب الأوضاع المحيطة بالواقع العراقي الراهن واحتلال الموصل والمشكلات التي ما تزال قائمة مع إقليم كردستان والنزوح الهائل لعدد من المحافظات العراقية، فالمطالبة بانتخابات عامة حالياً غير واردة ولا تأتي بجديد، إلا بالذين نهبوا البلاد والعباد باسم الله ورسوله وأهل بيته!! فهو مطلب حق يراد به باطل وبعيد عن الواقع في الظروف الراهنة!
لا شك في أن السعودية منبع الإرهاب، وهو قول صحيح، والمالكي لا يأتي بجديد. ولكن السؤال هو: ما الموقف من الحليفة إيران التي تعتبر المحتلة الفعلية للعراق وإرادته وسياساته، والمهيمنة على اقتصاده فعلياً، في حين ما تزال السعودية لم تحتل العراق، ولكنها ساهمت في تكوين المنظمة الإرهابية التكفيرية المجرمة "داعش" بالتنسيق مع تركيا وقطر، وبدعم أمريكي غير مباشر. إن نوري المالكي يطالب بالوصاية على السعودية، وهي الدولة الطائفية التي تخوض القتال في أكثر من بلد عربي بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن ألا تشارك إيران في ذلك أيضاً، وهي الدولة الطائفية التي تحارب في اليمن وسوريا ولبنان عبر حزبها، حزب الله، وبالعراق بالمليشيات المسلحة والحرس الثوري الإيراني لا حباً في عيون العراقيات والعراقيين بل عشقاً في الهيمنة الفارسية الشيعية الصفوية وفرض ولاية الفقيه على العراق كله! لقد استطاعت السعودية بأموالها أن تمنع الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي باتخاذ قرار إدانة لجريمة قتل الأطفال باليمن، وهي الحليفة القوية للولايات المتحدة، فكيف يمكن فرض الوصاية عليها، إنه وهم وعدم إدراك لطبيعة العلاقات الدولية.         
لم تكن المؤامرة التي وقعت بتركيا من تدبير أروغان بشكل مباشر، بل كان أردوغان قد استفز الجيش وعجل في وقوع الانقلاب واستعد له، حين صرح قبل الانقلاب بأنه ينوي إجراء تطهير واسع النطاق في القوات المسلحة والجهاز المدني. وخشية من حصول ذلك، قامت فصائل من الجيش بذلك الانقلاب، رغم إن قوى الانقلاب ليست أفضل من حكومة أردوغان ولا من غريمه فتح الله غولن، فهذه القوى إسلامية سياسية متطرفة.، ومناهضة في حقيقة الأمر للديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وطائفية سنية في مناهجها الإخواني، وهي لا تختلف عن الشخصية الطائفية الشيعية المتطرفة في طائفيتها نوري المالكي.
يقول نوري المالكي أن الولايات المتحدة كانت تعرف بوجود داعش وتقدمها صوب الموصل. ولا اشك في هذا التصريح. ولكن، عليه أن يوضح للشعب، كيف علينا أن نفهم أن المالكي ذاته كان يعرف بتقدم ما يقرب من 700 مجرم من مقاتلي داعش صوب الموصل، وهو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء، وكان لديه بالموصل عشرات الألاف من الجنود والضباط وضباط الصف والشرطة والأمن بالمدنية ولم يدفعهم لمقاتلة العدو، بل اعطاهم الأوامر بالانسحاب أمام هؤلاء الأوباش، على وفق تصريحات وأقوال الضباط الكبار المسؤولين عن الجيش بالموصل وعموم نينوى.
إن التحقيق الذي تم حول ما حصل بالموصل لم ينشر بكامله ولم يحاسب نوري المالكي أمام القضاء العراقي، ولهذا فهو لا يتورع من أن يتحدث بصوت مرتفع دون أن يستطيع الشخصية الضعيفة في حزبه، العبادي، أن يتحداه ويطالبه بكشف الحقيقة ويطالب بتقديمه إلى المحاكمة. إن صراع المالكي مع العبادي محمي بتأييد إيران له ورغبتها الجامحة بعودته لحكم العراق ثانية، وإلا لكان الرجل يقيم اليوم في الاعتقال لغرض التحقيق معه، على وفق الكارثة والاتهامات الكثيرة الموجهة له من خبراء قانونيين وسياسيين مطلعين على واقع العراق في فترة حكم نوري المالكي، بما في ذلك ضياع مئات المليارات من الدولارات العراقية.   





413
ما الموقف المطلوب من مشكلات المناطق المتنازع عليها بالعراق؟
كاظم حبيب
 
مارس نظام الفاشية والدكتاتورية والشوفينية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي بالعراق وعلى رأسه الدكتاتور صدام حسين سياسات مغرقة بالعداء للشعب الكردي وحقوقه القومية، كمما مارس الاستبداد المطلق في مواجهة كل القوى والأحزاب السياسية العراقية المختلفة والمناهضة لحزب البعث وهيمنته على البلاد، إضافة إلى سياساته العدوانية نحو دول منطقة الشرق الأوسط والحروب والاجتياحات التي مارسها طوال حكم البعث بالعراق، وخاصة بعد تسلمه زمام القيادة المطلقة في العام 1979. ومن ضمن السياسات التي مارسها النظام البعثي دور نظامه وحزبه في إجراء تغييرات ديمغرافية في المناطق التي تعتبر كردستانية وفي المناطق التي تدخل ضمن مناطق المسيحيين في محافظة نينوى، وذلك بنقل سكان تلك المناطق الأصليين إلى مناطق أخرى في الوسط والجنوب، ونقل سكان عرب من مناطق سكناهم وإسكانهم في المناطق التي أزيح منها الكرد أو المسيحيين. وقد أدى ارتكاب هذه الجريمة في عرف الأمم المتحدة وحقوق الإنسان إلى الإساءة الفادحة لنسبة عالية من سكان تلك المناطق، إذ أجبروا على العيش في مخيمات، كما في حالة سكان كركوك. كما أنه أجرى تغييرات إدارية على تلك المناطق بدمج مناطق كردية بمحافظات عربية، تسبب في خلق مشكلات جديدة للدولة العراقية. وعند العودة إلى التقسيمات الإدارية للعراق في فترة الجمهورية الأولى وحتى العام ،1962 وقبل الإسقاط الهمجي لنظام الحكم الوطني على أيدي خونة العراق وشعبه في شباط 1963 واستشهاد قادة ثورة تموز وعلى رأسهم الشهيد عبد الكريم قاسم، إذ توجد تفاصيل في هذا الصدد، سيجد المتتبع حجم الكارثة التي تسبب بها نظام البعث وصدام حسين من خلال عمليات القطع والدمج الجغرافي غير المبررين اقتصادياً وسكانياً واجتماعياً وثقافياً، بل كانت قد نفذت بذهنية عنصرية عدوانية بحتة. وإذا كانت معاناة السكان الأصليين كبيرة بعد تنفيذ تلك السياسات، فإن إعادة النظر الكاملة بتلك السياسات والإجراءات بعد سقوط الدكتاتورية في العام 2003، وعلى أيدي القوات الأجنبية الأمريكية والبريطانية والتحاف الدولي خارج شرعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، أصبح حاجة ملحة وضرورية لإعادة الناس إلى مناطق سكناهم واستعادة حقوقهم المشروعة، وإعادة الصفاء والوئام بين فئات المجتمع وقومياته وأتباع دياناته ومذاهبه. ولن ننسى في هذا المجال ما أصاب الكرد الفيلية ببغداد وفي بقية مناطق العراق من تهجير قسري ومصادرة للأموال المنقولة وغير المنقولة وإسقاط للجنسية العراقية، أي إسقاط حقهم المشروع والمطلق في المواطنة العراقية، وكذلك ما أصيب بها عرب الوسط والجنوب والأهوال من ظلم وقهر وتهجير وتدمير للبيئة الطبيعية للعراق.
في العام 2003 أسقطت الدكتاتورية البعثية، وفي العام 2004، صدر عن مجلس إدارة الحكم المؤقت "قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية" الذي أوجب في المادة 58 منه مجموعة من الإجراءات التي تضع الحل السليم والسلمي الديمقراطي لأوضاع تلك المناطق التي أطلق عليها بـ"المناطق المتنازع عليها". وقد تضمنت ثلاث فقرات مهمة يمكن الاطلاع عليها في القانون المذكور. وقد تشكلت في هذه الفترة أول حكومة عراقية تحت الاحتلال الأمريكي برئاسة الدكتور أياد علاوي. لم تتخذ أية إجراءات فعلية من أجل تنفيذ نص المادة 58 من القانون المذكور. وفي العام 2005 صدر الدستور العراقي الجديد، الذي تضمن المادة 140 لمعالجة مشكلة المناطق المتنازع عليها بنص واضح ودقيق واستناداً إلى المادة 58 من القانون السابق. ويؤكد نص المادة 140 ما يلي:
الدستور العراقي لعام 2005، "المادة (140):
أولاً: تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بكل فقراتها.
ثانياً: المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية والمنصوص عليها في المادة (58) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية تمتد وتستمر إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور على ان تنجز كاملة (التطبيع، الاحصاء وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها) في مدة اقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الاول سنة الفين وسبعة".
وحددت المادة ما يقرب من ثلاث سنوات لمعالجة المشكلة وحلها نهائياً. ولكن تشكلت بين العام 2004-2016 خمس حكومات عراقية وثلاث دورات للمجلس النيابي العراق وشكلت عدة لجان خاصة لمعالجة هذا الموضوع، ولم تنته إلى ما ينبغي الوصول إليه من إجراءات فعلية كفيلة بمعالجة المشكلة في ما عدا بعض الإجراءات المهمة كعودة المهجرين إلى مناطق سكناهم، وتعويض من وافق من العرب على العودة إلى مناطق سكناه الأولى. وما حصل للكرد لم يحصل مثله للمسحيين، بل تفاقمت عملية التغيير الديمغرافي في مناطق محافظة نينوى بشكل خاص.
لقد راوغت كل الحكومات المتعاقبة وابتعدت عن حل المشكلة بأمل حصول تغيير في ميزان القوى لكي تستطيع فرض الحل الذي تراه مناسباً على الكرد، وهي تشير إلى إن الكرد يستغلون الاختلال في ميزان القوى والصراع بين السنة والشيعة العرب ليفرضوا الحل المناسب لهم في هذه المناطق. وكانت القيادات الكردية تحل على إجراء الحلول، ولكن اللجان التي شكلت كانت لقبر القضية لا لحل المشكلة. وهكذا عطل أي حل فعلي وتفاقمت المشكلة والعلاقات المتوترة بين رئاسة وحكومة الإقليم من جهة والحكومة الاتحادية بقيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية التي كانت تدعي كونها حليفة ًللكرد ولقضيتهم العادلة من جهة أخرى. لا شك في ان الوقت كان في صالح الكرد، لكن لم يكن في مقدورهم فرض الحل من طرف واحد، بل الحل الذي يرضي الطرفين، والذي لم يحصل.
بعد اجتاح داعش للموصل وهيمنة وحوشهم على محافظة نينوى ومناطق من كركوك، أجبر مئات الألوف من سكان محافظة نينوى على النزوح والهجرة، بعد أن تعرضوا للسبي والاغتصاب والقتل وفرض الدين الإسلامي على جماعات منهم. وما تزال مناطق من محافظتي نينوى وكركوك تعاني الأمرين من إجرام عصابات داعش المتوحشة.
ومنذ عدة شهور بدأت معارك قاسية من جانب الجيش العراقي والمتطوعين والپيشمرگة الكردستانية تحققت فيها نجاحات مهمة على كل الجبهات. وتمكنت قوات الپيشمرگة من تحرير مناطق تابعة لمحافظة نينوى، التي تعتبر إدارياً تابعة للحكومة الاتحادية. كما تحررت محافظة صلاح الدين والأنبار وتتجه القوات العراقية لتحرير الموصل، كما تفعل ذلك قوات الپيشمرگة وفي مناطق أخرى من محافظة نينوى. والاتجاه يشير إلى قرب تحرير نينوى كلها، وخاصة الموصل من أيد العصابات المجرمة.
صدرت في الآونة الأخيرة عدة تصريحات عن قياديين مسؤولين بإقليم كردستان العراق تشير إلى أن قوات الپيشمرگة لن تنسحب من المناطق التي حررتها أو ستحررها لأنها تعتبر جزءاً من المناطق المتنازع عليها وتشكل جزءاً من إقليم كردستان وستبقى فيه.
إن هذا التصريح غير مناسب في هذه المرحلة التي يخوض الجميع النضال لتحرير كل المناطق المحتلة، إذ إنه يخلق المشكلات ويعقد النضال المشترك المطلوب حالياً، وهو بالتالي خاطئ. كما إن مثل هذا الموقف لا يؤسس لحل سلمي ديمقراطي عقلاني لكل المناطق التي تعتبر ضمن المناطق المتنازع عليها، وستخلق أرضية خصبة للصراع والنزاع المستديم، بل وإلى احتمال التصعيد من قوى بعينها من الجانبين تقود إلى إشعال حرب عراقية – عراقية غير مبررة وتقود إلى سقوط ضحايا كثيرة وخسائر فادحة لا معنى لها.
أشعر بأن الأخوة بالإقليم لم يفكروا جيداً بعواقب هذه الخطوة على صعيد المنطقة، خاصة وإن إقليم كردستان محاط بإعداء إلداء يسعون اليوم قبل غد إلى وأد الفيدرالية، وإن الفيدرالية كردستان شوكة شديدة اللم في عيونهم. واعتقد بأن حكومة وأحزاب إقليم كردستان العراق، التي تعاني من صراعات داخلية معقدة، ستكون في وضع صعب وغير مبرر وغير مطلوب في آن، وهو ما لا ارجوه لها. إذ يمكن أن تتظافر ضدها قوى المنطقة المناهضة لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه وللفيدرالية ولنضال الشعب الكردي بسوريا، ولما يجري من قصف ضد مناطق الإقليم من جانب إيران وتركيا، بسبب الحركات التحررية الكردستانية فيها، لتغمد الخنجر في موضع حساس وحرج من جسم كردستان، في جسم الفيدرالية. إنها مخاطر جمة ليست في صالح الإقليم ولا في صالح عرب العراق والقوميات الأخرى حالياً وفي المستقبل.
لا أشك في الخطأ الفادح الذي ارتكبته الحكومات الاتحادية المتعاقبة في محاولة الالتفاف على حل عملي وعقلاني للمناطق المتنازع عليها، ولكن ارتكاب خطأ فرض حل معين في وقت الحرب على الإرهاب، وفي ظل التعقيدات في العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، لن يساعد على تكريس حل سليم لتلك المناطق والخلافات بين الحكومتين لا في الوقت الحاضر ولا في المستقبل، بل سيزيد الأمر تعقيداً وخطورة.
لهذا اقترح على رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق أن يدرسوا الأمر بعناية مع جميع القوى والأحزاب الكردستانية، والتمعن في الأوضاع المتوترة الراهنة لا على صعيد العراق حسب، بل وعلى صعيد المنطقة بأسرها، من أجل التعرف على كل الاحتمالات قبل اتخاذ قرار من هذا النوع، ولاتخاذ القرار السليم والمناسب الذي يحافظ على العلاقة النضالية المشتركة والمديدة بين الشعبين العربي والكردي وبقية القوميات بالعراق.


414
كاظم حبيب
خسارة شعب العراق ليهوده وخسارة يهود العراق لشعبهم العراقي

تعرضت مملكتا يهوذا وأورشليم إلى عدة اجتياحات من قبل القوات الآشورية في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، وفي هذه الاجتياحات جلب الغزاة أعداداً كبيرة من الأسرى اليهود من بني إسرائيل إلى بابل ومناطق أخرى من بلاد ما بين النهرين. وهم بهذا المعنى من أقدم سكان بلاد ما بين النهرين مع الآشوريين والكلدان والكرد وقبل العرب بقرون عدة.
عاشوا وتفاعلوا وتلاقحوا ثقافياً واجتماعياً مع بقية سكان العراق وتعرضوا للكثير من المحن والعذابات والمحاربة. ولكنهم كانوا في توافق وانسجام مع الغالبية العظمى من سكان العراق. وفي فترة الخلافة الإسلامية العربية-الدول الأموية والعباسية- والدولة العثمانية لاقوا المصاعب أحياناً كثيرة، وعاشوا فترات أخرى في وضع طبيعي كما هو حال بقية السكان.
كان يهود العراق يحملون الجنسية العثمانية في الوقت الذي أصبح العراق جزءاً من الدولة العثمانية، وفيما بعد حملوا الجنسية العراقية (أ)، وكانت لغتهم وثقافتهم وعاداتهم وطباعهم وتصرفاتهم اليومية وسلوكهم البيتي عراقية بحتة لا يميزهم الإنسان عن غيرهم من العراقيين إلا في دينهم وطقوس هذا الدين، وربما في لهجتهم العراقية الخاصة. إلا أن العراقيين لهم لغات متعددة ولهجات عربية أم كردية متعددة أيضاً، إذ لا يعتد باللهجة كفارق بأي حال. وشارك يهود العراق في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية العراقية بشكل واضح ومتميز في بعض المجالات، كما في الاقتصاد والمال أو الطب أو الموسيقى أو غيرها. 
تراوح عدد يهود العراق في العام 1947-1948 بحدود 118000 نسمة، ولكن في واقع الحال بلغ العدد الفعلي بحدود 140000 نسمة. كانت غالبية يهود العراق تعتبر العراق وطنها الأول وتريد البقاء فيه، وإذا كانت تريد السفر إلى فلسطين، فلغرض زيارة حائط المبكى والأماكن المقدسة ومن ثم العودة إلى العراق، كما كان يحصل قبل قيام الدولة الإسرائيلية.
لا شك، كانت هناك جمهرة صغيرة جداً من يهود العراق الذين تبنوا الفكر القومي الصهيوني المتطرف ومارسوا أساليب مناهضة للديمقراطية ومعادية لوجود اليهود بالعراق، بنا في ذلك التفجيرات، ولكن من تسبب في إخراج اليهود من العراق ليست هذه المجموعة الصغيرة من الصهياينة، بل كان القانون الذي أصدره مجلس النواب العراقي بطلب من الحكومة العراقية التي ترأسها توفيق السويدي للمرة الخامسة وكان صالح جبر وزيراً للداخلية فيها، بإسقاط الجنسية العراقية عنهم في مارس، أذار 1950 وتشجيعهم وتوفير مستلزمات دفعهم بشتى السبل لمغادرة العراق، بما في ذلك استخدام أساليب الملاحقة والاعتقال والتعذيب والمضايقات اليومية وقطع الأرزاق والمنع من العمل في وظائف الدولة وفي التجارة، ومنع الطلبة من الدراسة الجامعية ومنع السفر للاصطياف أو منع التصرف بأموالهم المنقولة وغير المنقولة، إضافة إلى القمع والتهديد بالقتل وغير ذلك.
لقد تآمرت أربع دول على تهجير يهود العراق هي العراق وإسرائيل وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، في حين لم يكن الشعب العراقي، بمن فيه يهود العراق راضياً على ذلك. لقد خسرنا جزءاً عزيزاً من ابناء وبنات وطننا العراقي، يهود العراق، ويهود العراق خسرونا وخسروا العراق أيضاً. واليوم نواجه مخاطر أخرى، فأن من قتل ويقتل المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين أو يدفع بهم إلى ترك العراق تحت التهديد بالقتل، هي تلك القوى الإسلامية السياسية المتطرفة والإرهابية وغيرها من المليشيات المتطرفة التي تريد إخلاء العراق من أتباع الديانات والمذاهب الأخرى. إنها تهديد خطر لوحدة ونضال وتضامن الشعب العراقي كله.

في العام 2013 أنجزت كتاباً بعنوان "يهود العراق والمواطنة المنتزعة" وصدر عن دار المتوسط ببيروت في العام نفسه. وقد وجهت قبل إنجاز هذا الكتاب وفي العام 2013 31 سؤالاً إلى جمهرة من يهود العراق القاطنين بلندن وتورنتو وأمريكا وإسرائيل. وقد أجاب على تلك الأسئلة جميع من وجهت لهم الأسئلة، ومن بينهم عائلة صاحب الأعمال العراقي والمواطن الذي عاش ببريطانيا منذ أن هُجّر قسراً من العراق في السبعينيات من القرن الماضي السيد داود نسيم الخلاصجي وزوجته الفاضلة السيدة أيلين وابنه التاجر وصاحب الأعمال حالياً السيد فريدو. وبسبب وفاة السيد داود خلاصجي أنشر إجابات العائلة على تلك الأسئلة مع تعازي الحارة لذوي الفقيد والذكر الطيب للفقيد.   


اللقاء الصحفي في صيف عام 2013 بلندن/بريطانيا
الاسم: داود نسيم خلاصچي (1921م) تاجر، أيلين خلاصچي (1929م) ربة بيت، وفريدو خلاصچي (1957م) تاجر. العائلة تعيش بلندن
أجوبة السيدة أيلين خلاصچي ومطعمة بأجوبة السيد داود خلاصچي.


            2013 م في شقة عائلة خلاصچي بلندن

س1: كيف كانت حياتك العامة والشخصية بالعراق؟ هل كنت تعيش تمييزاً من المحيط الذي كنت تعيش أو تعمل فيه؟ كيف كان يظهر هذا التمييز عملياً؟ وهل كانت هناك إساءات من أجهزة الدولة أو من الناس لك باعتبارك يهودي الديانة؟
ج 1: حياة يهود العراق في عهد الملك فيصل الأول كانت رائعة، كطفلة كانت حياتي عادية، لم أعش أية مضايقات في حينها ولم أشعر بالتمييز. مثال على التمييز الذي برز في الثلاثينات بعد وفاة الملك فيصل الأول:
حين عاد أخي من دراسته في بريطانيا إلى العراق أواخر الثلاثينات وجب أن يخدم ضابط احتياط وكان متقدما في دراسته في بريطانيا وكذلك في دراسته في فترة الاحتياط. وحين تخرج لم يعين ضابطاً بل عين نائب ضابط لأنه يهودي، في حين عين بقية اقرانه ضباطا. وكان هذا التمييز صارخاً. حتى بداية الثلاثينات لم نشعر بأي تمييز فعلي ولكن في الفترة التي برز فيها الاتجاه القومي.

س 2: هل كنت تعيش الغربة في وطنك العراق حين كنت تمر بأشكال من التمييز، أم لم يكن التمييز موجوداً أو واسعاً؟
ج 2: ومنذ منتصف الثلاثينيات ومجيء رشيد عالي الگیلانی بدأنا نشعر بالمضايقات. المغثة بالنسبة لنا بدأت في العام 1936 كنا نخرج عادة من التوراة بملابس الأعياد، فكان بعض الناس يلاحقوننا بالحجارة. وقد قتل في حينها واحد من اليهود. كانت مغثة فردية، وكانت تأتينا من الحكومة أيضاً. كنا عموماً نعيش حياة طبيعية وطيبة في وطننا العراق. كان شركاؤنا في الزراعة مثل الحاج رايح العطية وشعلان السلمان الظاهر ورئيس عشيرة الخزاعل، طيبون معنا، وكانت أوضاعنا جيدة.

س 3: هل كنت تعرف شيئاً عن الحركة الصهيونية قبل مجزرة الفرهود؟ وهل تأثرت به؟
ج 3: كنا نسمع بالصهيونية طبعاً ولكن لم نتبناها ولم تؤثر بنا ولم تكن لنا أية علاقة بالحركة الصهيونية.

س 4: هل كنت تحس بوجود دعاية نازية في فترة وجود هتلر والنازيين في السلطة في ألمانيا بين 1933-1945؟ وهل كان لها أثر معين على علاقتك ببقية العراقيات والعراقيين من ديانات أخرى وخاصة والمسلمين، سواء أكان في المدرسة أو العمل؟
ج 4. كانت الدعاية النازية واضحة وشديدة في العراق وتبناها الكثير من أبناء العراق حينذاك وكانت مؤثرة على المجتمع في إثارتها للكراهية ضد اليهود وضد الإنكليز. لم تؤثر هذه الدعاية على العلاقة مع المسلمين العراقيين ممن كانت لنا علاقات طيبة بهم من قبل.

س 5: هل كان للدعاية النازية الألمانية ضد اليهود دور في مجزرة الفرهود في بغداد والنهب والسلب في البصرة؟
ج 5: حصل الفرهود ضد اليهود في المناطق التي يسكنها على الاكثر يهود فقراء وكدلك منطقة البتاوين ولم تصب المناطق الغنية بأذى إلا القليل. حين حصل الفرهود جاء سائق سيارتنا، وهو يهودي، على دارنا وأخبرنا بأن لا نخرج من الدار ونحافظ على أرواحنا وكان يعيش في المناطق التي تعرضت للفرهود وخاطر بحياته. وفي ذات اليوم ولدت زوجته طفلة أسماها فرهودة. كان بيتنا في شارع أبو نواس وكنا نرى أناس يحملون المسروقات ويمرون أمامنا ويذهبون إلى بيوتهم. لقد سرقت محلات في شارع الرشيد والحيدر خانة وغيرها. لقد دخل عدة أشخاص من الممر الجانبي لبيتنا وعند وصولهم الى وسط الممر واحد منهم قال للباقين انا ما ادخل الى هذا البيت. فالجميع اضطرّوا ان يرجعوا. والدي وشقيقي الضابط كانوا بالطابق الاول قرب الشباك وسمعوا هذا الكلام. كانت مسألة غريبة بالنسبة لنا لماذا دخل ولماذا رفض السرقة.
 
س 6: كيف عشت أو عشتِ عملية الفرهود في 1 و2 حزيران 1941 وهل فقدت أحداً من عائلتك أو اقربائك؟ وس 7: هل تعتقد بأن مجزرة الفرهود كانت تواطئاً بين السفارة البريطانية والقوات البريطانية في العراق، كما تشير إلى ذلك بعض المصادر؟
 ج 6 و7: نعم كان هناك تواطئاً، إذ تقدم الجيش البريطاني إلى صوب الكرخ ولم يعبر إلى الرصافة في حين كان الفرهود في الرصافة، وكان في مقدوره إيقاف المجزرة. ولكن اريد ان اعطي لك مثلاً. حدث قبل الفرهود سنة 1940 كان عندنا صوم وبعد ما فطرنا من الصوم خرجت مع اخي واختي.  نتمشى في شارع ابو نواس. مر بنا شاب يمتطي دراجة هوائية. مر بنا مسرعاً. احسست بشيء يحرقني في ظهري، رجوت أخي أن ينظر ماذا جرى لظهري. نظر فرأى ناراً تحرق ملابسي. مزق النفنوف من الظهر. وأطفأ الحريق. لقد رمى الشاب تيزاباً على ظهري وولى مسرعاً. لقد عرف الشاب بكوننا من اليهود وأراد إيذاؤنا. ذهبنا إلى الشرطة وسجلنا دعوة كما ذهبنا للمعالجة. ولكن لم يحصل شيء. وقد حدث نفس الشيء لعدة فتيات يهود.

 س 8: كيف وقعت جريمة الفرهود وهل تتذكر أحداثها أو انطباعات عائلتك عنها؟
س 9: هل كان للفرهود تأثير على العلاقة بين اليهود والمسلمين في أعقاب ارتكاب هذه الجريمة البشعة؟
ج 8 و9: نعم، لقد اساء الفرهود إلى تلك العلاقة القائمة على الثقة المتبادلة، وخلق أجواء
نفسية معقدة وحذرة لدى يهود العراق. لقد خلق شكاً وتباعداً فيما بعد.
 يوم 1 و2 من حزيران كان عندنا عيد نزول التورات. وفي هدا اليوم كثير من العائلات يذهبون لزيارة مرقد النبي يحزقيل في الكفل. لكن ليلة واحد حزيران ابتدأ الاعتداء على اليهود. في هذه الليلة في الباب الشرقي انزلوا اليهود من الباص وكانوا اثنان وذبحوهم على الرصيف بدون سبب اقترفوه فقط لأنهم يهود.

س 10 و11 و12: ما هو تأثير هذه الجريمة على الوضع النفسي والحياة اليومية ليهود العراق وعليك كشخص عراقي يدين بالديانة اليهودية؟ و س 11: هل مارست السياسة في العراق؟ وكيف كانت علاقتك بأعضاء الحزب أو الجهة التي كنت تتعامل معها؟

ج 10 و 11 و12: لم أعان شخصياً ولكن كنا عايشين في خوف مستمر. وكنا دائماً حذرين في تصرفاتنا. فبعد اعلان دولة اسرائيل اوقفوا والدي بدون سبب فقط لأنه تاجر معروف
وجاءوا وفتشوا البيت غرفة فغرفة وحتى فتحوا الدواليب لعلهم يجدوا شيئاً يبرر ادانة والدي. بعد كم يوم أفرجوا عنه. كلا لم أعمل بالسياسة.

س 13: هل كنت تشعر بالرغبة للهجرة قبل صدور قانون إسقاط الجنسية؟ وهل جاء هذا القانون منسجماً مع رغبتك أم ضد رغبتك وإرادتك؟
ج 13: كلا، لم أشعر بأي رغبة في الهجرة، وما حصل ضد رغبتي ورغبة عائلتي.

س 14: هل أصبحت عضواً في عصبة مكافحة الصهيونية في العراق، وهل شاركت بنشاطاتها؟
ج 14: كلا

س 15: كيف كان تعامل النظام الملكي مع يهود العراق؟
ج 15 : كان تعامل العهد الملكي لفيصل الأول مع اليهود ممتازاً، لقد كان فيصل الأول يزور جدي حاخام عزرا دنگور في المناسبات والاعياد. وتغير الوضع في زمن الملك غازي. وكانت له إذاعة يتحدث بها ضدنا.

 س 16: وكيف كان تعامل العهد الجمهوري الأول مع يهود العراق؟ وهل عانيتم في زمن عبد الكريم قاسم من التمييز والضغوط؟ وهل أجبر من تبقى من يهود العراق على تغيير دينه؟
ج 15: كان تعامل العهد الجمهوري في زمن عبد الكريم قاسم ممتازاً حقاً وإيجابياً جداً إزاء اليهود. والخطأ الوحيد الذي ارتكبه إزاء اليهود هي محاولته هدم ومسح مقبرة اليهود وإقامة برج الزعيم هناك. وقد نصحوه كثيراً بالكف عن ذلك ولكنه أصر. وبالمحصلة لم يحصل ذلك لأنه قتل. لم يكن أي تمييز في زمن عبد الكريم قاسم، ولم يجبرنا أحد أو يطلب منا تغيير ديننا.
                                       
                                              
فريدو خلاصجي (حفيد الحاخام)                                       الحاخام عزرا ندگور

س 17: هل صودرت أموالك المنقولة وغير المنقولة، وهل هي ضمن الأموال المجمدة؟ وهل ترغب في استردادها من الحكومة العراقية؟
ج 17: نعم جمدت أموالنا المنقولة وغير المنقولة ونأمل أن نستعيدها يوماً انشاء الله. عند وقوع حرب أكتوبر مع إسرائيل، صدر قرار بمنعنا من السفر إلى الخارج ولمدة عام كامل، ولم نستطع التعامل مع ما ليدنا من أملاك. سمحوا لنا بسحب مائة دينار لكل دفعة فقط. وحين أعطى زوجي صكاً بمبلغ 120 ديناراً للسحب من حسابه في البنك، جاء رجل من جهاز الأمن وقال بأننا سحبنا 120 ديناراً وهو أكثر من المقرر، فإما أن نعيد ما سحب أو نعاقب الموظف في البنك الذي صرف المبلغ. في العام 1974 كان لنا حق الحصول على جواز سفر فقررنا مغادرة بغداد الحبيبة وتركنا كل شيء خلفنا بما في ذلك حسابنا في البنك وما نملك. 

س 18: هل جرى تعذيبك واضطهادك في فترة حكم البعث أو في فترات سابقة؟
ج 18: نعم صدرت قوانين في فترة البعث في العام 1963 ضد اليهود ومنها المنع من السفر. وفي العام 1967 وبعد حرب الأيام الستة 1967 صدر قرار بمنع بيع أملاكنا وألغيت عضوية من كان في أي من النوادي العراقية وتم قطع الهواتف عن البيوت ومحلات اليهود. وكأننا كنا نحن نشارك في هذه الحرب التي لا ناقة لنا بها ولا جمل! أراد بعض المسؤولين في عهد عبد الرحمن محمد عارف جمعنا في "گیتو" خاص باليهود في بعقوبة. ولكن عبد الرحمن عارف رفض ذلك بإصرار ولم ينفذ.

س 19: هل تشعر بالمرارة لإسقاط الجنسية العراقية والنزوح من العراق؟
ج 19: نعم أشعر وعائلتي بمرارة كبيرة لخروجنا القسري من العراق، فنحن عائلة عراقية ونحس بعراقيتنا ونعيشها يومياً.

س 20: كيف تنظر إلى العراق في الوقت الحاضر؟ وهل تشعر بالرغبة للعودة إليه كزائر وكمطالب بحقوقه أم للإقامة فيه؟
ج 20: رغم رغبتي بزيارة العراق، ولكن لا أريد رؤية العراق على ما هو عليه الآن، اريد أن تبقى صورته في ذاكرتي الطرية كما كانت في الخمسينات، ولكن لم اعد قادرة على الإقامة فيه.

س 21: كيف كانت أوضاعك بعد الهجرة؟ هل عانيت كثيراً بسببها؟ وهل تعيش الآن في إسرائيل أم في دولة أخرى؟
ج 21: كانت الهجرة صعبة وقاسية والتأقلم كان صعباً. وقد عانينا الكثير. لم نذهب إلى إسرائيل وبقينا في بريطانيا.       

س 22: كيف تنظر إلى معاناة مواطنيك السابقين من الشعب العراقي خلال النصف الثاني من القرن العشرين وفي الوقت الحاضر؟
ج 22: نتألم جداً لما يجري في العراق كما يتألم أي عراقي آخر يحب شعبه ووطنه.
س 23: هل لك علاقات مع عراقيات وعراقيين من مختلف الأديان والقوميات في الخارج؟ وكيف تُقَّيم هذه العلاقات إنسانياً؟
ج 22: نعم لنا علاقات طيبة مع عراقيين يهود وغير يهود.

س 24: هل بعد إقامتكم خارج العراق أصبحت أكثر حينينا إليه، وهل ترى إن النداء إلى العودة واقعي يمكن تحقيقه؟
ج 24: الحنين موجود وكبير ولكن ما العمل!

س 25: ما هو شعوركم اتجاه ما يحدث في العراق من قتل وتدمير، وهل يجعلك هذا الواقع متخوفا من العودة إليه للمشاركة في إصلاحه؟
ج 25: شعورنا مليء بالألم والحزن لما يعاني منه الشعب في العراق. وهي مؤسفة حقا.ً

س 26: هل كونك يهوديا، أصبحت الآن لا تهتم بما يقع في العراق من مصائب، وان هذا امر يخص مسلمي العراق لا يهودها؟
ج 26: أنا وعائلتي نهتم بالعراق كما يهتم كل عراقي آخر يعيش الغربة والهجرة.

س 27: هل إمكانية استرداد الأموال المجمدة والتعويضات تشجعكم على الاستقرار في العراق كمواطن مضمون الحقوق والواجبات؟
ج 27: كلا، لا نجد مجالاً للعيش في العراق ثانية. لأن الناس الذين كنا نعرفهم وعشنا معهم جميعهم هاجروا ولهذا السبب سنصبح غرباء في بلادنا مع الاسف.

س 28: هل تجد فرقا بين يهود العراق في إسرائيل وأولئك الذين يعيشون في المهاجر تجاه الحنين والعلاقات مع العراٌق؟
ج 28: لا نجد فارقاً بين من يعيش في الخارج أو يعيش في إسرائيل بشأن الحنين للعراق لمن ولد بالعراق وعاش فترة هناك. فالحنين موجود لدى الجميع، تجد العراقيين في اسرائيل يتكلمون بالعربي ويسمعون موسيقى عربي. كذلك الحفلات فيها الاغاني العربية. ويتباين بتباين الأشخاص وعيشتهم السابقة بالعراق.
ج 28: كلا لا أؤيد التجنيد وأطلب السلام دائماً.

س 29: لو عدت إلى العراق، أكنت تريد أن تخدم في القوات المسلحة العراقية، ومنها الجيش العراقي؟
ج 28: كلا لا أؤيد التجنيد وأطلب السلام دائماً.

س 30: هل أثر تغيير النظام الدكتاتوري الصدامي على موقف العراقيات والعراقيين من يهود العراق والكتابة عنهم؟ وهل أحس بذلك أم أنك بعيد عن ذلك؟
ج 30: نعم أرى وجود اهتمام أكبر بنا بعد سقوط النظام السابق. لأن شعروا الآن بان كنا مظلومين في
بلدنا.

س 31: هل ما تزال تستمع إلى الأغاني العراقية القديمة والجديدة، وهل أطفالك أو أحفادك انقطعوا نهائياً عن أخبار وأحداث العراق؟
ج 31: نعم نستمع للأغاني العراقية وكذلك الأبناء ولكن ليس الأحفاد.                     

  كتب السيد مازن لطيف علي عن عائلة خلاصجي في مقال له نشر في الحوار المتمدن ما يلي:
" عائلة خلاصجي من العوائل اليهودية العراقية العريقة والمعروفة برجالاتها وبثروتها وجاهها وشعبيتها ونظمها للشعر الشعبي وشهرتها الكبيرة، وقد تميزت باهتمامها بالزراعة وانتاج الشلب في مدينة الديوانية، وخاصة في منطقة الشامية، حيث امتلكت هذه العائلة الكثير من الاراضي الزراعية فضلاً عن تشغيلها للكثير من المزارعين الذي يعملون عندهم.ويذكر نعيم جلعادي ان عائلة خلاصجي هي بالأصل من آل هارون وهي عائلة كبيرة ومهمة من عائلات (الشتات البابلي)، وبعدها تحت حكم العثمانيين، غيّروا اسم عائلتهم وصاروا يعرفون بآل خلاصجي ومعناه (تخليص الذهب الخالص من المعدن الرخيصة، تمهيدا لإرساله الى دار الضرب في اسطنبول). الجد الاكبر هو "الياهو" الذي ولد عام 1780 وتوفي عام 1870. خلف 5 أولاد منهم هارون وداود الذين سوف اتطرق لهم. وسوف نتكلم عن اثنين من احفاده وابنائهم وهم سلمان ابن هارون وعزرا ابن داود."


415
البروفيسور كاظم حبيب

4 دول سبب الفوضى السورية والحل في الدولة المدنية الديمقراطية

آلان عثمان
برلين– أعتبر البروفيسور العراقي كاظم حبيب في الشأن السوري أن”أربع قوى إقليمية كان لها الدور الأكبر في إشاعة الفوضى “الخلاقة!” والحرب الدموية بسوريا، وهي: تركيا والسعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى وإيران”، مشيراً أن الحل يكمن في انشاء دولة مدنية ديمقراطية ويحفظ حقوق كافة المكونات.
ووصف حبيب الحرب الجارية في سورية بـ “حرب إبادة جماعية وضد الإنسانية، حرب تخريب وتدمير ليس للبنية التحتية فحسب، بل وكل ما هو ضرورة وممكن لحياة الإنسان على الأرض”.
ورأى حبيب بأن “الحل الوحيد الممكن والضروري في بلد ومجتمع متعدد القوميات والأديان والمذاهب، يتم عبر إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، الدولة الدستورية التي تعتمد مبدأ فصل الدين عن الدولة والفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة والامتناع عن اغتصاب السلطة حقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب”.
وجاء ذلك خلال حوار أجرته معه وكالة أنباء هاوار ونص الحوار جاء كالآتي:
بعد مرور أكثر من خمس سنوات من الدمار سوريا الى أين تتجه؟، وهل هناك أي أمل يلوح في الأفق عن تسوية سياسية؟ أم إن مسلسل العنف سيستمر لسنوات؟
كل الاحتمالات مفتوحة على الوضع بسوريا، إلا إن الثابت لي بإن الحرب الجارية غير قادرة على إيجاد حل للمشكلة السورية. كما لم يعد ممكناً حل المشكلة داخلياً فقط، بسبب التداخلات الإقليمية والدولية، وبالتالي فالحل لا بد يتخذ صيغة الحوار على الصعد الدولية والإقليمية والمحلية. وإذ لم يعد ممكناً تجنب النظام الدكتاتوري الحاكم بسوريا من الحوار، لا يمكن في الوقت ذاته تجنب المعارضة المدنية والقوات الكردية الديمقراطية المناضلة، إذ إن الحل سيكون بين هذه الأطراف الثلاثة الداخلية وبدعم دولي وإقليمي ملزم. ولكي يتم ذلك لا بد ابتداءً من طرد عصابات داعش المتوحشة وجبهة النصرة وما يماثلهما من قوات إسلامية سياسية متطرفة وإرهابية من الأراضي السورية، ولا بد من الفصل بين القوات المدنية وقوى الإسلام السياسي الإرهابية والقوى المتطرفة.
لو لم يمارس النظام السوري الاستبداد والقمع والاضطهاد، ومارس العقلانية في مواجهة الحركة المدنية الديمقراطية التي طالبت بدولة مدنية ديمقراطية وإنهاء حكم الحزب الواحد، لما وصل الحال إلى ما هو عليه من موت وخراب ودمار. فمسؤولية النظام السياسي البعثي مركزية ورئيسة في ما حصل خلال الأعوام الخمسة المنصرمة. ولكن أربع قوى إقليمية كان لها الدور الأكبر في إشاعة الفوضى “الخلاقة!” والحرب الدموية بسوريا، وهي: تركيا والسعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى وإيران. أما حزب الله فهو التابع الذليل لإيران ولقرارات المرشد الإيراني الأعلى دون أدنى ريب. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية وقفت هي الأخرى وراء قرار الحكومة التركية والسعودية والدول الخليجية في إشعال نار الحرب الدموية بسوريا. لقد كانت الدول الأربع + الولايات المتحدة وراء انبثاق تنظيم داعش الإجرامي بسوريا واتساع رقعة هيمنته على نينوى وصلاح الدين والأنبار وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها بمحافظة نينوى على نحو خاص.
إن الأمل بحل سلمي أو تسوية سلمية للقضية السورية متوفر فعلاً، لو تحكم العقل والإرادة بكل الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المسؤولة عن هذه الحرب الهمجية والمجنونة، باعتبارها المسؤولة الفعلية عن وجود داعش ومن لف لفها في الأراضي السورية، وهي القادرة على دعم جهود تطهير الأرض منهم. ويبدو لي إن التدخل الروسي النشط في الأزمة السورية، رغم علمي بالمصالح الضيقة التي حركت الدولة الروسية بهذا الاتجاه، إلا إنه يمكن أن يساعد في فرض موقف محدد على الولايات المتحدة ويجبرها على التخلي الفعلي عن دعم استمرار القتال، على وفق ما اتخذ من قرارات في المؤتمر السيء الصيت الذي عقد في الرياض بالسعودية، والذي وضعت المعارضة السورية المدنية أيضاً كل أوراقها بيد تركيا والسعودية وقطر.
 
القوى الاقليمية “إيران ودول الخليج وتركيا” كان لها الأثر الواضح في استمرار الأزمة السورية، برأيك هل ستتوقف تلك الدول من التدخل في الشأن السوري أم ستواصل صراعها على الأرض السورية؟
لن تتوقف الدول الإقليمية، تركيا والسعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى وإيران، عن التدخل المباشر وغير المباشر في الشأن السوري، بإرادتها الحرة، بل ستجبر في المحصلة النهائية، على ذلك، بالارتباط مع التطورات والتغيرات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، التي بدأت تخلق مشاكل كبرى لها بدول الاتحاد الأوروبي، وخاصة بفرنسا وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والتي يمكن أن تنتقل إلى إسرائيل أيضاً. ولكنها، وارتباطاً بالمساومات الدولية والإقليمية والمحلية المحتملة التي سترافق التسوية المقبلة، ستحاول كل هذه الدول أن تضمن بعض المصالح لها بسوريا. ويبدو حالياً بأن الأكثر قدرة على فرض مصالحه هما روسيا وإيران، خاصة وأن إيران تحارب بحزب الله وبقوى من الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى وحدات عراقية من المليشيات الشيعية المسلحة التي تدار من قبل قيادات عسكرية وسياسية إيرانية. وفي حالة الوصول إلى تسوية سلمية، سيستمر الصراع على الأرض السورية لفترة طويلة، إلى أن يتمكن الشعب السوري من الخلاص من النظام السوري ورئيسه ومن القيادات السياسية التي ارتبطت بتركيا والسعودية وقطر وإيران. وهذه العملية نضالية معقدة وطويلة الأمد ومليئة بالتضحيات الجسام، ولكن لا بد منها، والشعب السوري بكل قومياته قادر على تحقيق ذلك.
الصراع السوري الذي تصاعدت فيه الممارسات الوحشية من قبل الأطراف المتصارعة والذي أخذ طابعاً طائفياً، بعد كل هذا الشرخ في المجتمع السوري برأيك ما هو الحل لالتأم هذا الجرح؟
لقد فاقت وحشية النظام السوري وبقية القوى المتنازعة بسوريا كل التصورات عن حرب داخلية وحشية، فقد كانت هذه الحرب حرب إبادة جماعية وضد الإنسانية، حرب تخريب وتدمير ليس للبنية التحتية فحسب، بل وكل ما هو ضرورة وممكن لحياة الإنسان على الأرض. ولعبت الدول الإقليمية والدولية دورها في صب المزيد من الزيت على النيران المستعلة. وتسبب هذا النزاع الدموي إلى نزوح داخلي لما يزيد عن ثلاثة ملايين إنسان، وهجرة عدد متزايد دوماً ومماثل لذلك صوب الدول المجاورة وأوروبا وغيرها من الدول.
لقد بدأ الصراع بسوريا حول الموقف من الدولة المدنية الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وقد كان بيان القوى المدنية الديمقراطية واضحاً في هذا الصدد. إلا إن إصرار النظام على رفض المطالب والتشبث بالحزب الواحد، حزب البعث العربي الاشتراكي، بقيادة الدولة بسلطاتها الثلاث والهيمنة التامة على المجتمع، والذي تبلور في فرض حافظ الأسد استبداده بالانقلاب العسكري في العام 1970 وما أطلق عليه تجاوزاً بالحركة التصحيحية، والذي استمر بوجود الدكتاتور الصغير بشار الأسد.
منذ ما يقرب من عشر سنوات بدأ الصراع الطائفي يتحرك بمكشوفية عالية بسوريا بعد أن كان مغطى بطبقة خفيفة من الفكر القومي-البعثي السوري. ولا يمكن حالياً تجاوز الشرخ الحاصل في الدولة والمجتمع السوري باستمرار النظام البعثي بسوريا بوجود القوى الطائفية الحاكمة أو تلك الأخرى التي تريد استبدال حكم طائفي بحكم طائفي آخر. وأرى بأن الحل الوحيد الممكن والضروري في بلد ومجتمع متعدد القوميات والأديان والمذاهب، يتم عبر إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، الدولة الدستورية التي تعتمد مبدأ فصل الدين عن الدولة والفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة والامتناع عن اغتصاب السلطة حقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، أي العمل من أجل بناء المجتمع المدني الديمقراطي ورفض الطائفية السياسية المقيتة. إنه الحل الوحيد لبناء سوريا جديدة وديمقراطية موحدة وحياة دستورية نزيهة.
يتبع غداً…..
 



416
مساومات الدولة وأفعالها مذلة للشعب العراقي!!

كاظم حبيب

يستحيل أن تجد دولة في هذا العالم، رغم وجود عشرات الدول الفاسدة فيه، فاسدة كدولة العراق بسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضاء، ويستحيل أن تعثر على دولة تضحك على ذقن شعبها المستباح في مشارق الارض ومغاربها كدولة العراق، ويستحيل ان تجد، في هذا العالم الرحب بملياراته السبعة من البشر، اناسا فاسدين بوحشية كما بالعراق. كما يستحيل أن تعثر على دولة وصل فيها حجم الفساد المالي كما وصل اليه بالعراق خلال السنوات العشر المنصرمة. والمجتمع بات يؤكد، إن دولة العراق الهشة، فاسدة بنظامها وحكامها والغالبية العظمى من سياسييها وتجارها وشركاتها وبنوكها والمسؤولين من أعضاء الأحزاب الحاكمة والمؤثرة في السياسة العراقية المزرية.
قُتل مئات الألوف من العراقيات والعراقيين خلال السنوات الاثني عشر المنصرمة، واُغتيل الألوف منهم بأدوات مختلفة، ونهبت المليارات من الدولارات الامريكية من خزينة الدولة العراقية، فشُكلت لها لجان تحقيقية كثيرة، ولكنها لم تخرج خلال السنوات العشر المنصرمة بنتيجة فعلية تكشف عن القتلة والحرامية لأنهم منهم فيهم. ولكنها وبسرعة خاطفة استطاعت ان تقرر الإفراج بأقل من عدة ساعات عن رئيس مجلس النواب العراقي، بسبب عدم كفاية الأدلة، وستفرج السلطة القضائية طبعاً عن بقية النواب والتجار الذين وجه لهم وزير الدفاع تهمة الفساد والوساطة غير المشروعة ... الخ.
وعلى وفق مطبخ المساومات ستتم الإطاحة بوزير الدفاع، الذي وجه الاتهامات لرئيس مجلس النواب وبعض النواب والتجار، لكي لا يتكرر المشهد الذي حصل في مجلس النواب من جانب وزراء آخرين، فمثل هذه الممارسات في بلد الفساد الفاحش والرثاثة السائدة محرمة ولا يجوز لها ان تتكرر.
مساومات السلطات الثلاث بالدولة العراقية مخزية إلى حد اللعنة ومذلة للشعب العراقي، ولكن لا حياء لمن فقد الحياء أصلا. فالنهب والسلب جار على قدم وساق دون حياء من جانب حكام العراق والكثير من سياسييه وقضاته من جهة، وعدد الذين تحت خط الفقر من بنات وأبناء الشعب العراقي بارتفاع مستمر ومتسارع من جهة اخرى، فما العمل؟ علينا هنا ان نتذكر قول الصحابي الشهيد، الذي استشهد على يد معاوية بن أبي سفيان عملياً، أبو ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه".
وبالأمس (5/8/2016) أعلنت أمانة بغداد منح منزل مؤسس النظام المالي في العراق وأول وزير مالية في حكوماته ساسون حسقيل، وسط بغداد، لأحد المستثمرين بعد هدمه، وعدت أن المنزل "غير تراثي"، في حين اتهمتها وزارة السياحة والآثار بـ"التجاوز على القانون" باستثمار منزل تراثي." (جريدة المدى، 6/8/2016). فهل يحق لأمانة بغداد ارتكاب مثل هذه الجريمة بذاكرة العراق الحضارية، وهل هو جهل بالتراث وأهميته، أم عنصرية المسؤولين عن اتخاذ هذا القرار؟ فساسون حسقيل واضع النظام المالي العراقي وصاحب المطالبة بدفع ثمن البرميل من النفط ذهباً وليس بالسنتات الإسترلينية. إنها جريمة عنصرية خبيثة، لأن فقيدنا الطيب الذكر ساسون مواطن عراقي فذ ووطني غيور ويهودي الديانة!   
إن الحراك المدني الشعبي يواجه دولة فاشلة ورثة، وهي غير قادرة على إصلاح ذاتها، بحكم طبيعتها والمصالح التي تمثلها وتدافع عنها، دولة تبرهن يوما بعد آخر بأن نظام الحكم الطائفي المحاصصي فيها ظالم ومستبد ورث وغير قابل للإصلاح، لأن بذرة موته كامنة فيه وفي نهجه وسياساته. وكشف طبيعة هذا النظام ونهجه وسياساته من مهمة هذا الحراك المدني والقوى المدنية والسياسية المؤيدة له. فمواصلة التظاهر وإيجاد أساليب جديدة لتحفيز الشعب على النضال الحازم والهادف للتغيير، اصبحت من المهمات التي لا تحتمل التأجيل. والشعب بحاجة الى خلق حركة مدنية شعبية ديمقراطية في مقدورها الوصول الى المزيد من البشر الكادح بأساليب غير تقليدية وجديدة قادرة على إقناع الناس بأن سكوتهم على ما يجري من اغتصاب لإرادتهم ومصادرة فعلية لمصالحهم ومستقبل الأجيال القادمة، سيزيد الحكام تجبرا وفسادا ورثاثة، وسيعيد إنتاج الرثاثة من استبداد وفساد وإرهاب، ومن فقر وجوع وحرمان في آن واحد.
الحراك المدني الشعبي بحاجة الى الاقتراب أكثر فأكثر من الناس الكادحين والمثقفين وابناء الفئات الوسطى، بحاجة ماسة الى شبيبة، ذكور وإناث، مقدامة جريئة وواعية وفاعلة. لا يمكن ان يتغير الوضع دون حركة جماهيرية عارمة، فالحركة ما زالت حتى الآن تقف على مسافة غير ملتصقة بأوسع الجماهير، ولكن في الحركة التي يخوضها المتظاهرون والمحتجون بركة، وهي القادرة على اجتراح المعجزات. الشعب هو الأمل، رغم ما يعانيه من تشويه وتزييف لوعيه ومصالحه وإرادته، وعلينا العمل عليه ومعه ويدا بيد صوب التغيير الذي لا خيار غيره والذي يوفر مستلزمات الإصلاح الجذري لواقع العراق الراهن.


417
الحلقة السابعة
هل يمكن توقع عودة داعش أو نشوء منظمات إرهابية مماثلة بالعراق؟
كاظم حبيب في 20 - 30/7/2016

بعد أن تفاقم دور تنظيم القاعدة الإرهابية في مواجهة القوات العراقية والقوات الأمريكية بالعراق، وسعيها للهيمنة على منطقة غرب العراق، تمكنت القيادة العسكرية الأمريكية بالعراق توقيع الاتفاق مع العشائر العراقية بتشكيل قوات الصحوات من أبناء العشائر العراقية لتواجه قوات تنظيم القاعدة الإرهابي وتصفية وجودها بالعراق. وقد التزمت الولايات المتحدة دفع رواتب لمنتسبي الصحوات. وقد بلغ تعدادها عام 2012 وقبل البدء بحلها عملياً وتحويلها لمسؤولية العراق 103 ألف مقاتل، في حين بلغ عددها في نهاية العام 2012 بحدود 34 ألف مقاتل، وتحول دفع رواتبهم من الخزينة العراقية.
استطاعت هذه الصحوات وبدعم وتدريب القوات العراقية توجيه ضربات قاسية لقوات القاعدة الإرهابية وإيقاف الكثير من عملياتها الانتحارية والإرهابية ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية والمجتمع العراقي. وكان هذا نجاحاً كبيراً للعراق وللمجتمع.
إلا إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحزب الدعوة الذي يترأسه وكذلك التحالف الشيعي وجدوا في قوات الصحوة منافساً طائفياً سنياً لهم ولمواقعهم في السلطة العراقية. وحين تم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الإدارة الأمريكية وبدء انسحاب القوات الأمريكية من العراق، تحولت مسؤولية قوات الصحوة إلى الحكومة العراقية وكذلك دفع رواتبهم. فبدأ نوري المالكي بعدم دفع رواتب الكثير من أفراد الصحوات الذين أجبروا على ترك مواقعهم والالتحاق بجماعة داعش التي بدأت تنشط بالعراق في هذه الفترة وتهدد أفراد الصحوات بالقتل وقتلت فعلاً مجموعة غير قليلة منهم. ولهذا السبب تقلص عددهم إلى 34 ألف مقاتل في نهاية العام 2012 وبداية 2013، إلى أن تبخرت قوات الصحوة نهائياً، وهو ما كان يسعى إليه نوري المالكي وحزبه وتحالفه.
إن هذا الموقف الطائفي المخل باستقرار العراق أدى إلى تقوية مواقع تنظيم داعش، وهو الوليد الشرعي للقاعدة، وتعزيز دوره وزيادة تعداده وتعاظم خطره وعدوانيته، خاصة بعد أن رفض المالكي تنفيذ مجموعة من المطالب العادلة لأبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل.
هذه التجربة الغنية في مواجهة قوات الإرهاب الدموية المتطرفة، والتي نشاهد مثلها اليوم في تشكيل قوات أبناء العشائر، التي تكافح مع القوات العراقية والمتطوعين في مواجهة داعش في الأنبار وصلاح الدين، كما ستقاتل بالموصل، يمكن أن تنتكس حين تبدأ الحكومة العراقية و"الحشد الشعبي" بالإخلال بأسس التحالف الوطني وتهميش دور سكان المناطق الغربية ونينوى، أو الإساءة لهم، أو مواصلة اعتقال وتعذيب وقتل المزيد من أبناء هذه المحافظات، بذريعة تعاونهم مع داعش. كما يمكن بعد تحقيق الانتصار والتحرير أن تعود بقايا هذه المنظمات الإرهابية إلى العمل في صفوف المتذمرين والناقمين على سياسات التمييز والتهميش والإقصاء ضدهم. ومن المشكوك فيه جداً أن يتمكن النظام السياسي الطائفي القائم أن يمارس سياسة جديدة ضد التمييز والتهميش والإقصاء، لأن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية قائمة على أساس طائفي من حيث المبدأ والواقع العملي، وعلى أساس الانتقام مما لحق بالشيعة من مظلومية في فترة حكم البعث، وكأن أتباع المذهب السني هم المسؤولون عن تلك المظالم التي لم تلحق بالشيعة فحسب، بل وبكل الشعب العراقي.
ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة؟
 
لقد ارتكبت الإدارة الأمريكية بفرض احتلالها على العراق أولاً، وإقامة قاعدة المحاصصة الطائفية والأثني في بنية النظام السياسي الطائفي والأثني بالعراق ثانياً، إذ إنه أسست بذلك لكل الصراعات والنزاعات الدموية اللاحقة والجارية حتى الآن. كما أن الدكتاتور الأهوج نوري المالكي خلف تركة ثقيلة جداً في الصراع الطائفي ونشر الكراهية والأحقاد وتكريس وتوسيع الفساد، وممارسة أنواع التمييز التي أضيفت إلى تركة نظام صدام حسين الاستبدادي الشوفيني. وأكثر الإضافات الجديدة إساءة للدولة والمجتمع تتجلى في وقوع احتلال نينوى ومحافظات غرب وشمال العراق والنزوح والهجرة الواسعتين لبنات وأبناء تلك المحافظات من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان ومسلمين عرب وغيرهم، وبشكل خاص ما تعرضن له نساء الإيزيديات من سبي واغتصاب وبيع بالمزاد العلني وفي سوق النخاسة "الإسلامي" السيء الصيت.
إلا إن من تسلم الحكم من بعده، ورغم الوعود التي قطعها على نفسه أمام الشعب، فأنه لم يخط ولو خطوة واحدة حقيقية على طريق الخلاص من النظام والنهج والسياسات الطائفية المقيتة. لقد أخل حيدر العبادي بكل الوعود والعهود والقسم الذي قطعه على نفسه، فهو من قادة النحبة الإسلامية السياسية الطائفية ذاتها التي تسلمت السلطة في أعقاب الاحتلال وتشكيل مجلس الحكم المؤقت، وهو المشارك الفعلي في كل ما واجه ويواجه العراق من مشكلات ومأسي وكوارث خلال السنوات الـ 13 المنصرمة. وبالتالي، فأن مطالب الشعب كانت وستبقى كما كانت عليه في فترة حكم المالكي المعتم، وخاصة في دورته الثانية 2010-2014. فالشرط الأول والرئيس لمنع عودة قوى الإرهاب بمختلف صنوفها إلى العراق يكمن عضوياً بعملية التغيير في طبيعة النظام الطائفي المحاصصي صوب نظام مدني ديمقراطي يعترف بهوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية، وليس بالهويات الفرعية المتنافسة والمتصارعة والقاتلة. إن الضمانة الوحيدة للخلاص من الصراع الديني والمذهبي يكمن في إقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي حديث بالعراق، يستند إلى مؤسسات دستورية نزيهة، ودستور ديمقراطي علماني يرفض التمييز بين أتباع القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية، ويعاقب على ممارسة العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والطائفي والتهميش لأي إنسان أو جماعة بالعراق، ويعترف ويمارس حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة كاملة غير منقوصة. إنها القضية الجوهرية والأساسية الأكثر تعقيداً والأكثر تشابكاً داخلياً وإقليمياً ودولياً، والأكثر أهمية للمجتمع العراقي ومستقبل تطور وتقدم أجياله الجديدة ووضع ثرواته في خدمة التنمية الاقتصادية والبشرية، وإعادة إعمار البلاد وتخليصها من كل الرثاثات التي لحقت بها وبالمجتمع والدولة العراقية نتيجة هيمنة القوى السياسية ذات الفكر والممارسة السياسية الرثتين.   
كيف الوصول إلى ذلك؟
ندرك جميعاً بأن السياسة علم وفن، وهي لا تخضع للإرادات الذاتية، بل ترتبط بالواقع الموضوعي وخصوصياته وموازين القوى الاجتماعية والسياسية وإمكانيات المجتمع على التغيير المنشود. والسياسة كما هو معروف فن الممكنات والتي لا بد من تشخيصها ليتسنى للمجتمع والعاملين على التغيير استيعابها وقيادة العملية السياسية صوب التغيير.
تؤكد معطيات الواقع الراهن بأن ميزان القوى الاجتماعي والسياسي ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، ولكنه في حراك مستمر ويسير صوب التغير الملموس، رغم سير العملية ببطء، لصالح القوى والاتجاه المناهض للطائفية السياسية والفساد والعنف ومصادرة سلطات الدولة والهيمنة على المجتمع وإرادته والاستمرار في افقار الفئات الكادحة والمتضررة من وجود هذا النظام السياسي الطائفي والعمل ضد مصالح الشعب.
وعملية التغيير في ميزان القوى لا تنشأ عفوياً ودون عمل الإنسان ذاته وعلى وفق مصالحه المغيبة والمصادرة. فعملية التغيير تفعل على وفق عاملين داخليين اساسيين هما:
العامل الأول: السياسات المناهضة لمصالح الشعب ووحدته والأخطاء الفادحة التي تمارسها وترتكبها النخب الحاكمة بالبلاد، وهي كثيرة جداً، سوف تسرع عملياً من نهاية وجود هذه النخب البائسة فكرياً وسياسياً في الحكم.
العامل الثاني: يرتبط بقدرة القوى المعارضة على تقديم البديل الناضج والواعي والمقنع لما ينبغي عليه القيام به أولاً، ومن ثم مدى قدرتها على الاستفادة من أخطاء وسياسات النظام المناهضة لمصالح الشعب في تعبئة أوسع الجماهير المتضررة من الوضع القائم والراغبة في التغيير ثانياً.
ولا شك في أن أي تغيير حقيقي في ميزان القوى لصالح القوى الديمقراطية واللبرالية العراقية، يمكن أن يضعف إلى حدود بعيدة التدخل الإقليمي في شؤون العراق الداخلية.
إن مهمة تعبئة الجماهير الواسعة تستوجب رؤية انفتاحية على المجتمع كله وعلى كل القوى القادرة على تقديم العون والمشاركة في توعية وتعبئة الجماهير الشعبية لتحقيق التحولات المنشودة، وعلى أفكار هذه القوى ونشاطاتها والتحري عن سبل التعاون والتنسيق معها، سواء أكان هذا التعاون قصير الأمد ولأهداف محددة أو متوسط وبعيد المدى على وفق برامج تلك القوى وأهدافها ومصالحها الملموسة.
وبشكل ملموس نشير إلى أن ما يجري اليوم بالعراق يحتل أهمية استثنائية في عملية ووجهة التغيير اللاحقة، خاصة في مدى استيعاب القوى الفاعلة في الحراك الشعبي المدني والديني لتجارب السنوات المنصرمة، وخاصة منذ أحداث العام 2011 ودور السلطة التنفيذية من حركة الجماهير وضربها بقسوة وضد الدستور، وكذلك التحركات اللاحقة في أعوام 2013 و2015 حتى الوقت الحاضر، في نضالها الراهن من أجل التغيير والإصلاح الجذري.   
شهد المجتمع العراقي بين 14/2/-6/5/2011 بروز حركة احتجاجية تضامنية رفع رايتها اليساريون والمدنيون الديمقراطيون واللبراليون العلمانيون وطرحت المهمات الشعبية الأكثر إلحاحاً وضرورة للمجتمع والتي تبلورت في النقاط التالية: 
خروج القوات الأمريكية من العراق وإنهاء الاتفاقية الأمنية.
محاربة الفساد الذي عم البلاد ومكافحة المفسدين والتصدي لنهب النفط الخام العراقي.
التصدي لقوى الإرهاب الدموي المنتشر في البلاد وإيقاف نزيف الدم المستمر.
التصدي لمشكلة البطالة المتفاقمة وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة الكادحين وذوي الدخل المحدود والفقراء المتزايد عددهم بالبلاد.
توجيه موارد البلاد صوب التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية وإيقاف التفريط بأموال الشعب.
رفض النظام الطائفي والمحاصصة الطائفية.
أطلاق سراح المعتقلين بتهم زائفة، والكف عن الاعتقال غير القانوني وإيقاف التعذيب أثناء التحقيق وفي السجون العراقية.
لم تتحقق هذه المهمات الجوهرية خلال الفترة المنصرمة بل زاد الأمر سوءاً مما استدعى نهوض جديد للحركة المدنية الشعبية تحقق في آب/أغسطس من العام 2015، وهي امتداد طبيعي لحركة 2011. وقد أثرت هذه الحركة الجارية باتجاهات عدة نشير إلى أبرزها فيما يلي:
تحريك المزيد من الجماهير الشعبية وخاصة الفئات الكادحة المرتبطة بالسيد مقتدى الصدر والتي اقترن عملها قبل ذاك بالصراع ضد قوى الاحتلال وبعض القوى الشيعية المشاركة في البيت الشيعي، وخاصة بجناحها العسكري المدعو بجيش المهدي، والذي يسمى اليوم بسرايا السلام. حيث بدأ هذا التيار الديني الشيعي يتحرك باتجاه مطالب المنتسبين إليه والداعمين له والمرتبطين بدور العائلة الديني (تقليد والده ومن ثم تقليده من حيث الفتاوى الدينية لأتباعه). وبدأت مطالبة مقتدى الصدر، وتحت ضغط أتباعه إلى محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين والإرهاب وضد المحاصصة الطائفية والحكم الطائفي. وكان هذا الموقف يسجل تحولاً ملموساً في صفوف التيار الصدري (الأحرار) التابع له والممثل في مجلس النواب، إضافة إلى بعض التوجه صوب ضرب بعض الفاسدين من أتباع التيار البارزين في التيار الصدري. ولا شك في أن عمق وسعة وأهمية هذا التحول ستبرز في الفترة الجارية وفي النضال من أجل الدولة المدنية وضد المحاصصة الطائفية والفساد...الخ.
تحريك للحوزة الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني الذي وجد الحوزة في وضع غير مناسب جماهيرياً بسبب تأييده المستمر للأحزاب الإسلامية السياسية المتحالفة في الائتلاف الوطني أو البيت الشيعي، والتي انتشر في صفوفها ليس الفساد والرثاثة فحسب، بل والصراع على السلطة والمال والنفوذ إلى أقصى الحدود وتركت الجماهير تعاني الأمرين، إضافة إلى ما تسببت به من احتلال لمناطق العراق الغربية ونينوى. وبالتالي طالبت الحوزة الدينية الساستانية بتنحية المالكي بشكل غير مباشر فحسب، بل وبمحاربة الفساد والمفسدين وبالدفع صوب الدولة المدنية ولأول مرة في تاريخ السيد علي السيستاني.
اتساع قاعدة النشطاء من المدنيين في الحراك المدني الشعبي والناس المتضررين الذين شعروا بعمق الأزمة التي يعيش تحت وطأتها العراق، والعواقب الوخيمة التي جرها النظام السياسي الطائفي على المجتمع العراقي.
وقد أدركت النخب الإسلامية الحاكمة بأنها لم تعد قادرة على الحكم على وفق السياسات والوسائل أو الأدوات والأساليب السابقة، مما فرض عليها الحديث عن الإصلاح الجزئي، والمقصود الشكلي، لكي تستطيع البقاء في الحكم. ولم يكن تنكيس الرؤوس إلا لتجنب العاصفة، والذى تجلي بالموافقة على تغيير نوري المالكي بحيدر العبادي، وهي الطريقة المثلى لها لتجنب التغيير الجذري الذي بدأت الحركة المدنية الشعبية والجماهير الغاضبة، والمتزايد عدد المشاركين في الاحتجاجات، تفرضه على القوى الحاكمة.
الحلقة الثامنة
قوى التيارين المدني والديني ودورهما في الحراك الشعبي
تشير معطيات الشارع العراقي إلى وجود تيارين فاعلين يساهمان في تحريك المزيد من المثقفين والأوساط الشعبية لصالح عملية التغيير والإصلاح الديمقراطي والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية والتمييز والفساد والإرهاب، وهما:
الفكر المدني التنويري الذي تتبناه القوى اليسارية والمدنية واللبرالية الديمقراطية العلمانية. وهو التيار الفكري الفاعل والمتطور تدريجاً والأكثر جذرية، إلا إنه ما يزال لا يمتلك النفوذ والتأثير الواسعين والمنشودين على الشارع العراقي، وعلى قاعدة واسعة من الجماهير الكادحة وفئة المثقفين، رغم وجود التيار الديمقراطي وفعله البارز والمستمر ببغداد وفي جميع محافظات الوسط والجنوب.
الفكر الديني المنفتح نسبياً والمؤثر على نسبة مهمة جداً من كادحي محافظات الوسط والجنوب وبغداد الشيعية والمؤيَد، بهذا القدر أو ذاك، من قوى إيجابية في الأوساط الشعبية السنية، وليس بين المسؤولين السياسيين من أتباع المذهب السني، بسبب رفض التيار الصدري للمحاصصة الطائفية وتأكيده على المواطنة ورفض التمييز ضد السنة. وهذا التيار قد تطور بشكل ملموس منذ العام 2014 حتى الوقت الحاضر.
إن بين هذين التيارين نقاط التقاء سياسية، ونقاط اختلاف فكرية وسياسية في آن واحد. فهما يلتقيان في المرحلة الراهنة في النضال ضد المحاصصة الطائفية، وضد الفساد والهيمنة على السلطات الثلاث، والدفاع عن مصالح الكادحين المنتسبين إلى هذا التيار والمؤيدين له، ومن أجل توفير الخدمات الأساسية، وضد البطالة وتفاقم الفقر وتعاظم نهب خيرات البلاد والمطالبة بإحالة المسؤولين عن احتلال الموصل والفساد المستشري إلى المحاكمة. ولكنهما يختلفان من حيث الفكر ووجهة تطور العراق، والنظام السياسي الذي يراد إقامته. وهو خلاف كبير وجذري دون أدنى شك.
ولكن المرحلة النضالية الراهنة تستوجب اللقاء مع كل المعارضين للطائفية السياسية والمحاصصة، وكل الداعين إلى محاربة الفساد والمطالبين بمعالجة البطالة والفقر، ومنهم قوى التيار الصدري، في النضال الشعبي في الشارع العراقي، واستناداً إلى تلك الأهداف المباشرة. وهذا الموقف المسؤول يتطلب رؤية موضوعية واضحة وملزمة لقوى التيار الديمقراطي والحراك الشعبي المدني بالنسبة لنقاط الاتفاق والاختلاف، لكي لا تذوب الفوارق إلى الحد الذي يمكن أن تفقد القوى الديمقراطية اللبرالية معه استقلالية نضال القوى المدنية في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعلماني. إن نضال قوى الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي يسمح بلقاء قوى وقواعد التيار الديني الصدري، ويسهم في الدخول بحوارات ونقاشات فكرية وسياسية تسهم في بلورة الكثير من المسائل المهمة لتلك القوى الكادحة والمضطهدة والمهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً والمتضررة بيئياً. والتي يمكن أن تسهم في تطوير قوى التيار الصدري وتدفع بها صوب تبني الدولة المدنية الديمقراطية، وهوية المواطنة المتساوية والموحدة، وفصل الدين عن الدولة، والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء، بسبب التجارب المريرة التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط. ومن يتابع نقاشات الشارع العراقي وقوى التيار الديمقراطي يدرك بوجود تحفظات معينة على العمل المشترك في الشارع العراقي مع قوى التيار الصدري، وبخاصة بين جمهرة من الشباب، إذ أن تجارب التحالفات السياسية السابقة وعلى امتداد الفترة التي أعبقت انتصار ثورة تموز 1958، لم تبشر بالخير العميم وغالباً ما انقلب الحلف على الحلفاء. ولهذا فلا بد من أخذ تحفظات الشبيبة بنظر الاعتبار أولاً، والتعلم من تجارب الماضي غير البعيد ثانياً، وعدم الانجرار، مع من يتم التيار الديمقراطي التعاون معه في الشارع، إلى ما يقوم به ذلك الطرف على وفق ما يسعى إليه، والذي يمكن أن يقود على عواقب وخيمة في غير صالح التيار الديمقراطي أو المجتمع أو الحركة المعارضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة. وبهذا الصدد قدم الزميل الدكتور فارس كمال نظمي دراسة غنية وجديدة حول التيار الصدري والحراك الشعبي وآفاق الوضع بالعراق نشرت على صفحات الحوار المتمدن تحت عنوان "لتقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في ديناميات اليساروية الاجتماعية"، في باب الثورات والانتفاضات الجماهيرية، الحوار المتمدن-العدد: 5227 – 18/7 / 2016 "، من المهم الاطلاع عليها ومناقشتها بعلمية وموضوعية لأهمية مثل هذه الدراسات في المرحلة الراهنة، بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف القراء معه. فنحن بالعراق بحاجة ماسة على مبادرات في طرح الرؤية المدققة لعملية التغيير وآليات وسبل هذا التغيير الديمقراطي والسلمي المنشود.   
أن عملية تغيير النظام السياسي الطائفي القائم عملية نضالية معقدة ومتشابكة وليس بالضرورة قصيرة الأمد، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية تعتمد على قدرة القوى المناضلة على رفع مستوى وعي الجماهير ودورهم في عملية التغيير التي تعني ممارسة عملية إصلاح جذرية للدولة والمجتمع من جهة، وتستوجب تعبئة أوسع الجماهير للنضال من أجل التغيير من جهة ثانية، إذ أن الدولة والمجتمع قد سقطا منذ عقود في حمى الاستبداد والقهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي والفاقة الفكرية والسياسية والبؤس الاقتصادي والاجتماعي والفساد الناهب لخيرات وموارد البلاد، وعانا وما زالا يعانيان من العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية المقيتة. كما يعاني المجتمع من فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وفساد المجتمع ومؤسساته وأغلب أحزابه السياسية. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يخلوا من العنف والاضطهاد والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي.
إن التغيير المنشود يستوجب مشاركة جميع القوى المعارضة، إذ لا يمكن لقوة بمفردها وبجماهيرها تحقيق التغيير. ولهذا لا بد أن تلتقي كل القوى المناضلة لتحقيق التعاون في ما بينها استناداً إلى وضع برنامج يمثل الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه، ويتضمن في الوقت نفسه الحد الذي تقرره ظروف العراق وقدرات النضال الشعبي، وليس في ما نتخيله ونرغب به ولا يتجانس أو يتناغم مع الواقع المعاش فعلياً. إن البرنامج المنشود يمكن أن يشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية والنفسية وعلاقات العراق الخارجية، الإقليمية منها والدولية. كما إن البرنامج يفترض أن يتضمن حلولاً واقعية لمشكلة النازحين والمهاجرين الذين زاد عددهم اليوم عن أربعة ملايين إنسان عراقي بالداخل، دع عنك المهاجرين إلى خارج العراق والذين بلغ عددهم الآن أكثر من أربعة ملايين أيضا، وهو في زيادة شهرية مستمرة. إن وضع برنامج مشترك لا يعني بأي حال فقدان التيار الديمقراطي أو الحراك المدني الشعبي لبرنامجه الخاص في التغيير وتطوير العراق وتقدمه. وهذا الموقف يشمل التيار الصدر أيضاً أو أي قوة أخرى تبدي الاستعداد للتعاون والعمل والنضال المرحلي المشترك.
إن هذه العملية تستوجب وعياً لدى المجتمع، بحيث يكون مستعداً على تحمل تبعات التغيير السلمي والديمقراطي للبلاد، التي تقترن اعتيادياً بتعقيدات غير قليلة تحصل أثناء وقوع مثل هذه التحولات الضرورية في المجتمع. ومثل هذا البرنامج يفترض أن تضعه لجنة واسعة وواعية لواقع العراق وإمكانيات وضرورات التغيير والإصلاح الجذري الشامل للدولة والمجتمع. ويفترض أن يتضمن البرنامج تنظيم عودة النازحين والمهجرين قسراً إلى مناطق سكناهم، وتعويضهم ومساعدتهم ليعيدوا بناء مساكنهم وحياتهم الاعتيادية وعودة السلم والاستقرار لهم.
كما يتطلب البرنامج وضع الأسس القانونية الضرورية لإقامة علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق وحل كل المشكلات العالقة، سواء بالنسبة للمناطق المتنازع عليها، أم قضية النفط والتنمية أم رواتب البيشمركة...الخ، بعد أن أصبحت العلاقة متدهورة وبلغت حالياً الحضيض. 
ويبدو لي بأن هناك مهمة مؤجلة منذ سنوات، وأعني بها إعادة كتابة الدستور العراقي لعام 2005 بما يصحح القضايا غير الديمقراطية والطائفية والمخالفة للأسس الديمقراطية في حياة المجتمع، وبشكل خاص موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إضافة إلى تخليصه من المواد التي تعتبر حمالة أوجه ...الخ، وهي كثيرة. إن المجتمع العراقي قادر على التغيير، وهو يعي باستمرار وأكثر فأكثر الحضيض الذي حط به العراق بسبب فكر وسياسات وممارسات القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية وبعض القوى القومية الشوفينية والضيقة الفق في آن واحد، والتي كانت وما تزال ضد إرادة ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية. '

كاظم حبيب في 20 - 30/7/2016
 

418

كاظم حبيب

منذ سنوات والحركة المدنية الديمقراطية العراقية تؤشر بإصرار، بل بعناد صائب، وموضوعية، إلى مواقع الخلل الكبرى بالدولة العراقية، مواطن الخلل القاتلة، التي أصابت بالأساس حياة وحقوق الشعب الكادح وحرياته وكرامته بشكل مباشر. لقد وضعت الحركة المدنية يدها على الجرح الكبير النازف دوماً، على النظام السياسي الطائفي القائم وعلى القاعدة المحاصصية، التي تعمل بها الأحزاب الإسلامية السياسية والقومية العربية والكردية، والتي أدت بدورها وبشكل مباشر إلى تفاقم الإرهاب والفساد، وكانت الحصيلة: المزيد من القتلى والجرحى في صفوف الشعب العراقي وخاصة في صفوف الكادحين والفقراء والمعوزين من جهة وتجويع ذات الفئات الشعبية التي كانت هدف الموت اليومي من جهة أخرى، والمزيد من الخراب والدمار وتغييب التنمية كلية وتراجع الخدمات العامة عن الكادحين، وليس المنطقة الحرام ، الخضراء، من جهة ثالثة.
وعندما تفاقم الوضع انفجرت جماهير شعبية واسعة في شهر شباط من العام 2011 لتتظاهر بحماس ومسؤولية، معلنة رفضها للحكومة العراقية وسياساتها وفساد النظام السياسي القائم ومجلس النواب والقضاء العراقي، وطالبت بالتغيير، فتوجهت له الأجهزة القمعية بالضربة الموجعة التي نعرفها جميعاً، فاعتقل من اعتقل واستشهد من استشهد، وبقي بطل الضربة الموجعة ضد الشعب، المستبد بأمره نوري المالكي وتحالفه وجلاوزته في الحكم. لم يكن تراجع الحركة ناتجاً عن خطأ في الاستراتيج والتكتيك ارتكبته، أو خطأ في الأهداف التي رفعتها الجماهير بإصرار، بل بسبب ضعف الحركة وضعف المؤازرة الشعبية للمتظاهرين وبطش السلطة الفاسدة وأحزابها الأكثر فساداً.
أما اليوم فنحن أمام حركة مدنية ديمقراطية شعبية قادرة على الصمود لفترة أطول، وقادرة على توعية المزيد من البشر بأوضاع العراق الكارثية والمأزومة. وبوصلة الحركة كانت وما تزال صائبة وصادقة ولم تخطء الهدف ولا الوسيلة، ولكنها ما زالت ضعيفة وبحاجة إلى المزيد من التوعية والتثقيف والتعبئة ومزيد من الشبيبة العراقية من النساء والرجال للمساهمة بالحراك الشعبي وتطويره وتنويعه، وخاصة من الفئات الشعبية الكادحة والمتضررة من وجود هذا النظام الطائفي ومحاصصاته، ومن استشراء الفساد والإرهاب والحرمان والموت المستمر. وعلى الحركة أن لا تلتفت لأولئك الذين يساهمون بصورة موسمية ومزاجية غريبة مترددين وخائفين من انفلات الحركة الشعبية من أيديهم وعواقبها على وجود التحالف الشيعي في السلطة أصلاً.
واليوم اكدت جلسة مجلس النواب لاستجواب وزير الدفاع خالد العبيدي من جديد على إنها كانت وما تزال صائبة ودقيقة في تشخيص طبيعة الحكم الفاسد وحكامه وسقوط الغالبية العظمى منهم وبصورة كارثية في مستنقع الفساد والرذيلة، ونهب موارد الشعب وتجويعه. نحن أمام لوحة مريعة قاتمة لنظام سياسي يعود لقرون خلت، يحكم الشعب بالخداع وتحت واجهات دينية مزيفة ومشوهة كانت وما تزال قادة على تزييف وعي الناس وإضعاف قدرتهم على إدراك واقعهم المأساوي المرير.     
لقد كشف خالد العبيدي ما كان معروفاً للكثير من الناس منذ سنوات، وبخاصة للمتظاهرين أيام الجمعة من كل أسبوع. وإذا كان هذا الكشف قد سلط على مجموعة صغيرة من أقطاب الأحزاب الإسلامية السياسية السنية، وخاصة الحزب الإسلامي (جماعة الإخوان المسلمين بالعراق)، فأن ما لم يطرح عن بقية هذه القوى السنية والقومية العربية من جهة، وعن الأحزاب الإسلامية الشيعية والأحزاب الكردستانية، والتجار والمقاولين والعقاريين السماسرة من جهة ثانية، أكثر بكثير مما عرض في مجلس النواب من جانب وزير الدفاع حتى الآن.
لم تعد تنفع المساومة مع الحكام الفاسدين، ولم يعد مقبولاً التحري عن، أو المطالبة بـ "عملية ترقيع" الحكومة الراهنة بوزراء تكنوقراطيين نظيفين، فهم لن يكونوا سوى براغي غير فاعلة في مفاصل غير مهمة في الماكنة الفاسدة المتحركة بإرادة الأحزاب الفاسدة وغير الشرعية في الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، استناداً إلى الدستور العراقي الذي يحرم قيام أحزاب سياسية على أسس دينية – طائفية مدمرة لوحدة الشعب ونسيجه الوطني وإرادته الحرة. وأرى إن الحركة المدنية الديمقراطية السلمية قد أدركت هذه الحقيقة المرة، وعليها أن تعمل بها، وإلا فالطريق نحو الخلاص من الطائفية المقيتة الحاكمة أكثر وعورة وأكثر تدميراً وقتلاً في أبناء الشعب وأكثر فساداً وسطوة على المال العام وتجويع الشعب.           

419
المغزى الحقيقي لجلسة استجواب وزير الدفاع في مجلس النواب
كاظم حبيب

كانت جلسة صاخبة ومدوية، كانت قنبلة صغيرة رماها وزير الدفاع العراقي في قاعة مجلس النواب. فهل في كل ما طرحه من شيء جديد غير اعتراف وزير بما حصل في وزارته، في حين أن هناك العشرات من الوظزارات السابقة واللاحقة والراهنة لم يكشف عن جزء ولو صغير مما فيها من فساد، كما حصل مع وزير الدفاع العراقي.
أذاً دعونا نلقي نظرة فاحصة ومدققة على جلسة استجواب وزير الدفاع في مجلس النواب العراقي. كانت النائبة عالية نصيف هي التي طالبت بمثل هذه الجلسة الاستجوابية، لأنها كانت تريد طرح لائحة من الاتهامات الموجهة لوزير الدفاع واتهامه بتعيين بعثيين طيارين وضباط. وفوجئ الحضور بالاتهامات التي ساقها وزير الدفاع ضد رئيس مجلس النواب وبعض النواب والتجار العراقيين الذين لم يذكر أسماؤهم علناً في الجلسة المنقولة عبر شاشة التلفزيون (العراقية).
في ضوء هذه الجلسة العلنية، وبقدر ما هو منقول للشعب، وفي فترة متأخرة من الليل، يمكننا تسجيل بعض الملاحظات المهمة:
الملاحظة الأولى: لم يحضر وزير الدفاع بإرادته الحرة ورغبته الصادقة إلى مجلس النواب ليعرض على النواب ما لديه من اتهامات ضد رئيس المجلس أو النواب، بل جلب جلباً، رغم رغبته بتأجيلها. كما إن وزير الدفاع لم يبلَّغ بهذه الاتهامات والتدخلات بشؤون وزارته رئيس مجلس الوزراء في حينها. ولم يقم بإبلاغ القضاء العراقي بكل تلك المخالفات القانونية، بل تستر عليها، إلى حين وجهت له اتهامات مباشرة وأجبر على حضور الجلسة، وإلا لما عرض هذه الاتهامات، كما فعل ويفعل الآخرون!
والملاحظة الثانية إن وزير الدفاع اقتصر في اتهاماته بالفساد على رئيس مجلس النواب وبعض النواب والتجار، أي ركز على قضايا "خردة" عموماً، بالمفهوم الشعبي، أو الحيتان الصغيرة، رغم أهمية القضايا التي طرحها وحجم الرشاوى التي تضمنتها المشاريع المشار إليها والوساطات غير القانونية، ولكنه سكت بالمطلق عن الحيتان الكبيرة التي التهمت ميزانية وزارة الدفاع على امتداد السنوات الـ 11 المنصرمة، والتي كان عليه أن يبرَّزها لا أن يقتصر على قضايا محددة مرتبطة بموقف رئيس المجلس الذي وافق على إجراء الاستجواب وبعض النواب المعروفين للشعب وكذلك بعض التجار.
والملاحظة الثالثة والمهمة إن وزير الدفاع اقتصر في اتهاماته على تكرار القسم بـ "الله العظيم" عشرات المرات، دون أن يقدم الوثائق الدامغة التي تسهم في إقناع مستمعيه بصواب ما أورده من اتهامات. وبالمقابل فهم سيقسمون ب، "الله العظيم" عشرات المرات لينكروا ما جاء به وزير الدفاع.
والملاحظة الرابعة هي أن الشعب العراقي، ورغم سكوت الغالبية من الناس على ما جرى ويجري من نهب وسلب لإيرادات الدولة في العقود النفطية والاتفاقات التجارية والكهرباء ...الخ، كان يعرف حجم الفساد الهائل الموجود في الدولة العراقية والذي أدى إلى ضياع مئات المليارات من الدولارات الأمريكية وضياع سنوات من التنمية الضرورية، وقاد إلى موت مئات الآلاف من العراقيين من أجل تسهيل النهب والسلب، فالفساد والإرهاب وجهان لعملة واحدة. كما يعرف الشعب العراقي بأغلبيته العاقلة والواعية أن الحكومة لا تجرأ على محاسبة هؤلاء الفاسدين والمفسدين الذين يحتلون مواقع قيادية في الأحزاب الإسلامية والقومية السياسية العراقية الحاكمة دون استثناء، والوزراء الذين مثلوا تلك الأحزاب، وفي جميع الوزارات دون استثناء أيضاً. ولم تقتصر معرفته بذلك، بل يعرف تماماً أن الدولة بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، وكذلك البنوك الخاصة والكومبرادور التجاري والعقاري، فاسدة ومفسدة في آن واحد. لقد شمل الفساد العراق كله دون استثناء، تماماً كما يقول المثل الشعبي، "تلازمت من الباب للمحراب".
لقد وجد القضاء العراقي نفسه أمام إلزامية إقامة الدعاوى على من ورد اسمه في الاستعراض السطحي السريع لوزير الدفاع وبسبب منعهم المؤقت من السفر الصادر عن رئيس الوزراء، ولكن هذا القضاء بالذات لم يجرأ على رفع دعاوى على حكام العراق الذين فرطوا بالموصل وصلاح الدين والأنبار وسبايكر، وتسببوا في الإبادة الجماعية للإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، وكذلك في سبي واغتصاب أخواتنا الإيزيديات والأطفال وبيعهم في سوق النخاسة "الإسلامي"، وكذلك من مارس الحكم لسنوات وحصلت في عهده الفساد الشامل وضاعت، كما يؤكد ذلك أكثر من تقرير رسمي مقدم إلى القضء العراقي ومجلس النواب، ضياع ما يزيد على 360 مليار دولار أمريكي، وأكثر من ذلك على حد تعبير الدكتور أحمد الجلبي، الذي توفي بعد أيام فقط، من نشر المقابلة الصحفية معه وكشف عن أرقام الفساد بالعراق، ولديه قائمة بالفاسدين.

نشر المقال العمود في جريدة العالم العراقية يوم الأحد المصادف 7/8/2016

420
الحلقة الخامسة
الأسباب الكامنة وراء سياسة نوري المالكي إزاء الموصل
السؤال الذي يستوجب الإجابة عنه هو: لماذا اتخذ رئيس الوزراء العراقي هذا الموقف؟     
تشير تجارب شعوب العالم التي عانت من ظلم وجبروت المستبدين، كما تؤكد الكثير من الدراسات الخاصة بالنظم الدكتاتورية وشخصيات الدكتاتوريين، وكذلك الروايات الجادة التي تطرح نماذج لمثل هؤلاء المستبدين، ومنها رواية الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز الموسومة بـ "خريف البطريرك، أو رواية الروائي العراقي زهير الجزائري الموسومة "المستبد"، (عن معهد الدراسات الاستراتيجية، بيروت, 2006)، إلى إن هؤلاء المستبدين جميع يتميزون بسمات مشتركة أبرزها:
** عدم الثقة بالشعب وعدم الاعتراف بحقوقه وشخصيته وإرادته الحرة.
** الشك في الجميع وفي أقرب الناس إليه، وهو مستعد لتصفية من يزداد الشك به في كل لحظة.
** الرغبة في الاستحواذ على كل السلطات الثلاث وعلى المال العام، وعلى الإعلام، وكذلك على المجتمع، وتهميش الجميع دون استثناء.
** احتقار الدستور والقوانين والأعراف والتقاليد، واعتبار أقواله وما يريد تحقيقه من أهداف هي القوانين النافذة المفعول.
** الكراهية الشديدة لكل المثقفين، عموماً والعضويين منهم على وجه الخصوص، من علماء وأدباء وفنانين وإعلاميين، ولكل صاحب رأي أو رأي آخر.
** لا قيمة للإنسان وحياته ومصالحه في حسابات المستبد بأمره، فحياته ومصالحه وإرادته والأهداف التي يسعى إليها لها الأولوية المطلقة.
** لا يعترف بالهيئات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان ويعتبرها أجهزة معادية له ولطموحاته.
** إيلاء اهتمام خاص بالعناصر الانتهازية ووعاظ السلاطين والمدّاحين الذين يمجدون استبداده وحماقاته، ويعمقون فعلياً من سلوكه الاستبدادي وتجبّرهِ وكراهيتهِ للآخرين.
ويلاحظ هنا بأن المستبد بأمره يشعر بكونه أما من طينة غير طينة البشر، أو نصف إلهٍ، أو وكيل الله على الأرض، وله الحق في أن يفعل ما يشاء بغير حساب وأن يتحكم بإرادة ومصالح البشر!
هكذا كان صدام حسين، ومعمر القذافي وحافظ الأسد وعمر البشير ومن لف لفهم، وهكذا هو نوري المالكي، الذي لم تسمح له ظروف العراق والمنطقة والعالم أن يقوم بنفس الدور الذي مارسه صدام حسين بالعراق، إلا إنه يملك ذات الخصائص والسمات التي لدى صدام حسين. وهكذا نتابع بقلق كبير كيف بدأ رجب طيب أردوغان يتحول من مدعي التحرر والديمقراطية، على مستبد شمولي بعد وقوع الانقلاب الفاشل في 15/7/2016 بتركيا.     
لقد كان نوري المالكي يرى في كل حركة شعبية مطلبية فعلاً مناهضاً له ولحكمه ورغبة في التخلص منه، وبالتالي كان يواجه هذه الحركات بالغضب والعنف، فيبدأ بتشويه سمعتها والإساءة إليها، ومن ثم الانقضاض عليها بأجهزته القمعية لتدميرها. هكذا كان الموقف من الحركة المطلبية الشعبية، ومن اعتصامات الفلوجة، ومن موقف الكرد، ومن مطالب جماهير الموصل. وكان عليه توجيه الضربات لكل هذه الحركات بأي شكل كان ومهما كانت العواقب ليحافظ على وجوده على رأس السلطة.   
في مثل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة والمليئة بالصراعات الطائفية على السلطة بين القوى الإسلامية السياسية، إضافة إلى الصراع المحتدم بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حول العديد من المسائل المهمة والجوهرية التي لم تعالج على وفق بنود الدستور، كما لم توضع القوانين القادرة على معالجة ما ورد أو لم يرد في الدستور بشأنها أو بشأن العلاقة بين الطرفين، وبدعم إقليمي واسع النطاق، تسنى لداعش اختراق الحدود بسهولة والسيطرة على  الموصل وعلى المعسكرات ومخازن الأسلحة والعتاد والمعدات بكميات هائلة، وعلى الأموال والتصرف بها ضد شعب العراق.
ومن الواجب هنا أن نشير إلى أن محافظ نينوى أثيل عبد العزيز النجيفي، وهو شقيق أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي السابق، كان معروفاً بكونه من البعثيين ومن الذين تعاون على ناطق واسع مع الخلايا الداعشية التي كانت تعمل علناً بالموصل وتفرض على أصحاب المحلات والأغنياء بنينوى، وخاصة بالموصل، دفع الإتاوات مقابل عدم قتلهم أو تهجريهم ومصادرة محلاتهم. وتؤكد الكثير من المصادر إلى واقع هذه العلاقة بين محافظ نينوى ومجلس محافظة نينوى والمسؤولين في الموصل من الجماعات النية والبعثية المتنفذة.     
ووجود مثل هذه الخلايا المتنفذة في الإدارة والمجتمع والاقتصاد ساعد على تسهيل مهمة عصابات داعش الإجرامية في اقتحام الموصل وبما لديها من معلومات للسيطرة على المناطق الحساسة وعلى الأموال المتوفرة في البنوك والقاصات الحكومية.
 
الحلقة السادسة
كيف تتحقق النجاحات للقوات المسلحة العراقية ضد داعش، وما هو ثمنها، وبماذا تقترن؟
خاضت وما تزال تخوض القوات المسلحة العراقية، التي أعيد تنظيمها جزئياً بعد إزاحة نوري المالكي عن السلطة التنفيذية، رغم إن نفوذه ما يزال قوياً وواسعاً على التحالف الشيعي وعلى السلطات الثلاث ورئيس الحكومة وبأساليب وأدوات وسبل كثيرة بما في ذلك استناده إلى دعم "الولي الفقيه" على خامنئي بإيران، معارك قاسية جداً وتقدم أغلى التضحيات لتحرير تلك المناطق التي احتلها تنظيم داعش الإرهابي وفرض نفوذه عليها وسام سكانها سوء العذاب والقتل والتشريد والسبي والاغتصاب والحرمان وفرض تبديل الديانة أو المذهب أو القتل. وشارك في هذا القتال الساخن ضد داعش في مناطق نينوى وكركوك قوات الپیشمرگه الكردستانية، التي قدمت بدورها الكثير من الضحايا وساهمت بتحرير مساحات واسعة  من الأراضي والمدن والقرى السكنية، إضافة إلى مشاركة المتطوعين في هذا القتال الذي دعا له السيد على السيستاني بما سمي بـ"جهاد الكفاية"، ودخلت مع المتطوعين المليشيات الطائفية المسلحة الكثيرة بالعراق وخاصة جماعة بدر وعصائب الحق وحزب الله وغيرها تحت ما سمي بـ""الحشد الشعبي"" الذي لحمته وسداه المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. كما شارك في هذا القتال المشرف عشائر الأنبار وصلاح الدين وغيرها.
لقد تحققت انتصارات كبيرة في محافظات صلاح الدين والأنبار ومناطق من كركوك ونينوى، حيث طرد منها الأشرار أتباع تنظيم داعش الإرهابي وحررت مناطق واسعة، ولم يبق في تلك المناطق، عدا الموصل وضواحيها، إلا جيوب إرهابية يفترض القضاء عليها أو عناصر مخفية وغير معروفة يمكن أن تسبب ضحايا جديدة في تلك المناطق. وإذا كان الشعب العراق كله، وبكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الوطنية، سعيد بهذه الانتصارات، إلا أن ضلالاً كثيفة أحاطت بها بسبب ما تعرض له سكان المناطق المحررة من ثلاث مشكلات معقدة، وأعني بها:
1.   النزوح المعقد للأهالي تلك المناطق التي حررت قبل وبعد التحرير والصعوبات الكبيرة التي واجهتهم في إيجاد مناطق للسكن والعيش أو توفير الخدمات.
2.   المناطق التي تركها أو هرب منها الإرهابيون كانت مفخخة وتعرض الكثير من السكان إلى المصاعب وربما الموت في الطريق إلى النزوح أو أثناء تنظيف تلك الدور من الألغام المزروعة فيها وعلى الطرق.
3.   تعرض الكثير من رجال العائلات النازحة إلى الاعتقال والتعذيب والتغييب على أيدي "الحشد الشعبي"، والذي لم تتحدث عنه العالات النازحة فحسب، بل والكثير من التنظيمات الدولية المطلعة على ما يجري من اضطهاد في تلك المناطق المحررة ضد الرجال بدعوى التعاون مع داعش أو بسبب الحقد الطائفي لدى أتباع الكثير من عناصر المليشيات الطائفية المسلحة المشاركة في "الحشد الشعبي". وقد اجبر رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، على الاعتراف بذلك وتشكيل لجنة تحقيقية لهذا الغرض ولم تظهر النتائج حتى الآن.
ولهذا السبب اشتدت المطالبات بمنع قوات "الحشد الشعبي" من المشاركة في عملية تحرير المناطق لما في ذلك من عواقب وخيمة على العلاقة مع سكان هذه المناطق. إلا إن "الحشد الشعبي" يصر على المشاركة وأجبر العبادي، المسؤول الشكلي عن "الحشد الشعبي"، على الموافقة على ذلك، علماً بأن القائد الفعلي للحشد الشعبي هما ثلاثة أشخاص على التوالي قاسم سليماني الإيراني وجمال محمد جعفر (أبو مهدي المهندس) ونوري المالكي.
وتشير التقارير الواردة من التنظيمات الحقوقية الدولية ومن منظمة العفو الدولية إلى إن الاعتقال والقتل والتغييب والسجن يشمل الآلاف من أبناء هذه المناطق المحررة خلال هذا العام على نحو خاص.
لا شك في أن مشاركة الولايات المتحدة في عملية تحرير المناطق المحررة في صلاح الدين والأنبار وما يجري اليوم في الموصل، كان وما يزال كبيراً ومهماً، سواء أكانت المشاركة عبر الطيران الحربي والقصف الجوي، أم عبر القوات الأمريكية المحدودة على الأرض، أم عبر الخبراء والمستشارين العسكريين في مناطق القتال أم عبر التدريب للقوات العسكرية العراقية.             
 
المخاطر التي تواجه العراق بعد الانتصار والتحرير
إن معركة تحرير الموصل جارية الآن على قدم وساق، والأمل بتحريرها كبير جداً، ولكن المشكلة ما تزال تكمن في الموقف من مشاركة ""الحشد الشعبي"" وما يمكن أن يمارسه من أساليب غير مشروعة ومناهضة لحقوق الإنسان ضد رجال الموصل عند تحرير المدينة.
كما إن المشكلة ستبرز بأجلى صورها بعد تحرير كامل الأراضي المحتلة، باتجاهات ثلاثة:
1.   حول الموقف من الموقع في السلطة السياسية، إذ يسعى قادة "الحشد الشعبي" إلى المطالبة بحصة الأسد في السلطة ومؤسساتها، بالارتباط مع دورهم في تحرير المناطقة المحتلة، وعلى ضوء قاعدة المحاصصة الطائفية. ويمكن أن يقود هذا الموقف إلى صراع جديد بين الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الشيعية المسلحة والتي تصدر أوامر لها من إيران على نحو خاص، لأن مرجعيتهم الدينية ليست بالعراق وليست بالحوزة الدينية بالنجف، وليست بشخص السيد علي السيستاني، بل بالسيد علي خامنئي والحوز الدينية بمدينة قم بإيران.
2.   حول العلاقة المتوترة أصلاً بين "الحشد الشعبي" وقوات الپیشمرگه الكردستانية وعموم إقليم كردستان. وهذه المشكلة تحمل معها الكثير من التعقيدات والتداعيات المحتملة التي لم تعالج بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم حتى الآن، والتي يمكن أن تهدد بنزاعات دموية أو حتى حرب أهلية أيضاً.
3.   احتمال نشوب صراع ونزاع دموي بين قوات ""الحشد الشعبي"" وقوات العشائر بالموصل، بسبب خشية الأخيرة من أفعال غير سليمة ومرفوضة يمارسها "الحشد الشعبي" ضد رجال الموصل، كما حصل في الفلوجة مثلاً. وفي هذا يمثل خطورة كبيرة لعودة قوى داعش أو بروز تنظيمات مسلحة جديدة بالموصل.
إن قوات "الحشد الشعبي" أصبحت منظمة عسكرية كبيرة، وبلغ تعدادها حالياً ما يقرب من 250 ألف مشارك، على وفق تصريح قيادي في ائتلاف "الوطنية" الذي يترأسه الدكتور أياد علاوي، (موقع وطن يغرد خارج السرب"، "ما لا تعرفه عن ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق.. التشكيل والتمويل والممارسات الطائفية" ، 14 مارس 2015). كما إن أغلب أعضاء "الحشد الشعبي" هم من المنتسبين للمليشيات الطائفية المسلحة. وأن ""الحشد الشعبي"" يعتبر منظمة عسكرية تابعة رسمياً للقائد العام للقوات المسلحة العراقية، مكونة من تنظيميات ميليشياوية يقدر عددها باربعين منظمة، وهي مسلحة بأحدث الأسلحة العراقية وما يصلها من إيران، وتمتلك رصيداً مالياً كبيراً, وتصلها المساعدات المالية من إيران، إضافة إلى أن الحكومة العراقية تدفع لكل منتسب للحشد 500 دولار شهرياً، وهناك الكثير من الفضائيين أيضاً في هذا العدد الكبير, وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن قادة "الحشد الشعبي" هم الذين يتسلمون بصورة غير شرعية رواتب هؤلاء الفضائيين! ولا شك في أن هادي العامري وقيس الخزعلي يلعبان دوراً مهماً وكبيراً في "الحشد الشعبي".
وإلى جانب هذا الحشد توجد ميليشيا "جيش المهدي" وسميت أخيراً بـ "سرايا السلام"، التي تعتبر الجناح العسكري لجماعة "الأحرار" الممثلة في المجلس النيابي العراقي والخاضعة لقرارات مقتدى الصدر، والتي تتخذ في هذه الفترة سياسة مناهضة لسياسة المالكي ودوره في التأثير على سياسة الحكومة والعبادي وحزب الدعوة عموماً. وينظم مقتدى الصدر بين فترة وأخرى مظاهرات واعتصامات ضاغطة على سياسة حكومة العبادي تطالبه بإنهاء المحاصصة الطائفية وتشكيل حكومة تكنوقراط وتصفية الفساد ومحاسبة الفاسدين ...الخ.   
إن مخاطر استمرار وجود قوات "الحشد الشعبي" كبير جداً، إذ إنها تعتبر دولة داخل دولة وجيش داخل القوات المسلحة العراقية يأتمر بأوامر قادة المليشيات، وليس بأوامر الحكومة العراقية والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، وهي منظمة عسكرية طائفية متطرفة في عدائها لأتباع المذهب السني باعتبارهم أتباع النظام البعثي السابق وصدام حسين، وهي تهمة لا تصمد أمام وقائع وأحداث الفترة التي كان حزب البعث في الحكم وتحت قيادة أحمد حسن البكر ومن ثم صدام حسين.
                 
 


421
عصبة مكافحة الصهيونية والموقف من قضية
فلسطين والتقسيم
بمناسبة مرور 70 عاماً على تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية بالعراق
كاظم حبيب
 
شهدت سنوات العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين نضالاً متصاعداً من قبل شعوب الدول العربية كافة، في سبيل الخلاص من السيطرة الأجنبية والتحرر والاستقلال، بعد أن لم يف البريطانيون والفرنسيون بوعودهم للشريف حسين بن علي شريف مكة بإقامة الدولة العربية الموحدة على الأرض العربية. فكانت هناك ثورة مصر في العام 1919، والثورة العراقية في العام 1920، والثورة السورية في العام 1925واستمرت حتى العام 1927، كما شهدت فلسطين حركات وانتفاضات ثورية وثورات مستمرة طيلة العقدين المذكورين، وكان آخرها ثورة 1936-1939.
فبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها ووزعت أسلاب الدولة العثمانية لصالح السيطرة البريطانية والفرنسية. كان العراق وشرق الأردن وفلسطين من حصة بريطانيا، وسوريا ولبنان من حصة فرنسا، إذ فرض الانتداب الاستعماري عليها على وفق قرارات مجلس عصبة الأمم في حينها وبضغط مباشر من بريطانيا وفرنسا.
وإذ استقرت الأوضاع في كل من العراق والأردن وسوريا بعد أن أُقيمت دولتان ملكيتان في كل من العراق والأردن وجمهورية في سوريا، وهي ثالث جمهورية في منطقة الشرق الأوسط بعد جمهوريتي تركيا ولبنان، وإذ حصل العراق على عضوية عصبة الأمم وخرج من سيطرة الانتداب البريطاني في العام 1932، وفي سوريا 1946، وفي الأردن 1946 أيضاً، فإن نظام الانتداب في فلسطين قد تواصل بين 1920 و1948، أي بعد بدء تنفيذ قرار التقسيم وإعلان قيام الدولة الإسرائيلية وبدء الحرب العربية - الإسرائيلية حينذاك. وخلال الفترة الواقعة بين 1920- 1939 بشكل خاص، تعددت انتفاضات الشعب الفلسطيني وتواصلت وكانت آخرها ثورة 1936-1939.
وتركز النضال لصالح الخلاص من نظام الانتداب البريطاني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة للعرب واليهود معاً وإيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وكان لهذه النضالات والثورات تأثيرها السياسي المباشر وغير المباشر على العراق، كما أثر بشكل سلبي على علاقة القوميين العراقيين العرب بيهود العراق، إضافة إلى التأثير بصورة سلبية على حكام العراق الذين بدأ بعضهم باتخاذ مواقف غير سليمة إزاء المواطنين اليهود. وقد بدا واضحاً هذا الموقف منذ منتصف العقد الرابع، حيث تم فصل جمهرة من موظفي الدولة اليهود من وظائفهم العامة في أجهزة الدولة العراقية. وعلى وفق المعلومات المتوفرة فإن موقف اليهود قد توزع باتجاهين: فقد التحم النضال العربي -اليهودي في فلسطين ضد الهيمنة البريطانية، وخاصة الأحزاب والقوى الديمقراطية والتقدمية، وفي مقدمتهم قوى الحزب الشيوعي الفلسطيني. ولكن كانت هناك في الوقت نفسه جماعات يهودية أخرى أكثر عدداً عملت ضمن الحركة الصهيونية العالمية من أجل سحب المزيد من يهود العالم إلى فلسطين لإقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية على وفق وعد بلفور 1917. ومنذ عشرينات القرن الماضي كانت هناك هجرات يهودية متنامية إلى فلسطين، سواء للإقامة فيها أو لزيارة المواقع والمزارات المقدسة لدى يهود العالم، كما كانت هناك جهود فردية ومنظمة لشراء الأراضي في فلسطين.
ولكن تفاقم هذا الوضع بعد فشل ثورة الشعب الفلسطيني من جهة، وتفاقم نشاط الوزير المفوض الألماني بالعراق وبالتعاون مع القوى القومية العربية اليمينية من جهة ثانية، ثم فشل حركة رشيد عالي الكيلاني وسقوط حكومته تحت ضربات القوات البريطانية من جهة ثالثة، قاد إلى تعرض اليهود إلى مجزرة الفرهود في العام 1941، مما كان لا يبشر بالخير.
ولكن، وحين سادت بالعراق في أعقاب الحرب العالمية الثانية أجواء حياة ديمقراطية ناشئة عن اندحار النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية واندحار الكثير من المفاهيم العنصرية والمعاداة للسامية، واليهود منهم على نحو خاص، التي رفعت الدولة الهتلرية وحزبها النازي وجمهرة من القوميين العرب اليمينيين رايتها بالعراق أيضاً، تحسن وضع اليهود عموماً وحصل انفراج تمنى الناس أن يستمر ذلك ويتطور.
ورغم هذه الأجواء الإيجابية، كان المتتبع يلاحظ بروز عوامل أخرى على الساحة الدولية والعربية التي يمكن أن تترك بصماتها على الوضع السياسي والاجتماعي بالعراق. ومن بين هذه العوامل نشير إلى أهمها فيما يلي:
1. تزايد نشاط الحركة الصهيونية على الصعيد الدولي والسعي إلى زيادة مستمرة ومضطردة بعدد اليهود المهاجرين إلى فلسطين.
2. زيادة نشاط الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى على نحو خاص في تأييد ودعم هذا النشاط والهجرة والدعاية المتزايدة له.
3. زيادة نشاط القوى المناهضة لليهود وللحركة الصهيونية في العالم العربي، التي مارستها القوى القومية العربية بدعم من الدولة النازية والتي كان يقودها الحاج محمد أمين الحسيني (1885-1974م)، مفتي الديار الفلسطينية، والتي تواصلت بعد سقوط الدولة النازية وخروجه من ألمانيا.
4. تزايد الشعور لدى الشيوعيين وقوى ديمقراطية أخرى بوجود مؤامرة على يهود العراق من جراء تدهور العلاقات العربية اليهودية في فلسطين وتزايد الصراعات هنا وبدء تفاقم النشاط الصهيوني بالعراق.
وفي ضوء ذلك بدأ الحزب الشيوعي العراقي يفكر في ما يمكن فعله لمواجهة القوى القومية المعادية لليهود من جهة، ودور الحكومة العراقية، وبقية الحكومات بالدول العربية، المتاجرة بالقضية الفلسطينية دون أن تفعل شيئاً ملموساً من جهة أخرى، بل كان هناك شعوب بوجود تنسيق وتعاون في هذا الصدد، مما يمكن أن يتسبب بكوارث جديدة مماثلة لما حصل في الفرهود 1941. وبادر سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي الرفيق فهد (يوسف سلمان يوسف) بتشكيل لجنة من كوادر حزبية متقدمة وواعية، لتأخذ على عاتقها تشكيل منظمة مستقلة، ولكنها مرتبطة بالحزب الشيوعي ونهجه الفكري والسياسي. واختار لهذه اللجنة والنشاط الجديد والمهم والمحفوف بالمصاعب مجموعة مميزة من الشخصيات اليهودية الشيوعية المقبولة في الأوساط اليهودية بشكل خاص وهم:
"يهودا صديق؛ ويوسف هارون زلخة؛ ومسرور قطَّان؛ وإبراهيم ناجي؛ ويعقوب فرايم؛ ونعيم شوع؛ ويوسف زلوف. حيث عقدوا عدة اجتماعات، صاغوا خلالها برنامجاً سياسياً، ونظاماً داخلياً لعصبة مكافحة الصهيونية، التي طلبوا ترخيصاً لها من الحكومة العراقية. وما إن حصلوا عليه، حتى تألفت هيئة إدارية للعصبة، ترأسها يوسف هارون زلخة؛ فيما ترأس هيئة الرقابة يهودا صديق."
وحال الانتهاء من هذه التحضيرات جرى تقديم طلب للحصول على إجازة رسمية بالعمل العلني باسم "عصبة مكافحة الصهيونية" باسم "لفيف من الشباب اليهودي" العراقي بتاريخ 12/9/1945، وأن تكون للعصبة جريدة يومية باسم "العصبة"، تكون لسان حال المنظمة. وكُلف الكادر الشيوعي المتقدم محمد حسين أبو العيس ليكون المدير المسؤول لجريدة العصبة. وبعد مرور ستة شهور تقريباً على تقديم الطلب، وافقت وزارة الداخلية على تأسيس المنظمة بتاريخ 16/3/1946 وعلى إصدار الجريدة، فصدر العدد الأول من العصبة بتاريخ 7 نيسان/أبريل 1946.
لقد كان موقف عصبة مكافحة الصهيونية ونشاطها منذ البداية واضحاً ضد الصهيونية ً ومعبراً عن إيمان أعضائها بذلك. وكان الهدف من ذلك حماية أرواح ووجود يهود العراق أيضاً. ولم يكن في مقدور العصبة أن تنهض دون تبني ودعم مباشرين من الحزب الشيوعي العراقي، الذي وجد فيها، بسبب وجود أكثرية يهودية عراقية فيها، أداة مهمة لمحاربة الحركة الصهيونية بالعراق وفي الخارج، كما أنها كانت أداة مهمة للتثقيف ضد الفكر القومي السلفي المتعصب الذي تمثله الصهيونية من جهة، ومن أجل تعزيز التآخي بين المواطنين من مسلمين ويهود ومسيحيين وغيرهم من المواطنين بالعراق من جهة أخرى، إضافة إلى مناهضة الفكر القومي الشوفيني العربي المتأثر بقوة بالفكر النازي منذ ثلاثينات القرن العشرين. واستطاعت العصبة خلال فترة وجيزة القيام بعملية تعبئة واسعة ضد الصهيونية وفضح مشاريعها . فاجتماعاتها التثقيفية اليومية والأسبوعية والكراسات التي أصدرتها خلال فترة وجيزة، ساهمت في تلك الاتجاهات الوطنية المنشودة، وهذا العمل بالذات هو الذي أغاظ القوى المناهضة وجمهرة من النخبة الحاكمة العراقية حينذاك. إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية بتهجير اليهود العراقيين قسراً كان قراراً ظالماً وجائراً ومسانداً لقرار التقسيم من الناحية العملية. لقد دفع عشرات ألوف اليهود بالقوة والقسر إلى ترك وطنهم العراق، كما حصل ذلك في بقية الأقطار العربية، الذين عاشوا فيه ألاف السنين، تماماً كما فعلت ذلك الحكومة اليمينية الشوفينية بإسرائيل حين طردت عشرات ألاف العرب من وطنهم فلسطين إلى الشتات العربي والدولي. وإذا كان اليهود قد استوطنوا اليوم بإسرائيل، فأن العرب الذين هُجّروا، ما زالوا يعانون مرارة العيش في المخيمات الفقيرة والبائسة بانتظار العودة إلى وطنهم الذي لا يجوز، بأي عرف ولا يمكن لأي مستبد أن يحرمهم منه. ويبدو إن عدداً غير قليل من الفلسطينيين يفكرون بحلول أكثر عملية لمعالجة مشكلة الفلسطينيين الذين هجروا من فلسطين إلى الشتات الفلسطيني باتفاق يعقد بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية المنوي إقامتها على الأرض الفلسطينية على وفق حدودها في العام 1967 وعلى أساس الحل النهائي للمشكلة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. وكل الدلائل تشير إلى أن الحكومات اليمينية واليمينية المتطرفة المتعاقبة بإسرائيل، وخاصة حكومة بنيامين نتنياهو، إنها لا تفكر بأي حل سلمي وديمقراطي وعادل للقضية الفلسطينية، فهي تواصل بناء المستوطنات في القدس الرقية والضفة الغربية، بالرغم من الاحتجاج الدولي المتسم بالاستحياء!
• وخلال فترة نشاط العصبة نشأت علاقات غير ودية بينها وبين الأحزاب الوطنية الأخرى التي أجيز عملها الرسمي حينذاك، وخاصة حزب الاتحاد الوطني وحزب الشعب والحزب الوطني الديمقراطي، دع عنك حزب الاستقلال، الذي كانت له سياسات مناهضة لليهود وضد استمرار وجودهم بالعراق. وكان السبب وراء تلك العلاقات غير الودية يكمن في النقاط التالية:
• التشابك بين النشاط الديمقراطي السياسي العام والنشاط الحزبي للعصبة، إذ أن الأحزاب الأخرى قد اعتبرت العصبة إحدى منظمات الحزب أو إحدى المنظمات التابعة للحزب. وكان هذا حقيقة واقعة.
• تبني العصبة لسياسات الحزب الشيوعي العراقي والترويج لها في نشاط العصبة أو قيام أعضاء العصبة وأعضاء حزب التحرر الوطني بالترويج لسياسة وشعارات الحزب في نشاطات وفعاليات بقية الأحزاب، إذ كان ذلك يلقى معارضة شديدة من جانب قادة تلك الأحزاب. وقد تجلى ذلك في المقالات التي نشرت في صحافة الأحزاب الأخرى، ومنها المقالات التي نشرتها جريدة الرأي العام التي كان يصدرها الشاعر محمد مهدي الجواهري حينذاك والتي وجهت أصابع الاتهام لحزب التحرر الوطني وعصبة مكافحة الصهيونية بالتخريب والإساءة لاجتماعات ومهرجانات الأحزاب الأخرى. وكتبت المقالات تحت عنوان: أعصبة لمكافحة الصهيونية أم لمكافحة الوطنية؟ أحزب للتحرر أم للتخريب؟ . ولم تكن هذه المقالات منصفة بحق العصبة أو الحزب الشيوعي العراقي، إلا إن الأوضاع السياسية حينذاك فد فرضت نفسها وقادت إلى نشر مثل تلك المقالات.
ويفترض هنا الإشارة إلى أن أغلب اليهود الذين عملوا في العصبة، كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، وكانوا قبل ذاك أعضاء في وحدة النضال بقيادة الأستاذ عزيز شريف، التي حلت نفسها في العام 1956 والتحقت بالحزب الشيوعي العراقي. وكانت لهؤلاء الأعضاء علاقات مختلفة مع كوادر وأعضاء الأحزاب الأخرى.
ويشير عادل المصري ، سكرتير العصبة، في هذا المجال إلى أن مناضلي العصبة، وكذلك مناضلي حزب التحرر الوطني وفي ظل المنافسة الحزبية حينذاك ودور الحزب الشيوعي العراقي في كسب قاعدة الأحزاب الأخرى إلى نشاطاته وشعاراته يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا أخطاء سياسية في العلاقة مع الأحزاب الأخرى . وكانت كل هذه الأخطاء تجير على الحزب، وهو أمر لا يخلو من صواب، بسبب أن قادة هذه المنظمة وفراكسيون الحزب العامل فيها، وكذلك حزب التحرر الوطني كانوا من الشيوعيين، كما كانوا على اتصال وثيق ويومي بالمكتب السياسي وبفهد مباشرة. وكانت تكتيكات العمل اليومي تقرر من جانب الفراكسيون. ويشير يعقوب المصري في هذا الصدد إلى أن العصبة لم يكن في مقدورها أن تستغني عن دور فهد، إذ كتب يقول: "وكان الرفيق فهد يوجه نشاطاتها وأحياناً يكتب في صحيفتها، ويعمل جاهداً على تنسيق نشاطها مع الحركة الوطنية وأحزابها ومع الحركة العمالية ومع الحركة المعادية للصهيونية عربياً وعالمياً. وللرفيق فهد خبرة في هذا المجال لا يمكن الاستغناء عنها" .
• لقد كان شعار الجبهة الوطنية ضاغطاً كبيراً على الحزب، وبالتالي على الشيوعيين العراقيين أينما عملوا، وكان الحزب الشيوعي يسعى إلى إقناع القوى السياسية الأخرى بأهمية الجبهة من خلال العمل في قواعد تلك الأحزاب وإقناعها بالقبول بالشعار وبالضغط على قياداتها للموافقة على تشكيل الجبهة على وفق منظور الحزب لها، وهو ما اصطدم بمعارضة القوى السياسية التقدمية والديمقراطية الأخرى وفي مسألتين، وهما:
• كانت تلك القوى تعتقد بان الحزب الشيوعي يسعى إلى فرض الجبهة التي يريدها على بقية الأحزاب بما فيها قيادته لها، خاصة وأن كراس الجبهة الذي أصدره حسين محمد الشبيبي، كان يصب بهذا المجرى، وهو ما كانت ترفضه الأحزاب الأخرى؛
• محاولة فرض قيام الجبهة من خلال تشديد ضغط قواعدها عليها، وهو ما كانت تراه مخالفاً لقواعد العمل بين الأحزاب السياسية التي تعمل في صفوف المعارضة.
ويمكن القول بأن القوى التقدمية والديمقراطية كانت على حق بالنسبة إلى هاتين المسألتين، إذ لا يجوز الدخول في اجتماعات أحزاب أخرى وفرض شعارات الحزب الأخر على اجتماعاتها مما يقود إلى توترات لا طائل منها وتسيء إلى العلاقات في ما بين قادة تلك الأحزاب. رغم أن من حق كل حزب التثقيف بسياساته وصحافته واجتماعاته الخاصة والعامة، فأن الأساليب التي اتبعها الحزب الشيوعي إزاء حلفاء الحزب الطبيعيين لم تكن صحيحةً باستمرار. ولكن، كما يبدو لنا، بأن فهد، وهو المسؤول عن تلك التكتيكات مباشرة، لم يجد أمامه طريقاً أخراً للضغط على الأحزاب الأخرى من أجل إقناعها بالموافقة على تشكيل الجبهة، التي كان يشعر بضرورة قيامها لتخليص العراق من المحنة التي كان يعيش فيها حينذاك. إلا أن هذا التكتيك الخاطئ لم ينجح وساهم في تعميق الفجوة بين القوى السياسية العراقية التي تعرضت لذلك التدخل.
لقد لعبت العصبة في فترة قصيرة دوراً مهماً ضمن القوى الديمقراطية المناهضة لنظام الحكم الذي كان يتاجر بالقضية الفلسطينية، ولكن في حقيقة الأمر كان يعمل على إيجاد مساومة في غير صالح يهود العراق ولا القضية الفلسطينية. وخلال فترة وجيزة تعرض أعضاء الهيئة الإدارية للعصبة إلى التوقيف، كما رفع أعضاء العصبة الذين تعرضوا للحكم غير العادل من جانب الحاكم أمين خليل المفتي شكوى إلى وزير العدلية ورئيس انضباط القضاة والحكام ورئيس منطقة بغداد العدلية ضد حاكم جزاء بغداد الأول، ووقعها ممن صدر الحكم بحقهم وهم: خليل نصيف العبيدي، يعقوب المصري، مسرور صالح، سامي ميخائيل و ، وعمانوئيل بطرس. (راجع الملحق).
الهوامش
كان الهجوم على العصبة هو البداية الفعلية للهجوم اللاحق على الحركة الوطنية العراقية ومحاولة الإجهاز على الأجواء الديمقراطية التي أنعشتها فترة نهاية الحرب العالمية الثانية والانتصار على الفاشية والنازية والعسكرية اليابانية. ثم طلب الادعاء العام العراقي تقديم كوادر العصبة إلى المحاكمة بتهم مختلفة بما فيها تهمة التعاون مع الصهيونية العالمية. ولكن المحاكم لم تستطع حقاً إيجاد أي علاقة بين أعضاء العصبة والحركة الصهيونية الدولية، بل كانوا جميعاً من المعادين للصهيونية والداعين إلى قيام دولة فلسطينية موحدة في فلسطين تجمع المسلمين واليهود والمسيحيين. وبالتالي انبثقت "عبقرية" الحاكم العراقي حينذاك وأكد أن عصبة مكافحة الصهيونية تعني "عصبة الكفاح لصالح الصهيونية". فقد جاء في قرار التجريم الصادر عن الحاكم خليل أمين المفتي حاكم جزاء بغداد الأول القاضي بحبس السيد يعقوب مصري سكرتير عصبة مكافحة الصهيونية والسيد مسرور قطان محاسبها وثلاثة مواطنين آخرين وفق المادة 89 من قانون العقوبات البغدادي، ما يلي:
" إن تعبير مكافحة الصهيونية ليس معناه الكفاح ضد الصهيونية لأنه كلمة كافح مكافحة وكفاحاً فكلمة مكافحة الصهيونية معناه كفاح الصهيونية ولو أريد أن هذه العصبة تكافح ضد الصهيونية لقيل (عصبة المكافحة ضد الصهيونية) غير إن هذا العنوان مما يدل دلالة واضحة إن العصبة هي عصبة كفاح الصهيونية". راجع: الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية في العراق 45-1946. مصدر سابق. ص 176.
وقد أدين هذا التفسير من جانب محامي الدفاع وكثرة من اللغويين العرب، بمن فيهم الأستاذ الدكتور مصطفى جواد، حيث قيل عنه في حينها، "هل تعني عصبة مكافحة السل وعصبة مكافحة الجراد وعصبة مكافحة الأمية، عصبة لنشر السل وحماية الجراد ونشر الأمية"، كما أشار إلى ذلك يعقوب المصري في استعادة ذكرياته التي أشير إليها سابقاً؟ لقد كان تفسير الحاكم ليس تعسفياً فحسب، بل مغالطة كبرى كان يريد منها إصدار الأحكام على كوادر العصبة بأي ثمن، إذ كانت تعليمات السلطة تقضي بذلك. وكان هذا التوجه يعني بدوره تشجيع نشاط كوادر الحركة الصهيونية، فلا يمكن محاربة من يعادي الصهيونية ومن يؤيدها في آن واحد. فمن يمارس الأول ينشط الثاني والعكس صحيح أيضاً. وهذا ما حصل فعلاً.
2 خلال فترة وجيزة من عمر عصبة مكافحة الصهيونية أصدرت 51 عدداً من جريدتها "العصبة"، وكانت مقالاتها تهتم لا بالقضية الفلسطينية فحسب، بل وبالقضايا الوطنية المختلفة، ومنها النضال ضد الاستعمار ومن أجل الحريات الديمقراطية وضد التخلف والأمية ومن أجل تحرير المرأة، إضافة إلى فضح العلاقة المصلحية بين الحركة الصهيونية والإمبريالية العالمية. وكان للعصبة ناد ومقر في كرادة مريم، وكانت تقيم أسبوعياً ندوة خاصة عن القضية الفلسطينية وكان الحضور يصل إلى عدة آلاف أحياناً غير قليلة، كما أقامت مسرحاً وساحة لممارسة الرياضة، كما يشير إلى ذلك يعقوب المصري، الذي كان سكرتيراً للعصبة، في مقابلة له مع د. زهدي الداودي في براغ بتاريخ 2/7/1982.
 
3 خلال فترة وجيزة من عمر عصبة مكافحة الصهيونية أصدرت 51 عدداً من جريدتها "العصبة"، وكانت مقالاتها تهتم لا بالقضية الفلسطينية فحسب، بل وبالقضايا الوطنية المختلفة، ومنها النضال ضد الاستعمار ومن أجل الحريات الديمقراطية وضد التخلف والأمية ومن أجل تحرير المرأة، إضافة إلى فضح العلاقة المصلحية بين الحركة الصهيونية والإمبريالية العالمية. وكان للعصبة ناد ومقر في كرادة مريم، وكانت تقيم أسبوعياً ندوة خاصة عن القضية الفلسطينية وكان الحضور يصل إلى عدة آلاف أحياناً غير قليلة، كما أقامت مسرحاً وساحة لممارسة الرياضة، كما يشير إلى ذلك يعقوب المصري، الذي كان سكرتيراً للعصبة، في مقابلة له مع د. زهدي الداودي في براغ بتاريخ 2/7/1982.
 
4 أنظر: الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية بالعراق. مصدر سابق. ص 199-201.
 
5 عادل المصري هو يعقوب المصري، يهودي عراقي شيوعي سجن سنوات طويلة وأطلق سراحه مع انتصار ثورة تموز في العام 1958 خير بين أن يسفر أو أن يتحول نحو الإسلام، فوافق التحول صوب الإسلام وغير اسمه إلى عادل المصري. كما حصل ذلك مع أخته عمومة مصري التي غيرت اسمها إلى عميدة مصري. ورغم ذلك فقد أخرجا من العراق وغادر يعقوب إلى براغ وسكن فيها حتى وفاته، في حين غادرت أخته إلى موسكو وسكنت فيها حتى مماتها. كاظم حبيب
 
6 أنظر: عبد اللطيف الراوي، مصدر سابق، ص 234/235.
 
7 المصدر السابق نفسه. ص 229.
 
8 سامي ميخائيل هو الكاتب الروائي العراقي الأصل والساكن في إسرائيل والذي أصدر مجموعة مهمة من الروايات الممتازة عن ذكرياته ببغداد ترجمت إلى عدة لغات منها اللغة الألمانية، منها: حفنة من ضباب 1997، بوق في وادي 1998، بغداد- عاصفة فوق المدينة 1998، حب في بغداد 2003، فكتوريا 2007. متساوين ومتساوون أكثر 1974، حماية 1977، هذه قبائل إسرائيل 1984، الجناح الثالث 2000، حمام في ترافلجر 2005 وعائدة 2008. (ترافلجر أي الطريق الأغر).
9 أنظر: الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة..، مصدر سابق. ص 179/198.
 
الملحق:جدول يتضمن عدد أعضاء العصبة الذين اعتقلوا وقدموا إلى المحاكم ببغداد، وجدول آخر يبين الدعوى التير فعها السيد يعقوب المصري وجماعته في العصبة ضد حاكم جزاء بغداد الأول بشأن اسم العصبة
 

422
الحلقة السابعة
•   هل يمكن توقع عودة داعش أو نشوء منظمات إرهابية مماثلة بالعراق؟

بعد أن تفاقم دور تنظيم القاعدة الإرهابية في مواجهة القوات العراقية والقوات الأمريكية بالعراق، وسعيها للهيمنة على منطقة غرب العراق، تمكنت القيادة العسكرية الأمريكية بالعراق توقيع الاتفاق مع العشائر العراقية بتشكيل قوات الصحوات من أبناء العشائر العراقية لتواجه قوات تنظيم القاعدة الإرهابي وتصفية وجودها بالعراق. وقد التزمت الولايات المتحدة دفع رواتب لمنتسبي الصحوات. وقد بلغ تعدادها عام 2012 وقبل البدء بحلها عملياً وتحويلها لمسؤولية العراق 103 ألف مقاتل، في حين بلغ عددها في نهاية العام 2012 بحدود 34 ألف مقاتل، وتحول دفع رواتبهم من الخزينة العراقية.
استطاعت هذه الصحوات وبدعم وتدريب القوات العراقية توجيه ضربات قاسية لقوات القاعدة الإرهابية وإيقاف الكثير من عملياتها الانتحارية والإرهابية ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية والمجتمع العراقي. وكان هذا نجاحاً كبيراً للعراق وللمجتمع.
إلا إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحزب الدعوة الذي يترأسه وكذلك التحالف الشيعي وجدوا في قوات الصحوة منافساً طائفياً سنياً لهم ولمواقعهم في السلطة العراقية. وحين تم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الإدارة الأمريكية وبدء انسحاب القوات الأمريكية من العراق، تحولت مسؤولية قوات الصحوة إلى الحكومة العراقية وكذلك دفع رواتبهم. فبدأ نوري المالكي بعدم دفع رواتب الكثير من أفراد الصحوات الذين أجبروا على ترك مواقعهم والالتحاق بجماعة داعش التي بدأت تنشط بالعراق في هذه الفترة وتهدد أفراد الصحوات بالقتل وقتلت فعلاً مجموعة غير قليلة منهم. ولهذا السبب تقلص عددهم إلى 34 ألف مقاتل في نهاية العام 2012 وبداية 2013، إلى أن تبخرت قوات الصحوة نهائياً، وهو ما كان يسعى إليه نوري المالكي وحزبه وتحالفه.
إن هذا الموقف الطائفي المخل باستقرار العراق أدى إلى تقوية مواقع تنظيم داعش، وهو الوليد الشرعي للقاعدة، وتعزيز دوره وزيادة تعداده وتعاظم خطره وعدوانيته، خاصة بعد أن رفض المالكي تنفيذ مجموعة من المطالب العادلة لأبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل.
هذه التجربة الغنية في مواجهة قوات الإرهاب الدموية المتطرفة، والتي نشاهد مثلها اليوم في تشكيل قوات أبناء العشائر، التي تكافح مع القوات العراقية والمتطوعين في مواجهة داعش في الأنبار وصلاح الدين، كما ستقاتل بالموصل، يمكن أن تنتكس حين تبدأ الحكومة العراقية و"الحشد الشعبي" بالإخلال بأسس التحالف الوطني وتهميش دور سكان المناطق الغربية ونينوى، أو الإساءة لهم، أو مواصلة اعتقال وتعذيب وقتل المزيد من أبناء هذه المحافظات، بذريعة تعاونهم مع داعش. كما يمكن بعد تحقيق الانتصار والتحرير أن تعود بقايا هذه المنظمات الإرهابية إلى العمل في صفوف المتذمرين والناقمين على سياسات التمييز والتهميش والإقصاء ضدهم. ومن المشكوك فيه جداً أن يتمكن النظام السياسي الطائفي القائم أن يمارس سياسة جديدة ضد التمييز والتهميش والإقصاء، لأن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية قائمة على أساس طائفي من حيث المبدأ والواقع العملي، وعلى أساس الانتقام مما لحق بالشيعة من مظلومية في فترة حكم البعث، وكأن أتباع المذهب السني هم المسؤولون عن تلك المظالم التي لم تلحق بالشيعة فحسب، بل وبكل الشعب العراقي.
•   ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة؟

لقد ارتكبت الإدارة الأمريكية بفرض احتلالها على العراق أولاً، وإقامة قاعدة المحاصصة الطائفية والأثني في بنية النظام السياسي الطائفي والأثني بالعراق ثانياً، إذ إنه أسست بذلك لكل الصراعات والنزاعات الدموية اللاحقة والجارية حتى الآن. كما أن الدكتاتور الأهوج نوري المالكي خلف تركة ثقيلة جداً في الصراع الطائفي ونشر الكراهية والأحقاد وتكريس وتوسيع الفساد، وممارسة أنواع التمييز التي أضيفت إلى تركة نظام صدام حسين الاستبدادي الشوفيني. وأكثر الإضافات الجديدة إساءة للدولة والمجتمع تتجلى في وقوع احتلال نينوى ومحافظات غرب وشمال العراق والنزوح والهجرة الواسعتين لبنات وأبناء تلك المحافظات من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان ومسلمين عرب وغيرهم، وبشكل خاص ما تعرضن له نساء الإيزيديات من سبي واغتصاب وبيع بالمزاد العلني وفي سوق النخاسة "الإسلامي" السيء الصيت.
إلا إن من تسلم الحكم من بعده، ورغم الوعود التي قطعها على نفسه أمام الشعب، فأنه لم يخط ولو خطوة واحدة حقيقية على طريق الخلاص من النظام والنهج والسياسات الطائفية المقيتة. لقد أخل حيدر العبادي بكل الوعود والعهود والقسم الذي قطعه على نفسه، فهو من قادة النحبة الإسلامية السياسية الطائفية ذاتها التي تسلمت السلطة في أعقاب الاحتلال وتشكيل مجلس الحكم المؤقت، وهو المشارك الفعلي في كل ما واجه ويواجه العراق من مشكلات ومأسي وكوارث خلال السنوات الـ 13 المنصرمة. وبالتالي، فأن مطالب الشعب كانت وستبقى كما كانت عليه في فترة حكم المالكي المعتم، وخاصة في دورته الثانية 2010-2014. فالشرط الأول والرئيس لمنع عودة قوى الإرهاب بمختلف صنوفها إلى العراق يكمن عضوياً بعملية التغيير في طبيعة النظام الطائفي المحاصصي صوب نظام مدني ديمقراطي يعترف بهوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية، وليس بالهويات الفرعية المتنافسة والمتصارعة والقاتلة. إن الضمانة الوحيدة للخلاص من الصراع الديني والمذهبي يكمن في إقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي حديث بالعراق، يستند إلى مؤسسات دستورية نزيهة، ودستور ديمقراطي علماني يرفض التمييز بين أتباع القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية، ويعاقب على ممارسة العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والطائفي والتهميش لأي إنسان أو جماعة بالعراق، ويعترف ويمارس حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة كاملة غير منقوصة. إنها القضية الجوهرية والأساسية الأكثر تعقيداً والأكثر تشابكاً داخلياً وإقليمياً ودولياً، والأكثر أهمية للمجتمع العراقي ومستقبل تطور وتقدم أجياله الجديدة ووضع ثرواته في خدمة التنمية الاقتصادية والبشرية، وإعادة إعمار البلاد وتخليصها من كل الرثاثات التي لحقت بها وبالمجتمع والدولة العراقية نتيجة هيمنة القوى السياسية ذات الفكر والممارسة السياسية الرثتين.   
كيف الوصول إلى ذلك؟
ندرك جميعاً بأن السياسة علم وفن، وهي لا تخضع للإرادات الذاتية، بل ترتبط بالواقع الموضوعي وخصوصياته وموازين القوى الاجتماعية والسياسية وإمكانيات المجتمع على التغيير المنشود. والسياسة كما هو معروف فن الممكنات والتي لا بد من تشخيصها ليتسنى للمجتمع والعاملين على التغيير استيعابها وقيادة العملية السياسية صوب التغيير.
تؤكد معطيات الواقع الراهن بأن ميزان القوى الاجتماعي والسياسي ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، ولكنه في حراك مستمر ويسير صوب التغير الملموس، رغم سير العملية ببطء، لصالح القوى والاتجاه المناهض للطائفية السياسية والفساد والعنف ومصادرة سلطات الدولة والهيمنة على المجتمع وإرادته والاستمرار في افقار الفئات الكادحة والمتضررة من وجود هذا النظام السياسي الطائفي والعمل ضد مصالح الشعب.
وعملية التغيير في ميزان القوى لا تنشأ عفوياً ودون عمل الإنسان ذاته وعلى وفق مصالحه المغيبة والمصادرة. فعملية التغيير تفعل على وفق عاملين داخليين اساسيين هما:
العامل الأول: السياسات المناهضة لمصالح الشعب ووحدته والأخطاء الفادحة التي تمارسها وترتكبها النخب الحاكمة بالبلاد، وهي كثيرة جداً، سوف تسرع عملياً من نهاية وجود هذه النخب البائسة فكرياً وسياسياً في الحكم.
العامل الثاني: يرتبط بقدرة القوى المعارضة على تقديم البديل الناضج والواعي والمقنع لما ينبغي عليه القيام به أولاً، ومن ثم مدى قدرتها على الاستفادة من أخطاء وسياسات النظام المناهضة لمصالح الشعب في تعبئة أوسع الجماهير المتضررة من الوضع القائم والراغبة في التغيير ثانياً.
ولا شك في أن أي تغيير حقيقي في ميزان القوى لصالح القوى الديمقراطية واللبرالية العراقية، يمكن أن يضعف إلى حدود بعيدة التدخل الإقليمي في شؤون العراق الداخلية. 
إن مهمة تعبئة الجماهير الواسعة تستوجب رؤية انفتاحية على المجتمع كله وعلى كل القوى القادرة على تقديم العون والمشاركة في توعية وتعبئة الجماهير الشعبية لتحقيق التحولات المنشودة، وعلى أفكار هذه القوى ونشاطاتها والتحري عن سبل التعاون والتنسيق معها، سواء أكان هذا التعاون قصير الأمد ولأهداف محددة أو متوسط وبعيد المدى على وفق برامج تلك القوى وأهدافها ومصالحها الملموسة.
وبشكل ملموس نشير إلى أن ما يجري اليوم بالعراق يحتل أهمية استثنائية في عملية ووجهة التغيير اللاحقة، خاصة في مدى استيعاب القوى الفاعلة في الحراك الشعبي المدني والديني لتجارب السنوات المنصرمة، وخاصة منذ أحداث العام 2011 ودور السلطة التنفيذية من حركة الجماهير وضربها بقسوة وضد الدستور، وكذلك التحركات اللاحقة في أعوام 2013 و2015 حتى الوقت الحاضر، في نضالها الراهن من أجل التغيير والإصلاح الجذري.   
شهد المجتمع العراقي بين 14/2/-6/5/2011 بروز حركة احتجاجية تضامنية رفع رايتها اليساريون والمدنيون الديمقراطيون واللبراليون العلمانيون وطرحت المهمات الشعبية الأكثر إلحاحاً وضرورة للمجتمع والتي تبلورت في النقاط التالية:   
1.   خروج القوات الأمريكية من العراق وإنهاء الاتفاقية الأمنية.
2.   محاربة الفساد الذي عم البلاد ومكافحة المفسدين والتصدي لنهب النفط الخام العراقي.
3.   التصدي لقوى الإرهاب الدموي المنتشر في البلاد وإيقاف نزيف الدم المستمر.
4.   التصدي لمشكلة البطالة المتفاقمة وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة الكادحين وذوي الدخل المحدود والفقراء المتزايد عددهم بالبلاد.
5.   توجيه موارد البلاد صوب التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية وإيقاف التفريط بأموال الشعب.
6.   رفض النظام الطائفي والمحاصصة الطائفية.
7.   أطلاق سراح المعتقلين بتهم زائفة، والكف عن الاعتقال غير القانوني وإيقاف التعذيب أثناء التحقيق وفي السجون العراقية. 
لم تتحقق هذه المهمات الجوهرية خلال الفترة المنصرمة بل زاد الأمر سوءاً مما استدعى نهوض جديد للحركة المدنية الشعبية تحقق في آب/أغسطس من العام 2015، وهي امتداد طبيعي لحركة 2011. وقد أثرت هذه الحركة الجارية باتجاهات عدة نشير إلى أبرزها فيما يلي:
1.   تحريك المزيد من الجماهير الشعبية وخاصة الفئات الكادحة المرتبطة بالسيد مقتدى الصدر والتي اقترن عملها قبل ذاك بالصراع ضد قوى الاحتلال وبعض القوى الشيعية المشاركة في البيت الشيعي، وخاصة بجناحها العسكري المدعو بجيش المهدي، والذي يسمى اليوم بسرايا السلام. حيث بدأ هذا التيار الديني الشيعي يتحرك باتجاه مطالب المنتسبين إليه والداعمين له والمرتبطين بدور العائلة الديني (تقليد والده ومن ثم تقليده من حيث الفتاوى الدينية لأتباعه). وبدأت مطالبة مقتدى الصدر، وتحت ضغط أتباعه إلى محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين والإرهاب وضد المحاصصة الطائفية والحكم الطائفي. وكان هذا الموقف يسجل تحولاً ملموساً في صفوف التيار الصدري (الأحرار) التابع له والممثل في مجلس النواب، إضافة إلى بعض التوجه صوب ضرب بعض الفاسدين من أتباع التيار البارزين في التيار الصدري. ولا شك في أن عمق وسعة وأهمية هذا التحول ستبرز في الفترة الجارية وفي النضال من أجل الدولة المدنية وضد المحاصصة الطائفية والفساد...الخ.
2.   تحريك للحوزة الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني الذي وجد الحوزة في وضع غير مناسب جماهيرياً بسبب تأييده المستمر للأحزاب الإسلامية السياسية المتحالفة في الائتلاف الوطني أو البيت الشيعي، والتي انتشر في صفوفها ليس الفساد والرثاثة فحسب، بل والصراع على السلطة والمال والنفوذ إلى أقصى الحدود وتركت الجماهير تعاني الأمرين، إضافة إلى ما تسببت به من احتلال لمناطق العراق الغربية ونينوى. وبالتالي طالبت الحوزة الدينية الساستانية بتنحية المالكي بشكل غير مباشر فحسب، بل وبمحاربة الفساد والمفسدين وبالدفع صوب الدولة المدنية ولأول مرة في تاريخ السيد علي السيستاني.   
3.   اتساع قاعدة النشطاء من المدنيين في الحراك المدني الشعبي والناس المتضررين الذين شعروا بعمق الأزمة التي يعيش تحت وطأتها العراق، والعواقب الوخيمة التي جرها النظام السياسي الطائفي على المجتمع العراقي.
4.   وقد أدركت النخب الإسلامية الحاكمة بأنها لم تعد قادرة على الحكم على وفق السياسات والوسائل أو الأدوات والأساليب السابقة، مما فرض عليها الحديث عن الإصلاح الجزئي، والمقصود الشكلي، لكي تستطيع البقاء في الحكم. ولم يكن تنكيس الرؤوس إلا لتجنب العاصفة، وقد تجلي بالموافقة على تغيير نوري المالكي بحيدر العبادي، وهي الطريقة المثلى لها لتجنب التغيير الجذري الذي بدأت الحركة المدنية الشعبية والجماهير الغاضبة، والمتزايد عدد المشاركين في الاحتجاجات، تفرضه على القوى الحاكمة.

الحلقة الثامنة
قوى التيارين المدني والديني ودورهما في الحراك الشعبي

تشير معطيات الشارع العراقي إلى وجود تيارين فاعلين يساهمان في تحريك المزيد من المثقفين والأوساط الشعبية لصالح عملية التغيير والإصلاح الديمقراطي والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية والتمييز والفساد والإرهاب، وهما:
أ‌.   الفكر المدني التنويري الذي تتبناه القوى اليسارية والمدنية واللبرالية الديمقراطية العلمانية. وهو التيار الفكري الفاعل والمتطور تدريجاً والأكثر جذرية، إلا إنه ما يزال لا يمتلك النفوذ والتأثير الواسعين والمنشودين على الشارع العراقي، وعلى قاعدة واسعة من الجماهير الكادحة وفئة المثقفين، رغم وجود التيار الديمقراطي وفعله البارز والمستمر ببغداد وفي جميع محافظات الوسط والجنوب.
ب‌.   الفكر الديني المنفتح نسبياً والمؤثر على نسبة مهمة جداً من كادحي محافظات الوسط والجنوب وبغداد الشيعية والمؤيَد، بهذا القدر أو ذاك، من قوى إيجابية في الأوساط الشعبية السنية، وليس بين المسؤولين السياسيين من أتباع المذهب السني، بسبب رفض التيار الصدري للمحاصصة الطائفية وتأكيده على المواطنة ورفض التمييز ضد السنة. وهذا التيار قد تطور بشكل ملموس منذ العام 2014 حتى الوقت الحاضر.
إن بين هذين التيارين نقاط التقاء سياسية، ونقاط اختلاف فكرية وسياسية في آن واحد. فهما يلتقيان في المرحلة الراهنة في النضال ضد المحاصصة الطائفية، وضد الفساد والهيمنة على السلطات الثلاث، والدفاع عن مصالح الكادحين المنتسبين إلى هذا التيار والمؤيدين له، ومن أجل توفير الخدمات الأساسية، وضد البطالة وتفاقم الفقر وتعاظم نهب خيرات البلاد والمطالبة بإحالة المسؤولين عن احتلال الموصل والفساد المستشري إلى المحاكمة. ولكنهما يختلفان من حيث الفكر ووجهة تطور العراق، والنظام السياسي الذي يراد إقامته. وهو خلاف كبير وجذري دون أدنى شك.
ولكن المرحلة النضالية الراهنة تستوجب اللقاء مع كل المعارضين للطائفية السياسية والمحاصصة، وكل الداعين إلى محاربة الفساد والمطالبين بمعالجة البطالة والفقر، ومنهم قوى التيار الصدري، في النضال الشعبي في الشارع العراقي، واستناداً إلى تلك الأهداف المباشرة. وهذا الموقف المسؤول يتطلب رؤية موضوعية واضحة وملزمة لقوى التيار الديمقراطي والحراك الشعبي المدني بالنسبة لنقاط الاتفاق والاختلاف، لكي لا تذوب الفوارق إلى الحد الذي يمكن أن تفقد القوى الديمقراطية اللبرالية معه استقلالية نضال القوى المدنية في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعلماني. إن نضال قوى الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي يسمح بلقاء قوى وقواعد التيار الديني الصدري، ويسهم في الدخول بحوارات ونقاشات فكرية وسياسية تسهم في بلورة الكثير من المسائل المهمة لتلك القوى الكادحة والمضطهدة والمهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً والمتضررة بيئياً. والتي يمكن أن تسهم في تطوير قوى التيار الصدري وتدفع بها صوب تبني الدولة المدنية الديمقراطية، وهوية المواطنة المتساوية والموحدة، وفصل الدين عن الدولة، والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء، بسبب التجارب المريرة التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط. ومن يتابع نقاشات الشارع العراقي وقوى التيار الديمقراطي يدرك بوجود تحفظات معينة على العمل المشترك في الشارع العراقي مع قوى التيار الصدري، وبخاصة بين جمهرة من الشباب، إذ أن تجارب التحالفات السياسية السابقة وعلى امتداد الفترة التي أعبقت انتصار ثورة تموز 1958، لم تبشر بالخير العميم وغالباً ما انقلب الحلف على الحلفاء. ولهذا فلا بد من أخذ تحفظات الشبيبة بنظر الاعتبار أولاً، والتعلم من تجارب الماضي غير البعيد ثانياً، وعدم الانجرار، مع من يتم التيار الديمقراطي التعاون معه في الشارع، إلى ما يقوم به ذلك الطرف على وفق ما يسعى إليه، والذي يمكن أن يقود على عواقب وخيمة في غير صالح التيار الديمقراطي أو المجتمع أو الحركة المعارضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة. وبهذا الصدد قدم الزميل الدكتور فارس كمال نظمي دراسة غنية وجديدة حول التيار الصدري والحراك الشعبي وآفاق الوضع بالعراق نشرت على صفحات الحوار المتمدن تحت عنوان "لتقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في ديناميات اليساروية الاجتماعية"، في باب الثورات والانتفاضات الجماهيرية، الحوار المتمدن-العدد: 5227 – 18/7 / 2016 "، من المهم الاطلاع عليها ومناقشتها بعلمية وموضوعية لأهمية مثل هذه الدراسات في المرحلة الراهنة، بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف القراء معه. فنحن بالعراق بحاجة ماسة على مبادرات في طرح الرؤية المدققة لعملية التغيير وآليات وسبل هذا التغيير الديمقراطي والسلمي المنشود.   
أن عملية تغيير النظام السياسي الطائفي القائم عملية نضالية معقدة ومتشابكة وليس بالضرورة قصيرة الأمد، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية تعتمد على قدرة القوى المناضلة على رفع مستوى وعي الجماهير ودورهم في عملية التغيير التي تعني ممارسة عملية إصلاح جذرية للدولة والمجتمع من جهة، وتستوجب تعبئة أوسع الجماهير للنضال من أجل التغيير من جهة ثانية، إذ أن الدولة والمجتمع قد سقطا منذ عقود في حمى الاستبداد والقهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي والفاقة الفكرية والسياسية والبؤس الاقتصادي والاجتماعي والفساد الناهب لخيرات وموارد البلاد، وعانا وما زالا يعانيان من العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية المقيتة. كما يعاني المجتمع من فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وفساد المجتمع ومؤسساته وأغلب أحزابه السياسية. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يخلوا من العنف والاضطهاد والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي.
إن التغيير المنشود يستوجب مشاركة جميع القوى المعارضة، إذ لا يمكن لقوة بمفردها وبجماهيرها تحقيق التغيير. ولهذا لا بد أن تلتقي كل القوى المناضلة لتحقيق التعاون في ما بينها استناداً إلى وضع برنامج يمثل الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه، ويتضمن في الوقت نفسه الحد الذي تقرره ظروف العراق وقدرات النضال الشعبي، وليس في ما نتخيله ونرغب به ولا يتجانس أو يتناغم مع الواقع المعاش فعلياً. إن البرنامج المنشود يمكن أن يشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية والنفسية وعلاقات العراق الخارجية، الإقليمية منها والدولية. كما إن البرنامج يفترض أن يتضمن حلولاً واقعية لمشكلة النازحين والمهاجرين الذين زاد عددهم اليوم عن أربعة ملايين إنسان عراقي بالداخل، دع عنك المهاجرين إلى خارج العراق والذين بلغ عددهم الآن أكثر من أربعة ملايين أيضا، وهو في زيادة شهرية مستمرة. إن وضع برنامج مشترك لا يعني بأي حال فقدان التيار الديمقراطي أو الحراك المدني الشعبي لبرنامجه الخاص في التغيير وتطوير العراق وتقدمه. وهذا الموقف يشمل التيار الصدر أيضاً أو أي قوة أخرى تبدي الاستعداد للتعاون والعمل والنضال المرحلي المشترك.
إن هذه العملية تستوجب وعياً لدى المجتمع، بحيث يكون مستعداً على تحمل تبعات التغيير السلمي والديمقراطي للبلاد، التي تقترن اعتيادياً بتعقيدات غير قليلة تحصل أثناء وقوع مثل هذه التحولات الضرورية في المجتمع. ومثل هذا البرنامج يفترض أن تضعه لجنة واسعة وواعية لواقع العراق وإمكانيات وضرورات التغيير والإصلاح الجذري الشامل للدولة والمجتمع. ويفترض أن يتضمن البرنامج تنظيم عودة النازحين والمهجرين قسراً إلى مناطق سكناهم، وتعويضهم ومساعدتهم ليعيدوا بناء مساكنهم وحياتهم الاعتيادية وعودة السلم والاستقرار لهم.
كما يتطلب البرنامج وضع الأسس القانونية الضرورية لإقامة علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق وحل كل المشكلات العالقة، سواء بالنسبة للمناطق المتنازع عليها، أم قضية النفط والتنمية أم رواتب الپيشمرگة...الخ، بعد أن أصبحت العلاقة متدهورة وبلغت حالياً الحضيض.   
ويبدو لي بأن هناك مهمة مؤجلة منذ سنوات، وأعني بها إعادة كتابة الدستور العراقي لعام 2005 بما يصحح القضايا غير الديمقراطية والطائفية والمخالفة للأسس الديمقراطية في حياة المجتمع، وبشكل خاص موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إضافة إلى تخليصه من المواد التي تعتبر حمالة أوجه ...الخ، وهي كثيرة. إن المجتمع العراقي قادر على التغيير، وهو يعي باستمرار وأكثر فأكثر الحضيض الذي حط به العراق بسبب فكر وسياسات وممارسات القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية وبعض القوى القومية الشوفينية والضيقة الفق في آن واحد، والتي كانت وما تزال ضد إرادة ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية. 

كاظم حبيب في 20 - 31/7/2016
[/b]

423
وماذا بعد الانتصار والتحرير بالعراق....؟
الحلقة الأولى
طبيعة الجرائم المرتكبة بمحافظة نينوى
تواجه المواطِنات والمواطنون العراقيون بالداخل والخارج أسئلة كثيرة تشغلهم كثيراً وتتعبهم وهم يتحرَّون عن إجابات لها عبر حواراتهم الذاتية غير المتوقفة، أو عبر نقاشاتهم مع الآخرين، وكذلك عبر قراءاتهم للمقالات والدراسات التي تنشر في الصحف والمجلات المحلية والإقليمية والدولية. ورغم الآراء الكثيرة التي يطلعون عليها ويحاورونها، لا يكفون عن التفتيش عن إجابات لأسئلة كثيرة أخرى، إذ أن ما حصل ويحصل بالعراق، يتجاوز المعقول في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي العلاقات الدولية. ومن بين تلك الأسئلة نذكر:
•   ما هي طبيعة الجرائم التي ارتكبت من قبل داعش وأعوانه بالعراق وكيف تسنى له ممارسة كل تلك الجرائم في سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
•   كيف استطاع داعش غزو العراق والهيمنة على عدد من محافظاته والغدر بأجزاء من شعب العراق منذ بدايات العقد الثاني من هذا القرن؟
•   كيف تتحقق النجاحات للقوات المسلحة العراقية ضد داعش، وما هو ثمنها، وبماذا تقترن؟
•   هل يمكن توقع عودة داعش أو نشوء من يماثلها من القوى الإرهابية بالعراق؟
•   ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة
في هذه المقالة المكونة من عدة حلقات يحاول الكاتب المشاركة في الإجابة عن الأسئلة المطروحة، علماً بأن ليست هناك وصفات وإجابات جاهزة، ب هو اجتهاد يتبناه الكاتب.
     
•   ما هي طبيعة الجرائم التي ارتكبت، وما تزال ترتكب، من قبل داعش وأعوانه بالعراق، وكيف تسنى له ممارسة كل تلك الجرائم؟
لم يعد خافيا على أحد سعة وعمق وشمولية وتنوع الجرائم التي ارتكبت، وما تزال ترتكب، من قبل تنظيم داعش ومن سانده، أو ما يزال يسانده، بالداخل ومن خارج العراق، ضد الشعب العراقي عموماً، وضد اتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية في المحافظات التي ابتليت به، وهي الأنبار، صلاح الدين، نينوى وأجزاء من كركوك وديالي، إضافة إلى التفجيرات المتلاحقة والمستمرة التي تحصل بمدن مثل بغداد وبابل وكركوك وديالى وغيرها. إنها جرائم تعيد إلى الأذهان جرائم هتلر والنازية بألمانيا الفاشية، وجرائم فرانكو الفاشي ونظامه العسكري بإسبانيا، وجرائم سالازار الفاشي بالبرتغال، وجرائم صدام حسين وحزبه ونظامه الفاشي ضد الشعب العراقي عموما، ولكن وبشكل خاص جرائم الإبادة الجماعية ضد الكرد والكرد الفيلية وعرب الأهوار والوسط والجنوب، بل وزاد عليها بتطبيق ما سمي ببنود الشريعة الإسلامية في التعامل مع غير المسلم أو "المسلم المرتد!"، أي غير الملتزم بعقيدته المنبثقة عن الوهابية وعن أبن تيمية قبل ذاك، ثم الغلواء فيهما. لقد غزا الداعشيون الموصل ومن ثم توسعوا بنينوى ومارسوا القتل والسبي والاغتصاب والتشريد ضد المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان الشيعة، وضد السكان السنة الذين رفضوا التعامل معه أو الخضوع لإرادته، وهم الغالبية بعد أن أدركوا حقيقته، كما مارسوا بشكل خاص السبي والاغتصاب وبيع النساء الإيزيديات في سوق النخاسة باعتمادهم على التراث الإسلامي في حروب الغزو ضد الأقوام والمناطق وأتباع الديانات الأخرى، التي أُطلق عليها إسلامياً بـ"الفتوحات الإسلامية!" على امتداد تاريخ الإسلام السياسي والحكام الذين تبنوا الإسلام ديناً لهم و"لدولهم التي لا يمكن أن تكون ذات دين" بأي حال، باعتبارها شخصيات معنوية أو اعتبارية لا غير! وهي لم تكن سوى عمليات توسع ديني على حساب الديانات الأخرى وأتباعها، واستعمار مناطق أخرى لصالح الحكام الجدد وأتباعهم من المسلمين. والتاريخ الإسلامي الطويل مليءٌ بما يماثل ما يمارسه الإرهابيون الجدد بالعراق وسوريا واليمن وليبيا، وكذلك العمليات الإرهابية التي ينفذونها بالدول الغربية، باعتبارها ديار حرب يرتكبون الجرائم البشعة لتحويلها إلى ديار السلام أو الإسلام!!     
لقد اعترفت الأمم المتحدة أخيراً، والكثير من دول العالم، ومنها الولايات المتحدة، بإن الجرائم التي ارتكبت وترتكب بالعراق من قبل تنظيم داعش ومن يسانده تعتبر جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية، جرائم لا تتقادم أبداً، وينبغي تقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة لينالوا الجزاء العادل. إنهم وحوش كاسرة وعدوانية بأسماء بشرية ووجوه كالحة. إنهم من حيث المبدأ خارج الزمن، فهم الماضي المريض في حاضر بلادنا العليل، الذي لا يمكن ولا يجوز أن يدوم، إنهم استثناء في حركة التاريخ وقوانين التطور الاجتماعي، وأفعالهم تجسد ارتداداً فعلياً وجزئياً على حركة التاريخ وقوانين التطور الاجتماعي والحضارة البشربة. إنهم القوى الخاسرة في المحصلة النهائية، رغم ما تسببوا به، وما زالوا يتسببون به، من موت جماعي ودمار وخراب شاملين، ومحاولة وقحة لتهشيم الذاكرة الحضارية للإنسان العراقي والبشرية، إنها بشاعة في السلوك غير الآدمي وتخلف مرير وارتداد هائل عما تحقق للمجتمع العراقي من منجزات مدنية نسبية إيجابية خلال الفترة 1921-1962، وقبل وقوع الانقلاب الفاشي في العام 1963. كما إنه ارتداد أعمق وأشمل عما تحقق للبشرية جمعاء من منجزات حضارية رائعة وهائلة خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر.
العوامل التي ساعدت داعش على غزو العراق
لم يكن في مقدور هذا التنظيم المتوحش أن يغزو العراق، وأن يمارس كل هذه الجرائم، وأن يواصل وجوده بالعراق منذ العام 2013 حتى الوقت الحاضر، لولا وجود عوامل أساسية فاعلة ومساعدة حتى الآن، والتي يمكن الإشارة إليها والبحث فيها على وفق منهج البحث والمفردات المطروحة للمعالجة، وأبرز تلك العوامل:
1) الواقع السياسي والاجتماعي العراقي بالارتباط مع تركة النظام الدكتاتوري السابق، وتركة سياسات وسلوك قوى الاحتلال الأمريكي بالعراق، وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي الطائفي الذي فرضه الحلفاء على البلاد، والصراعات الدائرة بين قواه الإسلامية السياسية غير الشرعية والمتعارضة في وجودها وطبيعة نشاطها مع بنود الدستور العراقي لعام 2005.
2) دور قوى ودول الإقليم الشرق أوسطي في التدخل الفظ بالشأن العراقي الداخلي وامتداداتهم السياسية والاجتماعية بالداخل العراقي، ونقلهم صراعاتهم الإقليمية إليه، وبين فئاته الاجتماعية واتجاهاته الفكرية والسياسية قومياته.
3) الدور الملموس للواقع الدولي الراهن الذي يشير إلى عودة الحرب الباردة بين الدول الكبرى عمليا وتجلياتها في الواقع العراقي والشرق أوسطي بشكل خاص. وتتجلى أيضاً في سباق التسلح الجديد على الصعيد الدولي والأوروبي والشرق الأوسطي. إنها العوامل التي نسعى للبحث فيها في حلقات هذا المقال.

الحلقة الثانية
كيف استطاع داعش غزو العراق؟

•   كيف استطاع تنظيم داعش الإرهابي غزو العراق والهيمنة على عدد من محافظاته ومدنها الكبيرة، والغدر بأجزاء كبيرة من شعب العراق؟
حين أَسقَطَ التحالف الدولي، خارج إطار الشرعية الدولية، النظام الدكتاتوري البعثي، الفاشي سياسياً، وحين تولت الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها سلطة الاحتلال العسكري والمدني بقرار جائر من مجلس الأمن الدولي، إدارة البلاد، فسحت في المجال بتصميم مسبق الصنع على حصول الكوارث التالية:
أ‌)   فوضى عارمة شملت كل أنحاء البلاد، عدا إقليم كردستان، وخاصة في العاصمة بغداد، فانتشرت عصابات النهب والسلب والقتل والسطو لا على دور المسؤولين السابقين بالدولة العراقية فحسب، بل وعلى مرافق الدولة ومؤسساتها ووزاراتها وبنوكها ومؤسساتها التأمينية، عدا وزارة النفط، لارتباطها بالمصالح الأمريكية البترولية بالعراق مباشرة والتي كانت الحرب أهم أهدافها، ومتاحفها وأثارها الحضارية القديمة والفريدة. لقد فسحت الإدارة الأمريكية بتصميم مسبق للبداوة والتخلف والقيم البالية أن تعود إلى العراق وبزخم شديد. وقد أطلقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في حكومة جورج دبليو بوش، كونداليزا رايس، على تلك الحالة بالفوضى الخلاقة، لأنها كانت السبيل لتحقيق أشرس وأهم أهداف دولة الاحتلال الأولى! 
ب‌)   دخول عناصر وجماعات مسلحة وجواسيس لدول مجاورة إلى العراق، وخاصة من إيران والسعودية، وكذلك تلك الجماعات التي وجدت الدعم والتأييد من تركيا ودول الخليج وسوريا، ونسجت خيوط التعاون والعمل المشترك مع الأحزاب الإسلامية السياسية السنية والقومية المتطرفة.
ت‌)   كما تسنى للتنظيمات الإرهابية الدولية، مثل القاعدة وتنظيمات أخرى مماثلة، أن تجد موقعاً مهماً لها بالعراق وأرضية صالحة لعملها الإرهابي، بدعوى محاربة قوى الاحتلال الأمريكي – البريطاني – الدولي. لقد تُركت حدود العراق مفتوحة بالكامل أمام الإرهابين من مختلف الجماعات المسلحة، بموقف واضح ومسبق الصنع من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، سواء أكان ذلك إزاء الحدود مع تركيا والسعودية ودول الخليج، أم إزاء الحدود مع إيران وسوريا وحزب الله بلبنان وغيرها.
ث‌)   وكان قرار الإدارة الأمريكية بحل الجيش العراقي وبقية صنوف القوات المسلحة قد وفر الفرصة المناسبة لكل القوى الداخلية والخارجية والمليشيات المسلحة أن تكسب لصفوفها الكثير من ضباط وأفراد القوات المسلحة العراقية أولاً، وأن تسيطر على ترسانات الأسلحة للقوات المسلحة العراقية ثانياً. ولم يكن هذا القرار عفوياً ومن عنديات بول بريمر، بل كان القرار مدروساً من جانب الإدارة الأمريكية ومراكز صنع واتخاذ القرار بالولايات المتحدة، ومقرراً حتى قبل غزو العراق وإسقاط الدكتاتورية، ومن ثم فرض الاحتلال على البلاد رسمياً وبقرار مجحف من جانب مجلس الأمن الدولي، وهو جزء من استراتيجية الولايات المتحدة إزاء العراق والمنطقة.
ج‌)   بروز ميليشيات طائفية مسلحة تابعة لأحزاب إسلامية سياسية شيعية كانت حليفة لقوى التحالف الدولي، وخاصة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ استطاعت هذه الميليشيات، مع حل القوات المسلحة العراقية، نهب أسلحة الدولة العراقية وعتادها الكثير وتهريبه إلى الدول المجاورة أو الاحتفاظ به واستخدامه أو المتاجرة الداخلية به. وقد تم تشكيل وتسليح ودعم هذه المليشيات من قبل قيادة الدولة الإيرانية وحرسها الثوري وبعض القوى الشيعية في دول الخليج، إضافة على حزب الله بلبنان.
ح‌)   لكن القرار الأخطر الذي أصدرته ونفذته الإدارة الأمريكية تجلى في فرض النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية على الشعب العراقي لدق أسفين الصراع بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية منها والسنية، ثم نقل هذا الصراع إلى القاعدة الشعبية والشارع العراقي، وكذلك أشراك الكرد في هذه المحاصصة ليكون العراق شيعياً- سنياً- كردياً، متصارعاً وغير مستقر، وبهذا اسقطت الشعب والبلاد في الهويات الفرعية القاتلة، وابعدته كلية عن هوية المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة. أي جعل الهويات الفرعية هي الفاعلة، وهي المُفتِتة فعلياً للوحدة الوطنية ولمبدأ وروح المواطنة بشكل خاص.
خ‌)   ولم تكتف قوى الاحتلال بذلك بل عمدت إلى تسهيل عمليات النهب والسلب ونشر الفساد المالي والإداري داخل الدولة وسلطاتها الثلاث وفي المجتمع، والذي تحول تدريجاً إلى نظام سائد بالبلاد ولم يعد ظواهر متفرقة هنا وهناك. كما ساعدت بشكل مدروس على نهب المتاحف العراقية وما فيها من تراث حضاري أصيل وفريد لبلاد ما بين النهرين!

الحلقة الثالثة
أوضاع المجتمع بعد سقوط الدكتاتورية البعثية

لقد كان المجتمع العراقي مؤهلاً لقبول كل تلك المظاهر السلبية وعدم مقاومته لها، بل كان على استعداد للانجرار معها وتشديدها والغوص معها في عمق المستنقع الجديد. إنها نتيجة منطقية لمجمل الأوضاع التي مرَّ بها المجتمع خلال أكثر من خمسة عقود، والتي تجلت في سيادة الدكتاتوريات القومية والبعثية الشوفينية والعنصرية وممارسة أقصى أنواع الإرهاب الحكومي وخوض الحروب الداخلية والخارجية، وفرض الحصار الاقتصادي الدولي الطويل الأمد وما اقترن به من مجاعات فعلية وفقر مدقع وفاقة فكرية وجهل مريع وغوص المجتمع في متاهات الدين المسطح المشوه لعقول الناس واستمرار ذلك لعقود عديدة، بحيث انهارت الكثير من القيم والمعايير الإنسانية النبيلة التي كان المجتمع يتمسك بها ويمارسها قبل ذاك.
من هنا يمكن تأشير خمس قضايا جوهرية هيمنت على المجتمع طوال السنوات التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية وميزت الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والعلاقات الدولية، وأعني بها:
1.   نظام سياسي طائفي وأثني سائد بقيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية وبمشاركة الأحزاب الإسلامية السنية والتحالف الكردستاني، يعتمد المحاصصة في توزيع السلطات الثلاث عملياً، وفي ذات الوقت تخوض قواه الحاكمة الصراع الدموي على الموقع الأساس في السلطة والمال والنفوذ والتأثير الاجتماعي.
2.   سيادة ظاهرة الفساد بحيث أصبحت السمة المركزية التي تميز الدولة والمجتمع وعموم الوضع بالعراق بعد ظاهرة الطائفية السياسية ومحاصصاتها المخلة.
3.   سيادة الإرهاب الدموي الذي تخوضه المنظمات الإسلامية السياسية السنية منها والشيعية ضد بعضها، وتسببها في موت عشرات الآلاف من الناس الأبرياء سنوياً، وانتقال الصراع والنزاع إلى القاعدة الجماهيرية. 
4.   عدم استقلالية النظام السياسي العراقي وخضوع القوى الحاكمة فيه لإرادات خارجية، سواء أكانت إيران بشكل خاص، أم للسعودية وتركيا ودول الخليج، وبهذا جعلت العراق ساحة فعلية للصراع الإقليمي والدولي وعواقبه الوخيمة على الدولة والمجتمع ومستقبل الشعب والبلاد.
5.   وجود احتلال لجزء من أرضه وشعبه من جهة، ووجود عمليات إرهابية واسعة ومستمرة ضد أبناء وبنات الشعب من جهة أخرى، وحرب طاحنة لتحرير أرض وشعب العراق من المحتلين الأوباش من جهة ثالثة.
إن هذه الظواهر هي وليدة منطقية للاحتلال الأمريكي للعراق ودوره في إقامة النظام السياسي بالعراق، كما إن الإرهاب والفساد هما وجهان لعملة واحدة، أحدهما يشترط الآخر ويستكمله ويغذيه ويحافظ على ديمومته ويستمد قوته من طبيعة النظام السياسي وسياساته المناهضة لمصالح الشعب العراقي.
هذا الواقع العراقي أنتج وضعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئياً وثقافياً وتعليميا رثاً، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مضامين، وعلاقات اجتماعية وإنسانية رثة، كما أنتج بدوره فئة اجتماعية رثة تقف على رأس النظام وتقوده وتنشر الرثاثة والعفونة في سائر نواحي الحياة العراقية وتعمل على ديمومة هذه الرثاثة واستفحالها. وهي التي تسببت وما تزال تتسبب في كل ما يعانيه الشعب العراقي منذ سقوط الدكتاتورية البعثية وإقامة الاستبداد السياسي الطائفي الأثني بالبلاد حتى الآن.   
لقد جرى توزيع السلطات على النحو التالي: السلطات الثلاث تكون القيادة بيد الشيعة ثم يأتي الكرد والسنة. وأعطي للتحالف الكردستاني رئاسة الجمهورية، ولتحالف الأحزاب السنية رئاسة مجلس النواب، ولتحالف الأحزاب الشيعية رئاسة السلطة التنفيذية. كما وضع الدستور العراقي كل السلطات التنفيذية بيد رئيس الوزراء، وحرم رئيس الجمهورية من أي سلطة فعلية، سوى التوقيع على ما يقرره مجلس الوزراء ومجلس النواب عملياً. وهذا التوزيع للسلطات والمسؤوليات لا ينسجم بل يتناقض مع مضمون الدستور العراقي وبنوده ومع أسس المجتمع المدني الديمقراطي.
وهكذا تمكن رئيس الوزراء من التحالف الشيعي أن ينفذ سياسية طائفية ضد القوى السنية والكردية، وتجلت في تعزيز مواقع الأحزاب والقوى الشيعية في وزارة الخارجية والداخلية والأمن الداخلي والتعليم، إضافة إلى الهيمنة على الهيئات المستقلة رغم كونها غير مرتبطة برئيس الوزراء بل بمجلس النواب وتهميش دور الجماعات الأخرى في مجلس الوزراء. وإذ بدأت هذه السياسة الطائفية المتشددة في فترة حكم إبراهيم الجعفري، فإنها تفاقمت وتكرست في فترة حكم نوري المالكي الأولى (2006-2009)، ثم اشتدت بما لا يقاس في الدورة الثانية من حكمه 2010 حتى إزاحته عن السلطة في صيف العام 2014. وفي هذه الفترة تجلت بالعراق المأساة والمهزلة في آن واحد، بفعل السياسات الطائفية المتطرفة التي مارسها نوري المالكي وقاد البلاد إلى الحضيض الذي هو فيه الآن. فما هي السياسات التي مارسها نوري المالكي والتي جعلت من العراق مستنقعاً طائفياً نتناً، وارضية أكثر خصوبة للصراعات والنزاعات الطائفية والقومية، وفسحت في المجال لغزو العراق في الفلوجة قبل غزو متوحشو داعش للموصل؟

الحلقة الرابعة
النهج الاستبدادي والطائفي لرئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي

إذا كان العراق قد عرف بشخص صدام حسين شخصية قومية شوفينيةً متطرفةً، ودكتاتوراً رعديداً شرساً وعدواً للحياة الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والسلام، فأن العراق قد عرف بشخص نوري المالكي شخصية إسلاميةً طائفيةً شيعيةً متطرفةً ومهووسةً بالعداء لأتباع المذهب السني والكرد في آن، ومستبداً شرساً وعدواً فعلياً للمجتمع المدني الديمقراطي والعلمانية والعدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعي ولهوية المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة. إنه طائفي متطرف بامتياز لا يمكن التفكير بإصلاحه، فالإيديولوجية الدينية المتلبسة فيه والطائفية الشيعية السياسية المُحملة بالعداء المتطرف لأتباع المذهب السني التي يدين بها، وكأنهم هم الذين قتلوا الحسين وصحبه وسبوا النساء في العام 50 للهجرة. لا يمكن انتزاعها من عقليته المشوهة. فهو الذي خطب بكربلاء وقال: الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، ها هم اليوم موجودين، والحسين باللون الآخر لا يزال موجوداً وهو الذي يستهدف من هؤلاء الطغاة.. المعركة ضد الحسين لم تنته...، بل المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين ويزيد...". وكان هذا نداء استثنائي هستيري خطير يحمل معه دعوة الكراهية والحقد، دعوة إلى المزيد من الصراع والنزاع وسيل من الدماء بين الأوساط الشيعية والسنية.
إن مجرى الأحداث بالعراق خلال فترة حكم نوري المالكي تؤكد، إَضافة إلى تجاوزاته الفظة على الدستور العراقي، وانفراده بالسلطة وفي اتخاذ القرارات، وهيمنته على الهيئات المستقلة المرتبطة دستوريا بمجلس النواب، والتوسع المفرط بهدر المال العام والفساد والإفساد، وتفاقم الإرهاب والقتل الجماعي، والانفلات الأمني واتساع ظاهرة الاختطاف والاغتيالات، وممارسة التمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، وإشاعة الكراهية والأحقاد في صفوف المجتمع والتشبث بالسلطة بغض النظر عن العواقب المدمرة للعراق، والخضوع التام لقرارات ومواقف السلطة والسياسة الإيرانية، وبخاصة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران، فأنه مارس بإصرار وتصميم مسبق سياسات مدمرة في أربعة أحداث كبرى، أدت إلى ما عليه عراق اليوم، والتي ألخصها فيما يلي: "
الحدث الأول: الموقف من الحركة الاحتجاجية المدنية
نهضت بالعراق في أوائل العام 2011، وبالاقتران مع ما أطلق عليه بالربيع العربي، حركة مظاهرات مدنية سلمية كثيرة تطالب بمكافحة الإرهاب والتصدي للقوى الإرهابية ومكافحة الفساد المالي ونهب النفط الخام المتفاقم، وتأمين الخدمات العامة والأساسية كالكهرباء والماء والصحة والتعليم، ومكافحة البطالة والفقر المتفاقم، رغم ضخامة الموارد المالية للنفط الخام المصدر سنوياً، والمطالبة بتوجيه استثمارات مالية صوب التنمية الإنتاجية لتقليص استيرادات العراق وتوفير فرص عمل للعاطلين. وكان السخط على سياسة الحكومة متنامياً، فخشى المستبد بأمره، على موقعه في السلطة، فقرر ضرب المظاهرات بكل السبل غير المشروعة، بما في ذلك تشويه سمعة المتظاهرين واتهامهم بالبعثية وخدمة الدول المجاورة، ويقصد بذلك السعودية ودول الخليج، وقطَّع أوصال بغداد بالقوات العراقية والحواجز الكونكريتية لمنع وصول المتظاهرين إلى ساحة التحرير، ثم بدأ بالاعتقالات والتعذيب والتهديد بالقتل، ووقع القتل فعلاً بمتظاهرين في أنحاء من العراق وبغداد، إضافة إلى اغتيالات واعتقال نشطاء وصحفيين مشاركين في الحركة المدنية. وقاد كل ذلك إلى ضرب الحركة المدنية وإيقافها مؤقتاً لتجنب المزيد من القتل والاغتيال والاعتقال والتعذيب. وكان في ذلك تجاوزاً فظاً على واحد من أهم حقوق المواطنات والمواطنين، حق الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب والتجمع لإعلان موقف الجماهير من سياسات الحكومة وطرح مطالب الشعب في الشارع. وقد جسد هذا الموقف الرؤية الاستبدادية لرئيس السلطة التنفيذية من المطالب، ولكنه وتحت الضغط العام أوعد بمعالجة المشكلات خلال مئة يوم، ولكنه لم يفِ بوعوده ولم ينفذ أياً منها، وزاد عليها في غيه وفي مواجهة مطالب الشعب بالنار والحديد. ولا بد هنا من الإشارة إلى إن المشكلة لا تكمن في رئيس الوزراء السابق، رغم دوره القيادي في هذا الصدد، فحسب، بل وبالأساس في وجود الأحزاب الإسلامية السياسية في السلطة، وفي قيادة تحالف الأحزاب الإسلامية السياسية وبيتها الشيعي لسلطة الدولة بالعراق، والتي أجازت لمثل هذه السياسات وسكتت عنها، بل وأيدت رئيس الوزراء المستبد بأمره، في ما عدا موقف مقتدى الصدر وجماعته.
الحدث الثاني: الموقف من مظاهرات واعتصامات الفلوجة
احتجت جماهير واسعة من أبناء محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى ضد سياسات التهميش والإقصاء الفعلية والاعتقال الكيفي التي تعاني منها، وأحياناً بالمساومة مع بعض قادة الأحزاب الإسلامية السياسية السنية أو القومية الشوفينية. وكانت الجماهير تطالب بصواب بمجموعة من المطالب العادلة والمشروعة، بما في ذلك المطالبة بإطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين الأبرياء من أبناء هذه المحافظات ومن بغداد، الذين اعتقلوا بتهم زائفة لتقارير من المخبرين السريين، وبقاء المعتقلين دون تحقيق أو محاكمة لسنوات عديدة، إضافة إلى تعريضهم للتعذيب الوحشي. كما تبلورت المطالب بعدم تهميشهم سياسياً وإشراكهم الفعلي في السلطة وفي اتخاذ القرارات المصيرية، وفي تحسين أوضاع محافظاتهم، ومكافحة البطالة والفساد والاعتقال الكيفي، وتوفير الخدمات الأساسية. وحين لم تستجب الحكومة إلى مطالب الجماهر قرروا التظاهر والاعتصام في الفلوجة، التي أصبحت مركزاً لمقاومة سياسات الحكومة الاتحادية.
وتحت ضغط بعض القوى السياسية والرأي العام العربي والعالمي، أجبر المالكي على تشكيل وفد للتفاوض مع المعتصمين، واتفقوا ابتداءً على تحقيق عدد من المطالب. إلا إن المالكي رفض الاستجابة إلى تلك المطالب أيضاً، أعطى الأوامر بفك الاعتصام بالقوة العسكرية ومهما كان الثمن. وقد قاد هذا الموقف الاستبدادي غير المسؤول والأرعن إلى قتل العشرات من المواطنين المحتجين المعتصمين وإنهاء الاعتصام بالقوة والعنف العسكري. فسح هذا الموقف العدائي ضد المعتصمين إلى تنامي الغضب والإحباط في صفوف سكان محافظة الأنبار وصلاح الدين، وإلى الاقتناع بعدم جدوى المطالبة السلمية في الحصول على أي مطلب من حكومة نوري المالكي، مما سهل تغلغل الدواعش بين الجماهير المحتجة وتصعيد الحركة المطلبية باتجاه العنف، وساعد ذلك على هيمنة الدواعش فعلياً ومنذ العام 2013 على الحركة الشعبية في الفلوجة بشكل خاص وقادتها، وفقدت بذلك الحكومة الاتحادية أي تأثير على المنطقة الغربية. فبدأت باتخاذ إجراءات ارتجالية واعتباطية ضد بعض قادة الأحزاب الإسلامية السنية، الذي لا يختلف عن المالكي في طائفيته، ولكنها قادت، وفي تلك الظروف، إلى تأجيج الوضع المتوتر أصلاً وصب المزيد من الزيت على النار المشتعلة. وفي هذا أيضاً لا يتحمل نوري المالكي وحده مسؤولية ما وقع في الفلوجة والأنبار وصلاح الدين فحسب، رغم دوره القيادي والريادي في كل ذلك، بل يتحمله حزب الدعوة الإسلامية ومعه التحالف الشيعي القائد للسلطة السياسية. وعلينا هنا الإشارة على أن جماعة التيار الصدري كانت ضد سياسة نوري المالكي ووجهته في التصعيد ومحاولة حل المشكلة بقوة السلاح والعنجهية. كما أن قوى التيار الديمقراطي قد تصدت لهذه السياسة وفضحتها ورفضت ممارسة القوة في حل المعضلات الداخلية، ولكن لم تكن هناك أذناً صاغية من جانب رئيس الحكومة وحزب الدعوة.
الحدث الثالث: غزو الموصل واحتلال نينوى
تعرضت الموصل لحالة من الغزو الشيعي لها الذي تجلى في قوام القوات المسلحة المعسكرة هناك والضباط والقادة العسكريين فيها، وممارسة سلوكية غير إنسانية ومناهضة لأتباع المذهب السني ولكرامتهم، وانتشار ظاهرة الفساد في المحافظة وفي صفوف المسؤولين المدنيين والعسكريين من جهة، ووجود إدارة طائفية سنية تقود المحافظة باتجاه مناوئ للحكومة الاتحادية وسياساتها الطائفية المقيتة من جهة أخرى. وكانت جماهير الموصل، التي كانت تعاني من هذه الأوضاع، تذل وتطعن يومياً من جانب الحكومة الاتحادية. وكانت هناك خلايا نشطة وكثيرة لداعش بالموصل تنتظر اللحظة المناسبة. وفعلاً توجهت قوة قليلة من الدواعش من الحدود السورية باتجاه الهيمنة على بعض المناطق الحدودية العراقية بالموصل. وحين لم تجد المقاومة الفعلية، توغلت في عمق الموصل واحتلت المدينة وسيطرت على معسكرات القوات المسلحة العراقية وما فيها من أسلحة وعتاد ومعدات وأموال وبمساعدة الجماعات التابعة لها والمعششة بالموصل.
إن الكثير من الدلائل المتوفرة تشير إلى إن الأوامر قد صدرت من جانب رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة العراقية لهم بالانسحاب أمام غزو داعش، بعد أن كان هؤلاء القادة العسكريون المسؤولون قد اتصلوا به وأعطوه لوحة عن بداية الغزو الداعشي. وقد أدى قرار الانسحاب إلى وقوع كوارث وجرائم إبادة جماعية بحق السكان المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان وجمهرة من السنة والشيعة أيضاً، إضافة إلى حصول مجزرة معسكر سپايكر.
الحدث الرابع: موقف نوري المالكي من المسألة الكردية
من المعروف عن قوى الإسلام السياسي والقوى القومية الشوفينية إنها ترفض الاعتراف بالحقوق القومية للقوميات الأخرى بالدول ذات الأكثرية الإسلامية أو الدول العربية، بذريعة أن الإسلام أمة واحدة ولا يعتمد على القوميات من جهة، وأن العرب هم الذين يشكلون القومية الكبرى وما على القوميات الأخرى إلا الانصهار بها أو القبول بعدم اعتراف العرب لهم بحق تقرير المصير. وفي الحالة العراقية اضطر حزب البعث على الاعتراف بالحكم الذاتي في العام 1970 تحت ظروف استثنائية، ثم سرعان ما انقلب على الحكم الذاتي بإقليم كردستان العراق وتأمر ضد الحكومة والحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم، وخاض الحروب ضد الشعب الكردي لإخضاعه لهيمنة البعث، ولكنه عجز عن ذلك.
وفي حالة الإسلام السياسي الشيعي بالعراق، فقد اعترفت أغلب الأحزاب الإسلامية الشيعية بإقامة الحكم الفيدرالي بكردستان أثناء فترة المعارضة، إذ كانت الفيدرالية قائمة فعلاً في فترة حكم البعث بالعراق، ووافقوا في ظل وجود قوى الاحتلال أن يكرس ذلك في الدستور العراقي. ولكنهم رفضوا جميعاً الاعتراف بحق تقرير المصير وتثبيت ذلك في الدستور. وهو موقف شوفيني صارخ. ومع وصول قيادة حزب الدعوة إلى قيادة السلطة الاتحادية حتى انقلب نوري المالكي على العلاقة مع الإقليم وعلى الفيدرالية من حيث الجوهر ومارس ذلك بطرق وأساليب ملتوية، مما أدى إلى تدهور سريع في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. لقد برزت مشكلات عديدة منها عدم تنفيذ بنود المادة 142 الخاصة بإجراء الإحصاء وتنظيم الاستفتاء في محافظة كركوك حول علاقتها بالإقليم والدولة الاتحادية، وكذلك حل المشكلات الأخرى الخاصة بـ"المناطق المتنازع عليها"، وتفاقم الخلاف بشأن النفط الخام وإنتاجه وتصديره في إقليم كردستان، والذي برز فيه تجاوز على نص الدستور العراقي من جانب الإقليم، وكذلك بروز الخلاف حول رواتب البيشمركة باعتبارهم جزءاً من القوات المسلحة العراقية ...الخ. كما إن الدستور العراقي حمل مواداً هي حمالة أوجه من جهة، كما لم يضع المشرع القوانين الضرورية التي تنظم العلاقة والصلاحيات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، مما قاد إلى تفاقم الخلافات وتدهور العلاقات بين الطرفين بسبب رغبة كل طرف في الحصول على أقصى الصلاحيات في إدارة الإقليم وممارستها فعلاً، بينما تسعى الحكومة الاتحادية إلى توسيع صلاحياتها للرقابة على الإقليم وموارده النفطية. ولم تكن الأخطاء من طرف واحد، بل من الطرفين، ولكن المسؤولية الأساسية برزت في الطرف العراقي الاتحادي أولاً، مع واقع أن الإقليم حاول ممارسة الاستقلال الفعلي عن العراق، وكأنه ليس جزءاً من الدولة العراقية، على وفق ما تضمنه الدستور العراقي الحالي. والمشكلة الأكثر خطورة هي رفض الحكومة الاتحادية حق الكرد في تقرير مصيرهم، سواء أكان ضمن الدولة العراقية أم الاستقلال عنها. وهي المشكلة المركزية في هذه العلاقة المتوترة. 
في مثل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة والمليئة بالصراعات الطائفية على السلطة في ما بين القوى الإسلامية السياسية، إضافة إلى الصراع المحتدم بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وبدعم إقليمي واسع النطاق، تسنى لتنظيم داعش اختراق الحدود العراقية من بوابة الموصل بسهولة والسيطرة على المدينة، وعلى المعسكرات ومخازن الأسلحة والعتاد والمعدات بكميات هائلة، وعلى الأموال والتصرف بها ضد شعب العراق.
ومن الواجب هنا أن نشير إلى أن محافظ نينوى أثيل عبد العزيز النجيفي، وهو شقيق أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي السابق، كان معروفاً بكونه من البعثيين ومن الذين تعاون على نطاق واسع مع الخلايا الداعشية التي كانت تعمل علناً بالموصل وتفرض على أصحاب المحلات والأغنياء بنينوى، وخاصة بالموصل، دفع الإتاوات مقابل عدم قتلهم أو تهجريهم أو تفجير محلاتهم. وتؤكد الكثير من المصادر إلى واقع وجود مثل هذه العلاقة بين محافظ نينوى ومجلس محافظة نينوى وجمهرة من المسؤولين بالموصل مع الجماعات الإرهابية السنية وقوى البعث المتنفذة.     
ووجود مثل هذه الخلايا المتنفذة في الإدارة والمجتمع والاقتصاد بنينوى ساعد على تسهيل مهمة عصابات داعش الإجرامية في اقتحام الموصل، وبما لديها من معلومات للسيطرة على المناطق الحساسة وعلى الأموال المتوفرة في البنوك والقاصات الحكومية. وبالتالي، فلا بد من تشكيل لجنة تحقيق حيادية تأخذ على عاتقها دراسة كل التهم الموجهة لهذه القوى والعناصر بالموصل ومحاسبتها على التهم الموجهة لها، وبشكل خاص لمحافظ نينوى، لينالوا الجزاء العادل إن كانوا مجرمين حقاً.       
 
الحلقة الخامسة
الأسباب الكامنة وراء سياسة نوري المالكي إزاء الموصل

 السؤال الذي يستوجب الإجابة عنه هو: لماذا اتخذ رئيس الوزراء العراقي هذا الموقف؟     
تشير تجارب شعوب العالم التي عانت من ظلم وجبروت المستبدين، كما تؤكد الكثير من الدراسات الخاصة بالنظم الدكتاتورية وشخصيات الدكتاتوريين، وكذلك الروايات الجادة التي تطرح نماذج لمثل هؤلاء المستبدين، ومنها رواية الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز الموسومة بـ "خريف البطريرك، أو رواية الروائي العراقي زهير الجزائري الموسومة "المستبد"، (عن معهد الدراسات الاستراتيجية، بيروت, 2006)، إلى إن هؤلاء المستبدين جميع يتميزون بسمات مشتركة أبرزها:
** عدم الثقة بالشعب وعدم الاعتراف بحقوقه وشخصيته وإرادته الحرة.
** الشك في الجميع وفي أقرب الناس إليه، وهو مستعد لتصفية من يزداد الشك به في كل لحظة.
** الرغبة في الاستحواذ على كل السلطات الثلاث وعلى المال العام، وعلى الإعلام، وكذلك على المجتمع، وتهميش الجميع دون استثناء.
** احتقار الدستور والقوانين والأعراف والتقاليد، واعتبار أقواله وما يريد تحقيقه من أهداف هي القوانين النافذة المفعول.
** الكراهية الشديدة لكل المثقفين، عموماً والعضويين منهم على وجه الخصوص، من علماء وأدباء وفنانين وإعلاميين، ولكل صاحب رأي أو رأي آخر.
** لا قيمة للإنسان وحياته ومصالحه في حسابات المستبد بأمره، فحياته ومصالحه وإرادته والأهداف التي يسعى إليها لها الأولوية المطلقة.
** لا يعترف بالهيئات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان ويعتبرها أجهزة معادية له ولطموحاته.
** إيلاء اهتمام خاص بالعناصر الانتهازية ووعاظ السلاطين والمدّاحين الذين يمجدون استبداده وحماقاته، ويعمقون فعلياً من سلوكه الاستبدادي وتجبّرهِ وكراهيتهِ للآخرين.
ويلاحظ هنا بأن المستبد بأمره يشعر بكونه أما من طينة غير طينة البشر، أو نصف إلهٍ، أو وكيل الله على الأرض، وله الحق في أن يفعل ما يشاء بغير حساب وأن يتحكم بإرادة ومصالح البشر!
هكذا كان صدام حسين، ومعمر القذافي وحافظ الأسد وعمر البشير ومن لف لفهم، وهكذا هو نوري المالكي، الذي لم تسمح له ظروف العراق والمنطقة والعالم أن يقوم بنفس الدور الذي مارسه صدام حسين بالعراق، إلا إنه يملك ذات الخصائص والسمات التي لدى صدام حسين. وهكذا نتابع بقلق كبير كيف بدأ رجب طيب أردوغان يتحول من مدعي التحرر والديمقراطية، إلى مستبد شمولي بعد وقوع الانقلاب الفاشل في 15/7/2016 بتركيا.     
لقد كان نوري المالكي يرى في كل حركة شعبية مطلبية فعلاً مناهضاً له ولحكمه ورغبة في التخلص منه، وبالتالي كان يواجه هذه الحركات بالغضب والعنف، فيبدأ بتشويه سمعتها والإساءة إليها، ومن ثم الانقضاض عليها بأجهزته القمعية لتدميرها. هكذا كان الموقف من الحركة المطلبية الشعبية، ومن اعتصامات الفلوجة، ومن موقف الكرد، ومن مطالب جماهير الموصل. وكان عليه توجيه الضربات لكل هذه الحركات بأي شكل كان ومهما كانت العواقب ليحافظ على وجوده على رأس السلطة.   
في مثل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة والمليئة بالصراعات الطائفية على السلطة بين القوى الإسلامية السياسية، إضافة إلى الصراع المحتدم بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حول العديد من المسائل المهمة والجوهرية التي لم تعالج على وفق بنود الدستور، كما لم توضع القوانين القادرة على معالجة ما ورد أو لم يرد في الدستور بشأنها أو بشأن العلاقة بين الطرفين، وبدعم إقليمي واسع النطاق، تسنى لداعش اختراق الحدود بسهولة والسيطرة على  الموصل وعلى المعسكرات ومخازن الأسلحة والعتاد والمعدات بكميات هائلة، وعلى الأموال والتصرف بها ضد شعب العراق.
ومن الواجب هنا أن نشير إلى أن محافظ نينوى أثيل عبد العزيز النجيفي، وهو شقيق أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي السابق، كان معروفاً بكونه من البعثيين ومن الذين تعاون على ناطق واسع مع الخلايا الداعشية التي كانت تعمل علناً بالموصل وتفرض على أصحاب المحلات والأغنياء بنينوى، وخاصة بالموصل، دفع الإتاوات مقابل عدم قتلهم أو تهجريهم ومصادرة محلاتهم. وتؤكد الكثير من المصادر إلى واقع هذه العلاقة بين محافظ نينوى ومجلس محافظة نينوى والمسؤولين في الموصل من الجماعات النية والبعثية المتنفذة.     
ووجود مثل هذه الخلايا المتنفذة في الإدارة والمجتمع والاقتصاد ساعد على تسهيل مهمة عصابات داعش الإجرامية في اقتحام الموصل وبما لديها من معلومات للسيطرة على المناطق الحساسة وعلى الأموال المتوفرة في البنوك والقاصات الحكومية.

الحلقة السادسة
كيف تتحقق النجاحات للقوات المسلحة العراقية ضد داعش، وما هو ثمنها، وبماذا تقترن؟

خاضت وما تزال تخوض القوات المسلحة العراقية، التي أعيد تنظيمها جزئياً بعد إزاحة نوري المالكي عن السلطة التنفيذية، رغم إن نفوذه ما يزال قوياً وواسعاً على التحالف الشيعي وعلى السلطات الثلاث ورئيس الحكومة وبأساليب وأدوات وسبل كثيرة بما في ذلك استناده إلى دعم "الولي الفقيه" على خامنئي بإيران، معارك قاسية جداً وتقدم أغلى التضحيات لتحرير تلك المناطق التي احتلها تنظيم داعش الإرهابي وفرض نفوذه عليها وسام سكانها سوء العذاب والقتل والتشريد والسبي والاغتصاب والحرمان وفرض تبديل الديانة أو المذهب أو القتل. وشارك في هذا القتال الساخن ضد داعش في مناطق نينوى وكركوك قوات الپیشمرگه الكردستانية، التي قدمت بدورها الكثير من الضحايا وساهمت بتحرير مساحات واسعة من الأراضي والمدن والقرى السكنية، إضافة إلى مشاركة المتطوعين في هذا القتال الذي دعا له السيد على السيستاني بما سمي بـ"جهاد الكفاية"، ودخلت مع المتطوعين المليشيات الطائفية المسلحة الكثيرة بالعراق وخاصة جماعة بدر وعصائب الحق وحزب الله وغيرها تحت ما سمي بـ""الحشد الشعبي"" الذي لحمته وسداه المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. كما شارك في هذا القتال المشرف عشائر الأنبار وصلاح الدين وغيرها.
لقد تحققت انتصارات كبيرة في محافظات صلاح الدين والأنبار ومناطق من كركوك ونينوى، حيث طرد منها الأشرار أتباع تنظيم داعش الإرهابي وحررت مناطق واسعة، ولم يبق في تلك المناطق، عدا الموصل وضواحيها، إلا جيوب إرهابية يفترض القضاء عليها أو عناصر مخفية وغير معروفة يمكن أن تسبب ضحايا جديدة في تلك المناطق. وإذا كان الشعب العراق كله، وبكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الوطنية، سعيد بهذه الانتصارات، إلا أن ضلالاً كثيفة أحاطت بها بسبب ما تعرض له سكان المناطق المحررة من ثلاث مشكلات معقدة، وأعني بها:
1.   النزوح المعقد للأهالي تلك المناطق التي حررت قبل وبعد التحرير والصعوبات الكبيرة التي واجهتهم في إيجاد مناطق للسكن والعيش أو توفير الخدمات.
2.   المناطق التي تركها أو هرب منها الإرهابيون كانت مفخخة وتعرض الكثير من السكان إلى المصاعب وربما الموت في الطريق إلى النزوح أو أثناء تنظيف تلك الدور من الألغام المزروعة فيها وعلى الطرق.
3.   تعرض الكثير من رجال العائلات النازحة إلى الاعتقال والتعذيب والتغييب على أيدي "الحشد الشعبي"، والذي لم تتحدث عنه العالات النازحة فحسب، بل والكثير من التنظيمات الدولية المطلعة على ما يجري من اضطهاد في تلك المناطق المحررة ضد الرجال بدعوى التعاون مع داعش أو بسبب الحقد الطائفي لدى أتباع الكثير من عناصر المليشيات الطائفية المسلحة المشاركة في "الحشد الشعبي". وقد اجبر رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، على الاعتراف بذلك وتشكيل لجنة تحقيقية لهذا الغرض ولم تظهر النتائج حتى الآن.
ولهذا السبب اشتدت المطالبات بمنع قوات "الحشد الشعبي" من المشاركة في عملية تحرير المناطق لما في ذلك من عواقب وخيمة على العلاقة مع سكان هذه المناطق. إلا إن "الحشد الشعبي" يصر على المشاركة وأجبر العبادي، المسؤول الشكلي عن "الحشد الشعبي"، على الموافقة على ذلك، علماً بأن القائد الفعلي للحشد الشعبي هما ثلاثة أشخاص على التوالي قاسم سليماني الإيراني وجمال محمد جعفر (أبو مهدي المهندس) ونوري المالكي.
وتشير التقارير الواردة من التنظيمات الحقوقية الدولية ومن منظمة العفو الدولية إلى إن الاعتقال والقتل والتغييب والسجن يشمل الآلاف من أبناء هذه المناطق المحررة خلال هذا العام على نحو خاص.
لا شك في أن مشاركة الولايات المتحدة في عملية تحرير المناطق المحررة في صلاح الدين والأنبار وما يجري اليوم في الموصل، كان وما يزال كبيراً ومهماً، سواء أكانت المشاركة عبر الطيران الحربي والقصف الجوي، أم عبر القوات الأمريكية المحدودة على الأرض، أم عبر الخبراء والمستشارين العسكريين في مناطق القتال أم عبر التدريب للقوات العسكرية العراقية.             

المخاطر التي تواجه العراق بعد الانتصار والتحرير
إن معركة تحرير الموصل جارية الآن على قدم وساق، والأمل بتحريرها كبير جداً، ولكن المشكلة ما تزال تكمن في الموقف من مشاركة ""الحشد الشعبي"" وما يمكن أن يمارسه من أساليب غير مشروعة ومناهضة لحقوق الإنسان ضد رجال الموصل عند تحرير المدينة.
كما إن المشكلة ستبرز بأجلى صورها بعد تحرير كامل الأراضي المحتلة، باتجاهات ثلاثة:
1.   حول الموقف من الموقع في السلطة السياسية، إذ يسعى قادة "الحشد الشعبي" إلى المطالبة بحصة الأسد في السلطة ومؤسساتها، بالارتباط مع دورهم في تحرير المناطقة المحتلة، وعلى ضوء قاعدة المحاصصة الطائفية. ويمكن أن يقود هذا الموقف إلى صراع جديد بين الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الشيعية المسلحة والتي تصدر أوامر لها من إيران على نحو خاص، لأن مرجعيتهم الدينية ليست بالعراق وليست بالحوزة الدينية بالنجف، وليست بشخص السيد علي السيستاني، بل بالسيد علي خامنئي والحوز الدينية بمدينة قم بإيران.
2.   حول العلاقة المتوترة أصلاً بين "الحشد الشعبي" وقوات الپیشمرگه الكردستانية وعموم إقليم كردستان. وهذه المشكلة تحمل معها الكثير من التعقيدات والتداعيات المحتملة التي لم تعالج بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم حتى الآن، والتي يمكن أن تهدد بنزاعات دموية أو حتى حرب أهلية أيضاً.
3.   احتمال نشوب صراع ونزاع دموي بين قوات ""الحشد الشعبي"" وقوات العشائر بالموصل، بسبب خشية الأخيرة من أفعال غير سليمة ومرفوضة يمارسها "الحشد الشعبي" ضد رجال الموصل، كما حصل في الفلوجة مثلاً. وفي هذا يمثل خطورة كبيرة لعودة قوى داعش أو بروز تنظيمات مسلحة جديدة بالموصل. 
إن قوات "الحشد الشعبي" أصبحت منظمة عسكرية كبيرة، وبلغ تعدادها حالياً ما يقرب من 250 ألف مشارك، على وفق تصريح قيادي في ائتلاف "الوطنية" الذي يترأسه الدكتور أياد علاوي، (موقع وطن يغرد خارج السرب"، "ما لا تعرفه عن ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق.. التشكيل والتمويل والممارسات الطائفية"، 14 مارس 2015). كما إن أغلب أعضاء "الحشد الشعبي" هم من المنتسبين للمليشيات الطائفية المسلحة. وأن ""الحشد الشعبي"" يعتبر منظمة عسكرية تابعة رسمياً للقائد العام للقوات المسلحة العراقية، مكونة من تنظيميات ميليشياوية يقدر عددها باربعين منظمة، وهي مسلحة بأحدث الأسلحة العراقية وما يصلها من إيران، وتمتلك رصيداً مالياً كبيراً, وتصلها المساعدات المالية من إيران، إضافة إلى أن الحكومة العراقية تدفع لكل منتسب للحشد 500 دولار شهرياً، وهناك الكثير من الفضائيين أيضاً في هذا العدد الكبير, وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن قادة "الحشد الشعبي" هم الذين يتسلمون بصورة غير شرعية رواتب هؤلاء الفضائيين! ولا شك في أن هادي العامري وقيس الخزعلي يلعبان دوراً مهماً وكبيراً في "الحشد الشعبي".
وإلى جانب هذا الحشد توجد ميليشيا "جيش المهدي" وسميت أخيراً بـ "سرايا السلام"، التي تعتبر الجناح العسكري لجماعة "الأحرار" الممثلة في المجلس النيابي العراقي والخاضعة لقرارات مقتدى الصدر، والتي تتخذ في هذه الفترة سياسة مناهضة لسياسة المالكي ودوره في التأثير على سياسة الحكومة والعبادي وحزب الدعوة عموماً. وينظم مقتدى الصدر بين فترة وأخرى مظاهرات واعتصامات ضاغطة على سياسة حكومة العبادي تطالبه بإنهاء المحاصصة الطائفية وتشكيل حكومة تكنوقراط وتصفية الفساد ومحاسبة الفاسدين ...الخ.   
إن مخاطر استمرار وجود قوات "الحشد الشعبي" كبير جداً، إذ إنها تعتبر دولة داخل دولة وجيش داخل القوات المسلحة العراقية يأتمر بأوامر قادة المليشيات، وليس بأوامر الحكومة العراقية والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، وهي منظمة عسكرية طائفية متطرفة في عدائها لأتباع المذهب السني باعتبارهم أتباع النظام البعثي السابق وصدام حسين، وهي تهمة لا تصمد أمام وقائع وأحداث الفترة التي كان حزب البعث في الحكم وتحت قيادة أحمد حسن البكر ومن ثم صدام حسين.

الحلقة السادسة
كيف تتحقق النجاحات للقوات المسلحة العراقية ضد داعش، وما هو ثمنها، وبماذا تقترن؟
خاضت وما تزال تخوض القوات المسلحة العراقية، التي أعيد تنظيمها ج

424
الحلقة السابعة
هل يمكن توقع عودة داعش أو نشوء منظمات إرهابية مماثلة بالعراق؟

بعد أن تفاقم دور تنظيم القاعدة الإرهابية في مواجهة القوات العراقية والقوات الأمريكية بالعراق، وسعيها للهيمنة على منطقة غرب العراق، تمكنت القيادة العسكرية الأمريكية بالعراق توقيع الاتفاق مع العشائر العراقية بتشكيل قوات الصحوات من أبناء العشائر العراقية لتواجه قوات تنظيم القاعدة الإرهابي وتصفية وجودها بالعراق. وقد التزمت الولايات المتحدة دفع رواتب لمنتسبي الصحوات. وقد بلغ تعدادها عام 2012 وقبل البدء بحلها عملياً وتحويلها لمسؤولية العراق 103 ألف مقاتل، في حين بلغ عددها في نهاية العام 2012 بحدود 34 ألف مقاتل، وتحول دفع رواتبهم من الخزينة العراقية.
استطاعت هذه الصحوات وبدعم وتدريب القوات العراقية توجيه ضربات قاسية لقوات القاعدة الإرهابية وإيقاف الكثير من عملياتها الانتحارية والإرهابية ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية والمجتمع العراقي. وكان هذا نجاحاً كبيراً للعراق وللمجتمع.
إلا إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحزب الدعوة الذي يترأسه وكذلك التحالف الشيعي وجدوا في قوات الصحوة منافساً طائفياً سنياً لهم ولمواقعهم في السلطة العراقية. وحين تم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الإدارة الأمريكية وبدء انسحاب القوات الأمريكية من العراق، تحولت مسؤولية قوات الصحوة إلى الحكومة العراقية وكذلك دفع رواتبهم. فبدأ نوري المالكي بعدم دفع رواتب الكثير من أفراد الصحوات الذين أجبروا على ترك مواقعهم والالتحاق بجماعة داعش التي بدأت تنشط بالعراق في هذه الفترة وتهدد أفراد الصحوات بالقتل وقتلت فعلاً مجموعة غير قليلة منهم. ولهذا السبب تقلص عددهم إلى 34 ألف مقاتل في نهاية العام 2012 وبداية 2013، إلى أن تبخرت قوات الصحوة نهائياً، وهو ما كان يسعى إليه نوري المالكي وحزبه وتحالفه.
إن هذا الموقف الطائفي المخل باستقرار العراق أدى إلى تقوية مواقع تنظيم داعش، وهو الوليد الشرعي للقاعدة، وتعزيز دوره وزيادة تعداده وتعاظم خطره وعدوانيته، خاصة بعد أن رفض المالكي تنفيذ مجموعة من المطالب العادلة لأبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل.
هذه التجربة الغنية في مواجهة قوات الإرهاب الدموية المتطرفة، والتي نشاهد مثلها اليوم في تشكيل قوات أبناء العشائر، التي تكافح مع القوات العراقية والمتطوعين في مواجهة داعش في الأنبار وصلاح الدين، كما ستقاتل بالموصل، يمكن أن تنتكس حين تبدأ الحكومة العراقية و"الحشد الشعبي" بالإخلال بأسس التحالف الوطني وتهميش دور سكان المناطق الغربية ونينوى، أو الإساءة لهم، أو مواصلة اعتقال وتعذيب وقتل المزيد من أبناء هذه المحافظات، بذريعة تعاونهم مع داعش. كما يمكن بعد تحقيق الانتصار والتحرير أن تعود بقايا هذه المنظمات الإرهابية إلى العمل في صفوف المتذمرين والناقمين على سياسات التمييز والتهميش والإقصاء ضدهم. ومن المشكوك فيه جداً أن يتمكن النظام السياسي الطائفي القائم أن يمارس سياسة جديدة ضد التمييز والتهميش والإقصاء، لأن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية قائمة على أساس طائفي من حيث المبدأ والواقع العملي، وعلى أساس الانتقام مما لحق بالشيعة من مظلومية في فترة حكم البعث، وكأن أتباع المذهب السني هم المسؤولون عن تلك المظالم التي لم تلحق بالشيعة فحسب، بل وبكل الشعب العراقي.
ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة؟
 
لقد ارتكبت الإدارة الأمريكية بفرض احتلالها على العراق أولاً، وإقامة قاعدة المحاصصة الطائفية والأثني في بنية النظام السياسي الطائفي والأثني بالعراق ثانياً، إذ إنه أسست بذلك لكل الصراعات والنزاعات الدموية اللاحقة والجارية حتى الآن. كما أن الدكتاتور الأهوج نوري المالكي خلف تركة ثقيلة جداً في الصراع الطائفي ونشر الكراهية والأحقاد وتكريس وتوسيع الفساد، وممارسة أنواع التمييز التي أضيفت إلى تركة نظام صدام حسين الاستبدادي الشوفيني. وأكثر الإضافات الجديدة إساءة للدولة والمجتمع تتجلى في وقوع احتلال نينوى ومحافظات غرب وشمال العراق والنزوح والهجرة الواسعتين لبنات وأبناء تلك المحافظات من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان ومسلمين عرب وغيرهم، وبشكل خاص ما تعرضن له نساء الإيزيديات من سبي واغتصاب وبيع بالمزاد العلني وفي سوق النخاسة "الإسلامي" السيء الصيت.
إلا إن من تسلم الحكم من بعده، ورغم الوعود التي قطعها على نفسه أمام الشعب، فأنه لم يخط ولو خطوة واحدة حقيقية على طريق الخلاص من النظام والنهج والسياسات الطائفية المقيتة. لقد أخل حيدر العبادي بكل الوعود والعهود والقسم الذي قطعه على نفسه، فهو من قادة النحبة الإسلامية السياسية الطائفية ذاتها التي تسلمت السلطة في أعقاب الاحتلال وتشكيل مجلس الحكم المؤقت، وهو المشارك الفعلي في كل ما واجه ويواجه العراق من مشكلات ومأسي وكوارث خلال السنوات الـ 13 المنصرمة. وبالتالي، فأن مطالب الشعب كانت وستبقى كما كانت عليه في فترة حكم المالكي المعتم، وخاصة في دورته الثانية 2010-2014. فالشرط الأول والرئيس لمنع عودة قوى الإرهاب بمختلف صنوفها إلى العراق يكمن عضوياً بعملية التغيير في طبيعة النظام الطائفي المحاصصي صوب نظام مدني ديمقراطي يعترف بهوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية، وليس بالهويات الفرعية المتنافسة والمتصارعة والقاتلة. إن الضمانة الوحيدة للخلاص من الصراع الديني والمذهبي يكمن في إقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي حديث بالعراق، يستند إلى مؤسسات دستورية نزيهة، ودستور ديمقراطي علماني يرفض التمييز بين أتباع القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية، ويعاقب على ممارسة العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والطائفي والتهميش لأي إنسان أو جماعة بالعراق، ويعترف ويمارس حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة كاملة غير منقوصة. إنها القضية الجوهرية والأساسية الأكثر تعقيداً والأكثر تشابكاً داخلياً وإقليمياً ودولياً، والأكثر أهمية للمجتمع العراقي ومستقبل تطور وتقدم أجياله الجديدة ووضع ثرواته في خدمة التنمية الاقتصادية والبشرية، وإعادة إعمار البلاد وتخليصها من كل الرثاثات التي لحقت بها وبالمجتمع والدولة العراقية نتيجة هيمنة القوى السياسية ذات الفكر والممارسة السياسية الرثتين.   
كيف الوصول إلى ذلك؟
ندرك جميعاً بأن السياسة علم وفن، وهي لا تخضع للإرادات الذاتية، بل ترتبط بالواقع الموضوعي وخصوصياته وموازين القوى الاجتماعية والسياسية وإمكانيات المجتمع على التغيير المنشود. والسياسة كما هو معروف فن الممكنات والتي لا بد من تشخيصها ليتسنى للمجتمع والعاملين على التغيير استيعابها وقيادة العملية السياسية صوب التغيير.
تؤكد معطيات الواقع الراهن بأن ميزان القوى الاجتماعي والسياسي ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، ولكنه في حراك مستمر ويسير صوب التغير الملموس، رغم سير العملية ببطء، لصالح القوى والاتجاه المناهض للطائفية السياسية والفساد والعنف ومصادرة سلطات الدولة والهيمنة على المجتمع وإرادته والاستمرار في افقار الفئات الكادحة والمتضررة من وجود هذا النظام السياسي الطائفي والعمل ضد مصالح الشعب.
وعملية التغيير في ميزان القوى لا تنشأ عفوياً ودون عمل الإنسان ذاته وعلى وفق مصالحه المغيبة والمصادرة. فعملية التغيير تفعل على وفق عاملين داخليين اساسيين هما:
العامل الأول: السياسات المناهضة لمصالح الشعب ووحدته والأخطاء الفادحة التي تمارسها وترتكبها النخب الحاكمة بالبلاد، وهي كثيرة جداً، سوف تسرع عملياً من نهاية وجود هذه النخب البائسة فكرياً وسياسياً في الحكم.
العامل الثاني: يرتبط بقدرة القوى المعارضة على تقديم البديل الناضج والواعي والمقنع لما ينبغي عليه القيام به أولاً، ومن ثم مدى قدرتها على الاستفادة من أخطاء وسياسات النظام المناهضة لمصالح الشعب في تعبئة أوسع الجماهير المتضررة من الوضع القائم والراغبة في التغيير ثانياً.
ولا شك في أن أي تغيير حقيقي في ميزان القوى لصالح القوى الديمقراطية واللبرالية العراقية، يمكن أن يضعف إلى حدود بعيدة التدخل الإقليمي في شؤون العراق الداخلية.
إن مهمة تعبئة الجماهير الواسعة تستوجب رؤية انفتاحية على المجتمع كله وعلى كل القوى القادرة على تقديم العون والمشاركة في توعية وتعبئة الجماهير الشعبية لتحقيق التحولات المنشودة، وعلى أفكار هذه القوى ونشاطاتها والتحري عن سبل التعاون والتنسيق معها، سواء أكان هذا التعاون قصير الأمد ولأهداف محددة أو متوسط وبعيد المدى على وفق برامج تلك القوى وأهدافها ومصالحها الملموسة.
وبشكل ملموس نشير إلى أن ما يجري اليوم بالعراق يحتل أهمية استثنائية في عملية ووجهة التغيير اللاحقة، خاصة في مدى استيعاب القوى الفاعلة في الحراك الشعبي المدني والديني لتجارب السنوات المنصرمة، وخاصة منذ أحداث العام 2011 ودور السلطة التنفيذية من حركة الجماهير وضربها بقسوة وضد الدستور، وكذلك التحركات اللاحقة في أعوام 2013 و2015 حتى الوقت الحاضر، في نضالها الراهن من أجل التغيير والإصلاح الجذري.   
شهد المجتمع العراقي بين 14/2/-6/5/2011 بروز حركة احتجاجية تضامنية رفع رايتها اليساريون والمدنيون الديمقراطيون واللبراليون العلمانيون وطرحت المهمات الشعبية الأكثر إلحاحاً وضرورة للمجتمع والتي تبلورت في النقاط التالية: 
خروج القوات الأمريكية من العراق وإنهاء الاتفاقية الأمنية.
محاربة الفساد الذي عم البلاد ومكافحة المفسدين والتصدي لنهب النفط الخام العراقي.
التصدي لقوى الإرهاب الدموي المنتشر في البلاد وإيقاف نزيف الدم المستمر.
التصدي لمشكلة البطالة المتفاقمة وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة الكادحين وذوي الدخل المحدود والفقراء المتزايد عددهم بالبلاد.
توجيه موارد البلاد صوب التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية وإيقاف التفريط بأموال الشعب.
رفض النظام الطائفي والمحاصصة الطائفية.
أطلاق سراح المعتقلين بتهم زائفة، والكف عن الاعتقال غير القانوني وإيقاف التعذيب أثناء التحقيق وفي السجون العراقية.
لم تتحقق هذه المهمات الجوهرية خلال الفترة المنصرمة بل زاد الأمر سوءاً مما استدعى نهوض جديد للحركة المدنية الشعبية تحقق في آب/أغسطس من العام 2015، وهي امتداد طبيعي لحركة 2011. وقد أثرت هذه الحركة الجارية باتجاهات عدة نشير إلى أبرزها فيما يلي:
تحريك المزيد من الجماهير الشعبية وخاصة الفئات الكادحة المرتبطة بالسيد مقتدى الصدر والتي اقترن عملها قبل ذاك بالصراع ضد قوى الاحتلال وبعض القوى الشيعية المشاركة في البيت الشيعي، وخاصة بجناحها العسكري المدعو بجيش المهدي، والذي يسمى اليوم بسرايا السلام. حيث بدأ هذا التيار الديني الشيعي يتحرك باتجاه مطالب المنتسبين إليه والداعمين له والمرتبطين بدور العائلة الديني (تقليد والده ومن ثم تقليده من حيث الفتاوى الدينية لأتباعه). وبدأت مطالبة مقتدى الصدر، وتحت ضغط أتباعه إلى محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين والإرهاب وضد المحاصصة الطائفية والحكم الطائفي. وكان هذا الموقف يسجل تحولاً ملموساً في صفوف التيار الصدري (الأحرار) التابع له والممثل في مجلس النواب، إضافة إلى بعض التوجه صوب ضرب بعض الفاسدين من أتباع التيار البارزين في التيار الصدري. ولا شك في أن عمق وسعة وأهمية هذا التحول ستبرز في الفترة الجارية وفي النضال من أجل الدولة المدنية وضد المحاصصة الطائفية والفساد...الخ.
تحريك للحوزة الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني الذي وجد الحوزة في وضع غير مناسب جماهيرياً بسبب تأييده المستمر للأحزاب الإسلامية السياسية المتحالفة في الائتلاف الوطني أو البيت الشيعي، والتي انتشر في صفوفها ليس الفساد والرثاثة فحسب، بل والصراع على السلطة والمال والنفوذ إلى أقصى الحدود وتركت الجماهير تعاني الأمرين، إضافة إلى ما تسببت به من احتلال لمناطق العراق الغربية ونينوى. وبالتالي طالبت الحوزة الدينية الساستانية بتنحية المالكي بشكل غير مباشر فحسب، بل وبمحاربة الفساد والمفسدين وبالدفع صوب الدولة المدنية ولأول مرة في تاريخ السيد علي السيستاني.
اتساع قاعدة النشطاء من المدنيين في الحراك المدني الشعبي والناس المتضررين الذين شعروا بعمق الأزمة التي يعيش تحت وطأتها العراق، والعواقب الوخيمة التي جرها النظام السياسي الطائفي على المجتمع العراقي.
وقد أدركت النخب الإسلامية الحاكمة بأنها لم تعد قادرة على الحكم على وفق السياسات والوسائل أو الأدوات والأساليب السابقة، مما فرض عليها الحديث عن الإصلاح الجزئي، والمقصود الشكلي، لكي تستطيع البقاء في الحكم. ولم يكن تنكيس الرؤوس إلا لتجنب العاصفة، والذى تجلي بالموافقة على تغيير نوري المالكي بحيدر العبادي، وهي الطريقة المثلى لها لتجنب التغيير الجذري الذي بدأت الحركة المدنية الشعبية والجماهير الغاضبة، والمتزايد عدد المشاركين في الاحتجاجات، تفرضه على القوى الحاكمة.

الحلقة الثامنة
قوى التيارين المدني والديني ودورهما في الحراك الشعبي

تشير معطيات الشارع العراقي إلى وجود تيارين فاعلين يساهمان في تحريك المزيد من المثقفين والأوساط الشعبية لصالح عملية التغيير والإصلاح الديمقراطي والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية والتمييز والفساد والإرهاب، وهما:
الفكر المدني التنويري الذي تتبناه القوى اليسارية والمدنية واللبرالية الديمقراطية العلمانية. وهو التيار الفكري الفاعل والمتطور تدريجاً والأكثر جذرية، إلا إنه ما يزال لا يمتلك النفوذ والتأثير الواسعين والمنشودين على الشارع العراقي، وعلى قاعدة واسعة من الجماهير الكادحة وفئة المثقفين، رغم وجود التيار الديمقراطي وفعله البارز والمستمر ببغداد وفي جميع محافظات الوسط والجنوب.
الفكر الديني المنفتح نسبياً والمؤثر على نسبة مهمة جداً من كادحي محافظات الوسط والجنوب وبغداد الشيعية والمؤيَد، بهذا القدر أو ذاك، من قوى إيجابية في الأوساط الشعبية السنية، وليس بين المسؤولين السياسيين من أتباع المذهب السني، بسبب رفض التيار الصدري للمحاصصة الطائفية وتأكيده على المواطنة ورفض التمييز ضد السنة. وهذا التيار قد تطور بشكل ملموس منذ العام 2014 حتى الوقت الحاضر.
إن بين هذين التيارين نقاط التقاء سياسية، ونقاط اختلاف فكرية وسياسية في آن واحد. فهما يلتقيان في المرحلة الراهنة في النضال ضد المحاصصة الطائفية، وضد الفساد والهيمنة على السلطات الثلاث، والدفاع عن مصالح الكادحين المنتسبين إلى هذا التيار والمؤيدين له، ومن أجل توفير الخدمات الأساسية، وضد البطالة وتفاقم الفقر وتعاظم نهب خيرات البلاد والمطالبة بإحالة المسؤولين عن احتلال الموصل والفساد المستشري إلى المحاكمة. ولكنهما يختلفان من حيث الفكر ووجهة تطور العراق، والنظام السياسي الذي يراد إقامته. وهو خلاف كبير وجذري دون أدنى شك.
ولكن المرحلة النضالية الراهنة تستوجب اللقاء مع كل المعارضين للطائفية السياسية والمحاصصة، وكل الداعين إلى محاربة الفساد والمطالبين بمعالجة البطالة والفقر، ومنهم قوى التيار الصدري، في النضال الشعبي في الشارع العراقي، واستناداً إلى تلك الأهداف المباشرة. وهذا الموقف المسؤول يتطلب رؤية موضوعية واضحة وملزمة لقوى التيار الديمقراطي والحراك الشعبي المدني بالنسبة لنقاط الاتفاق والاختلاف، لكي لا تذوب الفوارق إلى الحد الذي يمكن أن تفقد القوى الديمقراطية اللبرالية معه استقلالية نضال القوى المدنية في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعلماني. إن نضال قوى الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي يسمح بلقاء قوى وقواعد التيار الديني الصدري، ويسهم في الدخول بحوارات ونقاشات فكرية وسياسية تسهم في بلورة الكثير من المسائل المهمة لتلك القوى الكادحة والمضطهدة والمهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً والمتضررة بيئياً. والتي يمكن أن تسهم في تطوير قوى التيار الصدري وتدفع بها صوب تبني الدولة المدنية الديمقراطية، وهوية المواطنة المتساوية والموحدة، وفصل الدين عن الدولة، والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء، بسبب التجارب المريرة التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط. ومن يتابع نقاشات الشارع العراقي وقوى التيار الديمقراطي يدرك بوجود تحفظات معينة على العمل المشترك في الشارع العراقي مع قوى التيار الصدري، وبخاصة بين جمهرة من الشباب، إذ أن تجارب التحالفات السياسية السابقة وعلى امتداد الفترة التي أعبقت انتصار ثورة تموز 1958، لم تبشر بالخير العميم وغالباً ما انقلب الحلف على الحلفاء. ولهذا فلا بد من أخذ تحفظات الشبيبة بنظر الاعتبار أولاً، والتعلم من تجارب الماضي غير البعيد ثانياً، وعدم الانجرار، مع من يتم التيار الديمقراطي التعاون معه في الشارع، إلى ما يقوم به ذلك الطرف على وفق ما يسعى إليه، والذي يمكن أن يقود على عواقب وخيمة في غير صالح التيار الديمقراطي أو المجتمع أو الحركة المعارضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة. وبهذا الصدد قدم الزميل الدكتور فارس كمال نظمي دراسة غنية وجديدة حول التيار الصدري والحراك الشعبي وآفاق الوضع بالعراق نشرت على صفحات الحوار المتمدن تحت عنوان "لتقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في ديناميات اليساروية الاجتماعية"، في باب الثورات والانتفاضات الجماهيرية، الحوار المتمدن-العدد: 5227 – 18/7 / 2016 "، من المهم الاطلاع عليها ومناقشتها بعلمية وموضوعية لأهمية مثل هذه الدراسات في المرحلة الراهنة، بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف القراء معه. فنحن بالعراق بحاجة ماسة على مبادرات في طرح الرؤية المدققة لعملية التغيير وآليات وسبل هذا التغيير الديمقراطي والسلمي المنشود.   
أن عملية تغيير النظام السياسي الطائفي القائم عملية نضالية معقدة ومتشابكة وليس بالضرورة قصيرة الأمد، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية تعتمد على قدرة القوى المناضلة على رفع مستوى وعي الجماهير ودورهم في عملية التغيير التي تعني ممارسة عملية إصلاح جذرية للدولة والمجتمع من جهة، وتستوجب تعبئة أوسع الجماهير للنضال من أجل التغيير من جهة ثانية، إذ أن الدولة والمجتمع قد سقطا منذ عقود في حمى الاستبداد والقهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي والفاقة الفكرية والسياسية والبؤس الاقتصادي والاجتماعي والفساد الناهب لخيرات وموارد البلاد، وعانا وما زالا يعانيان من العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية المقيتة. كما يعاني المجتمع من فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وفساد المجتمع ومؤسساته وأغلب أحزابه السياسية. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يخلوا من العنف والاضطهاد والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي.
إن التغيير المنشود يستوجب مشاركة جميع القوى المعارضة، إذ لا يمكن لقوة بمفردها وبجماهيرها تحقيق التغيير. ولهذا لا بد أن تلتقي كل القوى المناضلة لتحقيق التعاون في ما بينها استناداً إلى وضع برنامج يمثل الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه، ويتضمن في الوقت نفسه الحد الذي تقرره ظروف العراق وقدرات النضال الشعبي، وليس في ما نتخيله ونرغب به ولا يتجانس أو يتناغم مع الواقع المعاش فعلياً. إن البرنامج المنشود يمكن أن يشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية والنفسية وعلاقات العراق الخارجية، الإقليمية منها والدولية. كما إن البرنامج يفترض أن يتضمن حلولاً واقعية لمشكلة النازحين والمهاجرين الذين زاد عددهم اليوم عن أربعة ملايين إنسان عراقي بالداخل، دع عنك المهاجرين إلى خارج العراق والذين بلغ عددهم الآن أكثر من أربعة ملايين أيضا، وهو في زيادة شهرية مستمرة. إن وضع برنامج مشترك لا يعني بأي حال فقدان التيار الديمقراطي أو الحراك المدني الشعبي لبرنامجه الخاص في التغيير وتطوير العراق وتقدمه. وهذا الموقف يشمل التيار الصدر أيضاً أو أي قوة أخرى تبدي الاستعداد للتعاون والعمل والنضال المرحلي المشترك.
إن هذه العملية تستوجب وعياً لدى المجتمع، بحيث يكون مستعداً على تحمل تبعات التغيير السلمي والديمقراطي للبلاد، التي تقترن اعتيادياً بتعقيدات غير قليلة تحصل أثناء وقوع مثل هذه التحولات الضرورية في المجتمع. ومثل هذا البرنامج يفترض أن تضعه لجنة واسعة وواعية لواقع العراق وإمكانيات وضرورات التغيير والإصلاح الجذري الشامل للدولة والمجتمع. ويفترض أن يتضمن البرنامج تنظيم عودة النازحين والمهجرين قسراً إلى مناطق سكناهم، وتعويضهم ومساعدتهم ليعيدوا بناء مساكنهم وحياتهم الاعتيادية وعودة السلم والاستقرار لهم.
كما يتطلب البرنامج وضع الأسس القانونية الضرورية لإقامة علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق وحل كل المشكلات العالقة، سواء بالنسبة للمناطق المتنازع عليها، أم قضية النفط والتنمية أم رواتب البيشمركة...الخ، بعد أن أصبحت العلاقة متدهورة وبلغت حالياً الحضيض. 
ويبدو لي بأن هناك مهمة مؤجلة منذ سنوات، وأعني بها إعادة كتابة الدستور العراقي لعام 2005 بما يصحح القضايا غير الديمقراطية والطائفية والمخالفة للأسس الديمقراطية في حياة المجتمع، وبشكل خاص موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إضافة إلى تخليصه من المواد التي تعتبر حمالة أوجه ...الخ، وهي كثيرة. إن المجتمع العراقي قادر على التغيير، وهو يعي باستمرار وأكثر فأكثر الحضيض الذي حط به العراق بسبب فكر وسياسات وممارسات القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية وبعض القوى القومية الشوفينية والضيقة الفق في آن واحد، والتي كانت وما تزال ضد إرادة ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية.

كاظم حبيب في 20 - 30/7/2016

425
الحلقة الرابعة
النهج الاستبدادي والطائفي لرئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي وحزبه وتحالفه

إذا كان العراق قد عرف بشخص صدام حسين شخصية قومية شوفينيةً متطرفةً، ودكتاتوراً رعديداً شرساً وعدواً للحياة الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والسلام، فأن العراق قد عرف بشخص نوري المالكي شخصية إسلاميةً طائفيةً شيعيةً متطرفةً ومهووسةً بالعداء لأتباع المذهب السني والكرد في آن، ومستبداً شرساً وعدواً فعلياً للمجتمع المدني الديمقراطي والعلمانية والعدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعي ولهوية المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة. إنه طائفي متطرف بامتياز لا يمكن التفكير بإصلاحه، فالإيديولوجية الدينية المتلبسة فيه والطائفية الشيعية السياسية المُحملة بالعداء المتطرف لأتباع المذهب السني التي يدين بها، وكأنهم هم الذين قتلوا الحسين وصحبه وسبوا النساء في العام 50 للهجرة. لا يمكن انتزاعها من عقليته المشوهة. فهو الذي خطب بكربلاء وقال: الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، ها هم اليوم موجودين، والحسين باللون الآخر لا يزال موجوداً وهو الذي يستهدف من هؤلاء الطغاة.. المعركة ضد الحسين لم تنته...، بل المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين ويزيد...". وكان هذا نداء استثنائي هستيري خطير يحمل معه دعوة الكراهية والحقد، دعوة إلى المزيد من الصراع والنزاع وسيل من الدماء بين الأوساط الشيعية والسنية.
إن مجرى الأحداث بالعراق خلال فترة حكم نوري المالكي تؤكد، إَضافة إلى تجاوزاته الفظة على الدستور العراقي، وانفراده بالسلطة وفي اتخاذ القرارات، وهيمنته على الهيئات المستقلة المرتبطة دستوريا بمجلس النواب، والتوسع المفرط بهدر المال العام والفساد والإفساد، وتفاقم الإرهاب والقتل الجماعي، والانفلات الأمني واتساع ظاهرة الاختطاف والاغتيالات، وممارسة التمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، وإشاعة الكراهية والأحقاد في صفوف المجتمع والتشبث بالسلطة بغض النظر عن العواقب المدمرة للعراق، والخضوع التام لقرارات ومواقف السلطة والسياسة الإيرانية، وبخاصة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران، فأنه مارس بإصرار وتصميم مسبق سياسات مدمرة في أربعة أحداث كبرى، أدت إلى ما هو عليه العراق في الوقت الحاضر، والتي ألخصها فيما يلي: "
الحدث الأول: الموقف من الحركة الاحتجاجية المدنية
نهضت بالعراق في أوائل العام 2011، وبالاقتران مع ما أطلق عليه بالربيع العربي، حركة مظاهرات مدنية سلمية كثيرة تطالب بمكافحة الإرهاب والتصدي للقوى الإرهابية ومكافحة الفساد المالي ونهب النفط الخام المتفاقم، وتأمين الخدمات العامة والأساسية كالكهرباء والماء والصحة والتعليم، ومكافحة البطالة والفقر المتفاقم، رغم ضخامة الموارد المالية للنفط الخام المصدر سنوياً، والمطالبة بتوجيه استثمارات مالية صوب التنمية الإنتاجية لتقليص استيرادات العراق وتوفير فرص عمل للعاطلين. وكان السخط على سياسة الحكومة متنامياً، فخشى المستبد بأمره، على موقعه في السلطة، فقرر ضرب المظاهرات بكل السبل غير المشروعة، بما في ذلك تشويه سمعة المتظاهرين واتهامهم بالبعثية وخدمة الدول المجاورة، ويقصد بذلك السعودية ودول الخليج، وقطَّع أوصال بغداد بالقوات العراقية والحواجز الكونكريتية لمنع وصول المتظاهرين إلى ساحة التحرير، ثم بدأ بالاعتقالات والتعذيب والتهديد بالقتل، ووقع القتل فعلاً بمتظاهرين في أنحاء من العراق وبغداد، إضافة إلى اغتيالات واعتقال نشطاء وصحفيين مشاركين في الحركة المدنية. وقاد كل ذلك إلى ضرب الحركة المدنية وإيقافها مؤقتاً لتجنب المزيد من القتل والاغتيال والاعتقال والتعذيب. وكان في ذلك تجاوزاً فظاً على واحد من أهم حقوق المواطنات والمواطنين، حق الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب والتجمع لإعلان موقف الجماهير من سياسات الحكومة وطرح مطالب الشعب في الشارع. وقد جسد هذا الموقف الرؤية الاستبدادية لرئيس السلطة التنفيذية من المطالب، ولكنه وتحت الضغط العام أوعد بمعالجة المشكلات خلال مئة يوم، ولكنه لم يفِ بوعوده ولم ينفذ أياً منها، وزاد عليها في غيه وفي مواجهة مطالب الشعب بالنار والحديد. ولا بد هنا من الإشارة إلى إن المشكلة لا تكمن في رئيس الوزراء السابق، رغم دوره القيادي في هذا الصدد، فحسب، بل وبالأساس في وجود الأحزاب الإسلامية السياسية في السلطة، وفي قيادة تحالف الأحزاب الإسلامية السياسية وبيتها الشيعي لسلطة الدولة بالعراق، والتي أجازت لمثل هذه السياسات وسكتت عنها، بل وأيدت رئيس الوزراء المستبد بأمره، في ما عدا موقف مقتدى الصدر وجماعته.
الحدث الثاني: الموقف من مظاهرات واعتصامات الفلوجة
احتجت جماهير واسعة من أبناء محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى ضد سياسات التهميش والإقصاء الفعلية والاعتقال الكيفي التي تعاني منها، وأحياناً بالمساومة مع بعض قادة الأحزاب الإسلامية السياسية السنية أو القومية الشوفينية. وكانت الجماهير تطالب بصواب بمجموعة من المطالب العادلة والمشروعة، بما في ذلك المطالبة بإطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين الأبرياء من أبناء هذه المحافظات ومن بغداد، الذين اعتقلوا بتهم زائفة بتقارير من المخبرين السريين، وبقاء المعتقلين دون تحقيق أو محاكمة لسنوات عديدة، إضافة إلى تعريضهم للتعذيب الوحشي. كما تبلورت المطالب بعدم تهميشهم سياسياً وإشراكهم الفعلي في السلطة وفي اتخاذ القرارات المصيرية، وفي تحسين أوضاع محافظاتهم، ومكافحة البطالة والفساد والاعتقال الكيفي، وتوفير الخدمات الأساسية. وحين لم تستجب الحكومة إلى مطالب السكان قرروا التظاهر والاعتصام في الفلوجة، التي أصبحت مركزاً لمقاومة سياسات الحكومة الاتحادية.
وتحت ضغط بعض القوى السياسية والرأي العام العربي والعالمي، أجبر المالكي على تشكيل وفد للتفاوض مع المعتصمين، واتفقوا ابتداءً على تحقيق عدد من المطالب. إلا إن المالكي رفض الاستجابة إلى تلك المطالب أيضاً، أعطى الأوامر بفك الاعتصام بالقوة العسكرية ومهما كان الثمن. وقد قاد هذا الموقف الاستبدادي غير المسؤول والأرعن إلى قتل العشرات من المواطنين المحتجين المعتصمين وإنهاء الاعتصام بالقوة والعنف العسكري. فسح هذا الموقف العدائي ضد المعتصمين إلى تنامي الغضب والإحباط في صفوف سكان محافظة الأنبار وصلاح الدين، وإلى الاقتناع بعدم جدوى المطالبة السلمية في الحصول على أي مطلب من حكومة نوري المالكي، مما سهل تغلغل الدواعش بين الجماهير المحتجة وتصعيد الحركة المطلبية باتجاه العنف، وساعد ذلك على هيمنة الدواعش فعلياً ومنذ العام 2013 على الحركة الشعبية في الفلوجة بشكل خاص وقادتها، وفقدت بذلك الحكومة الاتحادية أي تأثير على المنطقة الغربية. فبدأت باتخاذ إجراءات ارتجالية واعتباطية ضد بعض قادة الأحزاب الإسلامية السنية، الذي لا يختلف عن المالكي في طائفيته، ولكنها قادت، وفي تلك الظروف، إلى تأجيج الوضع المتوتر أصلاً وصب المزيد من الزيت على النار المشتعلة. وفي هذا أيضاً لا يتحمل نوري المالكي وحده مسؤولية ما وقع في الفلوجة والأنبار وصلاح الدين فحسب، رغم دوره القيادي والريادي في كل ذلك، بل يتحمله حزب الدعوة الإسلامية ومعه التحالف الشيعي القائد للسلطة السياسية. وعلينا هنا الإشارة على أن جماعة التيار الصدري كانت ضد سياسة نوري المالكي ووجهته في التصعيد ومحاولة حل المشكلة بقوة السلاح والعنجهية. كما أن قوى التيار الديمقراطي قد تصدت لهذه السياسة وفضحتها ورفضت ممارسة القوة في حل المعضلات الداخلية، ولكن لم تكن هناك أذناً صاغية من جانب رئيس الحكومة وحزب الدعوة.
الحدث الثالث: غزو الموصل واحتلال نينوى
تعرضت الموصل لحالة من الغزو الشيعي لها الذي تجلى في قوام القوات المسلحة المعسكرة هناك والضباط والقادة العسكريين فيها، وممارسة سلوكية غير إنسانية ومناهضة لأتباع المذهب السني ولكرامتهم، وانتشار ظاهرة الفساد في المحافظة وفي صفوف المسؤولين المدنيين والعسكريين من جهة، ووجود إدارة طائفية سنية تقود المحافظة باتجاه مناوئ للحكومة الاتحادية وسياساتها الطائفية المقيتة من جهة أخرى. وكانت جماهير الموصل، التي كانت تعاني من هذه الأوضاع، تذل وتطعن يومياً من جانب الحكومة الاتحادية. وكانت هناك خلايا نشطة وكثيرة لداعش بالموصل تنتظر اللحظة المناسبة. وفعلاً توجهت قوة قليلة من الدواعش من الحدود السورية باتجاه الهيمنة على بعض المناطق الحدودية العراقية بالموصل. وحين لم تجد المقاومة الفعلية، توغلت في عمق الموصل واحتلت المدينة وسيطرت على معسكرات القوات المسلحة العراقية وما فيها من أسلحة وعتاد ومعدات وأموال وبمساعدة الجماعات التابعة لها والمعششة بالموصل.
إن الكثير من الدلائل المتوفرة تشير إلى إن الأوامر قد صدرت من جانب رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة العراقية لهم بالانسحاب أمام غزو داعش، بعد أن كان هؤلاء القادة العسكريون المسؤولون قد اتصلوا به وأعطوه لوحة عن بداية الغزو الداعشي. وقد أدى قرار الانسحاب إلى قوع كوارث وجرائم إبادة جماعية بحق السكان المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان وجمهرة من السنة والشيعة أيضاً، إضافة إلى حصول مجزرة معسكر سبايكر.
الحدث الرابع: موقف نوري المالكي من المسألة الكردية
من المعروف عن قوى الإسلام السياسي والقوى القومية الشوفينية إنها ترفض الاعتراف بالحقوق القومية للقوميات الأخرى بالدول ذات الأكثرية الإسلامية أو الدول العربية، بذريعة أن الإسلام أمة واحدة ولا يعتمد على القوميات من جهة، وأن العرب هم الذين يشكلون القومية الكبرى وما على القوميات الأخرى إلا الانصهار بها أو القبول بعدم اعتراف العرب لهم بحق تقرير المصير. وفي الحالة العراقية اضطر حزب البعث على الاعتراف بالحكم الذاتي في العام 1970 تحت ظروف استثنائية، ثم سرعان ما انقلب على الحكم الذاتي بإقليم كردستان العراق وتأمر ضد الحكومة والحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم، وخاض الحروب ضد الشعب الكردي لإخضاعه لهيمنة البعث، ولكنه عجز عن ذلك.
وفي حالة الإسلام السياسي الشيعي بالعراق، فقد اعترفت أغلب الأحزاب الإسلامية الشيعية بإقامة الحكم الفيدرالي بكردستان أثناء فترة المعارضة، إذ كانت الفيدرالية قائمة فعلاً ف فترة حكم البعث بالعراق، ووافقوا في ظل وجود قوى الاحتلال أن يكرس ذلك في الدستور العراقي. ولكنهم رفضوا جميعاً الاعتراف بحق تقرير المصير وتثبيت ذلك في الدستور. وهو موقف شوفيني صارخ. ومع وصول قيادة حزب الدعوة إلى قيادة السلطة الاتحادية حتى انقلب نوري المالكي على العلاقة مع الإقليم وعلى الفيدرالية من حيث الجوهر ومارس ذلك بطرق وأساليب ملتوية، مما أدى إلى تدهور سريع في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. لقد برزت مشكلات عديدة منها عدم تنفيذ بنود المادة 142 الخاصة بإجراء الإحصاء وتنظيم الاستفتاء في محافظة كركوك من أجل إجراء الاستفتاء بكركوك حول علاقتها بالإقليم والدولة الاتحادية، وكذلك حل المشكلات الأخرى الخاصة بـ"المناطق المتنازع عليها"، وتفاقم الخلاف بشأن النفط الخام وإنتاجه وتصديره في إقليم كردستان، والذي برز فيه تجاوز على نص الدستور العراقي من جانب الإقليم، وكذلك بروز الخلاف حول رواتب البيشمركة باعتبارهم جزءاً من القوات المسلحة العراقية ...الخ. كما إن الدستور العراقي حمل مواداً هي حمالة أوجه من جهة، كما لم يضع المشرع القوانين الضرورية التي تنظم العلاقة والصلاحيات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، مما قاد إلى تفاقم الخلافات وتدهور العلاقات بين الطرفين بسبب رغبة كل طرف في الحصول على أقصى الصلاحيات في إدارة الإقليم وممارستها فعلاً، بينما تسعى الحكومة الاتحادية إلى توسيع صلاحياتها للرقابة على الإقليم وموارده النفطية. ولم تكن الأخطاء من طرف واحد، بل من الطرفين، ولكن المسؤولية الأساسية برزت في الطرف العراقي الاتحادي أولاً، مع واقع أن الإقليم حاول ممارسة الاستقلال الفعلي عن العراق، وكأنه ليس جزءاً من الدولة العراقية، على وفق ما تضمنه الدستور العراقي الحالي. والمشكلة الأكثر خطورة هي رفض الحكومة الاتحادية حق الكرد في تقرير مصيرهم، سواء أكان ضمن الدولة العراقية أم الاستقلال عنها. وهي المشكلة المركزية في هذه العلاقة المتوترة. 
في مثل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة والمليئة بالصراعات الطائفية على السلطة في ما بين القوى الإسلامية السياسية، إضافة إلى الصراع المحتدم بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وبدعم إقليمي واسع النطاق، تسنى لتنظيم داعش اختراق الحدود العراقية من بوابة الموصل بسهولة والسيطرة على المدينة، وعلى المعسكرات ومخازن الأسلحة والعتاد والمعدات بكميات هائلة، وعلى الأموال والتصرف بها ضد شعب العراق.
ومن الواجب هنا أن نشير إلى أن محافظ نينوى أثيل عبد العزيز النجيفي، وهو شقيق أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي السابق، كان معروفاً بكونه من البعثيين ومن الذين تعاون على نطاق واسع مع الخلايا الداعشية التي كانت تعمل علناً بالموصل وتفرض على أصحاب المحلات والأغنياء بنينوى، وخاصة بالموصل، دفع الإتاوات مقابل عدم قتلهم أو تهجريهم أو تفجير محلاتهم. وتؤكد الكثير من المصادر إلى واقع وجود مثل هذه العلاقة بين محافظ نينوى ومجلس محافظة نينوى وجمهرة من المسؤولين بالموصل مع الجماعات الإرهابية السنية وقوى البعث المتنفذة.     
ووجود مثل هذه الخلايا المتنفذة في الإدارة والمجتمع والاقتصاد بنينوى ساعد على تسهيل مهمة عصابات داعش الإجرامية في اقتحام الموصل، وبما لديها من معلومات للسيطرة على المناطق الحساسة وعلى الأموال المتوفرة في البنوك والقاصات الحكومية. وبالتالي، فلا بد من تشكيل لجنة تحقيق حيادية تأخذ على عاتقها دراسة كل التهم الموجهة لهذه القوى والعناصر بالموصل ومحاسبتها على التهم الموجهة لها، وبشكل خاص لمحافظ نينوى، لينالوا الجزاء العادل إن كانوا مجرمين حقاً.       
 



426
كاظم حبيب
وماذا بعد الانتصار والتحرير بالعراق....؟
الحلقة الأولى
طبيعة الجرائم المرتكبة بمحافظة نينوى
تواجه المواطِنات والمواطنون العراقيون بالداخل والخارج أسئلة كثيرة تشغلهم كثيراً وتتعبهم  وهم يتحرَّون عن إجابات لها عبر حواراتهم الذاتية غير المتوقفة، أو عبر نقاشاتهم مع الآخرين، وكذلك عبر قراءاتهم للمقالات والدراسات التي تنشر في الصحف والمجلات المحلية والإقليمية والدولية. ورغم الآراء الكثيرة التي يطلعون عليها ويحاورونها، لا يكفون عن التفتيش عن إجابات لأسئلة كثيرة أخرى، إذ أن ما حصل ويحصل بالعراق، يتجاوز المعقول في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي العلاقات الدولية. ومن بين تلك الأسئلة نذكر:
•   ما هي طبيعة الجرائم التي ارتكبت من قبل داعش وأعوانه بالعراق وكيف تسنى له ممارسة كل تلك الجرائم في سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
•   كيف استطاع داعش غزو العراق والهيمنة على عدد من محافظاته والغدر بأجزاء من شعب العراق منذ بدايات العقد الثاني من هذا القرن؟
•   كيف تتحقق النجاحات للقوات المسلحة العراقية ضد داعش، وما هو ثمنها، وبماذا تقترن؟
•   هل يمكن توقع عودة داعش أو نشوء من يماثلها من القوى الإرهابية بالعراق؟
•   ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة
في هذه المقالة المكونة من عدة حلقات يحاول الكاتب المشاركة في الإجابة عن الأسئلة المطروحة، علماً بأن ليست هناك وصفات وإجابات جاهزة، ب هو اجتهاد يتبناه الكاتب.
               
•   ما هي طبيعة الجرائم التي ارتكبت، وما تزال ترتكب، من قبل داعش وأعوانه بالعراق، وكيف تسنى له ممارسة كل تلك الجرائم؟
لم يعد خافيا على أحد سعة وعمق وشمولية وتنوع الجرائم التي ارتكبت، وما تزال ترتكب، من قبل تنظيم داعش ومن سانده، أو ما يزال يسانده، بالداخل ومن خارج العراق، ضد الشعب العراقي عموماً، وضد اتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية في المحافظات التي ابتليت به، وهي الأنبار، صلاح الدين، نينوى وأجزاء من كركوك وديالي، إضافة إلى التفجيرات المتلاحقة والمستمرة التي تحصل بمدن مثل بغداد وبابل وكركوك وديالى وغيرها. إنها جرائم تعيد إلى الأذهان جرائم هتلر والنازية بألمانيا الفاشية، وجرائم فرانكو الفاشي ونظامه العسكري بإسبانيا، وجرائم سالازار الفاشي بالبرتغال، وجرائم صدام حسين وحزبه ونظامه الفاشي ضد الشعب العراقي عموما، ولكن وبشكل خاص جرائم الإبادة الجماعية ضد الكرد والكرد الفيلية وعرب الأهوار والوسط والجنوب، بل وزاد عليها بتطبيق ما سمي ببنود الشريعة الإسلامية في التعامل مع غير المسلم أو "المسلم المرتد!"، أي غير الملتزم بعقيدته المنبثقة عن الوهابية وعن أبن تيمية قبل ذاك، ثم الغلواء فيهما. لقد غزا الداعشيون الموصل ومن ثم توسعوا بنينوى ومارسوا القتل والسبي والاغتصاب والتشريد ضد المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان الشيعة، وضد السكان السنة الذين رفضوا التعامل معه أو الخضوع لإرادته، وهم الغالبية بعد أن أدركوا حقيقته، كما مارسوا بشكل خاص السبي والاغتصاب وبيع النساء الإيزيديات في سوق النخاسة باعتمادهم على التراث الإسلامي في حروب الغزو ضد الأقوام والمناطق وأتباع الديانات الأخرى، التي أُطلق عليها إسلامياً بـ"الفتوحات الإسلامية!" على امتداد تاريخ الإسلام السياسي والحكام الذين تبنوا الإسلام ديناً لهم و"لدولهم التي لا يمكن أن تكون ذات دين" بأي حال، باعتبارها شخصيات معنوية أو اعتبارية لا غير! وهي لم تكن سوى عمليات توسع ديني على حساب الديانات الأخرى وأتباعها، واستعمار مناطق أخرى لصالح الحكام الجدد وأتباعهم من المسلمين. والتاريخ الإسلامي الطويل مليءٌ بما يماثل ما يمارسه الإرهابيون الجدد بالعراق وسوريا واليمن وليبيا، وكذلك العمليات الإرهابية التي ينفذونها بالدول الغربية، باعتبارها ديار حرب يرتكبون الجرائم البشعة لتحويلها إلى ديار السلام أو الإسلام!!     
لقد اعترفت الأمم المتحدة أخيراً، والكثير من دول العالم، ومنها الولايات المتحدة، بإن الجرائم التي ارتكبت وترتكب بالعراق من قبل تنظيم داعش ومن يسانده تعتبر جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية، جرائم لا تتقادم أبداً، وينبغي تقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة لينالوا الجزاء العادل. إنهم وحوش كاسرة وعدوانية بأسماء بشرية ووجوه كالحة. إنهم من حيث المبدأ خارج الزمن، فهم الماضي المريض في الحاضر العليل في بلادنا، الذي لا يمكن ولا يجوز أن يدوم، إنهم استثناء في حركة التاريخ وقوانين التطور الاجتماعي، وأفعالهم تجسد ارتداداً فعلياً وجزئياً على حركة التاريخ وقوانين التطور الاجتماعي والحضارة البشربة. إنهم القوى الخاسرة في المحصلة النهائية، رغم ما تسببوا به، وما زالوا يتسببون به، من موت جماعي ودمار وخراب شاملين، ومحاولة وقحة لتهشيم الذاكرة الحضارية للإنسان العراقي والبشرية، إنها بشاعة في السلوك غير الآدمي وتخلف مرير وارتداد هائل عما تحقق للمجتمع العراقي من منجزات مدنية نسبية إيجابية خلال الفترة 1921-1962، وقبل وقوع الانقلاب الفاشي في العام 1963. كما إنه ارتداد أعمق وأشمل عما تحقق للبشرية جمعاء من منجزات حضارية رائعة وهائلة خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر.
العوامل التي ساعدت داعش على غزو العراق
لم يكن في مقدور هذا التنظيم المتوحش أن يغزو العراق، وأن يمارس كل هذه الجرائم، وأن يواصل وجوده بالعراق منذ العام 2013 حتى الوقت الحاضر، لولا وجود عوامل أساسية فاعلة ومساعدة حتى الآن، والتي يمكن الإشارة إليها والبحث فيها على وفق منهج البحث والمفردات المطروحة للمعالجة، وأبرز تلك العوامل:
1) الواقع السياسي والاجتماعي العراقي بالارتباط مع تركة النظام الدكتاتوري السابق، وتركة سياسات وسلوك قوى الاحتلال الأمريكي بالعراق، وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي الطائفي الذي فرضه الحلفاء على البلاد، والصراعات الدائرة بين قواه الإسلامية السياسية غير الشرعية والمتعارضة في وجودها وطبيعة نشاطها مع بنود الدستور العراقي لعام 2005.
2) دور قوى ودول الإقليم الشرق أوسطي في التدخل الفظ بالشأن العراقي الداخلي وامتداداتهم السياسية والاجتماعية بالداخل العراقي، ونقلهم صراعاتهم الإقليمية إليه، وبين فئاته الاجتماعية واتجاهاته الكرية والسياسية قومياته.
3) الدور الملموس للواقع الدولي الراهن الذي يشير إلى عودة الحرب الباردة بين الدول الكبرى عمليا وتجلياتها في الواقع العراقي والشرق أوسطي بشكل خاص. وتتجلى أيضاً في سباق التسلح الجديد على الصعيد الدولي والأوروبي والشرق الأوسطي. إنها العوامل التي نسعى للبحث فيها في حلقات هذا المقال.

 
 


427
الشكر والامتنان لكل الأخوات والأخوة الكرام، لكل الصديقات والأصدقاء، والرفيقات والرفاق  الأحبة
أمطرني الكثير من الأخوات والأخوة والصديقات والأصدقاء والرفيقات والرفاق بكرمهم وصدق ودهم باستفسارهم المستمر عن صحتي بعد إجراء عملية كبيرة لتبديل مفصل الورك الأيسر وحصول مضاعفات أثناء وبعد العملية، إضافة إلى عملية قبل ذاك بفترة قصيرة في العمود الفقري. كما تم الاتصال بالأخ الأستاذ رزكار عقراوي من جانب قراء الحوار المتمدن مستفسرين عن سبب انقطاعي عن الكتابة والنشر. يسعدني ويشرفني أن أقدم جزيل شكري وامتناني وتقديري لجميع الأخوات والأخوة والصديقات والأصدقاء والرفيقات والرفاق الأحبة ولعائلتي بالعراق وبالشتات العراقي الذين عزّ عليهم مرضي وانقطاعي عن الكتابة. أنا الآن في دور النقاهة والتحسن النسبي، ولكن الأهم  من كل ذلك، هو استعادة قدرتي النسبية على التركيز والقراءة والكتابة، خاصة وأن ما أمارسه من كتابة إزاء قضايا الشعب والوطن يدخل في باب أضعف الإيمان وأحني قامتي لمن يناضل بداخل الوطن ضد أوضاع العراق المزرية ومن يكافح ضد الاحتلال والإرهاب والطائفية والمحاصصة اللعينة والفساد. مرة أخرى أقدم شكري الجزيل وتمنياتي للجميع بالصحة الموفورة والعافية، ومن هم بالعراق السلامة أولاً وقبل كل شيء. مع خالص الود والاعتزاز
اخوكم كاظم حبيب           

428

كاظم حبيب

التيارات الفكرية والسياسية المحركة لعملية التغيير بالعراق
تشير معطيات الشارع العراقي إلى وجود تيارين فاعلين يساهمان في تحريك المزيد من المثقفين والأوساط الشعبية لصالح عملية التغيير والإصلاح الديمقراطي والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية والتمييز والفساد والإرهاب، وهما:
أ‌. الفكر المدني التنويري الذي تتبناه القوى اليسارية والمدنية واللبرالية الديمقراطية العلمانية. وهو التيار الفكري الفاعل والمتطور تدريجاً، ولكن ما يزال لا يمتلك التأثير الواسع والمنشود على الشارع العراقي، وعلى قاعدة واسعة من الجماهير الكادحة والمثقفين، رغم وجوده وفعله البارز والمستمر ببغداد وفي جميع محافظات الوسط والجنوب.
ب‌. الفكر الديني المنفتح نسبياً والمؤثر على نسبة مهمة جداً من كادحي محافظات الوسط والجنوب وبغداد الشيعية والمؤيَد، بهذا القدر أو ذاك، من قوى إيجابية في الأوساط السنية، بسبب رفضه للمحاصصة الطائفية والتمييز ضد السنة. وهذا التيار قد تطور بشكل ملموس منذ العام 2014 حتى الوقت الحاضر.
إن بين هذين التيارين نقاط التقاء سياسية، ونقاط اختلاف فكرية وسياسية في آن واحد، فهما يلتقيان في النضال ضد المحاصصة الطائفية وضد الفساد والهيمنة على السلطات والدفاع عن مصالح الكادحين المنتسبين إلى هذا التيار والمؤيدين له وتوفير الخدمات الأساسية وضد البطالة وتفاقم الفقر وتعاظم نهب خيرات البلاد والمطالبة بتقديم المسؤولين عن احتلال الموصل والفساد على المحاكمة، ولكنهما يختلفان من حيث الفكر ووجهة تطور العراق والنظام السياسي الذي يراد إقامته. وهو خلاف كبير وجذري دون أدنى شك. ولكن المرحلة النضالية الراهنة تستوجب اللقاء في الشارع على تلك الأهداف المباشرة، وبرؤية واضحة وملزمة لنقاط اللقاء والاختلاف، لكي لا تذوب الفوارق إلى الحد الذي يمكن أن تفقد القوى الديمقراطية اللبرالية معه استقلالية نضال القوى المدنية في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعلماني. إن نضال قوى الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي يسمح بلقاء قوى وقواعد التيار الديني الصدري، ويسهم في الدخول بحوارات ونقاشات فكرية وسياسية تسهم في بلورة الكثير من المسائل المهمة لتلك القوى الكادحة والمضطهدة والمهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً والمتضررة بيئياً. والتي يمكن أن تسهم في تطوير قوى التيار الصدري وتدفع به صوب تبني الدولة المدنية الديمقراطية وفاصل الدين عن الدولة والفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، بسبب التجارب المريرة التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط. قدم الزميل الدكتور فارس كمال نظمي دراسة غنية وجديدة حول التيار الصدري والحراك الشعبي وآفاق الوضع بالعراق نشرت على صفحات الحوار المتمدن تحت عنوان "لتقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في ديناميات اليساروية الاجتماعية"، في باب الثورات والانتفاضات الجماهيرية، الحوار المتمدن-العدد: 5227 - 2016 / 7 / 18 "، من المهم الاطلاع عليها ومناقشتها بعلمية وموضوعية لأهمية مثل هذه الدراسات في المرحلة الراهنة. 
أن عملية تغيير النظام السياسي الطائفي عملية نضالية معقدة ومتشابكة وليس بالضرورة قصيرة الأمد، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية تعتمد على قدرة القوى المناضلة على رفع مستوى وعي الجماهير ودورهم في عملية التغيير التي تعني ممارسة عملية إصلاح جذرية في الدولة المجتمع من جهة وتستوجب تعبئة أوسع الجماهير للنضال من أجل التغيير من جهة ثانية، إذ أن الدولة والمجتمع قد سقطا منذ عقود في حمى الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والفاقة الفكرية والسياسية والبؤس الاقتصادي والاجتماعي والفساد، وعانا وما زالا يعانيان من العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية المقيتة. كما يعاني المجتمع من فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وفساد المجتمع ومؤسساته وأغلب أحزابه السياسية. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يخلوا من العنف والاضطهاد والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي.
إن التغيير المنشود يستوجب من القوى المتعاونة والمتضامنة وضع برنامج يمثل الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه، ويتضمن في الوقت نفسه الحد الذي تقرره ظروف العراق وقدرات النضال الشعبي وليس في ما نتخيله ونرغب به ولا يتجانس أو يتناغم مع الواقع المعاش فعلياً. إن البرنامج المنشود يمكن أن يشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية وعلاقات العراق الخارجية، الإقليمية منها والدولية. كما إن البرنامج يفترض أن يتضمن حلولاً واقعية لمشكلة النازحين والمهاجرين الذين زاد عددهم اليوم عن أربعة ملايين إنسان عراقي بالداخل، دع عنك المهاجرين إلى خارج العراق والذين بلغ عددهم الآن أكثر من أربعة ملايين أيضا، وهو في زيادة شهرية مستمرة.
إن هذه العملية تستوجب وعياً لدى المجتمع بحيث يكون مستعداً على تحمل تبعات التغيير السلمي والديمقراطي للبلاد التي تقترن اعتيادياً بمثل هذه التحولات الضرورية في المجتمع. ومثل هذا البرنامج يفترض أن تضعه لجنة واسعة وواعية لواقع العراق وإمكانيات وضرورات التغيير والإصلاح الجذري الشامل للدولة والمجتمع. ويفترض أن يتضمن البرنامج تنظيم عودة النازحين والمهجرين قسراً إلى مناطق سكناهم، وتعويضهم ومساعدتهم ليعيدوا بناء مساكنهم وحياتهم الاعتيادية وعودة السلم والاستقرار لهم.
كما يتطلب البرنامج وضع الأسس القانونية الضرورية لإقامة علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وحل كل المشكلات العالقة، سواء بالنسبة للمناطق المتنازع عليها، أم قضية النفط والتنمية ...الخ، بعد أن أصبحت العلاقة متدهورة وبلغت الحضيض.   
ويبدو لي بأن هناك مهمة مؤجلة منذ سنوات، وأعني بها إعادة كتابة الدستور العراقي لعام 2005 بما يصحح القضايا غير الديمقراطية والطائفية والمخالفة للأسس الديمقراطية في حياة المجتمع، وبشكل خاص موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إضافة إلى تخليصه من المواد التي تعتبر حمالة أوجه ...الخ، وهي كثيرة.

429
كاظم حبيب
عواقب المحاولة الانقلابية على الحياة السياسية بتركيا
أحبطت المحاولة الانقلابية العسكرية التي نفذها جزء مهم يتراوح بين 50-60% من قوات الجيش التركي ومن مختلف الصنوف العسكرية، بما في ذلك الطيران العسكري. ورغم هذا العدد الكبير من المشاركين في المحاولة ومن قيادات عليا في الجيش، منيت المحاولة بالفشل الذريع وأعتقل أغلب قادتها العسكريين ومن مختلف المراتب العسكرية المشاركة فيها (الأخبار تشير إلى 6000 معتقل حتى صبيحة يوم الأحد 17/7/2016)، كما قتل عدة مئات من المنتفضين والمدنيين، فما هي الأسباب التي أدت إلى فشل هذه المحاولة الجدية والكبيرة؟
من المتابعة الطويلة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتركيا خلال العقود الخمسة الأخيرة، يمكن تأشير الأسباب الآتية الأكثر أهمية في فشل هذه المحاولة:
أولاً: التجربة المريرة التي عاشها الشعب الكردي بكل قومياته تحت النظم السياسية العسكرية أو هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية بالبلاد، وما تعرض له الشعب من مصادرة حقيقية للحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية.
ثانياً: غياب العلاقة الاجتماعية والسياسية النضالية بين القوات التي قادت الانقلاب والشعب التركي، وعدم معرفة الأهداف التي كان يسعى الانقلابيون إلى تحقيقها بتركيا.
ثالثاً: أدانت كل الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس النواب التركي محاولة الانقلاب الفاشلة منذ بدء العملية، مما يدل على عدم وجود أي علاقة بين المنتفضين في الجيش والأحزاب السياسية بتركيا. 
رابعاً: سئم الشعب التركي من الانقلابات والتغيرات السياسية غير الديمقراطية، وقناعته بضرورة التغيير على وفق السبل الديمقراطية والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة.
خامساً: رغم الأوضاع الاقتصادية والسياسية الجديدة الصعبة والمتوترة، بسبب سياسات أردوغان الخارجية والداخلية الجديدة، فأن الانتعاش الاقتصادي الذي تحقق خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يعود إلى الانفتاح الذي مارسه أردوغان في تركيا، وخاصة محاولاته الأولى بحل المسألة الكردية بصورة سلمية، والتي وفرت أجواء مناسبة للنمو الاقتصادي وتوفير توظيفات مالية للاستثمار الإنتاجي والخدمي وتقليص نسب البطالة بتركيا وتحسين مستوى حياة ومعيشة نسبة مهمة من سكان الريف والمدينة بتركيا.
ومن هنا جاء رفض نسبة مهمة من الشعب التركي للانقلاب العسكري وعدم مساندتها له، بل إن أجزاء من الشعب قد تصدت لقوى الانقلاب. علماً بأن هناك نسبة مهمة من الشعوب التركية، والكرد منهم على نحو خاص، يناهضون بحزم سياسات اردوغان غير الديمقراطية والسائرة نحو تغيير معالم الدولة العلمانية التركية وتحويلها إلى دولة تلتزم بالدمج بين الدين والدولة تحت قيادة "حزب العدالة والتنمية"، وهو أحد فروع جماعة الإخوان المسلمين على الصعيد العالمي، وهم يتعرضون للملاحقة والاضهاد والاعتقال والسجن.   
لقد تميزت سياسة رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة بمظاهر سلبية جديدة تعبر عن تغير في نهج الحزب الحاكم ورئيسه. فهو يتطلع لنفسه ولتركيا بدور قيادي إسلامي في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا، إضافة إلى تدخله المباشر في شأن العديد من الدول ذات الأكثرية الإسلامية ودعم قوى الإخوان المسلمين أو قوى إسلامية أخرى بما فيها قوى متطرفة وإرهابية مثل داعش وجبهة النُصرة وغيرها فيها، والدعوة للنموذج التركي الإسلامي، كما حصل في تونس ومصر، أو تدخله العسكري بسوريا والعراق، على سبيل المثال لا الحصر، وتعاونه مع كل من السعودية وقطر في دعم قوى المعارضة والإرهاب على نحو خاص.
وعلى الصعيد الداخلي توجه أردوغان لفرض النظام الرئاسي على حساب النظام البرلماني ليتفرغ لفرض سياساته الجديدة دون العودة إلى مجلس النواب، الذي وجدت فيه في العام 2015 معارضة سياسية قوية رافضة لمخططات اردوغان في الانفراد بالسلطة. ولغرض إضعاف المعارضة، فرض حل مجلس النواب، الذي لم يحظ حزبه بنسبة عالية من امقاعد، ونظم انتخابات جديدة حاز بموجبها على نسبة أعلى في مجلس النواب، وغير بذلك ميزان القوى في المجلس لصالح مشاريعه في الهيمنة على الحكم، وأعاد تشكيل الحكومة التركية ليفرض جماعة جديدة مساندة له دون أي اعتراض لها على سياساته الفردية الطامعة في السيطرة التامة على السلطات الثلاث والإعلام بشكل كامل.
وقد توضح ذلك من خلال التغييرات المستمرة في جهاز القضاء التركي، ومواجهة الصحافة بضغوط جديدة واعتقالات وصدور أحكام قرقوشية ضد الصحفيين بتهم لا تصمد أمام أي محاكم ديمقراطية حيادية ونزيهة.
وكانت أكثر سياساته خطورة قد برزت في مجالين مهمين هما: 1) الموقف من القضية الكردية وتخليه عن الحل السلمي وبدء خوض المعارك ضد حزب العمال الكردستاني PKK، واضطهاده لحزب الشعوب الديمقراطي التركي وصدور قانون بمحاسبة ومحاكمة النواب الكرد بتهم التعاون مع حزب العمال الكردستاني، والبدء منذ أشهر بحملة دموية واسعة في المدن والقرى الكردية بدعوى ملاحقة جماعة حزب العمال الكردستاني، مما أوقع ضحايا كثيرة وتحول الشعب الكردي بمجمله ضد السياسات التركية. 2) تعاونه الواسع النطاق ومنذ سنوات مع داعش والسماح لقوى الإرهاب بالولوج عبر الحدود التركية إلى سوريا والعراق وتزويد هذه المنظمة الإرهابية بالسلاح والعتاد والأرزاق والسماح لها بمعالجة جرحاها واعتبار تركيا خلفية أمينة لقوات التنظيم الإرهابي. وقد تم ذلك في الفترة الأولى بالتنسيق مع السعودية وقطر وبسكوت أو موافقة الولايا المتحدة. إلا إن سياسة الولايات المتحدة المتقلبة، على وفق أهدافها في السيطرة على المنطقة ونفطها وسياسات حكامها، قد تغيرت بفعل عوامل كثيرة فاعل في منطقة الشرق الأوسط وزيادة تهديدات داعش للمنطقة ولحلفاء أمريكا وللدول الأوروبية. مما فرض على تركيا تغيير موقفها "الرسمي" إزاء داعش بشكل خاص مقابل موافقة الولايات المتحدة بمحاربة حزب العمال الكردستاني وحصول الأخيرة على موافقة باستخدام القاعدة الجوية انجرليك بتركيا من قبل سلاح الجو العسكري الأمريكي لضرب مواقع داعش بالعراق وسوريا.
إن هذه التغيرات في السياسة لم ترض نسبة مهمة من الشعب التركي ومن الكرد على نحو خاص، وكذلك، كما يبدو، من القوات المسلحة التي انتفضت على سياساته وفشلت في تحقيق أهدافها غير المعروفة حتى الآن في ما عدا تسلم السلطة بتركيا.
إن فشل الانقلاب سيعطي الذريعة للدكتاتور التركي الجديد، لرجب طيب أردوغان، لتوجيه نار غضبه ضد الانقلابيين في الجيش وفي بقية القوات المسلحة التركية أولاً، وسينتقم بقسوة سادية، كما عبر عن ذلك بنفسه متوعداً بالانتقام الشديد، وفي القضاء والإعلام ثانياً، وفي السلطة التشريعية أيضاً، إضافة إلى التوجه ضد القوى والأحزاب المعارضة لإضعافها وزج أعضائها في السجون والمعتقلات، وسيقضي بذلك على الحد الأدنى من الحريات المتبقية قبل محاولة الانقلاب، ومصادرة المزيد من حقوق الإنسان وحقوق القوميات، وسيشدد من حربه العدوانية ضد الشعب الكردي في إقليم كردستان تركيا بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني.
لقد أعطى الانقلابيون فرصة ذهبية لممارسة الفردية والاستبداد بأبشع صورها بتركيا ودون خشية من نقد قادم من أوروبا أو من الولايات المتحدة. ولكن هذه السياسة ستكون لها عواقب جديدة مدمرة على المدى الأبعد، منها بشكل خاص، تفاقم التناقضات الاجتماعية والاصطفاف الطبقي والسياسي في المجتمع التركي وتنامي النقمة ضد سياساته الإسلامية المتشددة، وستنعكس بشكل صارخ على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للسكان، وخاصة للفئات الكادحة من المجتمع التركي. كما ستشكل عاملاً جديداً في إضعاف السياحة بتركيا والتي تقلصت اليوم إلى أكثر من 75% مما كانت عليه قبل سنتين أو ثلاثة والتي ستلعب دورها في رفع حجم البطالة وإضعاف المورد المهم جداً للدخل القومي، كما إن مخاضات جديدة تنتظر تركيا في السنوات القادمة، وما عجز الانقلابيون على تحقيقه، ستسهم سياسات أردوغان الاستبدادية والعسكرية في توفير مستلزمات التغيير بتركيا. إن المخاطر الجدية ستبرز في الداخل، إلى جانب ما ذكر سابقاً، في زيادة العمليات الإرهابية بتركيا من قبل داعش وما يماثلها من تنظيمات إسلامية سياسية غرهابية وفاشية، والتي ستؤدي إلى مزيد من الموتى والخراب وتراجع السياحة والنشاط الاقتصادي والتوظيفات الأجنبية أولاً، وإلى مزيد من الصراع القومي والنزاع العسكري مع حزب العمال الكردستاني والشعب الكردي، والتي يمكن أن يمارس الجناح المتطرف المنشق عن هذا الحزب عمليات عسكرية مضادة ضد القوات المسلحة التركية، والتي كلها ستؤدي إلى بروز أو تعميق المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بتركيا والمنطقة. إن إمكانية نشوء وتنامي الفوضى السياسية بتركيا المماثلة لتلك السائدة حالياً بالعراق أو سوريا أمر ليس بعيد الاحتمال وتتحمل مسؤوليته سياسات أردوغان ونهجه الاستبدادي والتوسعي. 
   

430
كاظم حبيب
عواقب المحاولة الانقلابية على الحياة السياسية بتركيا
أحبطت المحاولة الانقلابية العسكرية التي نفذها جزء مهم يتراوح بين 50-60% من قوات الجيش التركي ومن مختلف الصنوف العسكرية، بما في ذلك الطيران العسكري. ورغم هذا العدد الكبير من المشاركين في المحاولة ومن قيادات عليا في الجيش، منيت بالفشل الذريع وأعتقل أغلب قادتها العسكريين ومن مختلف المراتب العسكرية المشاركة فيها، كما قتل عدة مئات من المنتفضين والمدنيين، فما هي الأسباب التي أدت إلى فشل هذه المحاولة الجدية والكبيرة؟
من المتابعة الطويلة للأوضاع السياسية واقتصادية والاجتماعية بتركيا خلال العقود الخمسة الأخيرة، يمكن تأشير الأسباب الآتية الأكثر أهمية في فشل هذه المحاولة:
أولاً: التجربة المريرة التي عاشها الشعب الكردي بكل قومياته تحت النظم السياسية العسكرية وهيمنة القوات المسلحة على الحياة السياسية بالبلاد وما تعرض له من مصادرة حقيقية للحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، إضافة على الأوضاع الاقتصادية المتردية.
ثانياً: غياب العلاقة الاجتماعية والسياسية النضالية بين القوات التي قادت الانقلاب والشعب التركي، وعدم معرفة الأهداف التي كان يسعى الانقلابيون إلى تحقيقها بتركيا.
ثالثاً: سئم الشعب التركي من الانقلابات والتغيرات السياسية غير الديمقراطية وقناعته بضرورة التغيير على وفق السبل الديمقراطية والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة.
رابعاً: رغم الأوضاع الاقتصادية والسياسية الجديدة الصعبة والمتوترة، بسبب سياسات أردوغان الخارجية والداخلية الجديدة، فأن الانتعاش الاقتصادي الذي تحقق خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يعود إلى الانفتاح الذي مارسه أردوغان في تركيا، وخاصة محاولاته الأولى بحل المسألة الكردية بصورة سلمية، والتي وفرت أجواء مناسبة للنمو الاقتصادي وتوفير توظيفات مالية للاستثمار الإنتاجي والخدمي وتقليص نسب البطالة بتركيا وتحسين مستوى حياة ومعيشة نسبة مهمة من سكان الريف والمدينة بتركيا.
ومن هنا جاء رفض نسبة مهمة من الشعب التركي للانقلاب العسكري وعدم مساندتهم له، بل إن أجزاء من الشعب قد تصدت لقوى الانقلاب. علماً بأن هناك نسبة مهمة من الشعوب التركية، والكرد منهم على نحو خاص، يناهضون سياسات اردوغان غير الديمقراطية والسائرة نحو تغيير معالم الدولة العلمانية التركية وتحويلها إلى دولة تلتزم بالدمج بين الدين والدولة تحت قيادة "حزب العدالة والتنمية"، وهو أحد فروع جماعة الإخوان المسلمين على الصعيد العالمي.   
لقد تميزت سياسة رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة بمظاهر جديدة تعبر عن تغير في نهج الحزب الحاكم ورئيسه. فهو يتطلع لتركيا بدور قيادي إسلامي في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا، إضافة إلى تدخله المباشر في شأن العديد من الدول ذات الأكثرية الإسلامية ودعم قوى الإخوان المسلمين أو قوى إسلامية أخرى بما فيها قوى متطرفة وإرهابية مثل داعش وجبهة النُصرة وغيرها فيها، والدعوة للنموذج التركي الإسلامي، كما حصل في تونس ومصر والعراق وسوريا، على سبيل المثال لا الحصر والتعاون مع كل من السعودية وقطر في دعم قوى المعارضة والإرهاب على نحو خاص.
وعلى الصعيد الداخلي توجه أردوغان لفرض النظام الرئاسي على حساب النظام البرلماني ليتفرغ لفرض سياساته الجديدة دون العودة إلى مجلس النواب، الذي فيه معارضة سياسية قوية. ولغرض إضعاف المعارضة حل مجلس النواب الذي لم يحظ حزبه بنسبة عالية، ونظم انتخابات جديدة حاز بموجبها على نسبة أعلى في مجلس النواب وغير ميزان القوى في المجلس وأعاد تشكيل الحكومة التركية ليفرض جماعة جديدة مساندة له دون أي اعتراض على سياساته الفردية الطامعة في السيطرة التامة على السلطات الثلاث والإعلام بشكل كامل.
وقد توضح ذلك من خلال التغييرات في القضاء التركي ومواجهة الصحافة بضغوط جديدة واعتقالات وصدور أحكام قرقوشية ضد الصحفيين بتهم لا تصمد أمام أي محاكم ديمقراطية حيادية نزيهة.
وكانت أكثر سياساته خطورة قد يرزت في مجالين مهمين هما: 1) الموقف من القضية الكردية وتخليه عن الحل السلمي وبدء خوض المعارك ضد حزب العمال الكردستاني PKK، واضطهاده لحزب الشعوب الديمقراطي التركي وصدور قانون بمحاسبة ومحاكمة النواب الكرد بتهم التعاون مع حزب العمال الكردستاني، والبدء منذ أشهر بحملة دموية واسعة في المدن والقرى الكردية بدعوى ملاحقة جماعة حزب العمال الكردستاني، مما أوقع ضحايا كثيرة وتحول الشعب الكردي بمجمله ضد السياسات التركية. 2) تعاونه الواسع النطاق ومنذ سنوات مع داعش والسماح لقوى الإرهاب بالولوج عبر الحدود التركية إلى سوريا والعراق وتزويد هذه المنظمة الإرهابية بالسلاح والعتاد والأرزاق والسماح لها بمعالجة جراها واعتبار تركيا خلفية أمينة لقوات التنظيم الإرهابي. وقد تم ذلك في الفترة الأولى بالتنسيق مع السعودية وقطر وبسكوت أو موافقة الولايا المتحدة. إلا إن سياسة الولايات المتحدة قد تغيرت بفعل عوامل كثيرة فاعل في منطقة الشرق الأوسط وزيادة تهديدات داعش للمنطقة ولحلفاء أمريكا وللدول الأوروبية. مما فرض على تركيا تغيير موقفها "الرسمي" إزاء داعش بشكل خاص مقابل موافقة الولايات المتحدة بمحاربة حزب العمال الكردستاني وحصول الأخيرة على موافقة باستخدام القاعدة الجوية انجليك بتركيا من قبل سلاح الجو العسكري الأمريكي لضرب مواقع داعش بالعراق وسوريا.
إن هذه التغيرات في السياسة لم ترض نسبة مهمة من الشعب التركي ومن الكرد على نحو خاص، وكذلك، كما يبدو، من القوات المسلحة التي انتفضت على سياساته وفشلت في تحقيق أهدافها غير المعروفة حتى الآن في ما عدا تسلم السلطة بتركيا.
إن فشل الانقلاب سيعطي الذريعة للدكتاتور التركي الجديد، لرجب طيب أردوغان، لتوجيه نار غضبه ضد الانقلابيين في الجيش وفي بقية القوات المسلحة التركية أولاً، وسينتقم بقسوة سادية، كما عبر عن ذلك بنفسه متوعداً بالانتقام الشديد، وفي القضاء والإعلام ثانياً، وفي بقية السلطة التشريعية أيضاً، إضافة إلى التوجه ضد القوى والأحزاب المعارضة لإضعافها وزج أعضائها في السجون والمعتقلات، وسيقضي بذلك على الحد الأدنى من الحريات المتبقية قبل محاولة الانقلاب، ومصادرة المزيد من حقوق الإنسان وحقوق القوميات، وسيشدد من حربه العدوانية ضد الشعب الكردي في إقليم كردستان تركيا بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني.
لقد أعطى الانقلابيون فرصة ذهبية لممارسة الفردية واستبداد بأبشع صورها بتركيا ودون خشية من نقد قادم من أوروبا أو الولايات المتحدة. ولكن هذه السياسة ستكون لها عواقب جديدة منها بشكل خاص، تفاقم التناقضات الاجتماعية والاصطفاف الطبقي والسياسي في المجتمع التركي وتنامي النقمة ضد سياساته الإسلامية المتشددة، وستنعكس بشكل صارخ على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للسكان، وخاصة للفئات الكادحة من المجتمع التركي. إن مخاضات جديدة تنتظر تركيا في السنوات القادمة، وما عجز الانقلابيون على تحقيقه، ستسهم سياسات أردوغان الاستبدادية والعسكرية في توفير مستلزمات التغيير بتركيا.
   

431
 ثلاث مجاميع بشرية، هم: 1- تنوخ: النازحون من الجزيرة. 2- العباد: من السكان الأصليين (أي من قبائل كلدة التي كانت تسكن في نفس المنطقة). 3- الأحلاف: عرب مهاجرون نزلوا في المنطقة، وحالفوا تنوخ والعباد".   
ومع أن اللخميين قد عاشوا في الحيرة قبل تأسيس مملكتهم بعقود كثيرة وكانوا تحت حكم البارثيين، إلا إنهم استغلوا الصراع والنزاع بين المملكة البارثية والساسانيين، حيث سقطت الإمبراطورية البارثية في العام 226م، وفي العام ذاته أقيمت الإمبراطورية الساسانية، وهما إمبراطوريتان فارسيتان أقيمتا في فارس وبلاد ما بين النهرين، وكانت عاصمتهما طيسفون (المدائن). وأصبح اللخميون تحت حكم الساسانيين حتى بعد تأسيس مملكتهم في العام 266م أو 268م، واستمر وجودها حتى العام 633م. وتشير بعض المصادر إلى أن الديانة المسيحية قد وصلت إلى مملكة الحيرة في القرن الثالث الميلادي، وبعضها الاخر يشير إلى القرن الرابع الميلادي. كان اللخميون القادمين من اليمن مباشرة، أو من البحرين، حيث نزحوا إليها قبل ذاك، يؤمنون كغيرهم من العرب بالآلهة المعروفة، وهم اللات والعزى وهبل، كما إن اليهودية كانت قد وصلت إليهم وإلى الأنبار وبقية مدن بلاد ما بين النهرين ووجد من آمن بها في مختلف مناطق العراق من غير اليهود الذين أسروا وجيء بهم إلى هذه البلاد.
تؤكد الدراسات التاريخية إلى إن المسيحية أصبحت الديانة الرسمية لملوك هذه المملكة وغالبية سكانها، والسؤال المهم هو: كيف وصلت المسيحية إلى العرب في شبه الجزيرة وإلى الحيرة، وهي جزء من بلاد ما بين النهرين؟ تشير بعض المصادر إلى طرق عدة استخدمت لنشر الدين المسيحي في شبه الجزيرة والحيرة. وأليكم بعضها:
أ‌.   جاء في موضع شبكة المعارف الإسلامية واعتماداً على كتاب الطباطبائي، محمد حسين، "الميزان في تفسير القرآن"، ما يلي: "انتشرت المسيحية في بعض أجزاء جزيرة العرب، ففي الجنوب عن طريق الحبشة، وفي الشمال عن طريق سورية، وشبه جزيرة سيناء، إلا أنها لم تجتذب إليها أنصاراً كُثُر، وكان من هؤلاء النصارى: قيس بن ساعدة، وحنظلة الطائي، وأُمية بن أبي الصلت. وتغلغلت المسيحية في اليمن منذ القرن الرابع الميلادي. وعند ظهور الإسلام كانت بعض أحياء العرب في اليمن على دين النصرانية. وأهم مواطن النصرانية في جزيرة العرب كان نجران، وهي مدينة خصبة عامرة بالسكان والتجارة. وكذلك انتشرت المسيحية في الحِيرة قرب الكوفة، بواسطة أسرى الحرب الرومانيين. وأهم دليل يشهد على وجود هذا الدين في زمن نزول القرآن في جزيرة العرب، هو مباهلة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قساوسة وفد نجران.“  لقد أصبحت مملكة الحيرة العربية أحد مهود الديانة المسيحية في بلاد ما بين النهرين، بسبب تبني أغلب ملوكها وسكانها المسيحية ديناً لهم. واتخذ بعض ملوك الحيرة مدينة الأنبار عاصمة لهم. ويتبين واقع انتشار المسيحية في مملكة الحيرة من الوقائع التالية: 

1.   كثرة الكنائس والأديرة التي تم اكتشاف أثارها في الحيرة والنجف والتي بلغ عددها 33 معلماً. ففي دراسة قيمة للأستاذ وردا إسحاق تحت عنوان "  مدينة الحيرة المسيحية .. قصورها .. كنائسها .. أديرتها ، والاحتلال الإسلامي" جاء فيه بصدد عدد الكنائس والأديرة ما يلي:
** كنيسة البيعة الكبرى في بني الخيان، وهي الأولى، لأنها بيعة الكرسي وتسمى "بيعة الملائكة ". hG,gn لماذا سميت بهذا الاسم ؟ لأنه كان يرى مع الفعلة رجلان يبنيان ويطينان، عليهما لباس مثل الثلج، فإذا جلس العمال للغذاء أو العشاء أو عند أستلام العمال الأجور كانا يغيبان فجأةً. وكانا يعملان في بناء الآجر والجص حتى تم بناء البيعة .
** كنيسة مار توما رسول المشرق
** كنيسة مريم العذراء .
** كان هناك كنائس أخرى منتشرة في أرجاء المدينة عدا كنائس أخرى مشيدة في داخل الأديرة.
** أما أديرة الحيرة فكانت أوفر حظاً من كنائسها، فقد وصلتنا أسماؤها وأوصافها لأن أحد أباءنا المؤرخين المدعو) أيشو عدناح ) الذي كان مطراناً على مدينة البصرة في القرن التاسع ، وضع كتاباً مختصراً في الأديرة فسجل عن أديرة الحيرة الأسماء التالية :
أولاً – دير مار يوحنا الحيري
ثانياً – دير مار باباي الكاتب
ثالثاً – دير مار عبدا أبن الحنيف
رابعاً – دير مار خودهوي
خامساً – دير مار أبراهام
سادساً – دير مار أيليا الحيري )أنتقل بعد ذلك الى مدينة الموصل وأسس هناك ديراً آخر قريب من معسكر الغزلاني وما يزال باقياً) .
سابعاً – دير القديسة دودي التي أسست هذا الدير للعذارى
ثامناً - دير الطوباوية أذرمنج ، والتي اقتفت أثار القديسة دودي
تاسعاً – دير أبن البراق
عاشراً – دير الأعور
حادي عشر- دير الأسكون أو الأسكول
ثاني عشر – دير بني مرينا
ثالث عشر – دير الجرعة
رابع عشر – دير الجماجم.  سمي بهذا الاسم بسبب القتال الذي حصل في ذلك الموقع فتراكمت أشلاء القتلى وتبعثرت جماجمهم فأشتهر الموضع بهذا الاسم.
خامس عشر- دير قرة
سادس عشر – دير اللج الذي بناه النعمان بن المنذر أبو قابوس وكان الملك يسير في كل عيد ومعه أهل بيته بموكب وبأيديهم أعلام فوقها صلبان ويذهبون لقضاء صلواتهم في هذا الدير ثم ينصرفون الى مستشرفة في النجف للتنزه
سابع عشر – دير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر. شيّدت هذا الدير وانزوت فيه ولها قصة طويلة ذكرها المؤرخون في سياق كلامهم عن زيارة خالد بن وليد لهذا الدير ولقائه بهند.  كما قصد هذا الدير هارون الرشيد ورأى فيه قبر هند وقبر أبيها فترحم عليهما
ثامن عشر – دير هند الكبرى وهي بنت الحارث بن عمرو بن حجر، وهي عمة الشاعر الكبير أمرؤ القيس. زار هذا الدير هارون الرشيد بعد زيارته لدير هند الصغرى والدير يقع على أطراف النجف .
أديرة أخرى ذكرت من قبل المؤرخون العرب وخاصةً ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) فذكر هذا العملاق عدد كبير من الأديرة ويوجد في خزانة البطريركية الكلدانية نسخة منه." 

2. اكتشاف الكثير من الصلبان التي هي رمز الدين المسيحي، رغم إن التنقيبات ما تزال في بدايتها. وقد عثر حتى الآن على 12 صليباً، عدا تلك التي وجت في الكنائس والأديرة. جاء في مقال للباحث نصير الكعبي نشر في مجلة الكوفة بصدد الصلبان ما يلي: ".. أحصي أكثر من (12) صليباً جصياً ومعدنياً بصيغة صريحة، والكثير من اللقى التي ضربت عليها الصلبان أو إشارات دينية مسيحية مثل المسارح وغيرها."  وفي أدناه صورة لصليب على بوابة كنيسة في مدينة الحيرة، إضافة إلى كنيسة هند وكنائس وأديرة كثيرة أخرى.









3. كثرة مقابر المسيحيين التي اكتشفت في هذه المنطقة بما في ذلك في بحر النجف. ويمكن أن نتبين من كثرة السكان المسيحيين في مملكة الحيرة، في كثرة الجثاليق والآباء الذين دفنوا بالحيرة. فقد دفن في الحيرة عدد من الجثالقة هم داد يشوع  (456م)، بابوي (484م)، آقاق  (496م)، حزقيال (581م)، ايشوعياب (595م)، جرجس (681م)، وإبراهيم الثاني المرجي (850م)، ديارات الأساقف: وتقع هذه الديارات في منطقة النجف، بظهر الكوفة وهو أول الحير وهي عبارة عن قباب وقصور.
ب‌.   وتشير مصادر أخرى إلى أن المسيحية قد وصلت إلى العراق عبر الأسرى المسيحيين الذين نقلوا إلى الحيرة في العام 260م خلال الصراع بين الغساسنة والمناذرة.  كما إن البعض الآخر يشير إلى إنها وصول الدين المسيحي إلى الحيرة كان في نهاية القرن الثالث الميلادي وبداية القرن الرابع. ولكن الأب سهيل قاشا يشير في كتابه المعروف "تاريخ نصارى العراق" أن طيمون، أحد الشمامسة السبعة، قد بشر بالدين الجديد في البصرة وكان أسقفاً لها. وأن ملوك المناذرة ساهموا في نشر المسيحية وحماية المسيحيين في العراق وفارس، وخصوصاً المنذر الأول 418-462م.


الخلاصة
إن الاستعراض المكثف والسريع لهذه المدن القديمة ببلاد ما بين النهرين كان الهدف منه التحري عن الفترات الزمنية التي وصل خلالها الدين المسيحي إليها والشخصيات أو الجهات الدينية أو الأسرى الذين أمنوا بالدين المسيحي ونشروا الدين في هذه الديار. وتبين بوضوح إن الدن المسيحي لم ينقل دفعة واحدة إلى كل أنحاء بلاد ما بين النهرين، بل تم بفترات متباينة وبوسائل تبشيرية عديدة. وإذا كان النقل الأول قد تم في القرن الأول الميلادي، فأن القرون اللاحقة، وإلى حين مجيء المسلمين لهذه البلاد، وفي الثلث الأخير من القرن السابع الميلادي، شهدت وجوداً وقبولاً واتساعاً للدين المسيحي في أغلب مدن وارياف بلاد ما بين النهرين. وأن الكثير من هذه المدن في الشمال أو الجنوب أو الوسط قد أقيمت فيها الكنائس والأديرة المسيحية، والكثير منها قد اندثر أو ما يزال قائماً دون التنقيب عنه أو العناية بما قد اكتشف حتى الآن. في حين إن هذه الكنائس والأديرة تشكل تراثاً عراقياً مهماً يشترك فيه مسيحيو العراق من كلدان وأشوريين وسريان وعرب في آن.     
لقد استغرق دخول وانتشار الدين المسيحي قروناً عدة، ونقل منها إلى بلاد فارس والهند ومناطق أخرى من غرب آسيا. ولاقى الوعاظ والمبشرون الأوائل مصاعب كبيرة والكثير من الاضطهاد والعسف والآلام، مما أدى إلى استشهاد الكثير منهم أو سجن وتعرض لأبشع صنوف التعذيب من أجل الوعظ والتبشير بالدين المسيحي الذي آمنوا به. لأن هؤلاء المبشرين ومن تبنى الدين المسيحي واجهوا أحياناً ترحيباً من ملوك حكام تلك الإمبراطوريات، وأحياناً أكثر واجهوا المحاربة والملاحقة والاضطهاد والقتل، وهو ما سنبحث به في مكان آخر من هذا الكتاب. كما أن الصراع بين الكنيسة الشرقية والكنيسة البيزنطية الغربية كانت وراء الكثير من الشهداء والمضطهدين من أتباع الكنيستين.


   










الفصل الأول
أوضاع المسيحيين بالإمبراطوريات الإسلامية


432
السيدات والسادة الكرام
الأخوات والأخوة الأعزاء
أسعى لإنجاز كتاب جديد عن المسيحيين بالعراق على وفق المفردات في أدناه وتحت عنوان "المسيحيون جزء أصيل من أهل العراق. انشر الآن القسم الأول من المدخل لهذا الكتاب حول "بوابات دخول المسحية إلى العراق" أملي أن أتلقى من الباحثات والباحثين والمختصين في هذا المجال الحيوي ملاحظاتهم النقدية والتحسينية لصالح البحث العلمي. وسيتضمن القسم الثاني حول الصراعات بين الكنيستين في القرون الأولى من دخول المسيحية إلى العراق وتأثيرها على  واقع المسحيين العراقيين.
مع خالص الشكر والامتنان سلفاً
الباحث
كاظم حبيب
يمكن إرسال الملاحظات على عنواني الإلكتروني الآتي: khabib@t-online.de   
أو على موقع الحوار المتمدن، أو على موقعين لي عل  الفيسبوك باسمي
Kadhim Habib

د. كاظم حبيب
المسيحيون جزء أصيل من أهل العراق
[مشروع كتاب]
المدخل: الدخول الأول للديانة المسيحية إلى المجتمعات العراقية
1)   البوابات التي دخلت المسيحية عبرها إلى بلاد ما بين النهرين
2)   الصراعات الأولى بين الكنيستين الشرقية والغربية
الفصل الأول: أوضاع المسيحيين بالإمبراطوريات الإسلامية الأموية والعباسية والعثمانية.
الفصل الثاني: أوضاع المسيحيين في ظل الدولة العراقية الملكية
الفصل الثالث: أوضاع المسيحيين في ظل الجمهوريات الخمس العراقية
أ‌.   الجمهورية الأولى بعد ثورة تموز 1958
ب‌.   الجمهورية الثانية البعثية-القومية 1963
ت‌.   الجمهورية الثالثة القومية 1963-1968
ث‌.   الجمهورية الرابعة البعثية 1968-2003
(الجمهوريات الثلاث ب، ت وث الشوفينية)
ج‌.   الجمهورية الخامسة الطائفية - الأثنية 2003-2016
الفصل الرابع: دور المسيحيين في الثقافة والإعلام والنشر والتعليم على امتداد تاريخ العراق وفي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
الفصل الخامس: الاضطهاد الذي تعرض له مسيحو العراق عبر تاريخ العراق الطويل
الفصل السادس: الهجرات المسيحية من العراق إلى أوروبا وأمريكيا وكندا واستراليا.
الفصل السابع: مستقبل المسيحيين بالعراق
المصادر والمراجع

المدخل
البوابات التي دخلت المسيحية عبرها إلى بلاد ما بين النهرين

تشير أغلب المراجع والمصادر المعتمدة بشأن سبل وصول المسيحية إلى بلاد ما بين النهرين إلى أن هذه الديانة التوحيدية والتبشيرية قد وَجَدتْ طريقها إلى بلاد ما بين النهرين (الميزوبوتامية) عن طرق عدة، بما في ذلك بواسطة المؤمنين الأوائل بيسوع المسيح، حين كانت المنطقة ما تزال تحت الاحتلال البارثي (250ق. م -247 م)، وقبل احتلال المنطقة من قبل الدولة الساسانية (247-635 م). وحصل ذلك في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد وفيما بعدهما. وقد تبنت هذه الديانة الجديدة جماعات من أتباع ديانات أخرى كاليهود والمجوس وأتباع الديانات الوثنية وديانات عراقية قديمة أخرى.

الجماعة الأولى: جمهرة من أتباع الديانة اليهودية

احتضن العراق جمهرة واسعة من اليهود الأسرى الذين جلبتهم القوات الآشورية والكلدانية التي غزت المدن اليهودية كأورشليم والسامرة وغيرهما وخاضت الحروب ضد الممالك الإسرائيلية. إذ شنت السلالتان الآشورية والكلدانية، اللتان حكمتا العراق على التوالي بمئات السنين قبل الميلاد، عدة حروب ضد الممالك الإسرائيلية وهاجمت عاصمتها أورشليم في فترات مختلفة ودمرت الهيكل العظيم ودمرت الكثير من المدن الإسرائيلية، إضافة إلى ذلك فقد تم ترحيل قسري غير عادل لليهود في زمن الخليفة عمر بن الخطاب بهدف تصفية المنطقة من أتباع الديانة اليهودية. وتشير المصادر العديدة إلى إنه وصل إلى مسامع عمر بن الخطاب قولٌ منسوب إلى الرّسول في مرضه الّذي قُبض فيه: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان: "ففحص عمر عن ذلك حتّى بلغه الثبت. فأرسل إلى يهود، أنّ الله قد أذن في اجلائكم، فقد بلغني أن رسول الله صلعم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء."   
ورغم ذلك لم يتم الالتزام بهذا العهد، إذ قرر عمر بن الخطاب تهجير اليهود إلى بلاد ما بين النهرين، إلا من أعلن إسلامه مجبراً لكي لا يفقد أرضه ووطنه، وهو قرار غير عادل في كل الأحوال. جاء في كتاب الباحث سلمان مصالحة الموسوم "إجلاء اليهود من جزيرة العرب" دراسة فيها تشخيص للعوامل الفعلية التي دفعت عمر بن الخطاب إلى تهجير اليهود من الجزيرة العربية، إذ كتب بصواب ما يلي:

" غير أنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ ثمّة أسبابًا أخرى لإجلاء اليهود. فمثلما أشرنا من قبل فقد أُبقي اليهود في البداية لمعرفتهم وعلمهم في تدبير وعمارة الأرض، ولم يكن المسلمون آنئذ على دراية بهذه الأمور. فلمّا كثرت الأموال في أيدي المسلمين، وتعلّموا أمور الزّراعة والاعتناء بالأرض والنّخيل قرّروا الاستيلاء على أراضي اليهود. كذا يُستشفّ من الرّواية التالية بهذا الشأن: "حتّى كان عمر، فكثر المال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم." (الأموال للهروي: ج 1، 144؛ البلدان لياقوت: ج 2، 410). وعلى كلّ حال، لقد أجلى عمر يهود خيبر وفدك، ولم يخرج يهود تيماء ووادي القرى لأنّ مناطق تيماء ووادي القرى تعتبر من بلاد الشام وليست داخلة في جزيرة العرب، على ما روي: "فلما كان زمن عمر بن الخطاب رض أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام" (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 13 .“   
ولم يكتف عمر بن الخطاب بإجلاء اليهود من خيبر وغيرها فحسب، بل أخرج المسيحيين من نجران أيضاً، وأنزلهم في ناحية الكوفة، إذ جاء في كتاب الطبقات لابن سعد بهذا الصدد ما يلي: "إنه قد أخرج نصارى نجران أيضاً، وأنزلهم ناحية الكوفة".   ويبدو واضحاً إنها البداية التي فسحت في المجال لمزيد من الصراع بين أتباع الديانات وممارسة التمييز، إذ كانت القرارات غير عادلة أولاً والاستناد إلى قول الرسول غير وارد ثانياً، وساعد ذلك على ممارسة الخلفاء والحكام من بعده بممارسة الأسلوب ذاته. كما إن محمداً قد منح النصارى عهداً واضحاً في السنة العاشرة للهجرة والذي نصه كما يلي:
 "“فكتب رسول الله كتابًا لأهل نجران[وردت بروايات مختلفة منها هذه الرواية]: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِلأسْقُف أَبِي الْحَارِثِ، وَأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ، وَكَهَنَتِهِمْ، وَرُهْبَانِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ، لا يُغَيَّرُ أُسقفٌ مِنْ أسقفَتِهِ، وَلا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلا سُلْطَانهُمْ، وَلا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا مَا أَصْلَحُوا وَنَصَحُوا عَلَيْهِمْ غَيْر مُبْتَلَيْنَ بِظُلْمٍ وَلا ظَالِمِينَ"  .  كما ورد النص الآتي بشأن نصارى منطقة أخرى:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللهِ، ومُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنُهُمْ وَسَيَّارَتُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لاَ يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ.. وَإِنَّهُ طَيِّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ.. وَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلاَ طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ.. ."[
وفي ضوء ذلك يصعب القبول بادعاء أن محمداً وهو على فراش المرض: "لا يترك بجزيرة العرب دينان" نقلاً لما رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن عائشة.  ولا يمكن لمحمد أن ينكث مثل هذا العهد الذي منحه للنصارى حينذاك، معتمدين في ذلك على الآيات التي جاء فيها: 

[وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4{.
وهنا يمكن تأكيد حقيقة إن في هذا نكث للعهد الذي منحه محمد للنصارى والذي كان لا يجوز نكثه، على وفق الفقه الإسلامي المعتمد بشأن الناسخ والمنسوخ.   
كتب الدكتور أحمد سوسة (1900-1982م) حول الأسر اليهودي والتهجير الإسلامي لليهود والنصارى ما يلي:
"لقد مرَّ تاريخ اليهود بالعراق القديم بثلاث مراحل: تمثل المرحلة الأولى أقدم وجود لهم في شمال العراق حين جاء الآشوريون بهم أسرى إلى آشور، وهذه ترجع إلى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، ثم تليها المرحلة الثانية حين جاء الكلدانيون بهم كأسرى أيضاً إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل الميلاد. أما المرحلة الثالثة فهي ترجع إلى صدر الإسلام حين نزحت قبائل العرب المتهودة من جزيرة العرب في عهد الخليفة عمر (رض) إلى العراق وسورية في القرن السابع الميلادي أي بعد ظهور المسبيين من العهد الآشوري والكلداني بالعراق بحوالي ألف وأربعمائة سنة، وقد جاءوا بصفتهم القبائلية العربية ومعهم مقتنياتهم ومواشيهم واستقروا في منطقة الفرات الأوسط حيث اندمجوا بالسكان العرب، وهم عرب مثلهم، فاعتنق أكثرهم الإسلام وبقي القليل منهم على يهوديته" .
وعلى وفق ما جاء في أكثر من مصدر لباحثين في أوضاع يهود العراق منذ الأسر الجائر والترحيل المناهض لليهود، يمكن إيراد عدد وتاريخ هذه الحملات العسكرية على النحو الآتي:
•   الحملة الأولى التي قادها الملك شلمنصر الثالث الآشوري (859-824 ق.م.) على مملكة يهوذا وسبى الكثير من أهلها ونقلهم إلى مملكة أشور وأسكنهم في مناطق جبلية بعيدة يصعب عليهم مغادرتها. كما أخضع هذا الملك الآراميين والفينيقيين لدولته الآشورية .
•   ثم قام الملك تجلات بلاشر الثالث (746-727 ق.م.) بحملة ثانية على إسرائيل واستولى على مملكتها وأخضعها لمملكته وسبى الكثير من سكانها وحمل الأسرى إلى آشور وأسكنهم كسابقه في المناطق الجبلية من كردستان الموزعة حاليا بين العراق وتركيا وإيران وسوريا.
•   وفي العام 721 ق.م. قام الملك شلمنصر الخامس الآشوري (727-722 ق.م.) بحملة عسكرية ثالثة على إسرائيل وحاصر عاصمتها أورشليم، ولكنه مات في العام 722 ق.م. ورغم موت الملك الغازي، واصل القادة العسكريون الحصار على السامرة ثلاث سنوات عجاف مريرة على عهد الملك سرجون الثاني (722-705 ق.م.) . ثم استطاع قائد القوات الآشورية في النهاية احتلال المدينة وسبي أهلها. وبلغ عدد الأسرى الذين نقلهم إلى آشور 27280 إسرائيلياً وأسكنهم في مدن حلخ وجوزان في وادي الخابور ومدن ماذي في كردستان، وهي مناطق تقع حالياً ضمن حدود الدول الثلاث العراقية والإيرانية والتركية .
•   أما الحملة العسكرية الرابعة في العهد الآشوري فقد تمت في العام 702 ق. م. حيث قاد الملك سنحاريب الآشوري (705-681 ق.م.) جيوشه متوجهاً صوب مملكة يهوذا واستولى على 46 مدينة وأسر 200150 إسرائيلياً، ثم غزا بعدها مدينة أورشليم وأجبر الملك حزقيا على عقد معاهدة صلح غير متكافئة مع مملكة آشور لصالح الأخيرة . ويبدو أن المعاهدة الموقعة بين الطرفين ساهمت في التخلي عن الأسرى وتركهم يعيشون في بلادهم، إذ لم يشر أي مصدر إلى نقل الأسرى اليهود إلى مناطق الدولة الآشورية كواحدة من نتائج هذه الحملة العسكرية. ويذكر الدكتور أحمد سوسة إلى أن بعض المصادر يشير إلى نقل "بعض هؤلاء الأسرى إلى أرمينيا" . 
•   وفي العام 672 ق. م. قام الملك الأشوري أسرحدون (680-669 ق.م.) بحملة عسكرية خامسة على مملكة يهوذا حيث تم أسر ملك مملكة يهودا ونقله مقيداً إلى بابل. وبعد فترة أعاد أسرحدون ملك يهودا إلى أورشليم ونصبَّه ملكاً عليها من جديد بعد أن جعل مملكته تابعةً وخاضعةً للمملكة الآشورية .
يشير المؤرخ إريك براور (1895-1942م) في كتابه الموسوم "يهود كردستان "إلى الانتشار اليهودي في مناطق كردستان، سواء أكان عبر الأسر أم عبر الهجرة المفروضة عليهم، بسبب الاضطهاد، أم الرغبة في الهجرة والالتحاق بالآخرين، فيقول ما يلي:
"يقع مركز استيطان اليهود في منطقتي زاگروس وطوروس الجبليتين. وفي الأخيرة يبدأ عدد الكرد بالانخفاض التدريجي في أرض الأرمن، حيث لا توجد حالياً مستوطنة يهودية واحدة. وفيما وراء الجبال هناك منطقتا بحيرتي وان وأورمية، والمنطقة الثانية هي أرض استوطنها اليهود في جزءٍ منها. ومن الغرب يمكن اعتبار نهر دجلة حدود منطقة الاستيطان اليهودي. وهكذا يتبين لنا أن اليهود في كردستان يقطنون ثلاثة أنواع من المناطق حسب طبيعة الأرض: المنطقة الجبلية، ومنطقة البحيرات البركانية السهلية وصولاً إلى دجلة" . وكانت حياتهم قاسية لا تختلف عن حياة الفلاحين الكرد أو غيرهم من أبناء تلك المناطق. وفي مكان آخر من كتابه الموسوم (يهود كردستان) ينقل إلينا الباحث والمؤرخ اليهودي أريك براور عن يوميات الرحالة الإسباني اليهودي بنيامين التطلي في رحلته خلال الفترة 1165-1173م) لوحة قاتمة عن أحوال يهود العمادية في القرن الثاني عشر الميلادي (1168م)، التي لا تخلو من مبالغات كبيرة عن عدد السكان اليهود في هذه المدينة القديمة، حيث كتب يقول: "هذا أول المجتمعات القاطنة في جبال هَفتون حيث يعيش أكثر من مائة مجتمع يهودي. ومن هنا تبدأ أرض ميديا. وهؤلاء اليهود هم أحفاد أولئك الذين تم سبيهم أولاً من قبل الملك شلمنصر، ويتحدثون لغة التارگوم ويوجد بينهم رجال متعلمون. وتمتد مواطنهم من منطقة العمادية إلى منطقة گيلان التي تقع على مسافة خمسة وعشرين يوماً من حدود مملكة فارس" . وقبل ذاك "يصف بنيامين التطلي العمادية على إنها مدينة تضم مجتمعاً يهودياً يتألف من خمسة وعشرين ألف فرد". ويشير أريك براور إلى أنها "مبالغة مفضوحة" . وأشار بنيامين التطلي إلى زيارته لبغداد وذكر بأن "عدد اليهود فيها بلغ 40 ألفاً، وأن لهم محلات للعبادة، وكانوا يعيشون في الكرخ بحرية تامة.." .

•   وفي العام 597 ق.م. قام الملك نبوخذ نصر الكلداني (605-562 ق.م.) بشن حملة عسكرية على إسرائيل. وفي أثناء الحملة مات ملك مملكة إسرائيل يهوياقيم وحل محله ابنه الملك يهوياقين . تم في هذه الحملة أسر الملك وعائلته وحاشيته حيث أرسلوا كأسرى مسبيين إلى بابل مع حشد من كبار مسؤولي الدولة اليهودية . وقد أطلق على نتائج هذه الحملة بـ "السبي البابلي الأول". وكانت الحملة السادسة في مجموع الحملات العسكرية التي شنت من بلاد وادي الرافدين على ممالك إسرائيل.   
•   أما الحملة العسكرية الكلدانية الثانية والأخيرة، أو السابعة في مجموع الحملات العسكرية على ممالك إسرائيل، فقد شنها الملك نبوخذ نصر وكانت في العام 586. وتشير المصادر المختلفة إلى أن هذا الملك مارس أقسى أساليب العنف والقهر والعدوان الهمجي، الذي هو ديدن كل الفاتحين والغزاة، ضد الدولة العبرية حين قام بتهديم أسوار مدينة أورشليم وسبي جميع سكانها وإرسالهم أسرى إلى بابل. كتب الأستاذ الراحل يوسف غنيمة عن نتائج هذه الحملة ما يلي: "انتهت تلك الحرب بنصر الكلدان نصراً مبيناً، فدخلوا أورشليم بقيادة قوادهم نركل شراصر وسمكر نبو وسرسخيم وغيرهم وفَّر صدقيا ملك اليهود من وجه الفاتحين إلا أنهم أدركوه في سهل أريحا وأتوا به إلى نبوك نصر فأغلظ معاملته وأمر بقتل أولاده وأشراف مملكته على مرأىً منه ثم سمل البابليون عينيه وشدوه بسلسلتين من النحاس وأتوا به إلى بابل وخرَّب نبوزردان رئيس الشرطة أورشليم وهدم أسوارها وسبى جميع السكان إلى بابل واستباح ذمارهم وأتلف خضراءهم وغضراءهم وذلك سنة 586 ق.م" . وقد قدر عدد اليهود الأسرى في هذه الحملة بـ 40000 أسير، وأطلق على نقل الأسرى المسبيين إلى بابل بـ "السبي البابلي الثاني لليهود". 
حين أعلن المسيح، وكان يهودياً، دينه الجديد، تحرك المؤمنون بهذا الدين على جهات كثيرة من العالم القديم يروجون وينشرون هذا الدين بين الناس. استقبلت جمهرة من اتباع الديانة اليهودية دعوة الدين المسيحي بشيء من الارتياح نتيجة وجود فكرة "المخلَّص" ومنقذ البشرية من الخطايا، في كتب الهود الدينية. فقد جاء في التوراة بشأن المخلَّص: «فيقضي بين الأمم، و يُنصف لشعوب كثيرين» إشعياء 2/4، كما ورد أيضاً: «فاذا هم بالعجلة يأتون سريعا» إشعياء 5/26. وقال عنه الملاك في البشارة إنه يدعي يسوع "لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (متى1: 21). ولم يقتصر خلاصه على شعبه، بل قال " لم آت لأدين العالم، بل لأخلص العالم" (يو12: 47). بل قيل إنه " هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو4: 42). وقد قال عن نفسه إنه " جاء لكي يخلص ما قد هلك" (متى18: 11) (لو19: 10)... والعالم كله تحت حكم الهلاك. وهو جاء ليخلص من الخطايا: ويخلص شعبه من خطاياهم (متى1: 21). وكما قال بولس الرسول "إن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (1تى1: 15). وقال " بذل نفسه لأجلنا يفدينا من كل إثم" (تى2: 14). وقال أيضًا "المسيح افتدانا من لعنه الناموس" (غل2: 13).
جاء في البحث الذي انجزته الدكتورة سها رسام تحت عنوان "جذور السيحية في العراق" والمنشور في الكتاب الذي حرره الدكتور سعد سلوم تحت عنوان "المسيحيون في العراق" بشأن المسيحيين اليهود ما يلي: "كان المسيحيون الأوائل هم من اليهود الذين يتعبدون في الهيكل والمعابد، وكان الكتاب المقدس المكتوب بالعبرية هو كتابهم المقدس الذي يتعبدون به. وكانوا يختلفون عن زملائهم اليهود فقط بالإيمان "بيسوع من الناصرة" كالمسيح المنقذ. وعلى الرغم من الخلافات المستمرة بين عموم اليهود والمسيحيين اليهود، إلا أن الفريق الأخير ظل كطائفة يهودية ضمن اليهود الذين خسروا الحرب ضد الرومان في سنة سبعين للميلادوتشتتوا خارج القدس. ولغرض معالجة مستقبل اليهودية، قام الفريسيون بعقد اجتماع عام، وأصدروا فيه قراراً بطرد اليهود المسيحيين من معابدهم. وكان لطرد المسيحية من المعابد أفر في تنظيم أنفسهم لكي يصبحوا مجتمعاً منفصلاً."     
من هنا نجد إن جمهرة من اليهود المؤمنة كانت تنتظر المخلَّص والمجدد، الذي هو من اليهود أنفسهم ومن أهلهم، كما عبَّر عن ذلك النبي موسى نفسه، إذ يشار إلى إن النبي موسى قد تنبأ بمجيء السيد المسيح، أي المخلَّص، بقوله:"يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلى. له تسمعون..."(تثنية 15:18). وتشير الكتب الصادرة بشأن بدايات دخول المسيحية إلى بلاد ما بين النهرين إلى اسطورة المنديل الذي يحمل صورة المسيح. وتتحدث الرواية على النحو التالي:
يرد في التقّليد الكنسيّ أن الأبجر، ملك الرها، وهي الواقعة بين دجلة والفرات، عانى البرص والتهاب المفاصل. فإذ سمع بالأشفية الكثيرة التي كان يحدثها الرّب يسوع، رغب في أن يأتي يسوع إليه لينال الشفاء منه. فأوفد مندوبين من قبله ليطلبوا من الرّب يسوع المجيء إليه، ولكن الذي حصل أنّهم أتوا بصورة ليسوع، بحيث أن أحد الموفدين، والذي كان يدعى حنانيا، حاول رسم وجه يسوع من بعيد أثناء إلقائه أحد عظاته فلم يستطع، إذ كان كلّ مرّةٍ ينظر فيها إلى وجه الرّب كان يرى نورًا لا يحتمل وصفه، وكان يسوع يشاهده وهو يحاول الرسم، عندها طلب منه الاقتراب وأخذ قطعة القماش التي كان حنانيا يحاول أن يرسم عليها ومسحها على وجهه وأعطاه إيّاها، فانطبعت صورة وجه يسوع عليها.
ولمّا عاد الوفد إلى دياره، وأخبروه ما حصل معهم، قام الملك بالسجود لها على الفور فشفي، ولكن بتدبير من الله طبعًا، بقي للملك أثار جرح في جبينه." قطعة القماش هذه، معروفة في الغرب باسم "المنديليون" ولكنّها في الحقيقة تسمّى Acheiropoietos أيّ "غير مصنوعة بيد أحد".  ويشار في تلك المصادر إلى إن المار ماري، الذي نقل المنديل، هو واحد من الـ 70 أو 72 تلميذاً وتابعاً أو مرسلاً   apostleالسيد المسيح الذين ارسلهم لنشر الدين وأكد بأن من لا يؤمن بهم لا يؤمن بالسيد المسيح. واعتقد اليهود أن عمر الدنيا أسبوع إلهي، تنقضي منه ستة أيام في العناء والشقاء، وبعد ذلك يأتي اليوم السابع، يوم السبت، للراحة والسكينة، وبما أن اليوم الإلهي يقاس حسب معتقدهم بألف سنة، فإن الحياة تدوم سبعة آلاف سنة قبل الفناء، وهم ينتظرون المسيح في نهاية الألف السادسة، والمسيح اليهودي من نسل النبي (( الملك )) داود حصراً.  وجاء في لوقا - الإصحاح العاشر بهذا الصدد ما يلي:
 1وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ.
2 فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ.
 3اِذْهَبُوا! هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ.
4 لاَ تَحْمِلُوا كِيسًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ.
 5وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ.
 6فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحُلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِّلاَّ فَيَرْجعُ إِلَيْكُمْ.
7 وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق÷ أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ.
8 وَأَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ.


الجماعة الثانية: أتباع الديانة الزرادشتية (المجوسية)

الديانة الزرادشتية (المجوسية) واحدة من أقدم الديانات الشرق أوسطية التي تزامن وجودها مع ديانات أخرى في منطقة فارس وميزوبوتاميا والهند، كالديانة المانوية والميثرائية والمزدكية والإيزيدية والزرفانية. وسميت بالزرادشتية نسبة إلى النبي أو المصلح والفيلسوف الفارسي "سبيتاما زرادشت". وهي ديانة توحدية وتبشيرية تؤمن بإله واحد قائم على الثنيوية، أي إله الخير والنور والنماء والعطاء والمطر، أهوراميزدا، وإله الشر والظلام والمرض والموت والبؤس، أهريمان. وهذا الإله الثنيوي يعيش صراعاً بين الخير والشر، بين النور والظلام، ويعطي النصر في المحصلة النهائية للخير والنور ضد الشر والظلام. وللديانة الزرادشتية كتاب مقدس هو "الإفستا"، حيث تكرست فيه تعاليم المصلح والفيلسوف زرادشت.
اتسمت هذه الديانة بالدعوة للخير ضد الشر، وركزت على مبادئ ثلاثة أساسية هي: عفة التفكير، وعفة اللسان، والنزاهة في العمل. وهي تؤكد على استخدام العقل في التمييز بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، وتدعو إلى علاقات التعاون والتسامح والرحمة وتشجع العلم، كما إنها تؤمن بالعناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب)، باعتبارها سر الوجود ومن أكثر الأشياء المخلوقة قدسية. ومن هنا برز اهتمامها بنور الشمس وبالنار، ولكن أتباعها ليسوا من عبدة النار. والديانة الزرادشتية تعتبر الشمس روح الله القدوس، وإن النار تجسد قوة الله. ومن هنا نشأت قدسية الشمس والنار لدى اتباع هذا الدين، وهم عبدة الله الواحد، وليسوا من عبدة الشمس أو النار. وحين يتوجهون بصلاتهم صوب الشمس، هي تعني التوجه لروح الله ونوره.
وبالضد من مبدأ التسامح الذي روجت له الديانة الزرادشتية، اتسم اتباع هذه الديانة بالتعصب الشديد لدينهم، باعتباره دين الحق المطلق، وبكراهية أباطرة المملكة وكهنتها بشكل خاص وأتباعها المتعصبين، للأديان الأخرى وأتباعها. كما إنه دين تبشيري يسعى إلى توسيع المؤمنين به عبر الوعظ والتبشير. ونتيجة التعصب والرغبة في كسب الآخرين إلى دينهم مارس الأباطرة الزرادشتيون سياسة غير عقلانية وغير حكيمة وعنيفة ضد أتباع الديانات الأخرى، التي تزامن وجودها مع وجود الزرادشتية، وعرضوهم إلى الكثير من الملاحقة والاضطهاد والقتل، بسبب رفضهم ترك دينهم، أو القبول بالديانة الزرادشتية. وعبر الجزرة والعصا أجبر الكثير من أتباع الديانات الأخرى إلى مغادرة المناطق التي كانت تؤمن بالزرادشتية، أو أجبروا على التحول إلى الدين الزرداشتي. ومن هنا ايضاً تعرض أتباع الديانة الإيزيدية الضاربة بالقدم في بلاد ما بين النهرين وفارس إلى الملاحقة من جانب أباطرة وحكام الإمبراطوريات الثلاث التي أمنت بالزرادشتية "كدين رسمي للدولة"، وهي الأخمينية والساسانية والميدية، لأن الديانة الإيزيدية لا تؤمن بالثنوية، بل ترى إن الاثنين في الواحد، أي يتجسد في الإله الواحد الخير والشر في آن، إضافة إلى عدد آخر من القضايا المتباينة. كما تعرض أتباع الديانة المسيحية فيما بعد إلى ظلم واضطهاد من جانب كهنة الديانة الزرادشتية وأتباعها، رغم أنهم رحبوا بها في البداية. ولعبت هنا عوامل أخرى في تلك المحاربة، والذي سنبحث فيه لاحقاً، أي بعد أن اعترف الإمبراطور الروماني بالدين المسيحي واعتبره الدين الرسمي، وبالتالي دخل في خلاف شديد مع الإمبراطورية الفارسة ودينها الرسمي الزرادشتي.
من بين القضايا المهمة، التي جعلت في البداية جمهرة من أتباع الديانة الزرادشتية يتحولون صوب الديانة المسيحية، هو أيمانهم بمجيء المخلَّص أو المنقذ. فالزرادشتية تؤمن، كما هو حال الكثير من الديانات الموحدة، "بأن زرادشت هو خاتم الانبياء وهو رسول آخر الزمان، لا تزال بذرته الخصبة حيّة في البحيرة المقدسة، وإذا ما حان الوقت ونزلت عذراء طاهرة الى البحيرة للاغتسال فتتعلق البذرة الخصبة بها وتحمل المخلص، الذي سوف يولد ميلادا إعجازيا، ويكون إنسانا حقيقيا كاملا، يأتي ليُخلص البشر من الشرّ والخطيئة".
بعض الديانات القديمة حددت الفترة التي يمكن أن يظهر فيها المخلَّص اليهودي لينقذ البشرية من خطاياها. " والفترة المحددة لظهور المسيح اليهودي، والذي سمي بيسوع "معناه بالعبرانية الله يخلص"، هي نهاية الألف السادسة وبداية الألف السابعة والأخيرة من عمر الكون، وهي نفس الفترة التي سيظهر فيها المنقذ الزرادشتي الثالث والحقيقي ساووشيان، في نهاية الألف الحادية عشرة وبداية الألف الثانية عشرة، وهي الفترة الأخيرة من عمر الحياة الدنيوية لدى الزرادشتية، للدخول إلى عالم الخلود اللا متناهي" . كما كانت هناك "نبوءة (ميتراس) الفارسية، التي تجد طريقها عبر التاريخ إلى الفكر السياسي- الديني وتتجلى بـ(ظهور نجم في السماء سوف يقود المجوس إلى مكان مولد المخلص). ومن هنا يشار إلى إن عدداً غير قليل من المجوس قد غادروا بلادهم صوب وطن المسيح ومكان ولادته ليتباركوا به. كتب الأب البير ابونا بهذا الصدد ما يلي: " وهناك من يقول إن المجوس، الذين انطلقوا من بلداننا هذه أو البلاد الفارسية إلى بيت لحم ليكرموا المسيح في ميلاده، أصبحوا رسلاً وبشّروا بهذا الحدث الفريد لدى عودتهم إلى أوطانهم، بعد أن تزودوا ببعض قطع من قمط يسوع الطفل لليُمن والتبرّك."  ثم يواصل طرح هذه المسألة بنقل ما كتبه السيد سليمان البصري في كتابه الموسوم النحلة (دبوريثا) بقوله: "ويذكر سفر أعمال الرسل بين الحاضرين في أورشليم يوم العنصرة " الفرثيين والماديين والعيلاميين وسكان ما بين النهرين..". 
وهنا نخلص إلى الاستنتاج الذي يؤكد أن المسيحية دخلت على بلاد ما بين النهرين وفارس في بداية بروز المسيح وعبر أتباع الدين الزرادشتي، وهي فترة مبكرة بطبيعة الحال.
      

الجماعة الثالثة: الأقوام القاطنة بسوريا وبلاد ما بين النهرين

كل الدلائل المتوفرة لدينا تشير إلى أن الآشوريين والكلدان من بقايا الدولة الآشورية والدولة الكلدانية أولاً، والنبط من سكان العراق، وكذلك سكان دولة المناذرة في الحيرة ثانياً، هم الذين تبنوا الدين المسيحي. ولا نمتلك معلومات عن موقف الكرد من الديانة المسيحية في تلك الفترة، حيث كانت الديانة الزرداشتية هي المنتشرة بين الكرد والفرس، وكذلك الديانة الإيزيدية، بين الكرد الإيزيديين. وإذا كانت الديانة الزرادشتية تبشيرية، فأن الديانة الإيزيدية كانت وما تزال مغلقة على جماعتها بالولادة فقط وليست تبشيرية. وسنحاول في هذه الفقرة البحث في المجموعتين.
أولاً: الديانة المسيحية في حدياب والرها ونصيبين (بلاد ما بين النهرين)   
   
1.   مملكة حدياب (والعاصمة أربل (أربا إئيلو)


حدياب مملكة آشورية رافدينية قديمة نشأت في فترة حكم الفرثيين للمنطقة (249ق.م – 226م)  ، وهي الفترة التي تميزت بصراع شديد ومستمر بين الفرثيين والرومان، وهي الفترة التي يطلق عليها بالحضارة والفترة الهيلينية التي تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الخامس الميلادي. وحدياب تشكل جزءاً من بلاد ما بين النهرين وجزءاً من حضارة هذه المنطقة والأقوام التي عاشت فيها. وهي مملكة أشورية وعاصمتها مدينة أربل (اربا أئيلو) التاريخية (أربيل أو هاولير حالياً)، التي يعود نشوئها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وفيها تلك القلعة الحصينة والشهيرة، قلعة أربيل، التي ما تزال شامخة حتى الأن.
 كانت مملكة حدياب (أدبابيتي-أدبابين- حدة)،  واحدة من ثلاث ممالك نشأت في وادي الرافدين في القرنين الأخيرين قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، وهما: "ميشان (الأحواز) التي نشأت جنوب شرقي العراق وامتدت الى الخليج العربي حتى مدينة العمارة الحالية، والتي أقيمت في المملكة السلوقية الاغريقية، ثم حطرا (الحضر) التي برزت في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد."   
كانت مملكة حدياب تتسع مساحتها وتتقلص على حسب وضع الأشوريين في الحكم وقدرتهم في الدفاع عن المناطق التي كانت تحت سيطرتهم، فأحياناً كانت تصل إلى مناطق في سوريا، وأحياناً تتقلص وتقتصر على أربيل والمناطق المجاورة لها. وكانت حدياب، ومعها العاصمة أربيل، موطناً لعدد من الأقوام مثل الآشوريين والگوتيين والميديين والسريان والعبرانيين المسبيين عبر الحروب السابقة وغيرهم.
شهدت هذه المملكة والمنطقة عموماً الكثير من الإمبراطوريات التي حكمتها، وكان سكانها القدامى يومنون بالعديد من الديانات المنتشرة حينذاك، ومنها الوثنية والزرادشتية والإيزيدية واليهودية، وفيما بعد، وصلتها المسيحية عبر سوريا كجزء من المملكة البيزنطية، وبالتحديد من أنطاكيا. دخلت الديانة المسيحية إلى هذه المملكة في القرن الأول الميلادي، وسبقت بذلك بقية مناطقة بلاد ما بين النهرين، ومنها انتشر الدين المسيحي إلى مناطق أخرى باتجاه إيران أو جنوب بلاد ما بين النهرين. وأصبح الدين المسيحي في هذه الفترة وقبل مجيء المسلمين العرب، الدين الأول المنتشر في سائر أرجاء المنطقة. وكان الدين اليهودي هو دين العائلة المالكة ودين جزء مهم من سكان حدياب. ويمكن أن يكون هذا أحد الأسباب الذي سهّل انسياب الدين المسيحي إلى الناس، إذ كان اليهود ينتظرون المخلَّص، على وفق ما جاء في كتبهم الدينية، وعلى الأقل في الفترة الأولى وقبل بدء بروز التمايز النسبي بين الدينين.
 تؤكد المصادر المتوفرة لدينا إلى أن الرسول توما هو الشخصية الأولى التي بشرت بالمسيحية في بلاد ما بين النهرين حين كان في طريقه إلى الهند، حيث وعظ وبشر هناك، وعاش فيها إلى أن توفي فيها. وهو واحد من الأثني عشر،  وضمن السبعين رسولاً من رسل عيسى المسيح. أما الرسول مار أدي فهو واحد آخر من السبعين رسولاً، الذي استقر ببلاد ما بين النهرين وبشر بالمسيحية، وكان معه تلاميذ ورسل آخرون للمسيح، ومنهم أجاي وماري، وهما تلميذا الرسول توما أيضاً. وقد تكرست هذه الرؤية في القرن الرابع الميلادي في ضوء التقليد السرياني. ويبدو إن الرسول الأول الذي جاء وكرس المسيحية كدين جديد إلى هذه المنطقة وإلى ميشان وطيسفون هو أدي، حيث أمكنه إقامة أول كنيسة مسيحية في كوخي في مدينة جديدة هي (رومية أو ماحوزا) ، وهي على مقربة من عاصمة الفرثيين طيسفون (موقع طاق كسرى الحالي). كما أقيمت "مدينة أخرى وكنيسة على مقربة من اربيل (ماحوزا)، والثالثة وهي مدينة جنديشابور التي سماها السريان (بيت لافاط)، أي دار الإحزان، لأنهم اقتلعوا من أرضهم وجاءوا بهم الى منطقة ميشان (الاحواز)."
           
1.   الرها (أورهاي) المدينة التاريخية

تشير الكثير من المصادر التاريخية التي بحثت في الفترات التي سبقت ميلاد المسيح وما بعدها إلى إن مدينة الرها قد وجدت قبل 2000 عاماً ق.م، أي مع بداية قيام الحكم الآشوري في مدينة آشور، حيث أعلن الملك "بوزور آشور الأول" في العام 2000 ق.م قيام المملكة الآشورية المستقلة. وقد اقترن نشوئها بضعف حكم أسرة أور الثالثة، وبدأ معه التوسع الآشوري. ويشار إلى إن اسم هذه المدينة في العهد الآشوري الأول أدما Adma، أو أدمومAdmum ، التي لم تكن بعيدة عن مدينة حران، ولم تكن حينذاك ذات أهمية كبيرة بالنسبة للآشوريين. كما أشير إلى إن هذه المدينة كانت موجودة في زمن النبي إبراهيم الخليل، وأن الذي بناها هو الملك نمرود . لقد حكمت هذه المدينة جميع الممالك التي تأسست بسوريا أو ببلاد ما بين النهرين، وهي جزء من منطقة شمال سوريا، وواقعة بين نهري دجلة والفرات، وهي أقرب إلى الفرات منها إلى دجلة. كما إنها كانت جزءاً من المملكة البيزنطية. أطلق على مدينة الرها أسماء كثيرة نتيجة وقوعها تحت سيطرة الكثير من الممالك. ففي عهد الملك الأغريقي سلوقس نيكاتور سميت إديسا Edessa، تيمناً بعاصمة مملكتهم المقدونية اليونانية. وقد حافظت على هذا الاسم بين 304 ق.م – 175 م. وفي هذا العام تولى الحكم "الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع إبيفانيوس Antiochus IV Epphanes الذي أولى اهتمامه بالمدينة وأعاد تحصينها، ثم أطلق على مدينة الرها اسم جديد هو Αντιόχεια η επί Καλλιρρò أنطاكية كاليروهي: التي تعني أنطاكية الحسنة المياه." 
وقبل سقوط الدولة السلوقية بفترة وجيزة، وفي العام 132 ق.م، أقامت أسرة الأباجرة السريانية المحلية مملكة أوسروينا، التي عرفت عالمياً باسم The kingdom of Osroene، التي استمرت طوال الفترة الواقعة بين 132 ق.م حتى العام 216 ميلادية، أي 348 سنة.
أصبحت هذه المدينة في فترة حكم الأباجرة مركزاً للغة السريانية الآرامية والفلسفة ومهد الأدب السرياني، وولد فيها الشاعر برديصان، الذي يعتز بها السريان كثيراً حتى الآن. وفي فترة حكم الملك أبجر الخامس أوكاما بن معنو . وفي عهد هذا الملك حصل الاتصال بينه وبين السيد المسيح ونقلت عن هذه الفترة الأسطورة المعروفة التي ورد الحديث عنها سابقاً، والتي حملت صورة المسيح على المنديل ليشفي الملك من مرض كان يعاني منه. وفي عهد الملك أبجر التاسع، أي في الفترة بين 179-2014م، جرى تبني الدين المسيحي. ومنها أصبحت مدينة الرها مركزاً دينياً تبشيراً وثقافيا هاماً للمسيحية السريانية.         
وجدت في هذه الفترة إلى جانب مدينة الرها، التي عكست في ظل الدولة البيزنطية قبل الميلاد وما بعده، التقاليد السورية الشرقية، مدينة انطاكية أيضاً، التي جسدت التقاليد السورية الغربية. وكلا المدينتين أصبحتا فيما بعد مركزاً ثقافيا ودينياً للمسيحية بتقاليدها الشرقية والغربية. ويشار إلى إن الدين المسيحي قد وصل إلى انطاكية أولاً وعبر أحد المبشرين المباشرين الاثني عشر، وكذلك واحد أو أكثر من تلامذة أو المرسلين المبشرين من قبل عيسى المسيح إلى هذه المنطقة، ومنها انطلقوا صوب الغرب، وخاصة إلى روما ليمارسوا الوعظ والتبشير بالدين المسيحي. وكل الكتب التاريخية متباينة في تقديرها للفترة التي دخلت المسيحية إلى الرها والتي اقترن بعضها بأسطورة المنديل الذي حمل صورة المسيح.
ويشير الأب ألبير أبونا في كتابه الموسوم "تاريخ الكنيسة السريانيّة الشرقيّة من انتشار المسيحية حتى مجيء الإسلام"  في الجزء الأول منه حول وصول المسيحية إلى الرها إلى إنه موضع بحث ونقاش، وأن ليس هناك ما يؤكد ولوجها في القرن الأول الميلادي مع الرسل الذين انطلقوا من بيت لحم للوعظ والتبشير. ويعتمد في تقديره لفترة دخول المسيحية إلى الرها على التقاليد المتبعة في الكنيسة السريانية وبحدود القرن الرابع الميلادي، حيث أصبحت بعدها أحد أبرز مراكز الدين والثقافة السريانية الشرقية. والدراسات التقليدية للكنيسة السريانية الشرقية تؤكد بأن ثم رسل قاموا بالوعظ والتبشير في الرها وبلاد ما بين النهرين، ويشيرون هنا إلى أدي وأحي وأجاي وماري.         
ويشير الباحث أفرام عيسى يوسف إلى أسلوب أخر في وصول أفكار الدين المسيحي إلى هذه المنطقة وانتقالها منها إلى مناطق من بلاد  ما بين النهرين فكتب في كتابه الموسوم "المسيحيون في بلاد الرافدين تاريخ مجيد ومستقبل مجهول" إلى ما يلي: تشير "تقاليد الكنيسة الشرقية ... بأن الدين الجديد قد انتشر عن طريق التجار القادمين من القدس الذين اتجهوا نحو الرها عاصمة مملكة أسروينا، التي كانت تشكل منطقة محاذية لأرمينيا. فكان هؤلاء التجار ينقلون بقوافلهم البضائع والتوابل والأنسجة والعطور وأعمال الفخار وينشرون أثناء تجوالهم وترحالهم الأفكار الجديدة بين السكان."   



مدينة نصيبين


تشير المصادر التاريخية إلى أن هذه المدينة كانت واحدة من مدن بلاد ما بين النهرين العامرة ببساتينها وجنانها، وهي تقع في منطقة الجزيرة "على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان". وكان السريان المسيحيون يسمون المنطقة الممتدة بينها وبين نهر دجلة بيت عربايا."  ، وتقع على نهر جغجغ، أو چقچق، أحد روافد نهر الخابور الذي يصب في نهر الفرات.
شهدت هذه المدينة الكثير من الإمبراطوريات القديمة وعرفت حضاراتها وجرى التلاقح الثقافي فيها. فقد كانت مدينة أشورية، ثم بابلية، ومن ثم وفارسية، ثم احتلها الإسكندر المقدوني، وكذلك من السلوقيين, ثم الفرثيين، حيث بدأ فيها العهد المسيحي. ومن ثم جاء إليها الرومان واحتلوها وحكموا المدينة من عام 195م إلى حين دخول الإمبراطور الروماني سبتموس سفيروس، الذي أطلق عليها اسم عاصمة ولاية ميزوبوتاميا، واستمر الحكم الروماني فيها حتى العام 363م. وخلال هذه الفترة تعرضت مدينة نصيبين للصراعات والمعارك العسكرية بين الرومان والساسانيين التي انتهت في العام 363م لتقع غنيمة بأيدي الساسانيين الفرس.
أطلق على هذه المدينة السريانية الجميلة قلعة الشرق أيضاً، ولكن تعرض أهلها السريان إلى الاضطهاد والتهجير باتجاهات عدة، ووجد الكثير منهم نفسه مجبراً على الهجرة القسرية إلى مدينتي آمد والرها بحدود العام 200م. ويشير الكاتب المصري د. سليم نجيب، رئيس الهيئة القبطية الكندية، إلى ما جرى على السكان من جانب الكنيسة البيزنطية في نصيبين، بما يلي:  بعد انقضاء مجمع خلقيدونية  آثار الأباطرة البيزنطيين اضطهادات عنيفة ضد كل من رفض صورة إيمان ذلك المجمع وكأنه يرفض الخضوع للإمبراطور نفسه إذا ما رفضها وتلك الصورة تقول أن للمسيح طبيعتان إلهية وإنسانية، بلا اختلاط ولا تغيير، وبلا انقسام ولا انفصال. وصورة الإيمان هذه تشبه في جوهرها إيمان رافضي مجمع خلقيدونية من السريان الأرثوذكس وغيرهم ولكن مسألة الخلاف بالدرجة الأولى كانت مسألة صيغة، إذ إنّ اللاخلقيدونييّن يكتفون بعبارة "طبيعة" واحدة كما استعملها كيرلس الأول (القرن الخامس)، ويرفضون الصيغة الخلقيدونيّة (طبيعتان). ولكن كانت كل تلك التهم والاختلافات اللاهوتية غطاء لفرض سيطرة المحتل البيزنطي، والذي أذاق أبناء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية صنوف التعذيب الذي طال حتى كبار رجال الدين عندهم فقتل البعض ونفي البعض الآخر وتشرد الكثيرين منهم في كل مكان ولم يبق لتلك الكنيسة عام 544 م سوى ثلاثة مطارنة (أساقفة). أما الأب ألبير أبونا فيشير إلى هذا الاضطهاد، وتحت عنوان "برصوما المضطهد"، بما يلي: "إلا إن برصوما أصبح عرضة للطعن وبولغ في قساوته حتى قيل إنه قتل أكثر من سبعة ألاف منوفيزي"، ولكنه يضيف نقلاً عن ماري قوله: "طلب فيروز الملك اليعاقبة وقتلهم وقتل منهم بتكريت خلق وتمجّس الباقون... وقتل من اليعاقبة في شرقي الموصل خلق".
منذ القرن الرابع الميلادي تطورت مدينة نصيبين، والتي كانت تدعى "نصيبينا" أيضاً، لتصبح مدينة تجارية تدير المبادلات التجارية بين بيزنطة وفارس من جهة، وولكنها أصبحت مدينة علوم اللاهوت والفلك والفلسفة والرياضيات والترجمة من جهة ثانية، إذ كان التدريس في مدرستها الشهيرة، مدرسة أو جامعة نصيبين باللغتين السريانية واليونانية. وسميت مدرسة السريان بـ "أم العلوم"، وكان يؤمها الطلبة من مختلف المناطق المجاورة، كما أصبحت مدينة الأدب والشعر أيضاً. فقد عرفت المدينة الكثير الأدباء والشعراء، منهم مثلاً وفي مقدمتهم الأديب والناثر والشاعر أفريم السرياني بحدود العام 306م.
كان المذهب النسطوري هو السائد فيها بإدارة وإشراف الأسقف برصوم، المعروف بالفارسي، الذي كان قد عين أسقفاً على بلاد ما بين النهرين. ويقال أنه كان قاسياً لمن كان يعارضه في مذهبه، وأنه المسؤول عن موت ما يتراوح بين 7-8 ألاف راهب وكاهن، على وفق ما جاء في كتاب مار ميخائيل الكبير.  ويبدو أنه قد واجه معارضة من الأسقف فيلكسينوس الذي عارض النسطورية  وقاد ذلك إلى انقسام المسيحيين إلى النسطوريين والمنفوزيين أو اليعقوبيين.  وقد أطلق على ميخائيل بالفوضوي أو المشاغب.         
تشير المصادر إلى إن هذه المدينة كان اسمها القديم أكاد التاريخية، كما ورد في سفر التكوين، والتي يشار إلى إن الملك نمرود هو الذي بناها وبنى الرها أيضاً. لقد أصبحت نصيبين، ومعها الرها ومدن أخرى مهداً للسريان والمسيحية، ومنها وصلت المسيحية إلى وادي الرافدين وانتشارها الواسع في أغلب المدن الرافدينية القديمة والتي سنأتي عليها لاحقاً، إضافة إلى بلاد فارس.


4. مملكة الحيرة

تشير بعض المراجع والمصادر التاريخية التي بحثت في تاريخ مملكة الحيرة، إلى إن هذه المدينة أقيمت في موقع قريب من النجف الحالية  أثناء حكم الملك الكلداني نبوخذ نصر الثاني التي امتد وجودها بين 562 ق.م – 604م، أي في العصر البابلي الحديث، بعد أن اكتشفوا مخلفات مادية يعود تاريخها إلى العصر البابلي.  كما إن التنقيبات الحديثة في هذه المنطقة من العراق قد كشفت بأن هذه المدينة قد أصبحت عاصمة لمملكة اللخميين (أل لخم)، وهم تنوخيون أيضاً قدموا إليها من اليمن، وقيل أنهم جاءوا إلى الحيرة من البحرين، وهم من سلالة عربية. ويطلق على أل لخم أسماء أخرى مثل أل نصر، وآل النعامنة, والمناذرة وآل محرق. ويشير البعض إلى أن تنوخ تعني تحالف قبائل عدة، في حين يرفض الدكتور جواد علي هذا التفسير ويعتبر تنوخ اسم علم، وهو اسم لقبيلة بعينها.  وجاء في كتاب "العراق في التاريخ" بصدد هذا الموضوع ما يلي: "ولقد أجمع المؤرخون، اعتماداً على المصادر العربية، أن سكان الحيرة كانوا يشكلون تآلفاً من ثلاث مجاميع بشرية، هم: 1- تنوخ: النازحون من

433
كاظم حبيب
من المسؤول عن ضحايا الكرادة وغيرها بالعراق؟
من المعتاد ان يؤكد الجميع بأن المسؤول الأول عن ضحايا الكرادة الشرقية ببغداد وضحايا عموم العراق، سواء أكانوا شهداء أبرياء، أم جرحى ومعوقين، نرجو لهم الشفاء العاجل، هم الإرهابيون الداعشيون القتلة. ولأول وهلة يبدو وكأن التشخيص صحيح، ولا لبس فيه! وواقع من الشهداء والجرحى والمعوقين الذين يسقطون يومياً، وعن الخراب الواسع والدمار الجاري بالعراق منذ سنوات؟ علينا أن نجيب عن هذا السؤال بصدق وبكل شفافية ووضوح.
إن المسؤول الأول عن كل الجرائم التي ترتكب بالعراق، ومنذ سنوات، هو النظام السياسي الطائفي الرث والمتشدد السائد بالعراق، إنها الحكومة العراقية القائمة على المحاصصة الطائفية منذ قيام مجلس الحكم الموقت حتى الآن، إنها الأحزاب السياسية الإسلامية والقومية التي تقود أو تشارك في هذه الحكومة المشوهة منذ أول حكومة في العام 2005، إنها الشخصيات السياسية الرثة التي شاركت وباركت وتبارك وجود حكومة طائفية ومحاصصة ارتكب ويرتكب فيه من جرائم وآثام بحق الشعب العراقي.
والسؤال المشروع هنا هو: لِمَاذا هذا التشخيص للحالة العراقية؟ اليكم باختصار رؤيتي لهذا الموضوع الحساس والمهم، والتي لم ولن أكف عن تأكيدها، إذ أنها تشكل جوهر المأساة والمهزلة الجارية بالعراق منذ نيف وعقد من السنين.
العراقيات والعراقيون، وكذا الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، يدركون بأن القوى الإرهابية كلها، سواء أكانت القاعدة، أم الميلشيات الطائفية المسلحة السنية الأخرى أم الشيعية، لم تنشأ إلا لغرض القتل والتخريب والتدمير وإشاعة الفوضى في كل مكان، وبالتالي فأن مهمتها الأولى والأخيرة هي القتل على أوسع نطاق ممكن، وهو التخريب والتدمير الشاملين. وإن لم يمارسوا ذلك، عندها ينتفي وجودهم بالعراق أو بغير العراق. إنها المهمة الأولى والأخيرة لهذه القوى المجرمة التي تجد الدعم والتأييد داخلياً وإقليمياً ودولياً بصورة كثيرة ولأغراض عديدة. وهي تعمل على استثمار كل ثغرة ممكنة لتنفذ منها وتمارس مهمتها، مهمة القتل التي جاءت من أجلها. والنظام السياسي الطائفي القائم بالعراق يفتح للقوى المجرمة، بوجوده الطائفي أصلاً وبسياساته وإجراءاته وعلاقاته الداخلية والخارجية وفساده السائد، ألف ثغرة وثغرة لتنفذ منها وتمارس مهمتها الشائنة.
إن المهمة المركزية والرئيسية لأي نظام سياسي بالعالم هي حماية المواطنات والمواطنين من كل الأخطار المحتملة. فهل استطاع النظام السياسي الطائفي القائم الشعب العراقي من شرور هذه العصابات الإجرامية المتوحشة؟ كل الدلائل التي يقدمها الوضع بالعراق، منذ قيام أول حكومة عراقية بعد سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة حتى الآن، تؤكد بأن هذه الحكومات عجزت كلية عن حماية الشعب العراقي، بل وفرطت باستقلال البلاد وسيادته وسمحت للغزاة الجدد باحتلال جزء من العراق وممارسة الإبادة الجماعية ضد سكانه، لأنها كانت مشغولة بالحفاظ على وجودها في السلطة بغض النظر عما يحدث للشعب الجريح والمستباح، ولأنها كانت مشغولة بصراعاتها الداخلية على السلطة والمال والنفوذ، ولأنها كانت لاهية بنهب خيرات البلاد وتجويع الشعب وإذلاله. فالجريمة ما كان لها أن تنجح وتحقق أهدافها، لو كان النظام السياسي قادراً على مواجهة المجرمين ومنعهم من ارتكاب جرائمهم يومياً بقتل مئات آلاف العراقيات والعراقيين خلال الفترة المنصرمة.
هكذا يفترض أن ننظر إلى الحالة العراقية، وهكذا تنهض أمام المجتمع العراقي مهمة تغيير هذا النظام والبدء بإصلاح سياساته وإجراءاته وعلاقاته الداخلية والخارجية، وخاصة علاقاته مع المجتمع، والكادحين منهم على وجه الخصوص. فالعراق بحاجة إلى دولة مدنية وليس دولة دينية، والعراق بحاجة إلى نظام سياسي مدني علماني، وليس إلى نظام رث يدمج الدين بالدولة والسياسة، ويمارس التمييز بين اتباع الديانات والمذاهب وبين القوميات وبين الاتجاهات الفكرية والسياسية، ويميز بين المواطنين والمواطنات على أساس هوياتهم الفرعية القاتلة، ويدوس بأقدامه على هوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية والمشتركة، العراق بحاجة إلى نظام سياسي نظيف وأمين وليس إبلى نظام فاسدٍ ومفسدٍ وتابعٍ لأجندات خارجية بعيدة عن الأجندة الوطنية العراقية ومناهضة لها.
إن على الحراك الشعبي المدني أن يواصل تظاهراته ومطالبه المشروعة والعادلة في التغيير وفي ممارسة الإصلاح الجذري لكل ما هو سائد وفاسد اليوم في السلطات الثلاث وفي جميع مؤسسات المجتمع، وإن مطالبة الحكومة الطائفية بإيقاف هذه التظاهرات ليست سوى استجابة للقوى المناهضة للتغيير والإصلاح الجذري التي تقود الحكومة عملياً.   
14/7/2016

       

      

434
كاظم حبيب
قضايا ملتهبة تستوجب الحل لتأمين الوحدة الوطنية
أولاً: الحرب ضد الدواعش ومن معهم
إن القوات المسلحة العراقية بكل صنوفها، وقوات الپيشمرگة كجزء منها، والمتطوعين النشامى، تخوض مجتمعة كفاحاً مسلحاً عنيداً ومظفراً ضد أعداء الشعب والوطن، حرباً ضد الدواعش المتوحشين القتلة، ضد عصابات الغدر والجريمة، ضد الذين مارسوا جرائم الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان ومسلمين عرب بمحافظة نينوى، وكذلك بالأنبار وصلاح الدين وغيرهما، والذين مارسوا جرائم محو الذاكرة الحضارية للعراق الحبيب بتهديم ما تركه الأسلاف من معالم حضارية رائعة تعتبر كنزاً ثميناً للبشرية كلها. وسير المعارك الجارية يشير إلى قدرة هذه القوات المشتركة على سحق هذه العصابات وطرد بقاياها من أرض العراق التي دنستها، سواء قصر الوقت أم امتد قليلاً إلى حين تحرير الفلوجة والموصل الحدباء من هؤلاء الصعاليك الأوباش. إن الانتصارات على جبهات القتال لا تتم إلا بتقديم الكثير من الضحايا العزيزة على كل إنسان شريف بالعراق، الكثير من الشهداء والجرحى والمعوقين، والكثير من دموع الأمهات الثكالى والأخوات والأبناء والبنات، والكثير من الدمار والخراب. إنها ضريبة التحرر والانعتاق، ضريبة الحياة الحرة.
إلا إن الحفاظ على هذه الانتصارات والخلاص من آخر تكفيري ومجرم أثيم يتطلب تحقيق ثلاث مسائل لا خيار لنا فيها:
** تحقيق الوحدة الوطنية للشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية في جميع أنحاء العراق. ومن أجل تحقيق هذا الهدف الغالي والنفيس يستوجب تحقيق:
** الخلاص من النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية سلمياً وديمقراطيا، أي يستوجب العمل على التغيير الجذري لمواجهة حقائق الوضع التي لا يمكن تجاوزها، فضياع هوية المواطنة الموحدة والمتساوية، والعمل بالهويات الفرعية القاتلة للوحدة الوطنية، وسيادة الفساد المالي والإداري في عموم العراق، واستمرار الصراع بين الأحزاب الإسلامية السياسية على السلطة والمال والنفوذ بعيداً عن هموم ومصالح وإرادة الشعب وحاجة الوطن المستباح في جزء منه بجرائم الدواعش المجرمين ومن يماثلهم، تعطل القدرة على الاحتفاظ بالانتصار الدائم والنشود؛
** رفض أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للشعب العراقي، أياً كانت الجهة أو الدولة، إذ إن الدول المجاورة والدول الكبرى تنقل صراعاتها إلى الساحة العراقية، كما تفعل الآن بسوريا.
إن استمرار نظام المحاصصة الطائفية والفساد وغياب الوحدة الوطنية واستمرار من تسبب بكل ذلك دون حساب هي من أبرز الأسباب الكامنة وراء استمرار معاناة الشعب والخسائر الفادحة في الأرواح والأموال والممتلكات والخدمات وكل ما يعاني منه الشعب العراقي حالياً. وإن تأجيل الإصلاح والتغيير والتحايل عليه لن يقود إلا إلى تهديد المكاسب التي تتحقق يومياً في جبهات القتال الواسعة.
ثانياً: مواجهة أوضاع الشعب المعيشية
تشير المعطيات الإحصائية بالعراق إلى ثلاث حقائق جوهرية:
** اتساع مستمر وكبير في الفجوة المالية والمعيشية بين الأغنياء والفقراء، سواء أكان الأغنياء ضمن النخبة الحاكمة أم من العاملين في المضاربات العقارية والمالية والمصرفية والعقود الحكومية، أم عبر أشكال أخرى من الفساد والسحت الحرام لهؤلاء معاً. وتعيش اليوم نسبة عالية من صغار ومتوسطي الموظفين والعاملين في أجهزة الدولة دون رواتب لأشهر عديدة أو بجزء ضئيل منها، والذي سيقود إلى مزيد من التذمر والاحتجاج ورفض الواقع القائم.
** اتساع مستمر وكبير في قاعدة الفقراء والمعوزين والأشد فقراً، وشمولها لأوساط جديدة من فئات البرجوازية الصغيرة وغياب الفئة المتوسطة تقريباً. في حين يزداد غنى الأغنياء من السحت الحرام.
** تراجع شديد ومستمر في الخدمات الاجتماعية، وخاصة للفئات الكادحة والفقيرة، التي تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في حين تتمتع الفئات الغنية بما حرمت منه الفئات الفقيرة.   
وهذه الظواهر الصارخة لا تقود إلى وحدة الشعب بأي حال، بل إلى مزيد من التناقض والصراع والنزاع الداخلي، وهو ما يميز الوضع الراهن بالعراق. وهو الواقع المكمل لظاهرتي المحاصصة الطائفية والفساد. 
ثالثاً: الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم
ليس هناك من عاقل، كما أرى، يمكنه أن يرمي بمسؤولية الخلافات على طرف واحد، سواء أكانت الحكومة الاتحادية أم حكومة الإقليم، فكلاهما، وبهذا القدر أو ذاك، مسؤول عما وصلت إليه العلاقات المتدهورة بينهما. والتعقيدات المقترنة بها ناشئة بالأساس من إصرار الطرفين على الالتزام بالنهج الطائفي الأثني في حكم البلاد وبالمحاصصة الطائفية في توزيع المناصب في سلطات الدولة الثلاث، إضافة إلى تعطيل عمل مجلس النواب العراقي ومجلس النواب بإقليم كردستان العراق، بعيداً عن الشرعية الدستورية والحيا الديمقراطية.
إن العودة إلى العقل والحكمة يتطلب أولاً وقبل كل شيء الابتعاد عن نظام المحاصصة الطائفية والأثنية في توزيع سلطات الدولة العراقية والالتزام بمبدأ المواطنة، ويتطلب ثانياً الالتزام بالشرعية الدستورية والديمقراطية في الحكم والتداول السلمي والديمقراطي للسلطة في دولة مدنية ديمقراطية علمانية وإقليم ديمقراطي علماني، وهو الغائب حالياً على مستوى الدولة الاتحادية وعلى مستوى الحكم بالإقليم. والتغيير الجذري ومحاربة الفساد والالتزام بالديمقراطية كفلسفة وأدوات حكم هو السبيل الوحيد لإصلاح الوضع وإعادة العلاقات السوية بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. إنه الحاجة الملحة لا للانتصار على داعش وطرد هذا التنظيم الإجرامي من البلاد كلها فحسب، بل والحفاظ على الانتصارات وتأمين التقدم بالعراق كله، ومعه إقليم كردستان العراق.       


435
كاظم حبيب
قادة البيت الشيعي يسترخصون دماء الشعب!
!"، تلطخت يداه بدماء الشعب العراقي، رئيس الوزراء الجديد يلتحق برئيس الوزراء السابق بهدره دماء الشعب، دماء المتظاهرين سلمياً، بغض النظر عن خطأ اقتحام المتظاهرين لـ"وكر الثعالب والذئاب" ببغداد. "ونقلت وكالة "المدى برس" عن مدير دائرة صحة الرصافة السيد عبد الغني السعدون، إن "... الإصابات بين صفوف المتظاهرين الذين اقتحموا المنطقة الخضراء ارتفع الى 500 شخص"، مبيناً ان "معظم الإصابات تمثلت بحالات الكسور والاختناق، فضلاً عن الاحتكاك بالأسلاك الشائكة".  ولم يعلن رسمياً عن وجود وفيات حتى الآن!
نحن أمام حالة نوعية جديدة من الممارسات الحكومية التي يقودها العبادي، وهي تذكرنا بالممارسات الفاشية والعدوانية الطائفية التي مارسها رئيس الوزراء السابق ضد المتظاهرين والمطالبين بتحسين الأوضاع والخدمات العامة، وخاصة الكهرباء، ومكافحة الفساد والإرهاب ببغداد والفلوجة في أعوام 2011 و2013 و2014. نحن أمام إعطاء رئيس الوزراء العراقي "الجديد" الأوامر الحاسمة للقوات الأمنية العراقية بتوجيه أسلحتهم إلى صدور المتظاهرين العزل، إذا ما اقتحموا البوابات المحرمة، دون أن يطلب منهم الدخول بحوار ومفاوضات مع المتظاهرين لإقناعهم بتسليم مطالبهم لأجهزة الأمن لإيصالها إلى رئيس الوزراء. ولو لم يكن لدى هذه القوات أوامر واضحة من رئيس الوزراء باستخدام الرصاص الحي والرصاص المطاطي وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، لما تجرأت أجهزة الأمن وصوبت نيرانها إلى صدور وظهور المتظاهرين، ولما سقط هذا العدد الكبير من الجرحى، واصابات بعضهم خطيرة خلال ساعات قليلة من وجود المتظاهرين امام بوابات الأوكار السيئة الصيت للنخب الحاكمة العراقية الجبانة التي تخشى السكن مع  أبناء وبنات الشعب وتحمي نفسها بأسوار وألاف رجال الأمن، وتترك الشعب يُقتل بعمليات الانتحاريين الجبناء والعربات المفخخة، في حين تنام تلك النخب الحاكمة مع أفراد عائلاتهم بحماية تلك الأوكار وقوى الأمن الداخلي.
لم تكن مسؤولية المتظاهرين ما حصل يوم الجمعة المصادف 20/5/2016 ببغداد، بل إن ما حصل يقع على عاتق رئيس السلطة التنفيذية أولاً وقبل كل شيء، ومن ثم السلطة التشريعية والسلطة القضائية، لأنها تنكرت لما وعدت به الشعب، إذ ينطبق عليها قول الشاعر،
مواعيد عرقوب لها مثلاً                 وما مواعيدها إلا الأباطيل
نحن أمام إصرار قادة البيت الشيعي الخرب، وقادة ميليشياتهم الطائفية المسلحة، وهم الأكثر طائفية وتمييزاً وإساءة لهوية المواطنة، الذين اجتمعوا وقرروا الإصرار على المحاصصة الطائفية المذلة لبنات وأبناء الشعب، والتي يرفضها المتظاهرون والمعتصمون ويصرون على عملية التغيير الجذرية للنظام الطائفي الذي دفع البلاد إلى المستنقع المتعفن الراهن. لقد فقد البيت الشيعي مصداقيته أمام الشعب العراقي منذ اليوم الأول لوجوده، ولولا حماية ورعاية المرجعية الشيعية لهم ودعوتها الشديدة لانتخابهم، واعتبار من لا ينتخبهم "خارج عن الدين والمذهب!"، لما بقي هؤلاء في البرلمان أو في الحكومة العراقية. ولكن المرجعية تحدثت وما تزال تتحدث بلسانين يخطئان الهدف، لسان لإقناع المتظاهرين بأن المرجعية الشيعية معهم، ولسان آخر يقول للحاكمين المستبدين "سيروا على بركة الله ونحن معكم!". وهاهم يتلقون الدعم والتأييد من المرشد الإيراني الأعلى الذي يسعى لإعادة رئيس الوزراء السابق إلى رئاسة السلطة التنفيذية بأي ثمن حتى وأن تطلب الأمر سقوط المزيد من الضحايا العراقيين. من حقنا أن نقول وبصراحة بـ "أن الحكومات العراقية المتعاقبة التي يرأسها أعضاء من التحالف الوطني هم طيارات ورقية خيوطها بيد خامنئي وحوزته بإيران!" والعذر للرفيق فهد (يوسف سلمن يوسف الذي قال عن حكومات العهد الملكي ما يلي: "الحكومات العراقية المتعاقبة طيارات ورقية خيوطها بيد سميث وآل سميث".
نحن أمام تطور جديد يزداد خطورة، أمام احتمال حصول صدام بين المليشيات الطائفية المسلحة، التي تعرض حياة المزيد من أبناء وبنات الشعب إلى الابتزاز والقهر والموت المحتم. إن رئيس الوزراء الحالي ليس برجل الساعة، بل هو من المجموعة الضالة ذاتها التي تتحكم بالسلطة والمال والنفوذ، تتحكم بالشعب المستباح، منذ ثلاث عشر سنة والتي سلمت ثلث للبلاد إلى المحتلين المجرمين الدواعش ونهبت الأموال وجوعت الشعب، فهو ما يزال يعمل تحت أمرة رئيس حزبه، رئيس الوزراء السابق.
الناس بالعراق غير بعيدين من احتمال ارتكاب جرائم جديدة باسم الدفاع عن الوطن ضد الفوضى والاندساس، ودعماً لجبهة المعارك ضد الدواعش! إنها الحيلة الخبيثة التي يلجأ إليها كل من يسعى على التسويف في ما وعد به الشعب من إصلاح وتغيير ورفض الطائفية السياسية.
إن على قوى المجتمع المدني الديمقراطي، على قوى الحراك المدني الشعبي، أن تنتبه لما يراد للمظاهرات السلمية والمدنية التي تنتظم أيام الجمعة منذ أغسطس/آب ا2015، المظاهرات التي تطالب سلمياً ودون التجاوز على مؤسسات الدولة، بعملية إصلاح وتغيير جذريين للنظام الطائفي الحاكم ومحاصصاته المذلة، إذ إن قوى معسكر النخب الحاكمة تنتظر حصول صدام بين المتظاهرين والمعتصمين من جهة وقوى الأمن الداخلي من جهة أخرى، لترفع الحظر عن توجيه الضربات لها. فهناك في معسكر الحكومة من يريد ذلك ليجهز على الحراك المدني الشعبي وتصفيته. إنها مؤامرة قذرة يفترض الانتباه لها وعدم الانجرار وراء أعمال مغامرة لن تنفع سوى النخب الحاكمة الفاسدة والفاشلة والمصابة بالفاقة الفكرية والسياسية والمبتعدة كلية عن نبض الشارع، والساقطة في نبض المصالح الأنانية الضيقة المناهضة لمصالح الشعب.           



436
كاظم حبيب
الفقر والجهل والمرض منتجات اللاديمقراطية والاستبداد!
من يدرس تاريخ العراق في فترة الحكم العثماني (العصملي)، يتبين له بسهولة كبيرة إن هذه المنطقة، باعتبارها كانت جزءاً من الدولة العثمانية بولاياتها الثلاث (بغداد والبصرة والموصل)، كانت تعاني بشدة وشمولية من آفات ثلاث هي الفقر والجهل والمرض في أوساط الشعب أو "الملة"، إضافة إلى الفساد وزرگات الجندرمة الوحشية على المدن والأرياف والاستغلال البشع للسكان، وكانت هي السمات المميزة لحالة الناس في هذه الولايات. كان هذا هو السائد في الوقت الذي لم يكن العراق، كشعب وأرض وثروات، فقيراً، رغم سيادة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية وتخلف القوى المنتجة المادية والبشرية. لقد كان النظام العثماني يلهب ظهر الشعب العراقي بالسياط ويسرق أمواله وينهب خيراته ويستغل ببشاعة شعوب هذه المنطقة بلا رحمة. وكانت المؤسسة العشائرية والمؤسسات والمرجعيات الدينية هي المهيمنة، بتقاليدها وعاداتها البالية وقيمها القديمة وتفسيرها البعيد عن روح العصر للقرآن والسنة، على عقول الناس وأفئدتهم، ودافعة إياهم إلى الغوص بالغيبيات لينسوا واقعهم المر وجحيمهم الدنيوي. لقد كان هناك تحالف مصلحي بين كبار ملاك الأراضي وشيوخ العشائر من جهة، والمؤسسات والمرجعيات الدينية من جهة أخرى، وكان هذا التحالف موجهاً ضد كادحي الريف على نحو خاص، وضد التقدم. 
لقد كانت الأوبئة والأمراض والفيضانات والمجاعات ونقص العناية الصحية والأدوية المطلوبة قد التهمت الكثير من البشر، وخاصة الأطفال وكبار السن والمرضى. ولعبت الأمية السائدة، أمية القراءة والمعرفة والمعلومات، وكذلك الفقر المدقع، دورها في جعل الإنسان، في ظل قمع الجندرمة والقضاء القرقوشي، عاجزاً عن التفكير بعقلانية للخلاص من هذه الأوضاع المريرة. فالركض وراء توفير لقمة العيش كان لا يسمح للفرد بغير ذلك، إذ كان مشغولاً بالركض الدائم وراء رزقه وتحمل سياط الإقطاعيين ... وكان رغم كل ذلك عشاء الفلاحين "خبازا" لا غير، كما يقول المثل الشعبي العراقي. لقد كان النظام العثماني الثيوقراطي جائراً وفاسداً وإرهابياً ضد الكادحين والمنتجين في الريف والمدينة. وقد خضع العراق لهذا النظام قرابة 400 سنة، تميزت بالجدب واليباب والخراب، ولم تعد للعراق في هذه الفترة أي علاقة تشده بتراثه الخالد، تراث السومريين والبابليين والآشوريين، ولا حتى مع التراث العباسي في القرن العاشر الميلادي، أي الرابع الهجري مثلاً.
وحين انفتحت أبواب الحضارة الغربية الحديثة أمام العراق وشعبه، بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وانتصار الحلفاء، سعت بريطانيا المحتلة، ومعها حكام العراق، إلى غلق الكثير من تلك الأبواب والنوافذ ليبقى الهواء فاسداً يخنق رغبات التقدم عند الناس. ومع ذلك تركت قوى الاحتلال مواقع رخوة قليلة تنفذ منها نسائم المدنية والحرية في ظل النظام الملكي، ومنها وجود دستور مدني وحكومة عراقية، وأن كانت ترطن، كما قال عنها شعلان أبو الچون، وتعليم مدني ومكافحة الأمية ودخول المرأة في التعليم، ومكافحة الآفات والأمراض والفقر بحدود ضيقة جداً، ولكنها كانت مهمة. وبرزت في البلاد فئة مثقفة وأخرى متعلمة وطبقة عاملة وبرجوازية صغيرة ومتوسطة، كما برزت بعض منظمات المجتمع المدني، بما فيها بعض الأحزاب السياسية، التي لم تبن على أساس ديني أو مذهبي، رغم تكريس الدستور الجملة الخاطئة "الإسلام دين الدولة"، كما كان المذهب السني يعتبر المذهب الرسمي لها، وهي الدولة التي لا دين لها ولا مذهب، لأنها شخصية معنوية لا غير. وبالمناسبة فالعشق لا دين له، كما عبر عن ذلك جلال الرومي، ولا مذهب له ايضاً. وفي ظل الملكية بقيت العلاقات الإنتاجية شبه إقطاعية هي السائدة، كما كان قانون العشائر فاعلاً بجوار الدستور والقوانين المدنية الحديثة، كما كانت هيمنة العشائر والمؤسسات والمرجعيات الدينية هي المؤثرة والفاعلة في المجتمع، رغم تقلص نفوذها بسبب العلمانية التي التزم بها الحكم عملياً، مع ضعف شديد في ممارسته للديمقراطية. وكان خنق الديمقراطية سبباً في إعاقة الخلاص من الآفات الثلاث تماماً. فكانت الانتفاضة العسكرية لعام 1958، إذ برزت دلائل تشير إلى بشائر مكافحة هذه الآفات والتحول صوب المدنية والديمقراطية وتصنيع البلاد وتغيير بنية المجتمع ووعيه. ولكن الانتفاضة أجهضت في مهدها ولم تتحول إلى ثورة شعبية، إذ تم إسقاط الجمهورية الأولى بانقلاب شباط، ليعود الثلاثي المريع إلى الساحة مستنداً إلى أكثر دول العالم تقدماً وادعاءً زائفاً بنشر الحرية والديمقراطية بالعالم، إلى الولايات المتحدة التي ساهمت في التنظيم والتخطيط والتنفيذ لأبشع انقلاب فاشي دموي بالعراق، انقلاب شباط/فبراير 1963 بقيادة البعثيين والقوميين الناصريين. فسقط العراق، على امتداد الفترة الواقعة بين 1963-2003 في قبضة الدكتاتورية والذهنية الشوفينية الغاشمة لحزب البعث العربي الاشتراكي وقادته الذين نسقوا مع الولايات المتحدة وبريطانيا لضرب حركة التحرر الوطني بالعراق والقوى التقدمية واليسارية. ورغم رغم محاربة الجمهوريات الثانية والثالثة والرابعة للفقر والجهل والمرض في فترات قصيرة، فأنها أعادت العراق، عبر الحروب الداخلية والخارجية والاستبداد البشع والقمع الدموي، إلى دوائر الفقر والجهل والمرض من جديد وأشد من أي وقت مضى. وكما عبر عن ذلك وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية جيمس بيكر، قبل نشوب حرب الخليج الثاني 1991، بأن الولايات المتحدة ستعيد العراق إلى ما قبل التصنيع، في حالة عدم انسحاب العراق من الكويت، ولم ينسحب، وهكذا أعيد العراق إلى فترة ما قبل التصنيع، إلى العشرينات من القرن العشرين. وإذا كانت الولايات المتحدة وراء البدء بهذه المرحلة المدمرة في العام 1963، فإنها كانت وراء نهاية هذا النظام البعثي- الصدامي الدموي، ولكنها ايضاً بداية إقامة نظام طائفي مستبد ومحاصصي مقيت في العام 2003، وبهذا قصمت من جديد ظهر العراق، ووسعت من دوائر التخلف الثلاث، الفقر والجهل والمرض وعمقتها وأضافت إليها الاحتلال والفساد والإرهاب والموت والخراب.
هذا هو الواقع، وهذا هو المستنقع، الذي يعاني منه العراق حالياً، وبأشد الحالات سوءاً، مصحوباً بالاحتلال لجزء من أراضيه وبالفساد والإرهاب والتدخلات الفظة من دول الجوار بشؤونه الداخلية!
إذن، أعيد العراق إلى المربع الأول، إلى فترة الهيمنة العثمانية باستبدالها بهيمنة فارسية ثيوقراطية، أعيدت إليه العلاقات العشائرية والمؤسسات والمرجعيات الدينية لتلعب أدوارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولتنشر بصورة مشتركة الفاقة الفكرية، والبؤس الثقافي، والخراب الاقتصادي والبيئي، وتعيد صراعات قرون التخلف والجهل والفقر وما يصاحبها من صراعات طائفية إلى صدارة الموقف، بدلاً من سيادة هوية المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة، بدلاً من التعاون والتضامن والتفاعل بين سكان العراق. وعاد التحالف العشائري مع المؤسسات والمرجعيات الدينية إلى سابق عهده ليمارس الحكم تحت واجهات حزبية إسلامية ذات أصول عشائرية وريفية رثة.   
نحن اليوم، ورغم وجود فئة مثقفة عالية المستوى وواعية لما يجري في أوساط الشعب والنخب الحاكمة ومناضلة لصالح التغيير، أمام عودة ثقيلة للفقر والجهل والمرض إلى صفوف الغالبية العظمى من بنات وأبناء الشعب العراقي، وهي التي تسمح بمرور النخب الحاكمة المتسمة بالرثاثة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتسمح بانطلاء الأكاذيب والوعود الزائفة والزيف والتشوه الديني، على الناس الطيبين، الذين عانوا أكثر من نصف قرن من مرارات النظم المستبدة وغاصوا في الغيبيات علها تنقذهم من الوحل الذي هم فيه!! ولكن هذه النخب الحاكمة غنية بما تنهبه من أموال الشعب وخيراته وبرواتبها التي تفوق رواتب أكبر وأغنى دول العالم، وما تسرقه من تراثه الحضاري وبيعه في الأسواق الموازية، تماماً كما فعل المجرم صدام حسين في العقدين التاسع والأخير من القرن العشرين بشكل خاص. إنها القطط السمان التي اغتنت وسمنت بكروشها المنفوخة على حساب قوت وأمن وحياة الشعب العراقي. إنها المأساة والمهزلة في عراق اليوم، الذي لا يحكم من بغداد، بل من عاصمة أخرى، وتتحرك عواصم أخرى ضد هذا الواقع لصالحها، فتتلاطم الأمواج الهادرة ليتساقط من سفينة العراق، التي هي اليوم في مهب رياح صفراء عاصفة، المزيد من البشر ليغرقوا في أمواج البحر وتلتهمهم الحيتان. إنها الكارثة المحدقة بالعراق وشعب العراق، إنها العلل الثلاث القديمة، هي التي تتآكل الشعب وتجهز عليه وتمتص رحيق حياته وتلفظه مريضاً وجائعاً وجاهلا ومقتولا. إنها الحالة الراهنة. وما تزال النخب تعمل بوصية ذلك الفاشي الألماني (هتلر) الذي قال: "افتروا، وافتروا، ثم افتروا، لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس!" إن النظام السياسي المحاصصي الراهن يدفع بالعراق إلى أعماق الهاوية، ويذكرنا بقول علي جودت الأيوبي في النصف الأول من ثلاثينات القرن العشرين: "العراق ليس سوى سفينة تحترق، وعلى كل منا أن ينقذ ما يشاء مما فيها لنفسه قبل أن تغرق في البحر"! هذا هو حال عراق اليوم، فما هو الحل؟         
الحل ليس سهلاً، ليس سريعاً، ولا قريباً، كما إنه ليس وصفة قابلة للتطبيق، بل إن الحل عملية معقدة، مركبة، صعبة ومتشابكة في آن، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية لكل الشعب العراقي بطلائعه الوطنية والديمقراطية، مليئة بالآلام والأحزان والضحايا، رغم الضعف الذي تعاني منه هذه الطلائع حالياً. فقوى الحكم الراهن تقدم للشعب ما يساعد على تجاوز الضعف الراهن، لأنها ضد الشعب وإرادته ومصالحه. إن الحل بيد الشعب من جهة، وبالدور الذي يمكن أن تلعبه القوى المدنية الحية، القوى الديمقراطية العلمانية والتقدمية وكل قوى اليسار العراقي والناس المؤمنين بعراق حر وديمقراطي، وبممارسة التوعية السياسة والاجتماعية، ومواجهة الفكر الشمولي السائد والمنطلق من أيديولوجيا الأحزاب الإسلامية السياسية وتشكيلاتها العسكرية بالنقاش والنقد والتعرية وبالطرق السلمية، التي ستساعد على إفشال ربط الدين بالدولة والسياسية، وبالطريقة التي يراد فرض حكم الطوائف المتناحرة ومحاصصاتها المذلة. إضافة إلى تأكيد الحقيقة الدستورية التالية: إن تأسيس الأحزاب السياسية على أساس ديني ومذهبي يعتبر مخالفة صريحة للدستور العراقي وتجاوزاً فظاً عليه لا يجوز استمراره. ولو كان القضاء نظيفاً، نزيهاً، وحيادياً لحرَّم وجود هذه الأحزاب أصلاً، ومنعها من العمل السياسي، لأنها أحزاب غير دستورية، ولأنها مفرقة للصفوف وناشرة للكراهية والأحقاد في صفوف المجتمع ومثيرة للصراعات والنزاعات والموت والخراب. والحالة الراهنة بالعراق تؤكد ذلك بأسطع وأصدق الأدلة!   
إن التغيير بالعراق قادم لا ريب فيه، ولكن لا يأتي هذا التغيير من ذاته، من دون عمل جاد ودؤوب من جانب الذين يسعون للتغيير، وكشف زيف الحكام الذين يدعون زيفاً إلى الإصلاح والتغيير، والذين ركبوا الموجة، ولكن الأحداث الأخيرة التي اقترنت بالدخول إلى مجلس النواب والجلوس على "القنفة (الكنبة) البيضاء المقدسة!"، فضحت زيفهم وكذبهم، فالمثل الدولي يقول "حبل الكذب قصير"، أو إن "الكذب له أرجل قصيرة"             
إن وحدة القوى الديمقراطية والتقدمية، وحدة القوى المدنية العلمانية، وحدة الكادحين والمثقفين والطلبة وبقية فئات المجتمع، وحدة العرب والكرد والكلدان الآشوريين السريان والتركمان، ووحدة المتدينين المخلصين وغير المتدينين، ووحدة الهدف، هما السبيل للخلاص من القوى والأحزاب التي تواصل قهر الشعب وتجويعه والسماح بقتله ليل نهار، والمشاركة في نهبه وسلبه. إن وحدة القوى ووحدة الهدف والنضال السلمي الديمقراطي، هم السبيل للخلاص من النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة ونهجه المدمر لوحدة العراق أرضاً وقوميات وأتباع ديانات ومذاهب واتجاهات فلسفية وفكرية. إنه الطريق الأسلم للوصول إلى شواطئ التغيير والسلام والنجاة والتقدم.





 
 

437
كاظم حبيب
في انتظار رد الشعب على بيع مصر
أسقط نضال الشعب المصري دكتاتورية حسني مبارك العسكرية-المدنية في ثورته المقدامة في 25 يناير 2011، ثم أسقط بملايينه التي نزلت على شوارع القاهرة وبقية أنحاء مصر في 30 يونيو 2013 دكتاتورية الإخوان المسلمين السياسية ورئيسها المستبد محمد مرسي. وقدم لنيل حريته وحقوقه الأساسية واستعادة كرامته المهدورة وتحسين ظروف العمل والعيش بأمن واستقرار وتقدم، الكثير من التضحيات الغالية. وكان في ذلك قدوة لكل الشعوب العربية وشعوب المنطقة، وهلل لهاتين الثورتين الرأي العام العالمي. لكن هذا الحراك المدني الشعبي المقدام فشل في دفع الثورة إلى أمام لتحقيق نجاحات جديدة، من أجل فشب إقامة نظام سياسي مدني ديمقراطي رشيد بالبلاد، إذ حل العسكر، الذي ركب الموجة الثورية بشعارات تتماها مع إرادة الشعب، محل الإخوان المسلمين في حكم البلاد. وأصبح الشعب في مواجهة حكم عسكري غاشم، ولسان حال الشعب يقول" اردناك عوناً لنا، وإذا بك فرعون مصر الجديد علينا!!".
لقد فرض ميزان القوى السياسية بمصر نظاماً سياسياً فرديا تسنده قوىً في قمة القوات المسلحة المصرية، ويدور في مصر صراع محتدمً حول الاتجاهات والإجراءات والاتفاقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للرئيس المصري، السياسة الفاقدة للتأييد من جانب القوى التي أشعلت الثورة الشعبية وأسقطت نظامين سياسيين لأنهما جائران، فكيف هي حالة مصر الآن؟
حين تطالع الصحف المصرية تواجه، كما في كل النظم السياسية غير الديمقراطية، مجموعة من الإعلاميين الذين يسبحون بحمد السلطان ليل نهار، ويهللون لسياساته وإجراءاته وكأن ما يقوم به منزل من السماء، إنهم وعاظ السلاطين ومرتزقته الذين لا يكفون عن شتم الشعب ومدح المستبد بأمره وجعله في مصاف الأولياء الصالحين. إنه يدوسون بذلك لا على كرامتهم فحسب، بل وعلى كرامة الشعب المصري الشجاع، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه.
ولكنك تجد في المقابل تلك المجموعة من المثقفين والكتاب والإعلاميين الأحرار الذين قرروا عدم السكوت إزاء المزيد من المظالم التي يتعرض لها الشعب المصري والانتهاكات الفظة المتواصلة لحقوق الإنسان، والتجاوز المتفاقم على الشرعية الدستورية من جانب النخبة الحاكمة، ومن جانب السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في آن. فالسجون المصرية تحتضن الكثير من الصحفيين والمثقفين والمناضلين الذين تصدروا الثورتين السابقتين وناضلوا بعناد في سبيل حرية مصر واستقلالها وسيادتها وحقوق شعبها الأساسية.
وبالرغم من شدة الرقابة على الإعلام المصري وحركة المناضلين والمثقفين الأحرار، تنقل بعض الصحف المصرية ووكالات الأنباء العالمية، حقيقة الغضب العارم المتصاعد يوماً بعد آخر، بعد أن باع حاكم مصر الجزيرتين بـ 22 مليار دولار أمريكي، كما أوردته وكالات الأنباء العالمية ، هما "تيران وصنافير" (انظر التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الامريكية 04-15-2016  http://thinktankmonitor.org) , ولو كانت إسرائيل قد دفعت أكثر، ربما لكانتا الآن في ملكية إسرائيل، وربما يجد المستبد بأمره جزراً أخرى لبيعها لمن يدفع أكثر!! فعلى وفق "التقرير المنشور في موقع قنطرة الألماني الحكومي، أشار إلى "أن اتفاقية الملك سلمان مع السيسي بشأن الجزيرتين شهدت توقيع 22 اتفاقية بما فيها اتفاق نفطي بقيمة 22 مليار دولار لمصر". (موقع بوابة الحرية والعدالة, جميل نظمي، دراسة ألمانية: السيسي يسابق الخديوي إسماعيل في بيع مصر، 26/4/2016).
ولم يكتف الحاكم الأوحد بذلك، بل أصدرت محاكم القاهرة، باسمه وليس باسم الشعب، أحكاماً جائرة تقضي بحبس 51 متظاهراً ضد بيع الجزيرتين لمدة عامين، لأنهما تظاهرا خارج نطاق القانون! وهكذا يقف الشعب المصري وقادة الرأي والإعلام أمام القضاء المسيس الخاضع لقانون جائر يحبس من يتظاهر للتعبير عن رأيه وموقفه من سياسات تصادر حقوقه، لأن وزارة لداخلية ترفض منح حق التظاهر، المكفول دستورياً، لمن يريد التظاهر ضد سياسات الحكم الجديد!
وتشير آخر الأنباء، ونأمل أن يكون الخبر غير صحيح، إن الحاكم المصري باع المركز التاريخي لمدينة القاهرة لدول الخليج. وهو تعبير صارخ جديد عن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تواجه حكام مصر الجدد، وهم كما يبدو، على استعداد لبيع المزيد من مصر بالمزاد السري الذي يعلن عنه بعد حين، أو يسرب عبر وكالات أنباء مطلعة، تضع الشعب المصري أمام الأمر الواقع وهو المشغول والعاجز عن تأمين لقمة عيشه اليومي وهم الذين يشكلون الجزء الأعظم من شعب مصر الشقيق. فأخر المعلومات تشير إلى واقعين مؤلمين جداً هما:
1.   تزايد نسبة الفقر في مصر، إذ يقول الدكتور صلاح جودة، الخبير الاقتصادي، إن نسبة السكان المصريين تحت خط الفقر تجاوزت الـ50%، ما يشكل كارثة حقيقية، ..." (موقع البديل، مصر في اكتوبر/ تشرين الأول 2015)
2.   صرح مدير الجهاز المركزي للإحصاء أن عدد المتعطلين بلغ 3.6 مليون متعطل بنسبة 12.8% من إجمالى قوة العمل، وبزيادة قدرها 78 ألف متعطل عن الربــع الســابق وبانخفاض قدره 33 ألف متعطل عن نفس الربع عام 2014. (موقع الوفد، أرقام عن الربع الأول من عام 2016 )
ولكن المدير السابق لإدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي خالد إكرام قدر معدل البطالة في مصر بأكثر من 25%. يأتي هذا بينما تظهر التقديرات الرسمية أن نسبة البطالة عند حدود 13% فقط. ( موقع الجزيرة نت، معدل البطالة في مصر يتجاوز 25%، آذار/مارس 2014).
أوعدا عن ذلك فأن الصحافة الحرة في مصر تواجه كابوساً جديداً لم تعرفه من قبل، رغم كل الاستبداد الذي عرفته مصر في تاريخها المعاصر ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن. لقد انتهكت قوات الشرطة والأمن المصريين، بقرار من وزير الداخلية، حرمة المقر المركزي لنقابة الصحفيين واعتقلت اثنين من الصحفيين المطلوبين من الوزارة واللاجئين إلى النقابة، رغم أن قانون النقابة يحرم مثل هذا الانتهاك لحرمة النقابة بأي حال. وقد أشعل هذا القرار غضب واحتجاج وإدانة الصحفيين المصريين والكثير من النقابات ومنظمات المجتمع المدني، وقاد إلى اعتصام أعضاء النقابة مطالبة المجلس العام للنقابة بإقالة وزير الداخلية، الذي أصدر مثل هذا القرار الاستفزازي المخالف للدستور وحرية الصحافة والصحفيين. وقد عبر الكاتب أحمد الصاوي في مقال له تحت عنوان "النقابة والعصابة" إذ كتب يقول:
لقد "وجدت النقابة ومجلسها وجمعيتها العمومية، مقرها يجري اقتحامه بضباط مسلحين، دون اتباع الإجراءات القانونية الصريحة، وهو أمر أغضب كرامتهم، وهذا حقهم قطعاً، لأن من حق كل فرد أن يحدد ما يمس كرامته، وأن يغضب له.." (الجمعة المصادف 6/5/2016،  http://www.almasryalyoum.com/news/details/942669).)
وإزاء تدهور الأوضاع الأمنية، وخاصة بعد الحملات الإرهابية التي يتعرض لها شعب مصر، في سيناء وحلوان، وقتل المزيد من الشرطة والمواطنين وعجز الحكم عن ملاحقتهم ووضع حد لإجرامهم، من حق الإنسان أن يتساءل: الى متى يصبر ويتحمل الشعب المصري، صاحب الثورات التي هزت مصر والعالم العربي وكل الدول المجاور، تلك الثورات التي أرعبت كل النظم والقوى الرجعية الحاكمة وغير الحاكمة في المنطقة، التي تظافرت جهودها لمصادرة الثورة وتشويه وجهتها ومضامينها؟ نحن مع شعب مصر، وكلنا توقع لرده الحاسم .. الرد المطلوب من الشعب المصري لمواجهة حقائق الوضع الجديد قبل أن تتراكم المظالم والانتهاكات أكثر فأكثر وقبل أن تباع مصر ذاتها لمن يدفع أكثر!!!   



438
كاظم حبيب
الشعب العراقي ومهماته الملحة...
أدعو الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية، أدعو العمال والفلاحين والمثقفين والطلبة والكسبة والحرفيين والصناعيين العراقيين الوطنيين، أدعو جميع فئات المجتمع العراقي الحية، التي تجد أن وطنها العراق يواجه أخطاراً داهمة مدمرة، أدعو الإنسان العراق رجلاً كان أم امرأة، متديناً أم غير متدين، أدعو جميع من في هذا الوطن، المستباح من قبل عصابات داعش والمليشيات الطائفية المسلحة والإرهاب اليومي والفساد السائد، أن يدرسوا تجربة العراق منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة على أيدي القوات الأجنبية الغازية، التي أعلنت احتلالها للعراق بقرار جائر من مجلس الأمن الدولي، ومن ثم إقامتها النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية والأثنية، بهدف مسبق الصنع، بهدف دق أسفين الخلاقات والصراعات والنزاعات الدموية بالعراق، بهدف منع قيام دولة مدنية ديمقراطية حديثة. أدعو الشعب العراقي أن يدرس تجربة وجود أحزاب سياسية إسلامية طائفية، شيعية وسنية، ووجود ميليشيات طائفية مسلحة عائدة لها، ولكنها لا تأتمر بأوامر قادة هذه الأحزاب الطائفية مباشرة، بل بقرارات وتوجيهات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران، فولي الفقيه هو مرشدها وولي أمرها ومقرر رأيها ومحدد مواقفها السياسية والعسكرية. وخلال السنوات المنصرمة كانت هذه الأحزاب وميليشياتها، وما تزال حتى الآن تشكل الطامة الكبرى والمقتل الفعلي للشعب العراقي. وكل الدلائل التي أعقبت أحداث مجلس النواب تؤكد بأنها ما تزال وستبقى كذلك، ما لم يوضع حد لوجودها القسري، لأن وجودها الراهن يشكل مخالفة صريحة وكبرى للدستور العراقي وضد مصالح الشعب العراقي، وضد استقلاله وسيادته الوطنية. وهذه المخالفة الكبرى هي التي سكت عنها القضاء العراقي وتناغم مع الفاسدين والمفسدين ممن يقود هذا النظام الطائفي المحاصصي. وهو السبب وراء صرخة الشعب المدوية: باسم الدين باگونة الحرامية، وهذا النداء لا يشمل السلطة التنفيذية وحدها فحسب، بل السلطة التشريعية وسلطة القضاء والسلطة الرابعة (الإعلام) الرسمية المقبوض عليها من أحزاب وقوى البيت الشيعي وقادته "العظام!!!" أيضا.
لقد برهنت الأحداث الأخيرة بأن المهمة المركزية أمام الشعب تبرز في الخلاص من النظام الطائفي المحاصصي ومن المليشيات الطائفية المسلحة وفسادها المتسع، الذي سيسمح بتعزيز القدرات الهجومية للقوات المسلحة العراقية ضد عصابات داعش المجرمة التي ما تزال تنزل الضربات القاسية بأبناء وبنات الشعب العراقي، ولا يدري الإنسان العراقي من يشارك في قتل الناس من غير عصابات داعش المجرمة.
أما المهمة المركزية للمليشيات الطائفية المسلحة، التي كشفت عن وجهها القبيح، فهي حماية النظام السياسي الطائفي، حماية قادة الأحزاب الطائفية السياسية الذين مرغوا كرامة الشعب العراقي بالتراب، وسرقوا الشعب ونهبوا خيراته وجوعوا نسبة عالية جداً من بنات وأبناء هذا الشعب، فارتفع حجم البطالة المكشوفة والمقنعة والفضائيين، وارتفعت نسبة من هم تحت خط الفقر المعروف دولياً، وتراجعت الخدمات العامة إلى حد مأساوي، وتفاقم ابتزاز الناس واغتيالهم وتهديدهم بالموت أو اختطاف المواطنين وفرض الجزية عليهم. وهذا الأمر لم يقتصر على بغداد بل شمل البصرة الفيحاء ومدن الجنوب والوسط. لقد عم الفساد كل العراق دون استثناء، وعاد الإرهاب ليتسع أكثر فأكثر.
قبل إسقاط نظام الدكتاتورية البعثية والدكتاتور صدام حسين في الحرب الدولية ضد نظامه المهور داخلياً، أدرك الدكتاتور بأن نظامه قاب قوسين أو أدنى من السقوط، فعمد إلى وضع سلسلة من الإجراءات السياسية والعسكرية والأمنية والمالية، السرية منها والعلنية، ووضع مجموعة من كوادر حزبه وفدائييه من مختلف المستويات في سرية تامة لكي يستفيد منهم في حالة سقوط النظام البعثي ليمارس بهم المقاومة. وهو ما تحقق فعلاً. ومثل تلك الجماعات هي التي ما تزال تحمل راية البعث الملطخة بدماء ودموع الشعب العراقي، دماء شهداء حروب النظام وقمعه، ودموع الثكالى والأيتام والمرضى والأطفال الجياع. كما كان لدى صدام حسين فدائيوه، وهم في الغالب قتلة أوباش. وقد نشرت سلسلة مقالات حول تلك الإجراءات قبل بروزها على الساحة السياسية العراقية في العام 2003 وتحت عنوان ماذا فعل صدام قبل سقوط نظامه؟
وها نحن اليوم أمام حقيقة مماثلة. فتوجيهات المرجعية الإيرانية والقادة العسكريين الإيرانيين للمليشيات الطائفية المسلحة تقضي بالالتفاف حول رئيس الوزراء السابق للدفاع عنه أولاً، وعن النظام الطائفي المحاصصي الذي كرسه ثانياً، ضد كل من يحاول المساس بهذا النظام الطائفي المحاصصي. وقد رأت عيون الشعب، التي أرجو أنها كانت مفتوحة، كيف نزلت المليشيات الطائفة الشيعية المسلحة إلى بغداد ومناطق أخرى من العراق لتحمي قوى الأحزاب الإسلامية السياسية من المعارضة الوطنية، من المتظاهرين والمعتصمين غير المسلحين والسلميين الذين لم يحملوا غير غصن الزيتون بأيديهم. وما حصل في مجلس النواب هو ضرب بعض أعضاء المجلس أو موظفيه كان استثناء، ولم يعرف حتى الآن من كان هؤلاء الذين ربما أرادوا تشويه الاعتصام بإصرار، وتوسيخ "القنفة المقدسة!"، وما كان له أن يحصل، لولا شعور البعض بأن حي الخضراء هو الآمن فقط من كل أشكال الإرهاب، في حين سكان بغداد بكل ضواحيها وشوارعها وأسواقها الشعبية وأزقتها، وكل وسط وجنوب العراق، غير آمن، وموت الناس يتم بالجملة ويومياً. لقد وقف رئيسا مجلس الوزراء والنواب ساهمين مصعوقين أمام "القنفة" المتسخة، وليس أمام شهداء العراق وجرحاه. ودفعة واحدة وصل العراق رئيس جهاز الأمن الإيراني ومسؤولون آخرون لإعادة ترتيب الأوضاع على وفق مشتهاهم، فبغداد هي عاصمة الدولة الإسلامية الإيرانية، كما صرح أحد قادتهم قبل حين!
تباً لهذا النظام وقادته حيث يموت فيه يومياً عشرات العراقيين وتسرق لقمة عيش الشعب وتنهب خيراته، ولا يفعلون شيئاً حقيقياً! والسؤال اللاهب للعقول والقلوب هو: متى يتحرك هذا الشعب ليلهب ظهور الفاسدين والمفسدين الذين سرقوه وصرخ بشعاره الصارم بوجههم "باسم الدين باگونة الحرامية!"   

439

كاظم حبيب

الرفيق عزيز محمد في حواره الممتع مع الصحفي حمدي العطار (الزمان)

ليس سهلاً بالمرة الحصول على لقاء صحفي مع الرفيق عزيز محمد، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي العراق. فهو مستودع أسرار الحزب الداخلية وعلاقاته الإقليمية والدولية، والأممية منها على وجه الخصوص، ولعقود عديدة خلت. وإلى الآن، وهو يقترب من نهاية الثانية والتسعين من عمره المديد. يمتلك رأياً واضحاً وناضجاً في كل ما يجري بإقليم كردستان العراق، والعراق عموماً، وفي منطقة الشرق الأوسط، وعلى الصعيد الدولي. فهو متابع سياسي واجتماعي وثقافي نشط، وقارئ هميم ونهم للكتب، وله ذاكرة نشطة عن أحداث وشخصيات الماضي والحاضر، ولم تفته حتى الآن أحداث العراق الدامية ببغداد أو بنينوى أو بالأنبار أو غيرها، فهو قريب منها ويعاني مع الآخرين من عواقبها. إنها ليست بسمات جديدة لدى الرفيق عزيز محمد، بل هو معروف بها. عزيز محمد مستمع ممتاز، وقليل الكلام، ويتحدث حين يُسأل، عندها يدرك المقابل إنه أمام شخص يمتلك معرفة جيدة ومعلومات كثيرة وخبرة غنية. إنه لبق في أحاديثه، مالك لزمام اللغة العربية. جمله قصيرة غير معقدة، واضحة، ودقيقة، كمن ينقش في الحجر. إن ما قرأته له حتى الآن كان قليلاً، ولكنه كان واضحاً ودقيقاً في ما كتب. عزيز محمد مثقف عضوي ناضل منذ نعومة أظفاره، ولم يتخل عن ذلك حتى في شيخوخته الراهنة، وهو مقتنع تمام القناعة بما ناضل ويناضل من أجله، مشحوناً بإيمان إضافي بالقضية ذاتها، قضية الفكر الماركسي والنضال من أجل الاشتراكية، والتي تعني عنده العدالة الاجتماعية وسعادة الشعوب وازدهارها وسلامها الدائم، وغياب الاستغلال والاستعباد والحروب والدمار. وعلى هذا الطريق الطويل والصعب، طريق اليسار الاشتراكي، أو الشيوعي، لا يمكن للإنسان أن يصيب دوماً، فهنا يصيب وهناك يخطئ، وهي من سمات الأنسان الطبيعي. وكما قال عيسى المسيح "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". وكمناضل من أبناء شعب كردستان وشعب العراق، وضع نفسه في خدمة قضيتين متلازمتين، قضية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية للعراق كله من جهة، والحقوق القومية للشعب الكردي وبقية القوميات بالعراق من جهة ثانية. وقد تجلى كل ذلك في النضال من أجل الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي، ومن ثم الفيدرالية وحق تقرير المصير للشعب الكردي. وكان واثقاً من أن النضال المشترك للعرب والكرد وبقية القوميات هو الطريق الوحيد لتحقيق الشعارات والأهداف الوطنية والقومية والديمقراطية. وقد التزم بثبات بشعار الحزب " وطن حر وشعب سعيد". إنه أبن بار للشعب العراقي وللشعب الكردي في آن، وهو ما ميزه في نضاله المديد. وهو يناضل في العراق ومن أجل شعب العراق بكل قومياته، لم ينس قضيتين مهمتين في نضاله: حركة التحرر الوطني العربية ومنحها الكثير من وقته وجهده، وبضمنها قضية الشعب الفلسطيني وعدالة هذه القضية ودعوته ضمن نضال الحزب لدولتين متعايشتين بأمن وصداقة وسلام على الأرض الفلسطينية، الدولة الفلسطينية والدولة الإسرائيلية، وقضية الأرض والأمة الكردية الموزعة والمقسمة على أربع دول في منطقة الشرق الأوسط ووحدتهما، وحدة الأرض والأمة الكردية. لقد كان عزيز محمد، وما يزال، من الملتزمين بشعار مرحلة النضال ما بعد الحرب العالمية الثانية، الشعار المركزي الذي رفعه الحزب بقيادة الرفيق فهد, وكتب عنه حسين محمد الشبيبي كراسه المعروف "الجبهة الوطنية الموحدة"، وأكده في فترة توليه قيادة الحزب الشيوعي العراقي، بغض النظر عن المصاعب والملابسات التي رافقت تطبيقه في نضال وتاريخ الحزب الطويل. 
إن عدم رغبته في اللقاءات الصحفية ينبع من تجنبه الخوض في، أو الانجرار إلى، قضايا لا تعتبر حتى الآن ماضياً منتيهاً، بل هي ما تزال حاضراً مستمراً، تستوجب الدقة في فهمها والتعبير عنها أو حتى إعطاء الحكم بشأنها من جهة، وخشيته من احتمال تشويه تصريحاته لغرض في نفس يعقوب، أو لسبق صحفي غير صحيح، أو لعدم فهم محاوره محتوى ما أراد قوله وصاغه بالطريقة التي فهمها من جهة ثانية، إضافة إلى ابتعاده عن احتمال حصول إساءة لمن اساءَ إليه، وتجنبه الإساءة لمن يستحق ذلك، كجزء من تربيته العائلية والحزبية. في فترة النضال المشترك والمستمر اتفقنا واختلفنا في الرأي، وهو أمر طبيعي، وربما ضروري، حين يكون غير مفتعل، ولكن لم يؤثر على العلاقات الإنسانية والاجتماعية، على العلاقة الرفاقية والصداقة، وعلى الود والاحترام المتبادلين.         
اللقاء الحواري الأخير، الذي تم مع الكاتب والصحفي السيد حمدي العطار (جريدة الزمان)، الذي وجه له الكثير من الأسئلة المهمة في مجالات كثيرة ومهمة، ابتداءً من أوضاع الحزب في السابق وحالياً وعن الحزب الشيوعي الكردستاني وسبب قيامه، وعن الدول الاشتراكية وعوامل انهيارها، وانتهاءً بالأسئلة عن الشيوعية وآفاقها وعن الأوضاع بالعراق وكردستان العراق، كان مهماً وحيوياً، رغم إن جزءاً من الحوار لم نطلع عليه ولم ينشر. ويبدو لي إن هذا اللقاء هو استكمال للقاء الذي أجراه الصحفي المميز والصديق توفيق التميمي قبل عدة سنوات، مع ملاحظة مهمة هي أن هذا الحوار كان أكثر قدرة في التعبير عن رأي الرفيق عزيز محمد بشأن واقع الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الحزب الشيوعي وقيادته في الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الاشتراكية، وهي مسألة مهمة جداً وضرورية.، إذ كان لهذه الأخطاء الفادحة تأثيرها السلبي الكبير على مجمل الحركة الشيوعية العالمية وحركة اليسار العالمية وحركة التحرر الوطني بالبلدان النامية، ومنها العراق.   
لا أنوي المرور على كل المحاور التي تطرق لها الرفيق عزيز محمد، رغم أهميتها والحاجة إلى مناقشتها، بل سأركز على نقطة واحدة مهمة حقاً طرح رأيه فيها ولأول مرة وعلى النحو التالي: "إن انهيار الاشتراكية أو دول المعسكر الاشتراكي لا يتعلق بفشل الاشتراكية، بل ترتبط بالممارسة والتطبيق والأخطاء المرتكبة من قبل الأحزاب الشيوعية الحاكمة...، إن الاشتراكية ستبقى هدفا تناضل البشرية من أجله، ما دام هناك الاضطهاد والتفاوت الطبقي والاجتماعي، لا بد أن تنتصر الاشتراكية في النهاية." (جريدة الزمان، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي العراقي عزيز محمد في حوار مع (الزمان): الأحزاب الشيوعية الحاكمة فقدت مصداقيتها وتحولت إلى نخب ذات امتيازات، حمدي العطار، عدد يوم الثلاثاء 10/5/2016).
هذا التقدير الذي طرحه الرفيق عزيز محمد، وفيه تفاصيل مكثفة لرؤيته للأخطاء التي ارتكبها قادة الدول الاشتراكية من الناحيتين النظرية والعملية، وفقدان الحس الثوري، وفقدان العلاقة الحميمة مع المجتمع، وعدم فهم الحرية باعتبارها وعي الضرورة، وهي مقولة فلسفية تجسد الرؤية السليمة لضرورة الحرية في المجتمعات الاشتراكية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وهو الجزء الأول من الفكرة التي طرحها عزيز محمد، أما الجز الثاني منها فيكمن في حقيقة إن الاشتراكية قادمة لا ريب في ذلك، إنها مستقبل البشرية، وهو استنتاج سليم جداً، ويعبر عن فهم لطبيعة وفعل القوانين الخاصة والعامة للنظام الرأسمالي العالمي أولاً، وعن فهم لطبيعة وحركة وفعل قوانين التطور الاجتماعي ثانياً. وما يجري بالدول الرأسمالية المتقدمة وفي العلاقات الداخلية بين الطبقات والفئات الاجتماعية من جهة، والعلاقة بين هذه الدول والدول النامية، أو حركات التحرر الوطني، ونضالها من أجل التقدم الاجتماعي من جهة ثانية، يدلل بما لا يقبل الشك بأن الصراعات الطبقية والتفاوت المتفاقم والفجوة المتسعة بين مالكي وسائل الإنتاج، ومالكي قوة العمل الجسدية والفكرية، بين الأغنياء والفقراء، آخذة بالتنامي المتباين في سرعته بين دولة وأخرى، والذي يعيد الصراع الذي تفاقم في أوائل القرن العشرين، متخذاً اليوم نهجاً مماثلاً، مع فارق أساسي، يبرز في كون يتم في ظل النظام الرأسمالي الأكثر عولمة، والأكثر استغلالاً، والأكثر هيمنة على العالم، والأكثر فساداً وتدميراً لثروات وموارد الشعوب، والمقترن بمنجزات الثورة العلمية والتقنية، ثورة الاتصالات والمعلومات، ثورة الإنفوميديا Infomedia Revolution  الجارية، التي تتضمن الجمع بين الحوسبة والاتصالات والإعلام أو المعلوماتية.       
قبل أكثر من عشرين عاماً نشرت مقالاً في جريدة الزمان، جرى تشويه عناوينه الداخلية، فقاطعت النشر في الجريدة منذ ذلك الوقت حتى الآن. إذ شوه محرر الجريدة ما كتبته، عندما وضع عنوان ثانوي كان كما يلي: " يقول حبيب الاشتراكية سقطت وإلى الأبد"! قدمت احتجاجاً للجريدة، إذ لم يكن هذا العنوان ولا مضامين المقال تشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، بل كان من عنديات محرر الجريدة، إذ إن المقال، ومقالات كثيرة أخرى ومحاضرات قدمتها في مختلف الدول الأوروبية وفي ندوات كانت وما تزال تؤكد ما أشار إليه الرفيق عزيز محمد، حيث اكدت ذلك وفي محاضرات ولقاءات ومقالات كثيرة يمكن أن يعثر عليها القارئ أو القارئة في موقع الحوار المتمدن:
** الرأسمالية لها بديل، إنها الاشتراكية، ولكن متى يمكن البدء ببناء الاشتراكية؟ إنه السؤال الأهم. إن مستلزمات تكوين البديل تنشأ في رحم النظام الرأسمالي، ولا شك في أنها ستتخذ وقتاً غير قصير، وإن الرأسمالية ما تزال تمتلك رصيداً لم يأت أجلها النهائي.
** إن انهيار أو سقوط الدول الاشتراكية القائمة في الواقع:
•   لا يعني بأي حال من الأحوال انتصار الرأسمالية على الاشتراكية؛
•   ولا يعني بأي حال من الأحوال فشل الاشتراكية كفكر وكأسلوب إنتاج بديل عن أسلوب الإنتاج الرأسمالي.
•   وإن سقوط النظم الاشتراكية القائمة في الواقع ارتبط بأخطاء فكرية وسياسية، نظرية وعملية، من جانب من قاد الدول الاشتراكية منذ البداية، وبشكل خاص قاد الدولة السوفييتية، وهم الذين كانوا يقودون الدول الاشتراكية بعد قيامها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي كان يقود الحركة الشيوعي العالمية، ويؤثر بقوة على مجمل الحركة اليسارية العالمية إيجاباً أو سلباً.
•   وأن الأحزاب الشيوعية وقادة الدول الاشتراكية لم يعوا بما فيه الكفاية، العلاقة الجدلية بين الاشتراكية والحرية، بين العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان الأخرى، بين الواقع والحلم، وتعجلوا كثيراً في حرق المراحل التي لا يمكن ولا يجوز القفز عليها، وأساءوا بذلك للمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية وللنظرية العلمية التي قال عنها إنجلز بـ "إن الماركسية ليست عقيدة جامدة، بل نظرية هادية". لقد سقطوا في رؤية رغائبية ذاتية بحتة، بدلاً من اعتماد واستخدام أدوات التحليل العلمي للوصول إلى الاستنتاجات التي يقررها الواقع الفعلي القائم وتتناغم مع قوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي الموضوعية.
•   إن العراق والدول العربية وغالبية الدول النامية ما تزال تعيش في ظل العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية أو الرأسمالية المتخلفة والتابعة واقتصاداتها مكشوفة على الخارج استيراداً وتصديراً، كما تعاني من ضعف شديد في مستوى تطور القوى المنتجة، والوعي الاجتماعي ما يزال متخلفاً بسبب تخلف بنية الاقتصاد وما يقترب به من تخلف في البنية الطبقية للمجتمع، مما يجعل من الاشتراكية مرحلة لاحقة لمهمات أخرى، أي إن هذه البلدان، ومنها العراق، هي ما تزال في مرحلة البناء الديمقراطي للتخلص من بقايا علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية وبنيتها الاجتماعية والوعي الاجتماعي الناجم عنها، أي إنها ما تزال تواجه تنمية العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الوطنية، وبمشاركة واعية من قطاع الدولة والقطا الخاص، وبناء القاعدة المادية للتحولات اللاحقة. إنها المرحلة التي تستلزم تعاون وتحالف الطبقات الاجتماعية الوطنية التي يهمها تحقيق التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والوعي الاجتماعي.       
إن الشعوب التواقة إلى الحرية والاشتراكية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والأمن والسلام في العالم، ستبقى تناضل ضد الاستغلال والاستعباد، ضد الفساد ونهب الخيرات، وضد العدوان والحروب والإرهاب الفكري والسياسي. إن سقوط الدول الاشتراكية، وأسباب ذلك معروفة، ويشير إليها باختصار وصواب شديد الرفيق عزيز محمد، قد منح الدول الرأسمالية المتقدمة فرصة ثمينة للاستفراد بالشعوب واسترداد المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة والشعوب المناضلة عبر مسيرتها الطويلة، وتكشف من جديد عن بشاعة وجه الرأسمالية المعولمة وممارساتها الفعلية، وعن استعدادها لتشديد الاستغلال، ونهب الخيرات، وشن الحروب الإقليمية وتأجيجها، وتشديد سباق التسلح في العالم، وتشكيل منظمات إرهابية للاستفادة منها ضد نضال شعوبها، كالقاعدة، وداعش، وجبهة النُصرة، وأحرار الشام، وبوكو حرام، وأنصار السنة، وميليشيات طائفية مسلحة شيعية، على سبيل المثال لا الحصر، وتحقيق أقصى الأرباح من خلال التأثير المباشر على حكومات الدول التي تأتمر بأوامرها، وتمارس سياسات مناهضة لمصالح شعوبها، كما هو حال جميع دول الشرق الأوسط ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون استثناء.
إن سقوط الدول الاشتراكية يفترض اعتباره تجربة غنية جديدة للمناضلين من أجل الاشتراكية في كل مكان، تلك التجربة الثانية التي بدأت في ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 الاشتراكية، وهي التجربة التي تلت كومونة باريس في أذار/مارس 1871. وأن من واجب كل المناضلين من أجل العدالة الاجتماعية والأمن والسلام في العالم دراسة هذه التجربة الغنية بكل ابعادها وأشكال ظهورها في الدول التي أقيمت فيها، الآسيوية منها أو الأوروبية، وأسباب انهيارها، لتكون زاداً غنياً للمناضلين في جيش اليسار العالمي من شيوعيين واشتراكيين وماركسيين وديمقراطيين تقدميين.
كان مهماً ومفيداً، كما أرى، أن يتناول الرفيق عزيز محمد قضايا الساعة بالعراق وإقليم كردستان، بالتحليل والتدقيق واستخلاص ما يراه مناسباً حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوترة، وكذلك العلاقات في ما بين الأحزاب الكردستانية الحاكمة وغير الحاكمة، وما يمكن أن يقدمه من نصح على المستوى العراقي وإقليم كردستان العراق، إذ لديَّ القناعة بأن هناك الكثير ممن يستمعون له، وربما يتجاوبون معه بما يطرحه من أراء ومواقف، بمن فيهم قادة الأحزاب، لتجاوز المحنة التي يمر بها الإقليم على أقل تقدير. إذ إن مخاطر كثيرة تحيط بالعراق والإقليم، والعواقب السلبية المحتملة لا يمكن استبعادها، ضمن حساب الاحتمالات التي تواجه مكونات الشعب العراقي القومية. إن المعرفة والخبرة والحكمة والمشورة الذكية مطلوبة الآن، وأكثر من أي وقت مضى، في مواجهة ما يجري على الساحة السياسية العراقية والكردستانية، وهي قليلة نادرة في هذا الزمن الرديء الذي يمر به العراق بتعدد قومياته. إن ما حصل قبل الحرب الأخيرة (2003) واحتلال العراق، في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الغاشمة، وإقامة النظام السياسي الطائفي-الأثني والمحاصصة الطائفية، وما يواجهه العراق والإقليم حالياً، يستوجب بذل الجهد الكبير من جانب القوى الوطنية والديمقراطية لتحليله ثانية وبحيادية علمية عالية، لاستخلاص الاستنتاجات الواقعية المؤثرة التي يمكن أن تقود العراق لى شاطئ السلام، وهو الذي يقف على حافة حروب أهلية محتملة تحرق الأخضر واليابس، ولن يكون سوى شعوب العراق وقودها، والخاسر الأكبر فيها. وهو ما يفترض العمل على تجنبه، ولن يتم ذلك إلا بالخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والفساد والإرهاب الناشئين عنه.       
             

440
كاظم حبيب
الأحزاب الإسلامية السياسة ورعاع العراق!!!
أزمة البرلمان الأخيرة، وما سمي باجتياح الأعداء إلى عرين "الأسود!"، قد أرعب أقطاب النخب الحاكمة العراقية أكثر بكثير من اجتياح عصابات داعش لمدينة الموصل الحدباء وقتلها المئات من أبناء وبنات نينوى وتشريد مئات الألوف منهم وتهجير عشرات الألوف نحو خارج البلاد واغتصاب وسبي المئات من النساء والأطفال، وتدمير الآثار الحضارية للعراق القديم، عراق الآشوريين. لقد فقد هؤلاء القادة آخر ذرة من حياء أمام الشعب العراقي وشعوب العالم وكشفوا عن وجوههم وعن كامل نواياهم دفعة واحدة. لقد صرخوا بصوت متهيج مرعوب وبخطب رنانة طنانة: من هم هؤلاء الرعاع؟ لقد نسى هؤلاء جميعاً أنهم بالأمس استجاروا بهؤلاء الرعاع للحصول على الأصوات التي أجلستهم، بدعم صارخ من المرجعيات والمؤسسات الدينية، في المقاعد النيابية التي اجتاحها المتظاهرون والمعتصمون.
لقد شتموا المتظاهرين والمعتصمين باعتبارهم رعاعا، وليت الجواهري الكبير موجوداً ليرد عليهم:
يقولون مَن هم أولاءِ الرُّعاعُ         فأفهِمهُمُ بدَمٍ مَنْ همُ
وأفهِمهُمُ بدم أنهم             عَبيدُكَ إن تَدعُهم يخدُموا
وأنَّك أشرفُ من خيرِهم          وكعبُك مِن خدهِم أكرمُ
أو أن يقول لهم:
أنا أحتفهم الج البيوت عليهم             أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
 خسئوا : فلم تزل الرجولة حرة                تأبى لها غير الأمائل خاطبا
والأمثلون هم السواد، فديتهم             بالأرذلين من الشُراة مناصبا
إنهم أبناء وبنات هذا الشعب، إنهم الفقراء والمعوزون والكادحون والباعة الجوالة وسكنة الصرائف ومدينة الثورة والشعلة والعامل والكريعات، إنهم أبناء الكرخ والرصافة والكاظمية والأعظمية، إنهم أبناء وبنات بغداد من عرب وكرد فيلية ومسيحيين ومسلمين, إنهم العراق أيها الذين انتفخت أوداجهم وتعالوا على الشعب المستباح بهم وبغيرهم، المنهوب منهم ومن غيرهم، الشعب الذي تتساقط ضحاياه يومياً بفعل تفجيرات الإرهابيين القتلة، والمبتلى بعصابات المليشيات الطائفية المسلحة.
الشعب لن يصمت بعد اليوم. لقد كشف هؤلاء عن موقفهم الحقيقي من الإصلاح والتغيير. فها هو رئيس المجلس الأعلى يرفض الإصلاح، إلا كما يريده محاصصة طائفية تعيد الأمور إلى المربع الأول، ومعه منظمة بدر وميليشياتها، ومعه الفضيلة ومن لف لفهم. وهكذا كل من يطلق على نفسه مشاركاً بالعملية السياسية يريدها محاصصة ليستمر من خلال ذلك جني المزيد من احتمالات نهب المال والعقار وطعام الناس وبؤس الفقراء وحياتهم.
كم تأمرتم على مصالح الشعب باسم الدين والمذهب. كما شوهتم أهداف ومصالح الشعب، سواء أكنتم شيعة أم سنة. فكفوا عن ذلك رحمة بأعضاء ومؤيدي أحزابكم البائسة الذين اعتقدوا بكم وتمنوا أن تخدموهم وإذا بكم ترفسونهم بأرجلكم وتشتمونهم بأقسى العبارات. فهل نسيتم المظاهرات والاعتصامات السلمية والديمقراطية التي مارسها الشعب طيلة الأشهر المنصرمة، إنه لجبن منكم أن تشتموا الشعب بسبب هذا البعض القليل!
كم أتمنى على الشعب أن تفتح هذه الأحداث عيونه ليرى الدرك الذي أوصلوه إليه والعواقب التي يجنيها من جراء ذلك، وتلك المكاسب التي يجنيها المتحدثون باسمه عنوة واغتصابا. وليتذكروا قول الشاعر محمد صالح بحر العلوم
  يا ذئاباً فتكت بالناس ألاف القرون
اتركيني أنا والدين فما أنت وديني
       أمن الله قد استحصلت صكاً في شؤوني
                                    وكتاب الله في الجامع يشكو
                                   اين حقي

       


441
كاظم حبيب
الآراء والمواقف المتباينة إزاء الأوضاع بإقليم كردستان العراق!
عند متابعة مواقف العراقيين العرب إزاء تطور الأوضاع بإقليم كردستان العراق غير المعزولة عن مجمل الفوضى السائدة ببغداد بشكل خاص وإصرار الكتل السياسية على نهج المحاصصة الطائفية والأثنية المستهجنة من قبل الشعب العراقي، ستواجه المتتبع ثلاثة مواقف متباينة، تنطلق من أرضيات فكرية وسياسية مختلفة، ويسعى كل منها إلى تحقيق مجموعة من الأهداف والمصالح، وتتخذ أبعاداً متباينة ومتعارضة إلى حدود بعيدة نشير إليها في أدناه:
الاتجاه الأول: اتجاه فكري قومي يميني متشابك مع اتجاه إسلامي سياسي رفض منذ عقود وما زال يتصدى لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، وضد حصوله على الفيدرالية ضمن الدولة العراقية وبالتالي، يرى أي نداء في تقرير المصير هو انفصال غير مشروع ومناهض للعراق وشعبه والعروبة.  كما يرى بأن سياسات حكومة الإقليم كلها سلبية مناهضة للعراق، وعلى الحكومة الاتحادية أن تكون صارمة في مواقفها ضد حكومة وسياسات الإقليم. وهذه القوى الفكرية والسياسية تخضع للذهنية العنصرية والشوفينية العربية من جانب، ومن قوى ذات موقف إسلام سياسي يرفض الاعتراف بالقوميات ويلتزم بما يسمى بالأمة الإسلامية. ولكن نفس هذا التيار، وحين يكون في الحكم، يصبح أكثر شوفينية من الشوفينيين، سواء أكانوا عرباً أم فرساً أم تركاً أم كرداً. والممثل الشرعي لهذا الاتجاه هم البعثيون والقوميون العرب اليمنيون المناهضون لحق الشعوب في تقرير مصيرها، إلا حق الشعب العربي في الوحدة وصهر القوميات الأخرى أو دمجها بالعرب.
الاتجاه الثاني: اتجاه فكري وسياسي نشا حديثاً وبرز في أعقاب سقوط الدكتاتورية البعثية. وهذا الاتجاه يعتبر وجود الإقليم ضمن الدولة العراقية لا يساعد على التقدم والتطور بسبب سياسات الإقليم التي تؤجج الصراع بين السنة والشيعة لكي تستفيد من هذا الصراع لصالحها وليس لصالح الشعب الكردي. وكان هؤلاء قبل سقوط الدكتاتورية يقفون إلى جانب نضال الشعب الكردي ووجوده كفدرالية ضمن العراق. وبالتالي هم يدعون إلى الخلاص من وجود الإقليم ضد الدولة العراقية وعلى حكومة الإقليم إعلان استقلال الإقليم. وهذه المجموعة الجديدة تتشكل من خليط غير متجانس من العرب، بعضهم ينحدر من فكر إسلامي وبعضهم كان أو ما يزال ينتمي إلى الاتجاهات التقدمية والديمقراطية اليسارية، وبعضهم من اتجاه قومي معتدل. إنهم يشعرون بالخيبة من سياسات حكومات الإقليم المتعاقبة ويجدون إنها لا تسهم في استقرار العراق، وإن الإقليم عملياً مستقل عن العراق. وبعضهم يعتقد بأن حكومة الإقليم غير قادرة على الانفصال، وهو يريد بهذا الطرح إحراجها بدعوتها إلى تنفيذ الانفصال لأسباب ترتبط بواقع المنطقة ومواقف الحكومات المحيطة بالإقليم والوضع الدولي بشكل عام وعدم وجود اتجاه دولي فعلي لإجراء تغيير حقيقي في الجيوسياسية للمنطقة. 
الاتجاه الثالث: اتجاه فكري وسياسي ديمقراطي وتقدمي يرى إن من حق الشعب الكردي تقرير مصيره بنفسه، حين يجد إمكانية واقعية وفعلية لاتخاذ مثل هذا القرار، سواء أكان في البقاء ضمن إطار الدولة العراقية، أم بإقامة دولة كردستانية مستقلة في هذا القسم من كردستان الكبرى. وهذا القرار يفترض أن تتخذه الأحزاب والقوى السياسية الكردستانية مجتمعة، حين تجد ذلك ممكناً ومحسوباً جيداً وبعيداً عن المغامرة. ولا يرى هذا الاتجاه صواب التهديد باستخدام هذا الحق بإعلان الاستقلال أو الانفصال، إذ إن هذا التهديد لا يخدم النضال المشترك في المرحلة الراهنة، وما دام إقليم كردستان ما يزال في إطار الدولة العراقية، بل يثير المزيد من المشاكل دون مبرر. وهذا الاتجاه يرى بأن سياسات حكومات الإقليم خلال الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية لم تكن باستمرار صائبةً في العديد من القضايا الجوهرية والتي لم تحظ باستمرار بتأييد الشعب الكردي أو كل قواه السياسية، ومنها بشكل خاص السياسات الاقتصادية، ومنها النفطية وغياب التنمية الصناعية والزراعية، والسياسة الاجتماعية والثقافية والتعليمية، إذ إنها لم تكن مدروسة ولا مبرمجة بصورة علمية وعلى وفق الحاجة الفعلية للإقليم. والمشترك بين أوضاع العراق الاتحادي والإقليم يبرز في وجود الفساد المستشري وسيطرة الأحزاب الحاكمة على كل أجهزة الدولة والإقليم وضعف أو غياب الاستعداد للاستماع إلى الرأي الآخر. والفارق بينهما يبرز في أن الوضع بالإقليم غير خاضع لقوى الإسلام السياسي إلا بحدود معينة، ووجود الأمن وندرة العمليات الإرهابية، ووجود بناء مشاريع عمرانية بعيدة عن التنمية، بالرغم من الفساد، في حين أن الوضع على المستوى الاتحادي يعاني من سيطرة هذا الاتجاه الديني الطائفي، وغياب التنمية كلية وسيادة الفساد.
الاتجاه الثالث يحاول أن يرى الجانبان، الإيجابي والسلبي، في أوضاع كردستان العراق وينتقدها بوضوح ودون مجاملة. هذا الاتجاه حريص على تحقيق وحدة النضال ضد الفساد والإرهاب والتخلف ومن أجل الأمن والسلام والتقدم ما دام الإقليم ضمن الدولة العراقية، وليس إلى جانب تشديد الصراع والإساءة للشعب الكردي بأي حال، والتمييز بين الشعب والقوى السياسية، سواء الحاكمة منها، أم غير المشاركة في الحكم. كما يفترض التمييز في مواقف الأحزاب السياسية الكردستانية إزاء القضايا المطروحة، فليست كلها بوجهة فكرية أو مواقف سياسية واحدة.
وينعكس نشاط هذه الاتجاهات الثلاثة في ما تنشره من كتب ودراسات ومقالات فكرية وسياسية واجتماعية وفي ما تمارسه عملياً من فعاليات وما تصرح به. وإذا كان الاتجاه الثالث يمارس النقد المخلص ويتمنى على الشعب الكردي أن يواجه أخطاء حكوماته وأحزابه السياسية بالصرامة والحزم وفي النضال السلمي وفي منح أصواته في الانتخابات بما يساعد على الإلزام الشرطي باحترام حقوق الإنسان والدستور واحترام حرية الراي والصحافة والتنظيم والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة واحترام القواعد الديمقراطية في العمل السياسي وعدم التشبث بالسلطة دون وجه حق دستوري، فأن الاتجاه الثاني يوجه النقد من رؤية إلى حد غير قليل متحاملة وغير ودية، وبالتالي يصعب اعتبارها مساعدة لتحقيق التغيير الديمقراطي المنشود بالإقليم، رغم إن لديه انتقادات وملاحظات سليمة، ولكن أسلوب التناول والوجهة يصعب هضمها من جانب الشعب الكردي، دع عنك الحكومة والأحزاب الحاكمة. أما الاتجاه الأول فهو لا يرى في الإقليم، إلا كما كان يعبر عنها النظام البعثي الفاشي، باعتباره "جيباً عميلاً!" مرة لإيران، وأخرى لتركيا، وثالثة لإسرائيل، أو للولايات المتحدة الأمريكية. ومثل هذا النقد العدواني الشرس مرفوض وسيء، وينطلق من مواقف مسبقة الصنع ولا يمكن تغييرها، لأنها قائمة على أيديولوجية عنصرية وشوفينية ضد القوميات الأخرى وضد حق تقرير المصير.
واعتقد بأن الشعب الكردي وقياداته السياسية مطلوب منه المساهمة الفعالة في الرغبة الصادقة والمشتدة لدى المزيد من أبناء وبنات شعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه في التغيير الجذري للنظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والأثنية، والعمل من أجل إقامة الدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي الذي يعتمد الدستور الديمقراطي والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة على مستوى العراق والإقليم في آن والاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، رغم المصاعب المالية التي يعاني منها العراق ومعه الإقليم. إنه الطريق الوحيد والسليم لتحقيق ما يسعى له الشعب العراقي بكل قومياته وكذا الشعب الكردي ومصالحه الوطنية والقومية. إم وقوف الإقليم كمتفرج فيما يجري ببغداد ليس في مصلحة الإقليم ولا العراق عموماً. وأتمنى مخلصاً إن يجد هذا الراي قبولاً لدى الساسة الكرد والشعب الكردي، ولدى قياداته السياسية المشاركة في الحكم، ولدى رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق.       
 
 
             



442
كاظم حبيب
هل الرئيس التركي يسارع الخُطى نح استكمال بناء الدولة المستبدة؟
نحن أمام شخصية سياسية إسلامية متقلبة، ولكنها محافظة على الخيط الذي يشدها رغم تلك التقلبات، خيط الاستبداد في الفكر والممارسة. إنه شخصية سياسية إسلامية بدا للمتفائلين من بعض المفكرين والباحثين العرب معتدلاً في خضم تفاقم نشاط قوى الإسلام السياسي المتطرف القادم من السعودية وقطر والمتعاونين معهم من شيوخ الدين بدول الخليج والدول ذات الأكثرية المسلمة. كما جرت مقارنته برئيس حزب الفضيلة الإسلامي، نجم الدين أربكان، بعد أن تم حل هذا الحزب لتطرفه بقرار من المحكمة الدستورية التركية بتاريخ 22  حزيران2001. فانفصل أردوغان ومن معه عن هذا الحزب، وشكلوا حزب العدالة والتنمية، وادعى بأنه سيبقى أميناً لمبدأ العلمانية في الدولة التركية الذي كرسه كمال أتاتورك منذ تأسيس الدولة التركية. ولكي يكرس حكمه، استجاب أردوغان لضغوط الرأي العام العالمي ودول الاتحاد الأوروبي واتخذ خطوات مهمة على طريق الحد من دور القوات المسلحة الداخلي، ودعا إلى حل المسألة الكردية بالطرق السلمية وعبر الحوار مع حزب العمال الكردستاني، وحقق انتعاشاً اقتصادياً ملموساً وبرز ذك في تقلص حجم البطالة وفي تحسن السيولة النقدية وارتفاع سعر صرف الليرة التركية. وفعلاً فقد توقف القتال وبدأت عملية الحوار، الذي وجد التأييد الواسع على الصعيد العالمي.
ولكن هذا الحزب الإسلامي، الذي ادعى بأن غير إسلامي، أعلن عن أهدافه الإسلامية صراحة، حين بدأ التدخل المباشر في شؤون الدول ذات الأكثرية المسلمة في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وفي كل من مصر وتونس وسوريا والعراق، بحيث سقطت ورقة التين التي كانت تغطي عورة هذا الحزب وقادته دفعة واحدة، حين اتخذ موقفاً صريحاً ضد شعب مصر، الذي رفض محمد مرسي الإخواني في قيادة البلاد بانتفاضته الوطنية، التي هيمن عليها قادة القوات المسلحة وسخروها لمصلحتهم وضد أهداف الشعب المنتفض. كما برز واضحاً في تدخله الفظ، كحزب إخواني، في الشأن السوري والعراقي، وبالتعاون مع المملكة السعودية وقطر، بالسماح لدخول الإرهابيين إلى هذين البلدين وبأعداد كبيرة، وسمح لهم بالحركة في تركيا، بحيث أصبحت تركيا قاعدة الانطلاق وقاعدة الإيواء لجرحاهم وسوقاً لمشترياتهم ومبيعات النفط المنهوب من الآبار السورية والعراقية. وكان أحد الأسباب المباشرة في تحويل انتفاضة الشعب السوري المدنية السلمية، إلى حرب فعلية ضد النظام السوري الاستبدادي، الذي بدوره وجد التأييد المباشر من إيران وحزب الله وروسيا الاتحادية، فكان الموت والدمار والهجرة المريعة التي وصل تعداد المهاجرين أكثر من 3,5 مليون نسمة وأكثر من ذلك عدد النازحين داخل سوريا من مناطق الحرب الساخنة. إن هذا الثالوث الاستبدادي، تركيا-السعودية-قطر، هو الأساس في نشوء وتفاقم دور وفعاليات قوى الإرهاب الدموي داعش بالعراق، وداعش وجبهة النُصرة وأحرار الشام وغيرها بسوريا وليبيا. ورغم إن تركيا تحاول الانقلاب على داعش، إلا إنها ما تزال، وعبر قوى أخرى، تمدها بما يبقيها بسوريا، مع التصدي لها بتركيا.
إن حزب أردوغان خسر الأغلبية المطلقة في انتخابات 10/6/2015، بسبب سياساته الجديدة الخارجية منها والداخلية، ورفض الشعوب محاولاته تغيير الدستور وفرض النظام الرئاسي على البلاد بدلاً من النظام البرلماني، في حين حصل حزب الشعوب الديمقراطي على 80 مقعداً في البرلمان. مما حرم أردوغان من إمكانية تغيير الدستور وممارسة السياسة اتي يبتغيها. وقد دفعته تلك الخسارة إلى افتعال أزمة مع حزب العمال الكردستاني وشن العدوان ضد المناطق الكردية والشعب الكردي الأعزل بإقليم كردستان تركيا. ثم حل البرلمان وأجرى انتخابات جديدة حاز بموجبها على الأكثرية المطلقة لأنه نفخ فعلياً بكل المشاعر القومية والشوفينية بتركيا ضد الشعب الكردي، وهي التي ستعود عليه سلباً بالمحصلة النهائية. ونتائج الانتخابات الثانية في العام 2015 ربما تسمح له بمحاولة تغيير الدستور، ولكنه لم يجرأ حتى الآن على ذلك وهو متجه إليه.   
إن السياسات الداخلية لأردوغان تتسم بالديماغوجية والاستبداد والكشف عن هويته الإسلامية السياسية المناهضة للعلمانية والديمقراطية، والتي وجدت تعبيرها في مطالبة رئيس مجلس النواب التركي، وهو من حزب العدالة والتنمية، بوضع دستور جديد يقوم على الشريعة الإسلامية. ولا يمكن أن يجرأ على ذلك لولا محاولة جس نبض المجتمع وبموافقة أردوغان وأحمد أوغلو له. فسياسات أردوغان تسير باتجاه فرض المزيد من منع التجول في المناطق الكردية لاعتقال الناس وقتل من يشتبه به دوم مساءلة، واعتقال الأساتذة والإعلاميين والسياسيين المعارضين وزج الكثير منهم في السجون وتقديمهم للمحاكمة. وإذا كان الغرب قد بدأ بمساومة اردوغان بسبب حاجتهم له في ادعاء مكافحة داعش، أو في موضوع اللاجئين، فأن الرأي العام العالمي يقف ضد سياسات أردوغان الاستبدادية الموجهة ضد الشعب الكردي خاصة، والشعب التركي عامة، كما إن أوروبا مجبرة على مواجهة حقائق الوضع بتركيا وسياسات أردوغان المناهضة للديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات واتباع الديانات والمذاهب الأخرى وضد حرية الرأي.   
إن تركيا أردوغان تحث الخطى صوب المزيد من الاستبداد الداخلي والحرب ضد الكرد، والمزيد من التدخل في شؤون الدول الأخرى، مما سيؤدي أكثر فأكثر إلى المزيد من الفوضى والخسائر البشرية في الداخل التركي وبدول الجوار، والمزيد من الخسائر المادية وتباطؤ العملية الاقتصادية، وخاصة بالمناطق الكردية، وتزايد القتل على أيدي القوات التركية. إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد ارتكبا خطأً فادحاً بمساومتهما غير الإنسانية والخطرة مع النظام التركي المتحول صوب الثيوقراطية البليدة والمناهضة للعلمانية، وإنهما سيكونان مسؤولين عما يجري بتركيا والمنطقة من عواقب مأساوية وكارثية، وخاصة بسبب سكوتهما عن، أو حتى تعاونهما مع، سياسة التحالف الثلاثي التركي-السعودي-القطري بمنطقة الشرق الأوسط.
           
     

443
كاظم حبيب
فشل الدولة الرثة ونظامها السياسي الطائفي الرث!
حتى الآن، ورغم المطالبة المتسعة برفض الطائفية كنظام سياسي رث ومقرف سائد بالعراق يعتمد المحاصصة الطائفية في توزيع السلطات الثلاث في الدولة العراقية الرثة القائمة منذ سقوط الدكتاتورية البعثية-الصدامية الغاشمة، ورغم الفشل المريع الذي يشمل عمل هذه السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء وسوء علاقاتها بالمجتمع، ورغم المظاهرات المدنية السلمية ببغداد ومحافظات الوسط والجنوب المطالبة بالتغيير الجذري للنظام، ترفض الأحزاب السياسية الطائفية والأثنية الحاكمة التخلي عن نظامها السياسي الرث، والمتخلف، والفاسد، والمخالف حتى للدستور العراقي رغم عيوبه، ولحقوق الإنسان، ترفض التخلي عن حصصها في السلطة التنفيذية وعن المكاسب غير المشروعة والمصالح الشخصية التي تحققها بوجودها في السلطة، من حيث المال والنفوذ والتأثير، بعيداً عن مصالح الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، بعيداً عن المواطن العراقي، الذي شوه الطائفيون هويته الوطنية المتساوية والموحدة والمشتركة، واعتمدوا الهويات الفرعية القاتلة. إن هذا الرفض الاستبدادي تجلى في عدد من المؤشرات الصارخة:
** الخشية القاتلة لدى رئيس الوزراء من فقدان النظام الطائفي كلية بالإصلاحات التي تطالب بها الجماهير المدنية عبر الحراك الشعبي.
** خشية الكتل النيابية المعبرة عن مصالح أحزابها السياسية الطائفية والقومية وقياداتها التي استمرأت الحكم والفساد وملء الجيوب والحسابات المصرفية، وغير راغبة بأي تغيير سياسي فعلي للنظام الطائفي القائم.
** عجز رئيس الجمهورية لأسباب كثيرة عن الدفع باتجاه التخلي عن المحاصصة الطائفية والأثنية، ومنها بسبب موقف التحالف الكردستاني الذي يرفض التخلي عن قاعدة المحاصصة في توزيع السلطة لاعتقاده بخسارته عند التخلي عن النظام الطائي – الأثني المحاصصي الفاسد.
** دول الجوار التي تلعب دوراً وقحاً وسيئاً وفاعلاً في الموقف السلبي من مطلب الجماهير في التغيير الجذري والمناهض له ولتطلعات الشعب بنظام مدني ديمقراطي حديث.
** ضعف الحراك المدني الشعبي في التأثير الكبير في الأحداث الجارية بالعراق، وخاصة موضوع التغيير، رغم التحسن النسبي في الأداء والاستمرارية والتوسع التدريجي.
إن هذا الواقع فسح في المجال دخول قوى سياسية إسلامية دينية متقلبة دوماً على خط التغيير الذي تنشده الجماهير منذ العام 2011، فتعرفنا عبر مواقفها الفعلية والملموسة على تقلباتها السرعة ومزاجيتها وفردية قائدها. ويمكن أن نرصد بيقظة وتمعن وحذر الأهداف التالية:
1.   إضعاف مباشر لدور وتأثير ونشاط التيار المدني الديمقراطي، وكذلك قوى الحراك المدني الشعبي المتسع خلال السنة المنصرمة والرغبة الجامحة في الحلول محله، وهي إشكالية تبرهن عليها الحياة يومياً.
2.   تزعم المطالبة بالإصلاح، الذي تتسع مطالبة الشعب به، بعد أن برهنت الدولة الراهنة وسلطاتها الثلاث على فشلها التام، وبالتالي نضوج تدريجي واضح لعملية تغيير السلطات الثلاث، وهي راغبة في التأثير على وجهة التغيير وقيادته لصالحها.
3.   الكشف عن الفساد في صفوف الحلفاء في التحالف الوطني للبيت الشيعي، مع السكوت عملياً عن وجود فساد واسع النطاق وفعلي في صفوف المجموعة النيابية والحاكمة لذات التيار الصدري، والذي يقود ميليشيات طائفية مسلحة باسم "جيش المهدي أو سرايا السلام"، لا تختلف عما لدى غيره من القوى والأحزاب الإسلامية السياسية من ميليشيات مسلحة متطورة بالإرهاب والقتل والفساد.
4.   تصفية حسابات مع بعض القوى الإسلامية السياسية وبشكل خاص مع المستبد بأمره والحاكم السابق نوري المالكي وقائمته المسماة خطأً "دولة القانون!"، الذي لم يُقدم حتى الآن إلى المحاكمة رغم التهم الكثيرة التي يوجهها الشعب له ولغيره من المسؤولين وقادة الأحزاب السياسية الحاكمة.
إن ما حصل يوم السبت المصادف 30 نيسان/ابريل 2016 يعبر عن حالتين ارختين هما: أ) غياب الدولة الفاشلة وعجزها، وب) ارتفاع كبير في مزاج الجماهير الكادحة والمعوزة والمحرومة الراغبة فعلاً في تحقيق عملية التغيير الجذري في أوضاع البلاد. ويبدو إنها مستعدة لتأييد من يرفع شعارات الإصلاح والتغيير ومستعدة للانقياد السريع دون تمحيص. وهذه الجماهير ما تزال متأثرة بالدين وشيوخ الدين والمرجعيات الدينية التي لم تسعفها بأي شكل من الأشكال وفي أي وقت من الأوقات. وما أن تحرك مقتدى الصدر ودفع الجماهير وشجعها على التظاهر، وما أن تحركت هذه الجماهير، حتى أعلن عن اعتكافه لمدة شهرين!! ومنع نواب تكتله عن المشاركة في جلسات مجلس النواب! لقد كان الأجدر به أن يدفع بهذه الجماهير لتلتحق بالحراك المدني الشعبي الذي يناضل بأساليب سلمية وديمقراطية وثبات نحو الأهداف التي تطالب بها الجماهير لتحقيق التغيير المنشود بدلاً من الفوضى الموجودة أصلاً بالعراق والتي ازدادت خلال الفترة الأخيرة، وخاصة عند اقتحام مجلس النواب البائس بغالبية أعضاءه والاعتداء على بعض النواب بالضرب. إن غالبية النواب لا يجب الاعتداء عليهم بالضرب أو الشتم، بل يستوجب تقديمهم للمحاكمة لينالوا الجزاء العادل لما اقترفوه بحق هذا الشعب، لأنهم أساءوا له ولإرادته وحقوقه ومصالحه. 
لا شك بأن الرئاسات الثلاث هي المسؤول الأول عما يجري بالبلاد، وتلك الكتل التي تجتمع بها لتقرر ما تريد، وليس لما يريده الشعب. إن هؤلاء جميعاً بعيدون كل البعد عن الشعب وعن ذهنية التغيير الجذري في الأوضاع والنظام، فهذا نظامهم الذي يدافعون عنه حتى الرمق الأخير، وعلى الشعب أن يدرك هذه الحقيقة. إنه النظام الذي ساعد على تكديس الأموال في حساباتهم، وفي ذات الوقت تسبب في احتلال العراق والمزيد من البؤس والفاقة للناس، والمزيد من الموت لبنات وأبناء العراق على ايدي قوى الإرهاب، كما حصل أخيراً ببغداد والسماوة وغيرها.   
أدعو الأخوات والأخوة في الحراك المدني أن يواصلوا مسيرتهم الديمقراطية السلمية وحراكهم الشعبي المدني لتوسيع قاعدة المتظاهرين الملتزمين بهدف التغيير الجذري للنظام السياسي الطائفي المقيت، فهو الطريق السليم لتحقيق الأهداف المنشودة.     

 
 
 
       


444
كاظم حبيب
معتقلو وسجناء العراق: من يدافع عن حقوقهم المغتصبة؟
لم يتمتع السجناء السياسيون العراقيون، منذ بدأت سجون العراق تستقبل السياسيين أفراداً وجماعات، بالحقوق المقررة دولياً. لم يكن قد حصل هذا في العهد الملكي وفي ظل العلاقات شبه الإقطاعية والهيمنة البريطانية على سياسة البلاد، رغم النضالات الباسلة التي خاضها السجناء السياسيون وقدموا الكثير من التضحيات، ومنها تعرضهم لمجزرتي بغداد والكوت في العام 1953، بسبب مطالبتهم بحقوقهم المشروعة، التي أقرها الدستور العراقي والقوانين المعمول بها حينذاك، وتحسين ظروفهم ومعيشتهم، مما أدى إلى استشهاد عدد من السجناء السياسيين وجرح العشرات منهم.
ولم يكن حال السجناء السياسيين في فترة حكم البعث والقوميين الأولى، وحكم القوميين، ومن ثم حكم البعثيين الثاني، تمت إلى البشر بصلة، فقد كان المحققون وأجهزة الأمن والشرطة وشرطة المعتقلات والسجون وحوش كاسرة منحت حق تعذيب الإنسان بكل الأساليب المتوفرة، بما في ذلك فرم الإنسان بمكائن فرم عملاقة استوردت خصيصاً لسجون العراق، إذ فرم فيها الكثير من السجناء السياسيين ورميت لحومهم للسمك في نهر دجلة ببغداد.
وعلى امتداد الفترة الواقع بين شباط/فبراير 1963 ومارس/آذار 2003 استقبلت سجون البعثيين والقوميين والبعثيين ثانية، السرية منها والعلنية، مئات ألوف المعتقلين والسجناء السياسيين الذين تعرضوا للاعتقال الكيفي والتعذيب، وجمهرة كبيرة جداً منه استشهدوا تحت التعذيب أو أعدموا أو أرسلوا إلى جبهات القتال الأمامية ليستشهدوا هناك. وكان التعذيب الذي يتعرض له المعتقل أو السجين السياسي يجسد قمة السادية المرضية والعدوانية والرغبة في رؤية الضحية يتعذب بين أيدي جلاديه. إنها شهوة السيطرة والتحكم بالإنسان الضحية. وعلى عهد البعثيين والقوميين يقدم قصر النهاية وقطار الموت وجميع سجون بغداد المعروفة وعموم العراق، نماذج رهيبة لما كان يحصل فيها من تعذيب. وقد كتبت عنها الكثير ونشرت كتاباً بهذا الصدد تحت عنوان "الاستبداد والقسوة في العراق" صدر عن مؤسسة حمدي بالسليمانية في العام 2005. كما كتب الكثير من العراقيين والعراقيات عن التعذيب في سجون البعث المجرم.
وفي أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري الفاشي في العام 2003 تحت ضربات القوات الأمريكية والبريطانية الغازية واحتلالها العراق وفرضها نظام المحاصصة الطائفية على المجتمع وضد هوية المواطنة المتساوية، ورغم شجب هاتين الدولتين في إعلامها ودعاياتها السابقة لسجون نظام البعث بالعراق وما كان يجري فيها، وتسمية نظام البعث الغاشم وصدام حسين بالفاشي، فإنها مارست في سجون العراق، وخاصة في "سجن أبو عريب" جميع الأساليب المحرمة دولياً ضد السجناء السياسيين، او المتهمين بالإرهاب، أو المعارضين للوجود الأمريكي بالعراق. إن الأساليب التي مارستها، حتى ضد الأطفال والنساء، لم تختلف بأي حال عن تلك الأساليب الفاشية السادية التي مارسها صدام حسين مع سجناء الرأي بالعراق، ولا عن الكثير من تلك التي مارستها أجهزة الغستابو وألـ "أس أس ss" النازية الهتلرية بألمانيا ضد السجناء السياسيين. ولم يكن المشاركون في أعمال التعذيب البربرية أو يعرف بها أولئك المرتزقة الذين وظفوا لهذا الغرض والقوات العسكرية الأمريكية، بل كبار المسؤولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم رئيس الدولة الأمريكية جورج دبليو بوش، ووزير دفاعه رامسفيلد وكل القادة العسكريين الأمريكيين المسؤولين الذين حكموا العراق حينذاك، وحكام العراق ممن تواطئوا مع الأمريكيين في تلك الممارسات الإجرامية.
ولم تنته الأساليب المنافية لحقوق الإنسان التي ترتكب بحق السجناء السياسيين أو المتهمين بارتكاب عمليات إرهابية بالعراق بخروج القوات الأمريكية والبريطانية، وتلك الهيئات الأمنية الإرهابية التي وظفت لـ "حراسة!" السجناء والمعتقلين، بل استمرت تلك الأساليب حتى الآن. ورغم أثارتي وآخرين لما يجري في معتقلات وسجون العراق لمرات كثيرة، إلا إنها لم تجد أذاناً صاغية من حكام العراق أو الأحزاب الإسلامية والقومية السياسية العراقية الحاكمة، أو حتى غير الحاكمة أو من القضاء العراقي، وهو أمر يرثى له حقاً. ومنذ العام 2005 و2006 حتى الآن توجد سجون سرية بالعراق، إضافة إلى السجون العلنية. وهي لا تختلف في أساليب التحقيق والتعذيب والتدمير الجسدي والنفسي وظروف العيش والحياة داخل السجون عما كانت عليه أوضاع السجناء في فترة حكم البعث الفاشي.
وأخيراً أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً بتاريخ 2/5/2016 يشير إلى ما يجري في السجون السرية بالعراق، والتي أقيمت ووسعت منذ فترة حكم المستبد بأمره والطائفي المهووس رئيس الحكومة السابق، والذي ما يزال يلعب دوراً كبيراً مضراً جداً في السياسة الرسمية العراقية، والتصدي لأي تغيير في الوضع الطائفي المقيت المرفوض من الشعب.
إلى ماذا يشير تقرير منظمة العفو الدولية، التي أنا عضو فيها وأثق بتقاريرها المحايدة إزاء التجاوزات على حقوق الإنسان في العالم، حول السجون السرية بالعراق؟
قام وفد من المنظمة الحقوقية ضم الأمين العام سليل شاتي بزيارة أحد هذه المراكز الواقع في منطقة عامرية الفلوجة الواقعة غرب بغداد، حيث جاء في التقرير الصادر عن منظمة "العفو الدولية" "ظاهرة الاعتقال على الشبهة وانعدام وسائل التحقيق تتفاقم في العراق، وكما أنّ ظروف الاعتقال بالغة السوء"، مضيفاً أن "حقوقيين وقادة رأي عراقيين وأجانب، كثيراً ما اعتبروا أنّ معاناة السجناء والمعتقلين في العراق ما هي إلاّ تداخل الاعتبارات السياسية بالعوامل الطائفية في تسيير الشأن العام". ثم أكّدت المنظّمة أنّ "السلطات العراقية تحتجز غالباً أبرياء بتهم الإرهاب في ظروف مروّعة في عموم البلاد"، مشيرةً إلى أنّ "الاحتجاز على الشبهة وخارج القانون وممارسة التعذيب داخل السجون، ووجود معتقلات سرية، جميعها ظواهر مستشرية في العراق منذ 2003 وما تبعه من مرحلة حكم الأحزاب الشيعية التي سخّرت أجهزة الدولة من داخلية وقضاء لتصفية حسابات مع رموز ومحسوبين على نظام حزب البعث والتعامل مع المواطن على أساس طائفي أو على الهوية". وأشار التقرير إلى أن هذه "الظاهرة ازدادت تفاقماً مع اندلاع الصراع ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما رافق ذلك من بروز غير مسبوق لتشكيلات غير نظامية مسلّحة، ممثلة بمليشيات الحشد الشعبي غير الخاضعة لأي نوع من أنواع رقابة الدولة، والتي أتيح لها أن تسيطر على مناطق بأكملها وأن تجري فيها القانون على طريقتها"، مبينةً أنّ "شهادات كثيرة ترد عن عمليات اعتقال تمارسها المليشيات على نطاق واسع بحق سكان المناطق المستعادة من عناصر (داعش)، وأساساً بحق الذكور من شبان وكهول من أبناء الطائفة السنيّة بتهمة التعاون مع التنظيم لمجرّد الشك فيهم". وحول الاعتقال العشوائي جاء في التقرير ما يلي: " أن "ممارسة الاعتقال العشوائي لا تقتصر على المليشيات الشيعية، بل تشمل أيضاً القوات النظامية التي تعمد تحت ضغط الحاجة إلى منع تسرّب مقاتلي تنظيم (داعش) مع العوائل النازحة من مواضع القتال إلى توقيف غالبية الشبان والاحتفاظ بهم في معتقلات على أمل تحقيق مفترض غالباً ما يتأخر مدداً طويلة لعدم توفر العدد الكافي من المحققين ومن مراكز التحقيق المجهزة بالوسائل اللازمة". وعن أوضاع المحتجزين أشار التقرير إنّ "أوضاع احتجازهم تشكل صدمة كبيرة، حيث لكلّ واحد منهم مساحة لا تتجاوز متراً مربعاً، وليست هناك مساحة حتى للاستلقاء، كما أنّ الحمامات في نفس الغرف، إضافة إلى أنّ كمية الغذاء قليلة، والأوضاع بشكل عام مروّعة جداً ".كما أكد بعدم توجيه تهم محددة إلى المحتجزين كافة حتى الآن، وهم لا يعرفون لماذا هم محتجزون!!
وبالأمس (أوائل أيار 2016) قامت جماعات ملثمة وشرطة محلية باعتقال 22 شخصاً في مدينة الحلة، لأنهم شاركوا بالمظاهرات الشعبية التي تطالب بالإصلاح والتغيير الجذري. وقد اصدرت "جمعية المواطنة لحقوق الإنسان" العراقية بياناً احتجت فيه على هذا الاعتقال الكيفي، وطالبت بإطلاق سراحهم فوراً لأنهم لم يرتكبوا جرماً، بل مارسوا حقاً ثابتاً من حقوقهم المشروعة، كما هو وارد في المادة 38 من الدستور العراقي. وفي الوقت الذي أطلق سراح 4 منهم وبكفالة، أي يراد تقديمهم للمحاكمة، لم يطلق سراح البقية حتى الآن، علماً بأن بينهم من يقل عمره عن 18 سنة. إن ما جرى في الحلة، عاصمة الحضارة البابلية العراقية القديمة، ليس إلا إمعان في انتهاك حقوق الإنسان والتجاوز الفظ على حريته من جانب أجهزة الدولة والجماعات المسلحة الموازية التابعة للأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة. إن المعلومات المتوفرة تشير إلى وجود "دواعش شيعية" تتجول ببغداد، لا تختلف في سلوكها عن الـ "دواعش" الذين احتلوا الموصل والأنبار وصلاح الدين وغيرها. وهم الآن يرسلون التهديدات بالسجن والقتل إلى نشطاء تظاهرات الحراك المدني الشعبي وغيرهم. إن على منظمات المجتمع المدني فضح هؤلاء وممارساتهم ضد الإنسان العراقي، الذين يأتمرون بأوامر سيدهم المستبد بأمره وبالخارج. 
إن الواجب الوطني والإنساني يستوجب من كل إنسان عراقي شريف يدرك مسؤوليته عن العراق وشعبه بالداخل والخارج، وكذلك منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية والرأي العام العالمي، أن يرفعوا صوت الاحتجاج والإدانة للاعتقال الكيفي وللأوضاع المزرية للمعتقلين والمحجوزين والسجناء السياسيين وغيرهم بالعراق، وأن يطالبوا المجتمع الدولي والحكومة العراقية والأحزاب السياسية بإطلاق سراح الأبرياء من المعتقلين وتوفير مستلزمات التعامل الإنسان معهم وتوكيل المحامين للدفاع عنهم ورؤية عائلاتهم، على وفق لائحة حقوق الإنسان وحقوق السجناء، ورفض التعذيب النفسي والجسدي والالتزام بالشرعية في عمليات الاعتقال والتحقيق بعيداً عن أجهزة الأمن المختصة بالتعذيب وعن المليشيات الطائفية المسلحة وقوى الإرهاب بالعراق. 
علينا أن نتحمل مسؤوليتنا في الدفاع عن حقوق المعتقلين والمحتجزين والسجناء مهما كانت التهم الموجهة لهم، فالمتهم برئ حتى تثبت إدانته أولاً، وحين يبرأ يجب أن يطلق سراحه حالاً ويعوض عن فترة اعتقاله غير المبرر، وحين يجرم، فلا بد من التعامل معه على وفق أسس التعامل المقررة دولياُ والمنصوص عليها في سبل التعامل مع السجناء، سواء أكان السجين سياسيا، أم من سجناء الحق العام.


445
كاظم حبيب
رسالة نداء للعراقيات والعراقيين ببرلين
خلال شهر واحد من عام 2016 فقدت الجالية العراقية ببرلين أربع شخصيات عراقية وطنية شاركت باستمرار بفعاليات القوى الديمقراطية والتقدمية بألمانيا عموماً، وبرلين على نحو خاص، إنهم الأخوة والأصدقاء الأحبة حسب تتابع وفاتهم: الناشط المدني الدكتور صلاح الراضي، الأديب والكاتب القاص صبري هاشم، المهندس والناشط المدني الاجتماعي صبيح الحمداني ومن ثم الناشط السياسي المخضرم الدكتور عبد العزيز وطبان، كما وصلنا خبر وفاة الكاتب والإعلامي جلال عبد الوهاب الماشطة بموسكو. وهو صديق عزيز لنا جميعاً. وهم جميعاً نشطاء سياسيون وطنيون تقدميون ناضلوا بأساليب وصيغ شتى لصالح العراق الديمقراطي التقدمي، العراق المدني العلماني الحديث. ولكن فقدناهم قبل أن تكتحل عيونهم بتحقيق ما كانوا يناضلون من أجله، وتركوا خلفهم تراثاً نضالياً وطنياً عزيزاً علينا، يفترض أن نحمل الراية التي أجبروا على تسليمها لنا ولغيرنا ببرلين ولكل العراقيات والعراقيين في كل مكان.
ولكن هذه الخسائر السريعة وقبلها خسائر أخرى لم تسعفنا نحن العراقيين والعراقيات ببرلين حتى الآن أن نعيد التفكير والنظر بما آلت إليه العلاقات الاجتماعية والإنسانية في ما بيننا، بحيث أصبحنا كتلاً متباعدة، وأحياناً متصارعة، كما هو حال العراق الغارق في الصراعات والنزاعات المدمرة بين قوى سياسية طائفية حاكمة وفاسدة وتريد الاستمرار في السلطة بالضد من إرادة الشعب وقوانين التطور الاجتماعي. ولكن الأخوات والأخوة ببرلين لا يتصارعون من أجل السلطة ولا هم طلابها، بل جميعهم يناضلون في سبيل عراق ديمقراطي تقدمي وعلماني وبعيد عن التمييز الديني والمذهبي أو القبلي، فلماذا إذاً لا يلتقون ويتفاعلون وينسون الصغائر من الأمور التي دفعت بهم إلى هذه الحالة الراهنة التي لا يلتقون إلا في مآسي دفن هذا العراقي الصديق أو ذاك، وأحياناً حتى في هذه يختلفون.
إن ما يجري بالعراق من صراع ونزاع بين قوى سياسية إسلامية طائفية حاكمة لا تريد الخير للعراق، بل تعمل من أجل السلطة والمال والنفوذ، وهي التي دفعت بالعراق إلى هذا المستنقع الذي استقر فيه والذي يجب أن ينقذ منه قبل فوات الأوان، وإن ما يجري مرفوض من كل القوى والجماعات والشخصيات الوطنية العراقية من النساء والرجال ببرلين. وهذا الواقع يفترض أن يكون الدافع للتعاون والتضامن والتفاعل في ما بينهم ونسيان القضايا الشخصية او معالجتها بما يسمح بعودتهم إلى التفاعل المشترك والنشاط المشترك حتى لو كانوا أعضاء في أكثر من جمعية أو منظمة من منظمات المجتمع المدني. فالاختلاف في الرأي فضيلة وليس رذيلة شريطة أن لا يقود إلى الفرقة والصراع.
أتمنى على جميع العراقيات والعراقيين المقيمين ببرلين أن يفكروا ملياً بما وصل إليه حال الجماعات المتصارعة منذ عدة سنوات، ولم تجد فرصة التلاقي حتى في موت أحد أفرادها، بل يتواصل هذا الوضع وهو أمر نشاز وغير مقبول ومؤذي لنا جميعاً دون استثناء.
أرجو وآمل أن نتفق على موعد، ونحن جميعاً كبار السن تقرياً، في أحد مقرات الجمعيات العراقية القائمة ببرلين، أياً منها، نلتقي فيها جميعاً لندفع بعلاقاتنا الصداقية القديمة والجديدة إلى التجديد والتفاعل وطي صفحة الماضي، التي قادتنا إلى الوضع الراهن. أتمنى على الجميع أن يجدوا في ما بينهم لغة مشتركة ووداً تضامنياً لصالح الحياة الثقافية العراقية المتشظية والضعيفة عموماً ببرلين، والتي ستجد انعكاسات طيبة لها على صعيد ألمانيا، وربما على صعد أخرى أينما وجد عراقيات وعراقيون يدركون أهمية العمل المشترك وفي هذه الفترة بالذات لصالح الجالية العراقية بالخارج ونشاطها المشترك ولصالح العراق.
يمكن أن أتكفل بالدعوة إلى هذا اللقاء، إن وصلتني إشارات طيبة من أكثر من صديق في منظمات المجتمع المدني العراقية ببرلين، ومن الشخصيات المستقلة التي لا تشترك في عمل أي من هذه المنظمات، وسيكون لي الشرف في إنجاز هذه المهمة مع من يرغب بالتعاون والتنسيق لإنجازها.
لكم جميعاً خالص ودي وتقديري، مع أطيب تحياتي وتهاني بمناسبة اليوم الأول من آبار عيد العمال والكادحين العالمي.
كاظم حبيب 
برلين في 1/5/2016



446
كاظم حبيب
الطائفية القائمة بالعراق سادية المنهج والممارسة.... فإلى أين المسير؟
على امتداد نشوء الحركات الإسلامية السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وعلى امتداد الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى الآن، تميزت بكونها تعتمد على أحد المذاهب في الإسلام، سواء أكانت شيعية، أم سنية، بواحد من مذاهبها الأربعة، على حسب البلد بأكثريته المسلمة السنية. وهذه الأحزاب التي قامت على أساس مذهبي، تميزت في الوقت ذاته بالطائفية السياسية، أي مارست التمييز إزاء أتباع المذاهب الأخرى، سواء أكانت في الحكم أم خارجه، لم تعترف يومياً بهوية المواطنة المتساوية والمشتركة، حتى حين تُجبر على تثبيت ذلك في دساتيرها الأساسية. فالممارسة تختلف تماماً عما هو مسطر لديها على الورق.
يمكن أن يتابع الباحث الفارق في ما بين هذه الأحزاب أو حكوماتها في مدى شدة ممارستها التمييز إزاء أتباع المذاهب الأخرى في الإسلام، إضافة إلى مدى ممارستها للتمييز الفعلي ازاء أتباع الديانات الأخرى. وليس هناك من بلد لم يعانِ من هذا الواقع المّر، إذ يشمل الدول ذات الأكثرية المسلمة والمتعددة المذاهب أو الديانات من غير الدول العربية أيضاً. والتمييز نجده في سياسات وممارسات الدول بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها المختلفة، ونجده أيضاً بين الأحزاب القائمة وكذلك لدى الأفراد. ويمكن هنا ذكر السعودية وإيران وتركيا وسوريا والعراق ومصر ولبنان والسودان والأردن...الخ.
والعراق يعتبر واحداً من أكثر الدول ممارسة للتمييز إزاء اتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين، وكذلك إزاء أتباع المذاهب الأخرى. وهي ممارسة تقوم بها سلطات الدولة الثلاث، وأحزابها وقواها السياسية الحاكمة، ومنظماتها، وتنظيماتها الميليشياوية الطائفية المسلحة، وكذلك انتشار ذلك في أوساط المجتمع.   
والطائفية القائمة بالعراق ذات منهج وممارسة تتسمان بعقلية التمييز وروح الانتقام في التعامل اليومي والسادية الجامحة والرغبة الشديدة في إقصاء الآخر. ومناهج الأحزاب الإسلامية السياسية تقوم على هذا الأساس في الواقع اليومي، وهي بالتالي تتنكر فعلياً لهوية المواطنة الحرة والمتساوية والشراكة بالوطن، حتى وأن لم تقلها، فهي تمارسها يومياً. وفي هذا انتهاك صارخ للائحة وشرعة حقوق الإنسان. ومثل هذه الممارسة لا تقود العراق إلى التمزق والتبعثر والصراع حسب، بل وإلى النزاعات الدموية التي ينبغي التصدي لها وإفشالها. وغالباً ما يتعكز الطائفيون بالعراق بالسلوك الطائفي للنظام السابق، وكأن أبناء السنة مسؤولون عن الحاكم السني الطائفي أولاً، وكأن الخطأ لا بد أن يقابل بالخطأ ايضاً، ليدمر البلاد وشعبها. فالطاغية صدام حسين لم يمثل السنة ابداً، والخطأ لا يقابل بالخطأ، بل بإزالة آثار ذلك الخطأ، من خلال الممارسة الإنسانية الصادقة في ما بين أتباع الديانات والمذاهب والقوميات، والابتعاد التام عن ممارسة التمييز وكل السياسات التي تقود إلى الموت والخراب والدمار والتدهور الحضاري.
لقد أكد رئيس الوزراء العراقي بأنه "مستعد على الموت في تصديه للطائفية"، أي إنه غير طائفي. ولكن، ها هو يقترب من عامه الثاني في السلطة والطائفية والفساد في تفاقم مستمرين، وعلى يد ذات الحزب الذي ينتمي إليه ويحتل فيه موقعاً قيادياً، ونفس التحالف الطائفي الذي ينتسب إليه والذي كرس الطائفية بالبلاد. فأين هي مصداقية قول رئيس الوزراء إنه مستعد للموت في مواجهة الطائفية؟ ليست هناك مصداقية الادعاء بأنه مستعد على الموت في مواجهة الطائفية!! الأعمال هي الأساس ولي الأقوال!
إن التقارير الكثيرة التي لم تصدر عن منظمات وأحزاب بعثية أو إسلامية سنية، بل عن جهات مستقلة حقاً، وعن منظمات مجتمع مدني مستقلة، وعن أحزاب وطنية لا تعترف بكل أشكال التمييز، تؤكد كلها على الدور المشين للميلشيات الطائفية الشيعية المسلحة وقادتها في المحافظات ذات الأكثرية السنية، وفي مجموع العراق. وكنموذج على ذلك نورد محافظة ديالى بشكل خاص، ولكن لا يتسثنى من هذا السلوك الشائن والسادي واللصوصي الذي يعاني منه سكان المحافظات الأخرى ذات الأكثرية السنية أو أبناء السنة في المحافظات ذات الأكثرية الشيعية. وعلينا أن نتذكر ما عاناه المسيحيون والمندائيون من ملاحقات وتهديدات وتشريد وقتل وتهجير وسيطرة على دور السكن والمحلات التجارية خلال الفترة الواقعة بين 2004-2008، وما بعدها أيضاً، على أيدي المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. ومشاركة المليشيات الطائفية السنية المسلحة في المواجهة وممارسة الطرفين للقتل على الهوية الدينية والمذهبية. إن النظام السياسي القائم بالعراق نظام سياسي طائفي مسخ، يستند في استمرار وجوده ونشاطه إلى المحاصصة الطائفية. وهي المصيبة الكبرى التي وضعت العراق في هذا الموقع المشين. وإزالة الطائفية تتطلب وحدة الشعب ووعيه بما هو عليه الآن ودور أبنائه وبناته المخلصين الذين يدركون عمق المستنقع الذي وضعوا الطائفيون العراق فيه، والذي يمكن أن يغوص ف هذا المستنقع أكثر فأكثر.
إن وحدة الشعب العراقي بكرده وعربة وكلدانه-آشورييه-سريانه وتركمانه، وأتباع كل الديانات والمذاهب، هو الطريق الوحيد للخلاص مما هو فيه الآن، للخلاص من الطائفية المقيتة وقادتها المناهضين للهوية الوطنية ومبدأ المواطنة، الخلاص من القتل المستمر أو التهديد بالقتل أو تجريف البساتين والحقول أو السيطرة على دور سكن الناس وممارسة التطهير العرقي، كما يجري اليوم في محافظة ديالى، حيث توجد المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة لعصائب الحق وبدر وحزب الله وغيرها. إنها مأساة العراق ومهزلته الراهنة.
في الوقت الذي يكافح الشعب ضد جرائم داعش، ترتكب جرائم باسم مناهضة داعش ضد قوى مناهضة لداعش في ديالى وفي غيرها. إن كسب المعركة ضد داعش، يستوجب كسب المعركة ضد الطائفية ومحاصصاتها المذلة للشعب العراقي، ضد الأحزاب الإسلامية السياسية التي تتشبث بالطائفية منهجاً لها وممارسة فعلية. إنها سوف لن تنتصر، ولكن لكي تنكسر وتختفي، ستقود إلى موت الكثير من الناس، وإلى خراب وبؤس وفاقة البلاد وشعبها.       
               

447
كاظم حبيب
ما الهدف وراء مناورات النخب السياسية الحاكمة بالعراق؟
تساؤلات كثيرة تدور في أذهان الكثير من الناس داخل العراق وخارجه والكثير من الأجانب المحبين لشعب العراق إذ هم يتساءلــون: ما الهـــدف وراء مثل هذه المناورات ولصالح من؟ الجواب عند الكثير من بنات وأبنـاء الشعب، وليـس عنـد الجميع، وهو الأمر الذي يستوجب تغييره. 
المناورات الجارية بالعراق داخلية وإقليمية ودولية، إنها مناورات يشارك فيها كل أطراف العملية السياسية المنتهية فصولها، ابتداءً من رئاسة الجمهورية ومروراً برئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب، ومجلس القضاء الأعلى، رؤساء الأحزاب الإسلامية السياسية، وقادة التحالف الوطني، وقادة المليشيات الطائفية المسلحة، وانتهاءً بقادة وقوى التحالف الكردستاني دون استثناء. المناورات جارية على قدم وساق، تشارك فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وإيران وتركيا والسعودية ودول الخليج، رغم التباين في التفاصيل والأهداف التفصيلية، المناورات تهدف إلى إبقاء النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية على حالهما، فالحكام هم المستفيدون من هذه الأوضاع، وبالنسبة لهم "ليس بالإمكان أبدع مما كان!". في حين إن المآسي والكوارث التي تعصف بالبلاد من نصيب الشعب، وخاصة الفقراء والمعوزين والكادحين منه, فالنظام القائم يضمن للمشاركين في الحكم جميعاً استمرار السلطة والفساد بكل أبعاده، حتى في ظل تراجع أسعار النفط، فالذي يتحمل كارثة أسعاره هم العام وليس الخاصة، ليس النخب السياسية الحاكمة، فهم بخير وبحبوحة لا تختلف عن بحبوحة صدام حسين ورهطه في فترة الحصار الاقتصادي الظالم على العراق. فالحكام كلهم دون استثناء يستفيدون من هذا الواقع المرير، في ما عدا الشعب العراقي بغالبية قومياته وفئاته الاجتماعية كالبرجوازية الصغيرة والمتوسطة وفئة المثقفات والمثقفين الديمقراطيين والتقدميين، لا ذوي الثقافة الصفراء الطائفية والشوفينية، الذين يعيشون تحت مظلة الحكم الطائفي الأثني القائم.
هكذا تجمع كل هؤلاء ليشكلوا فريقاً واحداً يلعبون أدواراً مختلفة، رغم صراعاتهم الداخلية لتحقيق أفضل الامتيازات لكل منهم، إنه الصراع على الموقع الأفضل في السلطة والنفوذ والجاه. مع الإصلاح دون التفريط الكلي بالنظام المحاصصي القائم، فهم مصرون على امتصاص الغضب والنقمة والرغبة في الخلاص بأساليب شريرة ومكشوفة، ولكن هذه المناورات لا تمر على الجميع، هدفها تجاوز هذه الفترة، وتجاوز الهبة الشعبية. منهم من ركب الموجة ليلعب على حبال غير متينة سرعان ما تتقطع، وسرعان ما ينكشف وتظهر عورته للجميع، وكما يؤكد المثل فأن "حبل الكذب قصير، كما إن أرجله قصيرة"!! ما يحصل في مجلس النواب عبارة عن مسرحية سرعان ما تنتهي إلى لا شيء، إنها امتصاص للنقمة، إنه لعب على الذقون، وليس كلهم بالضرورة, وهذا هو أحد الأهداف في تضييع التباين بين الراغبين حقاً في التغيير والرافضين له. إنه موقف مأساوي إن استمر الوضع على هذه الحالة لأنه سيتحول إلى مهزلة كبيرة ومأساة أكبر.
رغم العمر السياسي الطويل للكثير من العراقيات والعراقيين، ورغم الخبرة المتراكمة عبر العقود المنصرمة، ورغم المعرفة الجيدة بطبيعة النخب الحاكمة الجديدة ورثاثتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، ورغم الحديث القائل "العاقل لا يلدغ من جحر مرتين"، فأن الكثير من العراقيين، ولا أقول العراقيات، من ذوي الذاكرة الضعيفة أو القصيرة، قد لدغوا عشرات المرات، وهم ما زالوا يلدغون من قبل شذاذ الآفاق والجماعات السياسية الرثة فكراً وممارسة.
بكلمة واحدة بدأ الاعتصام وزحف المعوزون والحالمون بالتغيير والمغتصبة إرادتهم لتدينهم، وبكلمة واحدة أيضاً انتهى الاعتصام!، وكأن لم تكن هناك مطالب شعبية حقيقية يراد ملاحقتها وتحقيقها. وحزن كثيرون. ثم بدأ اعتصام جديد وسينتهي، وما من جديد. مثل هذه التقلبات اليومية لا يمكنها أن تقود إلى تغيير الوضع بالعراق. إلا إنه سيمهد لعودة نوري المالكي، أبو "ما ننطيها" و"المعركة مستمرة بين أنصار الحسين ويزيد..!"، إن لم يحزم الناس أمرهم ويمنعوا وقوع البلية، ويأن لم يسعون للتغيير بالطرق السلمية التي يمكن أن تتعاظم قوة وشعبية وسعة يوماً بعد آخر بعد أن يزداد الوجه الملطخ بالعار لطغاة العراق أمام أنظار الشعب! 
نحن أمام ظاهرة قديمة متجددة تعبر عن وعي غير متنور، عن وعي ضعيف، لا يعي تماماً الأسباب الكامنة وراء المأساة التي يعيشها يومياً ومنذ عقود، نحن أمام وعي زيف دينياً واجتماعياً وسياسياً، بحيث يبدو الفرد الراكض وراء فرد آخر، وكأنه جزء من قطيع لا يعي ما يعاني منه، ولا يرى ما يراد له ومنه، ولا يدرك حقيقة المستنقع الذي حط فيه المجتمع، ويأتمر بأوامر غيره! وأخيراً قدم محمد تقي المدرسي حلاً " إعجازياُ وتاريخيا ًلمعضلة مجلس النواب الخائب بكل شيء، حتى في "فورته!" المدبرة من أغلبية نيابية فاسدة، أن يذهب إلى المرجعية بالنجف لحل المشكلة!!
الحراك المدني الشعبي يفترض ألا يصاب بالعطل نتيجة تراجع أحد أطرافه، بسبب عجزه عن الصمود ومواجهة الضغوط الكثيرة التي يتعرض لها، لأنه يشكل جزءاً من النخب الحاكمة، ومن المجمع الديني في البيت الشيعي، فالانسحاب السريع من الاعتصام يمكن أن يتسبب في إحباط المتظاهرين. وتتحمل قوى الحراك المدني الشعبي التصدي لهذا الإحباط وتجميع الصفوف ومواصلة النضال السلمي. فالجماهير الواسعة التي شاركت في الاعتصام تقف من حيث المبدأ في المواقع الخاطئة التي يمكن أن يغير مسؤولوها وجهة مسيرتها بسرعة فائقة. وتلك الجماهير هي التي تحتاج إلى وعي وضعها وأسبابه، ومن يمكن له مساعدتها في تجاوزه. ومثل هذه العملية ذات صيرورة وسيرورة طويلة ومعقدة ولكنها ممكنة، وكما قال الصديق والكاتب رضا الظاهر، "نحت في الصخر"، وعلينا مواصلة هذا النقر بدأب ودون كلل..               
قوى الحراك المدني الشعبي طلاب حق وعدل وتغيير، وحركة التطور معهم، رغم صعوبة التغيير وتعقيداته وجراحاته وضحاياه رغم سلميته، والقوى الطائفية السياسية ونظامها السياسي ومحاصصاته طلاب تمييز وتهميش وإقصاء، طلاب نهب وسلب وفساد، طلاب اغتناء فاحش والعيش على السحت الحرام، طلاب حسابات في بنوك أجنبية وقصور وعمارات وشركات تجارية على حساب عيش الشعب وحياته وكرامته. وهم ضد حركة التطور الاجتماعي وقوانينه، وضد الإنسان وإرادته وحقوقه ومصالحه. والسباق بينهما كثير الحركة والتعرج، إنها زگزگة طبيعية في حركة التاريخ، ولكنها تنتهي في المحصلة النهائية لصالح الشعوب، وليس عبثاً حين صدَّح بصدق وصواب الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
إذا الشعــب يومــا أراد الحيــاة فلا بـــد أن يستجيب القــدر
ولا بد لليل أن ينجــــــــــلي ولا بد للقيـــــــــــــــــد أن ينكســـــر
ولار يمكن لهذا الشعب أن يكسر القيد ما لم يتحرر من الأوهام التي زرعتها الأحزاب الإسلامية السياسية والقومية الشوفينية وشيوخ الدين غير المتنورين وغير الواعين، وشيوخ العشائر غير المدركة للتحولات الجارية في العالم، رغم الفورة العشائرية الراهنة التي لن تصل بنا إلى شاطئ الحرية والديمقراطية والعدل والسلام! يجب ألاّ ينتظر الإنسان من شفاثة عافية، كما يقول المثل الشعبي العراقي القديم.

   

448
كاظم حبيب
من تسبب بسيول الدماء والخراب والبؤس بالعراق؟
شعب العراق، بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، يعيش الأزمات المتشابكة والمستعصية، يعيش المآسي الدامية والكوارث المدمرة والمستمرة، يعيش الإرهاب والفساد والبؤس والحرمان، يعيش النزوح والهجرة والسبي والاغتصاب وبيع النساء في سوق النخاسة، يعيش الحرب الدامية على جبهات القتال، ويعيش صراع الفاسدين والمنحرفين عن أهداف الشعب وإرادته ومصالحه على السلطة والمال والنفوذ، ويعيش ضياع القيم والمعايير الإنسانية لدى النخب الحاكمة الإسلامية منها والقومية، فمن تسبب بكل ذلك؟ وكيف الخروج منه؟
الإجابة عن السؤال الأول تستوجب ربط الماضي البعيد والقريب بالحاضر الجاري، والرؤية العقلانية للعلاقة بين العوامل الدولية والإقليمية والمحلية المتفاعلة معاً كعملية متشابكة ومعقدة ومستمرة على أرض العراق. فلا يمكن اختصار ما يجري لعامل دولي واحد هو الاستعمار أو الاستغلال أو التدخل الأجنبي، على أهمية ومسؤولية هذا العامل، ولا بالعامل الإقليمي وحده، أو بالعامل الداخلي فقط، فخيوط الترابط الجدلي قائمة بين جميع هذه العوامل، رغم الأهمية الكبيرة لفعل العوامل الداخلية. فتركة التاريخ الإسلامي منذ البدايات، منذ الفتوحات الاستعمارية الأولى للعرب المسلمين وفرض الدين بالقوة على اتباع الديانات الأخرى وممارسة الاستغلال واحتقار الآخرين من أتباع القوميات والديانات الأخرى، تحت واجهة مهلهلة "كنتم خير أمة أخرجت للناس!", ومارست العنف وغياب العدل والانصاف، والذي استمر يتفاقم في الدولة العثمانية وفي الصراع مع الدولة الفارسية للهيمنة على العراق وخوض نزاعهما فيه وعلى حساب حياة الشعب وعيشه وكرس الأجواء العدائية والأحقادبين أتباع المذاهب في الإسلام. تركة السلطنة العثمانية ثقيلة، فكراً وممارسة، كانت وستبقى عواقبها السلبية الكثيرة، وخاصة النفسية والتقاليد السلبية الموروثة في الإدارة والمجتمع والتعامل بين الناس، فاعلة ومؤثرة على الفرد العراقي ومؤسساته وعلى المجتمع.
كما إن دور الاحتلال البريطاني وعنجهيته، رغم كونه كان السبب في ولوج العراق لأول مرة في العصر الجديد للحضارة البشرية الغربية الحديثة، إذ فتح، وبالرغم منه، النوافذ والأبواب لدخل الهواء النقي لرئات العراقيات والعراقيين، ودوره في اعتماد أسس خاطئة في تشكيل الدولة العراقية، وفي تشويه الدستور وتزييف الانتخابات والسياسيات اليومية، وفرض حكومات غير مقبولة من الشعب، وفرض الإرادة الإمبريالية ضد مصالح الشعب للحفاظ على وجوده وتنفيذ معاهداته المخلة بسيادة العراق مع العراق وتكريس سيطرته. وقد تسبب كل ذلك في وقوع انتفاضة تموز 1958 العسكرية والشعبية، التي عجزت عن وضع العراق على طريق الحياة المدنية الدستورية والحياة الديمقراطية، كما عجز قادتها عن تحقيق المضمون الفعلي لثورة أرادها الشعب لتساهم في تغيير بنية الاقتصاد والمجتمع وتنقله ثورياً إلى مستوى آخر في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في مختلف المجالات. فكانت الردة، وكان السقوط، في أحضان القوى القومية والبعثية الشوفينية والاستبدادية، التي لم تعرف سوى الحديد والنار والأنفال وحروب الإبادة الداخلية والحروب الخارجية والقتل والتغيير الديموغرافي والتعريب القسري في التعامل مع الشعب وقومياته العديدة وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الديمقراطية والتقدمية، ومع قواه الوطنية كافة، والتي استمر حكمها ما يقرب من 38 عاماً، فعصفت بالعراق رياحهم المسمومة وجرادهم الأصفر وجدب الحياة ونشر والموت والخراب والبؤس والفاقة الفكرية والسياسية. وكان المدخل لحروب عديدة، ومنها الحرب الخليجية الثالثة، التي أنهت النظام البعثي والفاشي الدموي الشرير، الجحيم القومي اليميني المتطرف، الذي ترك إرثاً مرعباً من الكراهية و الأحقاد وأجواء الانتقام في العلاقات المشوهة والمزيفة والبعيدة عن كل القيم الإنسانية الرفيعة والمعايير الحديثة في العلاقة ما بين البشر ومع الآخر، لتقيم على أنقاضه جحيماً آخر، من نوع آخر، جحيم نظامٍ سياسيٍ طائفيٍ مقيت ومحاصصة طائفية مذلة، سواء أكان تحت الاحتلال الأمريكي المباشر، أم تحت السيطرة الإيرانية "المباشرة" والفعلية، وتحت أعباء الصراع الإيراني السعودي والتركي على أرض العراق مستخدمين القوى والأحزاب الإسلامية السياسية والقومية اليمينية المحلية في إدامة و تشديد هذا الصراع والنزاع الدموي المميت لا بإيران أو السعودية او تركيا، بل بالعراق وضد شعبه بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، ودور هذا الصراع وقواه الداخلية في ما يحصل لأتباع الديانات الأخرى من مسيحيين وإيزيديين ومندائيين وشبك وتركمان وغيرهم، أو ما حصل ويحصل حتى الآن لأبناء وبنات الشعب العراقي في المحافظات الغربية وفي محافظة نينوى من أتباع المذهب السني.
لقد كان حكام العراق وما زالوا، الذين شاركوا في الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط الدكتاتورية الفاشية لحزب البعث، أدوات طيعة فاعلة لصالح قوى الصراع الإقليمي وخيوطه التي تمتد إلى أطراف الصراع الدولي، وبالضد من إرادة ومصالح وحياة وكرامة وعيش ومستقبل الإنسان العراقي. ولم يكونوا في جلهم، سبب كل ذلك فقط، بل كانوا في جلهم وفي الوقت ذاته قاعدة للفساد والإرهاب الذي برز بوضوح في المليشيات الطائفية السياسية المسلحة وفي التنظيمات الإرهابية المسلحة الأخرى، والتي حصد الشعب العراقي بسببها الموت والفقر والخراب والحرمان.
إن ما يجري بالعراق اليوم هو تفاعل بين جريرة الماضي البعيد والقريب وسوءات الحاضر المشوه، إنه جريرة الأحزاب الإسلامية السياسية والأحزاب القومية اليمينية، كما إنه جريرة القوى الإقليمية والدولية التي تساند ذلك وتدعمه ولعبت دورها في إقامة مثل هذا النظام المشوه والمناهض لمصالح الشعب.
إن انتفاضة الشعب السلمية والديمقراطية، المتجسدة في الحراك المدني الشعبي، تجابه بأذان صماء من جانب النخب الحاكمة، أو من حركة تريد الالتفاف على مطالب الشعب في تحقيق الإصلاح الجذري، أي في التغيير الجذري لنظام الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية المذلة للشعب والمواطن، ولهوية المواطنة الحرة والمتساوية، وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية والنظام السياسي المدني الديمقراطي العلماني. إنه الصراع بين أنصار الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وأنصار الدولة الدينية الثيوقراطية الطائفية المتخلفة، بين أنصار المستقبل المشرق، وأنصار الماضي بجوانبه المظلمة والمعتمة والمدمرة. إنه الصراع من أجل الحياة والتقدم ضد قوى الموت والتخلف، ضد الردة الفكرية والاجتماعية التي تضافرت عوامل كثيرة لنشوئها، والتي يعيش الشعب تحت وطأتها حالياً. إن مستقبل العراق لن يكون لقوى الموت والخراب، بل لقوى السلم والحياة الدستورية الديمقراطية، للمجتمع المدني الديمقراطي الحديث.
كاظم حبيب
           

449
كاظم حبيب
صراع بين أنصار الدولة المدنية والدولة الدينية الطائفية!
حين تتحدث مع إنسان عاقل بالعراق وتسأله عن رأيه في الطائفية، يجيبك بسرعة وبلا تردد بأن الطائفية السياسية مرض خبيث أصيب به العراق منذ عقود ومورس بإصرار من قبل النظام الحاكم ومؤسساته، واستفحل وتكرس فعلياً كنظام سياسي ومحاصصة طائفية سائدين في سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها وأجهزتها منذ الاحتلال الأمريكي-البريطاني للعراق، ومنذ أن دعت إليه تلك الأحزاب السياسية الدينية والقومية، التي وافقت على شن الحرب الخارجية للإطاحة بالنظام الدكتاتوري البعثي المتعفن دون قرار وموافقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. وهذا المرض الخبيث لم يصب قادة الأحزاب الإسلامية السياسية التي أسست كلها، شيعية كانت أم سنية، على قاعدة الطائفية السياسية التي تعتمد التمييز إزاء أتباع الديانات والمذاهب وتمارس الصراع للهيمنة على السلطة والمال والنفوذ أو الجاه الاجتماعي، حسب، بل عم المجتمع وتسبب بموت مئات الآلاف من البشر خلال السنوات الاثني عشر المنصرمة. وإذا كان البعثيون قد خلفوا وراءهم إرثاً خبيثاً مرعباً من الناحيتين الفكرية والسياسية، وأعني بذلك الرؤية والممارسة العنصرية والشوفينية والاستبداد والعنف والقتل والتعذيب للمخالفين والمعارضين، فأن الاحتلال والقوى والأحزاب العقائدية المحلية، التي اعتمدت الإسلام السياسي الطائفي، سواء أكانت شيعية أم سنية، قد أضافت إلى كل ذلك الأِرث المخزي، الكراهية والحقد والانتقام والقتل على الهوية ومحاربة وتهجير وممارسة التغيير الديموغرافي أيضاً لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى عبر تشكيلات ميليشياوية-مافياوية (ميليشمافياوية) مسلحة، بذريعة مظلومية الشيعة، أو تهميش السنة، وسيادة الفساد وتهريب النفط والدولار وتفريغ خزينة الدولة من المال العام، وإفقار المجتمع، والتسبب في اجتياح المحافظات الغربية ونينوى من قبل عصابات داعش، وما اقترن بذلك من تهجير وسبي وقتل واغتصاب لبنات وأبناء العراق.
لم يكن ما حصل للعراق عفوياً، بل كان مخططاً له منذ سنوات، وتحقق عبر مساومات قذرة بين الولايات المتحدة وإيران من جهة، وبينهما والأحزاب الإسلامية السياسية والقومية من جهة ثانية. كما لم يكن ما حصل من عمليات انتقامية فاشية النزعة وسادية الأسلوب في سجن "أبو غريب" والسجون الأخرى في كل أنحاء العراق من جانب قوى الأمن الأمريكية والبريطانية، وفي الفلوجة من جانب قوى الأمن الداخلي عفوياً، بل كان هو الآخر نتيجة منطقية للذهنية التي هيمنت على الحكم خلال السنوات المنصرمة. ويمكن أن ندلل على ذلك بأحداث وخطب كثيرة نختار منها أحداث الفلوجة وضرب المعتصمين بالحديد والنار أولاً، وقبل ذاك ضرب المتظاهرين والإساءة إليهم ببغداد ومحافظات أخرى في العام 2011 من قبل قوات الأمن الداخلي، وكلها بقرارات من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. ومن ثم أقوال رئيس الوزراء السابق بأن "أخذناها بعد ما ننطيها، ليش هو أكو واحد يگدر يأخذها"، وخطاب هذا الشخص نفسه بكربلاء حين قال: "الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، ها هم اليوم موجودين، والحسين باللون الآخر لا يزال موجوداً وهو الذي يستهدف من هؤلاء الطغاة.. المعركة ضد الحسين لم تنته...، بل المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين ويزيد..." نوري المالكي. وكان هذا نداء استثنائي هستيري لمزيد من الصراع والنزاع وسيل من الدماء بين الشيعة والسنة.
وقبل أيام، يوم الجمعة المصادف 8/4/2016 تحدث المالكي مجدداً بالنجف وبروح معارضة الدستور العراقي الجديد، بعد أن اقصي من إلقاء كلمة في احتفالية حزب الدعوة الإسلامية في ذكرى الشهيد محمد باقر الصدر يوم الخميس 7/4/2016 ببغداد، ذهب ليؤكد رفضه، في خطبة تميزت بالحماس الفارغ، ضد الدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي، ودعوته لمشروع دولة دينية إسلامية، والتي رفضها الدستور، وأشار أكثر من مرة إلى إن المنادين بوزارة تكنوقراط ومستقلين هم الذين يتآمرون على الإسلام والمشروع الإسلامي، هذا المشروع الذي يتبناه المالكي، مشروعه الطائفي المقيت والقاتل للوحدة الوطنية العراقية والذي دفع بالعراق إلى المستنقع النتن الذي هو فيه الآن.
إن الصراع ليس بين المسلم السني والشيعي المؤمنين، وليس بين الكردي والعربي، وليس بين المسلمين والمسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين وغيرهم من المواطنات والمواطنين، بل إن الصراع الفعلي يدور ويحتدم بين من يعمل من أجل إقامة الدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني، وبين من يريد بناء دولة دينية إسلامية على أسس طائفية سياسية ومحاصصة طائفية وتميز بين اتباع الديانات والمذاهب في غير صالح هوية المواطنة الموحدة والمشتركة والمتساوية وضد الوطن وتقدمه. إنها المشكلة المركزية الراهنة بالعراق. إنه الصراع بين قوى تعمل لمستقبل الوطن المدني الديمقراطي، وقوى تطرح مشروعاً ماضوياً انتهى عهده منذ قرون لتفرضه على شعب العراق في القرن الحادي والعشرين، وهو ضد قوانين التطور الاجتماعي، ضد سنة الحياة والتقدم. وهو الذي تسبب ويتسبب، رغم التباين في صياغة شعار "الإسلام هو الحل" و"الحاكمية لله"، بموت مئات الآلاف من الناس الأبرياء لا بالعراق حسب، بل وفي جميع أنحاء العالم.               
إن رئيس الوزراء السابق، الذي يقود حملة شعواء ضد الإصلاح والتغيير الجذري بالبلاد، وبدعم مباشر وصارخ وتدخل فظ من جانب خامنئي، لاستوجب، لو كان القضاء والادعاء العام عادلين وغير مُسيَّسين، رفع عشرات الدعاوى القضائية ضده، ولوجد نفسه اليوم ولربما، كما أرى، في مكان آخر، وليس في قصر حكومي في المنطقة الخضراء وأمامه وخلفه عشرات الحماة "الميامين!" وسيارات الهامر المصفحة!!!
      


   

450
كاظم حبيب

الكرد الفيلية ومعاناتهم بالعراق، وطنهم الأصلي
 

الفيلية ليسوا طارئين على العراق، ليسوا مهاجرين حطَّو فيه موقتاً ليغادروه بعد حين، أو ليطردوا منه شر طردة، كما فعل النظام البعثي الفاشي في العام 1980، فهم جزءٌ أصيل من أبناء وبنات هذا الوطن الذي هو العراق. إنهم من بناة العراق على امتداد القرون المنصرمة. كما إنهم جزءٌ أصيل من القومية الكردية، أو الأمة الكردية، وليسوا طارئين عليها أو ملتحقين بها أو ناكرين لها. ورغم هذا العلاقة الحميمة والأصيلة بين الكرد الفيلية والعراق، عرضهم قانون الجنسية الأول الذي صدر في العام 1924 في أعقاب تشكيل الدولة العراقية في العام 1921، وقبل صدور الدستور العراقي الأول في العام 1925، وتحت وطأة الاحتلال البريطاني وتأثير الفكر والثقافة والتربية العثمانية التي نشأ فيها قادة العراق الجدد حينذاك، إلى التمييز المخل بحقوقهم، حين ميّز بين الجنسية العراقية (أ)، لمن كان من رعايا الدولة العثمانية، والجنسية العراقية(ب) لمن كان من غير رعايا الدولة العثمانية! وهذا الخلل برز في اعتبار العراقي من الدرجة الأولى عملياً هو من يحمل شهادة الجنسية (أ)، في حين وضُع من فرض عليه حمل شهادة الجنسية (ب) في مستوى الدرجة الثانية. وألحق هذا التمييز الطائفي ضرراً فادحاً ومستمراً بالكرد الفيلية وبالكثير من المواطنات والمواطنين العرب من أتباع المذهب الشيعي على امتداد الفترة الواقعة بين 1924-2005، حيث تم وضع الدستور الجديد الذي وحَّد شهادة الجنسية العراقية وألغى ذلك التمييز غير الإنساني بين مواطنات ومواطني العراق من مختلف القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، مع وجود اختلالات أخرى تمييزية في الدستور الجديد الصادر عام 2005 أيضاً، وهي التي يفترض إزالتها مع أي تعديل قادم وضروري، مثل اعتبار دين الدولة العراقية هو الإسلام، في حين إن الدولة شخصية اعتبارية لا دين لها ولا مذهب ولا قومية، بل إن الإنسان الفرد يمكن أن يعتنق أي من الأديان والمذاهب أو بدونها، أو يحمل هذا القومية أو تلك، على سبيل المثال لا الحصر.
(1)    وإذا كان الكرد الفيلية، وخاصة العائلات الكادحة والفقيرة منهم، قد عانوا من التمييز والتهميش في ظل النظام الملكي، كما حصل مع الشعب الكردي أيضاً، فأن ما تعرضوا له في ظل النظم السياسية الجمهورية، عدا فترة قصيرة في ظل الحكم الوطني وحكومة عبد الكريم قاسم، كان مريعاً، وخاصة في فترة حكم البعث والقوميين الناصريين العرب بعد إسقاط حكومة الجمهورية الأولى في العام 1963. وفي هذا العام جرى ترحيل ما يقرب من نصف مليون مواطنة ومواطن عراقي بتهمة التبعية لإيران، وبينهم كان الكثير من الكرد الفيلية والعرب الشيعة. ومن ثم في فترة حكم البعث الثانية 1968-2003، حيث حوربوا وهمشوا .. ثم هجروا في مايس/أيار 1980  جميعاً بشكل قسري وفقدوا كل ما يملكون من ثروة وممتلكات منقولة وغير منقولة، وقتل منهم في طريقهم إلى المهجر الإيراني، وعبر إرسال شبابهم إلى المواقع الأمامية من جبهات القتال في الحرب العراقية – الإيرانية، وفي السجون وتحت التعذيب والقتل العشوائي، إذ ما يزال الكرد يفتشون عن أكثر من عشرن ألف إنسان من خيرة الشباب العراقي مفقود لا تعرف عائلاتهم أين هم، وهل قتلوا جميعاً، وأين مقابرهم الجماعية؟ وهذا الترحيل الجماعي شمل أعداداً كبيرة جداً من عرب الوسط والجنوب من أتباع المذهب الشيعي بذريعة التبعية لإيران واعتبارهم جزءاً من الطابور الخامس التابع لإيران بالعراق.
(2)    وكان للكرد الفيلية، وجلهم من سكان المدن، على امتداد تاريخ العراق الحديث، الدور الفعال والحيوي في الحياة الثقافية، في مجالات العلم والأدب والفن، فمن بينهم برزت مجموعة مهمة من خيرة الموسيقيين المميزين والمغنين الذين شاركوا في إناء الموسيقى العراقية وأبدعوا فيها، كما كان للكرد الفيلية باع طويل في المسرح والفن التشكيلي. وبرز بينهم الكثير من الكتاب والأدباء وكتاب القصة والرواية والمسرح. إضافة على بروز مجموعة مهمة من العلماء والاختصاصيين في مختلف الفروع العلمية، وقدموا خدمات جليلة للثقافة العراقية بمختلف فروعها وعلى امتداد القرن العشرين حتى الوقت الحاضر.
(3)   
(4)   كما شارك الكرد الفيلة بدور سياسي نضالي بارز يعترف به الجميع وقدموا على هذا الطريق الكثير من التضحيات وتحملوا الكثير من الاضطهاد والضيم والحيف الشديد، باعتبارهم جزءاً من الشعب الكردي أولاً، وجزءاً أصيلاً من الشعب العراقي، إضافة إلى دورهم النضالي السياسي التقدمي والديمقراطي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي والقوى والأحزاب الكردستانية، مثل الحزب الديمقراطي الكردي، وفيما بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومن ثم منذ العام 1976 الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الاشتراكي الكردستاني وغيرها من الأحزاب الوطنية. ولكونهم كرد ومن أتباع المذهب الشيعي عانوا الأمرين على أيدي القوى القومية والبعثية الشوفينية التي اتسمت بالكراهية العنصرية والطائفية واتهامهم للكرد الفيلية الشيعة بالتبعية لإيران، أو كطابور خامس لها بالعراق، وهي تهمة قذرة وخالية عن الصحة وعنصرية بحتة، كما اتهم العرب الشيعة عموماً في كونهم "شعوبيين!" أو موالين لإيران بالضرورة!، في محاولة يائسة وبائسة لإشاعة أجواء الطائفية السياسية العدائية، التي أصبحت اليوم، وفي ظل النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية في أعقاب إسقاط نظام البعث الدكتاتوري الفاشي، سياسة رسمية للنظام السياسي الطائفي القائم بالعراق، تمارس التمييز والتهميش والإقصاء بدعوى المظلومية الشيعية ضد العرب السنة وضد الشعب الكردي. ومن الجدير بالإشارة إن الكرد الفيلية شاركوا بحماس وحيوية في حركة البيشمركة التابعة للأحزاب الكردستانية وفي حركة الأنصار الشيوعيين في الستينيات، ومن ثم في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، التي تصدت للنظام الدكتاتوري البعثي لسنوات كثيرة وتحملوا مع الآخرين الصعاب والاستشهاد في النضال ضد الدكتاتورية الغاشمة والعنصرية المقيتة لحزب البعث العربي الاشتراكي.
(5)
الأسئلة التي تواجه كل العاملين في الحياة السياسية العراقية منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة واحتلال العراق حتى الآن، وأنا منهم، هي: أين يقف الكرد الفيلية مما يجري بالعراق اليوم، وما هو دورهم وتأثيرهم في الحياة السياسية العراقية؟ وكيف ينظرون إلى مستقبل علاقاتهم السياسية والاجتماعية بالعراق؟ أدرك تماماً بأن هذه الأسئلة تدور في بال الجميع، وأعرف أنهم ومنذ عودتهم إلى العراق قد حاولوا الكثير لتوحيد صفوفهم، ولم ينجحوا في ما يسعون إليه إلى الآن. والجميع يتساءل ما السبب وراء ذلك؟
لا بد من الاعتراف بأن الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية لتي نشأت في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الفاشية وسقوط العراق تحت الاحتلال الأمريكي البريطاني وإقامة نظام سياسي طائفي ومحاصصة طائفية وسيادة الهويات الفرعية القاتلة بدلاً من الهوية الوطنية، هوية المواطنة الموحدة والمتساوية والمشتركة، قد ساهمت مجتمعة، إضافة إلى مخلفات العهد البعثي الدكتاتورية والأوضاع بإيران باعتبارها المهجر الكردي الفيلي بشكل خاص، لعبت دورها السلبي لما يعاني منه الكرد الفيلية من تشتت وبعثرة لقواهم واتجاهات أفكارهم ونشاطاتهم. كما لا بد من الاعتراف بأن الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية قد لعبت دوراً سلبياً وما تزال في هذا الاتجاه بسبب الوعود الفارغة التي قدموها للكرد الفيلية وكسبوا الكثير منهم إلى جانبهم، وبهدف طائفي بغيض، ولم ينفذوها بأي حال. ونتيجة ذلك تبعثر الكرد الفيلية وتوزعوا على الهوية أحزاب الهوية الدينية الطائفية بشكل خاص، وأصبحت الهوية القومية والهوية العراقية بعيدة عن التفكير بها. ولا شك في أن الأحزاب الكردستانية لم تفعل الكثير ولا الأحزاب الوطنية الديمقراطية العراقية قد لعبت الدور المناسب في التعبير عن أهداف ومصالح هذه الشريحة الكبيرة من أبناء وبنات الشعب الكردي والشعب العراقي في آن واحد، وبالتالي عجزوا عن كسبهم إلى جابنهم وفسحوا في المجال للأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية أن تهيمن على القسم الأعظم منهم. ومن هنا لاحظنا بأن الدور المميز للكرد الفيلية قد غاب بفعل غياب دورهم القومي الكردي والوطني العراقي وتشبثوا بالهوية الطائفية القاتلة، بالرغم منهم.  من هنا يمكن الادعاء وبثقة عالية بأنهم كانوا وما زالوا أكثر الخاسرين ككرد وكعراقيين وم أتباع المذهب الشيعي.
لا شك في أن المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين والشبك والبهائيين والزرادشتيين وغيرهم من سكان العراق القدامى قد عانوا في العراق الطائفي السياسي من القتل والتشريد على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة، سنية وشيعية، ومن ثم من الإبادة الجماعية على أيدي عصابات داعش، وأن الكرد الفيلية لم يواجهوا هذه المأساة في محافظة نينوى والأنبار وصلاح الدين، ولكنهم مع ذلك لم يستردوا ما فقدوه عبر نهج وسياسات النظام الدكتاتوري البعثي، بل ساهم النظام السياسي الطائفي الجديد والمحاصصة الطائفية ببعثرتهم وتشتيتهم ولم يهتم بهم أي حزب سياسي كردستاني، وكأنهم ليسوا أكراداً أو كونهم جزءاً من الأمة الكردية له خصائصه التي يفترض احترامها وله دوره الذي يفترض الاعتراف به، وله مكانته النضالية التي يفترض رؤيتها بوضوح وأن له تاريخه النضالي الذي لا يجوز نسيانه في كل المراحل المنصرمة، وأن هذا الجزء من الكرد قد تعرض للإبادة الجماعية ايضاً لا بتشتيتهم فحسب، بل وفي قتل عشرات الآلاف منهم على أيدي النظام الدكتاتوري، وزج الآلاف منهم في الصفوف الأمامية من جبهات القتال ضد إيران، والذين استشهد أغلبهم فعلاً، أو قتلهم في سجون النظام وتحت التعذيب. إن مآسي العراق كثيرة وكوارثه أكثر، ومعاناة الكرد الفيلية كثيرة حقاً ويجب أن تنتهي. ولكي تنتهي لا بد لهم أن يمسكوا بزمام أمورهم بأيديهم، وأن يدركوا بأن مهمتهم الراهنة تتلخص في وحدة كلمتهم وتوحيد صفوفهم في صيغة نضالية ملموسة والابتعاد عن تلك الصراعات التي يمكن أن تمزق صفوفهم وتجعلهم كتلاً متناحرة، كما هم عليه الآن. لا يمكن لأحد أن يضع خطاً أحمر على الكرد الفيلية، بل هم أحرارٌ، وهم جزءٌ أصيل وحيوي وفعال من الأمة الكردية ومن النسيج الوطني للمجتمع العراقي. إن على الكرد الفيلية في يوم الشهيد الكردي الفيلي أن يدركوا بأن ضحاياهم يجب ألا تذهب هدراً ودون جدوى، وإن نداء الشهداء كان وسيبقى يدعوهم لوحدة الكلمة والصف ووحدة النضال لتحقيق الأهداف
(5)   
ومن على منبر الذكرى السنوية للاحتفال التأبيني للشهيد الكردي الفيلي أتوجه بالنداء إلى كل الأفراد والكتل والجماعات الكردية الفيلية بالداخل والخارج وأدعوهم إلى مناقشة الرؤية التالية:
أولاً: الاتفاق على عقد لقاء أولي بين ممثلي جميع الكتل والقوى والاتحادات الكردية الفيلية والشخصيات الاجتماعية والعلمية والثقافية لوضع ورقة عمل مشتركة عن المهمات الأساسية والرئيسية، كحد أدنى، التي تواجه كل الكرد الفيلية في المرحلة الراهنة.
ثانياً: الدعوة إلى عقد مؤتمر عام تحضره وفود من القوى والاتحادات والشخصيات التي يتم الاتفاق عليها بهدف إقرار خطة طريق لنضالهم المشترك ومناقشة ورقة العمل التي أقرت مبدئياً في الاجتماع التمهيدي الأول وانتخاب قيادة مشتركة وموحدة لقيادة هذا النضال الذي لم يعد تأخيره يخدم أياً من الكرد الفيلية، بل يخدم أعداء الكرد الفيلية.
ثالثاً: الاتفاق المبدئي الصارم على معالجة المشكلات التي تبرز في صفوف الكرد الفيلية بالحوار والنقاش الهادف والابتعاد عن الصراع والانشقاق وتشكيل منظمات جديدة والعودة إلى نقطة الصفر من جديد.
أتمنى على الأخوات والأخوة الكرد الفيلية أن يضعوا نصب أعينهم خمس مسائل جوهرية:
أ‌.   المعاناة التي دامت قرابة ستة عقود، وخاصة منذ العام 1980، والتي لم تنته إلى الآن.
ب‌.   وأن ليس هناك من ينهي هذه المعاناة إلا أنفسهم وبالتعاون المستقل مع بقية القوى الكردستانية والوطنية العراقية.
ت‌.   وأن دماء الشهداء من الكرد الفيلية تطالبهم دوماً بوحدة الموقف والنضال المشترك من أجل ألا تذهب تلك الدماء هدرا.     
ث‌.   وإن هذه الوحدة تصب في صالح الشعب الكردي ونضاله الوطني والقومي.
ج‌.   كما إنها في صالح الشعب العراقي ونضاله في سبيل الخلاص من النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، وفي سبيل إقامة مجتمع مدني ديمقراطي ودولة مدنية ديمقراطية يتمتع فيهما الكرد الفيلية كبقية أبناء وبنات القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى بحقوقهم المتساوية كمواطنات ومواطنين في عراق حر ومدني ديمقراطي.
   
_______________________________________________
  مطالعة قدمها الكاتب في حفل إحياء الذكرى السنوية التأبينية للشهيد الكردي الفيلي الذي يقيمه الاتحاد الديمقراطي الكردي الفيلي سنوياً بالسويد، ستوكهولم، بتاريخ 3/4/2016 وبدعوة من الاتحاد. قدم المحاضر في القسم الأول من المناقشات مطالعة عن الوضع السياسي بالعراق تحت عنوان "الحراك المدني والجماهيري: إصلاح شكلي أم تغيير جذري؟ وقد نشرت المطالعة في جريدة العالم بتاريخ 7/4/2016 على الصفحة السابعة، كما نشرت المطالعة في مواقع كثيرة. ثم كان القسم الثاني من الحوار حول أوضاع الكرد الفيلية والمهمات التي تنتظرهم والتي هي الأن تحت أعين القراء الكرام. وقد شارك في الندوة المحاضران الزميلان الدكتور عقيل الناصري والدكتور أكرم هواس. 

451
كاظم حبيب
الحراك المدني والجماهيري: إصلاح شكلي أم تغيير جذري؟
يواجه العراق حالياً مجمع متشابك من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية والبيئية، إضافة إلى ما نجم عن الاجتياح الوحشي من تفاقم في أزمة الملايين من النازحين والمهجرين قسراً ومعاناتهم اليومية المريرة/ ومن ثم التدخل الخارجي غير المنقطع في الشؤون السياسية والاجتماعية اليومية للعراق، أزمة النازحين والمهجرين قسراً ومعاناتهم اليومية المريرة، ومن ثم التدخل الخارجي في الشؤون السياسية واليومية للعراق، وكذلك الحرب المشتدة ضد عصابات داعش. ولا شك في أن هذه الأزمات والأجواء المتوترة المحتدمة تعتبر نتاجاً طبيعياً ومنطقياً لطبيعة النظام السياسي الطائفي القائم بالعراق ونهجه في المحاصصة الطائفية ومولوديهما التوأمين، الفساد والإرهاب، السائدين بالبلاد. كما إن كل ذلك يتفاقم يومياً، بسبب التمييز والتهميش والإقصاء والتطرف، ومن الدور المتفاقم للمليشيات الطائفية المسلحة التي تفرض رقابتها وهيمنتها وابتزازها المالي على النشاط الاقتصادي لسكان بغداد وبقية المحافظات، إضافة إلى أزمة الديمقراطية والمشكلات المالية وتعطل الحياة الاقتصادية المتفاقمة بإقليم كردستان العراق. ثم موقف الأحزاب السياسية الإسلامية والقومية الحاكمة والرافضة لعملية التغيير التي تطالب الجماهير الواسعة، عملية الإصلاح الشاملة، التي تعني بوضوح شديد إنهاء النظام السياسي الطائفية ومحاصصاته والتحول السلمي صوب النظام المدني الديمقراطي. إن مجموعة من المؤشرات التي يقدمها لنا الوضع الراهن بالعراق تساعدنا على رؤية وجهة التطور القادم وإشكالياته وسبل التأثير فيه لصالح المجتمع العراقي وتقدمه الحضاري:
1.   تنامي نسبي ملموس في الوعي الاجتماعي المخالف لمنهج الحكم الطائفي السياسي، لما مارسه هذا النظام من مصادرة للحريات والحقوق الأساسية وما تسبب به من اجتياح واحتلال وموت وخراب ودمار واسع وفقر مدقع لنسبة عالية من سكان العراق وبطالة متزايدة. ومما زاد في الوضع سوءاً هيمنة الفساد كنظام شامل ومعمول به، على مستوى السلطات الثلاث في الدولة العراقية الهشة، إضافة إلى الانهيار السريع لأسعار النقط الخام المصدر.
2.   وبالاقتران مع تطور الوعي وإدراك حقيقة الوضع بالعراق بدأت القاعدة الاجتماعية الشعبية المعارضة تتسع باستمرار، إذ إنها لم تعد قادرة على العيش في ظل الأوضاع الراهنة المتدهورة بسرعة كبيرة، وخاصة تلك الفئات الكادحة والمعوزة، إضافة فئة المثقفات والمثقفين ودماعات من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة.
3.   كنا لم يعد في مقدور الحكام الحالين، حكام الصدفة والزمن الرديء، رغم مناوراتهم، الاستمرار بحكم البلاد بالطريقة التي حكموا فيها خلال سنوات حكمهم المنصرمة.
4.   وفي ظل هذه الأوضاع، بدأ يتشكل تحالف اجتماعي-سياسي في الشارع العراقي قوامه قوى اجتماعية عديدة، منها: جماهير واسعة محرومة ومضطهدة، بسبب الظلم والفقر والتمييز والتهميش والإقصاء، فئات من البرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة، التي لم تعد قادرة على تأمين عيشها وعملها، فبدأت أوساط منها بالهجرة، جمهرة واسعة ومُلهِمة من فئة المثقفين والمثقفات. هذا التحالف المحتمل الذي فرضه الشارع بين القوى المدنية، وقوى كتلة الحرار الدينية، يمكن أن يلعب دوراً أفضل وأوسع لو تبلور بشعارات سياسية ذات طبيعة وأهداف مدنية وديمقراطية ملموسة تسرع في تغيير الأوضاع الراهنة ومن العملية السياسية الفاشلة، رغم القلق المشروع الذي يصاحب الموقف منها. 
5.   وإزاء هذا الوضع المستجد، بدأ الجميع ينادون بالإصلاح، سواء أكانوا حكاماً، أم قوى معارضة للحكم القائم، أم قوى دينية، كانت إلى الأمس القريب، مؤيدة وداعمة للنظام الطائفي السياسي القائم، كالمرجعية الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية، التي بدأت تتحدث عن المجتمع المدني وعن ضرورة الإصلاح!
6.   إلا إن هذه القوى التي تنادي بالإصلاح متباينة في ما بينها في ما تريده من عملية الإصلاح، هل تريد عملية شكلية لا تغيير للنظام الطائفي ومحاصصاته المذلة الذي لم يعد مقبولاً، أم عملية إصلاح جذرية، بمعنى التغيير السلمي الديمقراطي الفعلي للنظام الطائفي السياسي القائم والمحاصصة الطائفية باتجاه إقامة الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية التي تعتمد مبدأ المواطنة الحرة والموحدة والمتساوية، وتبني المجتمع المدني الديمقراطي. 
وإذا كان الأمر كذلك، فما هو العامل المعرقل للتغيير؟
أرى بأن هناك أربع عراقيل أساسية تواجه عملية التغيير والتي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
أولاً: يشير ميزان القوى في الدولة العراقية الهشة إلى اختلال فيه، فهو ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، التي لا تريد من حيث المبدأ الإصلاح، بل تريد فترة من الزمن لعبور المرحلة الحرجة الراهنة وخنق المد الثوري السلمي المتنامي المطالب بالإصلاح والتغيير بأساليب المراوغة والخداع بهدف البقاء في الحكم، فهي ما تزال تسيطر على المراكز الأساسية والحساسة في السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، إضافة إلى المليشيات الطائفية المسلحة التي تشكل جيشاَ موازياً للقوات المسلحة العراقية بشكل خاص.
ثانياً: ضعف القوى الديمقراطية وعدم ائتلاف القوى المناهضة للنظام الطائفي السياسي والمحاصصة الطائفية، وعدم تشكيلها جبهة مدنية ديمقراطية عريضة بإمكانها فرض التغيير في ميزان القوى لصالحها ولصالح التغيير في النظام القائم.
ثالثاً: ابتعاد القوى والأحزاب الكردستانية عن التعاون والتضامن والتحالف مع القوى الديمقراطية العربية والقوميات الأخرى، حليفها الدائم، منذ سقوط النظام الدكتاتوري البعثي حتى الآن، وتغريد القيادة السياسية والحكومة والأحزاب عموماً خارج السرب الذي يفترض التعاون في ما بين قواه والتصدي للواقع الطائفي والأثني القائم.
رابعاً: التدخل الخارجي الإيراني في الشأن العراقي ودعمه للأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة المرتبطة بإيران، وتلك القوى التي ترتبط بالسعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى، إضافة إلى المساومات المشينة والمناهضة لمصالح الشعب العراقي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.     
ولهذا فأن الحاجة تشير إلى ضرورة العمل الشعبي الدؤوب لتغيير ميزان القوى من خلال كسب المزيد من الجماهير التي ما تزال في معسكر القوى الحاكمة إلى الشارع العراقي، وكسب أغلب القوى والأحزاب الكردستانية، إلى جانب الأهداف التي حملها المتظاهرون والمعتصمون في شوارع بغداد وعلى أبواب المنطقة الخضراء، حيث سكن المسؤولين في السلطات الثلاث، والكثير من السفارات الأجنبية. وهي عملية معقدة وضرورية وملحة.
إن انحياز قوى التيار الصدري إلى جانب المتظاهرين والتداخل النسبي بين هذه الجماهير وجماهير الحراك المدني الشعبي، يمكن أن يدفع بقوى أخرى من الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة ومن القوى الأخرى ومن الأحزاب الكردستانية لتصطف إلى جانب قوى التيار المطالب بالإصلاح والتغيير الفعلي. إنها عملية صيرورة وسيرورة مهمة وممكنة رغم المصاعب التي تواجهها والتعقيدات الخارجية التي تتعرض لها. ((قارن: ندوة المدى "سياسيون وناشطون في ندوة المدى للإصلاح: "الحراك الحالي ينبئ بتشكيل كتلة تاريخية قادرة على فرض التغيير", مداخلة الدكتور فارس كمال نظمي، 12/3/2016) 
ويمكن أن يساعد ويعجل السير بهذه الوجهة عدد من المسائل المهمة، منها بشكل خاص:
1.   إعلان التيار الصدري التزامه بالتظاهر والاعتصام السلمي الديمقراطي، وهو ما أعلنه بصواب حتى الآن، والدعوة لإقامة نظام سياسي مدني وديمقراطي، بحيث يمكن أن يلتحق بالتظاهر والاعتصام جماهير جديدة مؤثرة وفاعلة على تغيير ميزان القوى.
2.   جذب المزيد من أبناء الشعب الكردي والكرد الفيلية والمسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين والتركمان، وكذلك أبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى، إلى جانب المتظاهرين والمعتصمين ببغداد وبقية المحافظات، ممن تعرضوا للتمييز والتهميش والإقصاء والاضطهاد والنزوح والتهجير والقتل بالجملة منهم، وهم الذين يشكلون نسبة عالية من الشعب العراقي.
3.   وإذا ما أدركت الأحزاب السياسية الكردستانية وقياداتها السياسية بأن الإصلاح والتغيير هو في صالحها وليس ضدها، وحين لا تتشبث بالمحاصصة الطائفية والأثنية، رغم إن سكان الإقليم لهم موقع خاص باعتبارهم يشكلون شعباً بجوار الشعب العربي، كما إن فيه قوميات أخرى كما هي موجودة في الجزء العربي من العراق.
4.   وإذا ما أمكن التأثير الفعلي على جزء مهم من الوسط الحكومي الحالي، إذ إن التغيير لا يريد إبعاد الجميع، بل يريد رفض الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية، إذ إنهما أنجبا الإرهاب والفساد، وهما وجهان لعملة واحدة، ومحاربة الفاسدين ومن تسبب في أوضاع العراق الراهنة.
5.   ولا بد أن يتوجه النضال ضد ثلاث محاور أساسية مهمة:
أ‌.   مواجهة وجود دولة موازية للدولة العراقية وقوات مسلحة موازية للقوات المسلحة العراقية، وقوى تمارس جباية الضرائب من الشعب بالقوة عبر نفوذها السياسي وميليشياتها المسلحة ونظامها السياسي الطائفي.
ب‌.    إذا ما أمكن إيقاف التدخل الخارجي في الشأن العراقي الجاري حالياً على قدم وساق.
ت‌.   كما لا بد من تغيير وجهة الإصلاح، بحيث لا تقع أعباءه على كاهل الجماهير الكادحة، كما عليه الوضع حالياً، بل على كاهل الأغنياء والميسورين والحرامية باستعادة الأموال المنهوبة. (قارن: ندوة المدى "سياسيون وناشطون في ندوة المدى للإصلاح.. , المصدر السابق نفسه، مداخلة الدكتور مظهر محمد صالح، 12/3/2016)
إن المتابعة المدققة للأوضاع بالعراق تشير إلى أن رئيس الحكومة، الذي ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية، ومرتبط بالتحالف الوطني الشيعي وقراراته، عاجز حتى الآن عن التحرك الجاد، رغم وعوده بالإصلاح ورغم تأييد المرجعية الدينية الشيعية له، ورغم المظاهرات المؤيدة للإصلاح. إنه ليس متلكئاً، بل هو يخشى التفريط بنظام سياسي يعتبر نفسه جزءاً منه حتى الآن. وحزبه بالذات، والجزء الأكبر من تحالفه الوطني، يرفضون الإصلاح باتجاه الابتعاد عن المحاصصة الطائفية، وهو ما ترفضه الأحزاب السياسية الكردستانية حتى الآن أيضاً. وهو خلل كبير لدى الأخيرة، إذ لا بد من تغيير الوجهة لصالح التغيير الذي يخدمها قبل غيرها.
إن المراوحة في المكان من جانب أغلب قوى الإسلام السياسي، التي تنطوي على رؤية مبسطة ومبتذلة واستبدادية خطرة، تراهن على تعب المتظاهرين وتراجعهم عن المطالبة بالإصلاح الجذري، أو تراهن على فرض قرار على رئيس الوزراء باستخدام العنف، وبالتالي التوجه إلى ضربهم باستخدام القوات المسلحة العراقية والجزء الأكبر من المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، وهو نهج نوري المالكي والجعفري ومن هم على شاكلتهما في حزب الدعوة والتحالف الوطني، ولكن هكذا سياسية، ستقود إلى تنامي واتساع قاعدة الاعتصامات وانتقالها إلى مدن أخرى إلى جانب بغداد. كما يمكن أن يتنامى الوضع ليتحول إلى عصيان مدني، مما يفرض على رئيس الحكومة التحرك بأحد الاتجاهين: أما الإصلاح والتغيير، وإما التحول ضد المتظاهرين والمعتصمين. ولكن الإجراء الأخير لن يكون نافعاً بأي حال، كما لم يكن نافعاً للمالكي حين مارسه وأدى إلى سقوطه، وسيقود إلى عواقب وخيمة.   
إن قوى الحراك المدني الشعبي بحاجة إلى قيادة واعية وموحدة ومتضامنة أولاً، وبحاجة إلى تنشيط الحوار الشعبي مع قوى التيار الصدري للاتفاق على خارطة طريق سلمية وديمقراطية تتجلى بشعارات ذات أهداف مدنية وديمقراطية واضحة ومواقف غير متعجلة، مواقف ثورية سلمية. وهي بحاجة إلى تعبئة واسعة للشباب والنساء في أوساط المثقفين والشعب عموماً، وإلى إشراك فعلي في التظاهرات والاعتصامات، وإذا اقتضى الأمر إعلان العصيان المدني السلمي، بعيداً عن العنف، الذي تتمناه بعض القوى المشاركة في الحكم والمناهضة للإصلاح باتجاه التغيير الفعلي للنظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، لتستخدمه ذريعة لضرب الحراك الجماهيري.   
من هنا يتبين بإن من أبرز المهمات الكبيرة التي تواجه المجتمع تتجلى في العمل الجاد والدؤوب لتغيير موازين القوى لصالح الإصلاح الجذري والتغيير من خلال كسب المزيد من أوساط الشعب العراقي، بحيث تُجبر القوى الحاكمة على القبول بالتغيير دون ممارسة العنف واستخدام السلاح، وهي مهمة صعبة ومعقدة ولكنها ممكنة وضرورية. إذ إن عدم تحقيق ذلك سيلجئ الحكام إلى المناورة والخداع والبقاء في السلطة.
 

452
كاظم حبيب
الحراك المدني والجماهيري: إصلاح شكلي أم تغيير جذري؟
يواجه العراق حالياً مجمع متشابك من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية والبيئية، إضافة إلى ما نجم عن الاجتياح الوحشي من تفاقم في أزمة الملايين من النازحين والمهجرين قسراً ومعاناتهم اليومية المريرة/ ومن ثم التدخل الخارجي غير المنقطع في الشؤون السياسية والاجتماعية اليومية للعراق،  أزمة النازحين والمهجرين قسراً ومعاناتهم اليومية المريرة، ومن ثم التدخل الخارجي في الشؤون السياسية واليومية للعراق، وكذلك الحرب المشتدة ضد عصابات داعش. ولا شك في أن هذه الأزمات والأجواء المتوترة المحتدمة تعتبر نتاجاً طبيعياً ومنطقياً لطبيعة النظام السياسي الطائفي القائم بالعراق ونهجه في المحاصصة الطائفية ومولوديهما التوأمين، الفساد والإرهاب، السائدين بالبلاد. كما إن كل ذلك يتفاقم يومياً، بسبب التمييز والتهميش والإقصاء والتطرف، ومن الدور المتفاقم للمليشيات الطائفية المسلحة التي تفرض رقابتها وهيمنتها وابتزازها المالي على النشاط الاقتصادي لسكان بغداد وبقية المحافظات، إضافة إلى أزمة الديمقراطية والمشكلات المالية وتعطل الحياة الاقتصادية المتفاقمة بإقليم كردستان العراق. ثم موقف الأحزاب السياسية الإسلامية والقومية الحاكمة والرافضة لعملية التغيير التي تطالب الجماهير الواسعة، عملية الإصلاح الشاملة، التي تعني بوضوح شديد إنهاء النظام السياسي الطائفية ومحاصصاته والتحول السلمي صوب النظام المدني الديمقراطي. إن مجموعة من المؤشرات التي يقدمها لنا الوضع الراهن بالعراق تساعدنا على رؤية وجهة التطور القادم وإشكالياته وسبل التأثير فيه لصالح المجتمع العراقي وتقدمه الحضاري:
1.   تنامي نسبي ملموس في الوعي الاجتماعي المخالف لمنهج الحكم الطائفي السياسي، لما مارسه هذا النظام من مصادرة للحريات والحقوق الأساسية وما تسبب به من اجتياح واحتلال وموت وخراب ودمار واسع وفقر مدقع لنسبة عالية من سكان العراق وبطالة متزايدة. ومما زاد في الوضع سوءاً هيمنة الفساد كنظام شامل ومعمول به، على مستوى السلطات الثلاث في الدولة العراقية الهشة، إضافة إلى الانهيار السريع لأسعار النقط الخام المصدر.
2.   وبالاقتران مع تطور الوعي وإدراك حقيقة الوضع بالعراق بدأت القاعدة الاجتماعية الشعبية المعارضة تتسع باستمرار، إذ إنها لم تعد قادرة على العيش في ظل الأوضاع الراهنة المتدهورة بسرعة كبيرة، وخاصة تلك الفئات الكادحة والمعوزة، إضافة فئة المثقفات والمثقفين ودماعات من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة.
3.   كنا لم يعد في مقدور الحكام الحالين، حكام الصدفة والزمن الرديء، رغم مناوراتهم، الاستمرار بحكم البلاد بالطريقة التي حكموا فيها خلال سنوات حكمهم المنصرمة.
4.   وفي ظل هذه الأوضاع، بدأ يتشكل تحالف اجتماعي-سياسي في الشارع العراقي قوامه قوى اجتماعية عديدة، منها: جماهير واسعة محرومة ومضطهدة، بسبب الظلم والفقر والتمييز والتهميش والإقصاء، فئات من البرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة، التي لم تعد قادرة على تأمين عيشها وعملها، فبدأت أوساط منها بالهجرة، جمهرة واسعة ومُلهِمة من فئة المثقفين والمثقفات. هذا التحالف المحتمل الذي فرضه الشارع بين القوى المدنية، وقوى كتلة الحرار الدينية، يمكن أن يلعب دوراً أفضل وأوسع لو تبلور بشعارات سياسية ذات طبيعة وأهداف مدنية وديمقراطية ملموسة تسرع في تغيير الأوضاع الراهنة ومن العملية السياسية الفاشلة، رغم القلق المشروع الذي يصاحب الموقف منها. 
5.   وإزاء هذا الوضع المستجد، بدأ الجميع ينادون بالإصلاح، سواء أكانوا حكاماً، أم قوى معارضة للحكم القائم، أم قوى دينية، كانت إلى الأمس القريب، مؤيدة وداعمة للنظام الطائفي السياسي القائم، كالمرجعية الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية، التي بدأت تتحدث عن المجتمع المدني وعن ضرورة الإصلاح!
6.   إلا إن هذه القوى التي تنادي بالإصلاح متباينة في ما بينها في ما تريده من عملية الإصلاح، هل تريد عملية شكلية لا تغيير للنظام الطائفي ومحاصصاته المذلة الذي لم يعد مقبولاً، أم عملية إصلاح جذرية، بمعنى التغيير السلمي الديمقراطي الفعلي للنظام الطائفي السياسي القائم والمحاصصة الطائفية باتجاه إقامة الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية التي تعتمد مبدأ المواطنة الحرة والموحدة والمتساوية، وتبني المجتمع المدني الديمقراطي. 
وإذا كان الأمر كذلك، فما هو العامل المعرقل للتغيير؟
أرى بأن هناك أربع عراقيل أساسية تواجه عملية التغيير والتي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
أولاً: يشير ميزان القوى في الدولة العراقية الهشة إلى اختلال فيه، فهو ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، التي لا تريد من حيث المبدأ الإصلاح، بل تريد فترة من الزمن لعبور المرحلة الحرجة الراهنة وخنق المد الثوري السلمي المتنامي المطالب بالإصلاح والتغيير بأساليب المراوغة والخداع بهدف البقاء في الحكم، فهي ما تزال تسيطر على المراكز الأساسية والحساسة في السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، إضافة إلى المليشيات الطائفية المسلحة التي تشكل جيشاَ موازياً للقوات المسلحة العراقية بشكل خاص.
ثانياً: ضعف القوى الديمقراطية وعدم ائتلاف القوى المناهضة للنظام الطائفي السياسي والمحاصصة الطائفية، وعدم تشكيلها جبهة مدنية ديمقراطية عريضة بإمكانها فرض التغيير في ميزان القوى لصالحها ولصالح التغيير في النظام القائم.
ثالثاً: ابتعاد القوى والأحزاب الكردستانية عن التعاون والتضامن والتحالف مع القوى الديمقراطية العربية والقوميات الأخرى، حليفها الدائم، منذ سقوط النظام الدكتاتوري البعثي حتى الآن، وتغريد القيادة السياسية والحكومة والأحزاب عموماً خارج السرب الذي يفترض التعاون في ما بين قواه والتصدي للواقع الطائفي والأثني القائم.
رابعاً: التدخل الخارجي الإيراني في الشأن العراقي ودعمه للأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة المرتبطة بإيران، وتلك القوى التي ترتبط بالسعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى، إضافة إلى المساومات المشينة والمناهضة لمصالح الشعب العراقي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.     
ولهذا فأن الحاجة تشير إلى ضرورة العمل الشعبي الدؤوب لتغيير ميزان القوى من خلال كسب المزيد من الجماهير التي ما تزال في معسكر القوى الحاكمة إلى الشارع العراقي، وكسب أغلب القوى والأحزاب الكردستانية، إلى جانب الأهداف التي حملها المتظاهرون والمعتصمون في شوارع بغداد وعلى أبواب المنطقة الخضراء، حيث سكن المسؤولين في السلطات الثلاث، والكثير من السفارات الأجنبية. وهي عملية معقدة وضرورية وملحة.
إن انحياز قوى التيار الصدري إلى جانب المتظاهرين والتداخل النسبي بين هذه الجماهير وجماهير الحراك المدني الشعبي، يمكن أن يدفع بقوى أخرى من الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة ومن القوى الأخرى ومن الأحزاب الكردستانية لتصطف إلى جانب قوى التيار المطالب بالإصلاح والتغيير الفعلي. إنها عملية صيرورة وسيرورة مهمة وممكنة رغم المصاعب التي تواجهها والتعقيدات الخارجية التي تتعرض لها. ((قارن: ندوة المدى "سياسيون وناشطون في ندوة المدى للإصلاح: "الحراك الحالي ينبئ بتشكيل كتلة تاريخية قادرة على فرض التغيير", مداخلة الدكتور فارس كمال نظمي، 12/3/2016) 
ويمكن أن يساعد ويعجل السير بهذه الوجهة عدد من المسائل المهمة، منها بشكل خاص:
1.   إعلان التيار الصدري التزامه بالتظاهر والاعتصام السلمي الديمقراطي، وهو ما أعلنه بصواب حتى الآن، والدعوة لإقامة نظام سياسي مدني وديمقراطي، بحيث يمكن أن يلتحق بالتظاهر والاعتصام جماهير جديدة مؤثرة وفاعلة على تغيير ميزان القوى.
2.   جذب المزيد من أبناء الشعب الكردي والكرد الفيلية والمسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين والتركمان، وكذلك أبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى، إلى جانب المتظاهرين والمعتصمين ببغداد وبقية المحافظات، ممن تعرضوا للتمييز والتهميش والإقصاء والاضطهاد والنزوح والتهجير والقتل بالجملة منهم، وهم الذين يشكلون نسبة عالية من الشعب العراقي.
3.   وإذا ما أدركت الأحزاب السياسية الكردستانية وقياداتها السياسية بأن الإصلاح والتغيير هو في صالحها وليس ضدها، وحين لا تتشبث بالمحاصصة الطائفية والأثنية، رغم إن سكان الإقليم لهم موقع خاص باعتبارهم يشكلون شعباً بجوار الشعب العربي، كما إن فيه قوميات أخرى كما هي موجودة في الجزء العربي من العراق.
4.   وإذا ما أمكن التأثير الفعلي على جزء مهم من الوسط الحكومي الحالي، إذ إن التغيير لا يريد إبعاد الجميع، بل يريد رفض الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية، إذ إنهما أنجبا الإرهاب والفساد، وهما وجهان لعملة واحدة، ومحاربة الفاسدين ومن تسبب في أوضاع العراق الراهنة.
5.   ولا بد أن يتوجه النضال ضد ثلاث محاور أساسية مهمة:
أ‌.   مواجهة وجود دولة موازية للدولة العراقية وقوات مسلحة موازية للقوات المسلحة العراقية، وقوى تمارس جباية الضرائب من الشعب بالقوة عبر نفوذها السياسي وميليشياتها المسلحة ونظامها السياسي الطائفي.
ب‌.    إذا ما أمكن إيقاف التدخل الخارجي في الشأن العراقي الجاري حالياً على قدم وساق.
ت‌.   كما لا بد من تغيير وجهة الإصلاح، بحيث لا تقع أعباءه على كاهل الجماهير الكادحة، كما عليه الوضع حالياً، بل على كاهل الأغنياء والميسورين والحرامية باستعادة الأموال المنهوبة. (قارن: ندوة المدى "سياسيون وناشطون في ندوة المدى للإصلاح.. , المصدر السابق نفسه، مداخلة الدكتور مظهر محمد صالح، 12/3/2016)
إن المتابعة المدققة للأوضاع بالعراق تشير إلى أن رئيس الحكومة، الذي ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية، ومرتبط بالتحالف الوطني الشيعي وقراراته، عاجز حتى الآن عن التحرك الجاد، رغم وعوده بالإصلاح ورغم تأييد المرجعية الدينية الشيعية له، ورغم المظاهرات المؤيدة للإصلاح. إنه ليس متلكئاً، بل هو يخشى التفريط بنظام سياسي يعتبر نفسه جزءاً منه حتى الآن. وحزبه بالذات، والجزء الأكبر من تحالفه الوطني، يرفضون الإصلاح باتجاه الابتعاد عن المحاصصة الطائفية، وهو ما ترفضه الأحزاب السياسية الكردستانية حتى الآن أيضاً. وهو خلل كبير لدى الأخيرة، إذ لا بد من تغيير الوجهة لصالح التغيير الذي يخدمها قبل غيرها.
إن المراوحة في المكان من جانب أغلب قوى الإسلام السياسي، التي تنطوي على رؤية مبسطة ومبتذلة واستبدادية خطرة، تراهن على تعب المتظاهرين وتراجعهم عن المطالبة بالإصلاح الجذري، أو تراهن على فرض قرار على رئيس الوزراء باستخدام العنف، وبالتالي التوجه إلى ضربهم باستخدام القوات المسلحة العراقية والجزء الأكبر من المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، وهو نهج نوري المالكي والجعفري ومن هم على شاكلتهما في حزب الدعوة والتحالف الوطني، ولكن هكذا سياسية، ستقود إلى تنامي واتساع قاعدة الاعتصامات وانتقالها إلى مدن أخرى إلى جانب بغداد. كما يمكن أن يتنامى الوضع ليتحول إلى عصيان مدني، مما يفرض على رئيس الحكومة التحرك بأحد الاتجاهين: أما الإصلاح والتغيير، وإما التحول ضد المتظاهرين والمعتصمين. ولكن الإجراء الأخير لن يكون نافعاً بأي حال، كما لم يكن نافعاً للمالكي حين مارسه وأدى إلى سقوطه، وسيقود إلى عواقب وخيمة.   
إن قوى الحراك المدني الشعبي بحاجة إلى قيادة واعية وموحدة ومتضامنة أولاً، وبحاجة إلى تنشيط الحوار الشعبي مع قوى التيار الصدري للاتفاق على خارطة طريق سلمية وديمقراطية تتجلى بشعارات ذات أهداف مدنية وديمقراطية واضحة ومواقف غير متعجلة، مواقف ثورية سلمية. وهي بحاجة إلى تعبئة واسعة للشباب والنساء في أوساط المثقفين والشعب عموماً، وإلى إشراك فعلي في التظاهرات والاعتصامات، وإذا اقتضى الأمر إعلان العصيان المدني السلمي، بعيداً عن العنف، الذي تتمناه بعض القوى المشاركة في الحكم والمناهضة للإصلاح باتجاه التغيير الفعلي للنظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، لتستخدمه ذريعة لضرب الحراك الجماهيري.   
من هنا يتبين بإن من أبرز المهمات الكبيرة التي تواجه المجتمع تتجلى في العمل الجاد والدؤوب لتغيير موازين القوى لصالح الإصلاح الجذري والتغيير من خلال كسب المزيد من أوساط الشعب العراقي، بحيث تُجبر القوى الحاكمة على القبول بالتغيير دون ممارسة العنف واستخدام السلاح، وهي مهمة صعبة ومعقدة ولكنها ممكنة وضرورية. إذ إن عدم تحقيق ذلك سيلجئ الحكام إلى المناورة والخداع والبقاء في السلطة.
 

453
كاظم حبيب
المأساة والمهزلة في عراق اليوم!
يعيش عراق اليوم مأساة ومهزلة فعلية في آن واحد، يعيشهما لا على خشبة المسرح وعبر ممثلين فاشلين، بل على مسرح الحياة اليومية للشعب العراقي المستباح، وشخوص هذا المسرح الحي سياسيو الصدفة والزمن الرديء والسوء، زمن الردة الاجتماعية والانحدار الحضاري نحو مستنقع الرثاثة الفكرية والاجتماعية والسياسية. عواقبها تتجلى في المزيد من القتلى والجرحى والمعوقين، المزيد من النهب والسلب وتضخم الحسابات في البنوك الأجنبية رغم الأزمة المالية والنفطية، في مقابل المزيد من الفقر والبؤس والفاقة الفكرية والسياسية، والمزيد من الألاعيب والضحك على ذقون الشعب المنهوب والمكروب.
لم يعد يخفى على أحد ما يجري على مسرح السياسة العراقية الداخلية، حتى أشد المتفائلين الطيبين والبسطاء من الناس أدركوا المناورة. إن ما يجري بالعراق ليس سوى عملية توزيع أدوار بين لاعبين فاشلين، يعتقدون بإصرار الأغبياء، بأن الشعب لا يدرك ما يجري، وأن السياسة بالنسبة لهم ليست علماً ومعرفة وفنا وحكمةً، بل هي اغتنام الفرص واللعب على الوعود الكاذبة، والاستفادة من الوقت لتعزيز المواقع المهتزة، لإبقاء النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المخلة بوحدة الشعب.
والسؤال المهم: هل العراق أمام شخصية قادرة على الإصلاح والتغيير؟ الإجابة بصراحة: الشعب العراقي يواجه شخصية غير ملتبسة، شخصية من صلب النظام السياسي الطائفي، لا يختلف عن رئيسيه في الحزب والتحالف الوطني، إذ إنهما نسختان متباينتان لمضمون طائفي واستبدادي واحد، إلا في ما يحمل من شهادة عالية لم يستفد منها في إدراك إن الحياة علم ومعرفة، وخوضها لا يمت إلى الدين ومذاهبه بصلة، فالعلم شيء، والدين شيء آخر. فمن غاص في الدين، لا كمسألة فردية، بل يستخدمه في السياسة ومن موقع المسؤولية، كما يفعل اليوم قادة وكوادر الأحزاب الإسلامية السياسية العراقية، عندها ينسى العلم والمعرفة والحكمة كلية، ويقود المجتمع إلى ذات العاقبة المأساوية التي أوصلنا إليها رئيساه الجعفري والمالكي.
لم تكن مأساة العراق ومهزلته في وجود الجعفري والمالكي على رأس الحكومة العراقية لثلاث دورات وزارية حسب، بل كانتا وما تزالان تكمنان في جوهر النظام السياسي الطائفي القائم، وما انتجه من محاصصة طائفية مذلة لهوية المواطنة، باعتبارها الوليد الشرعي الرئيسي، وليس الوحيد، لهذا النظام، ومنه ولد الفساد والإرهاب أيضاً. 
يبدو إن رئيس وزراء العراق لم يفقد البوصلة الإيديولوجية الشخصية، بوصلة حزبه الفكرية والسياسية، بخلاف ما يعتقد به البعض، فالرجل أمين لأيديولوجيته، ولم يتزعزع عنها قيد أنملة، ولا يرى في وعود الإصلاح إلا عبور الأزمة التي يعتقد إنها ستحل بكسب الوقت، وعبور مطالبة المرجعية بالإصلاح عبر تشكيلة وزارية لا تحل ولا تربط، وعبور المظاهرات والاعتصامات، واتهامها بالإخلال في حركة واشغال الناس، وبالتالي التوجه لمعالجتها بأساليب أخرى وإصدار أوامر سرية بسبل التعامل معها! إن الرجل لا يخشى حزبه، بل يخشى على النظام السياسي الطائفي الذي يقوده حزبه وتحالفه الوطني! فهو رجل يعتقد بأن الشعب سيسمح له بهذه المناورات البائسة منذ تسلمه للسلطة في آب، أغسطس 2014، وسيكف عن المطالبة بما يجب أن يحصل.
على رئيس الحكومة وحزبه وتحالفه أن يدركوا جميعاً المسائل التالية:
1.   تنامي الوعي الاجتماعي المناهض للحكم الطائفي السياسي، لما تسبب به من اجتياح واحتلال وموت وخراب ودمار واسع وفقر مدقع لنسبة عالية من سكان العراق، وفساد هائل، كما إن انهيار أسعار النقط الخام زاد الأمر سوءاً.
2.   اتساع القاعدة الاجتماعية الشعبية التي لم تعد قادرة على العيش في ظل هذه الأوضاع البائسة والمتدهورة بسرعة فائقة.
3.   كما لم يعد في مقدور الأحزاب والحكام الحالين، رغم مناوراتهم، الاستمرار بحكم البلاد بالطريقة التي حكموا فيها خلال السنوات الـ 12 المنصرمة.
4.   وفي ظل هذه الأوضاع بدأ يتشكل تحالف اجتماعي في الشارع العراقي قوامه قوى اجتماعية عديدة، منها: جماهير واسعة محرومة ومضطهدة، بسبب الظلم والفقر والتمييز والتهميش، فئات من البرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة، التي لم تعد قادرة على تأمين عيشها وعملها، فبدأت أوساط منها بالهجرة، جمهرة واسعة ومُلهِمة من فئة المثقفين والمثقفات. هذا التحالف العفوي الذي فرضه الشارع بين قوى مدنية، وبعض القوى الدينية، يمكن أن يلعب دوراً أفضل وأوسع شعبياً لو تبلور بشعارات سياسية ذات طبيعة وأهداف ديمقراطية ملموسة تسرع في تغيير النظام الطائفي، رغم القلق المشروع الذي يصاحب الموقف مثل هذا التحالف.
5.   وإزاء هذا الوضع ارتفع صوت الجميع بنداء الإصلاح، سواء أكانوا حكاماً، أم قوى معارضة للحكم، أم المرجعي الدينية الشيعية إلى كانت حتى الأمس القريب مؤيدة وداعمة للنظام السياسي الطائفي ونحبه الحاكمة، التي بدأت تتحدث عن المجتمع المدني!
6.   ولكن هذه القوى التي تنادي بالإصلاح متباينة في ما بينها بما تريده من عملية الإصلاح، هل هي عملية شكلية لا تغيير للنظام ومحاصصاته والذي لم يعد مقبولاً، أم عملية إصلاح جذرية، بمعنى التغيير السلمي الديمقراطي الفعلي للنظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية باتجاه إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي تعتمد مبدأ المواطنة وتبني المجتمع المدني الديمقراطي. 
 والحاكم الجديد، بتشكيلته الوزارية الجديدة، التي فيها عناصر مهنية نزيهة، لا يحل مشكلة طائفية النظام، بسبب وقوفه إلى جانب الإصلاح الشكلي والجزئي، مبتعداً بذلك عن الإصلاح الجذري، ويعتقد أنه قادر بذلك على تجاوز مطالب الحراك المدني الشعبي والاعتصامات الشعبية! أرى أنه لم يتعلم من دروس الماضي، ولن يغفر له التاريخ!

454
كاظم حبيب
دماء وأشلاء بشرية تتناثر في باريس وبروكسل، من المسؤول؟
إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد تعرضت في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 إلى هجمات عدوانية شرسة على مركز التجارة العالمية بنيويورك وبناية البنتاغون بواشنطن وأدت إلى سقوط 2973 ضحية، و24 مفقودا، وأعداداً كبيرة تعد بالآلاف من الجرحى والمصابين، من قبل أوباش تنظيم القاعدة الإسلامي السياسي المتطرف، الذي أنتجه الفكر الوهابي-السعودي، وتلقى الدعم والمساعدة المباشرة من الولايات المتحدة والسعودية وباكستان في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي بأفغانستان، فأن عدداً من الدول الآسيوية والأفريقية، وكذلك وبشكل خاص الدول العربية، وكذلك دول الاتحاد الأوروبي، قد أصبحت أهداف عملياتها الإجرامية المباشرة المعادية للإنسان والحياة الحرة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنها قد تسببت لحد الآن بموت مئات الآلاف من الناس الأبرياء بالعراق وسوريا وليبيا ومصر ودول أفريقية كثيرة، إضافة إلى قتلى وجرحى بالمئات بالمدن الأوروبية.
فمنذ مارس/آذار من عام 2004 حتى مارس/أذار من عام 2016 الجاري تعرضت المدن الأوروبية التالية إلى عمليات إرهابية كبيرة من تنظيم القاعدة، ومن ثم وليدها الشرعي، داعش، نشير إليها في أدناه:
"** مدريد: في 11 مارس/أذار 2011 تم تفجير قنابل في أربع قطارات نقل الركاب من جماعة ترتبط بتنظيم القاعدة أدت إلى استشهاد 191 شخصاً وجرح 1755 إنسان.
** لندن: في 7 يوليو/تموز 2005 تعرض قطارات الأنفاق وحافلات نقل الركاب إلى هجمات انتحارية من قبل جماعة تنتمي إلى تنظيم القاعدة أدت إلى استشهاد 52 شخصاً وجرح ما يقرب من 150 إنسان.
** باريس: في 7 يناير/كانون الثاني 2015 تعرضت باريس إلى هجوم عدواني أيضاً بعد مقتل صبي عربي بأيدي شرطية فرنسية إلى احتجاز ثم قتل أربعة أشخاص من قبل المتطرفين المسلمين.     
** باريس: 8/9 يناير/كانون الثاني 2015 تعرض العاملون في مجلة ككاريكاتير نقدية فرنسية "شارلي أيبدو" إلى هجوم عدواني على مقر المجلة من قبل تنظيم داعش أدى إلى استشهاد 12 شخصاً أغلبهم من الصحفيين العاملين في المجلة، لأنها نشرت صوراً كاريكاتيرية عن النبي محمد. وبعد يوم واحد هاجمت مجموعة من هؤلاء الإسلاميين المتطرفين سوقاً عصرياً يهودياً استشهد فيه أربعة من العاملين في هذا السوق.
** باريس: 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 تعرض سكان باريس إلى هجوم مجموعة من أعضاء داعش على قاعة للعزف الموسيقي أدت إلى استشهاد 130 شخصاً وجرح أكثر من 350 شخصاً.
** 22 مارس/أذار 2016 تعرضت مدينة بروكسل، إلى عدة تفجيرات انتحارية في مطارها الدولي وفي قطار الأنفاق أدت إلى سقوط 31 شهيداً ومئات الجرحى على أيدي مجموعة من الإسلاميين المتطرفين أتباع داعش(Berliner Zeitung, Nr. 70, 23.3.2016, S.3)   
لا شك في أن هذه القوى الإسلامية السياسية المتطرفة تعتقد بأن عملياتها الإجرامية هذه ستوصلها إلى كسب المعركة ضد الشعوب والنظم السياسية الأوروبية وقهر الديمقراطية فيها لصالح إسلامها السياسي ومذهبها المتخلف والعدواني، في حين إنها تقود إلى تعزيز ثقة الإنسان الأوروبي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تم تحقيقها عبر مئات من السنين وعبر نضال مرير ضد الاستبداد والقهر والحروب من جهة، وإلى تعقيد الحياة المشتركة للمسلمات والمسلمين المقيمين في الغرب وعموم أوروبا وبدول الاتحاد الأوروبي بشكل خاص من جهة ثانية. إن مصير قوى الإسلام السياسي الموت التدريجي وستنتهي إلى بئس المصير، ولكنها ستبقى لطخة عار في جبين كل الذين وضعوا هذا الفكر وروجوا له ودفعوا لممارسة الإرهاب الديني والمذهبي والقومي.
رغم الرفض الفعلي لشعوب الكثير من دول العالم للسياسات الاستعمارية وغير العقلانية للدول الغربية التي مورست في البلدان النامية، ومنها الدول ذات الأكثرية المسلمة، عبر القرون والعقود المنصرمة، أو السياسات الرأسمالية العولمية الراهنة واستغلال شعوب هذه البلدان، فأن كل ذلك لا يبرر بأي حال ممارسة الإرهاب من جانب القوى الإسلامية السياسية المتطرفة والعدوانية ضد الناس الآمنين في الغرب. إن الجماعات الإرهابية لا تمارس الإرهاب بالغرب حسب، بل وضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في الدول ذات الأكثرية المسلمة، أو ضد المسلمين من شيعة وسنة في ذات الدول، فهي عمليات إجرامية بشعة ترتقي بأهدافها الشريرة إلى مصاف إبادة جماعية وضد الإنسانية.
إن على كل إنسان شريف، وخاصة من كان مؤمناً بالإسلام كدين، أن يدين بحزم ويشجب تلك الممارسات العدوانية التي تمارسها قوى القاعدة وداعش في دول الاتحاد الأوروبي أو في غيرها من الدول، إضافة إلى شجب وجود وفعل هذه التنظيمات المسلحة كجبهة النصرة وأحرار الشام وغيرها، سواء أكانت سنية أم شيعية، باعتبارها خارج إطار الدولة وضد القوانين السارية، وشجب أولئك الذين يروجون للعنف الديني والمذهبي ضد أتباع الديانات الأخرى والمذاهب الأخرى، لأنهم يدعون ويروجون ويمارسون التمييز والحقد والكراهية، وهي المضامين التي تقود إلى العنف ضد الإنسان الآخر.
لنقدم التعازي الحارة لعائلات ضحايا الإرهاب ببلداننا، وكذلك بالبلدان الغربية، ومنهم ضحايا باريس وبروكسل، الذين سقطوا خلال الفترة الأخيرة والشفاء للجرحى. لتنتصر إرادة الإنسان الخيرة على إرادة الشر لدى القوى الشريرة والمجرمة في ارجاء العالم. ولتسد مبادئ السلام والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بالعالم.             
 
                         

455

رسالة مفتوحة إلى
السيدة الفاضلة شروق العبايچي، النائبة الديمقراطية في مجلس نواب غير ديمقراطي قائم على أسس المحاصصة الطائفية وقانون انتخابي غير ديمقراطي
تحية طيبة
تابعت بغضب وانزعاج كبيرين ما حصل لكِ مرة في ساحة التحرير، وما حصل لكِ أخيراً في مسرح الرشيد ببغداد. إن الفعلين قبيحان، فهما إساءة كبيرة لحق الإنسان في التفكير والاختلاف، إساء كبيرة لكل إنسان ديمقراطي يدرك معنى الديمقراطية والحقوق التي تبيحها للفرد والجماعة. إنها إساءة تعود على أولئك الذين هتفوا بملء حناجرهم "برة .. برة.." وصفقوا ليقتلوا مفهوم ومضمون الديمقراطية ببلادنا، رغم خراب الديمقراطية ببلادنا في ظل النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، باسم الديمقراطية.
بغض النظر عن هذا الموقف أو ذاك أو رأي الشخصي بهذه التنقلات السياسية، التي هي حق من حقوقك الثابتة حين ينشأ الاقتناع عندك، أدين بقوة وإصرار هذا الأسلوب الاستبدادي اللاإنساني الراغب في الإساءة لسمعة النائبة شروق العبايچي لهتافين لا يعون معنى الديمقراطية ولا يحترمون الرأي الآخر ولا الإنسان أصلاً. إنها إن سادت وأن أصبح هؤلاء في السلطة سيمارسون ما تمارسه اليوم عصابات داعش المجرمة بحق المخالفين لها. انا لا اعتقد بأي حال بأن فنانين عراقيين وفنانات عراقيان حقاً يمكن أن يمارسوا مثل هذه الهتافات، فهم طارئون على الفن الأصيل وكل الفنون الإبداعية، طارئون على الديمقراطية ولا يعون حقوق الإنسان ولا يحترمون حريته وكرامته.
حقاً إنها مهزلة أن يقوم أفراد بالصراخ الهستيري ليطردوا شخصاً مثل شروق العبايچي، التي ربما أختلف معها في الرأي والموقف، من قاعة مسرح، لأن لها رأي وموقف. ولا اعتقد بأن من مارس هذا الأسلوب هم من قوى ديمقراطية وعناصر مقتنعة بالديمقراطية ومبادئ لائحة حقوق الإنسان ولا من التيار الديمقراطي المدني.
أدرك بأن من أراد إهانتك أهان نفسه.
مع خالص ودي واحترامي
كاظم حبيب 
 

456


كاظم حبيب
الأخطار المحدقة بالعراق واستهتار قادة الكتل السياسية
تشتد الأخطار المحدقة بالعراق وشعبه يوماً بعد آخر. وتجتمع الرئاسات الثلاث برؤساء الكتل السياسية البرلمانية، فتخرج بنتائج أبعد ما تكون عن حاجة العراق وشعبه، إذ أقصى ما توصلت إليه، هو تشكيل لجان لتساهم بقتل ما يسعى إليه الشعب، وليس إلى حل المعضلة المركزية، معضلة الحكم السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية المذلة للمجتمع العراقي، والمعبئة للقوى المعادية لاستقرار العراق وأمنه وتقدمه. وهنا يمكن القول عن اجتماع الرئاسات الثلاث المثل الشعبي النابت حقاً والمعبر جدداً عن وضع العراق الراهن ليس مع الرئاسات الثلاث فحسب بل ومع كل الكتل السياسية الإسلامية والقومية: "عرب وين طنبورة وين!!!".
ولكي نقترب من وضع العراق الراهن نشير الى الأخطار الفعلية التالية:
** الخطر الأول هو الذي نشأ في العام 2003 بعد إسقاط الدكتاتورية واحتلال العراق وتشكيل النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية المقيتة، إذ كان وما يزال وسيبقى الخطر الأكبر والأكثر تدميراً الذي يهدد العراق وشعبه.
** الخطر الثاني يبرز في الوجود الإيراني، السياسي والعسكري والاجتماعي والثقافي والأمني والإعلامي، بالعراق، ومعه كل التشكيلات السياسية والعسكرية التي ساهمت بتأسيسها إيران أو تدعمها بالعراق، إنها بعض الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، إنها كل المليشيات السياسية الطائفية الشيعية، التي تشكل دولة داخل دولة وقوة عسكرية موازية، وهي أقوى من القوات المسلحة العراقية، للقوات العراقية.
** الخطر الثالث يتمثل بالسعودية وقطر والتحالف العربي الخليجي وتركيا. إنه هذا التحالف يقوم بامتياز، على أساس طائفي سني عدواني، ينافس عدوانية الطائفية الشيعية، ولهما معاً، من خلال استعانتهما بالطائفية المقيتة، مصالحهما "الحيوية!" المناهضة لمصالح الشعب العراقي. وهذا التحالف ينتظر الفرصة لإشعال نار حرب أوسع تحرق الأخضر واليابس بالعراق، كما باليمن. إذ لم يكتف هذا التحالف بدوره القذر في اجتياح داعش، بقيادة بعثيين أوباش، للعراق واحتلال مناطق واسعة منه ودور كل من السعودية وتركيا وقطر بشكل خاص في ذلك. وتصريحات وزير خارجية السعودية عادل جبير النزقة المتسمة بهستيرية غير معهودة مختلفة تماماً عن دبلوماسية السعودية في فترة حكم المتوفي الملك عبد الله بن عبد العزيز.
** وليس خطر داعش إلا أقلها، إذ إن في مقدور المجتمع والقوات المسلحة والبيشمركة والمتطوعين حسم المعارك لصالح تحرير العراق. ولكن ماذا عن الأخطار السياسية والعسكرية الأخرى التي تواجه العراق الآن وما بعد التحرير؟ وماذا عن الطائفية السياسية في الحكم وميليشياتها المسلحة، التي تعتبر الخطر المركزي المباشر المدمر للشعب في حاضره ومستقبله؟
في الوقت الذي يواجه الشعب العراقي هذه الأخطار الجدية المباشرة، نرى قادة الكتل السياسية ترقص على حبال كسب الوقت لتفادي استحقاق التغيير الجذري للنظام السياسي، ولكنها يمكن أن تكون رقصة موتها ايضاً، وفي مستقبل ليس ببعيد جداً، لأنها ترفض التنازل عن بغلتها وعن حصتها في التكوين الوزاري القائم على المحاصصة الطائفية المرفوضة من عدد متزايد من أبناء وبنات الشعب. في ما عدا كتلة الأحرار، أو التيار الصدري. فالشعب يمهل ولا يهمل!! ألا تريدون التعلم من نظام صدام حسين؟
إن المشكلة لا تكمن في تغيير شكلي لأسماء الأشخاص، مع بقاء النظام السياسي الطائفي قائماً بالعراق، فالمشكلة لا تكمن في الأشخاص فقط، بل بمضمون النظام الطائفي المناهض لمصالح الشعب ووحدة الوطن. إنها تكمن في النهج الكامل وفي السياسات المنبثقة عن هذا النهج السياسي الطائفي الذي مثله أسطع تمثيل وأبشعه، نوري المالكي، ولم يبتعد عن جوهره حيدر العبادي إلا بالتصريحات.
إن التغيير الذي يطالب به الشعب لا ينجز من خلال ثلاث لجان بائسة تشكلت وليس في مقدورها حل "رجلي دجاجة"، لأن الأمور ليست في أيديها، بل بأيدي قادة الكتل، وهم الذين لا يريدون تغيير أي شيء في الوضع القائم، سواء أكانوا شيعة أم سنة، وما تشكيل اللجان، وإناطتها بأشخاص لا يستطيعون عمل أي شيء، وبعضهم طيب إلى حد اللعنة، إلا لرمي عبء الوضع على هذه اللجان.
إن على الحراك الشعبي المدني، والحراك الشعبي الذي يقوده التيار الصدري، أن يواصلا التظاهر والاعتصام ويطورا أساليب النضال السلمي والديمقراطي، بما يوفره الدستور من ضمانات الحماية للمتظاهرين، وبعيداً عن التهديد باستخدام القوة أو المليشيات المسلحة. فيقيناً إن بعض قوى النخب الحاكمة تتمنى ذلك، لكي تستخدم ميليشياتها أيضاً، بهدف السيطرة على دفة الحكم، وتوجيه ضربات قاسية للمتظاهرين. إن هذا الخطر موجود أيضاً، وهدد به نوري المالكي وحزبه بالعودة المباشرة إلى الحكم، وإن علينا رؤيته بوضوح وعدم تجنب التنبيه له، فاليقظة والحذر ضروريان منه.
إن على التيار الصدري ألّا يتحول إلى قوة مماثلة لحزب الله وحسن نصر الله وميليشياته بلبنان، فهو سكين في خاصرة الوطن اللبناني، ولا يجوز لكتلة الأحرار السياسية أن تتحول إلى مثل هذا السكين في خاصرة العراق، بما تملكه من ميلشيات "سرايا السلام" المسلحة، التي لا يجوز من حيث المبدأ والضرورة وجودها في الساحة السياسية العراقية، فهي، وبقية المليشيات، خارج إطار الدستور العراقي والقوانين العراقية، ووجودها غير شرعي ولا يوفر الأمن والاستقرار للعراق وشعبه حالياً وفي المستقبل.                   


457
تحية وتهنئة في عيد نوروز السنوي للشعب الكردي وكل الشعوب بالعراق ومنطقة الشرق الأوسط 
تحيات وتمنيات عطرة بحياة سعيدة ومستقبل أفضل للشعب الكردي في كل أقاليمه ولعموم الشعب العراقي والشعوب الإيرانية وكل الشعوب التي تحتفل بعيد نوروز، عيد الحرية والحياة والربيع، عيد الإنسان المتحرر من الخوف والبؤس والفاقة، وكذلك عيد الإنسان الذي يناضل من أجل الخلاص من كل أشكال التمييز والاضطهاد والحرمان والفقر والفساد والإرهاب
نتمنى أن يسجل هذا العيد مواصلة مقدامة في النضال من أجل تحرير الأرض واشعب من عصابات داعش الإجرامية وقوى البعث المسلحة التي تشكل قوامها المقاتل وكل الذين يتعاونون مع هذه العصابات ويمدونها بالعون والمساعدة، ونتمنى تحرير الإنسان العراقي من عبودية هذا التنظيم الإجرامي، تحية لمناضلي البيشمركة الذين يقاتلون في هذا العيد مع أخوتهم في القوات المسلحة العراقية والمتطوعين ويقدمون جميعاً جل التضحيات. تحية إلى شهداء حلبجة الأبرار، الذين تعرضوا مع بقية أبناء وبنات الشعب الكردي وباقي القوميات بأقليم كردستان العراق، إلى حملات جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية في العام 1988، تلك الحملات الأنفالية المجرمة التي ارتكبها نظام البعث الفاشي المجرم، تحية للجرحى والمعوقين بسبب جرائم الأنفال والذين ما زالوا يعانون من عواقبها، تحية لعائلات الشهداء والجرحى من الكرد وبقية القوميات التي عانت هي الأخرى وتحملت التضحيات في عمليات الأنفال كالمسيحيين والإيزديين والكاكائيين والشبك والتركمان. إلى الشعب الكردي وبقية القوميات بالعراق التحية والتمنيات بالعيش الكريم والمشترك والحياة الهانئة والخلاص من الأوضاع الراهنة بسبب طبيعة وسياسات النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية والأثنية السيئة الصيت والمدمرة لوحدة الشعب وهوية المواطنة الحرة والمتساوية. لتنتصر إرادة الخير والحياة الحرة والديمقراطية وحقوق الإنسان في كل أرجاء كردستان والعراق وبلدان المنطقة. وليسد السلام في أرجاء المعمورة، ولتندحر قوى الإرهاب والفساد والتمييز العنصري والديني والمذهبي والطائفي وضد المرأة، ولتسط راية المحاصصة الطائقية المقيتة  والمذلة  كاظم حبيب


458
كاظم حبيب
الدولة الهشة والدولة الموازية بالعراق!
الشعب العراقي يعيش حالة فريدة، ليس الآن، بل بدأت منذ سنوات. حالة لا تبشر بالخير للشعب العراقي ولا تضمن حياته وحرياته العامة وحقوقه، إن استمر هذه الحالة المأساوية. بدأت منذ أن فُرض على العراق النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته الطائفية المذلة، والمشوهة لإرادة الشعب، بدعم مباشر من قوى الاحتلال وإيران والمرجعية الدينية بالنجف، وتلك الأحزاب التي تبنت الطائفية السياسية نهجاً وتمارس التمييز المقيت عملياً إزاء المواطنين حسب دينهم ومذهبهم وقوميتهم. إنه الغطاء المهلهل الذي مورس باسمه كل الموبقات بالعراق خلال الأعوام المنصرمة بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية–الصدامية الغاشمة، ذلك النظام الفاشي الذي أسس ووفر بعد إسقاطه، وعبر ما يقرب من 35 عاماً من حكمه، ما أقيم من حكم غارق في بؤس فكري وسياسي واجتماعي، غارق في الجهل والرثاثة.
الحكومة تدعي الإصلاح ورفض المحاصة الطائفية، وهي وليدته، تراوغ فيه، وتزوغ عنه، وتتلاعب بإرادة ومشاعر الشعب ورغبته في التغيير والخلاص من الموت اليومي والبؤس الفعلي والفقر المذل لمزيد من البشر. قوى التحالف الوطني الطائفية تريد الاستفادة من الوقت لتعيد تنظيم أوضاعها وإعادة الثقة بالمستبد بأمره السابق نوري المالكي، بعد أن يتم إعلان فشل وعجز العبادي بإجراء ما يطالب به الشعب وما وعده به. إنها للعبة مكشوفة وتدميرية تلك التي تمارسها الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية في المرحلة الراهنة، والتي تجد التأييد من أحزاب وقوى سنية فاسدة تساهم في حكم البلاد منذ سنوات وتخدع الشعب بمعارضتها الشكلية.
وإذا كانت الدولة العراقية غير مكشوفة لكل الشعب في هشاشتها منذ تأسيسها على أساس طائفي مقيت، تتستر به الأحزاب السياسية الإسلامية على مصالحها الجشعة المناهضة لمصالح الشعب وعلى نهبها لموارد الشعب المالية وسرقة لقمة عيش الكادحين والمعوزين من بنات وأبناء الشعب، فأنها، وبعد كل الذي حصل يوم الجمعة المصادف 18/3/2016، قد كشفت عن عورتها للجميع. فلا قرار وزبر الداخلية، ولا قرار رئيس الوزراء بمنع الاعتصام قرب بوابات الخضراء، ولا الأعداد الغفيرة من العسكر الذي انتشروا في كل مكان وقطعوا أوصال بغداد، كان في مقدوره منع عبور المتظاهرين الصدريين الحواجز ووصولهم إلى البوابات التي شاءوا الوصول إليها ونصب خيام الاعتصام فيها.
المشكلة لا تكمن في سماح قوات عمليات بغداد بمرور المتظاهرين وعدم الصدام بهم، بل في عجز الحكومة على تنفيذ قرارها، بسبب وجود دولة موازية للدولة العراقية، وقوات مسلحة موازية للقوات المسلحة العراقية، بل يمكن الادعاء الموثق على وجود أكثر من قوات مسلحة واحدة موازية للقوات المسلحة الحكومية.
المشكلة لا تكمن في وجود متظاهرين من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية تطالب بالإصلاح والتغيير، بل المشكلة في وجود قائد عسكري آخر يقود ميليشيات "سرايا السلام" الصدرية، واسمه كاظم العيساوي. إنه المعاون الجهادي العسكري لزعيم التيار الصدري، الذي أصدر قراراً بعبور الحواجز مهما كان الثمن.
وفي الوقت ذاته أصدرت قيادة الحشد الشعبي بياناً يعبر عن رأي قوات عسكرية موازية أخرى لقوات الدولة العراقية ولميليشيات سرايا السلام، يدعو إلى سحب المظاهر المسلحة كافة داخل المدن, وكأن المليشيات الطائفية المسلحة المشاركة في الحشد الشعبي لا تملك ميليشياتها المنتشرة في المدن والمسلحة أيضاً وإنها تشكل القوات المسلحة الموازية فعلياً للقوات المسلحة العراقية، والتي يحاول رئيس الوزراء أن يحتمي بها، كجزء منه ومنها، حالياً دون أن يدرك، أو لا يريد أن يرى مخاطر تلك المليشيات، وليس المتطوعين المستقلين من أبناء الشعب، على الدولة العراقية الهشة وعلى المجتمع وعلى التغيير الجذري المنشود بالعراق. لم يصدر مثل هذا البيان عن الحكومة العراقية بل عن قيادة الحشد الشعبي!   
إن تبني المطالب الشعبية التي طرحت عبر المظاهرات الشعبية والحراك المدني الشعبي من جانب الجماهير المرتبطة بهذا الشكل أو ذاك أو المؤيدة للصدر أو لغيره أمر لا غبار عليه، ولكن المشكلة تكمن في الدور الذي يريد أن يلعبه مقتدى الصدر كقائد لا للتيار الصدري بل للعراق كله، ويعتمد في ذلك على ميليشياته المسلحة المخالفة لنص الدستور العراقي. فهو في الوقت الذي يدعو إلى احترام الدستور يتجاوز عليه بفظاظة في امتلاكه لمليشيات مسلحة أحسن تسليح وتمتلك موارد مالية كبيرة وتمارس القوة والعنف والتهديد في الوصول إلى ما تريد وتقف بموازاة القوات المسلحة العراقية، ويمكن أن تصطدم بها في كل لحظة، كما حصل في العام 2008، لو أن قوات عمليات بغداد قد منعت تلك الجماهير المحتشدة من عيور الحواجز واصطدمت بها. وعلينا أن نلاحظ وجود منافسة بين المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة بالعراق للهيمنة على الدولة والشارع، بين فيلق بدر وسرايا السلام، وبين عصائب أهل الحق وسرايا السلام وبين فيلق بدر وعصائب أهل الحق، رغم تحالفهما الراهن في مواجهة سرايا السلام، وكذلك جماعة حزب الله وهلمجرا. إن العراق سيغرق من جديد في نزاعات عسكرية مسلحة تمارسها القوات الموازية للقوات العراقية، والتي تشكل خطراً على الدولة والمجتمع وعل الوجهة التي يسعى الشعب إليها، إلى التغيير الجذري والخروج من الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية القاتلة. إنها المهمة المركزية التي تواجه الشعب والتي تسعى كل القوى الحاكمة إلى تزييف وتشويه إرادة الشعب. إن مهمة الشعب تتلخص فع مستوى يقظته لما يراد له والذي يفترض أن يحبط في كل الأحوال. 

459
كاظم حبيب
من أجل لجم الاستبداد التركي في الداخل والخارج
الصحف والنشرات الإخبارية العالمية والإقليمية تنشر يومياً المزيد من المعلومات الموثقة عن غوص رئيس جمهورية تركيا الجديد نجيب طيب أردوغان في مصادرة الحريات العامة وحرية الصحافة والنشر والتظاهر، بعد أن أعلن، وبشكل مفاجئ، الحرب ضد الشعب الكردي بكردستان تركيا. لقد كان الشعبان التركي والكردي يأملان بحل المسألة الكردية على أسس سلمية وديمقراطية، وبتعزيز السلام والتنمية في تركيا.
إلا إن الحكومة التركية وحزب العدالة قد تخلا عن وعودهما بذلك، واختارا الحرب ضد حزب العمال الكردستاني وقواه السياسية الأخرى، وضد حقوق الشعب الكردي المشروعة، ولم يعر أردوغان أي اهتمام بتجربة الحرب التي دامت أكثر من ثلاثة عقود خاضتها القوات المسلحة التركية ضد الشعب الكرد وحزب العمال الكردستاني، ولا للخسائر البشرية الفادحة والخسائر المالية وتوقف التنمية والتقدم في مناطق النزاع الكردية.
كان الراي العام العالمي والمجتمع الدولي يعتقدان بأن هناك صحوة فكرية أفاقت حزب العدالة والتنمية بتركيا، بعد التجارب العسكرية المريرة السابقة والفاشلة للدولة التركية في إبعاد الشعب الكردي عن المطالبة بحقوقه المشروعة، وأنه يسعى إلى السلام والعقلانية في ممارسة السياسة الواقعية. ولكن أردوغان خيب ظن شعوب العالم كلها والمجتمع الدولي بممارسته سياسيات غير عقلانية تنزع إلى الاستبداد والاستعداد للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وعدم التورع في خوض النزاعات العسكرية والعدوان لتحقيق "مناطق نفوذ حيوية!" للدولة التركية. وبرزت هذه الاتجاهات السلبية في السنوات الأخيرة وتجلت في السياسية الخارجية، ثم عمّت السياسة الداخلية أيضاً، والسعي لفرض تغييرات في بنود الدستور تسمح لأردوغان أن يلعب الدور الأول والأساس في اتخاذ القرارات، وإضعاف شديد لدور المجتمع ومجلس النواب لصالح السلطة التنفيذية التي سيكون رئيسها عملياً.
لقد احتضن أردوغان، بالتعاون مع السعودية وقطر، تنظيم داعش الإرهابي، وساعد على تعزيز قدرات جبهة النصرة العسكرية وأحرار الشام وغيرها من التنظيمات الإرهابية، ثم احتووا عدداً من قوى المعارضة السورية، وحولوا الكثير منها إلى أدوات بيد التحالف التركي السعودي القطري، وأصبحت انقرة والرياض والدوحة مقرات لها. وهو أمر خطير ليس في صالح الشعب السوري وقواه الوطنية المدنية، التي كانت وما تزال تناضل ضد دكتاتورية الأسد وحزب البعث والعسكر بسوريا، ولكنها في ذات الوقت ترفض هذا الدور التركي السعودي القطري المشين في التدخل بشأن المعارضة السورية ودعم قوى الإرهاب فعلياً. وأدى هذا التدخل الخارجي التركي-السعودي-القطري، إضافة إلى تدخل إيران وحزب الله وبعض أطراف المليشيات الشيعية المسلحة بسوريا، إلى تشديد الصراع ليبدو وكأنه صراع طائفي بين السنة والعلويين، في حين أنه صراع بين دول الإقليم على النفوذ والهيمنة على سوريا والمنطقة، وسيشمل دولاً أخرى ما لم تنتبه شعوب المنطقة وقواها الوطنية المدنية والمجتمع الدولي إلى مخاطر إشعال النيران الطائفية في المنطقة بأسرها. وها هم يحاولون بجدية كبيرة تحويل العراق إلى ساحة صراع ونزاع عسكري مدمر بين القطبين السعودي الإيراني، بدعم من تركيا وقطر للأول، وحزب الله وميليشيات شيعية عراقية مسلحة للثاني.
لقد حصلت مساومة عدوانية بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، والاستفادة من قاعدة انجرلك الجوية، سمح بموجبها لتركيا شن الحرب ضد حزب العمال الكردستاني والشعب الكردي بكردستان تركيا وفرض الحصار على المدن وخوض معارك الشوارع ضد المقاتلين الكُرد. ونتيجة لهذه السياسات تعرض الأمن بتركيا إلى المزيد من الهزّات والعمليات الانتحارية وموت الكثير من الناس الأبرياء. وحين واصلت الصحافة التركية الحرة والمعارضة تكتب وتنتقد سياسات أردوغان علناً، تمادى أردوغان باستخدام أجهزته الأمنية واقتحامها دور ثلاث صحف تركية، بينها جريدة زمان المعارضة، وفرض الرقابة الحكومية عليها واعتقال الكثير من الصحفيين الترك والكرد، إضافة إلى التشدد في محاربة حزب الشعوب الديمقراطي وملاحقة واعتقال أعضاء فيه، وهو الحزب الذي يعمل من أجل الحل السلمي والديمقراطي للمسألة الكردية والدفاع عن حقوق بقية القوميات وأتباع الديانات والمذاهب بتركيا.
وكما نشرت صحيفة التمايز اللندنية أخيراً، فأن أردوغان، كان وما يزال، يسعى إلى إسكات منتقديه بكل السبل. إلا إن السياسة التركية الاستبدادية التي تصاعد انتقادها من جانب الرأي العام العالمي والقوى الديمقراطية، واجهتها دول الاتحاد الأوروبي بالسكوت المريب، وهي التي تتحدث كثيراً عن الدفاع عن حقوق الإنسان. إن سكوتها ناجم عن تهديد أردوغان لها بفتح الحدود التركية أمام اللاجئين لإغراق دول الاتحاد الأوربي بهم، وهو يفرض شروطه في مفاوضات بروكسل، كأي تاجر مستبد وجشع ومحتال، لابتزاز الدول الأوروبية وشراء سكوتها عن حربه ضد العب الكردي ومصادرته الفعلية لحقوق الإنسان، وحرية الصحافة، واعتقال الصحفيين بالجملة، وضرب مظاهرة النساء في 8 آذار عيد المرأة العالمي. إن تركيا قد تحولت إلى دولة بوليسية لا ضد شعوبها فحسب، بل وضد شعوب الدول المجاورة لها، وهو خطر كبير، يفترض في مجلس الأمن الدولي أن ينتبه له، ويعمل على مواجهته بقرارات صارمة يمنع تدحرج الأوضاع نحو هاوية حروب جديدة بالمنطقة.
إن لأردوغان، الذي أرسل قوات عسكرية مدججة بالسلاح الثقيل إلى العراق، مطامع جدية بالعراق، بمحافظتي نينوى وكركوك وبالنفط فيهما، إذ إنه يعيد ممارسة سياسة السلطنة العثمانية، واعتبار ولاية الموصل السابقة جزءاً من الدولة التركية الحالية.
إن على مسؤولي الدولة العراقية وإقليم كردستان العراق أن يدركوا بأن وجود النفوذ الإيراني الحالي الواسع عسكرياً وأمنياً وسياسياً واجتماعياً وطائفيا،ً يعتبر إخلالاً مباشراً بسيادة العراق واستقلاله أولاً، ويدفع بالسعودية وقطر وتركيا وغيرها إلى مزيد من التدخل بالعراق، بذريعة مواجهة النفوذ الإيراني، وبالتالي، احتمال انفجار نزاع عسكري يحوَّل العراق كله إلى ما عليه سوريا واليمن حالياً من موت وخراب ودمار ومناطق تنعى فيها الغربان. إن على القوى المدنية والديمقراطية والناس المستقلين والحريصين على العراق وإقليمه أن يعملوا لصالح التغيير الذي يمنع وقوع المحظور في ظل نظام المحاصصة الطائفية والأثنية بالعراق. 
كاظم حبيب
في ح/3/2016     
           

460
رسالة مفتوحة من كاظم حبيب إلى السيد مقتدى الصدر
الأخ الفاضل السيد مقتدى الصدر المحترم
تحية طيبة
أجد لزاماً عليَّ كمواطن عراقي وناشط في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، بعد أن قررتم شخصياً حجز السيد بهاء الأعرجي لمدة ثلاث شهور متجاوزين بذلك السلطة القضائية العراقية والسلطتين التنفيذية والتشريعية ووضعتم نفسكم في مقام هذه السلطات والدستور العراقي وقوانين البلاد السارية، أن أوجه هذه الرسالة لكم وللشعب العراقي، التي أرفض فيها هذا الأسلوب في التعامل الفردي مع المخطئين أو حتى من ارتكب الجرائم. لقد نُشر في وسائل الإعلام الكثير من المعلومات عن تهم الفساد ونهب أموال الشعب بطرق ملتوية وجمعت ثروة من السحت الحرام، كما وجهت هيئة النزاهة تهم الفساد للنائب بهاء الأعرجي والعضو في التيار الصدري السياسي وحركة لأحرار. وكان بهاء الأعرجي رئيساً للجنة النزاهة في مجلس النواب العراقي. لهذا كله وكمواطن عراقي يفترض أن يقاضى من جانب مؤسسات الدولة العراقية والسلطتين التنفيذية والقضائية. إنها وحدها المسؤولة عن حجز أو فرض الإقامة الجبرية أو اعتقال وحبس بهاء الأعرجي وعلى وفق الأصول القانونية. لهذا أرى، إن قراركم بحجزه يعتبر انتهاكاً فظاً لحرمة الدستور العراقي والقوانين السارية واستخفافاً بسلطات الدولة العراقية رغم هشاشتها وطائفيتها وممارستها التمييز وسكوتها عن الفساد. وهي ليست أول مرة تمارسون مثل هذا التصرف، وكأنكم دولة داخل دولة، رغم ما يمكن أن ينشأ من تعاطف من جانب الناس لهذا الإجراء غير القانوني، بسبب المبالغ الطائلة التي يجري الحديث عنها ويتهم بها بهاء الأعرجي بتهريبها بطرق غير شرعية واقتناء عمارات في الخليج أو في لندن أو وضع الأموال المنهوبة في المصارف الأجنبية.   
اعتبر نفسي من المتابعين لما يجري بالعراق وأتفاعل مع أحداثه وأكتب عنها وأنشرها، وذاكرتي وكتاباتي تبيح لي أن أوجه لكم هذه الرسالة المفتوحة لأذكركم بأنكم ومنذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة بالعراق في العام 2003، وأنتم ابن الشهيد السيد محمد صادق الصدر، وعمكم الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وعمتكم الشهيدة السيدة بنت الهدى الصدر، قد مارستم ما كان ينبغي أن لا تمارسوه بأي حال. فقد انتهجتم سياسات فردية باسم الدين، واتخذتم إجراءات كثيرة وشكلتم تنظيماً مسلحاً باسم "جيش المهدي"، الذي مارس الكثير من الأفعال خارج إطار الدستور العراقي والقوانين السارية بالبلاد، ضد أتباع الديانات الأخرى في وسط وجنوب العراق، ومن ثم ضد أتباع المذهب الآخر، كما أن جيش المهدي متهم بقتل الكثير من الناس الأبرياء وتعذيبهم وحجزهم دون وجه حق ودون المثول أمام المحاكم العراقية،. ولم يكن جيش المهدي وحده في هذا الاتجاه، بل شاركت ميليشيات شيعية أخرى مثل منظمة بدر، ومن ثم المنظمة التي انشقت عن جماعتكم وعن جيش المهدي وشكلت مليشيا طائفية مسلحة باسم "عصائب أهل الحق" بقيادة المنشق عنكم، قيس الخزعلي، التي تمارس بدورها دور الدولة داخل الدولة ودور القوات المسلحة داخل القوات العراقية الرسمية، إضافة إلى الكثير من المليشيات المسلحة الأخرى الشيعية الأخرى، ومنها منظمة بدر التي لا تختلف عن المليشيات الأخرى، والمليشيات السنية أيضاً السنية.
وفي العام 2008 اصطدم جيش المهدي بالقوات العراقية بالبصرة وبغداد، وكان لذلك عواقب وخيمة، إذ لا يجوز أن تكون هناك قوات مسلحة خارج إطار القوات العراقية الرسمية، وأن وجدت، فهي خارج إطار الشرعية الدستورية ويجب أن تحاسب.
كما إن تياركم الصدري أو تنظيم الأحرار عضو في "التحالف الوطني"، أو ما يطلق عليه بـ "البيت الشيعي"، وهو تنظيم طائفي يعتمد الهوية الطائفية الشيعية ويتجاوز على هوية الوطن والمواطنة، وهو إخلال آخر بالدستور العراقي. إن وجود جميع التنظيمات الإسلامية السياسية العراقية يعتبر مخالفة دستورية، إذ لا يجوز إنشاء أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي، لأن هذا يتجاوز على القاعدة المدنية فصل الدين عن الدولة والسياسة أولاً، ويساهم في شق وحدة الشعب، ويقود على التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المذهب الذي يخالف مبدأ المواطنة الحرة والمشتركة والمتساوية.   
لقد كانت بعض مواقفكم السياسية، على وفق اجتهادكم، صائبة أو ضرورية، ولكنها على وفق الدستور العراقي والقوانين العراقية تعتبر مخالفات صريحة للدستور والقوانين العراقية وللمجتمع، والتي تتطلب من حيث المبدأ المحاسبة. كما أن لكم مواقف اعتبرها سليمة لو كانت صادرة عنكم باعتباركم مواطن، وليس الحديث باسم الدين أو المذهب، منها مثلاً مطالبتكم بالتغيير الحكومي. 
لقد تقلبت مواقفكم السياسية، وهو أمر ممكن وضروري في حالتين، حالة الإدراك بوجود ظروف ومستجدات تستوجب ذلك، أو في حالة ارتفاع مستوى الوعي لديكم بحيث تقررون سياسات ومواقف أخرى تعتمدونها في نشاطكم السياسي غير تلك التي مارستموها قبل ذاك.
من وجهة نظري أرى بأن تدخلكم بالسياسية كشيخ دين وتكوينكم تنظيم أو حزب سياسي غير صحيح ويتناقض مع الدستور العراقي الذي يرفض تأسيس أحزاب على أساس دين أو مذهب، بل يفترض أن يكون على أساس المواطنة. ولكن كفرد يحق لكم إبداء الرأي السياسي أو تشكيل حزب مدني غير طائفي ولا يمزج بين الدين والسياسة، ومن حق هذا الحزب أن يستخدم مجموعة من القيم الإنسانية الموجودة في الأديان ويستفيد منها كقيم إنسانية لحزبه. وبالتالي فأن وجود تنظيم عسكري تقودونه حتى الآن وباسم "سرايا السلام" بدلاً من الاسم القديم، جيش المهدي، هو مخالفة وانتهاك صريح للدستور والقوانين العراقية. ولا تقتصر هذه المخالفة على سرايا السلام بل تشمل العشرات من التنظيمات الميليشياوية المسلحة التي تعتبر خارج القانون ومخالفة صريحة للدستور العراقي، وهي في الغالب الأعم مرتبطة بالمرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران وبالحرس اثوري الإيراني وتأتمر بأوامرهما.
الأخ السيد مقتدى الصدر
ليس بهاء الأعرجي هو الوحيد المتهم بالتهام أموال الناس الطيبين بالعراق، بل كثرة ممن يعملون في تياركم الصدري متهم بذلك أولاً وليس هم الوحيدون المتهمون بابتلاع أموال اسحت الحرام، بل الكثرة الكاثرة من قيادات الأحزاب الحاكمة، الإسلامية والقومية، وكثرة من العاملين في البنوك والتجارة والعقارات، وكثرة من استولى على قصور الدولة العراقية وسكنوا فيها أو باعوها أو احتلوا مساحات واسعة من الأراضي ممن يقود أحزاباً إسلامية عراقية، فهل ستحتجزهم جميعاً، أم يجب تقديمهم إلى المحاكمة ومحاسبتهم أمام الرأي العام العراقي المبتلى بهؤلاء المتهمين الذين سرقوا البلاد والعباد؟ أدعوكم إلى الطلب من القضاء العراقي إلى فتح ملف الطبيب إبراهيم الأشيقر (الجعفري) المتهم من قبل الشعب بذات التهم التي طالت بهاء الأعرجي أو السيد عمار الحكيم، أو نوري المالكي، أو أسامة النجيفي، أو أثيل النجيفي، وصالح المطلك وأياد علاوي أو قادة الأحزاب الكردستانية، أو ملفات بعض أتباعكم أيضاً،على سبيل المثال لا الحصر، والتي كلها لا أستطيع الحكم فيها، بل هي من واجب القضاء العادل، رغم غياب القضاء العادل وغير المسيس بالعراق.
اعتقد إن الواجب يدعوكم، كمواطن عراقي، إلى العمل على تغيير القضاء والادعاء العامة ومن يعمل في لجان النزاهة ليرتقوا إلى مستوى المسؤولية. ولتحقيق ذلك لا بد من تغيير نظام المحاصصة الطائفية القائم فهو اس البلاء بالبلاد.     
كما تعلمون فإن هناك جمهرة كبيرة من الكادحين والفقراء والمعوزين المسحوقين حقاً الذين يعيشون على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالرغم منهم بسبب فقرهم، وبسبب التمييز المسلط عليهم. وجمهرة كبيرة من هؤلاء الكادحين والفقراء من أبناء وبنات العراق في الوسط والجنوب وبغداد العاصمة قد التحقت بتياركم الصدري، وكان أغلبهم من المقلدين لوالدكم الشهيد، وهذه الجمهرة يستوجب الدفاع عن مصالحها المضيعة، يستوجب دفعهم إلى الانضمام الأحزاب المدنية، وليس لأحزاب دينية وميليشيات طائفية مسلحة. ويمكنكم إن شئتم، تشكيل حزب سياسي مدني خارج الأطر الدينية والطائفية، عندها يمكنكم أن تلعبوا دوراً مهما في هذا المجال وتخدموا مصالح هؤلاء الفقراء والكادحين. أن تأسيسكم حزباً سياسياً عراقياً، وليس دينياً ومذهبياً، حزباً لا يمزج بين الدين والسياسة، يتطلب تخليكم عن الدور الديني الذي تمارسونه اليوم. وهذا لا يعني تخليكم عن إيمانكم بالدين أو المذهب، بل يمكنكم الاستفادة من القيم الدينية في عملكم السياسي دون زج الدين بالسياسة. كما يمكنكم تحويل تنظيم الأحرار، الذي يقوده السيد الدكتور ضياء الأسدي، إلى مثل هذا الحزب المدني، ولكم الحق عند ذلك في قيادته بمضمون وشكل مدني.       
لقد اتخذتم في الآونة الأخيرة مواقف سياسية إلى جانب مطالب الشعب في التغيير، ودعوتم أتباعكم ومؤيديكم إلى المشاركة في التظاهرات ضد الوضع المأساوي الراهن، وبدأتم بالتنسيق بصيغة ما مع قوى الحراك الشعبي ضد المحاصصة الطائفية القائمة، وضد الفساد والإرهاب والاحتلال ونقص الخدمات المقدمة للمواطنين. هذا أمر جيد وإيجابي. ولكن هذا لا يبيح لكم أن تتصرفوا كدولة داخل دولة ولا كقوة عسكرية داخل البلاد، لأن ذلك سيزيد الفوضى السائدة بالعراق وسيضعف الدول الهشة أصلاً ويدفع بقوى أخرى للتحرك بالاتجاه ذاته ليمارسوا ما مارستموه باعتقال بهاء الأعرجي.
اسمحوا لك أن أؤكد لكم بأني لا أدافع عن بهاء الأعرجي ولا أزكيه من التهم الموجهة له، فهذا من واجب القضاء العراقي، بل أدافع عن الشرعية الدستورية والقوانين والقضاء العراقي، رغم تهم الفساد الموجهة لهذا القضاء ولرئيسه وجمهرة من العاملين على رأسه، ورغم غياب الشرعية الفعلية عن الكثير من ممارسات السلطات الثلاث بالعراق.
أتمنى عليكم أن تفكروا بهدوء بهذه الرسالة ولا تعتبروها تجاوزاً عليكم، فليس بيننا من يمكن أن يكون فوق الدستور العراق أو القوانين السارية، رغم معرفتي بنواقص الدستور وقدم الكثير من القوانين، ولكن علينا أن نناضل من أجل تغييرها لصالح المجتمع لا أن نتصرف كما تمليه علينا رغابتنا أو قناعاتنا الشخصية.
لكم مني خالص التقدير
كاظم حبيب 
7/3/2016         

461
كاظم حبيب
معاناة شعب مصر من تحالف العسكر مع السلفيين
لم يتحقق لشعب مصر ما كان يصبو إليه، عبر انتفاضته الشعبية المقدامة في 25 يناير/كانون الثاني 2011، بإقامة المجتمع المدني الديمقراطي والدولة المدنية الديمقراطية المستقلة، التي لا تخضع لمشايخ الأزهر ولا للعسكر، إذ عجز عن تحويلها إلى ثورة شعبية قادرة على تغيير موازين القوى وعلاقات الإنتاج القائمة والتخلص من القوى القومية اليمينية ومشايخ الأزهر والجماعات العسكرية المهيمنة على القوات المسلحة التي حكمت مصر أكثر من ستة عقود عجاف، إضافة إلى المعاناة من البطالة والفقر والحرمان والمزيد من التمايز الطبقي والارتداد علن كل المكاسب التي تحققت لشعب مصر طوال عقود القرن العشرين بنضال الفئات الاجتماعية الكادحة والفئة المثقفة والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة.
لقد سرقت جماعة الإخوان المسلمين السلطة مباشرة وبدعم من قيادة القوات المسلحة، تماماً كما حصل بإيران، وأُهملت مصالح الشعب وإرادته كلية. ولكنها تجرأت بالسعي الحثيث للانفراد بالسلطة وفرض إرادتها على قيادة القوات المسلحة، فخانت تحالفها، مما دفع بقادة القوات المسلحة إلى الانتقام منهم، بتأييدهم الشعب المصري في رفضه لحكم الإخوان المسلمين ومحمد مرسي. فماذا حصل؟   
انطلقت الملايين من جماهير الشعب المصري، الرافضة لحكم الإخوان ومحمد مرسي، في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 في انتفاضة شعبية عمت مصر كلها، وخاصة بالقاهرة. فاعتلى قادة الجيش المصري الموجة وأخذوا زمام المبادرة وركبوا الانتفاضة بشخص عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع وهيمنوا على السلطة مجدداً. فزج بمحمد مرسي في السجن ولوحق قادة الإخوان المسلمين. إلا إن العسكر زج أيضا،ً بالشخصيات المقدامة من الشبيبة المصرية التي قادت انتفاضة الشعب في الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013، في السجون، بسبب مشاركتهم في مظاهرات تطالب بالحريات العامة وتحقيق مطالب الشعب ومصالحه الأساسية.   
لقد عاد العسكر إلى السلطة، ولكن بتحالف جديد، تحالف بين قادة الجيش والجماعات الإسلامية السلفية، وبتأييد من مشايخ الأزهر. فبدأوا بممارسة سياسة استبدادية ظالمة هي الآن أشد وطأة على الشعب المصري مما كان عليه في زمن السادات ومبارك. إنه تحالف فكري وسياسي مصلحي بعيد عن مصالح الشعب المصري وحاجاته الأساسية. وإذا كانت الأصول الفكرية للسيسي مزيجاً من الفكر القومي اليميني والفكر الإخواني، فأنه اليوم، وكما يبدو، قد تحول ليصبح مزيجاً بين الفكر القومي اليميني المستبد والفكر الإسلامي السلفي الأكثر استبداداً. إن سيماء السيسي تبدو واضحة على جبينه من أثر السجود!!! ويحظى هذا التحالف الجديد بتأييد الولايات المتحدة الأمريكية، رغم تفضيلها تحالف الإخوان مع العسكر.
لقد دعا السيسي إلى تجديد الفكر الإسلامي بمصر. وكان يعني الالتزام بالفكر الإسلامي السلفي! وتجلى ذلك ليس بالقوانين المناهضة لحرية الصحافة والتظاهر والتجمع والتنظيم وحقوق الإنسان، وليس بالتحالف مع السعودية وحكم البشير في السودان فحسب، بل إطلاق الحرية للمحاكم بإصدار الأحكام القاسية بالسجن والغرامة ضد الشخصيات والكتاب والصحفيين المدنيين والعلمانيين بدعوى "خدش حياء" المسلمين أو "ازدراء الأديان". إن الفقه السلفي المصري المتحجر هو الفقه المهيمن على القضاء بمصر حالياً والمسنود من حكم العسكر. اليكم بعض الأمثلة:
** قُدم الكاتب المصري، إسلام بحيري، إلى القضاء بتهمة ازدراء الأديان، لأنه شكك بأحاديث صحيح البخاري، باعتبارها ليست من ثوابت الدين. حكم عليه بالسجن خمس سنوات، ثم خفف إلى سنة. علماً بأن هناك اتفاقاً بين كبار الفقهاء المسلمين على إن أحاديث البخاري ليست من ثوابت الدين.         
** اصدرت محكمة مصرية حكما بالسجن لمدة عامين على الروائي المصري أحمد ناجي بتهمة "خدش الحياء العام" بسبب ما جاء في رواية كتبها ونشرت صحيفة "أخبار الأدب" الحكومية فصلا منها.
** وحكمت المحكمة بتغريم طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب مبلغ 10 الاف جنيه مصري (1275 دولارا، 1150 يورو)، بسبب سماحه بنشر هذا الفصل من رواية ناجي "استخدام الحياة" في الصحيفة. وقدمت الدعوى ضد الكاتب بعد تلقي شكوى من قارئ.
** قضت محكمة مصرية الخميس 25 فبراير/ شباط 2016 بالسجن 5 سنوات على ثلاثة شبّان مسيحيين قبطيين أُدينوا بـ"ازدراء الإسلام" بعد ظهورهم في مقطع فيديو اعُتبر مهيناً للصلاة الإسلامية، حسب ما أفاد مسؤولٌ في النيابة لوكالة الصحافة الفرنسية. وقررت المحكمة الكائنة في محافظة المنيا (جنوب القاهرة 200 كم) إيداع متهمٍ رابع عمره 15 عاماً في مصلحة الأحداث. واثنان من المتهمين المحكومين بالسجن 5 سنوات أعمارهم 16 عاماً فيما ثالثهم عمره 17 عاماً.  إلا أن محاميهم ماهر نجيب قال إن موكليه كانوا يقلدون بتمثيلة "إعدامات جهاديي داعش" ولم يقصدوا أي إهانة للإسلام. (هوفينتغتون بوست عربي، 3/3/2016).
يواجه شعب مصر إرهابين، إرهاب يمارسه تحالف الإخوان المسلمين مع تنظيم داعش، وإرهاب تمارسه السلطة العسكرية المتحالفة مع التنظيم الإسلامي السلفي ومشايخ الأزهر. وهذا الواقع الناشئ يضع الشعب بين نيران العسكر ونيران الفقه الإسلامي السلفي في الحكم، مما يزيد من تعقيد نضاله الوطني لبناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية، ويذكرنا هذا، كما قال صديق مصري، بتحالف السلطة مع اللاهوت بمصر الفرعونية القديمة، لفرض مصالح المتحالفين على حساب مصالح وإرادة الشعب المصري. فمتى يستطيع الشعب المصري فرض إرادته والتحكم بمستقبله. الشعب المصري يمهل ولا يهمل أهداف انتفاضاته المقدامة!

462
كاظم حبيب
من هم محركو وقاعدة وأداة التغيير وأهدافه بالعراق؟
تغيير نظام المحاصصة الطائفية والتوجه صوب المجتمع المدني الديمقراطي والدولة المدنية الديمقراطية لا يأتي من خلال قوى المحاصصة الطائفية ذاتها، هذه القوى التي استطاعت بدعم من المحتل وإيران وأهدافهما التي لا تتناغم بأي حال مع أهداف الشعب العراقي ومصالحه الأساسية، تكريس سلطاتها والهيمنة على ثروة البلاد بأساليب فاسدة وتعزيز نفوذها وأدوات حكمها، كما لا يأتي التغيير الجذري المنشود، الذي يسعى إليه الشعب، من خلال العمل مع تلك القوى والدول المجاورة، السعودية وقطر وتركيا، التي تريد إقامة البديل الطائفي المقابل لتحقيق أهدافها ومصالحها الأنانية على حساب أهداف ومصالح الشعب العراقي، بل إن التغيير يأتي من خلال عمل القوى والأحزاب الوطنية العراقية، الأحزاب الديمقراطية والقوى المستقلة المؤمنة بإرادة الشعب وأهدافه ومصالحه الآنية وذات المدى البعيد، الدؤوب والمستمر بلا تعب أو كلل مع الشعب العراقي، وخاصة مع شبيبة العراق من الذكور والإناث. فالشبيبة العراقية هي القوى المحركة صوب التغيير وقاعدته الأساسية وأداته الفعلية، إنها الشبيبة المنحدرة من كل الطبقات والفئات الاجتماعية التي تعي حقيقة ما جرى ويجري بالعراق منذ ما يزيد على خمسين عاماً، وبشكل خاص في فترتي الحكم القومي اليميني الشوفيني والاستبدادي، وفي فترة الاحتلال وتكريس الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية حتى الوقت الحاضر، والتي لا ترى مصلحة لها في استمرار مثل هذا النظام في الحكم الذي لم يجلب لها وللمجتمع غير الصراع والنزاع والفساد والموت والخراب للبلاد وتدمير تراثه الحضاري الإنساني ومقومات العيش الأمن فيه.
إن عملية التغيير يمكن أن تتم عبر ثلاث طرق معروفة للجميع: إما بانقلاب عسكري يمسك السلطة ويقود البلاد إلى استبداد جديد لا يمكن القبول به والخضوع له؛ وإما بثورة شعبية جارفة قادرة على وضع قوى جديدة على رأس السلطة السياسية لقيادة البلاد صوب شاطئ السلام والأمان، ومثل هذه الثورة لا تتوفر ظروفها ومستلزمات تحقيقها حالياً، لأنها لا تحصل بإرادة ذاتية لفرد أو جماعة صغيرة، بل تحصل حين يدرك الشعب بأنه لم يعد قادراً على العيش في ظل حكام اليوم، وحين يرفض الحكام إجراء التغيير، مما يوفر الشروط المناسبة للتغيير الثوري بالبلاد، وهي عملية طويلة ومعقدة خاصة وأن الوعي الاجتماعي ما يزال لم يصل إلى مستوى الخلاص من التشويهات والتزييفات العالقة في أذها الناس؛ وإما عبر العمل السياسي والثقافي والإعلامي الصبور والدؤوب غير المنقطع في صفوف الشبيبة من الإناث والذكور لرفع الغشاوة عن أذهان الناس وعن وعيهم بما جرى ويجري بالعراق، من خلال جعلهم يدركون أن حياتهم المذلة والرثة الراهنة لا تُعوض بحياة أخرى. ومع إن هذه العملية معقدة وطويلة الأمد، وكما قال عنها صديقي الكاتب والصحفي رضا الظاهر بأنها "حفر أو نقر في الصخر"، ولكنها مقبولة وممكنة في عملية تغيير سلمي وديمقراطي، رغم إن الحكام الحاليين غير سلميين وغير ديمقراطيين، كما برهن على ذلك وبشكل ساطع ممثلهم الطائفي المقيت وبامتياز نوري المالكي في مواقفه إزاء التظاهرات الشعبية في عام 2011 و2013، وفي موقفه الجامح للانتقام في الفلوجة والرمادي ومن أهل الموصل وعموم نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى وفي ما وقع من اجتياح واحتلال وقتل وتشريد وسبي واغتصاب وبيع في سوق النخاسة وموت للآلاف من أبناء وبنات العراق الأبرياء، إضافة إلى ضحايا معسكر سبايكر. (راجع تقرير صحيفة الأندبندت البريطانية المنشور في جريدة طريق الشعب، العدد 136/ سنة 81، 28 شباط/فبراير 2016، الصفحة الأولى وبعنوان "كشف النقاب بالتفاصيل عن الأسباب والمسبب في سقوط نينوى، رئيس الوزراء السابق تجاهل تحذيرات تؤكد نية داعش الهجوم على الموصل").
إن الحراك الشعبي العراقي الجاري عالياً، حيث تلعب جمهرة طيبة من الشبيبة العراقية دوراً مهماً في استمرارها وممارسة الضغط المطلوب على الحكم لفرض تغيير النخب الحاكمة والحكم ونظام المحاصصة من جذوره ومسببيه والفاعلين فيه، إنها الوسيلة الممكنة الراهنة التي يفترض أن تستخدم للوصول أكثر فأكثر إلى الطلبة والعمال الشباب والشابات، إلى الكسبة والحرفيين، إلى المزيد من المثقفين والمثقفات الشباب، إلى الريف العراقي، رغم خلوه من الشبيبة في الوقت الحاضر، إلى الشبيبة العرب والكرد والتركمان والكلدان الاشوريين السريان، إلى أبناء وبنات أتباع الديانات والمذاهب والآراء الفلسفية، إلى المتطوعين في القتال ضد عصابات داعش المجرمة. إن توجه قوى الحراك الشعبي والمساندين لهم من القوى والأحزاب والجماعات والشخصيات المستقلة نحو تعبئة الشباب التي تعمل في الأحزاب الإسلامية السياسية، سنية كانت أم شيعية، لكسبها إلى جانب الحراك الشعبي وأهدافه النبيلة، سيشكل قاعدة العمل الإنساني السياسي والثقافي الفعلي لعملية التغيير الجذرية وليس لإصلاح ترقيعي يعدون به ولا يفون بما وعدوا!                     
إن شبيبة العراق من عمال وعاملات، وكادحين وكادحات، وطلاب وطالبات، ومثقفين ومثقفات، وفلاحين وفلاحات، وكسبة وحرفيين، ومن بنات وأبناء البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، إنهم جميعاً عماد وقاعدة وأداة وقوى التغيير الفعلي والجذري بالعراق، وهم الذين ينبغي أن نتوجه لهم ونعمل في صفوفهم ونجعلهم في قيادة الحراك الشعبي والتغيير الجذري المنشود. فهم الذي يعانون من التهميش والبطالة والفقر والبؤس والحزن الدائم، والحرمان من الحياة الآمنة والمستقرة والسعيدة وهم الذي يواجهون عصابات داعش الإجرامية ومن لف لفها. وهم الذين أدركوا أم سيدركون بأن نظام المحاصصة الطائفي هو أساس معاناة الشعب، وهم في مقدمة من يعانون!     

463
كاظم حبيب
دور الفئة المثقفة والفئات الاجتماعية الأخرى في الحراك الشعبي الجاري بالعراق
عقدت مجلة الثقافة الجديدة ندوة فكرية مهمة في شهر تشرين الثاني 2015 تحت عنوان "المثقف والحراك الشعبي". تم نشر مداخلات المشاركين في العدد 379378 في الشهر ذاته.عالج المشاركون والمشاركات جوانب كثيرة من موضوع البحث، وسعوا للإجابة عن مجموعة كبيرة من الأسئلة التي يفرضها الواقع والشارع العراقي، وتلك التي آثارها المتداخلون الأوائل والمعلقون على تلك المداخلات. وهي مادة غنية تستحق القراءة والنقاش في آن.وبلورت المناقشات مجموعة من التشخيصات المهمة والحيوية إلى تحتاج إلى تبني في النضال اليومي الفعلي لقوى الحراك الشعبي.
لقد قرأت المادة المنشورة بشغف ومسؤولية، دفعاني لكتابة هذه المقالة التي أرجو أن تحظى بالقراءة والنقاش. أركز في هذه المقالة على ثلاث مسائل:
** ما هي طبيعة الدولة التي تشكلت بالعراق على أيدي قوات الاحتلال الأمريكية – البريطانية وأحزاب إسلامية طائفية متلبسة باتجاهات قومية يمينية وشوفينية عربية وضيق أفق قومي كردي للفئات الحاكمة بإقليم كردستان العراق؟
**ما هي طبيعة وخصائص السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، إضافة إلى سلطة الإعلام، المكونة لهذه الدولة الهشة؟
 ** ما هي المهمة المركزية التي تواجه المجتمع العراقي وحراكه الشعبي في المرحلة الراهنة، وما هو دور المثقف العراقي في هذه العملية وسبل تحقيقها؟ 
أرى بأن أي باحث حين يستلهم أسئلته من خلال الواقع القائم بالبلاد، وحين يعتمد رؤية واقعية ملموسة لمجريات الماضي غير البعيد، وحين يستند إلى أفق فكري- سياسي واجتماعي مفتوح وغير متلبس بانغلاق إيديولوجي متكلس، وحين يعمل على وفق منهجية علمية جدلية،سيكون في مقدوره الوصول إلى إجابات غير مسبقة الصنع ويشخص استنتاجات مهمة ويحدد مهمات نضالية قريبة من الواقع المعاش، والتي يمكن أن تدقق وتعدل وتغتني باستمرار.
طبيعة الدولة العراقية
في ضوء الدراسات التي قمت بها خلال السنوات المنصرمة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية الشوفينية الغاشمة وفرض الاحتلال على العراق ومن ثم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية ومن سقوط أجزاء من العراق تحت احتلال عصابات داعش الإجرامية ومن شذاذ الآفاق القتلة، يمكن تقديم التشخيص والتلخيص التالي لطبيعة الدولة العراقية القائمة حالياً:   
الدولة العراقية الراهنة دولة هشة غير مدنية،غير علمانية، دولة شبه دينية وطائفية بامتياز، تمارس المحاصة الطائفية والأثنية في الحكم وفرض هيمنتها على المجتمع والاقتصاد الوطني وحياة الفرد. دولة تهيمن عليها قوى وأحزاب إسلامية سياسية متطرفة في طائفيتها، سواء أكانت شيعية أم سنية، متلبسة بنهج قومي عربي شوفيني، وقوى قومية كردية متلبسة ضيف الأفق القومي المتفاقم. دولة فاسدة بسلطاتها الثلاث وإعلامها الرسمي وبقية مؤسساتها المدنية، ومنها المالية، والعسكرية، دولة فاشلة في الاستجابة لمصالح الشعب والاستقلال والسيادة الوطنية، دولة ألغت هوية المواطنة المتساوية والموحدة والمشتركة واعتمدت الهويات الفرعية القاتلة والمهمشة للفرد والمجتمع وحقوق الإنسان. دولة تتحكم فيها العديد من مراكز القوة الداخلية والإقليمية والدولية، ويسودها الخراب من الباطن، ويدمرها الإرهاب غير المنقطع، وينغص العيش فيها اقتصاد ريعي-استهلاكي مكشوف بالكامل على الخارج وتتلاعب فيه الإرادات الإقليمية والدولية، دولة خيوط حكوماتها المتعاقبة بيد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وتحركها سياسات ومصالح الدول المجاورة وليس مصالح شعبها وحياته ومستقبله.   
هذا التشخيص لطبيعة الدولة العراقية، باعتبارها "أداة قمع للشعب ومطالبه العادلة والمشروعة، وأداة حراسة لمصالح الفئات الاجتماعية الرثة الحاكمة"، ينسحب على سلطاتها الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى السلطة الرابعة أيضاً. فالبنية والخصائص والسمات كلها ناشئة عن طبيعة الدولة القائمة ومن طبيعة القوى والنخب والأحزاب الحاكمة المتسمة بالرثاثة الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وبالتخلف الحضاري والتشوه. وينطبق على هذه الدولة الهشة قول الشاعر العراقي معروف الرصافي حين قال عن الدولة الملكية العراقية:
علمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ            كلٌ عن المعنى الصحيحِ محرفُ
أسماءٌ ليس لنا سوى ألفاظها                 أما معانـيها فليست تعــرفُ
هذا التشخيص يضع أمام دارسي الوضع العام بالعراق، وأمام المناضلين من أجل التغيير مهمة مركزية أساسية تنحصر في العمل الدءوب وبلا كلل من أجل تغيير طبيعة الدولة بسلطاتها الثلاث جذريا، أي التحول من دولة طائفية-أثنية محاصصية إلى دولة مدنية ديمقراطية، لأن وجودها الراهن من حيث المبدأوالواقع ليس في مصلحة وحدة الوطن والشعب واحترام سيادته واستقلاله الوطني وحماية سكانه وثروته الوطنية وسلمه الاجتماعي وتقدمه. وإذا كان هذا هو التشخيص المركزي للوضع القائم بالعراق، فكيف هي القدرات الذاتية للقوى الساعية لتحقيق التغيير؟ وهل في مقدور القوى الوطنية والديمقراطية والواعية لضرورة التغيير تنشيط التوجه والحراك الشعبي نحو تغيير ميزان القوى بما يسهم في توفير مستلزمات التغيير الجذري؟ إن ميزان القوى الراهن لا يميل لصالح القوى الوطنية والديمقراطية ولصالح التغيير المنشود، بل هو ما يزال في صالح القوى العاملة على إبقاء الوضع على حاله وتكريس وجود القوى الرثة على رأس وقيادة السلطات الثلاث وأجهزة الإعلام الرسمية. وهذا يعني إن عملية التغيير تصطدم ابتداءً بظروف غاية في التعقيد والتشابك المحلي والإقليمي والدولي. ويستوجب من القوى الوطنية العمل على وفق تكتيكات سياسية واجتماعية صائبة وعملية وقادرة على الدفع التدريجي والمعجل صوب تغيير موازين القوى لصالح القوى الساعية للتغيير. من هنا يمكن القول بأن العامل الموضوع يتسم بالنضوج في صالح التغيير، في حين إن العامل الذاتي ما يزال يزحف خلف العامل الموضوعي. وفي هذا الموقع يبرز بوضوح وقوة دور المثقف العراقي، المثقف الوظيفي المدرك لمهماته والمستوعب لدوره. وهي المهمة التي يفترض أن نعمل من أجلها.
ما المطلوب، إصلاح أم تغيير؟
من الصائب القول بأن الحديث عن مهمة الإصلاح في مثل هذه الأوضاع لا معنى لها، لأن الدولة كلها بحاجة إلى تغيير في الوجهة والنهج والمبادئ والأسس التي تعتمد سلطاتها الثلاث عليها في ممارسة السياسة والاقتصاد على المستويين الداخلي والخارجي. وهذا يعني بأن المجتمع العراقي بحاجة إلى عمل استثنائي لتغيير موازين القوى لصالح التغيير، وهي المهمة التي تواجه الجميع.     
خلال السنوات المنصرمة تسنى للنخب الحاكمة تحقيق ثلاث مسائل لتكريس هيمنتها على الدولة والمجتمع وبدعم مباشر من المرجعية الدينية الشيعية:
1. تمرير دستور يمنح السلطة التنفيذية كل الوظائف الضرورية والأساسية، كل الصلاحيات، التي كان المفروض أن تتوزع من خلال الدولة على سلطاتها الثلاث ولا تسمح باستفراد السلطة التنفيذية بالدولة كلها وبكل سلطاتها فعلياً وفرض الاستبداد الفعلي عليها بما تملكه من سلطة القوة والعنف والسلاح والمال والنفوذ واستخدامها بما يعزز نفوذ الحاكم المستبد بأمره. ولم يعد رئيس الدولة سوى صورة مفرغة من المحتوى والمهمات والصلاحيات. وهي يتم تركيع القضايا لإرادة ومصالح السلطة التنفيذية وإفراغ مجلس النواب من محتواه ودوره لصالح رؤساء الكتل النيابية فقط.
2. تكريس مواقعها ونفوذها في جميع أجهزة الدولة القمعية، العسكرية منها والمدنية، وحصر وظائف الدولة الأساسية بيد النخبة الحاكمة وقادة الكتل الإسلامية السياسية.يضاف إلى ذلك تشكيل قوى عسكرية (مليشيات طائفية مسلحة) خارج الأطر الشرعية لتحمي مصالح هذه النخب وتعزز هيمنتها على الحكم.
3. التصرف الكامل بأموال الدولة وميزانيتها الاعتيادية لصالح مشاريعها في البقاء في السلطة ونشر الفساد وشراء الذمم عبر السلطة التنفيذية والأموال المتوفرة في خزينة الدولة. وقد تم نهبت المليرات من موارد العراق المالية وسجلت بحساب جمهرة صغيرة من اقطاب النظام سنة  وشيعة وقوميين عرب وكرد دون استثناء.
في مواجهة تشويه الدستور وتكييفه لصالح النخب الحاكمة, وضد تفاقم الفساد ونهب النفط الخام,  واشتداد وتيرة الإرهاب والقتل بالجملة, وغياب مرير للخدمات الاجتماعية ...الخ, بدأت بالبلاد الهبة الأولى في العام 2011 واقترنت بما أطلق عليه بـ "الربيع العربي"، أي بعد تسلم الحاكم المستبد نوري المالكي رئاسة الوزراء لدورة ثانية, بضغط إيراني كبير, ومساومة أمريكية دنيئة، وتراجع مخل وغير عقلاني وغير مسؤول من جانب رئيس الجمهورية حينذاك، أمام النفوذ والمصالح والإرادة الإيرانية. مارس المالكي كل الموبقات والمحرمات لقمع الهبة الشعبية العادلة وخنقها في مهدها في ساحة التحرير وفي ساحات أخرى في مدن العراق الكثيرة، باستخدامه القوات العسكرية والأمنية والمليشيات الطائفية المستهترة بكل القيم والمعايير الإنسانية، إضافة إلى ممارسة سياسة التشويه وتزييف الوقائع والتشويش والاعتقال والتعذيب والسجن والقتل لعدد مهم من نشطاء الهبة الشعبية، إضافة إلى شراء المزيد من الذمم بأموال الشعب المنهوبة!
وفي مواجهة ذات الأوضاع انطلقت الهبة الشعبية الثانية لتواصل المسيرة النضالية للهبة الأولى في تموز 2015 من أجل تحقيق أهدافها، وهي الهبة التي ما تزال متواصلة. وقد اقترنت هذه الهبة الجديدة بمعطيات جديدة نشير إلى أبرزها في الآتي:
1.   سقوط الموصل ودون مقاومة في أيدي عصابات داعش المجرمة وارتكاب جرائم بشعة بحق سكان نينوى من المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان والكثير من سكان الموصل السنة.، إضافة إلى جريمة معسكر سبايكر 2014.
2.   إجبار المستبد بأمره نوري المالكي والمغتصب لإرادة الشعب ومصالحه على الانسحاب وترك الموقع لحيدر العبادي، العضو القيادي في حزبه وتحالفه الوطني والمسؤول المالي في حزب الدعوة!
3.   التزام حيدر العبادي بإجراء إصلاحات سياسية والتخلي عن المحاصصة الطائفية ومحاربة الفساد والإرهاب ومحاسبة الفاسدين وسارقي قوت الشعب.
4.   اتساع قاعدة الهجرة والنزوح وشمولها لأكثر من ثلاث ملايين إنسان، واستمرار اللجوء صوب الخارج.
5.   نهوض حركة شعبية واسعة مطالبة بالإصلاح، مما وضع المرجعية الدينية الشيعية أمام أحد أمرين: إما تأييد المطالب، أو خسارة المزيد من مؤيديها، إذ إن فضائح الفساد والتدهور الأمني والإرهاب أصبح لا يطاق، إضافة إلى تعرض القوات المسلحة لخسائر جديدة في معارك صلاح الدين والأنبار.فأيدت المرجعية الشيعية مطالب الحراك الشعبي في الهبة الثانية ومارت الضغط المباشر على حيدر العبادي لاتخاذ قرارات ارتجالية مهمة لإصلاح الوضع لم تنفذ عملياً.
في مثل هذه الأوضاع المعقدة والمتشابكة، تبلور بالعراق أكثر فأكثر المعسكران السياسيان المتصارعان، المعسكر المناهض لمصالح الشعب والتغيير والإصرار على تكريس النظام السياسي الطائفي، معسكر السلطة الحالية، والمعسكر الشعبي المناضل من أجل التغيير وإنقاذ العراق من الحكم الطائفي والأثني المحاصصي. وسنحاول هنا إلقاء نظرة مكثفة على طرفي الصراع.
أولاً: القوى الرجعية الفاسدة والمعادية للتغيير
أ- تتجمع القوى والأحزاب المعادية للإصلاح الجذري أو التغيير في معسكر واسع واحد، رغم الخلافات المستفحلة فيه والتناقضات التي تتآكله والنزاعات الدموية التي لم تنته بين تياراته. يتشكل هذا المعسكر من أغلب القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، لتقيم تحالفاً عربياً رجعياً وتساومياً غير معلن عنه رسمياً، ولكنه قائم في الواقع، ويمارس أسلوب الإعاقة الفعلية لأي إصلاح جزئي أو تغيير فعلي، إذ أنه يخشى أن يشجع ذلك "التنازل!" سابقة تحفز على استمرار الهبة والحراك الشعبي لا يجوز القبول بها.
ب- إبقاء رئيس الحكومة متحدثاً بالإصلاح والتغيير بصوت مسموع، ولكن مفرغ من أي مضمون أ, إصلاح فعلي، وبالتالي فهو خائب وعاجز عن تنفيذ كل ما وعد به عملياً، مما يسهم بدور فعال في بث الإحباط في صفوف قوى الهبة والحراك الشعبي، ويدفع بقواها، كما تتوقع القوى لمعادية للتغيير، إلىالتراخي والتراجع والاضمحلال التدريجي دون أن تجبر النخب الحاكمة على استخدام أدوات استثنائية قمعية كتلك التي مارسها الطائفي المقيت بامتياز نوري المالكي. ويبدو الوضع هنا أشبه ما يكون بتوزيع أدوار على اللاعبين في قيادات الأحزاب الشيعية.
ج- يوفر هذا النهج التسويفي فرصة ثمينة لإعادة تنظيم صفوف القوى المناهضة للمطالب الشعبية وأهدافها الوطنية والمهنية والالتفاف على تأييد بعض المرجعيات الشعبية وبعض المؤسسات الدينية السنية للبعض المهم من أهداف الهبة، وخاصة الموافقة على إقامة دولة مدنية غير دينية وغير مذهبية بالعراق، وضد الفساد والفاسدين والمفسدين وضد الإرهاب والإرهابيين.
د- تعزيز مواقع المليشيات الشيعية المسلحة وقياداتها الموالية للمرشد الأعلى الإيراني، باعتبارها قوة شيعية مقاتلة في مواجهة قوات الجيش العراقي والقوات المسلحة الأخرى، رغم تغلغلها فيها أيضاً. إضافة إلى استمرار احتلال المواقع المهمة في السلطات الثلاث والإعلام الرسمي الحديث ليكون سلاحا قوياً في التصدي لأي تغيير حقيقي يسعى إليه العراقيون والعراقيات وجعلها تلعب دور المعطل لكل تغيير لا يرتضيه حكام إيران، تماماً كما يجري منذ سنوات بلبنان حيث يلعب حزب الله هذا الدور المشين.   
د- منح  الحشد الشعبي والقوى المساندة له في القوى والأحزاب الدينية والجماعات  الإيرانية المسلحة المشاركة معه في القتال الجاري على جبهات القتال ضد عصابات داعش إمكانية إحراز  نجاحات جديدة ليعزز مواقعه في مناطق أخرى من العراق باتجاه مواجهة القوى العربية السنية أو الپيشمرگة الكردية. 
هـ- تلعب الأوساط المعادية للتغيير في أوساط القوى الكردية الحاكمة دورها في عملية إعاقة لأي تحسين جدي في العلاقات مع الحكومة الاتحادية وتحقيق التغيير بالعراق، إذ إنها ترى في ذلك خطوة ليست في مصلحة إعلان الدولة الكردية المستقلة، التي يراد بها دفع الأمور باتجاه التعقيد والتشدد بأمل توفير الأرضية الصالحة لإعلان الاستفتاء، الذي لا تؤيده الولايات المتحدة ولا الأمم المتحدة حتى الآن. إلا أن الحكومة التركية، المعروفة بمعاداتها الوحشية لحقوق الشعب الكردي وحق تقرير المصير وعموم الأمة الكردية، تؤيد ذلك، بهدف سافل هو دق أكثر من إسفين في صفوف قوى الأمة الكردية وقواها السياسية، وعلى صعيد القوى السياسية الكردية بإقليم كردستان العراق ذاتها، وهي التي تعاني اليوم من خلافات دستورية وسياسية ومالية محتدمة .
وباختصار شديد، تتمثل القوى المعادية للتغيير في قيادات الأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، وليس في قواعد تلك الأحزاب، وخاصة الفئات الكادحة والفقيرة والمعوزة المتضررة من الواقع الراهن، وكذلك كبار ملاك الأراضي الزراعية والبرجوازية العقارية والتجارية والرأسماليين الطفيليين المضاربين في سوق المال والعقارات وكبار موظفي الدولة من أعضاء ومؤيدي الأحزاب الحاكمة وجمهرة من الفاسدين والمفسدين العاملين في القوات المسلحة والسلك المدني، بما فيه القضاء العراقي. وتنخرط معهم مجموعات غير قليلة من شيوخ الدين المنتفعة من وجود هذه النخب الرثة في الحكم.
القوى الوطنية الساعية للتغيير
وفي مواجهة هذه الفئات الاجتماعية المناهضة للتغيير والساعية لوضع البلاد على طريق الأمن والاستقرار والسلام والاطاحة بنظام الفساد المالي والإداري ومن أجل الدولة المدنية والتقدم الاجتماعي، تتجمع تدريجاً القوى التالية:
** الفئة المثقفة والواعية التي تدرك أهمية دورها النضالي في مجالات الفكر والثقافة والتنوير ومواجهة الفكر الظلامي المتخلف والفئات الاجتماعية الرثة التي طبعت الدولة الهشة بطابعها، والتي تناهض قيام دولة دينية أو طائفية تصادر فيه هوية الوطن والمواطنة. إنها فئة اجتماعية واسعة نسبياً وقادرة على لعب دور المحفز والمحرض على مقاومة الاتجاهات العدمية الراهنة والفساد والإرهاب.
** الأحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية الواعية لمهماتها وكل القوى الأخرى المتنورة والمدنية. ويمكن أن نشير هنا بشكل خاص إلى الحزب الشيوعي العراقي وبعض المنظمات اليسارية و الجماعات والشخصيات الديمقراطية المستقلة.
** وتنخرط في النضال من أجل التغيير فئات غير قليلة من البرجوازية الصغيرة في المدينة والبرجوازية المتوسطة التي كما تزال ضعيفة وتسعى إلى التصنيع وتحديث الاقتصاد الوطني. وتقف جمهرة غير قليلة من العمال، رغم الضعف الشديد الذي لحق بقاعدة الطبقة العاملة العراقية خلال العقود الأربعة المنصرمة، ولا شك في أن البرجوازية المتوسطة والعمال وفئة المثقفين تعتبر الفئات الحاملة لمبادئ وأسس إقامة لمجتمع المدني العراقي. وحين تتعزز قوى الهبة الشعبية يمكن أن تلتحق بها أوساط الفلاحين الفقراء وصغار المنتجين، وكذلك المزيد من النساء والطلبة والشبيبة العراقية. 
** وتنخرط في صفوف الحركة الشعبية الساعية للتغيير قوى أخرى تنحدر من فئات اجتماعية عديدة ولكنها تعمل في منظمات المجتمع المدني الديمقراطية الواعية للمخاطر الجسيمة الجديدة التي تواجه المجتمع العراقي   
وإذ كانت سنة الحياة والتطور تميل إلى مساعي الطرف الثاني، فأن الواقع المعاش ما زال يكرس الطرف الأول في الحكم، وستكون عملية التحول والتغيير معقدة وشائكة ومليئة بالمصاعب، رغم النهج السلمي والديمقراطي للقوى الوطنية والديمقراطية الساعية إلى التغيير.
إ هذا التصنيف يمكن أن نجده في أوساط الشعب في المدن والأرياف، في أوساط البرجوازية الصغيرة بمختلف مراتبها، وفي أوساط البرجوازية المتوسطة والطبقة العاملة، وهما طبقتان ما تزالان تتسمان بضعف الحجم والبنية والدور والتأثير في الأحداث السياسية والاجتماعية الجارية بالبلاد، ولكنهما يشكلان معأ ومع أوساط المثقفات والمثقفين الفئات الاجتماعية الحاملة لمبادئ وأسس الدولة المدنية والمجتمع المدني الديمقراطي العلماني، إنها الفئات التي يعول عليها في عملية التغيير المنشودة والتي يستوجب النضال من أجل توسيع قواعدها الاجتماعية ونشاطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي والبيئي, وكذلك دورها في الحياة اليومية للمجتمع وفي الأحداث الجارية بالبلاد. إنها ليست ضعيفة بشكل عام فحسب، بل وأن مشاركتها في الحراك الشعبي ما يزال بعيداً عن إمكانياتها وأبعد بكثير عن الطموح.
هذا الواقع الجديد يتطلب من قوى الحراك الشعبي في هبتها الجديدة من جهة، ومن قوى الحركة النقابية ومنظمات المجتمع المدني والجماعات المهنية الأخرى من جهة أخرى، أن تمارس دورها في بلورة المضامين الأساسية للمهمتين التاليتين عبر التفاعل الإيجابي المتبادل والحوار الديمقراطي بين القوى الحاملة لهما:
تتجلى المهمة المركزية الوطنية العامة  في بلورة شعار تغيير النظام الطائفي–الأثني القائم وتحويله إلى نظام مدني علماني ديمقراطي نزيه يلتزم مبدأ الوطن والمواطنة الحرة والمتساوية والموحدة واحترام الهويات الفرعية وفصل الدين عن الدولة والفصل التام بين صلاحيات وواجبات السلطات الثلاث والاستقلال التام للقضاء والإعلام الرسمي ومحاربة الفساد والإرهاب ورفض وجود قوات مسلحة أخرى تشارك الدولة في وظائفه سلطاتها الثلاث وامتلاك السلاح وحق استخدامه أو القيام بوظائف سلطات الدولة الثلاث،كدولة داخل الدولة، وجيش داخل الجيش الرسمي. وإذا كان هذا الأمر مهماً للدولة على مستوى الاتحاد، فهو مهم أيضاً على مستوى الإقليم والمحافظات أيضاً.
وتتجلى المهمة الثانية، المهمة المهنية، في تشخيص المهمات وصياغة الشعارات المهنية لمطالب الشعب بفئاته وجماعاته المهنية في مختلف المجالات، ابتداءً بالمتقاعدين والموظفين ومروراً بالفلاحين والعمال والحرفيين والطلبة والمثقفين والعاطلين عن العمل والمسرحيين من الجيش والسجناء والمعتقلين السياسيين وانتهاء بكل منظمات المجتمع المدني الأخرى.
 ولكي يتحقق ذلك يفترض العمل على مسائل عديدة ذات أهمية كبيرة يمكن إيجازها فيما يلي:
١: السعي الجاد والدءوب لتأمين وحدة العمل بين المهمتين الكبيرتين اللتين تواجهان الهبة الثانية وكل الحراك الشعبي والإضرابات والمظاهرات ذات المطالب المهنية الجديدة، أي التشخيص والتطوير العملي لمهمات المرحلة على صعيدي المهمات الوطنية العامة والمهمات المهنية المطلبية الخاصة لفئات وجماعات ومنظمات ونقابات مهنية.
إذا كانت المهمات المهنية تتحمل العمل عليها وبلورتها من جانب المنظمات المدنية والمهنية والسنوية والشبابية والمدارس والجامعات والنوادي الرياضة وجمعيات الجماعات الثقافية والأدبية والفنية ، وبالتعاون الوثيق مع قوى المهمة الوطنية العامة، فأن مهمات الوطنية يفترض التعاون لصياغتها من جانب القوى التالية:
أ- ممثلو الفئات المثقفة الواسعة ذات الوجهة الوطنية الديمقراطية التي ترفض الدولة الدينية والطائفية في الحكم وتسعى للمشاركة في بناء الدولة والمجتمع المدني.
ب- الأحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية الواعية بمهماتها وكل القوى الأخرى المتنورة والمدنية.
ج- وهذا يتم بالتعاون والتنسيق مع منظمات المجتمع وحقوق الإنسان.
إن هذا التصنيف يمكن أن نجده في أوساط الشعب في المدينة والريف، في أوساط البرجوازية بمختلف فئاتها وأوساط البرجوازية المتوسطة والطبقة العاملة، وهما ما تزالان ضعيفات التكوين والدور والتأثير، ولكنهما مع أوساط المثقفين يشكلون الفئات الاجتماعية الحاملة لمبادئ وأسس المجتمع المدني الديمقراطي العلماني ، وهي الفئات التي يفترض توسيع قواعدها وتعزيز دورها وتأثيرها ومكانتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية.
هذا النهج، يبدو لي هو الطريق القادر على تعبئة القوى وتوسيع قاعدة الحراك الشعبي المتنوع الأهداف والمهمات والفئات، وهو طريق تغيير ميزان القوى في الداخل وأداة من أدوات التصدي للقوى المناهضة للتغيير التي تعبئ الكثير من الإمكانيات والجماعات والأموال وتزييف الحقائق وتشويه السمع والأهداف ضد القوى الساعية للتغيير.
وهنا يفترض أن يبدأ العمل على مجالات عدة في المقدمة منها وحدة القيادة للحراك الشعبي والمطالب الجماهيرية مع وحدة العمل وتنوعه المنسق بشكل فعال ومتكامل في ما بينه للوصول إلى الأهداف المنشودة.
تنويع أساليب وأدوات النضال السلمي والديمقراطي الذي تتوفر مستلزمات في الدستور الناجز رغم نواقصه وضعفه وأساليب إضعافه من جانب القوى المناهضة للتغيير. إنها لا يمكن ان تقتصر على مظاهرات الجمعة المسائية، بل يمكن أن تتوزع على أوقات أخرى حسب ظروف الجهات المشاركة، سواء أكان مظاهرة، أم إضراباً أم اعتصاماً، أم مقاطعة، أم عصياناً مدنياً أم غير ذلك. كما يمكن تنشيط دور أجهزة الدولة المدنية لتطالب بحقوقها وتساند المجتمع في مطالبه العادلة والمشروعة.
إن الصراع الراهن يفترض أن يتخذ وجهة فكرية وسياسية نشيطة حيث أدرك المزيد من المواطنين والمواطنات مخاطر وجود مثل هذه الفئات الرثة على رأس السلطات الثلاث والدولة العراقية ، رغم إنها لم تصل إلى مستوى النساء البسطاء المتدينين الذين يثقون بما يقوله شيخ الدين المتخلف على نحو خاص يناقشه ولا يمتلك القدرة على مناقشته فعليه أن لا يفكر فلها مدبر! إلى هؤلاء يجب الوصول والحديث معهم بما يعيشونه يوميا وبأمثالك حسية ملموسة...الخ.
وهنا يمكن ان يلعب المثقفون والطلبة الشبيبة من الرجال والنساء دورا مهما جداً وناجحا، كما يفترض ان يتجلى ذلك في الشعارات التي تجسد المهمات الوطنية والمهنية، العامة والخاصة. ان حمل المطالَب المهنية اليومية للفئات الاجتماعية الواسعة في المجتمع والدفاع عنها هو الطريق السليم والفعال والمضمون لتعبئة الناس حول المهمات والشعارات العامة، فحرية الإنسان وأمنه متلازمان يفترض ان تؤمنها الدولة المدنية الديمقراطية، والفساد وسرقة أموال الشعب ترتبط عضويا ومباشرة بضعف تقديم الخدمات للمجتمع، سواء أكانت صحية، أم تعليمية، أم سكن، أم نقل، أم طاقة كهربائية، أم ماء صالح للشرب، أم مكافحة البطالة والفقر، أم سرقة أموال الشعب، أم بروز كبار المليونيرية والمليارديرية في مقابل اتساع قاعدة الفقراء والمعوقين ويعيشون تحت خط الفقر الدولي لدولة مثل العراق يرتبطان عضوياً ومباشرة لا يمك إحالتها على إرادة الله، ولاتسع قاعدة الإرهاب ترتبط بعجز الدولة عن أتباع مبدأ المواطنة المتساوية والموحدة بما يثير جماعات مهمشة ضد الشعور بوجود جماعات مميزة تلتحق بالإرهابيين دون وعي بعواقب ذلك على الوطن والمواطن وعلى الشخص ذاته، ولا يرى الطريق الصحيح  لمواجهة هذه الحالة غير السليمة والمضمرة. وهكذا في القضايا الكثيرة الآخرة مثل السكن والنظافة والبيئة وقصور كبار المسؤولين في دور حكام البعث القدامى بدلا من تحويلها إلى مراكز للثقافة والخدمات ونوادي للطلبة والشباب...الخ.
إن مصالح وأهداف الشعب الكردي وبقية القوميات بالعراق مرتبطة عضويا مع مصالح الشعب العربي  وتحقيقها يخدم الجميع ويساعد على تقدمها ومنحها حقوقها بما في ذلك حق تقرير المصير ولا يتم ذلك في ظرف يواجه البلد عدواناً واسعاً يهدد مصالح كل القوميات وأتباع الديانات والمذاهب وكل الناس الشرفاء. ويتطلب هذا وعياً بطبيعة الصراع وأسلوب إدارته للوصول إلى الأهداف المنشودة على وفق أسس وقواعد ديمقراطية. لا شك في وجود مصاعب في مواجهة قوى عربية شوفينية وإسلامية ترفض حق تقرير المصير، ولكن ليس سهلا العمل مع قوى مصابة بضيق أفق قومي لا يجعلها ترى مصالح الشعب الكردي وكل القوميات الأخرى على أسس إنسانية وعقلانية ، مع إدراكنا  لمعاناتها وتهميشها السابق من جانب الحكام العرب العراقيين. إن على القوى اليسارية والديمقراطية العراقية أن تلعب دورها في تعديل المسارين على صعيد الحكم الاتحادي والحكم بالإقليم وكذلك على مستوى المحافظات. إن تقسيم العراق في هذه الفترة العصيبة لا يخدم كل القوميات بالعراق ويجعلها عرضة للأعداء على مختلف المستويات في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وعلينا أن لا نتساهل مع الأخطاء التي ترتكب من أي طرف كان لأنها تتحول ضد العراق كله ولصالح أعداء العراق وقومياته العديدة وأتباع ديانته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية العقلانية.

464
كاظم حبيب   
هل تعمل القوائم الكردية لتكريس المحاصصة الطائفية والأثنية بالعراق؟
ليس هدفي في هذا المقال البرهنة على مدى استعداد أو عدم استعداد العبادي فعلياً لإلغاء المحاصصة الطائفية وإقامة حكومة تكنوقراط بالبلاد. فهذه المسألة يفترض أن تؤخذ في إطار الواقع العراقي القائم حالياً وميزان القوى السياسية والاجتماعية بين تلك التي تريد تغيير النظام السياسي الطائفي-الأثني القائم وإقامة النظام المدني الديمقراطي وتلك التي تريد تكريس الطائفية الأثنية بالبلاد وصراعاتها المريرة والدماء والخراب اللذان لا ينقطعان، بل إن ما يعنيني هنا هو موقف الكتل البرلمانية الكردستانية من النظام المحاصصي الطائفي المقيت الذي عمق الصراعات والنزاعات الدموية، والتي أدت إلى سيول من الدماء والخراب بالعراق كله وإلى ما عليه الشعب بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وبدعم كامل من الإدارة الأمريكية التي سعت إلى ذلك.
حين طرح العبادي فكرة إقامة حكومة تكنوقراط بدلاً من حكومة المحاصصة الطائفية المرفوضة من الشعب العراقي وقواه الديمقراطية والتقدمية، نشأ تصور واقعي بأن غالبية الأحزاب الإسلامية السياسية سترفض هذا الطرح، لأنها تريد إبقاء النظام الطائفي والأثني القائم لأنه يحقق مصالحها الحزبية والشخصية الضيقة، في حين يفقد الشعب عبر هذا النظام إرادته ومصالحه وبناته وأبنائه وثروته الوطنية. وهذا ما حصل فعلاً بالنسبة لأغلب الأحزاب الإسلامية السياسية، وبعضها الآخر متردد أو وافق على مضض. بل حتى أياد علاوي، الذي يدعي جهارا نهارا بالديمقراطية والعلمانية، رفض الموافقة على فكرة العبادي، بغض النظر عن مدى جديتها أو عدمها, وقد علمنا هذا الرجل على مثل هذه المواقف البائسة طوال عمليه السياسي!
القوى الديمقراطية والتقدمية، التي تعرف مدى صعوبة هذه الخطوة، في ظل ميزان القوى الراهن، أيدت ذلك ودعت إليه، كما أيد السيد رئيس الجمهورية العراقية مشروع العبادي في حكومة تكنوقراط. فماذا كان موقف القوى والأحزاب بالإقليم؟
انطلقت قبل ذاك تصريحا ضد الإصلاح والتغيير، ثم جاءت تصريحات من سياسيين قياديين بالإقليم تشكك بوجهة العبادي أو ترفض دعوته لمثل هذه الحكومة. ولكنها لم تكن تصريحات نهائية. ويوم أمس فقط ظهرت تصريحات حول الموقف من هذا المشروع. فقد جاء في النشرة الخبرية للمجلس المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني تصريحات للنائية آلا طالباني عضوة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي ما يلي: "أكدت النائبة عن التحالف الكردستاني الا طالباني، اليوم السبت، أن كتلتها وبعض الكتل السياسية صارحت رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي بعدم إمكانية منحه تفويضا لإجراء تغيير وزاري، وفيما أكدت "أننا لم نلمس" آليات العبادي لمواجهة الأزمة المالية، عدت مناقشته للوضع الاقتصادي في البرلمان "متأخرة". وقالت طالباني في حديث إلى (المدى برس)، إن "طرح رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي خيارين بشأن التغيير الحكومي أحدهما العودة إلى حكومة المحاصصة أو منحه تفويضا من البرلمان لإجراء تغيير وزاري جاء مفاجئا"، مؤكدة "أننا في بعض الكتل كنا صريحين معه". انتهى المقتطف (النشرة الخبرية للمجلس المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني في 21/2/2016). وهذا التصريح يتضمن مسائل كثيرة صحيحة كالتأخير في معالجة الوضع الاقتصادي أو عدم وضوح رؤية بالموضوع، ولكن فأن هذا الموقف بشكل عام يؤكد ثلاث مسائل سلبية في سياسة العديد من الأحزاب والقوى الكردستانية وفي الحكم أيضاً والتي أتابع بروزها بحدة منذ فترة غير قصيرة:
1.   الاعتقاد بضرورة وجود تحالف كردي-شيعي، باعتباره تحالف المظلومين سابقاً. وقد صرح به أكثر من سياسي كردي، ولكن بشكل خاص، القيادي البارز في الاتحاد الوطني الكردستاني ورئيس المجلس المركزي للاتحاد السيد عادل مراد. وهذا يعني بكلمة صريحة مواصلة العمل لتعميق وتوسيع الصراعات والنزاعات بين السنة والشيعة واستمرار شق وحدة الصف العربي بالعراق، واعتبار السنة ضد الكرد وضد الشيعة، وهو امر خطير وغير مقبول فكرياً وسياسياً، ولا ينسجم مع تاريخ ونهج الصديق عادل مراد.
2.   الاعتقاد بأن استمرار النظام المحاصصي الطائفي والأثني والصراع بين السنة والشيعة يوفران الفرصة المناسبة ومستلزمات انتزاع مكاسب معينة لصالح الكرد، أو بتعبير أدق، لصالح الأحزاب والقيادات الكردية الحاكمة.
3.   الاعتقاد بأن النظام المحاصصي السائد بالعراق يوفر إمكانية أكبر للكرد على تعميق الصراعات في الدولة العراقية وعدم الاستقرار مما يوفر الفرصة لإعلان استقلال كردستان العراق.
ومن هذا المنطلق تخشى قوى سياسية كردية أي معالجة جادة وعلى أسس سلمية ومدنية لتغيير النظام السياسي الطائفي الأثني القائم لصالح دولة مدنية ديمقراطية، وهي مسألة خطيرة وفي غير مصلحة الشعب الكردي على المدى القريب والمتوسط والبعيد، إنه إضرار بمصالح الشعب الكردي وبقية القوميات العراقية ولا يجوز استمراره. وكان الأجدر بالأحزاب الكردستانية، التي تتحدث عن الديمقراطية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة ولها علاقات نضالية مديدة مع القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية ومع عموم الشعب العراقي، أن تشارك في النضال من أجل تغيير النظام الطائفي الأثني القائم لا تكريسه، والموافقة على مبدأ التغيير في الوضع الذي يطالب به الحراك الشعبي والقوى الديمقراطية العراقية.
إن قراءتي لتصريح النائبة آلا طالباني أنه لا يصب في مصلحة الشعب الكردي ولا عموم الشعب العراقي، بل يسهم في تكريس الصراعات والنزاعات وفي توفير الأرضي الصالحة لدولة طائفية تدمر هوية المواطنة الحرة والمشتركة والمتساوية وهوية الوطن العراقي الذي يتمتع الشعب الكردي بالفيدرالية وبحقه في تقرير مصيره بنفسه متى وجد ذلك مناسباً وممكناً، وهو حق ثابت لا يمكن أن ينتزعه الإسلاميون الطائفيون ولا القوميون الشوفينيون، ولكن يمكن أن يضيعه ضيقوا الأفق القومي. 


465
كاظم حبيب
هل للسيد العبادي ملف فساد محفوظ عند المالكي؟
حين كان المالكي رئيساً للوزراء، وبشكل خاص في دورته الثانية، كان يهدد من ينتقده، أو "يتآمر!" عليه، بفتح ملفات الفساد والإرهاب ضده. حصل هذا مع أسامة النجيفي وصالح المطلك وعشرات من الجماعات العاملة في جبهة الأحزاب الإسلامية السياسية السنية المعارضة والمشاركة في الحكم وكذلك في جبهة الأحزاب الإسلامية الشيعية، بمن فيهمل أعضاء في حزبه وتحالفه الوطني. وكان في تهديده يؤكد بأنه يحتفظ بملفات فساد وإرهاب  لهؤلاء الناس لو نشرت ستقيم الأرض ولا تقعدها. وكان من بين المتهمين طارق الهاشمي ورافع العيساوي، وربما أياد علاوي وإبراهيم الجعفري وغيرهما.
كانت هذه التهديدات إما بالونات اختبار، وإما حقائق على الأرض، لا استغرب من وجودها لانتشار الفساد المالي والإداري على نطاق وساع جداً في أوساط النخب السياسية والعسكرية العليا والحاكمة، وقيادات الأحزاب السياسية الإسلامية والقومية، وفي القضاء، وفي صفوف جمهرة واسعة من المقاولين والمضاربين بالعقار والبنوك الخاصة والمصادرين لدور وقصور حكومية منذ فترة الحكم البعثي المجرم.
وكان المفروض عند حصول مثل هذا التهديد إلى أسماع رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى ورئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية والمدعي العام العراقي أن يتوجهوا بطلبٍ رسميٍ إلى رئيس الوزراء نوري المالكي بتسليمهم الملفات المذكورة لتفعيلها وتقديم الفاسدين إلى القضاء. وحين لا يمارس القضاء واجبه، فهو يشارك مع صاحب التهديد في التجاوز على الدستور والقوانين العراقية.
كما إن المفوضية العليا للنزاهة سكتت أيضاً عن تهديدات رئيس الوزراء بالاعتقال والاتهام بالفساد والمشاركة بالإرهاب، ولم تطالب رئيس الوزراء السابق بتسلم ملفات التهم بالفساد والإرهاب، كما لم يبادر رئيس الوزراء السابق بتسليمها طواعية ومباشرة. وبذلك يكون هؤلاء جميعاً قد ارتكبوا مخالفات دستورية وضد القوانين المرعية بالعراق، إضافة إلى احتمال كون الكثير أو القليل من السياسيين والعسكريين والقطاع الخاص، مشارك بكل تلك الدناءات.
حين أدى حيدر العبادي القسم القانوني أمام رئيس الجمهورية الجديد كرئيس للوزراء، أكد بأنه سيعمل على خمس مسائل مركزية، إضافة إلى كل المهمات التي يفترض أن يؤديها رئيس الوزراء على وفق الدستور العراقي وهي: 1) ضد الطائفية السياسة والمحاصصة الطائفية ومن أجل دولة مدنية ديمقراطية، وهو قيادي في حزب طائفي بامتياز وغير ديمقراطي؛ 2) محاربة الفساد المالي والإداري، وجماهير الواسعة توجه أصابع الاتهام إلى حزبه وقياديين في حزبه وتحالفه الوطني ووزراء من كل الأحزاب المشاركة في الحكم، ومسؤولين في الحشد الشعبي والمليشيات الشيعية المسلحة التابعة لهذه الاحزاب والتحالف الوطني الشيعي وبعض المسؤولين في قوات البيشمركة؛ 3) شن الحرب ضد الإرهاب وتحرير الأرض العراقية المحتلة من عصابات داعش المجرمة واستعادة الشرعية في العراق؛ 4) البدء بالتنمية الوطنية وتحسين الخدمات العامة وخاصة الكهرباء والماء والصحة والتعليم والنقل ...الخ؛ 5) حل المشكلات العالقة مع رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق وتوفير أجواء التعاون والتنسيق على مختلف المستويات والمجالات والتي تتطلب التفاعل من الجانبين. ولم يتم تحقيق أي من هذه المسائل الخمس المركبة بالكثير من المهمات الأخرى، سوى البدء بتحقيق نجاحات مهمة على الأرض في المعارك مع داعش وبدعم من القوات الجوية للتحالف الدولي والبيشمركة والمتطوعين، وهو مكسب كبير حقاً، إضافة إلى بعض المسائل غير الجوهرية. ثم التزم من جديد، وبعد بدء الحراك الشعبي وتأييد قوى المرجعية الشيعية للدولة المدنية ومحاربة الفساد وتقديم الفاسدين إلى  القضاء وتطهير القضاء. 
فما السبب في عدم مطالبة حيدر العبادي بالحصول على ملفات الفساد الرسمية الموجودة لدى رئيس الوزراء السابق نوري المالكي؟ ما هو السبب عدم تقديم نوري المالكي ومسؤولين آخرين إلى  القضاء العراقي وهم كانوا على رأس حكومة ساد فيها الفساد والنهب للنفط الخام وموارده المالية في العراق، ومنه إقليم كردستان العراق والمحافظات، وسقط جزء من العراق تحت الاحتلال الداعشي أثناء حكم المالكي؟
الشارع العراقي يطرح التساؤلات المنطقية التالية: ** هل يخشى العبادي رئيس حزبه نوري المالكي ورئيس تحالفه الوطني إبراهيم الجعفري، أم يخشى إيران المؤيدة لهذن الشخصين والكثير من المسؤولين والقادة الشيعة والمسؤولين الكبار في المليشيات الشيعية المسلحة؟ وهناك من هم متورطون مع السعودية وتركيا وقطر بنفس الاتجاه؟ وهل يخشى العبادي وجود ملف له ضمن الفاسدين مالياً حين تسلم المناصب التالية: منذ العام 2003. تسلم منصب وزير الاتصالات في الحكومة الانتقالية التي ترأسها أياد علاوي 2004-2005، ثم نائبا في البرلمان العراقي في العام 2005. ترأس لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية في البرلمان عام 2005. واللجنة المالية في البرلمان عام 2010، وواجه صراعات سياسية عديدة بخصوص موازنة البلد المالية لعام 2013، ثم رئيساً لمجلس الوزراء الاتحادي في آب/أغسطس 2014؟ والسؤال الأخير هو: هل جاء حيدر العبادي على أساس توزيع الأدوار بين القوى الإسلامية السياسية، رغم الصراعات المحتدمة في ما بينه على مراكز السلطة والنفوذ والمال، لحين عبور المرحلة الخطرة التي كرسها نوري المالكي، ليعود الوضع الطائفي والمحاصصة الطائفية والأثنية على ما هو عليه سابقاً وحالياً، رغم دعوته الخجولة لتشكيل حكومة تكنوقراطية دون تغيير في طبيعة الدولة الطائفية والأثنية؟ إن هذه الأسئلة أوجهها إلى السيد رئيس الوزراء وهي ليست اتهامات ولا من بنت أفكاري، بل تدور في رؤوس الملايين من البشر العراقي في الداخل والخارج، ولا شك في أنها تدور في بال رئيس الوزراء ذاته، إذ في مقدوره الإجابة عنها. لا أريد أن أتنبأ بواحد أو أكثر من هذه الأجوبة، بل أترك له وللقارئات والقراء التفكير بها والإجابة عنها لكي يعرف من لم يعرف حتى الآن طبيعة رئيس الوزراء ونهجه وسياساته الكثيرة وتصريحاته المتواصلة ونتائج الإصلاح والتغيير المحدودة جدا.


466

ما الموقف من المتطوعين والحشد الشعبي بالعراق؟
جُرحي هو العراق وليس جرحاً آخر    كيف السبيل إلى شفاء جراحي
من تابع اللقاء الصحفي مع السيد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على قناة العراقية لوجد مسائل كثيرة تستوجب مناقشته بشأنها والتمعن والتدقيق في إجاباته، سواء أكان ذلك بشأن العلاقات الدولية وزياراته لدول أوروبية غربية، أم موقفه من المشكلات الداخلية، كالتغيير الوزاري ومواقف القوى والأحزاب منه، وسد الموصل، والموقف من المناطق المحررة من عصابات داعش، والعلاقات مع رئاسة وحكومة الإقليم وإهماله دور البيشمركة في القتال ضد داعش، وإبرازه دور الحشد الشعبي، ثم دور المتطوعين وتحرير الأراضي، التي وفَّرَ رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، بسياساته الطائفية البائسة والمدمرة، الأرضية الصالحة ومستلزمات احتلال الأنبار وصلاح الدين وأجزاء من ديالى ومن ثم الموصل وأجزاء من ديالى، ثم الموصل ونينوى وأجزاء من كركوك، وكل ما حصل بالعراق منذ توليه السلطة في 2006 حتى انسحابه من رئاسة السلطة التنفيذية في 2014. وكان هذا "الرجل" صادقاً وللمرة الوحيدة مع نفسه ومع الشعب العراقي والعالم حين قال في لقاء له مع قناة آفاق [موقع آفاق 1/4/2015]، أن “هذه الطبقة السياسية، وأنا منهم، ينبغي أن لا يكون لها دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق، لأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً”.. وحين سأله الصحفي المحاور: وأنت منهم، أجاب المالكي بكل ثقة: نعم وأنا منهم!!! ولكن هذا الرجل الفاشل والمسؤول ما يزال يسرح ويمرح ويمارس ما يشاء دون حساب أو عقاب! 
سأناقش في هذه المقالة واحدة من القضايا المهمة، التي يمكن أن تشكل خنجراً مميتاً مصوباً إلى ظهر الدولة العراقية التي يسعى الشعب إلى إقامتها، الدولة المدنية الديمقراطية، ويمكن أن يغرس في كل لحظة، تماماً كالخنجر المسموم المغروس في ظهر الدولة اللبنانية بحزب الله بهويته الإيديولوجية الطائفية الإيرانية، وليس بالهوية الوطنية المدنية اللبنانية الأصيلة.
نشأت بالعراق، في أعقاب سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة، مجموعة كبيرة من المليشيات الشيعية والسنية المسلحة، نشأت بدعم من قوى وأحزاب سياسية عراقية من جهة، ولكن بتوجيه ومساعدة وتأييد ودعم بالمال والسلاح والخبراء والمقاتلين من الدول والقوى الإسلامية المجاورة للعراق، وخاصة، من إيران والمملكة العربية السعودية وقطر وسوريا، إضافة إلى قوى وأحزاب سياسية إسلامية من داخل منطقة الشرق الأوسط وخارجها، وبدعم دولي مخابراتي غير منظور. وإذ شكلت التشكيلات السنية المسلحة، كالقاعدة وأخواتها الأساس الذي اعتمدت عليه بعض القوى السنية المحلية المغرقة بطائفيتها المقيتة، مثل هيئة علماء المسلمين السنة، لصاحبها حارث الضاري، فأن تنظيماتها المحلية لم تكن بذات القوة، بما في ذلك قوى البعث المسلحة المتعاونة مع القاعدة وهيئة علماء المسلمين وأنصار السنة، ولكنها تميزت بالإرهاب والشراسة والدموية المريعة. في حين توزعت المليشيات الشيعية على عدد غير قليل من القوى والأحزاب والمنظمات الشيعية الطائفية، ووجدت الدعم الكامل من سلطة الدولة، التي كانت بيد الأحزاب الشيعية، وخاصة حزب الدعوة، في فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، ومن إيران والحرس الثوري والمرشد الأعلى الإيراني وحزب الله بلبنان. وقد أججت جميع هذه التنظيمات الطائفية المسلحة خارج قيادة ورقابة الدولة الصراعات والنزاعات الطائفية وأدت إلى موت مئات الآلاف من الناس الأبرياء، وإلى القتل على الهوية الدينية والمذهبية والفكرية والمهنية، وإلى خراب العراق وإلى سيادة الفساد والإرهاب في كل العراق، عدا إقليم كردستان العراق، الذي نجا من هؤلاء الأوباش نسبياً.
على رئيس الوزراء الحالي أن يتذكر ما فعله النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية في الحكم والدولة والمجتمع من جهة، وهو جزء من القوى الحاكمة والنظام ذاته، وما فعلته المليشيات الطائفية المسلحة خلال الفترة بين 2005- 2016، أي حتى الآن، من جهة ثانية، وما نشأ عن كل ذلك من موت وخراب وفساد شامل ونهب النفط والأموال وإرهاب اقتصادي متعدد الجوانب والأشكال من جهة ثالثة، لا أن يختزل الأمور، وكأن الذاكرة العراقية مصابة بالعطب أو العطل الكلي. وإذا ما تذكر ذلك، كما عاش الكوارث والمآسي بنات وأبناء الشعب، لأدرك الموقف أولاً ولتبين له إحجام المرجعية الشيعية عن تسمية المتطوعين للقتال، على وفق جهاد الكفاية الذي دعت له المرجعية، بالحشد الشعبي، بل ما زالوا "متطوعون". 
إن المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة موزعة اليوم بكل تنظيماتها على مجموعتين: المجموعة الأولى تعمل في المدن العراقية في الوسط والجنوب وبغداد بشكل خاص، وهي تمرغ يومياً كرامة الإنسان العراقي بالتراب وتسلبه حقوقه وتسرقه وتستنزفه وتمارس كل المفاسد ضده، كتلك التي مارسها الحرس القومي ضد الناس، ولديها الكثير من الفضائيين، القديمة المشبعة ذاتها المصابة بروح الكراهية والحقد والثأر الطائفي، تشكل في الواقع الهيكل العظمي وعضلات الحشد الشيعي الضاربة، في حين لا يشكل المتطوعون الأبطال سوى القسم الذي ينفذ ما يأمره به قادة الحشد الشعبي، وبتعبير أدق، قادة المليشيات المعروفة لنا جميعاً.
إن ما أشار إليه رئيس الوزراء من تجاوز قادة الحشد الشعبي على رواتب المتطوعين وباسم الكثير من الفضائيين. وأن هذا الحشد، عدا المتطوعين، ليس سوى قوات مسلحة داخل القوات المسلحة العراقية، وهي التي ستكون أداة مركزية للحكم الطائفي المحاصصي التمييزي بالعراق ما لم يتم تدارك الأمر. ولكن هل في مقدور من يشكل جزءاً من الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية أن يرى هذه المخاطر أم سيردد بأن من ينتقد الحشد الشعبي ليس وطنياً!!!   
لا شك أن في قوى الحشد الشعبي من غير المتطوعين أناس طيبون ووطنيون ومخلصون لشعبهم، ولكنهم محشورون بالطائفية السياسية وهم حلقات صغيرة في سلسلة من التنظيمات الطائفية المسلحة التي أصبحت كالمافيا التي لا يهمها غير المال والجاه والسطوة، سواء عبر السلطة أم بدونها أم بالاثنين معاً، ولا يمكن لأعضائها الانسلاخ منها، إذ ينتظرهم الموت المحتم، إنهم بيادق مستسلمة لقاداتهم، لهذا لا بد من فعل شيء لخلاصهم من هذا النكد الذي يعيش فيه المخلصون منهم لوطنهم وشعبهم. الحشد الشعبي بقياداته السابقة خطر كبير قائم وداهم والقادم أخطر ما لم تعالج الأمور على وفق مبادئ المجتمع المدني الديمقراطي والدولة المدنية الديمقراطية. إن من لا يريد أن يدرك الحقيقة الآن، سيكون قد تأخر، وسيعاقبه الوقت والتاريخ والمجتمع. 

467
كاظم حبيب
صراع النفوذ والمصالح يُغلف بالدين والطائفية السياسية!
تواجه شعوب بلدان الشرق الأوسط نزاعات دموية، مريرة، مدمرة، ومستديمة، بين عدد متزايد من حكومات هذه المنطقة كلفت حتى الآن أكثر من مليوني قتيل، وضعف هذا العدد من الجرحى والمعوقين، وأكثر من سبعة ملايين إنسان بين نازح في داخل كل من هذه البلدان وفي ما بينها، ومهاجر قسري إلى الدول الغربية، وخاصة دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى خسائر مالية تبلغ مئات المليارات من الدولارات الأمريكية وخسائر هائلة في تراثها الحضاري لا يقدر بثمن. كما تخلت أغلبها عن عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وراحت تزيد من تسلحها الدفاعي والهجومي التقليدي الحديث حيث تقدر بمئات المليارات خلال السنوات العشر المنصرمة. وأفاد، على سبيل المثال لا الحصر، التقرير الصادر عن موقع تقرير واشنطن للكاتب محمد فايز فرحات، مركز خدمة بحوث الكونغرس صيرفيچي  Cوانترناسيونال ريسيرچه، وكذلك التقرير الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام بما يلي: ".. أن المملكة العربية السعودية تُعد من أكبر المنفقين، إذ يشير التقرير إلى أن ميزانية الدفاع في المملكة، العام الماضي، بلغت 52,5 مليار دولار أمريكي، أي أكثـر من ضعفي ميزانية إيران، ثاني أكبر منفق بعد المملكة السعودية، بميزانية تسليح قُدرت بحوالي 23,9 مليار دولار أمريكي". (راجع: موقع مجلة الميون خبر، الدول العربية، بالأرقام ملايير لشراء الأسلحة ! ميزانية 3 أيام من الانفاق العسكري، تكفي لتعليم كل أطفال العالم).
خلال السنوات التي بدأت بالعقد الأول من القرن الحادي والعشرين وإلى الآن، تشكلت تحالفات سياسية متصارعة ومتنازعة عسكرياً بين عدد من دول منطقة الشرق الأوسط غلِّفت وتُغلف تحالفاتها بغطاء ديني وطائفي سياسي يجاهر بالعداء المتبادل ويتستر به عن رغبة جامحة لكل منها في الهيمنة على دول وشعوب المنطقة وفرض إرادتها ومصالحها عليها. وإذا كان الصراع العربي الإسرائيلي قد تراجع إلى الوراء، وتقلص الاهتمام الشعبي العربي بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، رغم تفاقمه وما يحمله من مخاطر جدية على المنطقة بأسرها، ورغم معاناة الشعب الفلسطيني، الذي يعاني من الاحتلال والعقوبات الجماعية والقتل المستمر وتنامي المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية من فلسطين المحتلة وتفاقم الانقسام في جبهة التحرير الفلسطينية وتفاقم دور حماس المتطرف، فأن الصراع المتفاقم حالياً يدور بين محورين رئيسيين هما محور السعودية-تركيا-قطر من جهة، ومحور إيران-سوريا – والعراق وحزب الله بلبنان من جهة ثانية، يخوضان معارك دموية مدمرة في كل من سوريا واليمن والعراق، إضافة إلى أجواء المجابهة المستمرة في البحرين ولبنان. وتقف وراء هذين المحورين الدول الكبرى ذات النفوذ والمصالح الاستعمارية في هذه المنطقة ذات الموقع الجيوسياسي الاستراتيجي والنفط الخام. فالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي تقف إلى جانب المحور الأول، في حين تقف روسيا الاتحادية إلى جانب المحور الثاني ليزيدا من عمق الصراعات والنزاعات  وشدتها واتساع رقعتها حتى الآن. ولا شك في أن الصين، وإن لم تعلن عن مواقفها تماماً، إلا إنها لا تقف إلى جانب المحور الأول، وتتجنب الدخول في الصراع والنزاع المباشر الجاري في المنطقة. والمخاطر الكبيرة التي تواجه المنطقة هو احتمال انزلاق العالم في حرب طويلة الأمد واتساع رقعة المعارك الجارية وتورط الناتو وروسيا في عمليات عسكرية في المنطقة. ويبدو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا لا ترغب في الانجرار إلى صراع عسكريي مباشر، في حين تسعى كل من تركيا والسعودية وقطر إلى جر حلف الناتو إلى معارك برية من خلال إرسال قوات برية للبلدين والدخول في عمق الأراضي السورية بذريعة محاربة الإرهاب، إضافة إلى إسقاط الطائرة الروسية لتخريب التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي كان يراد تشكيله بين الغرب وروسيا. وهو خطر ماثل بعد أن بدأت تركيا توجيه نيرانها الكثيفة إلى مواقع القوى الكردية السورية في سوريا وضد الكرد باالعراق وتركيا وقتل وجرح العشرات من المقاتلين الكُرد في مناطق على الحدود السورية التركية، مما يمكن أن يدفع بها للرد على النيران التركية، والذي يمكن أن يؤدي إلى انزلاق الجميع في حرب طويلة ومتسعة الأطراف لا يمكن التنبؤ بعواقبها الوخيمة.
إن الاستبداد ومصادرة الحريات وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب والتمييز والتهميش والإقصاء وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء وعاظم الفساد المالي والإداري تعتبر من السمات الأساسية التي تميز الدول والحكومات المرتبطة بهذين المحورين الإقليميين، وهي التي تخوض صراعها لا على أراضيها، بل على أراضي دول أخرى مثل سوريا والعراق واليمن، وكذلك ليبيا عبر محاور أخرى. وبالتالي، فالضحايا البشرية والخسائر المادية والحضارية الفادحة تتحملها شعوب هذه الدول، وكذلك الفراغ السياسي والمخاطر التي تواجه الشعب اللبناني بسبب سياسات إيران وحزب الله بشكل خاص. كما إن حكومات الدول التي يجري فيها الصراع، سوريا والعراق واليمن، لا تختلف في سياساتها التي تتسم بالاستبداد والتمييز الاثني والديني والطائفي والتهميش والإقصاء ومصادرة حقوق الإنسان والقوميات وأتباع الديانات إزاء شعوب هذه الدول الجائرة التي تشكل المحورين المذكورين وبعيداً عن إرادة شعوبها مصالحها.
عملت الدول الفاعلة في المحورين ومنذ سنوات إلى تشكيل قوى سياسية مرتبطة بها وتابعة لها فكرياً وسياسياً وخاضعة لتوجيهاتها وقراراتها، وتعتمد عليها في تشكيل المليشيات الطائفية المسلحة والعدوانية لقد كانت السعودية وباكستان والولايات المتحدة وقطر قد لعبت الدور الأساس في تشكيل تنظيم القاعدة، فأن تركيا المستبد أردوغان لحقت بها، لتشارك معها في دعم وتوفير مستلزمات قتالية لتنظيم داعش وجبهة الُنصرة ولواء جيش الإسلام وأحرار الشام والكتيبة الخضراء والجبهة الإسلامية وغيرها من التنظيمات الإرهابية الفاعلة في سوريا والعراق، والتي تسببت بمأساة اجتياح الموصل ومناطق أخرى من شمال وغرب العراق وكردستان العراق، وما ارتكب فيها من جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية، وبعضها في اليمن وليبيا، وبعضها في مصر وغزة والضفة الغربية ولبنان والسودان. أما إيران فقد لعبت، وما تزال، دوراً أساسياً مباشراً في أعقاب ثورة الشعب الإيراني في العام 1979، والتي سيطر عليها وصادرها الإسلام السياسي الشيعي، في تشكيل حزب الله وقواته العسكرية 1982، وقبل ذاك في تشكيل "فيلق بدر" التنظيم الشيعي الطائفي المسلح بإيران في العام 1980 (ويقاد اليومن من هادي العامري)، وفيما بعد سقوط دكتاتورية البعث تم لإيران تشكيل جميع التنظيمات المسلحة الشيعية دون استثناء، ومنها عصائب أهل الحق (بقيادة قيس الخزعلي)، جيش المختار (حزب الله)، ولواء أبو الفضل العباس، وكتائب الإمام علي، والتي كلها ذات ارتباط مباشر وتابع للقيادة الدينية الإيرانية وقيادة الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى سرايا السلام (جيش المهدي سابقا) التابعة لكتلة الأحرار أو مقتدى الصدر.
كل هذه الدول المحيطة بالعراق وسوريا لها مطامع استعمارية فعلية ونوايا دينية ضد أتباع الديانات الأخرى، ونوايا طائفية عدوانية متبادلة في البلدين. وما يشجعها على الطمع بالعراق وسوريا وجود نظم استبدادية وطائفية مقيتة في هذين البلدين.
لا يمكن للعراق أن ينجو من الأوضاع المدمرة الراهنة، حتى بعد تخلصه من احتلال عصابات داعش الإجرامية، ما لم يتخذ الشعب العراقي وقواه الوطنية النظيفة والأمينة لإرادة الشعب ومصالحه الأساسية، سياسات ومواقف وإجراءات حازمة بالاتجاهات التالية:
1.   التخلص من النظم السياسية الطائفية والقومية الشوفينية المهيمنة على البلدين ورفض تشكيل أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي أو شوفيني، والفصل بين الدين والدولة والسياسة، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء والإعلام الرسمي وممارسة حقوق الإنسان والقوميات. وهذا يتطلب نضالاً فكرياً وسياسياً وشعبياً دؤوبا من أجل التغيير الجذري للنظام القائم، الذي تسبب بما فيه العراق الآن. ويمكن للحراك الشعبي الجاري بالعراق أن يتحول إلى نهر جارف يغسل الأرض العراقية من أردان القوى الإسلامية السياسية والقوى القومية الشوفينية التي جلبت الموت وألحقت الدمار بالعراق.
2.   الابتعاد كلية عن هذه المحاور السياسية الإقليمية ذات المطامع بالبلاد، والتي لا تريد الخير له، وتزرع الكراهية في كل مكان، وتنمي الأحقاد بين الشعوب، على أساس القومية أو الدين أو المذهب الو الفلسفة والرأي، وتدفع باتجاه خوض الحروب وكالة، كما جرى ويجري اليوم العراق أيضاً.
3.   الالتزام الثابت بالاستقلال والسيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى, ورفض وجود ميليشيات مسلحة خارج إطار الدستور العراقي، ورفض وجود قوات أجنبية أو ميليشيات تابعة لدول وقوى أجنبية على الأراضي العراقية، ورفض إقامة الخنادق الأثنية والجدران الطائفية بالعراق. إن من يبني الخنادق والجدران لا يريد الوحدة لهذا الوطن وقومياته المتآخية، ولا يريد تحقيق المصالحة الوطنية والتقدم لصالح الجميع. إن هؤلاء الحكام والسياسيين الذين ينتهجون هذا السبيل يتسببون في خلق إشكاليات جديدة وإضافة لما يعاني منه العراق وشعوبه المتآخية حالياً، رغم ما مرَّ به العراق وما عانت منه قومياته وسكانه من ظلم واستبداد وقهر ومصادرة للحقوق من قبل النظم السياسية المستبدة التي سادت طوال اكثر من نصف قرن.   
4.   إن الدول الرأسمالية المتطورة المالكة للسلاح النووي والمهيمنة على إنتاج وتسويق الأسلحة التقليدية الحديثة، تمارس شتى الأساليب للهيمنة على بلدان الشرق الأوسط باعتبارها "المجال الحيوي لنفوذها ومصالحها الاستعمارية" في المنطقة والعالم. وفي هذا الأمر لا تختلف الولايات المتحدة عن روسيا، أو عن المملكة المتحدة، أو عن فرنسا، أو عن غيرها من الدول الرأسمالية المتقدمة. ولهذا فأن الارتباط بتحالفات سياسية عسكرية مع هذه الدول لا يمكن إلا أن يكون عدوانياً وضد الغير. ولهذا أيضاً لا بد للعراق من تجنب هذه التحالفات الدولة والإقليمية المريبة. إن الدولة العراقية الهشة حالياً وحكوماتها الطائفية المتلاحقة لا يمكنها تذليل هذه الصعوبات فتتلاعب بها المصالح الإقليمية والدولية والأهواء الدينية والطائفية ومصالح الفساد المالي للمسؤولين. ولهذا يفترض أن يحصل التغيير ليتسنى للعراق سلوك سبيل آخر ونهج آخر يؤمن إقامة علاقات طيبة ومستقلة وإنسانية مع جميع شعوب ودول العالم تقوم على أساس المنفعة المتبادلة والاحترام المتبادل واحترام الاستقلال والسيادة الوطنية المفقودة حالياً لصالح دول وقوى الجوار والدول الكبرى.       
5.   إن العراق لا يمكنه أن يحافظ على استقلاله وسيادته بوجود نظام سياسي طائفي وأثني محاصصي من جهة، لا يعي أهمية التخلص من وحدانية الجانب في الاقتصاد العراقي وهيمنة اقتصاد النفط الريعي على تكوين حجم الإنتاج المحلي وبنية الدخل القومي، اقتصاد استهلاكي غير إنتاجي تحويلي، إضافة إلى مكشوفيته التامة على الخارج استيراداً وتصديراً، كما ولا يعي أهمية التنمية الاقتصادية والبشرية وتنويع مصادر الدخل القومي بتنمية الصناعة والزراعة والتقنيات الحديثة والاتصالات والمواصلات والتربية والتعليم العلميين الحديثين والبحث العلمي. ولهذا أيضاً لا بد من إجراء تغيير جذري في طبيعة النظام المحاصصي القائم الذي صادر الهوية الوطنية، هوية والمواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة،  وكرس الهويات الفرعية القاتلة لوحدة الشعب وإرادته ومصالحة المشتركة. إن التغيير يستهدف أيضاً اعادة الاعتبار للوطن والمواطن والمساواة بين البشر من الإناث والذكور ومن مختلف القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والفلسفات.
6.   إن السياسات التي يمارسها حيدر العبادي وفريقه المحاصصي، لا يمكنه إلا أن تكون خاضعةً لقرارات حزبه الطائفي بامتياز وتحالفه الوطني المماثل لطائفية حزبه المقيتة. يتحدث عن تغيير وزاري في منتصف الليل ليمحوه النهار، ويجعل الناس تتكهن بما يمكن أن يحصل وهو الأدرى بأنه سوف لن يحصل شيء جديد, وأن سياساته الفعلية تهدف إلى عبور الأزمة التي خلقها المستبد بأمره رئيس حزبه ورئيس الوزراء السابق، ثم لتبقى المحاصصة ويبقى الفساد وتحبط الجماهير والحراك الشعبي! إن من واجب كل الناس الشرفاء في العراق، كل الوطنيين والديمقراطيين، كل المدركين لمخاطر الوضع الجاري، أن يعملوا على فضح هذه السياسة وتعريتها والكشف عن ثناياها وتوزيع الأدوار فيها، رغم الصراعات الداخلية بين هذه القوى الإسلامية السياسية الشيعية منها والسنية على مراكز الحكم أو السلطة والنفوذ والمال!!!
كاظم حبيب، 17/2/2016                

468
كاظم حبيب
هل كانت العزلة المؤقتة للسيد السيستاني متوقعة؟
حين وجهت رسالتي الأخيرة إلى السيد السيستاني، التي طرحت فيها أوضاع العراق الكارثية ودور المرجعية الشيعية في النجف فيها، كنت مدركاً لعدد من القضايا المهمة، أشير إلى بعضها فيما يلي:
** إن الرسالة ومضامينها موجهة بالأساس إلى الشعب العراقي، إلى أولئك الكادحين والفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل والمنهوبين برزقهم، وهم الأكثرية، من قبل النخب الإسلامية السياسية الحاكمة وأحزابها وكل المشاركين في الحكم، لأشير لهم بوضوح موثق إلى دور المرجعية الشيعية على نحو خاص في سقوط البلاد في الحضيض، في المستنقع العفن الذي حط فيه منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة حتى الوقت الحاضر.
** وإن توضح الرسالة للمجتمع بأن المرجعية الدينية الشيعية أصبحت تدرك ثلاث حقائق مهمة في الوضع العراقي الراهن:
1.   إنها لم تعد قادرة في التأثير على قرار سلطات العراق الثلاث، وخاصة الحكام الذين أيدتهم بحرارة وزكتهم أمام جماهير الشيعة، لأنها لم تعد تنسجم مع مصالحهم ومواقعهم ودورهم ونهبهم المتواصل لأموال الشعب؛
2.   وأنها لم تعد قادرة على منافسة مرجعية علي الخامنئي بإيران، حيث بدأ حكام العراق الشيعة يقلدون ويأتمرون بأحكامه وفتاويه وليس برأي المرجعية الشيعية في النجف؛
3.   وإن الغالبية الشيعة المؤمنة لم تعد تقبل بكل ما تطرحه المرجعية الشيعية، لأنها تعيش يومياً نهب الأحزاب والقوى والشخصيات الإسلامية السياسية الحاكمة لأموال الشعب، ولأن مرجعيتها الدينية سكتت،كصمت أبي الهول،عن هؤلاء الذين نهبوا العراق ووضعوه في المستنقع الراهن وتسببوا في موت مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين.
** وكانت الرسالة تهدف إلى القول: بأن تجارب التاريخ كلها تشير إلى أن الحكام يوظفون الدين وشيوخه لصالحهم ومصالحهم ويؤيدونهم إلى أن يستقر لهم الوضع ثم يلفظونهم، بل وهم على استعداد لعمل كل شيء من أجل الخلاص من شيوخ الدين حالما يشعرون بوقف تأييدهم لهم! كما هو حاصل الآن تقريباً!
لم أفاجأ بموقف المرجعية الأخير، فهو في جوهره استمرار لتدخل الدين وشيوخه في السياسة، وكان السبب المركزي، مع قوى الاحتلال الغاشم، في ما وصل إليه العراق، إلى هذا الدرك اللعين. وإذا كانت المرجعية جادة في ما تريد أن تشعر الناس بأنها غاضبة على السياسيين من أتباعها، فكان عليها لا أن تتخلى عما مارسته طيلة الـ 13 سنة المنصرمة في ـتأييدها للحكام وأحزابهم الحرامية، بل كان عليها أن تدعو الشعب للانتفاض على هذه الزمر الخائبة التي تتحدث باسمها، لأن الظلم إن دام دمر، وقد دمر كل شيء خلال الأعوام المنصرمة وبدعم مباشر من المرجعية الدينية الشيعية، ومساعدة المؤسسات الدينية السنية وأحزابها اللقيطة التي لا تختلف عن الأحزاب الشيعية اللقيطة أيضاً.
ما تزال المرجعية الدينية الشيعية تعتقد خطأ، أو تريد أن تعطينا الانطباع وكأنها تعتقد، بأن الحكم بالعراق بيد الطائفة الشيعية ويفترض أن لا تفقده (أخذناها بعد ما ننطيها، نوري المالكي). وهو خطأ فادح في أساس هذا التفكير أولاً، أي في أن يكون الحكم بيد طائفة وليس بيد الشعب ليعبر عن إرادة ومصالح الشعب كله، وفي الاعتقاد ثانياً بأن هذه القوى والأحزاب الإسلامية السياسية تعبر عن مصالح جماهير الشيعة، في حين إنها لا تمثل سوى نفسها ومصالحها الأنانية وليس مصالح الشيعة في مواجهة مصالح السنة!!!
الصورة تبدو وكأنها تؤشر صراعاً بين جماهير الشيعة والسنة، والعرب والكرد، وفي حقيقته هو صراع على السلطة والنفوذ والمال، صراع على المصالح المباشرة للأحزاب الحاكمة الدينية والمذهبية، سنية وشيعية، والأثنية عربية وكردية!
** وأخيراً فأن رسالتي السابقة للسيد السيستاني تريد أن تقول للشعب العراقي بكل فئاته الاجتماعية ذات المصلحة الحقيقية في توفير مستلزمات التغيير، وليس الضحك على ذقون الناس باسم الإصلاح، الجماهير الشعبية المؤمنة بهذا الدين أو ذاك، أو بهذا المذهب أو ذاك، أو المنتمي لهذه القومية أو تلك، بأن عليه أن يأخذ الأمر بيديه ويخوض النضال ضمن الحراك الشعبي الجاري لتغيير ميزان القوى الراهن لصالح التغيير وأن لا ينتظر الفرج ممن كان السبب وراء ما يحصل بالعراق حتى الآن وليردد قول الشاعر التونسي،
إذا الشعب يوماً أراد الحياة    فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي       ولا بد للقيد أن ينكسر 


469
كاظم حبيب
مرة ثانية مع ملاحظات مهمة حول مقال:
مادة للمناقشة: إشكالية النزوح واللجوء من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقا إلى ألمانيا
وصلتني من كاتب وصديق عزيز رسالة تحمل بعض الملاحظات حول مقالي الموسوم "محاولة لفهم أسباب ما جرى في عيد رأس السنة الميلادية 2016 بألمانيا"، التي تستوجب الإجابة، تماماً كتلك الأسئلة التي وصلتني قبل ذاك، وأجبت عنها، ونشرت في الحوار المتمدن. وسأحاول الإجابة عن الملاحظات التي تتضمن أسئلة أخرى:
** هناك مسألة ملحة أكثر من السابق وهي أهمية دراسة لغة البلد الأوروبي المُستقبِل، والبريطانيون مثلا يدرسون موضوع جعل تعلم اللغة مسألة إلزامية، حتى بالنسبة لموضوع جمع الشمل العائلي، حيث اقترح كاميرون، إرجاع النساء المسلمات الملتحقات  بأزواجهم في حالة عدم تعلمهم اللغة.
** أشرت في الدراسة إنها ظاهرة فريدة، ولكن بعض الصحف هنا أشارت إلى إن ظاهرة التحرش الجنسي والاعتداءات تحصل في مناسبات أخرى أيضا، كما يحصل أحيانا في احتفالات "أكتوبر فيست" بميونيخ، وهذا ما أشارت إليها صحيفة الايكونوميست أيضا.
** هناك سؤال يتبادر إلى الذهن هو، لماذا لم تحصل مثل هذه التحرشات والاعتداءات الجنسية وسرقة الحقائب والتلفونات النقالة في مدن ألمانية أخرى، كبرلين مثلا، وهل هناك تقصير متعمد من قادة الشرطة في كولون وشتوتكارت، من الذين يعارضون سياسة ميركل تجاه اللاجئين.
** إن من المهم، إلى جانب إدانة تلك الأعمال الدنيئة، الحذر من استغلال ذلك من الفئات اليمينية العنصرية المعادية للأجانب، في كل الأحوال، واتخاذ ذلك كذريعة ومبرر لتنشيط دعاياتهم لكسب جمهور أوسع لسياساتهم المتطرفة.
** إن من المتوقع، كما أشرت، اتخاذ تلك الأعمال كذريعة لمنع تدفق اللاجئين، خاصة من سوريا والعراق وأفغانستان، في الوقت الذي تعاني شعوب المنطقة من كوارث إنسانية حقيقية تتطلب مساعدتهم، من منطلقات الدفاع عن حقوق الإنسان أينما وجدت، فما ذنب النساء والأطفال الذين يتعرضون لموت بطيء.
** هناك أهمية أن تركز الدراسة على مقترحات وحلول عملية، منها، أهميه دعم تدريس اللغة، ومساعدتهم، وإعادة تأهيلهم فكريا وثقافيا، لتنظيف عقولهم من ترسبات الفكر الظلامي، وإيجاد فرص العمل لهم لمساعدتهم في الاندماج بالمجتمعات التي استقبلتهم مع الحفاظ على الجوانب الايجابية من عاداتهم وتقاليدهم.
** في القسم الأول من الدراسة استعرضت ثلاثة أسباب جوهرية، ولكنني أجد السبب الأول والثالث يتعلق بأوضاع بلدانهم، ولكن الأول سياسي، والثالث اقتصادي، لذا اقترح إعادة التبويب.
** أجد أن الجزء الثاني يحتاج إلى تطوير وتوسيع، وهو الجانب الأهم، ولكن جاء ضعيفا وغير متوازنٍ مع الجزء الأول.
أعتقد لو أن الصديق قد اطلع على إجابتي عن أسئلة الصديق الذي سبقه، لتقلصت الأسئلة. ومع ذلك سأحاول الإجابة عنها من خلال رؤيتي للمسألة بشموليتها المرتبطة باللجوء والهجرة الاقتصادية.
1. إن الحكومات الألمانية المتعاقبة، لم تبد اهتماماً كبيراً بتعليم اللغة الألمانية للجماعات الأولى التي وصلت إلى ألمانيا، وهم العمال الذين جاءوا من تركيا وإيطاليا واليونان ودول شمال أفريقيا بطلب من ألمانيا وساهموا بالفترة الذهبية التي عاشتها ألمانيا وازدهر اقتصادها، بذريعة أنهم ضيوف لفترة قصيرة وسيعودا إلى بلدانهم، ولم يحصل ذلك إلا لعدد صغير جداً من مئات الآلاف من العمال التي قدمت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. واستمرت هذه السياسة الخاطئة حتى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد، رغم إنهم تشددوا في منح الجنسية الألمانية لمن لا يعرف اللغة. تعلم اللغة يعتمد على عاملين، هما:
أ) موقف الدولة من ربط البقاء بتعلم اللغة الألمانية إلزامياً، وبدون مساومة، باعتبار ذلك جزءاً من عملية الاندماج في المجتمع الألماني مع توفير مستلزمات ذلك؛
ب) مدى استعداد القادم، أو اللاجئ السياسي، أو المهاجر اقتصادياً أو بيئياً (بسبب عمليات تدمير البيئة والظروف الطبيعية والغابات التي كان يسكنها الملايين من البشر في الكثير من مناطق العالم)، على تعلم اللغة، والاستعداد للاندماج بالمجتمع.
والسنوات السابقة توفرت لجمهرة من القادمين فرصة مناسبة، في حين لم تتوفر لجمهرة كبيرة ذات الفرصة، أو لم تستثمر من جانب الوافدين، رغم توفرها. ويمكن أن يتكرر هذا الأمر مع من يفد إلى ألمانيا، على أساس جمع الشمل، ما لم يتم تطبيق شرط تعلم اللغة بعد الوصول مباشرة، إذ لا تتوفر بالضرورة مثل هذه الفرصة لهم في أوطانهم، قبل اللجوء أو الهجرة. المعلومات المتوفرة لديّ تشير إلى أن بعض القادمين من طالبي اللجوء يقولون للمترجمين، بلغة اعتراض واحتجاج شديدين: نحن جئنا كلاجئين وعليهم استقبالنا واحتضاننا، ولم نأت لنتعلم اللغة الألمانية أو العمل هنا. وهذا يعني أنهم جاءوا للعيش على حساب دافعي الضرائب الألمان والعيش بكسل وبطر، كتنابلة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. هذه المعلومة مؤكدة لا شك فيها، ولكنها ليست عامة ولا تنطبق على الأكثرية. إذ مثل هؤلاء القلة، قد قرروا منذ البدء، عدم تعلم اللغة، وعدم العمل، والعيش على حساب دافعي الضرائب الألمان. وهؤلاء سوف لن تكون ألمانيا مكاناً مناسباً لهم.     
2. نعم، إن ما حصل ليلة عيد رأس السنة الميلادية 2016، كانت ظاهرة فريدة بألمانيا، إذ من خلال وجودي هنا ولفترتين، أثناء دراستي بألمانيا 1959-1964، ومن ثم كمستقر فيها منذ العام 1989 حتى الآن، لم تحصل مثل هذه الظاهرة السلبية. وكل الدلائل تشير إلى إنها لم تحصل خلال الفترة الواقعة بين الحرب العالمية الثانية وليلة وقوع الحادث المفزع.
إن التحرش الجنسي موجود في جميع بقاع العالم، والنساء هن ضحايا هذا التحرش باستمرار. وفي ألمانيا هناك تحرش جنسي أيضاً، أثناء العمل أو على مقاعد الدراسة، أو في الشارع، أو في الاحتفالات. ولكن هذا التحرش كان، وربما سيبقى ظاهرة فردية ومحدودة، وكذلك العنف، وليس فعلاً جماعياً، كما حصل بكولون وهامبورغ على نحو خاص. والفارق كبير جداً بين الحالتين. والسرقة موجودة، وبيع المخدرات أيضاً.
3. لا شك في أن ما حصل بكولون وهامبورغ، كما تشير إليه بعض المعلومات، على أنه اتفاق تم بين بعض الجماعات من شمال أفريقيا، وعبر التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) مثلاً، وإلا من غير المعقول أن يقع مثل هذا الاعتداء الوحشي وبهذا العدد الكبير صدفة ودون سابق اتفاق. لا شك في أن ما وقع تتحمله أيضاً الشرطة المحلية التي عوقب رئيس جهاز الشرطة بإحالته على التقاعد، لأنها لم تتخذ الإجراءات الكفيلة لمواجهة حالات محتملة من التخريب أو تفجيرات إجرامية مثلاً. ولم يحصل ذلك ببرلين، بسبب الاستعدادات الواسعة جداً، والمهمة جداً، التي اتخذتها شرطة برلين خشية صول انتحاريين إلى منطقة الاحتفالات أمام بوابة براندنبورغ وفي شارع أونتر دير لِندن (تحت ظلال الزيزفون). لا اعتقد بأن الشرطة بكولون وهامبورغ كانت تريد حصول مثل هذه الأفعال الإجرامية، لكي تثير النقمة والتذمر ضد اللاجئين، خاصة وإن قلة من اللاجئين الجدد من شارك في تلك الأفعال الدنيئة، إذ إن أغلب المشاركين هم من المقيمين منذ عدة سنوات بألمانيا.
4. لقد وقع المحذور والمحظور الذي تخشى منه، ليس على صعيد ألمانيا حسب، بل وعلى صعيد دول الاتحاد الأوروبي كلها تقريباً، وبشكل أخص تلك الدول التي كانت جزءاً من "المنظومة الاشتراكية" سابقاً، مثل بلغاريا، وهنغاريا، وبولونيا، والجيك, واسوفاكيا. ولم يتحرك النازيون الجدد واليمنيون المتطرفون حسب، بل والأحزاب اليمينية كلها أيضاً، إضافة إلى بعض جماعات اليمين في الأحزاب السياسية غير اليمينية، رغم إنها أقل شدة وحدة في هجومها على اللاجئين والمهاجرين. كما تحركت تلك الأوساط التي تسترت ولم تكشف عن عدائها للأجانب قبل ذاك!
إن المشاركة الجادة والمسؤولة في الاحتجاج ضد ما حصل، وإدانته، والتعبير عن الاشمئزاز منه، من جهة، والمطالبة الجادة والمسؤولة من كل المقيمين بألمانيا واللاجئين والمهاجرين الجدد، المساعدة في منع قيام جمهرة صغيرة من هؤلاء الأوباش، بتشويه سمعة جميع المقيمين من أصل غير ألماني، أو اللاجئين والمهاجرين الجدد، إلى ألمانيا، والإساءة فعلياً إلى العيش المشترك مع بقية الشعب الألماني من جهة ثانية، والتصدي الحازم والمسؤول ضد الأحزاب والقوى والعناصر المرتبطة بالنازية الجديدة، أو اليمينية المتطرفة، أو اليمين الشعبوي، وفضح دعايتهم، التي تحاول اعتبار كل الأجانب واللاجئين والمهاجرين هم من ذات السلوك الذي مارسته تلك المجموعة الصغيرة والسيئة من أفعال شنيعة، من جهة ثالثة.
5. من يتابع ردود فعل الألمان على ما حصل ليلة عيد رأس السنة الميلادية 2016، يستطيع أن يشخص خمس جماعات، متباينة في مواقفها إزاء القادمين من طالبي اللجوء السياسي أو المهاجرين لأسباب اقتصادية وأبدأ بالأسوأ منها:
أ. مجموعة النازيين الجدد واليمينيين المتطرفين الذي يقفون ضد كل الأجانب وفي كل الأوقات، وهم ينطلقون من مواقع العنصرية والشوفينية الألمانية واعتبار "الجنس الآري" الألماني لا يجوز أن يختلط مع "الأجناس الأخرى". إنها النظرية التي اعتمدتها الدولة الألمانية الهتلرية (الرايخ الثالث) والتي روج لها الفريد روزنبيرغ (1892-1946م)، وهو الإيديولوجي الأول للحزب النازي، وأدولف هتلر  (1889-1945م) المستشار الألماني منذ العام 1933حتى انتحاره في العام 1945، وأتباعهما. وقد حقق هؤلاء نجاحات جديدة لكسبهم قاعدة شعبية قلقة وواسعة نسبياً.
ب. جماعة من الألمان الذين يضمرون كراهية مكبوتة أو مستترة إزاء الأجانب ويخشون من وجودهم بألمانيا، إما كراهية، أو خشية على فرص العمل التي "يهددها!" الأجانب، أو الخشية من حصول الأجانب على دور سكن، مما يرفع أسعار الإيجارات.. الخ.. وهؤلاء أصبحوا اليوم يتحدثون بصوت مسموع ويرفعون شعارات عدائية ضد الأجانب والتحق الكثير منهم بجماعة (أ )، أي باليمين في الأحزاب السياسية القائمة بالبلاد.
ج. جماعة من الألمان، الأعضاء في عدد من الأحزاب في المقاطعات الألمانية، أو الحزب الاجتماعي المسيحي في بافاريا، وهم يطالبون بالحد من وجود الأجانب وتقليص عدد اللاجئين الذي يراد قبولهم بألمانيا، ورفض قبول المهاجرين لأسباب اقتصادية ومن دول البلقان مثلاً، وهم يمارسون سياسة ذات طابع شعبوي مبتذل، بأمل الحصول على أصوات الناخبين في الانتخابات المحلية والعامة القادمة، ولكن جزءاً غير قليل منهم يضمر الكراهية للأجانب ويتحدث عن مجتمع ألماني نقي وثقافة ألمانية قائدة لا تريد الاختلاط بثقافات أخرى أدنى مستوى منها، إذ تعبر كل الثقافات الأخرى أدنى منها!
د. جماعة من الألمان الذين يتبنون مواقف إنسانية تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان والمجتمع المدني الديمقراطي، أو من منطلقات دينية مسيحية، كما يعبرون عن ذلك صراحة ويلتزمون الدفاع عن اللاجئين والمهاجرين قسراً. ويتجلى ذلك في مواقف الكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية عموماً، وهو ما عبرت عنه، أنجيلا ميركل (ولادة 1945م ومنذ عام 2005 مستشارة المانيا)، وهي ابنة قس بروتستانتي ألماني. ونسبة هؤلاء غير قليلة في المجتمع الألماني والمؤيدة من نسبة عالية من أعضاء حزبها الديمقراطي المسيحي.
هـ. جماعة كبيرة من القوى والأحزاب اليسارية، والخضر، ومنظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، التي تقف كلها، بحزم ووضوح، إلى جانب احتضان اللاجئين ورعايتهم، بمن فيهم جمهرة المهاجرين من طالبي العمل بألمانيا.
ولكن، من الواضح تماماً، إن القوى النازية الجديدة، واليمينية المتطرفة، وكذلك اليمين عموماً، ينسق في ما بينه على صعيد الاتحاد الأوروبي، وينظم لقاءات واحتفالات مشتركة، وأحياناً وفود تشترك في مظاهرات القوى اليمينية في هذه الدول، في حين لا يبدو ذلك واضحاً في مواقف القوى اليسارية أو الخضر على صعيد الاتحاد الأوروبي، وهو ضعف واضح وغير مساعد على مواجهة التيار اليميني المتفاقم في الوقت الحاضر في دول الاتحاد الأوروبي.   
وإذا كان صوت الجماعتين الأخيرتين قوياً، قبل وقوع الأفعال الدنيئة الأخيرة بألمانيا، يشكل نسبة تفوق النصف بكثير، فإنها انخفضت، في الآونة الأخيرة، إلى اقل من النصف لصالح الجماعات الثلاث الأخرى, وهو أمر مؤسف ومؤذي للاجئين من مناطق الحروب والصراعات أو حتى للعاطلين عن العمل ببلدانهم. والأمل أن تكون هذه الحالة مؤقتة، ويعود المجتمع الألماني إلى وضعه الطبيعي المتصالح والمتعاطف مع اللاجئين والمهاجرين الجدد.     
6. لقد أكدت، في مقالي سالف الذكر، إلى عدد مهم من المقترحات بشأن احتضان القادمين الجدد وتوفير مستلزمات اندماجهم في المجتمع. إن هذه المسائل تحتاج إلى موقف سليم واضح من الحكومة الألمانية، باتجاه القناعة الفعلية، بأن من يأتي من البلدان التي فيها عوامل كثيرة طاردة للبشر، سواء أكانت هجرة سياسية، كمصادرة الحريات والحقوق، والصراعات الداخلية، والتمييز القومي والديني والمذهبي، أو الجنسي، أو ضد النساء، أو الحروب، أم لأسباب اقتصادية واجتماعية وبيئية، فأنهم لن يعودوا إلى بلدانهم ثانية، بل سيتحولون تدريجاً إلى مواطنين ومواطنات ألمان أو دول أوروبية أخرى، في حين لا يحصل هذا الأمر للمهاجرين واللاجئين إلى الدول العربية، أو تركيا، أو إيران مثلاً، إذ غالباً ما يعودون إلى أوطانهم بعد تحسن الأوضاع، أو يغادروا تلك الدول إلى أوروبا. وهذه الحقيقة القائمة تتطلب وعياً بمسؤولية الألمان والأوروبيين، في أن يبدأوا مباشرة، وحال وصول اللاجئين والمهاجرين لأسباب أخرى إلى بلدانهم، بتنظيم دورات تثقيفية لمستويات مختلفة، حول الكثير من الموضوعات الأساسية، منها بشكل خاص: الموقف من حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب المتباينة، والموقف من حقوق المرأة والطفل، والموقف من الثقافات الأخرى في هذه البلدان، وكذلك الموقف من المثليين في مجال الجنس، وعلى وفق دساتير وقوانين هذه الدول، التي يفترض احترامها حتى لو اختلف المرء بشأنها، إضافة إلى تعلم اللغة الألمانية، لأهميتها للاندماج والعمل والتفاعل فالمجتمع الجديد، في كل الأحوال.
إن موقف الكثير من الهاربين من الصراعات القومية والدينية والمذهبية، ومن مصادرة حقوق الإنسان والاستبداد والقسوة في التعامل، وموقف التمييز والمناهض لحقوق المرأة، وفيه الكثير من عدم الاحترام لها ولدورها ومكانتها في المجتمع، مليء بالعقد النفسية والاجتماعية المخلة بالعلاقة بين الذكر والأنثى. ومثل هذه المشكلات العقدية تحتاج إلى جهود مضنية من جانب الدول المستقبلة للاجئين والمهاجرين لعمل الكثير بهدف غسل أدمغة هؤلاء البشر، مما كرس فيها من مواقف دينية واجتماعية معادية لحقوق الأنثى ومساواتها التامة بالذكر. إنها عقدة العقد، إضافة إلى عقدة الموقف من المثليين في الجنس، وخاصة بالنسبة للمثليين الذكور، التي يفترض أن يستوعبها القادم من الدول العربية، أو ذات الأكثرية المسلمة، إذ إن هذا لا يعتبر شذوذاً لدى الإنسان، بل يعتبر مسألة بيولوجية وبيئية، وهي ليست اختيارية. وبالتالي، لا يمكن تغييرها أو السيطرة عليها لدى الأفراد المثليين، رجالاً أو نساءً، عبر القسر والقهر والإرهاب، فهي جزء من طبيعة هؤلاء الناس الذين يولدون بخصائص بيولوجية تفرض عليهم هذا السلوك الجنسي، وبعضهم بميل إلى الجنسين، في آن واحد. ويشير العلماء المختصون، إلى أن هناك نسبة تتراوح بين 2-10% من البشر بالعالم لها مثل هذا الوضع البيولوجي. وهذا الفرق بين 2-10% ناجم عن كون الكثير من دساتير أو قوانين وتقاليد وعادات الكثير من بلدان العالم، ما تزال تفرض عقوبات تصل إلى حد الإعدام على الذكر الذي يجاهر بمثليته، وعلى الأنثى التي تجاهر بمثليتها. وهو أمر ترفضه لوائح حقوق الإنسان حتى الشرائع السماوية تشير إلى وجود هذه الظاهرة ولا تفرض عقوبة على من يمارس المثلية، بل إن شيوخ الدين والتقاليد والعادات هي التي تفرض مثل هذا الموقف غير الإنساني ضد المثليين والمثليات. هذا ما يفترض أن يفهمه ويعيه المهاجر أو اللاجئ المسلم ويتعامل معه على وفق دساتير وقوانين أوروبا، ومنها ألمانيا، حتى لو رفض المثلية شخصياً.
المجتمع الألماني لا يفرض على اللاجئ أو المهاجر المسلم أو غير المسلم، أو المؤمن بأي دين آخر، أن يمارس ما يمارسونه الألمان، أو الألمانيات، في مجال العبادة، أو العادات والتقاليد أو الممارسات الاجتماعية الأخرى، أو الجنسية، أو في الأعياد والكرنفالات، ولكن يطلب منهم احترام دستور وقوانين وعادات وتقاليد وأعياد والممارسات الاجتماعية الألمانية. وعلى الجميع أن يتعلم ذلك ابتداءً وخلال وجوده بألمانيا لكي تنشا علاقات إنسانية واجتماعية اندماجية سليمة وواضحة ومتطورة. ولكن يفرض عليهم عدم الزواج بامرأتين، أو ضرب الأطفال، أو الاعتداء أو التحرش الجنسي، أو تزويج البنات اللواتي لم يبلغن سن الرشد، أو الإساءة للمثليين والمثليات ...على سبيل المثال لا الحصر.           
7. لقد حاولت توضح الكثير من المسائل في إجاباتي الأولى، والآن أيضاً بالنسبة للكثير من الملاحظات والأسئلة. وإذا ما توفر الوقت المناسب، سأحاول ترتيب المادة كلها في كراس صغير يمكن أن يتم تداوله بين العرب وغير العرب من المسلمين بشكل خاص.
وأخيراً كتب صديق عزيز ملاحظات مهمة وتفصيلية باللغة الألمانية، استفدت منها في إعادة كتابة المقال، كما استفدت من بقية الملاحظات التي وصلتني، بما لا يثقل على المقال ويجعل منه بحثاً كبيراً.، ولكن لا بد من الإشارة إلى الأعداد الكبيرة من الألمان، بمن فيهم مجموعة كبيرة من الأجانب والمتجنسين بالجنسية الألمانية ووالمترجمين، من النساء والرجال، الذين تطوعوا لمساعدة اللاجئين والمهاجرين الوافدين، والتخفيف عنهم، وعن أوضاعهم من جهة، ومساعدة الجهات المسؤولة عن استقبال اللاجئين والمهاجرين ودراسة قضاياهم وتوفير ما يلزم لإيوائهم، من جهة أخرى، التي ثقل حملها حقاً، بسبب هذا العدد الكبير من الوافدين، الذين لم يتوقعوا ولم يعتقدوا يوماً، بأنهم سيواجهون مثل هذه الحالة. 
أقدم شكري الجزيل لكال الملاحظات والأسئلة التي طرحت في الرسائل التي وصلتني والتي دفعتني للتفكير ومحاولة الإجابة عن الأسئلة وأملي أن تكون مفيدة.
كاظم حبيب في 24/1/2016

















470

كاظم حبيب
هل من سبيل للتخلص من الطائفية والفساد والإرهاب؟   
لا يخطئ المتتبع لمجرى الأحداث بالعراق، حين يتلمس تراجع الشعبية، التي اكتسبها بعد إزاحة المستبد بأمره، وتسلمه رئاسة الوزراء، مع عدم تنفيذ كل ما وعد به حيدر العبادي خلال الفترة المنصرمة، بحيث بدأ الناس يرددون بيت الشاعر كعب بن زهير الذي قال:
صارت مواعيد عرقوب لها مثلاً      وما مواعيدها إلا الأباطيل
ومن المثير لمشاعر الناس، أن يظهر رئيس الحكومة يومياً تقريباً، ليلقي خطبه الجنجلوتية في اجتماعات ومؤتمرات صحفية، ينثر فيها الوعود بغير حساب، والحصيلة، عدا ما يحصل من نجاحات في جبهات القتال وهي ليست قليلة، صفراً على اليسار، بحيث بدأ يفقد مصداقيته أمام المزيد من الناس، حتى من آمن، بأنه سيكون المنقذ للعراق من أمراض العراق الجديدة الثلاثة (الطائفية والفساد والإرهاب)، التي التحمت وتشابكت أخيراً مع علل العراق السابقة، التي ما تزال قائمة، وهي الفقر والجهل والمرض. وحين ينظر المتتبع إلى وجوه الإعلاميين، أو غيرهم، الذين يستمعون إلى خطبه وتصريحاته، ترى الحيرة والسأم وعدم القناعة مرتسمة على تلك الوجوه وعلى وجه الناس.
وفي الوقت الذي يتحدث رئيس الوزراء كثيراً، يعمل أقل من القليل، في تنفيذ مهماته، ومنها بششكل خاص محاربة الآفات الجديدة والقديمة السائدة بالعراق، وخاصة الطائفية والفساد والإرهاب، وما ينجم عنها من موت محقق لمزيد من البشر، يواجه المجتمع مجموعات من أتباع المليشيات الطائفية المسلحة، والمتحجرين من شيوخ الدين، والانتهازيين، الذين يستخدمون الدين لإرهاب المجتمع، يوزعون الملصقات المطبوعة ويعلقونها في مناطق مختلفة من بغداد، تهدد الناس بشتى العقوبات التي ما أنزل الله بها من سلطان، نسوق بعض ما علق في حديقة الزوراء وفي نقاط التفتيش والحواجز الكونكريتية، منها مثلاً:
** الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر؛ ** من صافح امرأة تحرم عليه (أي أجنبية)، فقد باء بسخط من الله؛ أيما رجل تزينت امرأته وتخرج من باب دارها، فهو ديوث ولا يأثم من يسميه ديوث"؛ وأما التي كانت تأكل لحم جسدها، فإنها كانت تزين بدنها للناس؛ بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تجاب له دعوة ولا تدخله الملائكة؛ اشتد غضب الله (عز وجل) على امرأة ذات بعل (أي متزوجة) ملأت عينيها من غير زوجها أو من غير محرم منها؛ من ملأ عينيه حراماً يحشوهما الله تعالى يوم القيامة مسامير من النار ثم حشاهما ناراً إلى أن تقوم الناس ثم يؤمر به إلى النار؛ من سلَّم على شارب الخمر أو عانقه أو صافحه أحبط الله عليه عمله أربعين سنة...  (راجع: موقع شفق بتاريخ 21/1/2016).
كل هذا يحصل بالعراق، هذا البلد المتعدد القوميات والديانات والمذاهب، البلد المتعدد الثقافات، وتحت سمع وبصر الحكومة، والقائمون بها من أتباع أحزابها الإسلامية السياسية، ومليشياتها المسلحة، فهل يمكن أن يتحدث رئيس الوزراء عن بناء حكم ومجتمع مدني ضد الحكم الطائفي القائم والأحزاب الطائفية المهيمنة على السلطة والمال والنفوذ على المجتمع!!
في هذا الوطن الذي تعتصره الطائفية ويستبيحه الفساد والإرهاب والاحتلال، سقط له خلال شهرين فقط، أي بين 31 تشرين الأول/أكتوبر حتى 31/كانون الأول 2015، 18800 قتيل وشهيد، إضافة إلى أضعاف هذا العدد من الجرحى والمعوقين من الإناث والأطفال والذكور، وكذلك خسارة الملايين من الدولارات الأمريكية بسبب الخراب والدمار الذي عم البلاد، هذا على وفق التقرير الصادر عن الأمم المتحدة بهذا الخصوص. (راجع موقع كلمة حب بتاريخ 22/1/2016). علماً بأن الأرقام الحقيقة أكثر من ذلك بكثير والتي لا يتم الكشف عنها.
وأخيراً وليس أخرا ما حصل في المقدادية، مجزرة بشرية رهيبة تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس، إنها بشاعة، وتشكل لطخات عار في جبين العراق كله، وبشكل خاص، في جبين أولئك الطائفيين الشيعة القتلة، الذين حملوا رؤوس ضحاياهم، وهم يرددون، ما قاله قبل ذاك رئيسهم: "أن المعركة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد لا زالت مستمرة بكل شراسة ومواجهة عنيدة!! أنصار يزيد إجراميون طغاة حاقدون على الإسلام وآل البيت، الجريمة بحق الحسين لم تنته"، وهو ما يحصده الشعب حالياً، ويبدو إنها تمت على أيدي من وجه لهم خطابه الانتقامي!! وهي نفس الأفعال الدنيئة التي تمارسها عصابات داعش المجرمة.
إن هذا الواقع الذي يعيش تحت وطأته الشعب العراقي، يدفع بالمزيد من الشباب والشابات، والكثير من العلماء والمثقفين والمثقفات ومن ذوي الاختصاصات العلمية، ومنها الطب وأساتذة الجامعات، إلى ترك العراق والهجرة إلى المجهول، لأنهم فقدوا الأمل بالتغيير ولا يرون أمامهم غير البؤس والفاقة والموت. وهذا ما يتحدث به اللاجئون إلى ألمانيا وإلى بقية الدول الأوروبية حين يتحدثون إلى المسؤولين الألمان عن أسباب هجرتهم، وهذا ما ينقله لنا المترجمون، وما يرويه لنا من نلتقي بهم من اللاجئين.
إن المحنة كبيرة جداً والأزمات متشابكة ومتلاحقة ومتراكمة ولا يمكن معالجتها بمظاهرات تخوضها جمهرة مقدامة من شبيبة العراق، بل يفترض العمل على تعبئة الناس وإبعادهم عن تلك القوى والأحزاب الإسلامية السياسية التي كسبتهم في غفلة من الزمن، وبدعم مباشر من عدد كبير من شيوخ الدين والمؤسسات والمرجعيات الدينية، السنية منها والشيعية، عبر تشويه وعي المجتمع الفردي والجمعي.
نحن بحاجة إلى أساليب وأدوات نضالية جديدة، فظاهرة النهوض الشعبي ممكنة حقاً، وأتمنى على منظمي المظاهرات، عقد مؤتمر واسع لمناقشة سبل مواجهة الآفات التي تفتك بمجتمعنا، وبقيمه ومعاييره الإنسانية، وبحضارته ومستقبله.
 

 

471
حملة المليون توقيق لكشف الفساد المالي

نحن الموقعين أدناه نطالب بفتح ملفات الفساد المالي الخاصة بالدرجات الوظيفية من درجة مدير عام فما فوق، وإحالتها الى القضاء للبت بها وإسترداع الأموال المنهوبة
 

 
حملة المليون توقيع لكشف الفساد المالي في العراق
http://ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=790
 
 


472
كاظم حبيب
هل كل شيء هادئ بإقليم كردستان العراق؟
                                                 
"لا تُقدم على قول الباطل، ولا تصبر على كتمان الحقيقة".
ماركوس تولويوس شيشرون
فيلسوف وسياسي وخطيب روماني (106-43 ق.م)
 
في عام 2014 وفي أعقاب مأساة احتلال الموصل، ومن ثم سنجار وزمار، ومناطق أخرى من سهل نينوى وغيرها، من قبل عصابات داعش الإجرامية، ومعاناة أبناء وبنات الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان الهائلة، بسبب هروب مخجل للقوات الحكومية العراقية وقوات الپيشمرگة في سنجار وزمار، وما اقترن بذلك من قتل، وتشريد لمئات الآلاف من البشر، وسبي للنساء والأطفال، واغتصاب، وبيع للنساء الإيزيديات في سوق النخاسة، ومن تحويل لجمهرة من الناس أتباع ديانات أخرى صوب الإسلام عنوة وقهراً، وجهت رسالة إلى السيد رئيس إقليم كردستان العراق، السيد مسعود البارزاني، برزت فيها، المخاطر الجدية المحيطة بالعراق والإقليم، والعواقب الوخيمة، في حالة استمرار توتر العلاقات بين القوى السياسية على مستوى العراق والإقليم، وفي ما بين الطرفين. ثم نشرت مقالاً بهذا المعنى بعد مرور شهر على تلك الرسالة. وفي تشرين الثاني من العام 2015، نشرت مقالاً تحت عنوان "المشكلات المتراكمة التي تواجه إقليم كُردستان العراق"، حاولت فيه معالجة مجموعة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، المحلية ومع الحكومة الاتحادية ومع الخارج، واجتهدت فيها في طرح بعض الحلول العملية. ثم نشرت مقالاً حول التغيير الديموغرافي الجاري على مناطق المسيحيين بمحافظة نينوى وفي مناطق الإقليم على وفق الوثائق المتوفرة في هذا الصدد، والتي سلمت بعضها الكثير إلى السيد رئيس الإقليم أثناء عقد مؤتمر أصدقاء برطلة بأربيل وبرطلة. كما تطرقت في كل ذلك إلى الحريات العامة والحياة الديمقراطية الضرورية لبناء المجتمع، وبشكل خاص حرية الصحافة وعموم الإعلام وحرية الصحفيين. كما أشرت إلى أن المكاسب التي تحققت بالإقليم، يمكن أن تتعرض للنكسة في كل لحظة، وحذرت من دور قوى الإسلام السياسي المتطرفة وتعاونها مع تركيا والسعودية وقطر. وكنت قبل ذاك قد نشرت مقالاً نقدياً تحت عنوان "سماء إقليم كردستان العراق الملبدة بالغيوم"، والذي يصب بنفس وجهة الدعوة لتحسين الأوضاع قبل أن تتطور الأمور باتجاه سلبي معقد، كما هو عليه الوضع حاليا.
والمقال المذكور، الذي أرسلته للنشر في مجلة گولان، التي تصدر بأربيل، ترجم إلى اللغة الكردية من قبل مترجمي المجلة. وحين اطلعت على الترجمة، تبين لي، إن هيئة تحرير المجلة لم تكن أمينة على نشر المقال وترجمته، بل اقتطعت كل المقاطع النقدية للسياسة الكردستانية الرسمية، وللأحزاب الكردستانية، وللحياة السياسية عموماً. وهو أمر غير معهود إلا في الصحف والمجلات التي لا تحترم نفسها وقراءها وكتابها، مما الزمني إعادة الترجمة إلى اللغة الكردية ونشر المقال كاملاً باللغتين العربية والكردية ومقاطعة الكتابة للمجلة المذكورة، رغم اعتذار رئيس التحرير عبر الهاتف وبرسالة خطية. وقد اُقتطع من المقال حتى المقطع التالي المنشور في صدر المقال، الذي أشرت فيه إلى الآتي: ""من يعتقد بأنه صديق الشعب الكردي ويناضل معه في سبيل تحقيق طموحاته وتطلعاته المستقبلية وحياته الكريمة والمزدهرة، يفترض فيه أن يكون صريحاً، واضحاً وأميناً لمبادئه الأممية وصداقته مع الشعوب، مقتنعاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ومدافعاً عنها دون تردد، ومنتقداً ما يراه خلاف ذلك، دون وجل أو مجاملة، وبغيره تفقد الأممية والصداقة والتضامن مضامينها الإنسانية النبيلة!!"
حين شكلنا التجمع العربي لنصرة القضية الكردية في العام 2004، كان همُنا ينصب على حقوق الشعب الكردي ومصالحه، وضمان ممارسته لإرادته الحرة والكريمة، لا بالعراق فحسب، بل وفي جميع أقاليم كردستان الأخرى، والموزعة على أربع دول، منذ الحرب العالمية الأولى، وعلى دولتين هما تركيا وإيران قبل ذاك. وحين نشير إلى نصرة الشعب الكردي، لا يعني بالضرورة تأييد الحكومات والقوى والأحزاب السياسية التي تتشكل في واحدة أو أكثر من هذه الدول، كردستان العراق مثلاً، بل إن ما كان، وما يزال، يهمُنا، هو مصلحة الشعب الكردي وقضيته العادلة وحقوقه القومية والوطنية المشروعة، وحين يتطلب الأمر توجيه تأييد لهذه السياسة أو الإجراء، أو ممارسة النقد للأحزاب السياسية الكردية أو رئاسة وحكومة الإقليم، فمن واجب التجمع أن يمارس ذلك النقد، من منطلق الحرص على الشعب الكردي ومصالحه. وهذا ما كنت أتوخاه وأعمل من أجله، حين كنت أميناً عاماً للتجمع، وهذا ما يفترض أن يكون عليه الحال في الوقت الحاضر، حيث أصبح الأستاذ الدكتور تيسير الآلوسي أميناً عاماً، بعد أن طلبت إعفائي من رئاسة الأمانة العامة وعضويتها، ولكني ما أزال عضواً في التجمع. لا يكفي أن نشجب الاعتداءات التي تمارسها الحكومات في الدول الأربعة ضد الشعب الكردي، بل يفترض أن ننتقد الحكومة الكردستانية بإقليم كردستان العراق، حين تمارس سياسات غير صحيحة على وفق قناعتنا ورؤيتنا للأمور، ومن منطلق النظام الداخلي للتجمع ومهماته، وإلا فلا حاجة لوجوده أصلاً. وأشعر الآن بأن خللاً يواجه عملنا في التجمع، أملي أن يصحح في جانب ممارسة النقد الضروري لصالح الشعب الكردي وفيدراليته ولصالح العراق عموماً.       
إن ما كنت أعرفه وما نبهت إليه في رسائلي ومقالاتي ولقاءاتي، حصل فعلاً، حين أعلن ونشر "مركز ميترو للدفاع عن حقوق الصحفيين" تقريره السنوي لعام 2015، وتصدره العنوان التالي: "تعددت الأسباب والتجاوزات مستمرة"، و"الإفلات من العقاب لا يزال يخيم على بيئة العمل الصحفي في إقليم كردستان." وعن هذا الموضوع كتب الزميل الكاتب ومدير تحرير جريدة المدى العراقية في عموده اليومي بهذا الصدد مقالاً تحت عنوان "مركز ميترو على حق". وقد ختم مقاله بهذا النص الذي يبين شدة الحرص على الإقليم وسياسته عموماً وإزاء الإعلاميين خصوصاً "إلى ما قبل سنوات قليلة كنّا نعيّر حكامنا (في بغداد) بأنهم فشلوا في اقتفاء أثر القيادة الكردية وتحقيق منجزات سياسية وتنموية ملموسة جلبت قدراً معتبراً من الأمن والاستقرار والرخاء للكرد وشركائهم في الإقليم.. الآن لم يعد في وسعنا فعل ذلك، لأن الإقليم ينحدر تدريجياً إلى الهوّة التي استقرّ فيها حكام بغداد... وتقرير مركز ميترو يقدّم برهاناً آخر على ذلك". (راجع: عدنان حسين، جريدة المدى، العدد [3551] 19/1/2016). وهذه أول مرة تمارس جريدة المدى نقداً مباشراً وواضحاً للمسؤولين بالإقليم، وهو أمر في مصلحة الإقليم ومسؤوليه.
فمنذ عدة شهور، بدأت الأزمة الثانية لتجديد ولاية السيد مسعود البارزاني لرئاسة إقليم كردستان العراق لعامين قادمين. رفض حزبان تمديد الرئاسة لسنتين، هما الاتحاد الوطني وحركة التغيير، وانقسمت الجماعات الإسلامية على نفسها بين مؤيد ومعارض. ثم تفاقمت هذه الأزمة، واقترنت بتعقيدات ومضاعفات كثيرة، في ظرف غاية في التعقيد يمر به العراق وإقليم كردستان العراق معاً. وأدى إلى منع دخول رئيس البرلمان من السليمانية إلى أربيل وتعطل عملً البرلمان الكردستاني. والأزمة ما تزال قائمة وفي تفاقم وتوتر على المستوى الشعبي وفي ما بين الأحزاب والقوى السياسية.
ومن يتابع الوضع عموماً يجد أن العراق يواجه أزمة حادة ومتنامية، بسبب الصراع المتفاقم على السلطة ببغداد، ومع القوى المناهضة للإصلاحات المطلوبة والتغيير، واستمرار احتلال الدواعش لمحافظة نينوى ومناطق أخرى حول الإقليم من هؤلاء الوحوش الكاسرة. ومع ذلك فالوضع يهدد الإقليم في كل لحظة، كما يمكن أن تستخدم هذه القوى المجرمة الغازات السامة ضد قوات الپيشمرگة ، أو القوات المسلحة العراقية، كما استخدمتها سابقاً. والإقليم يواجه أزمة مالية حادة، بسبب انخفاض سعر البرميل من البترول في السوق العالمية، والمشكلات غير المحلولة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وخاصة في مجال استخراج وتصدير النفط الخام. وخلال أزمة الرئاسة الجارية، وتأخر حكومة الإقليم عن دفع رواتب الموظفين لشهور عدة، وتوقف المشاريع العمرانية، وتدهور السيولة النقدية والبطالة في محافظات الإقليم حصلت مظاهرات في مدن محافظتي السليمانية وأربيل، وبنتيجة ذلك خرجت في السليمانية عن المألوف وتميزت بالعنف والعنف المضاد غير المحمودين وغير المطلوبين، الذي قاد بدوره إلى تدهور العلاقات السياسية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، ولكن وبشكل خاص مع حركة التغيير (گوران)، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات شديدة من جانب رئاسة الإقليم إزاء رئيس البرلمان الكردستاني ومنعه من دخول أربيل وأخلاء مجلس الوزراء من وزراء التغيير وتعيين وكلاء عنهم. إن هذه غير طبيعية ويمكن أن تعرض الإقليم إلى نكسة حادة في جميع المجالات وإلى استثمارها من جانب أعداء العراق وإقليم كردستان العراق في غير صالح الجميع. والمعلومات المتوفرة حالياً تشير إلى أجواء توتر جديد وشديد بالسليمانية، ووجود كثيف لأجهزة الأمن والپيشمرگة الكردستانية، خشية وقوع أحداث غير حميدة،
ونقلت وكالات الأنباء ما صرح به السيد فاضل رؤوف، وهو قيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني ومسؤول فرع الحزب 21 عن آخر لقاء حصل بتاريخ 9/11/2015 بين السيد رئيس الإقليم وشخصيات سياسية ووجوه اجتماعية وشيوخ من محافظة السليمانية ومن الحزبين الاتحاد الوطني والتغيير بأن رئيس الإقليم قد أكد استعداده لترك منصب رئاسة الإقليم إذا كان ذلك سيحل الأزمة في الإقليم (موقع علامات أونلاين في 9/11/2015). كما نقلت شفق نيوز بتاريخ 11/11/2015 عن نفس الشخص قوله بأن "الرئيس بارزاني لديه مبادرة لحل الأزمة السياسية في الإقليم". وحتى الآن لا يرى المتتبع أي أفق قريب لحل الأزمة المستعصية.
حين التقينا مع السيد رئيس الإقليم في أعقاب مؤتمر أصدقاء برطلة ضد التغيير الديموغرافي بالعراق، تحدثت عن ظاهرتين سلبيتين في حياة العراق السياسية، هي ظاهرة تشبث المسؤولين في المسؤولية وفي المواقع التي يحتلونها، بغض النظر عن الحجج والأسباب التي يطرحونها للبقاء في السلطة. وقد ذكرت في هذا اللقاء قول الدكتاتور صدام حسين، "جئنا لنبقى"، وما طرحه المستبد بأمره نوري المالكي حين قال لشيخ من شيوخ العشائر " أخذناها بعد ما ننطيها"، وكلاهما خسرا المعركة. وفي حينها شعرت بتأييده الكامل لما ذكرته في هذا اللقاء. اعتقد بأن رئيس الإقليم لا يرغب أن يكون ثالث الأثافي في هذا المجال. واعتقد بأن لديه الثقة الكاملة بالشعب الكردي وبوعيه وقدرته على انتخاب شخصية كردستانية مناسبة ومقبولة لرئاسة الإقليم يمكنها بمساعدة الجميع، وبمساعدته شخصياً، قيادة الإقليم بشكل سليم، وأن رئيس الإقليم الحالي، سيساهم بالضرورة ومن موقعه في رئاسة الحزب الديمقراطي الكردستاني، في دعم الرئيس الجديد للإقليم، كما إن الحزب الديمقراطي الكردستاني، سيلعب دوره في البرلمان لصالح تقدم الإقليم مع بقية الأحزاب السياسية الديمقراطية. ولكن هذا الموقف سيكون مبادرة طيبة وذات طبيعة ديمقراطية تتطلبها المرحلة والتجربة الغنية لإقليم كردستان العراق لا لصالح الإقليم فحسب، بل ولصالح الكرد في بقية أقاليمهم وللعراق أيضاً.
إن التقرير الذي نشره مركز مترو للدفاع عن حرية الصحفيين عن أوضاع الصحفيين، يؤكد وجود انتهاك وتجاوز فظ من المسؤولين على الصحفيين والصحافة بالإقليم، ولا تتناغم أوضاعهم مع التجربة الجديدة لفيدرالية إقليم كردستان، كما لا تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان وحرية الصحافة والصحفيين، كما إنها تتعارض مع الدستور الكردستاني الذي يمنح الإعلام والصحفيين حريات واسعة. ومن منطلق الحرص على تجربة الإقليم ومصالح الشعب الكردي وتقدمه وتطوره اللاحق، نأمل أن تتخذ الإجراءات الكفيلة بالكف عن مضايقة الصحفيين وحرمانهم من حريتهم واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمعالجة المعضلات القائمة لصالح الشعب الكردي وتقدمه نحو تحقيق أهدافه الطموحة في الحرية والديمقراطية والتمتع الكامل لحقوق الإنسان والكرامة.
من هنا أجيب عن السؤال السابق، بأن ليس كل شيء هادئ في الجبهة الكردستانية، بل الأعداء يقفون على الحدود، سواء أكان تنظيم داعش المجرم وعصاباته المتوحشة، أم الدول التي لا ترتضي لكردستان العيش بأمن وسلام وتقدم ، إضافة إلى التوترات الداخلية المتراكمة والأوضاع المالية المتعثرة جداً، خاصة بعد قطع الاتحاد الوطني المفاوضات وإلغاء الاتفاقات السابقة. إن كل ذلك يتطلب بالضرورة، اتخاذ المواقف الجريئة والحازمة باتجاه تحسين الأوضاع وحل المعضلات والابتعاد عن المزيد من التوترات الداخلية ومع الحكومة الاتحادية، والجلوس إلى طاولة المفاوضات وحل المعضلات بشكل سلمي وديمقراطي وعلى وفق الدستور الكردستاني.
كاظم حبيب 21/1/2016 
 

473

كاظم حبيب
هل احتوى الفساد جميع المنظمات الدولية؟
تواجه شعوب العالم انتشاراً واسعاً لظاهرة الفساد المالي في بلدانها، كما تشير إلى ذلك منظمة الشفافية العالمية، بحيث لم يبق سوى عدداً ضئيلاً من الدول التي ينعدم فيها الفساد تقريباً، كالدانمرك ونيوزيلندا وفنلندا والسويد والنرويج، في حين يشتد الفساد في الكثير من الدول النامية، ومنها منطقة الشرق الأوسط.  وقد احتل العراق في أعوام 2013 - 2015 مواقع 170 و171 من مجموع 172 و177 دولة جرى فيها البحث عن الفساد، ولم يأت بعد العراق في حجم وكثافة وسعة انتشار الفساد سوى دول مثل جنوب السودان والسودان وأفغانستان وجيبوتي. ولكن الفساد لم يبق في إطار تلك الدول، بل شمل، ومنذ سنوات كثيرة، المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، ومنها منظمة فيفا، المختصة بشؤون السباقات الأولمبية على الصعيد العالمي والإقليمي وكرة القدم. وتابع العالم باهتمام بالغ فساد الهيئات التي عملت في لجان "النفط مقابل الغذاء الدولية"، الذي أخل بمصالح الشعب العراقي عموما، وأطفاله ومرضاه بشكل خاص. واكتشف إن توزيع سباقات كرة القدم، التي تتم كل أربع سنوات، على الدول، كان يتم بدفع أموال طائلة من جانب الدول الراغبة في أن تقام تلك السباقات في بلدها ولصالح العاملين في قيادة الـ "فيفا". ولا بد من التحرى عن مدى انتشار الفساد إلى مواقع دولية أخرى تصل إليها مبالغ طائلة نتيجة نشاطاتها الخيرية مثلاً.
فوجئ العالم عام 2015 بحدثين تتحمل الجهات المختصة دولياً وإقليمياً الكشف عما وراء الحدثين بصورة دقيقة وموضوعية، لقد 1) تم اختيار العراق لعضوية "مجلس حكماء الأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد" واحتلال الدكتور حسن الياسري، رئيس لجنة النزاهة بالعراق، هذا المنصب، ثم تم اختياره نائباً لرئيس المؤتمر الأول للدول الأطراف في الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد. 2) تم اختيار المملكة السعودية في عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، ورئيساً للجنة الخبراء المستقلين في هذا المجلس، وتعيين السفير السعودي فيصل بن حسن طراد بهذا المنصب.
هل يستقيم اختيار هذين البلدين مع ما يجري في هذين البلدين من فساد واسع وانتهاك كامل لحقوق الإنسان؟
العراق والفساد المالي والإداري: شمل الفساد بالعراق الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومؤسساتها الإعلامية، ومختلف الهيئات التي تشكلت بالعراق، سواء التي سميت مستقلة، أم غيرها. وقدرت مبالغ الفساد بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية، بحيث أجبرت حتى المرجعيات الدينية، التي زكت تلك الأحزاب الإسلامية السياسية المسؤولة عن ذلك الفساد وأوصلتها للحكم، والحكومات التي ترأستها، والوزراء الذين تقلدوا المناصب على امتداد السنوات التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية بالعراق، أن تتحدث عن الفساد، وتطالب بمكافحته وإدانة القائمين به. ولكن كل الدلائل تشير إلى إن هيأة النزاهة العراقية لم تمارس مهمتها على الوجه المطلوب حتى الآن بدليل وجود جمهرة الفاسدين الأساسيين، أو الذين سهلوا انتشار الفساد على جميع المستويات والمجالات، ما زالوا أحراراً يمارسون أعمالهم كما في السابق، أو احتلوا مواقع أخرى، ولم يكفوا عن دورهم، كما لا يزال هؤلاء يتصرفون كحكام بالبلاد. إن هيأة النزاهة، التي يتحدث رئيسها عبر شاشة التلفزيون عما فعله، بعيدة كل البعد عما ينبغي لها أن تمارسه ضد الفساد والفاسدين، حيث تبتلع أموال العراق في كل مكان دون استثناء، حتى أصبحت الخزينة خاوية، والناس لا تتسلم رواتبها. إن مطالبة المنظمات الدولية بمساعدة العراق باسترداد ما نهب منه أمر جيد، ولكنه غير كاف، فاللصوص يعيشون ببغداد، ويحتلون مناصب حكومية، واشتروا قصوراً شامخةً، وحساباتهم بالخارج تدمي قلوب الشعب العراقي. والسؤال هو: هل يستحق العراق ورئيس لجنة النزاهة، ولست المسألة هنا شخصية، أن يحتل عضوية حكماء الأكاديمية، والعراق يعج بالفساد التام؟ وكيف تم ذلك؟
المملكة السعودية وحقوق الإنسان: ليس هناك من عاقل بهذا العالم الواسع لا يعرف بأن السعودية، كدولة، وحكومة، وعائلة مالكة، ومسؤولين، وأجهزة أمنية، وشرطة، وجيش، ومجلس شورى، وشيوخ دين مسؤولين عن الفتاوى الدينية، هي العدو الأول الفعلي لحقوق الإنسان، ولجميع المواثيق والعهود الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، وعن لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وعن مؤتمراتها الدولية العديدة، وأنها تنتهك يومياً حقوق الإنسان وتزج بأصحاب الرأي الآخر في السجون، وتسلط عليهم شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي "الإسلامي"، كالجلد وقطع اليد وقطع الرأس. كما تنتهك يومياً حقوق المرأة والطفل. وليس هناك من دولة في العالم بعد الصين، التي أصدرت أحكاماً بالإعدام ونفذتها فعلاً مثل السعودية، سوى إيران والعراق بالنسبة لعام 2014، في وقت ارتفع عدد الدول التي ألغت حكم الإعدام من قوانينها إلى نصف مجموع دول العالم. ويقبع ، على سبيل المثال لا الحصر، الناشط والكاتب المدني السعودي رائف بدوي، في سجون السعودية، بعد أن حكم عليه بـ 1000 جلدة، وعشر سنوات حبس، لأنه تجرأ ودعا إلى مبادئ حقوق الإنسان، وإلغاء لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تمارس إذلال النساء والرجال بالسعودية يومياً، وتدوس على كرامتهم وحقوقهم الشخصية. فهل بعد هذا وكثير غيره، تستحق السعودية أن يكون ممثلها رئيساً للجنة الخبراء المستقلين في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة؟ وكيف تم ذلك؟ ألا ينبغي لنا أن نتساءل ونطالب بالجواب؟

474
رسالة مفتوحة إلى آية الله العظمى سماحة السيد علي السيستاني
الأخ الفاضل آية الله العظمى السيد علي السيستاني المحترم
تحية طيبة وبعد،

كنت قد وجهت لسماحتكم وقبل عدة سنوات رسالة مفتوحة حول بعض الشعائر والطقوس المستحدثة والقديمة التي تمارس في طقوس العزاء على الحسين بن علي بن أبي طالب الذي استشهد وجميع صحبه الكرام من الرجال في واقعة الطف بكربلاء في العام 61 هـ 680 م، أي قبل ما يقرب من 1336 عاماً. أشرت فيها إلى أن هذه الطقوس والشعائر الجارية حالياً لا تنسجم مع مضمون تضحيات واستشهاد الحسين وصحبه وسبي عائلته، ولا تساهم في تبجيله وبما يليق بشهادته التي يفترض أن تبقى حية ومحترمة في ذاكرة الشعوب. ورجوتكم فيها أن تلعبوا دوركم في رفض تلك الطقوس والشعائر البعيدة عن الدين والمذهب، كما ساهمت مجموعة خيرة وطيبة وجريئة من شيوخ الدين الشيعة حين رفضوا وشجبوا وأدانوا علناً هذه الطقوس والعادات مثل التطبير (أي الضرب بالسيوف والخناجر والقامات على الرأس وشجَّه) أو الضرب بسلاسل وسكاكين حادة ومدببة تدمي الظهر أو اللطم على الصدر أو الارتماء في الأوحال والطين أو الهرولة أو السير على الأقدام لمسافات طويلة ومن مدن بعيدة إلى حيث قبر الحسين وأخيه العباس بكربلاء. لقد رفضوا تلك الطقوس والشعائر والعادات الدخيلة باعتبارها بدعاً مرفوضة ومسيئة وذات إساءة كبيرة للنفس والجسد والمجتمع، وهي ليست من الدين. ومن المؤسف حقاً أني لم أتسلم منكم جواباً على رسالتي كمواطن عراقي عرض عليكم وجهة نظره وأراد الاستماع إلى رأيكم.
ثم وجهت لسماحتكم رسالة مفتوحة أخرى أشرت فيها إلى مواقفكم من القضايا السياسية والانتخابات ومن الأحزاب الإسلامية الشيعية السياسية ورجوتكم فيها التخلي والكف عن التدخل في الشأن السياسي كرجل دين ومسؤول عن حوزة دينية كبيرة خرَّجت وتخرّج الآلاف من شيوخ الدين وعن تقديم الدعم والمساندة والتأييد لهذه الأحزاب والقوى الإسلامية الشيعية السياسية وقياداتها لأسباب ثلاثة جوهرية:
1.   يجب الفصل بين الدين وشيوخه من جهة، والسياسة والدولة والسلطة السياسية من جهة أخرى.
2.   الابتعاد الفعلي عن الأحزاب الإسلامية السياسية وقياداتها لاعتبارين مهمين: أولهما، لا يجوز بالدولة المدنية إقامة أحزاب إسلامية سياسية تستند إلى هذا الدين أو ذاك أو إلى هذا المذهب أو ذاك، بل يفترض أن تتأسس الأحزاب على أساس مدني واستناداً إلى مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية بغض النظر عن الدين أو المذهب؛ وثانيهما، إن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية تعتمد على الدين وشيوخه للوصول إلى السلطة، ثم تستخدمهم لصالح تعزيز مواقعها وسيطرتها على الدولة بسلطاتها الثلاث وعلى المجتمع، بعدها تفرض هيمنتها على السلطة وشيوخ الدين في آن واحد وتجعل الدين وشيوخ الدين أدوات بأيدي "السلطان!" ولصالحه.
3.   إن العراق دولة متعددة القوميات والديانات والمذاهب، وبالتالي فأن الدولة بسلطاتها الثلاث يفترض أن تكون محايدة إزاء جميع الديانات والمذاهب وإزاء أتباع جميع الديانات والمذاهب لمنع التمييز والتهميش والإقصاء والتفرقة بين المواطنات ولمواطنين جميعاً، فـ "الدين لله والوطن للجميع".
وقد برهنت تجارب العالم القديمة والحديثة إلى إن نظام الحكم المدني الديمقراطي العلماني هو النظام القادر في أوضاع العراق وتكوينه الاجتماعي والقومي والديني والمذهبي على توفير خمس مسائل جوهرية:
1.   الفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء والإعلام.
2.   الفصل بين الدين والدولة والسياسة مع احترام جميع الأديان والمذاهب والعقائد وعدم تدخل الدولة في شؤونها الداخلية.
3.   التعامل مع المواطنين على أساس المساواة أمام القوانين وفي ممارسة الصلاحيات والواجبات بغض النظر عن القومية والدين والمذهب أو العقيدة الفكرية والسياسية.
4.   عدم التمييز إزاء المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات كافة.
5.   اعتماد مبادئ حقوق الإنسان وبقية الحقوق الواردة في المواثيق والعهود الدولية والإقليمية الخاصة بشرعة حقوق الإنسان. 
ولكن سماحتكم لم يُجب على رسالتي الثانية أيضاً، بل واصلتم وشددتم من تدخلكم لا في زمن أقرار الدستور وفي وضعه والمشاركة في فرض صيغ ومواد معينة عليه فحسب، بل وفي ممارسة التأثير المباشر على مجرى الانتخابات وتأييد الأحزاب الإسلامية الشيعية السياسية التي قادت إلى اصطفاف واستقطاب ديني وطائفي مشين بالعراق. وقد لعبت قوى الاحتلال الأمريكي-البريطاني دوراً كبيراً واستعمارياً وقحاً في هذا الشأن، إذ اتبعت النهج القائل "فرق تسد"! وقد غضضتم الطرف عن هذا السلوك وسلوك القوى الطائفية السياسية، الشيعية منها والسنية، فكانت الكوارث المتلاحقة والمآسي التي حلت بالعراق والتي ما تزال فاعلة.
لقد تدخلتم مباشرة في انتخابات المجلس النيابي العراقي لعدة دورات وساعدتم على فوز الأحزاب الإسلامية الشيعية وطالبتم من مؤيديكم بدعم هذه الأحزاب. وقد وصلت هذه الأحزاب إلى السلطة فعلاً باستخدام اسمكم والتمتع بدعمكم، فماذا كانت الحصيلة؟ لقد فرضت هذه الأحزاب، باسم "البيت الشيعي" و"التحالف الوطني" هيمنتها على البلاد ومارست التمييز الديني والمذهبي بأقصى وأقسى أشكاله ولم تتورع عن التهميش الديني والمذهبي والإقصاء أيضاً لبقية المكونات. وساد الفساد والإرهاب والقتل على الهوية والقتل بالجملة والمعارك الطائفية المريرة على السلطة والنفوذ والمال. واستفرد رئيس الوزراء السابق بالحكم ومارس الاستبداد وشراء الذمم وساعد على نهب الأموال والتفريط بها حتى اقترب العراق من حافة الإفلاس، وأصبح الآن أكثر من نصف سكان العراق في حالة الفقر الشديد (تحت خطر الفقر الدولي)، وستتفاقم هذه الحالة في الفترة القادمة نتيجة تراجع أسعار النفط الخام عالمياً والمرتبط بتآمر صارخ من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية على نحو خاص، لإلحاق الأذى باقتصاد روسيا وإيران والعراق، ونتيجة للحرب الدائرة في غرب وشمال العراق.
لقد مارس المستبد بأمره رئيس الوزراء السابق نهجاً سياسياً وسياسات اقتصادية ألحق أضراراً فادحة بالشعب العراقي واقتصاده الوطني وحياته الاجتماعية والثقافية والبيئية. وقد كان الرجل ".. واعياً وقصدياً بما يفعل ويقول، وهو هنا أقرب إلى الشخصية "السيكوباثية" التي يمارس صاحبها الكذب دون وخز من ضمير، ويكون في العادة قاسياً وبارداً عاطفياً وميتاً ضميرياً ولا يتعلم من التجارب والأخطاء"، كما أشار إلى ذلك باحث أكاديمي وأستاذ في علم النفس، وكان المستبد بأمره يستند إليكم وإلى تأييدكم له حتى أوصل العراق إلى الحالة الراهنة حيث اجتاحت في صيف العام 2014 عصابات داعش الإرهابية المجرمة بالتعاون مع حثالة من عسكريي وأمنيي وقادة حزب البعث المسلحة السابقة وبعض الفصائل الإرهابية المتطرفة الأخرى مدينة الموصل ومن ثم بقية محافظة نينوى وتعززت مواقعها بصلاح الدين والأنبار وأجزاء من كركوك ..الخ. عندها بادرتم إلى إطلاق فتوى جهاد "فرض كفاية" التي أدت إلى تشكيل جيش آخر أطلق عليه بـ"الحشد الشعبي" الذي أصبحت المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة" هيكله العظمي وقوامه الأساسي إضافة إلى جمهرة من المتطوعين الآخرين الذين التحقوا به.
إن قوى الحشد الشعبي تأتمر عملياً بأوامر رئيس الوزراء السابق ورئيس منظمة بدر ورئيس عصائب أهل الحق والقائد العسكري والسياسي الإيراني قاسم سليماني، وتتبع شكلياً القائد العام للقوات العراقية المسلحة. وهذا "الحشد الشعبي" يشكل اليوم جيشاً فوق الجيش العراقي ومنافساً له ومتصدياً لدوره في المستقبل القريب وبعد الخلاص من داعش بالعراق، وهو قوام دولة داخل الدولة العراقية الهشة حالياً! لقد كان الموقف الأسلم، كما أرى، لو كنتم قد دعوتم إلى التطوع في صفوف الجيش العراقي يوزعون على الوحدات العسكرية الموجودة فعلاً وليس إلى وحدات منفصلة عنه، ثم بطها برئيس الوزراء العراقي الذي لا يخضع له بل قادة المليشيات الشيعية المسلحة، وهم قادة الحشد الشعبي.
إن العراق يواجه اليوم، ولأنه دولة هشة وسلطة تنفيذية ضعيفة عاجزة عن الإصلاح ومجلس نيابي أضعف وضد الإصلاح، تدخلاً سافراً وفظاً من قبل دول الجوار، من السعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى وتركيا وإيران. ولو لم يكن لهذه الدول أحزاب وقوى تمارس دور اليد الممتدة لها لما استطاعت أن تمارس هذا الدور التخريبي المتواصل والملموس. كما أنكم شخصياً تواجهون اليوم دوراً منافساً ومؤذياً من جانب حوزة قم الدينية ومرشد إيران الذي يتقاطع في جملة من المسائل مع مواقفكم الأخيرة، وخاصة في تأييده السياسي للمستبد بأمره السابق والمساندين له والمناهضين للإصلاح والتغيير وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية العراقية، إضافة غلى اختلافكم معه في المسالة المبدئية/ مسألة ولاية الفقيه. وقد كلف المرشد الإيراني شخصية دينية ليكون وكيلاً له بالنجف، وهو مخالف كلية لوجودكم ووجود أربعة من شيوخ الدين الكبار والبارزين بالنجف وحدها.
حين أزيح رئيس الوزراء السابق من منصبه ومراكزه السياسة الكثيرة اعتلى الحكم أحد قادة نفس الحزب ولم يفعل شيئاً لسنة كاملة رغم القسم الذي أداه حين تسلم رئاسة الوزراء برفض الطائفية وإجراء إصلاحات مهمة. ولكن وبعد بدء الحراك الشعبي ومظاهرات أيام الجمعة المطالبة بالإصلاح، سارعتم إلى تأييدها عبر وكيلكم بكربلاء عبد المهدي الكربلائي، مما دفع برئيس الوزراء إلى تأييدها وإصدار مجموعة من القرارات غير المدروسة، رغم فائدتها. وجاء الموقف متأخراً جداً، إذ كان الخراب قد عم البلاد وأصبح الفساد سائداً وكذا الإرهاب والتعرض لأتباع الديانات الأخرى، وخاصة ضد المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين على سبيل المثال لا الحصر. ولم تنفع خطب الشيخ عبد المهدي الكربلائي المؤيدة لإصلاح وسلطات الدولة الثلاث والدعوة للدولة المدنية في إعطاء الزخم الضروري لرئيس الوزراء، بل تعطل التنفيذ وهوجم من جانب المستبد السابق بأمره ومن غيره من المسؤولين السابقين والحاليين ومن الأحزاب الإسلامية الحاكمة، رغم التأييد الشعبي والعالمي وتأييدكم للإصلاحات الضرورية. ولم يعد رئيس الوزراء قادراً على الاستجابة لكم، بل نفر عنكم، لأنه سافر إلى طهران وعاد منها بفرمان تأييد له من مرشد الثورة بإيران ودعم لسياساته السابقة المناهضة لمصالح الشعب وإسناد للميليشيات السابقة القائمة حتى الآن والتي يقودها عملياً والتي ولاءها للمرشد الأعلى بإيران  وليس لغيره .
أنتم وأنا من جيل واحد، جيل الثلاثينات من القرن الماضي، وأن كان مسار حياتينا الفكرية قد اتخذ مسارين أو اتجاهين مختلفين. خبرنا الحياة العملية وعشنا التحولات المأساوية والكارثية والمصائب التي نزلت على رأس العراقيين والعراقيات، كما رافقنا مواقف نخبة من شيوخ الدين الشيعة، ومنهم من كان المسؤول الأول عن الحوزة الدينية في النجف، وأغلبهم تقريباً حاولوا الابتعاد عن التدخل في السياسة وإيلاء الاهتمام كله للجوانب الدينية والاجتماعية، ونجحوا في ذلك، منهم السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني، السيد حسين الطباطبائي القمي، السيد حسين البروجردي والسيد أبو القاسم الخوئي وشيوخ دين غيرهم. وقد استطاعوا التأثير غير المباشر على الأحداث الاجتماعية والوطنية العامة، في حين البعض منهم قد ارتبط بالسلطة واستجاب لما تطلبه منه مثل السيد محسن الحكيم في فترة حكم البعث 1963 حين "أباح!" دم الشيوعيين، في حين رفض السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني تقديم مثل تلك الفتوى البائسة في النصف الثاني من العقد الخامس من القرن الماضي للحكم الملكي ونوري السعيد. إن الابتعاد عن السياسة حصانة لكم ولأتباعكم من أتباع المذهب الشيعي في الإسلام وللمجتمع العراقي بأسره.
إن ما ارجوه منكم هو سحب تأييدكم للأحزاب الإسلامية السياسية والكف عن التدخل بالسياسة باعتباركم مسؤول عن حوزة دينية إسلامية شيعية، وأن تحرّموا دينياً وحقوقياً واجتماعياً التمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أو تهميشها أو إقصائها، وأن ترفضوا استمرار النظام الطائفي السياسي بالعراق والمحاصصة الطائفية التي تلحق أفدح الأضرار بالشعب العراقي وتطوره المنشود، لأن هذا النهج مفرق لوحدة الشعب ومفتتها من الناحية الاجتماعية والثقافية والسياسية، وأن تدعوا إلى إقامة النظام المدني الديمقراطي الذي يرفض تدخل الدين وشيوخ الدين بالسياسة، الذي لا يتعارض مع إدلاء رأيكم الشخصي في ورقة الانتخابات مثلاً وأن تدعون إلى رفض المادة التي تتحدث عن الإسلام باعتباره دين الدولة العراقية، إذ أنكم كشيخ دين تعرفون جيداً بأن الدولة لا دين لها باعتبارها شخصية معنوية لا تمارس أركان أو فروض الدين الخمسة في الإسلام: "الشهادتان والصلاة بالأوقات الخمسة والزكاة والصوم والحج"، في حين أن الإسلام هو دين للفرد الذي يفترض فيه كمسلم أن يمارس هذه الأركان الخمسة, ولهذا فأن الدولة التي لا تمارس كل ذلك وليست قادرة على ممارسة كل ذلك، لأنها شخصية معنية، ليس لها دين. وينطبق هذا على كل الأديان بالعالم. ومن هنا جاءت الحكمة التالية "الدين لله والوطن للجميع".
أتمنى عليكم أن تلعبوا دوركم الديني والاجتماعي في مكافحة الفساد والإرهاب ودعم الفقراء والمعوزين من الناس العراقيين ومن الذين اضطهدوا بأي شكل كان وفي أي عهد من العهود المنصرمة والوقت الحاضر، وأن تكونوا ضد التمييز بكل أشكاله. إن هذا العمل ليس بنشاط سياسي بل نشاط اجتماعي مطلوب من كل فرد عراقي أو أي إنسان عاقل. أتمنى أن تجد رسالتي هذه استجابة منكم لما فيها من أمور وأن تحظى بالعناية والإجابة مع الشكر والتقدير لشخصكم الكريم.
البروفيسور الدكتور كاظم حبيب
8/1/2016   


475
كاظم حبيب
هم ضيف وهم يدبچ على السطح!!!
يزداد عدد اللاجئين القادمين من الدول العربية وشمال أفريقيا إلى أوروبا نتيجة الأحداث المأساوية التي تعيشها شعوب سوريا والعراق وليبيا والیمن على نحو خاص. وأدى قبول المزيد منهم إلى تقليص عدد المهاجرين لأسباب اقتصادية من بعض دول البلقان، بل وأخیراً رفضهم ليتسنى لهم قبول أكبر عدد ممكن من القادمين من المناطق التي تعيش نزاعات وحروب دموية. وقد أدى ارتفاع عدد القادمين خلال العام 2015 إلى انقسام المجتمعات الأوروبية إلى مؤيدين لقبول اللاجئين ومعارضين لقبول هذا العدد الكبير وغير المنقطع منهم. وكانت ألمانيا واحدة من أكثر الدول التي رحبت باللاجئين وتصدت لكل القوى المعارضة لقبولهم. وكان للسيدة انجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، الدور البارز والأساس في فتح أبواب ألمانيا للاجئين من الدول العربية وشمال أفريقيا رغم الاعتراضات التي جوبهت بها من قبل بعض الدول الأوروبية وخاصة هنغاريا وبولونيا والجيك على سبيل المثال لا الحصر، وأكدت إن ألمانيا قادرة على استيعاب وحل المشكلات التي تواجه هذا العدد الكبير من القادمين يومياً.
وخلال الفترة المنصرمة نهضت بألمانيا حركة سياسية مختلطة جمعت بين نازيين جدد ويمينين متطرفين ويمينين شعبوين مناهضين لقبول الأجانب بألمانيا، وخاصة الأجانب المسلمين، بادعاء أن هؤلاء يريدون أسلمة أوروبا والغرب عموماً وألمانيا، وإن الإرهابيين سيدخلون مع اللاجئين ويهددون الأمن والاستقرار بألمانيا وعموم أوروبا. وتفاقمت هذه الحالة في أعقاب الجرائم التي ارتكبت في باريس خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2015 وبكالفورنيا بالولايات المتحدة. وإلى جانب هذه القوى المناهضة للأجانب والمسلمين، تصدى الحزب الاجتماعي المسيحي CSU، وهو الحليف المباشر للحزب الديمقراطي المسيحي   CDUالذي تترأسه السيدة ميركل، ومشارك معه في الحكومة الاتحادية مع الحزب الاشتراكي الألماني  SPDلقبول المزيد من الأجانب ودعا إلى تحديد سقف أعلى رفضته ميركل والحزب الاشتراكي. وهو موقف فكري وسياسي يميني وشعبوي يهدف إلى كسب المزيد من الألمان المناهضين لقبول المزيد من اللاجئين إلى جانبه في الانتخابات القادمة، وخاصة في مقطعة بافاريا.
لقد كانت مشاهد الغرق والموت للأطفال والنساء والشباب في عمق البحار أو في الشاحنات المغلقة أو في الصحاري سبباً إضافياً في تسريع عملية قبول اللاجئين بأوروبا، ومنها ألمانيا حيث بلغ عدد طالبي اللجوء أكثر من مليون إنسان حتى الآن والحبل على الجرار.
لم تعرف أوروبا طوال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية نزوحا ولجوءاً من أي منطقة بالعالم كما هو حاصل الآن من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبعض دول البلقان مثل ألبانيا وكوسوفو. ولا شك في أن السياسات الغربية عموماً والأمريكية على نحو خاص لها ضلع كبير وأساسي في ما يحصل في هذه المنطقة من العالم ودورها في دعم الأنظمة الاستبدادية والرجعية وفي تنشيط الفكر الديني والطائفي الذي أجج وما يزال يؤجج الصراعات والنزاعات الدينية والطائفية والأثنية بالمنطقة، إضافة لبيعها المزيد من السلاح الحديث وعدم الجدية في حل مشكلات شعوب هذه المنطقة.
في عيد رأس السنة الميلادية لهذا العام تجمع ما يقرب من 500 شخص عربي من شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط في الساحة المقابلة لمحطة قطار مدينة كولون، ثم التحق بهم 500 عربي آخر وبدأوا التحرش بالنساء والإساءة لهن وضربهن وسرقة محافظهن بصورة دنيئة ومحاولة اغتصابهن، وهي حالة غير مسبوقة بألمانيا. كما بدأت أعداد أخرى في نهاية الأسبوع وفي محطة قطار كولون أيضاً التحرش بالنساء، مما دفع الشرطة إلى اعتقال خمسة أشخاص مشتبه بهم. وقدمت أكثر من 90 دعوى تحرش وسرقة ضد هؤلاء الأجانب حتى الآن. وشكلت شرطة كولون لجنة خاصة لمتابعة أولئك الذين تحرشوا بالنساء وسرقوهن وأساءوا المعاملة أو حاولوا اغتصابهن. وقد تصدرت الصحف الألمانية ونشرات الأخبار التلفزيونية والإذاعات تقارير تشير إلى تفاصيل الاعتداء الذي شوه سمعة العرب على نحو خاص في هذه المدينة وعلى صعيد ألمانيا وأوروبا. إنها أفعال تعبر عن مستوى حضاري متدني شرس وغير أنساني ويشوه سمع كل العرب ويعطي المزيد من الذرائع للذين يرفضون قبول اللاجئين بألمانيا.
إن من واجب العرب وكل الأجانب بألمانيا إدانة هذه الأفعال الدنيئة وشجبها والمطالبة بمحاسبة الفاعلين وإنزال العقاب العادل بهم، لأنها ليست من خلق وأعراف وعادات وتقاليد الضيف، وهي تسيء بشكل كبير للجميع دون استثناء وتساهم في تشجيع المطالبة بإيقاف الهجرة واللجوء إلى ألمانيا وأوروبا.
ويشير العرب الذين يعملون في الترجمة مع المؤسسات الحكومية الألمانية المختصة بشؤون اللاجئين إلى أن سلوك وطريقة تعامل جمهرة غير قليلة من اللاجئين غير ودية وغير طبيعية، إذ يطرحون مطالب غير معقولة وغير ممكنة التحقيق وكأنهم قادمون للنزهة وليس هروباً من واقع مرير وحروب شعواء كانت تهدد حياتهم. فهم يؤكدون بأنهم جاءوا للحصول على المال كلاجئين ولا يريدون العمل ولا تعلم اللغة الألمانية! إنهم بذلك لا يسهلون مهمة القوى والعناصر الساعية إلى قبول أكبر عدد ممكن من اللاجئين بألمانيا ويضيفون أسباباً أخرى بيد المناهضين للجوء واللاجئين.     
       

476
كاظم حبيب
الاستبداد والقسوة بالعراق
قال الحجاج بن يوسف الثقفي بالعراق  وبشأن العراقيين ما يلي: "... إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها... وإني لصاحبها...".             
وقال صدام حسين بالعراق وبشأن العراقيين ما يلي:
 " كل واحد يقف ضد الثورة, سواء أكان واحداً أم ألف أم ألفين أم ثلاثة ألاف أم عشرة ألاف أقطع رؤوسهم بدون أن ترتجف شعرة واحدة في بدني أو أحس رجفة في قلبي ...".
[[جاء هذا في حديث لصدام حسين أمام مجلس قيادة الثورة ببغداد وتحدث بالعامية العراقية وكانت كما يلي: "كل واحد يقف ضد الثورة .. يصير واحد, يصير ألف, يصير ألفين, يصير عشرة ألاف آکصگص روسهم بدون ما ترتجف شعرة واحدة مني أو يرجف کلبي عليهم, وعندي كلب بلا مبالغة لو دست بالخطأ على نملة  أحس بالألم يدگ بگلبي. ولكن هيچی نوع من البشر شکثر ما یکون عددهم ما ياخذون من کلبي أي اهتمام أو رقة. لازم كل واحد يقف ضد الثورة يشعر تلاحقه الأشباح وتلاحقه حتى هو بالنوم وحتى لو تصور نفسه أنه محفوظ بقاصة آمنة... واللي من صفوف الأعداء يموت بالتحقيق ... ما له قيمة ... اللي يطلع مكسر واللي يطلع يلك بجراحه واللي يندفن ويخيس ما نحس بالألم, ونحس بالألم بأي خسارة في صفوف الخيرين. راجع فيلم "الصنم" أذيع من المحطة الفضائية العربية بتاريخ 13/6/2004. ]]
وقال نوري المالكي ما يلي:  "الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد هاهم موجودين، والحسين باللون الآخر ما يزال موجوداً، هو الذي استحدث من قبل هؤلاء الطغاة. إذن أنصار يزيد وأنصار الحسين مرة أخرى وعلى طول الخط يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة، وهذا يعطينا رؤية بأن الجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنته بعد". وهذا يعني إن الصراع بين الشيعة ولسنة لم ينته بعد!  [[جاء هذا في خطبة لنوري المالكي في كربلاء لتشديد الصراع بين الشيعة والسنة لا على مستوى الحكم بل وعلى مستوى الشعب. ]]
أما الكلمة الثانية فجاءت في خطبة له في ندوة للعشائر الشيعية العراقية.                                                                 
وقال أيضاً على أثر مطالبته بعدم تخلي الشيعة عن السلطة:
"هو يكدر واحد ياخذها حتى ننطيها بعد".
 
تشير كثرة من الدراسات التي تبحث في شؤون العراق الحديث, كما يتناقل بنات وأبناء الشعب العراقي في الداخل والخارج, إضافة إلى ترديد كثرة من الأوساط بالبلدان العربية والدول المجاورة وعلى الصعيد الدولي, أحكاماً مسبقة وقاطعةً وكأنها حقائق ثابتة وحالة لا يمكن الخلاص منها ولا يراد أو ينفع الحوار بشأنها, وهي تؤكد الموضوعة التالية:
يتميز الشعب العراقي عموماً بالقسوة والشراسة والتطرف والعنف في التعامل في ما بينه ومع الآخرين. وأن هذه الميزة ثابتة لديه منذ القدم, وهي التي تنتج الاستبداد من جانب الدولة إزاء المجتمع. وهذه الخصائص لا تزال قائمة وتتجلى في أفعال الفرد والمجتمع إزاء الأحداث التي يمر بها وردود فعله نحوها وطريقة تعامله معها. وهي تتجلى لا في الممارسة اليومية فحسب, بل وفي التشريعات التي عرفها العراق القديم حتى يومنا هذا, وخاصة تلك القوانين العقابية التي تنص على أحكام وعقوبات قاسية جداً بحق المخالف أو الجاني لا تتناسب مع طبيعة تلك المخالفة أو الجناية التي ارتكبها الفرد. وتدخل ضمن تلك العقوبات مختلف صيغ الإهانة والإساءة أو أشكال التعذيب الجسدي والنفسي وأساليب القتل والتمثيل بالقتيل واضطهاد أفراد عائلته. وتشير أيضاً إلى جرائم القتل التي ارتكبت على مدى تاريخ العراق القديم والإسلامي والحديث, ومنها المذابح التي نظمها القادة العسكريون أثناء الفتح الإسلامي الأول ومن ثم الأمويون والعباسيون والمغول والدويلات التي نشأت بعد المغول حتى الاحتلال العثماني للعراق, ثم العثمانيون والفرس والمماليك وقوات الاحتلال البريطاني والحكم الملكي والحكم الجمهوري, بما فيها وقائع سحل بعض المسؤولين التي حصلت ببغداد في أعقاب ثورة تموز عام 1958, أو أحداث الموصل وكركوك, إضافة إلى ما جرى ويجري بالعراق منذ عدة عقود من اعتقال وسجن وتعذيب وتهجير قسري وقتل وتذبيح للسكان الأبرياء بإقليم كردستان العراق, وبشكل خاص مذابح عمليات الأنفال واستخدام الأسلحة الكيميائية بحلبچة, أو عمليات الإعدام الواسعة والجماعية لقوى المعارضة العراقية من مختلف التيارات الفكرية والسياسية في السجون والمعتقلات العراقية خلال السنوات التي أعقبت انقلاب شباط/فبراير عام 1963 حتى سقوط النظام الاستبدادي, أو القتل الواسع النطاق الذي قامت به أجهزة الحكم الأمنية والقوات الخاصة ضد المنتفضين في الوسط والجنوب وبكردستان العراق في ربيع عام 1991, وإجبار مئات الآلاف من المواطنين الكُرد على المسيرة المليونية إلى تركيا وإيران هروباً من بطش النظام الصدّامي ودمويته, أو ملاحقة القوات العراقية لعشرات ألاف الهاربين بعد الانتفاضة من الوسط والجنوب إلى السعودية, أو ما جرى في أعقاب سقوط النظام وبروز مجموعات إرهابية همها إثارة الفوضى وعدم الاستقرار وقتل الأبرياء أو إشعال الحرائق والتخريب وما إلى ذلك. يضاف إلى ذلك جرائم القتل والتعذيب أثناء عمليات التطهير العنصري ضد الكرد الفيلية وعرب وسط وجنوب العراق, باعتبارهم من أصل إيراني أو تبعية إيرانية. كما تشير هذه الموضوعة إلى واقع أن القسم الأعظم من ملوك وحكام وادي الرافدين قد قتلوا بصيغ شتى, ونادراً من مات منهم موتاً طبيعياً. كما تشير أحداث العراق في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدَّامية من قتل على الهوية أو قتل وتشريد لأبناء الديانات الأخرى من مسيحيين وصابئة مندائيين وإيزيديين من جانب المليشيات الطائفية الشيعية والسنية المسلحة في سائر أنحاء العراق. وأخيراً الجرائم البشعة التي ارتكبت بمحافظة نينوى في أعقاب اجتياح الموصل من قبل عصابات داعش الإرهابية التي يقودها عراقيون إسلاميون سياسيون وبعثيون من أيتام صدام حسين وعزت الدوري، إضافة إلى ممارسات الحكم العراقي بقيادة نوري المالكي ضد المظاهرات التي كانت تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد وتوفير الخدمات لأبناء وبنات الشعب العراقي وممارسته الأجهزة الأمنية وقوى سوداء غير معروفة! لأساليب الاغتيال بصيغ مختلف، وكذلك ممارسة الاعتقال الكيفي والتعذيب في المعتقلات العراقية في فترة نوري المالكي والتي ما تزال تمارسها أجهزة الأمن الحالية ضد المتظاهرين في أيام الجمعة ببغداد والمدن العراقية الأخرى والمطالبين بالحقوق المدنية ومكافحة الفساد والمفسدين والإرهاب والطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية التي تمارس في جميع أجهزة وأفعال السلطات الثلاث العراقية. وتشير المعلومات إلى إن عددَ من قتل في هذه الفترة وبسبب المظاهرات في كل من البصرة والكوت والناصرية خلال الأشهر الأخيرة 8 أشخاص هم: 
حسين الحلفي
خالد العكيلي
ماجد سعد
حيدر العلواني
الشيخ صبيح الكرموشي
مسلم هيثم الركابي
وليد سعيد الطائي
حيدر غازي الربيعي       
كما أن متظاهري بغداد الذين اعتقلوا أصدروا البيان التالي:
"أكثر من يوم مضى على الاعتداء الإجرامي الذي رافق عملية التصدي للمتظاهرين واعتقالهم قريبا من بوابة المنطقة الخضراء رقم ٣ في كرادة مريم، واذ لم يكلف "ممثلو الشعب" أنفسهم عناء حماية المتظاهرين وشجب اعتداءات قوى مسلحة مسعورة تعمل تحت عنوان القوات المسلحة، ولم يعملوا على تعليق عضويتهم في مجلسهم. كذلك لم يكلفوا أنفسهم التعليق على ما جرى، فإننا نحملهم قبل سواهم مغبة هذا التجاهل المشبوه. لقد زعمت السلطة التنفيذية أنها شرعت بتحقيق في حادثة الاعتداء الهمجي على متظاهرينا السلميين، لكننا لم نلمس فعلا واضحا، إذ لم يتم الاستماع إلى أقوال الضحايا أو تدوينها ما يشير إلى محاولة واضحة للتسويف و"لفلفة" التحقيق.  وعليه نطالب بإصرار بالكشف علانية عن نتيجة التحقيق ومجرياته خلال ٤٨ ساعة اعتبارا من هذه الساعة، وإلا فإننا مضطرون لاتخاذ ما نراه مناسبا لحماية حقوقنا الدستورية وفق القانون" 19/11/2015.
لا شك في أن موضوعة الاستبداد والقسوة تتضمن بعض الحقيقة، إذ إن هناك عملية إعادة إنتاج مجتمعية بالارتباط مع طبيعة علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. إذ أنها تستعرض وقائع تاريخية ثابتة جرت وما تزال تجري بالعراق ولا خلاف عليها. وهي بطبيعة الحال تعبر عن ممارسات تتسم بالقسوة البالغة والعنف المتطرف لا يمكن ولا يجوز نكرانها. ومثل هذه الممارسات انطلقت من مواقع الحكام, سواء أكانوا خلفاء أم ولاة أم حكاماً وملوكاً ورؤساء جمهوريات أم قادة عسكريين, أم رؤساء قبائل وعشائر أم قوات احتلال أجنبية, لا يجوز نكرانها. ولكن هذه الموضوعة تتضمن في الوقت نفسه أحكاماً قاطعةً موجهة إزاء شعب بأكمله لا يمكن قبولها كما هي, بل يفترض مناقشتها والتحري عن العوامل الكامنة وراء ظهورها أو الأسباب المحركة أو الدافعة لها. وتشير الكثير من الوقائع الحياتية إلى أن الغالبية العظمى من الذكور بالعراق أصبحت تؤمن بهذه الأحكام وكأنها حقيقة ثابتة وترددها دون انقطاع وتنعكس في كتاباتها ونقاشاتها, سواء تم ذلك عن وعي أم دون وعي منها، بما تنطوي عليه هذه الأحكام وما تحمله من مضامين وعواقب. وهي تحرم المجتمع من التحري عن الأسباب الكامنة وراء ذلك من جهة, وسبل معالجتها من جهة أخرى, إذ أن البعض الكثير لا يعتقد بإمكانية معالجة هذه الظاهرة أصلاً, باعتبارها جزءاً من طبع العراقيين الثابت. ويبدو أن هذا البعض الكثير يقرر سلفاً, أو يعطي الانطباع على الأقل, وكأن العراقيين, نساء ورجالا, حالما يولدون يحملون معهم "وراثياً" جينات القسوة والشراسة والتطرف والعنف والسادية المرضية, وأنهم بسبب ذلك غير قادرين على الخلاص منها واستبدالها بجينات الرحمة والهدوء والاعتدال والدفء وعدم التطرف في التعامل في ما بينهم أو مع الآخرين. فهو بهذا المعنى قدر العراقيين الحتمي الذي لا فكاك ولا خلاص منه.
ليس سهلاً خوض الحوار بهذا الصدد مع هذا البعض الذي تكرست لديه قناعات بفحوى هذه الموضوعة, إذ أن إزاحة الأحكام المسبقة لدى من يطلق عليهم بـ "الستيريو توب" (النمطيين) صعبة للغاية ولكنها مع ذلك غير مستحيلة. فالوقائع الجارية بالعراق, ورغم سقوط النظام, ما تزال غير مساعدة على خوض حوار عميق وشامل وموضوعي حول هذه الأفكار ومحاولة التحري عن الأساس المادي للظواهر الثابتة منذ قرون كثيرة حتى الآن في السلوك العام لسكان العراق. فالنظام العراقي البعثي الصدَّامي مارس الاستبداد والإرهاب والعنف والقسوة, كما دفع بالناس عنوة إلى ممارسته أيضاً لمواجهة قمعه المتواصل لما يقرب من ثلاثة عقود ونصف, أي حتى سقوطه في التاسع من نيسان/أبريل عام 2003. كما إن الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية مارس الحاكم والمستبد بأمره ومندوب الاحتلال بالعراق بول بريمر سياسات تهدف إلى تكريس الطائفية والصراع الطائفي بالعراق وساهم في توسيع قاعدة الفساد المالي والإداري. وحين تسلمت الأحزاب الطائفية الحكم بالبلاد، مارست الحكم الطائفي السياسي والمحاصصي. وابرز هؤلاء الطائفيون المهووسون بها هو رئيس الوزراء السابق والقائد العام للقوات المسلحة السابق ورئيس حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي ومعه إبراهيم الجعفري وعلي الأديب وغيرهم الكثير من قادة التحالف الوطني الشيعي أو ما يطلق عليه بـ"البيت الشيعي"! كما إن المحتل لم يبخل على العراقيين بممارسة ابشع صنوف الإرهاب والقمع والاغتصاب للرجال والأطفال والنساء في سجن "أبو غيب" والقتل أيضاً. وقد نشر البعض من تلك الفضيحة وما لم ينشر عن سجن أبي غريب أبشع وأكثر هولاً ومراة.
ولكن العراق, وكما أرى, بحاجة ماسة ودون أدنى ريب إلى خوض نقاش علمي وجاد ومتواصل حول هذا الواقع الثابت أو المظاهر الفعلية للقسوة والقمع والعنف في السلوك العام في حياتنا نحن بنات وأبناء العراق, إذ بدون ذلك يصعب علينا التخلص من هذه الظواهر ومن الأساس المادي الذي نمت فيه وتطورت عليه, وأصبحت وكأنها جزء من السلوكية والشخصية العراقية. كما يمكن أن يشارك إلى جانب الباحثين العراقيين في إنجاز أبحاث متخصصة علماء في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والطب النفسي من بلدان عربية وغير عربية لمساعدتنا في فهم هذه الظواهر ومعالجتها. وتتوفر اليوم, وبعد سقوط النظام الدكتاتوري, فرصة محدودة نسبياً، رغم نشاط المليشيات الطائفية المسلحة التي في مقدورها أن تقتل من تشاء من الباحثين في أي لحظة دون أن تخشى العقاب، لإجراء دراسات علمية تطبيقية حول إشكاليات القسوة والعنف والاستبداد في العراق من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والتاريخية, إضافة إلى الجوانب الفكرية والنفسية والعصبية, والتعاون مع مؤسسات البحث في العديد من الدول المتقدمة في مثل هذه البحوث للتعرف الدقيق على العوامل الكامنة وراء هذه الظواهر وسبل التعامل معها ومعالجتها. ولا شك في أن الباحثين الأكاديميين في علم النفس الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح والأستاذ الدكتور فارس كمال نظمي قدما ويقدمان أبحاثاً وكتباً ودراسات ومقالات مهمة في هذا الصدد. كما يمكن العودة إلى دراسات الأستاذ الدكتور إبراهيم الحيدري المهمة في هذا الصدد. وتقدم لنا، على سبيل المثال لا الحصر، مؤلفات الأستاذ الدكتور علي الوردي، حول المجتمع أرضية مفيدة ومهمة في هذا الشأن .
وكما هو معروف فقد أَجَبَر النظام الدكتاتوري الآلاف من العلماء والباحثين من مختلف الاختصاصات على الهجرة إلى مختلف بلدان العالم ونسبة مهمة من هؤلاء العلماء والباحثين تعمل في مجالات ذات أهمية فائقة للمجتمع العراقي, وخاصة في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي ومختلف الفروع الطبية وخاصة في مجال الأعصاب وجمهرة من مثقفي العراق من أدباء وشعراء وكتاب، كما استشهد الكثير منهم بأساليب مختلفة وتحت التعذيب لأنهم لم يخضعوا لإرادة الدكتاتور. وعلماء العراق وباحثوه على بينة جيدة بمعاناة الشعب العراقي خلال العقود المنصرمة لأنها معاناتهم أيضاً, ويمتلكون القدرة العلمية على دراسة ومناقشة هذه المشكلة المعقدة بأبعادها ومستوياتها المختلفة.
كما إن الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية وقيام النظام السياسي الطائفي والمحاصة الطائفية بعد الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق شهدت قتل المئات من العلماء والأطباء والباحثين العلميين والإعلاميين والصحفيين والمناضلين من أجل المجتمع المدني والعلمانية والديمقراطية بالعراق. ورغم ذلك وما نريده لعراق اليوم هو التخلص من قوى الإرهاب التي تحتل جزءاً من أرض الوطن والتي قتلت الآلاف وشردت الملايين من النساء والرجال والأطفال من مناطق سكناهم وسبت واستعبدت وباعت في سوق النخاسة الكثير من النساء والرجال والأطفال من أخواتنا وأخوتنا وأبنائنا الإيزيديين. (راجعوا في هذا الصدد ما تحدثت به المرأة العراقية المناضلة نادية مراد، وهي إيزيدية الديانة، ما عانته من اعتقال وأسر واغتصاب وتعذيب ومن ثمر هروب من عصابات داعش، وقد رشحت لجائزة نوبل من قبل رابطة المرأة العراقية) وكذلك الخلاص من الفساد السائد والإرهابيين والعمليات الإرهابية المستشرية حالياً في البلاد وتحقيق استتباب الأمن والاستقرار السياسي والإحساس بالمسؤولية إزاء الشعب العراقي والموضوعية والصراحة والجرأة في البحث والاستناد إلى الدراسات العلمية, بما فيها الدراسات الانثربولوجية, وإلى الوقائع الفعلية لمعرفة سلوك الإنسان العراقي منذ بدايات وجوده على أرض الرافدين, أو ما هو متوفر عنه من معلومات ومعارف حتى الآن في ضوء نتائج التنقيبات الجارية منذ عقود طويلة. إنها مهمة كبيرة وأملي أن يشارك المزيد من الباحثين, سواء أكانوا من العراقيين أم من غيرهم, وسواء تم ذلك بصورة فردية أم عبر فرق بحثية, للوصول إلى ما يساعد على تقليص وإزالة تلك الظواهر السلبية المكتسبة التي ما نزال نجدها في سلوكنا اليومي نحن العراقيين, أو بتعبير أدق, في سلوك الغالبية العظمى من الشعب العراقي, وخاصة الرجال منهم, سواء كنا في داخل الوطن أم خارجه. إنها مسؤولية الجميع, وخاصة القادرين منهم على البحث العلمي, وكذلك الأحزاب والقوى السياسية والتنظيمات الاجتماعية والمهنية ومعاهد البحث العلمي التطبيقي. وأهمية هذه الدراسة لا تقتصر على المرحلة الحاضرة التي نمر بها اليوم, على أهميتها وتعقيداتها وحساسيتها فحسب, بل ولصالح مستقبل أجيال العراقيات والعراقيين القادمة التي يفترض أن تتخلص تدريجاً من جملة الظواهر التي نتحدث عنها ونبحث فيها.
في كتابي الموسوم "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة", الذي أصدرته في عام 1995, أشرت فيه بوضوح إلى أن في تربية وسلوكية كل إنسان (رجل) عراقي شيء من شخصية وسلوك واستبداد صدام حسين، وبشكل خاص قوى المعارضة حينذاك", وهو ما نكتشفه اليوم أيضاً حتى بعد غياب الدكتاتور، إذ جاء من بعده من لا يختلف عنه كثيراً. وهذه الحقيقة لا تعني بأي حال أن لنا جينات مشتركة, وبالتالي, فنحن نشترك جميعاً في امتلاكنا لجينات الاستبداد والقسوة والعنف والقمع في بنيتنا البيولوجية, بل يعني تماماً أن تربيتنا الذكورية في إطار علاقات الإنتاج الاستغلالية والمتنوعة وعلى مدى قرون وقرون كانت وما تزال تسير على نمط واحد في البيوت والمدارس والأسواق والجوامع والمساجد والصوامع والمجتمع وفي العلاقة بين الإنسان والدولة, ثم عمقت ونقلت ثقافة الاستبداد والعنف والقسوة من جيل إلى آخر. نورد هنا بعض الأمثلة: أم تحاول تنويم طفلها فتسمعه ما يلي:
دلللول ...دلللول
يا الولد يا ابني
عدوك عليل وساكن الچول (الصحراء)
دللول .... دلللول
نام .. يا الولد يا أبني!
[[ المضدر: التراث الشعبي. مجلة. بغداد. العدد الأول. 1999. ص 82. ]] 
إنها لا تنطلق من وجود الأصدقاء والأحبة الذي يحيطون به, بل من وجود عدو بعيد يتربص به يعيش في البراري البعيدة وعليه أن لا يخشاه لأن العدو عليل.
أو دعنا نتابع أغنية وضعها علماء النفس, كما يقول الكاتب خالد الخزرجي, لأطفال المرحلة الابتدائية. والأغنية تقول ما يلي:
      عندي ديچ هالكبرة             (لدي ديك كبير)
كام ينكر عالطبلة    (بدأ ينقر على المنضدة)
جبت الموس وذبحته       (جلبت الشفرة وذبحت)
قدمته لماما وبابا             (قدمته لأمي وأبي)
بابا انطاني هدية             (بابا أعطاني هيدي)
رشاشة وبندقية
حتى أصير .. جندي كبير
أدخل في جيش التحرير
جيش التحرير علمنا
كيف نخدم وطننا
تي تي تا – تي تي تا!
[[المصدر: التراث الشعبي. مجلة بغداد. نفس المصدر السابق. ص 81.]] 
ومنه يبدو بوضوح أن السيد الخزرجي يرى بأن هذه هي الطريقة السليمة في تربية الأطفال. تربيتهم على ذبح الديك بالشفرة أو الحصول على هدية رشاشة وبندقية ليعلمه على القسوة والعنف والقتل, بدلاً من أن يقدم الأب لابنه هدية جميلة تعبر عن الحب والعاطفة الأبوية والزهور والرياحين ...
ويشير بعض الكتاب, وهم كما يبدو لي على حق, إلى أن أساليب الاستبداد والعنف والقسوة لم تمارس وما تزال خلال الفترات المنصرمة من قبل السلطة وحدها, بل مارستها وما تزال تمارسها الجماعات والكتل والقوى والأحزاب السياسية المختلفة إزاء بعضها الآخر, وخاصة أحزاب الإسلام السياسي في ما بينها وضد المجتمع، والتي أدت إلى سقوط الكثير من الضحايا وإلى تفاقم العلاقات الثأرية التي تسير على نهج العين بالعين والسن بالسن, وإلى نشوء علاقات أقل ما يقال عنها أنها غير ودية بين مختلف تلك الفصائل السياسية في الحياة السياسية العراقية على امتداد الفترات المنصرمة, بما فيها في فترة الحكم الوطني الذي بدا في العام 1921.
وفي فترة الحكم الاستبدادي وقعت معارك شرسة بين فصائل الحركة الوطنية العراقية في كردستان العراق في عام 1983, ومنها على سبيل المثال لا الحصر بشت آشان الأولى والثانية, التي راح ضحيتها المئات من المناضلين الشجعان من مختلف الأطراف المشاركة في تلك النزاعات المسلحة، وهي على سبي المثال لا الحصر. وكذلك ما حصل بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في العامين 1995/1996 مثلاً. ولكم أن تتابعوا ما حصل في القتل على الهوية بين المليشيات الشيعية والسنية المسلحة والقتل على الهوية أو الجرائم التي ارتبكت ضد المسيحيين والصابئة المندائيين في الجنوب والوسط وبغداد والموصل وكذلك ضد الإيزيديين...الخ.
ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى إن تاريخ أوروبا هو الآخر كان مليئاً بمظاهر الاستبداد والعنف والقسوة في التعامل مع الأفراد والجماعات وفي شن الحروب الإقليمية المتبادلة في فترة الهيمنة الإقطاعية, أو السياسات التي مارستها في المستعمرات, وخاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. وهنا يستطيع الإنسان أن يعيد إلى الذاكرة الحروب الصليبية ومظالم القرون الوسطى ودور الكنيسة المريع في هذا الشأن, أو نقل مئات الآلاف من السكان الأفارقة, نساء ورجالاً وأطفالاً, من قراهم ومدنهم إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واستعبادهم, أو التعامل الوحشي بين السكان ألأوروبيين في الولايات المتحدة واستراليا مع سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر أو سكان أصل البلاد الأسترالية أبوريجينز Aborigines.         
ويفترض عند البحث في مثل هذه الإشكالية امتلاك الجرأة على طرح أسئلة على أنفسنا والتحري عن إجابات واقعية وموضوعية وصريحة لما جرى ويجري في العراق منذ ألاف السنين حتى الوقت الحاضر والتي تدخل ضمن أفعال الاستبداد والقسوة والقمع والعنف, بما في ذلك عمليات القتل الفردي والجماعي وتدمير حياة الإنسان وبيئته وحضارته ومقومات وجوده وتطوره, ثم التحري عن مستلزمات تغيير هذا الواقع لصالح الإنسان ذاته والمجتمع العراقي والمجتمعات المحيطة به. كما لا بد من تتبع الحضارات التي ساهم بها العراقيون على مرّ التاريخ, بما فيها فترات  الانقطاع الحضاري والأسباب الكامنة وراء وقوعها. أي التعرف على أسباب تلك السلوكيات المتعارضة والتصرفات المتناقضة, تلك الازدواجية الملموسة في الشخصية العراقية التي تتجلى في حياة الناس اليومية: البناء والتدمير, الإنجاب والقتل, تعليم النطق والكلام والإسكات التعسفي أو حتى تُخريس الإنسان, الحب الجارف والكراهية المتطرفة, الجبن والشجاعة, الخوف والجسارة, الحزن القاتل والفرح الهائج, التشاؤم المفرط والتفاؤل السرابي. كما لا بد من تتبع دور الدين منذ العهد السومري في تعزيز جملة من الاتجاهات في هذا الصدد، وبشكل خاص منذ ولوج الدين الإسلامي للعراق عبر الحرب واستعمار عرب الجزيرة العربية من المسلمين لبلاد وادي الرافدين. ومثل هذه الدراسات تحتاج إلى عناية خاصة وبحث متواصل وعدم التسرع في إصدار أحكام مضادة أو التسرع في رفض أحكام صادرة أصلاً بشأن طبيعة العراقيين وتكوينهم البيولوجي أو بنيتهم الاجتماعية والنفسية. أي أن علينا أن نضع كل ذلك على طاولة الفحص والتدقيق بمنهجية علمية ديالكتيكية (جدلية) وبروحية نقدية ورغبة الوصول إلى معرفة الإنسان العراقي في تطوره وتحولاته عبر آلاف السنين. وعند دراسة هذه الظاهرة في المجتمع العراقي يفترض أن نبحث على أساس المقارنة مع الشعوب المجاورة ومع شعوب أخرى بالعالم لمعرفة ما إذا كانت تعاني من ذات الظاهرة وأسبابها, أو وجود تمايز معها على أن تؤخذ طبيعة المرحلة التي يمر بها كل شعب ومستوى تطوره الحضاري وعلاقات الإنتاج السائدة فيه ومستوى تقدم القوى المنتجة أو تخلفها، ومستوى تطور الوعي  الاجتماعي الفردي والجمعي بنظر الاعتبار. ولا يمكن للدراسات الفردية أن تطرح المشكلة بكل أبعادها, في حين تتوفر للمعاهد العلمية إمكانية تشكيل فرق دراسية متعددة الاختصاصات للتعمق والتوسع في دراسة المشكلة بمختلف جوانبها. ويأمل الإنسان أن تكون المحاولات الفردية, التي تنوعت وتعددت في الآونة الأخيرة, بداية محركة صوب حوارات جديدة ودراسات علمية لفرق بحثية لاحقة من قبل معاهد علمية متخصصة. 
إن ما يوجه شعب العراق اليوم يتطلب تكريس الجهود الخيرة لتغيير الواقع الراهن، رفض النظام الطائفي السياسي والمحاصصة الطائفية والفساد والإرهاب، والعمل من أجل إقامة مجتمع مدني علماني ديمقراطي حر ومستقل تُحترم فيه حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب والعقائد الفلسفية والرأي السياسي والاجتماعي.

477

كاظم حبيب
هل توفر الدولة والحكومة العراقية الأمن والحماية والسلام لمسيحيي العراق؟
كل الدلائل التي بين أيدينا تشير إلى أن مسيحيي العراق يعيشون تحت سطوة نظام سياسي طائفي سياسي تسيطر المليشيات الطائفية المسلحة والفاسدة عملياً على الحكم وعلى حياة الناس اليومية وتتصرف بهم كما تشاء دون وازع من ضمير أو رادع حكومي، بل إن هناك في قلب التحالف الحاكم من يدعم ويدفع بهذه المليشيات المسلحة إلى انتهاك حقوق الإنسان وحرياته العامة وحقوقه المكفولة في الدستور العراقي، وأكثر من يتعرض لمثل هذه الانتهاكات الفظة وغير الإنسانية هم بنات وأنباء من يطلق عليهم "الأقليات الدينية". فالحكومة الراهنة التي ادعت وما تزال تدعي بأنها جاءت للإصلاح والتغيير، تراجعت خطوات إلى الوراء، إلى أبعد مما كان يمارسه رئيس الحكومة السابق والمستبد بأمره نوري المالكي في بعض المجالات. فهو لم يمنح سكان العراق عطلة رسمية في عيد الكريسمس، في حين كان عطلة رسمية في العهد الملكي وفي العهود الجمهورية الأربعة السابقة، في حين لم يبادر حيدر العبادي في الجمهورية الخامسة إلى ذلك، وهو أمر ليس محزناً فحسب، بل ويحمل إساءة كبيرة للعيش المشترك والتفاعل والتضامن في ما بين مكونات السكان القومية والدينية والمذهبية. إنها سياسة رثة يرثى لها. ففي الوقت الذي يعيش العراق عطلاً رسمية تصل إلى أكثر من عدة شهور في السنة بمناسبة أعياد وأحزان إسلامية، وأغلبها شيعية غير مبررة أصلاً، ولكن عطلة من يوم أو يومين بمناسبة أعياد الميلاد، أعياد المسيحيين والسلام لا يرى رئيس الحكومة ولا مجلس النواب ضرورة اعتبارها أعيادا واحتفالات وطنية يشارك فيه المسلم والمندائي والإيزيدي والزرادشتي والبهائي أخوته وأخواته المسيحيين والمسيحيات بعيدهم الكبير، عيد الكريسمس. لقد أكد رئيس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم ساكو بهذا الصدد ما يلي: "كنا ننتظر إعلان عيد الميلاد عيدًا رسميًا لجميع العراقيين، كما كان قد سبق أن أعلنه دولة رئيس الوزراء الأسبق وحكومة إقليم كردستان ومحافظ كركوك، لكن يبدو أن هذه المبادرات التي تعزز العيش المشترك والمواطنة وتنشر الأخوة لا تخطر على بالهم".! [المصدر: موقع إيلاف، د. أسامة مهدي، مسيحيو العراق: لا احتفالات ميلاد ولا تحجيب لنسائنا، بتاريخ 23/12/2015].
إن موقف رئيس الحكومة العراقية إزاء أعياد المسيحيين يجسد وعياً طائفياً سياسياً مقيتاً لا يمكن تحمله، يشاركه في ذلك كل حكام العراق الذين امتنعوا عن اعتبار أيام هذا العيد عطلة رسمية للجميع. ولكن الأحزاب الإسلامية السياسية وعبر حكامها لا تكتفي بذلك، بل بدأت تجيش مليشياتها الشيعية المسلحة والمتوحشة لتدعوا المسيحيات ببغداد إلى ارتداء الحجاب، بذريعة بائسة هي أن السيد مريم العذراء كانت ترتدي الحجاب، وهي الخطوة الأولى على طريق فرض الحجاب على النساء المسيحيات، وهو الذي أدانه رئيس الكنيسة الكلدانية بالعراق والعالم السيد ساكو حين أكد ما يلي: "إن المسيحيين في بغداد فوجئوا يوم الأحد 13 كانون الأول الحالي بقيام بعض المجاميع في أحياء الكرادة والغدير وزيونة (في بغداد) بتثبيت ملصقات على جدران بيوتهم (المقصود هنا بيوت المسيحيين) تحمل صورة العذراء مريم وتدعو المسيحيات إلى ارتداء الحجاب دون أن يفكروا إن ذلك كان قبل ألفي عام وان الحجاب الحقيقي هو حجاب العقل والأخلاق". [المصدر السابق].
إننا إذ نشجب هذه الأفعال الدنيئة التي تمارسها بعض المليشيات الطائفية المسلحة ببغداد والتي يمكن أن تتسع لتشمل أينما وجد مسيحيات بالعراق ونطالب بإيقافها الفوري واعتقال الفاعلين وتقديمهم للمحاكمة بسبب انتهاكهم الدستور العراقي الذي يؤكد حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وحقوق أتباع الديانات والمذاهب في ممارسة عباداتهم وطقوسهم وعاداتهم بكل حرية وأمن، وإن على الحكومة العراقية أن توفر الحماية لهم والأمن والاستقرار، فهم أبناء وبنات هذا البلد المستباح.
إن إدراك وجود مؤامرة خبيثة وتدميرية للحمة الشعب العراقي ضد أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام، وخاصة تهجير المسيحيين والمندائيين وإيزيديي محافظة نينوى من العراق وإفراغ العراق منهم، وإذ نطالب الحكومة العراقية والأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمنظمات الحقوقية بالعالم لشجب هذه السياسة وهذه الإجراءات المعادية لحقوق المسيحيين وبقية أتباع الديانات والمذاهب، ندعو الشعب العراقي إلى رفض وإدانة وشجب ومقاومة هذه السياسة بكل السبل التي يتيحها الدستور العراقي والقوانين العراقية ولائحة حقوق الإنسان وبقية المواثيق والعهود الدولية التي وقع عليها العراق.
إنها دعوة لمقاومة هذا الاتجاه الخطر بتوفير الحماية الكاملة لمسيحيي العراق وأتباع بقية الديانات والمذاهب الذين يتعرضون لما تعرض له المسيحيون والصابئة المندائيون والإيزيديون حتى الآن.
إن من واجبنا أن نقف سداً منيعاً بوجه تلك الفئات الرثة الحاملة للسلاح والعتاد وجواز مرور ممن يحكم العراق فعلاً تعتدي على من تشاء دون عقاب. وأشار الدكتور سامي مهدي نقلاً عن السيد ساكو قوله: "أكد أن بيوت المسيحيين في بغداد أصبحت عرضة لسطو مافيات تزور السندات وتسلب أموالهم، كما حدث قبل أيام لعائلة مسيحية في شارع فلسطين بوضح النهار.. وأشار إلى أن النازحين المسيحيين يعيشون منذ سنة ونصف السنة ظروفًا قاسية في مخيمات من دون عناية تذكر سوى رعاية الكنيسة ومنظمات المجتمع المدني". [المصدر السابق نفسه]
إن الجواب عن تساؤل عنوان المقال يؤكد بأن الدولة والحكومة غير مهتمتين أصلاً بتوفير الحماية للمسيحيين أو لبقية أتباع الديانات وإلا لما حصل ما حصل حتى الآن بالعراق، ولهذا لا بد من تنظيم حملة وطنية لمواجهة هذا الوضع المزري والخطير لأبناء وبنات وطننا من أتباع الديانات العديدة بالعراق.
   


478
كاظم حبيب
العراق تتقاذفه الإرادات والأجندات الأجنبية!
عند متابعة السياسات العراقية الداخلية منها والخارجية سيجد الباحث نفسه أمام صورة كاريكاتورية مفزعة ومحزنة وغير مسؤولة. فالإرادات الشريرة للدول الأجنبية، تلعب بالعراق وسياساته وكأنها طيارة ورقية خيوطها بيد تلك الدول التي تحركها بالاتجاه الذي تريده وكأنها المالك لهذه الأرض الطيبة والسيد على شعبها المستباح بالطائفية السياسية والإرهاب الدموي والاحتلال لجزء عزيز من أرضه وشعبه. الأجندات الخارجية المناهضة لمصالح العراق وسيادته الوطنية واستقلال قراراته السياسية والاقتصادية هي الحاكمة والفاعلة بالعراق عبر اللوبي التابع لكل منها، كما إن اللوبيين بالعراق كثيرون وموزعون على الكثير من الأحزاب والقوى ومنظمات المجتمع المدني وميليشيات طائفية مسلحة كلها لا تعمل لصالح العراق وشعبه، بل لصالح ومصالح السعودية أو إيران أو تركيا أو قطر أو بعض دول الخليج الأخرى أو مصر أو الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا، والأخيرة هي الدولة الأقل حظاً وتأثيراً على العراق وسياساته. والعالم يواجه اليوم دولة مشتتةً، وهي موزعةً، دون رحمة أو حس وطني بحقوق الشعب العراق وإرادته ومصالحه، على تلك الدول التي تتقاذف العراق لكل الاتجاهات وليس هناك من استقرار على قرار.
يكفي أن يلقي الإنسان نظرة على مسألتين هما دخول القوات التركية إلى العراق سيجد: ضج البعض وسكت البعض الآخر أو فتش كالجرذان على مبررات الاجتياح التركي. أو إلقاء نظرة على الحلف الذي صنعته المملكة السعودية ببعد أيديولوجي "سني" لا يجمع الجميع بل يفرق ويتخندق، حاز على رضا البعض ورفضه البعض الآخر وفتش البعض الآخر كالفئران عن مبررات لهذا الحلف. مثل هذا الاختلاف أمر ممكن حين لا يمس العراق وسيادته ومصالحه، ولكن لا يجوز بالدولة الواحدة أكثر من موقف في هذا المجال. ولكن هذا الموقف الموحد غائب عن العراق كدولة وحكومة ومجلس نواب وأغلب الأحزاب السياسية العراقية، وخاصة تلك الأحزاب والمنظمات ذات النهج الديني والطائفي السياسي المتصارعة لا على مصالح العراق بل على ثلاثة أهداف مركزية ذاتية، السلطة والمال والنفوذ لتحقيق مأربها. وهذا السلوك يشمل الأحزاب السياسية العربية والكردية. ويمكن متابعة الموقف بين الحزبين الشقيقين المتصارعين دوماً، رغم أنهما من رحم واحد، ولكنهما يتخذان موقفين مختلفين جداً من العدوان التركي على العراق ونفوذه الواسع بالإقليم، ومن إيران ذات النفوذ والتأثير والوجود المتفاقم بالعراق كله، بما في ذلك الإقليم.   
المشكلة المركزية بالعراق تتلخص بسيادة الحكم الطائفي السياسي والمحاصصة الطائفية والأثنية في توزيع سلطات الدولة العراقية الثلاث وأجهزتها كافة والإعلام. وهي الكارثة التي تركها الاحتلال الأمريكي للعراق، وكان يدرك تماماً بأنها "القشة" المطلوبة لتقصم ظهر الوحدة العراقية، وحدة الشعب والوطن، وهو ما حصل فعلاً! والعراق مبتلى بوزير خارجية يزيد من ضعف العراق دولياً.
لو حاولنا تتبع دور وزير خارجية العراق ونشاطه، وهو "عبقري!" بامتياز، وهو الذي يمثل وجه العراق نحو الخارج، لأدركنا جميعاً مدى سوءات هذا الوجه وعمق الكارثة التي يعاني منها الوطن والعواقب الوخيمة المترتبة على وجوده في هذه الوزارة الحساسة، رغم إنه يمثل نموذجاً لمجلس الوزراء والسياسة العراقية البائسة التي لن تنقذ العراق من محنته وأزماته والمآسي التي سقط فيها ولن تقود إلى الإصلاح والتغيير، إنها الطائفية وعواقبها وسيادة الفساد والإرهاب. الروائي والإعلامي زهير الجزائري قدم "ست نصائح" مخلصة إلى وزير الخارجية "المفدى!" بعنوان "ست نصائح إلى الجعفري": 
"أولاً - اذهب في زمالةٍ لط...هران لتعلم دبلوماسية الموقف الصلب والنفس الطويل . ثانيا ً- تعلّم اللغة الانكليزية التي لم تتعلمها خلال عقود من إقامتك في لندن. ثالثا ً- كرّس جزءاً من وقتك للاستماع ولا تفرط بوقت لقاءاتك لإلقاء مواعظ خارج الصدد". رابعا ً- انزل من عليائك قليلا، وتعرّف على جغرافية بلدك قبل أن تتحدث عنه .خامسا ً- تعلّم فن الابتسامة، فحتى العباقرة يبتسمون". سادسا ً- "بدلا من كل هذا التعب، لم لا تترك الوزارة وترجع للمنبر؟ ما برأيكم ما هي أفضل نصيحة من النصائح " أعلاه ؟؟؟". وجواباً على استفساره كتبت: الأفضل له وللجميع أن يذهب إلى البيت ويخلصنا من شره ومن "فلسفته" الرثة!! حتى للمنبر فهو غير نافع، إنه سيُضحك الناس عليه بدلاً من البكاء، كما هو المطلوب من هذه المنابر ودورها!!         
تصوروا أن في مجلس الوزراء العراقي رجل مثل هذا حيث تُقدم له نصائح رائعة يتمنى الإنسان لو استجاب لنصيحتي أولاً وقبل كل شيء، ولكنه غير مستعد لذلك حتى الآن!.
لا يمكن للعراق أن يتخلص من هذه السياسات الخارجية ومن تأثير تلك الدول ما لم يغير نهجه بالكامل ويتخلص من الطائفية في الفكر والسياسة ومن المحاصصة الطائفية والأثنية التي ألحقت أفدح الأضرار بالعراق وشعبه ومصالحه حالياً ولفترة طويلة قادمة. لا يتخلص العراق ما لم يتم الفصل بين الدين والدولة وبين الدين والسياسية، إنه الطريق الوحيد لبناء مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعقلاني. إن التغيير هو قدر العراق المطلوب، وهي مهمة الشعب، كل الشعب، وقواه الوطنية الملتزمة بمبادئ الحرية والأخوة والمساواة، بالديمقراطية والتقدم الاجتماعي والسلام والعدالة الاجتماعية. والنظام الطائفي السياسي الحالي غير قادر على ذلك بالقطع! 


479
عيد ميلاد سعيد وسنة ميلادية جديدة، ونحن نقترب من عام 2015 المليء بالمآسي والكوارث والدماء لشعب العراق، بالصحة والعافية والسلامة لمسيحيي العراق وبقية أتباع الديانات والمذاهب والقوميات
لتندحر قوى الظلام والقتل والتدمير والمليشيات الطائفية المسلحة ولينتصر السلام بالعراق
لتندحر الطائفية السياسية والتمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب والقوميات والمرأة بالعراق
لتنتصر إرادة الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة.
ليندحر الإرهاب والفساد ونهب خيرات وتراث العراق الحضاري ولتنتصر مبادئ الحرية والمساواة والأخوة والعدالة الاجتماعية

 

أرجو لكم جميعاً حياة هانئة وسعيدة وعودة حميدة إلى الوطن لمن أجبر على تركه ولم يغرق في البحر الأبيض المتوسط أو لم يمت في الصحراء أو في سيارات الشحن المغلقة
أخوكم في الإنسانية كاظم حبيب    كانون الأول/ ديسمبر 2015





480
كاظم حبيب
رأي في مقال الأستاذ أحمد الصراف "المسلمون وترامب وزوكربيرغ
نشر الكاتب الكويتي المميز الأستاذ أحمد الصراف مقالاً بعنوان "المسلمون وترامب وزوكربيرغ" في جريدة القبس الكويتية بتاريخ 14/12/2015 انتقد فيه بشكل سليم تصريحات أحد مرشحي الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب المناهضة لحقوق الإنسان التي أكد فيها منعه للمسلمين جميعاً من دخول الولايات المتحدة إذا ما انتصر في الانتخابات على منافسيه في العام 2016. جاءت هذه التصريحات مناقضة للدستور الأمريكي وحقوق المواطنة الأمريكية، إذ أكد بأنه سيمنع حتى مواطني الولايات المتحدة المسلمين من العودة إلى الولايات المتحدة إن كانوا موجودين بالخارج. ولا شك في أن هذه التصريحات تصب في محاولة تافهة لكسب اليمين واليمين المتطرف واللوبي اليهودي بالولايات المتحدة لصالح التصويت له، إضافة إلى سعيه لكسب تأييد إسرائيل لجانبه. إن تصريحات ترامب تجسد من حيث الفكر والممارسة الرؤية السياسية والاجتماعية العنصرية. وهنا يقارن الصراف بين تصريحات هذا الملياردير العنصري التافه، والكلمة الإنسانية التي وجهها  الملياردير الأمريكي مارك زوكربيرغ باتجاه مسلمي العالم.
وفي جانب آخر من مقال الكاتب الصراف يجلب انتباه القارئات إلى المخاطر الجسيمة التي آذت العالم والناجمة " من تصرفات بعض أبنائهم (المسلمين، ك. حبيب)، إن نتيجة سوء التدريس والتربية، وليس فقط غض نظرهم عن أنشطة الأحزاب الدينية المتطرفة لديهم، بل وفي أحيان كثيرة رعاية تلك الأحزاب، وحتى تسليمها مفاصل حكومية مهمة، مع علم تلك الدول الإسلامية بما تضمره تلك الأحزاب من رغبة في فرض أجندتها الدينية، حتى لو أدى ذلك لحرق العالم من حولها، فالنصوص الدينية، حسب تفسيرها، تسمح لها بذلك".
مع صواب كل ما ذكر في أعلاه، فأن المقال يبعد عن نهج وسياسات الدول والحكومات في العديد من الدول العربية مسؤوليتها بالأساس عن كل ما حصل ويحصل من إرهاب أسود. إن هذا الموقف غير دقيق في ضوء الكم الهائل من المعلومات الموثقة التي تشير إلى تورط العديد من الدول العربية، وليس أفراداً أو بعض أبناء المسلمين، في ما جرى ويجري في العالم منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود. فليس هناك أفراداً وتنظيمات تمارس الإرهاب الإسلامي السياسي المتطرف فحسب، بل إن هناك دولاً عديدة تمارس وترعى الإرهاب وتموله وتمده بما يساعد على استمرار العمليات الإرهابية في أنحاء كثيرة من العالم. وأحمد الصراف، وهو ابن الخليج، يعرف جيداً أن دولاً خليجية مثل السعودية وقطر، إضافة إلى شخصيات وقوى وجماعات إسلامية متطرفة في دول الخليج كافة، تساهم في رعاية الإرهاب ودعمه وتمويله. والكاتب الصراف يشير إلى هذه الحقيقة إذ يقول:
"انظروا وتساءلوا معي: ماذا استفاد المسلمون من وجود كل هذا الكم الهائل، والمخيف، من آلاف المعاهد والمدارس الدينية التي عملت دون رقابة ولا إشراف لخمسة عقود ماضية؟ لا شيء. وماذا كان الدور الحقيقي لأكثر من مليوني رجل دين يعملون في الدول الإسلامية في تقدمها واستقرار أوضاعها؟
أختلف في هذا النص المكثف مع الأستاذ الصراف في مسألتين:
الأولى: إن الشعوب المؤمنة بالإسلام ليس فقط لم تستفد من هذه المؤسسات التعليمية، بل إنها خسرت الكثير والكثير جداً بسبب المناهج التعليمية الإسلامية السياسية المتطرفة التي تدرس في تلك المدارس والمعاهد والأكاديميات بالدول العربية وبالدول ذات الأكثرية المسلمة وفي دول أخرى من العالم الغربي. فهذه المدارس أنتجت مئات ألوف الخرجين المتطرفين من مختلف المستويات، ومنهم خرج عشرات ألوف الإرهابيين الموزعين في بقاع الدنيا، كما خسر المسلمون الآلاف المؤلفة من أبنائهم وبناتهم الذين قتلوا على أيدي هؤلاء الإرهابيين، وتدهورت سمعة المسلمين في كل مكان وفقدوا الكثير من تراثهم الحضاري الإنساني وعلاقاتهم بالشعوب الأخرى. إن الدولة السعودية تخرج سنوياً الآلاف المؤلفة من هؤلاء المتطرفين وكذلك باكستان مثلاً. ويكفي أن نتابعهم في أفعالهم الإرهابية في آسيا وأفريقيا وأوروبا والغرب عموماً.
الثانية: إن قول الأستاذ الصراف بعدم وجود رقابة كافية على هذه المعاهد ليس دقيقاً، بل أؤكد بأن هناك رقابة مشددة من جانب الدولة السعودية على تلك المدارس والمعاهد والأكاديميات وعلى مناهج التربية الدينية والتعليم فيها وعلى الهيئات التعليمية. فالذين يدرسون فيها ملتزمون حرفياً بالمناهج المقررة والتي تنبثق من المدرسة الفكرية السلفية المتطرفة، المدرسة الوهابية التي تستند في جوهرها إلى مذهب أحمد بن حنبل وابن تيمية بشكل خاص، إضافة إلى فكر محمد عبد الوهاب السلفي المتطرف والمتخلف والعنيف. فجميع المدارس والمعاهد والأكاديميات القائمة بالسعودية وتلك التي تمولها السعودية في جميع أنحاء العالم مناهضة في تعليمها وتربيتها الدينية لكل الأديان والمذاهب وتدعو إلى تكفير أتباع جميع الديانات والمذاهب، في ما عدا الشريعة الوهابية المتطرفة التي تلتزم بها السعودية وكل القوى المتطرفة المنبثقة عنها بما في ذلك القاعدة وداعش وجبهة النُصرة وغيرها. كما إن هناك مدارس ومعاهد أخرى تلتزم في تعليمها مناهج الإخوان المسلمين، كما بدولة قطر، الذي لا يختلف كثيراً عن المنهج الوهابي، وكلها تنبع من فكر ومذهب الإمام أحمد بن حنبل وأبن تيمية ومحمد عبد الوهاب والشيخ يوسف القرضاوي. 
   

481
كاظم حبيب
السعودية، ينبوع الفكر الإرهابي، تؤسس "تحالفاً إسلامياً" ضد الإرهاب!!
تناقلت وسائل الإعلام العربية والعالمية صباح يوم 15/12/2015 خبر تشكيل تحالف إسلامي عسكري و"فكري" يضم 34 دولة ذات أكثرية مسلمة لمحاربة "الإرهاب الإسلامي السياسي المتطرف" الذي تقوده منظمات إرهابية مثل داعش والقاعدة وجبهة النُصرة وغيرها من المنظمات "الجهادية السلفية" المسلحة. ووجه ولي العهد السعودي ووزير الدفاع محمد بن سلمان الدعوة إلى دول ذات أكثرية مسلمة للانضمام إلى هذا التحالف مثل إندونيسيا. ويؤكد البيان المشترك على ثلاث مسائل:
** تأسيس تحالف إسلامي عسكري وفكري ضد الإرهاب؛ ** تقود المملكة العربية السعودية هذا التحالف، ** وأن الرياض مقر هذا التحالف ومركز عملياته المشتركة للتنسيق ودعم العمليات العسكرية لمحاربة الإرهاب. (قارن: صحيفة فيفاء أونلاين الإلكترونية السعودية بتاريخ 15/12/2015). والسؤال الذي راودني مباشرة هو: هل ستصدق شعوب العالم والمجتمع الدولي بأن المملكة السعودية، التي تعتبر المنبع الفكري والمصدر الفعلي لمناهج التربية الدينية والمربين والممول المالي منذ أربعة عقود لإنشاء وتطوير هذه التنظيمات الإرهابية، ستمارس هذا الدور الذي أعلنه البيان، أي محاربة الإرهاب عسكرياً وفكرياً؟ 
من يستعيد تاريخ العمليات الإرهابية بدءاً من أفغانستان ومرورا بباكستان ودار السلام ونايروبي والولايات المتحدة وأوروبا ولبنان وسوريا والعراق وليبيا وتونس ومصر الصومال ودول أفريقية أخرى، وما حصل فيها من تفجيرات انتحارية وتفجيرات عبوات ناسفة وعربات مفخخة تم بها تفجير سفارات وكنائس وجوامع ومساجد وقتل مئات ألوف البشر في مناطق مختلفة من العالم خلال نيف وثلاثة عقود الأخيرة، سيجد نفسه وجهاً لوجه أمام المملكة العربية السعودية، هذه المملكة القائمة على بحيرة كبيرة من النفط الخام والغاز المصاحب، هذه المملكة التي يعتبر النفط فيها ملكاً للعائلة المالكة وحواشيها وليس للشعب العربي في هذه المملكة الخرافية، هذه المملكة التي تعلم وتخرج سنوياً عشرات الآلاف من الأطفال والشباب من مدارس الفكر التكفيري، الفكر الوهابي الذي يكَّفر جميع الأديان في العالم ويعاديها، ويعتبر الإسلام وحده دين الله الذي على المجتمع البشري كله الإيمان به والالتزام بشريعة الوهابيين.
وقبل فترة غير بعيدة قام أحد الكتاب والمذيعين بإجراء مقارنة جادة بين المدرسة الفكرية الدينية الوهابية والمدرسة الفكرية التي يتبعها تنظيم القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإرهابية بما في ذلك "بوكو حرام" في نيجريا، فوجد بعدم وجود أي تباين بينهما في الفكر والممارسة من حيث أنهما يطبقان معاً أسس الشريعة الوهابية.
النسبة العظمى من قادة قوى الإرهاب الدموي أما من المدرسة الدينية السعودية أم من المؤمنين بفكر الجماعة الوهابية والعاملين على نشر وفرض شرعتها التكفيرية المناهضة لكل الديانات والمذاهب بالعالم على العالم كله. العالم كله غير مقتنع بجدية السعودية على محاربة الفكر الإرهابي، الذي هو فكرها، ولا محاربة الجماعات الإرهابية التي هي من أسسها وتعاون في ذلك مع باكستان وتركيا وقطر ودول وقوى وجماعات وشخصيات "إسلامية مشوهة أخرى". ومحاولة التهريج لهذا التحالف من جانب الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية ينطلق من رغبتها في تلميع الوجه القبيح للدولة السعودية وتحالفها معها وبيعها للسلاح الحديث لها، وهي التي تواجه نقد شعوبها لأنها تتعامل مع دولة تمارس سياسات تتعارض كلية مع جميع بنود لائحة حقوق الإنسان الدولية والوثائق والعهود الدولية كافة الصادرة بشأن شرعة حقوق الإنسان.
من يتابع وضع المملكة السعودية سيجد إنها في محنة وأزمة شديدتين سببتها لها الحرب في اليمين والمساعدات المالية الكبيرة التي تغدقها مع قطر على القوى الإرهابية الفاعلة في سوريا. لقد أسقطت السعودية نفسها في مستنقع الحرب باليمن، التي بدأت تستنزفها وتصيب اقتصادها بالكثير من المشكلات. وقد لقت في الآونة الأخيرة ضربات عسكرية كبيرة من الحوثيين في عقر دارها، مما أجبرها على طلب إيقاف القتال والبدء بالمفاوضات بين طرفي النزاع السياسي باليمن. وهي تفتش عن حلفاء لها، إذ لم يعد التحالف العربي كاف لإنقاذها من هذه الحرب، لهذا توجهت، وبضغط كبير من البيت الأبيض، إلى تشكيل هذا التحالف الإسلامي الفكري والسياسي والعسكري "السني" ضد الحوثيين، باعتبارهم يتمسكون بشريعة تقترب من الفرق الشيعية، ويتعانون مع إيران التي يحكمها المتطرفون الشيعة ويالقوة الغاشمة. إذ إن التحالف الفكري الجديد، الذي نسجته السعودية يحد التأييد الواسع من جانب الإدارة الأمريكية، استبعد إيران والعراق من هذا التحالف، دع عنك سوريا، بل إن التحالف يسعى لإسقاط النظام السوري لا لأنه نظام دكتاتوري بحق، بل لأن الحكم بيد العلويين كما يؤكده السعوديون دوماً ولأنه حليف إيران الشيعية في المنطقة.
إن هذا التحالف سوف لن يغير من حقيقة الدور الفكري والمالي لشيوخ الدين بالمملكة السعودية ولا من دور مناهجها التدريسية في دعم الإرهاب خلال العقود المنصرمة وإعادة إنتاجه الآن وفي المستقبل.
ولكن التخلص من الإرهاب والفكر الديني والمذهبي المتطرف والتكفير يتطلب تغييراً جذرياً لنهج السعودية وسياساتها وتربيتها وإيقاف استخدام أموالها في ترويج الفكر الوهابي جذرياً، وهو ما يعجز عنه النظام السياسي والفكري المتطرف السائد بالسعودية ولدى الحكام السعوديين. إن القضاء على الفكر التكفيري يتطلب تصفية هذا الفكر من منبعه وليس الفروع التي نشأت عنه فقط.

 

482


كاظم حبيب
الأهداف التوسعية لتركيا وإيران بالعراق؟
يخطئ من يعتقد بأن تركيا قد انتهكت حدود العراق الآن وليس قبل أكثر من ثلاثة عقود، ويخطي من يعتقد أنها لم تحصل على موافقات عراقية وإقليمية بذلك، بل وبتأييد أمريكي، بسبب عضويتها في حلف الناتو، ويخطئ من يعتقد أنها جاءت للتصدي لداعش وأخواتها بالعراق أو حتى بسوريا، ويخطئ من يعتقد بأن تركيا خالية من أطماع العودة واحتلال مناطق بعينها من العراق، وبشكل خاص ليس لواء الموصل السابق حسب، بل وكل ولاية الموصل بمكوناتها السابقة (الموصل وكركوك وأربيل والسليمانية). ولذلك ليس من السهل إخراج تركيا من الأرض العراقي، وهو أصعب بكثير من طرد عصابات داعش من العراق. وسبب ذلك يكمن في هشاشة الدولة العراقية وفي ضعف الحكومة وتعدد مراكز الصراع والقرار وبعد الحكومة الواسع جداً عن الشعب ومصالحه وسقوطها في مطب الطائفية السياسة ومحاصصاتها المقيتة المعادية لروح المواطنة والوطن. ولكن سيكون في مقدور العراق التخلص من القوات التركية إن تخلص العراق من القوى والسياسات التي جعلته بهذه الهشاشة والضعف على جميع الأصعدة، وإذا استخدم اللغة الدبلوماسية الواعية والمعبئة للمجتمع الدولي، وخاصة مجلس الأمن الدولي، وليس العنجهية الفارغة والتهديد بالقوة التي لا تؤتي بثمار ناضجة. وإذا ما اتخذت موقف سليم من إيران التي ما انفكت تتدخل وبشراسة ودون حياء بالشأن العراقي الداخلي وتحرك العديد من مراكز القوى التابعة لها، ومنها، رئيس الوزراء السابق ووزير الخارجية الحالي، والمليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. هذا ما أراه حتى الآن.
وبالمقابل يخطئ من يعتقد بأن إيران لا أطماع لها لا بكربلاء والنجف والكاظمية وسامراء فحسب، بل هي طامعة بالعراق كله ليكون ضمن إمبراطورية فارسية "إسلامية!!" جديدة بقيادة خامنئي أو من يحل محل المرشد بعد وفاته، تماماً كما تسعى تركيا إلى استعادة "أمجاد!!" إمبراطوريتها العثمانية الاستعمارية من جديد بقيادة الإخواني اردوغان. ولم يخف الكثير جداً من زعماء إيران هذه الرغبة الجامحة، كما لم يخفها زعماء تركيا.
العراق يعيش اليوم بين فكي الرحى التركي-السعودي من جهة والإيراني من جه أخرى وهما يبذلان جهداً، وهنا الخطر الأكبر، في أن تصبح أوضاع العراق الداخلية على شاكلة الصراعات النزاعات الدموية الجارية منذ ثلاث سنوات بسوريا، بل وسيكون الأمر بالعراق أشد وأقسى وأكثر تدميراً وقتلاً.
إن التحرك التركي والإيراني صوب العراق يعتمد على قوى داخلية مؤيدة لهم ومساندة لتحركالدولتين. فأقطاب عراقية سنية مثل أسامة وأثيل النجيفي وطارق الهاشمي يدفعون بتركيا إلى التدخل بالعراقبذريعة إنقاذهم من حكم الشيعة، وأقطاب شيعية مثل المالكي والجعفري والأديب يدفعون باتجاه تدخل إيران بالعراق لحماية حكمهم بالعراق، وهم وأمثالهم في الطرفين يعتبرون سبب المشاكل بالعراق ومعاناة الناس. كما يجب الإشارة إلى إن الصراع السياسي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة، والاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير من جهة أخرى، يدفع بالاتجاه الخطير ذاته. فالحزب لديمقراطي الكردستاني يحاول أن يستند إلى تركيا ناسياً رغبتها في الهيمنة على "مكونات ولاية الموصل السابقة، في حين يسعى الاتحاد الوطني وحركة التغيير أن يستندا إلى إيران، وهما ينسيان دور إيران التخريبي بالعراق، فلا فرق بالنسبة للمصالح الفارسية الإيرانية بين الشاه وخامنئي. وكل هذه الأطراف على مستوى الإقليم والعراق تتحمل مسؤولة فعليةً عما يجري اليوم بالعراق، شاءت ذلك أم أبت. وهي التي يمكن أن تعرض العراق ومصالح شعب العراق بقومياته العديدة كلها لمخاطر جمة، ولكنها سوف لن تنجو من العواقب التي يمكن أن تحل بالعراق من جراء ذلك، بل ستعاني الأمرين.
إن تركيا الإخوانية والسعودية ذات النهج الوهابي الداعشي في الفكر والسياسة الفعلية وقطر، ذات الفكر الإخواني الإرهابي، تشكل تحالفا سياسياً تحت واجهة مذهبية سنية مشوهة، كانت وما تزال مسؤولة عن تسريب عصابات داعش إلى العراق وسوريا. ولهذا التحالف غطاء أمريكي-أوروبي ما يزال فاعلاً حتى الآن. وفي المقابل تسعى إيران إلى تشكيل تحالف سياسي تحت واجهة مذهبية شيعية مشوهة يضم العراق وسوريا وحزب الله بلبنان وبغطاء روسي، وهي المسؤولة عن تشكيل عشرات المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. إن هذين التحالفين لا يعملان لصالح العراق، بل لتحقيق أهدافهما غير النبيلة والمناهضة لمصالح العراق وسيؤججان الصراع والنزاع الشيعي السني ببلادنا، في حين إن الصراع بالأساس يدور حول المصالح الاقتصادية بالعراق والمنطقة وتأمين الهيمنة السياسية على العراق ومنطقة الشرق الأوسط، في حين أن العراق لا ناقة له في هذه التحالفات ولا جمل!!!
إن هناك قوى سياسية داخلية تسعى إلى جرّ العراق وتوريطه بهذين التحالفين المتعارضين ليتحمل عواقب تحويل الصراع الإيراني التركي والإيراني السعودي إلى الساحة العراقية وهو ما ينبغي التصدي له ورفضه. فقد سببت هذه الدول للعراق ما يكفي من الفوضى والإرهاب والفساد والموت لبناء وبنات الشعب وإفقارهم عبر نهب خيرات البلاد وتدمير اقتصاده.
أن القوى الديمقراطية العراقية تتحمل مسؤولية فضح القوى التي تريد جعل العراق ساحة لمثل هذه النزاعات الدموية والكشف عنهم وتعريتهم أمام الشعب العراقي، إذ لم يعد العراق يتحمل المزيد من الجروح التي اُثخن بها طيلة العقود والسنوات المنصرمة.                 

483
كاظم حبيب
العالم الحر والموقف من السعودية دولة التطرف والإرهاب والظلم الاجتماعي !!
العالم "الحر" جداً، العالم الرأسمالي المتقدم والمتوحش في أسلوب استغلاله للشعوب والراغب في فرض سيطرته الاقتصادية والسياسية والثقافية على العالم كله، "العالم الحر" الذي ما يزال، رغم تقدمه العلمي والتقني وإنجازات الإنسان الرائعة في المجالات كافة، يمارس في أكثر الدول تقدماً، بالولايات المتحدة الأمريكية، التمييز العنصري والتهميش والعنف ليس ضد الأمريكيين من أصل أفريقي ولا ضد الهنود الحمر من أصل أهل البلاد فحسب، بل وضد من هم من أصل أسيوي أو لاتيني أمريكي. هذا "العالم الحر" المتقدم يمارس اليوم وأكثر من أي وقت مضى بيع المزيد من الأسلحة الحديثة والتدميرية إلى شعوب البلدان النامية لتواصل صراعاتها ونزاعاتها المسلحة على وفق الخرائط والحدود التي رسمتها قوى الاستعمار البريطاني والفرنسي وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية في عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومنها خارطة منطقة الشرق الأوسط، ليجني منها تجار الموت أرباحاً سنوية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات الأمريكية، في حين لا تجني تلك الشعوب من وراء ذلك إلا الفقر والجوع والحرمان وسيول من دماء القتلى والجرحى والمعوقين واليتامى والمشردين والمهجرين بسبب تلك النزاعات والبطالة، وتدمير الكثير من التراث الحضاري للبشرية.
هذا العالم "الحر" جداً الذي يسعى إلى تصدير نموذجه في الظلم وعدم العدالة والاستغلال والتمييز إلى بقية شعوب العالم بذريعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، هذا "العالم الحر والديمقراطي!" جداً يتعاون ويسند ويدعم واحدة من أعتى النظم الاستبدادية وأكثرها قهراً لشعب الجزيرة العربية وأكثرها استغلالاً لثروات البلاد لصالح "العائلة المالكة" والمشايخ المحيطين بها وأكثرها تطرفاً في الفكر الديني الذي تلتزم به وتعمل على نشره عالمياً بالقوة وعبر المليشيات والتنظيمات الإرهابية والأكاديميات التدريسية والمدارس الدينية والرسمية القائمة في السعودية أو التي أقيمت في غالبية دول العالم وأكثرها توزيعاً للأموال النفطية لصالح كسب المزيد من الشباب العاطل والفقير إلى تلك التنظيمات المتوحشة التي تعلمت وتربت على ذبح الإنسان بسبب الهوية الدينية أو المذهبية أو الفكر الآخر المخالف لعقيدتها الوهابية المتطرفة والأشد سلفية من السلف.
هذه الدولة السعودية ولقيطتها "دويلة قطر" ["الإخوانية، وأصلها وهابي أيضاً"] تنشران التطرف الديني والمذهبي بمنطقة الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي، ولكنهما تنشران ذلك في العالم الغربي أيضاً بأمل وهدف تحويل "ديار الحرب وسكانها" إلى "ديار السلام والإسلام" أي تحويل الدول الغربية المسيحية أو غيرها من الديانات إلى الإسلام وجعلها دولاً إسلامية!، لأن دين محمد كما تعتقد هو أخر الأديان وإنه الأصح في حين أن بقية الديانات لم تعد صائبة وعلى المؤمنين بها تركها والتحول إلى دين الإسلام وعلى وفق المذهب الحنبلي (أحمد بن حنبل، 164-241هـ/ 780-855م) والمدرسة الفكرية الأكثر تطرفاً المنبثقة من مذهب أبي حنيفة و (أبن تيمية، 1263م 1328 – م)، المدرسة الفكرية الوهابية التي يؤمن بها آل سعود والدولة الثيوقراطية السعودية الأكثر والأشد تطرفاً واستبداداً في العالم الإسلامي والعالم كله.
إن هذه الدولة، التي أنتجت تنظيم القاعدة وداعش وجبهة النُصرة وجيش الفتح وأحرار الشام بالتعاون مع دويلة قطر، تنتج يومياً بفكرها ومدارسها وثقافتها الدينية والمذهبية الصفراء المزيد من المتطرفات والمتطرفين الذين يمارسون القتل اليومي بصيغ شتى، بما في ذلك جماعة الانتحاريين الأوباش، بدول مثل العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان وباكستان والفلبين واندونيسيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها. إنهم سعوديون متطرفون أولئك فجروا "مركز التجارة الدولية بمنهاتن ومقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون وسقط نتيجة لهذه الأحداث 2973 ضحية، و24 مفقودا، إضافة إلى الآلاف من الجرحى والمصابين بأمراض جراء استنشاق دخان الحرائق والأبخرة السامة". (الموسوعة الحرة 11 سبتمبر 2001). وهم الذين فجروا العديد من السفارات الأمريكية في الخارج، كما في العام 1998 حين فجروا سافرتي الولايات المتحدة في كل من (دار السلام (تانزانيا) ونيروبي (كينيا).     
إن ما يجري اليوم بالعراق وسوريا واليمن وليبيا لا يمكن إبعاده أبداً عن مخططات السعودية وقطر ولا عن مشاركة تركيا بهذه العمليات الإجرامية الدموية فكراً وممارسة التي أودت بحياة مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعوقين بالعراق، إضافة إلى تدمير الهياكل الارتكازية والخدمية ودور سكن الناس الأبرياء وتهجير الملايين من سكانها إلى خارج هذه الدول أو في داخلها. إنها جرائم ترتكبها هذه الدول وتقف خلفها، شاءت أمن أبت، الدول الغربية التي تحتضن هذه الدول وتبيع لها السلاح وتمدها بالعون والحماية، كما إن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وهي التي فتحت الحدود أمام ولوج الإرهابيين إلى سوريا والعراق ووفرت لهم الغطاء والدواء ومعالجة جرحاهم والتسوق منها وبيع النفط المهرب لها.
إن "العالم الحر" جداً يشارك في العواقب التي تتحملها شعوب هذه البلدان بما في ذلك تدمير تراثها الحضاري بالارتباط مع المذهب المتطرف لهذه الجماعات المتطرفة. إن السلاح ما يزال يصدر بكميات كبيرة إلى هذه الدول لتصدرها بصورة سرية إلى قوى الإرهاب أو تستخدمها للقتل كما يجري اليوم وبتحالف عربي رجعي دموي باليمن وتحت غطاء مواجهة المذهب الشيعي المتطرف للدولة الإيرانية المتطرفة أيضاً، وهي دول تسعى للهيمنة على شعوب منطقة الشرق الأوسط واستغلالها اقتصادياً وفرض سياساتها وأهدافها التوسعية عليها.
إن الإدانة تتوجه للدول الراعية للإرهاب والساكتة عنه، وما حصل أخيراً بالولايات المتحدة الأمريكية من عملية إجرامية قُتل فيها مجموعة من المعوقين على يد امرأة باكستانية بثقافة الفكر الوهابي وزوجها الأمريكي من أصل باكستاني، وهما مرتبطان بداعش، على وفق ما نشر من معلومات، يؤكد تورط الفكر الوهابي الإرهابي وتنظيم داعش في هذه العملية أيضاً، فمتى يعي الشعب الأمريكي هذه الحقيقة ليتصدى للدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الدول التي تنشر الفوضى والفساد والإرهاب بمنطقة الشرق الأوسط ويفرض الرفض القاطع للتعاون مع هذه الدول وتنظيماتها الإرهابية وسياساتها بالمنطقة.
     
   

484
كاظم حبيب
الدولة العراقية الهشة تتقاذفها سياسات ونفوذ ومصالح الجيران؟
لم ينقذ العراق من الصراعات في منطقة الشرق الأوسط خلال الحكم الملكي (1921-1958) سوى الميثاق الذي وقعته أربع دول هي تركيا، إيران، أفغانيتان والعراق وبرعاية بريطانية في العام 1937 في اسعد آباد، المدينة الإيرانية الصغيرة الواقعة في محافظة بوشهر، وأطلق اسم المدينة على هذه الاتفاقية "ميثاق سعد آبا"د، خاصة وأن إيران وتركيا كانتا تطالبان باستمرار بأراضٍ عراقية، كما في حالة تركيا ولاية الموصل، أو بمياه عراقية، كما في حالة إيران مع شط العرب. وقد أودعت الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في 4 تموز/ يوليو 1937 في سجل عصبة الأمم في 19 تموز/ يوليو 1937. تضمنت الاتفاقية بنوداً تؤكد ما يلي:
-   "يتعهد الفرقاء المتعاقدون بإتباع سياسة الامتناع المطلق عن أي تدخل في شئونهم الداخلية .. كما يتعهدون تعهدا صريحاً بمراعاة حرية حدودهم المشتركة..  وأن يتشاوروا فيما يخص كلا منهم في الاختلافات التي لها صبغة دولية ولها علاقة بمصالحهم المشتركة.
-   حل وحسم كل المنازعات أو الاختلافات من أي نوع أو مصدر والتي قد تنشب فيما بينهم، يجب أن لا يكون إلاَّ بالطرق السلمية.
-   يتعهد المتعاقدون بأن لا يعمد أحد منهم في أية حالة من الحالات منفرداً وبالاشتراك مع دولة أو دول أخرى إلى تعدٍّ يوجه إلى أحد منهم." 
ومع إن أحداً لم يلغ هذا الميثاق، رغم التحولات التي جرت في كل تلك الدول، فأن المشكلة الكبيرة للعراق برزت في حالتين:
1.   توقيع النظام البعثي الاتفاقية الخيانية مع حكومة شاه إيران في العام 1975 حيث سلم البعث بموجبها نصف شط العرب إلى إيران، وكذلك بعض المناطق الحدودية، في مقابل تخلي إيران عن إسناد نضال حركة التحرر الوطني الكردستانية والتي أدت إلى انهيار الحركة التحررية الكردية المسلحة حينذاك ولو مؤقتاً.
2.   توقيع نظام البعث اتفاقية مع تركيا تبيح للأخيرة التوغل بمسافة 20 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية لملاحقة فصائل الحركة البارتزانية الكردستانية والعراقية. وفي حينها اخترقت القوات والجندرمة التركية مرات كثيرة الحدود العراقية وقامت بقتل الكثير من أهالي القرى الكردستانية وتخريب قراهم وزراعتهم. كما مارست القوات الجوية التركية ضربات صاروخية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني ولكنها كانت تقتل سكان القرى الجبلية وتخرب مساكنهم وزراعتهم. كان هذا حتى نهاية العام 2003. ولكن العدوان ما زامل مستمراً!   
 يتعرض العراق بوضوح كبير إلى تدخل مباشر من دولتين هما إيران وتركيا، إضافة إلى تدخل السعودية وقطر بشكل خاص في شؤون العراق الداخلية ودعم قوى الإرهاب الدموي بالبلاد.
فقبل فترة قصيرة صرح أحد المسؤولين الإيرانيين بأن "العراق أصبح جزءاً من الدولة الإسلامية الإيرانية وعاصمتها بغداد". وكان في ذلك يعبر عن رؤية القيادة الإيرانية الثيوقراطية للعراق. ولم يطل الوقت حتى قام 500 ألف إيراني باجتياح الحدود العراقية من نقطة زرباطية (محافظة واسط) والاعتداء على موظفي الحدود بذريعة المشاركة في عزاءات الحسين بكربلاء دون أن يكون هناك أي اتفاق مع الحكومة العراقية، وكأن العراق أصبح في نظر المرشد الإيراني والحكم الإيراني أحد ولايات الإمبراطورية الإيرانية الجديدة!!
أما تركيا فانتهاكها للحدود والأجواء العراقية في صراعها المتجدد مع حزب العمال الكردستاني ومسلحيه مستمراً. وقبل يومين اجتاح المئات من قوات الجيش التركي بعجلاتهم ومدرعاتهم ودباباتهم بذريعة تدريب قوات البيشمركة أو مجاميع من شباب الموصل على حمل السلاح والقتال.
لم يسبق هذا الاجتياح التركي للعراق أي تشاور أو اتفاق مع الحكومة العراقية أو حتى إعلامها، بل جاء هذا الانتهاك الفظ دون علمها، ولهذا أصدر رئيس الجمهورية وكذلك مجلس الوزراء بيانات أكدوا فيها رفضهم للاجتياح التركي ومطالبتهم بالانسحاب الفوري من الأراضي العراقية، وإلا ستطرح القضية على مجلس الأمن.
إن الجارتين تركيا وإيران تمارسان سياسات انتهاك سيادة العراق، وهو العضو الدائم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكأنهما ما زالا السلطنة العثمانية والدولة الفارسية وتتنازعان السيطرة على العراق واستغلال شعوبه وموارده ووضعه في خدمة أغراضهما في المنطقة.
إن هاتين الدولتين الجارتين تستغلان بوحشية هشاشة الدولة واحتلال عصابات داعش الإرهابية الممولة من تركيا والسعودية وقطر وبعض أمارات وأغنياء الخليج والعالم الإسلامي، والصراع الذي ما يزال يعرقل التفاهم بين رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق والحكومة الاتحادية، فتمارسان هذا الأسلوب العدواني ضد سيادة العراق.
إن على السلطات الثلاث والشعب العراقي وقواه الوطنية والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني، الاحتجاج بشدة على هذا التدخلات الفظة والضغط على  الحكومة لرفع القضية دون تأخير إلى مجلس الأمن الدولي.
إن تركيا الراعية للإرهاب والمتعاونة مع داعش وجبهة النصرة وجيش الفتح وأحرار الشام يجب أن تلجم وأن يفرض عليها الانسحاب من الأراضي العراقية وإدانة من وافق، إن كان هناك من وافق، على دخول قوات السلطنة العثمانية الجديدة إلى العراق!     

485


كاظم حبيب
مواقف تركيا أزاء الحملة المناهضة لقوى الإرهاب بسوريا والعراق!!
كان المجتمع الدولي على وشك الاتفاق على موقف مشترك في مواجهة التنظيمات الإرهابية، داعش والنُصرة وغيرها، بعد الأحداث الدامية التي نفذتها عصابات داعش الإجرامية ضد الشعب الفرنسي والدولة الفرنسية وراح ضحيتها 130 مواطنةً ومواطناً فرنسياً ومئات الجرحى والمعوقين في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، حين أسقط الطيران الحربي التركي طائرة حربية (سوخوي 24) في الأجواء السورية بذريعة اختراقها لمدة 17 ثانية الأجواء التركية. وحين حط أحد الطيارين الروس على الأرض السورية قامت العصابات الإرهابية التي تمولها تركيا، وهم من التركمان السوريين، بقتل الضابط الروسي شر قتلة. فما هي الأسباب الكامنة وراء إسقاط الطائرة الروسية؟
لم نكن يوماً نشك بأن النظام القائم بسوريا هو نظام دكتاتوري مناهض لمصالح الشعب السوري. وفي مواجهة هذا النظام نشطت حركة مدنية ديمقراطية سلمية تعمل على التغيير السلمي والديمقراطي للخلاص من الدكتاتورية البعثية والدكتاتور بشار الأسد. وكان في مقدور هذه الحركة السلمية تحقيق التغيير المنشود رغم إمعان النظام بسياساته القمعية وذلك بكسبها المزيد من أبناء الشعب والرأي العام العربي والعالمي والمجتمع الدولي. إلا أن تشبث النظام بالسلطة على حساب الشعب وإرادته ومصالحه سمح بتدخل دول إقليمية في الشأن السوري وهيمنتها على غالبية قوى المعارضة المدنية في الخارج. فتشكل محور سياسي رجعي قوامه تركيا، السعودية، قطر ودول خليجية أخرى فرض نفسه على خط النضال السلمي وحوله إلى عمليات عسكرية بدعم مباشر بالمال والسلاح الدعاية الواسعة وفتح الحدود التركية السورية لولوج عشرات الألوف من الإرهابيين إلى سوريا والعراق خلال السنوات الثلاث المنصرمة. ولم تكتف بذلك بل ساهمت بتشكيل تنظيمات إرهابية مسلحة مثل داعش وجبهة النُصرة وأحرار الشام وجيش الفتح ومدتها بما تحتاجه لإسقاط الدولة السورية وليس النظام وحده. وكانت الولايات المتحدة الراعية الفعلية لهذا التآمر، إضافة إلى فرنسا وبريطانيا. هذا الواقع نشأ بذريعة وجود محور آخر من إيران وسوريا وحزب الله، مع إسناد له من روسيا الاتحادية.
يبدو للمتتبع وكأن الصراع بين المحور الأول والمحور الثاني طائفي أي سني شيعي، في حين أنه في حقيقة الأمر صراع للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط ويتخذ من الدين والمذهب واجهة له.
وفي مقابل تعزز مواقع القوى الإرهابية بسوريا، تم إضعاف قوى المجتمع المدني الديمقراطية وهيمنت تركيا والسعودية وقطر على القرار الفعلي لأغلب قوى المعارضة السورية، فهناك من يرفض هذه الهيمنة في الداخل والخارج. لقد كلف الصراع المسلح بسوريا بين قوى الإرهاب والنظام السوري الشعب ما يقرب من ستة ملايين من المهاجرين داخل البلاد وخارجه وأكثر من 300 ألف قتيل وأضعاف ذلك من الجرحى والمعوقين، وإلى خراب الكثير من المدن السورية وأريافها وإلى تدمير الكثير من التراث الحضاري.
الإعلام العالمي كان ينشر معلومات عن تورط تركيا بدعم متنوع لعصابات داعش والنصرة وغيرها، إضافة إلى دور تركيا في تصريف النفط السوري والعراقي عبر وسطاء في أسواق أوروبا وإسرائيل، وهو ما أكدته روسيا أخيراً. وتركيا تحقق بذلك أرباحاً طائلة من النفط السوري والعراقي المهرب. كما إنها كانت بتأييدها لتلك القوى الإرهابية تعمل على استمرار القتال وسقوط المزيد من القتلى والجرحى وعدد الهاربين من الحرب.
وحين استخدمت روسيا طيرانها العسكري وجهت ضربات قاسية وكثيفة ضد عصابات الإجرام والقتل والنهب والسلب وتدمير المدن وتهريب النفط الخام, أثار غضب تركيا وبقية قوى المحور الأول مما دفعها إلى إسقاط الطائرة الروسية. ويمكن تسجيل أهداف تركيا وراء ذلك:
1.   إعاقة تشكيل تحالف دولي واسع بمبادرة من فرنسا ورئيسها هولاند.
2.   إيقاف الضربات الجوية الروسية لضد داعش والنصرة وجيش الفتح وأحرار الشام لمواصلة حربها ضد الدولة السورية وضد العراق.
3.   الإصرار على إسقاط م بشار الأسد مهما كان الثمن.
4.   إيقاف دعم القوات الكردية بسوريا والعراق من جانب التحالف الدولي، رغم الموقف الانتهازي الأمريكي والأوروبي في الموافقة على ضرب تركيا لمسلحي حزب العمال الكردستاني.
5.   منع توقف إيصال النفط المسروق عبر داعش وغيرها إلى تركيا ومنها إلى السوق العالمي.
ولكن القيادة التركية المستبدة لم تقدر رد الفعل الروسي وبهذه القوة وعدم قدرة العالم الغربي بالوقوف ضد روسيا القادرة على لعب دور مهم في المعارك الجارية ضد الإرهاب وفي الوصول إلى حل سلمي عادل لصالح الشعب السوري.
واليوم راحت تركيا أبعد من ذلك إذ إنها أرسلت قوات مسلحة إلى العراق دون موافقة الدولة العراقية وبالتنسيق مع رئاسة وحكومة الإقليم. وهو أمر مخالف للدستور العراقي ودستور الإقليم أيضاً، وبالتالي فهو تجاوز وانتهاك شديد للسيادة العراقية وتدخل يجب إيقافه. حتى لو كان بموافقة رئاسة الإقليم بذريعة تدريب قوات البيشمركة.
إننا ندين بقوة الصراع الإقليمي الدائر بسوريا والعراق حالياً تحت واجهة الصراع الطائفي السني الشيعي. ونعتقد بان الشعب السور سيتخلص من قوى الشر والعدوان كما سيتخلص من قوى النظام البعثي الدكتاتوري لصالح قيام دولة مدنية ديمقراطية بسوريا ولصالح التغيير الديمقراطي الجذري وضد المحاصصة الطائفية بالعراق.            

486
خامساً: الدولة العراقية... إلى أين؟
لا عجب أن يعيش العراق اليوم بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة من بدء العهد الطائفي، في خضم هذا الصراع والنزاع والخراب والدمار والموت غير المنقطع، فضلاً عن هيمنة الثقافة الصفراء التعصبية. فالعملة الرديئة الرثة بدأت بطرد العملة الجيدة لأن الفئات الرديئة والرثة تهيمن فعلياً على سلطات الدولة الثلاث، وخاصة السلطة التنفيذية. وإن تكريسها للنظام السياسي المحاصصي مع ممارسة فعلية لسياسة التمييز الديني والطائفي والقومي، قد عمق الهوة المتسعة بين الشعب، وخاصة الغالبية العظمى الكادحة والفقيرة والمعدمة منه، من جهة، وبين الفئة الحاكمة والقوى التي تساندها وتدعم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية ونهجها المناهض للديمقراطية من جهة أخرى، ما دفع ويدفع بجزء من النخبة الحاكمة إلى ممارسة الانفراد بالحكم والاستبداد واستخدام الأساليب والقوانين القمعية القديمة لمواجهة الشعب، فيما يحاول جزء آخر من الفئات الرثة المشاركة في الحكم أن يمارس سياسة معارضة شكلية للحصول على مكاسب ذاتية إضافية وليس من منطلق الحرص على مصالح الشعب وتطوره.
ويتحمل هذان الفريقان المسؤولية الكبرى للكثير مما وقع أخيراً في البلاد بعد حزيران 2014م من اجتياح عسكري واحتلال مذل وإعلان قيام "الدولة الإسلامية في العراق والشام" في الموصل بنهجها الظلامي والتكفيري والتوسعي، والذي يعبّر عن رثاثة وفاقة فكرية وسياسية مريعة لا يمكن أن يكون لها أي مكان في مجتمعات وحضارة القرن الحادي والعشرين، كما لا يمكن لها أن تكون البديل للفئات الرثة الحاكمة بالعراق حالياً.
لقد أصبحت الدولة العراقية الاتحادية في مهب الريح، وتحت سطوة كل هذه القوى الرثة التي لا مستقبل لها بالعراق ولا بمنطقة الشرق الأوسط، ولكنها ستكلف المجتمع العراقي وتراثه الحضاري الكثير من الخسائر البشرية والمالية، وجمود التنمية وخسارة ما كُسب قبل ذاك، فضلاً عن البقاء في أوضاع التخلف والتشوه والصراع والحرمان والانكشاف الشديد على الخارج.
وهنا أكرر قناعتي بالدور المهم والواعد الذي يمكن أن يؤديه المثقفون العراقيون، ومنهم التكنوقراط، في حياة البلاد الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، عبر مساهمتهم في تقصير زمن الخسارات وكلفها الباهظة من خلال إشاعة الوعي بإمكانية الاحتجاج وإنهاء عصر الرثاثة السياسية الحالي، إذ يمتلكون الدور المكمل والتنويري الفاعل لدور البرجوازية الوطنية الصناعية المتوسطة والفئات المنتجة للخيرات المادية من العمال والفلاحين في عملية التحول صوب المجتمع المدني الديمقراطي الحديث الذي يفصل بدقة متناهية بين الدين كعقيدة اجتماعية أخلاقية والدولة كمؤسسة سياسية تحقق المساواة والكرامة وترعى التنمية والرفاهية.
الهوامش
  كاظم حبيب (2013).  لمحات من عراق القرن العشرين – ط1، (11 مجلد، ابتداءً من المجلد الرابع حتى آخر مجلد).  أربيل: دار ئاراس للطباعة والنشر.
(2)   كاظم حبيب (2013). آراء حول الطبقة الوسطى في العراق. موقع الحوار المتمدن، العدد (4441)، 2 أيار. متاح في: www.ahewar.org.

(3)    كاظم حبيب. دراسات في التخطيط الاقتصادي، دار الفارابي- بيروت، مكتبة النهضة- بغداد 1974 .   
(4)    كاظم حبيب (2008). الفاشية التابعة في العراق- ط2 السليمانية: مؤسسة حمدي للطباعة والنشر.

(5) Ghada Zughayar (2014). Middle East and North Africa: a region in turmoil.  Transparency International. Available Online: http://blog.transparency.org/2014/12/03/middle-east-and-north-africa-a-region-in-turmoil/
(6)   كاظم حبيب (2013). لمحات من عراق القرن العشرين- ط1 (11 مجلد، المجلد السادس)، مصدر سابق.
(7)  أحمد علوي (2011). الاقتصاد الريعي ومعضلة الديمقراطية. تعريب عادل حبة. موقع الحوار المتمدن، العدد   (3540)، 8/ تشرين الثاني.  www.ahewar.org.

   ويليام زيمان (2013). جذور تغيير النظام في العراق الحديث بدعم من الولايات المتحدة. ترجمة عبد الجليل البدري. رسالة ماجستير في التاريخ، الجامعة البوليتكنيكية في ولاية كاليفورنيا، بومونا، 2006م.

(9)   مظهر محمد صالح (2014). الطبقة الوسطى في العراق. موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين. متاح في:  http://iraqieconomists.net/ar.



487
الاقتصاد السياسي
للفئات الرثة الحاكمة في العراق

د. كاظم حبيب


الفئات الرثة الحاكمة بالعراق لا تعرف الوطن ولا الدين...إنها السلطة بما تعنيه من نفوذ وهيمنة ومال وجاه وإقصاء واستئصال للآخر... ولو كان في مقدورها أن تحكم بدون الناس لتخلصت منهم أيضاً!







ينطلق تحليلنا في السطور القادمة من فرضية جوهرية مضمونها أن الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية ناشئة عن ومرتبطة بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة والفاعلة في الاقتصاد والمجتمع، والمقترنة بطبيعة ومستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية.
 
أولاً: طبيعة الاقتصاد والمجتمع بالعراق
يتفق المحللون الاقتصاديون العراقيون وغير العراقيين على أن الاقتصاد والمجتمع بالعراق كانا وما زالا يتسمان بعدد من السمات المميزة والمؤثرة سلباً على وجهة وبنية ومضمون تطوره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي، وعلى علاقاته الإقليمية والدولية المتعددة الجوانب. هذه السمات كانت وما تزال تسهم بإعادة إنتاج ذات الظواهر الناشئة عنها والمرتبطة بها عضوياً، والتي بدورها تنتج النظم السياسية الحاكمة بما يرتبط بها من فئات ونخب سياسية.
والمعطيات التي تحت تصرف الباحث تؤكد بأن هذه السمات السلبية قد تعمقت واشتد تأثيرها السلبي وتكرَّست خلال العقود الخمسة الأخيرة، إذ تبلورت بشكل سلبي فاعل ضمن هيكل الاقتصاد الوطني، والبنية الطبقية الراهنة للمجتمع، والواقع الذي تعيش تحت وطأته فئات المجتمع، وبالتالي هي التي حددت طبيعة النظام السياسي القائم. فما هي هذه السمات السلبية المميزة للاقتصاد والمجتمع بالعراق؟ سنحاول هنا أن نتطرق إلى عدد من السمات الجوهرية الرئيسة وتلك الناشئة عنها: 

السمة الأولى:  اقتصاد ريعي
يعد الاقتصاد العراقي وحيد الجانب وريعي بامتياز، إذ اعتمد في السابق وبالأساس على ريع القطاع الزراعي وهيمنة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية، ثم انتقل في أعقاب انتهاء الانتداب البريطاني وبدء استخراج وتصدير النفط الخام، أي منذ العقد الرابع من القرن العشرين حتى يومنا هذا، إلى الاعتماد على ريع قطاع النفط الخام الاستخراجي المصدر(1). ومع تراجع دور القطاع الزراعي في تكوين بنية الناتج المحلي الإجمالي وتقلص نسبة الفلاحين إلى مجموع السكان والقوى العاملة سنة بعد أخرى، ارتفع دور النفط الخام المستخرج والمصدّر في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وفي زيادة نسبية ملموسة بعدد العاملين في هذا القطاع مع قلة اهتمام بإقامة المشاريع الصناعية التحويلية، وضعف مشاركة الصناعة التحويلية بتكوين الناتج المحلي الإجمالي. فأصبح القطاع النفطي ومنذ نهاية العقد الخامس وبداية العقد السادس من القرن العشرين يحتل الموقع الأول والمكون الرئيس للناتج المحلي الإجمالي. وقاد هذا الواقع الجديد إلى تغيير في مسيرة الدولة العراقية التي اتجهت في العقد الثالث والرابع صوب الدولة السائرة نحو المدنية، إلى دولة ريعية تتلبسها تدريجاً وخطوة فخطوة السمات السلبية التي تميز الدول الريعية، بضمنها التطور الوحيد الجانب للاقتصاد وتشوه بنية المجتمع الطبقية وتغييب الحريات العامة والحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وتهميش المجتمع. إن بروز هذه السمة يقترن في واقع الحال في كون الدول النامية الريعية تقع ضمن دول المحيط الخاضعة عملياً للمراكز الرأسمالية المتقدمة التي تقف حائلاً دون تخلصها من التخلف ووحدانية الجانب وتكرس فيها طابعها الريعي.     

السمة الثانية: اقتصاد استهلاكي

إن توفير اقتصاد النفط الخام لمزيد من الموارد المالية سنة بعد أخرى من خلال المزيد من كميات النفط المستخرج والمصدر، دفع وما يزال يدفع باستمرار كظاهرة عامة ولصيقة، بالنخب الحاكمة إلى الابتعاد عن الجهد المطلوب والضروري لتغيير بنية الاقتصاد الوطني والتخلص من وحدانية الجانب في بنية الإنتاج المحلي؛ أي يبقى طابع الاقتصاد الوطني استهلاكياً غير إنتاجي والذي ينعكس بالتالي على بنية المجتمع الطبقية (2)؛ أي بدلاً من توجيه الموارد المالية المتأتية من اقتصاد النفط الاستخراجي صوب التنمية الزراعية والتنمية الصناعية التحويلية وتطوير التعليم والبحث العلمي والحياة الثقافية الضرورية المرافقة لهما، تقوم سلطة الدولة الريعية بتوجيه الموارد صوب إشباع حاجات السكان للسلع والخدمات من خلال الاستيراد السلعي من جهة، وإلى التسلح والعسكرة لحماية نظامها السياسي وامتيازاتها ومنافعها المباشرة وغير المباشرة من جهة ثانية.
وسنة بعد أخرى تزداد الحاجة إلى إشباع حاجة الاستهلاك السلعي الأساسي والكمالي بسبب الزيادة السكانية وبسبب توفر زيادة في السيولة النقدية وتحسن في مستوى مداخيل ومستوى حياة ومعيشة فئات معينة من السكان، في حين تبقى فئات أخرى تعاني من الفقر وشظف العيش. ومن هنا تنشأ أمامنا السمة الثالثة.
 
السمة الثالثة: اقتصاد استيرادي
من يتابع مؤشرات الاستيراد السنوية خلال العقود الستة المنصرمة سيجد إن الاستيراد، وبالرغم من كل الكوارث والحروب، كان ينمو ويزداد سنة بعد أخرى ليستنزف جزءاً مهماً وأساسياً من إيرادات تصدير النفط الخام العراقي. إنها السمة الجوهرية الثالثة المميزة للاقتصاد العراقي والمرافقة له، التي تستكمل السمتين الأولى والثانية إذ يستنزف الاستيراد نسبة عالية من الناتج المحلي الإجمالي السنوي الموجهة لأغراض الاستيراد السلعي السلمي والعسكري. وهذه السمة، وارتباطاً ببقية السمات، هي التي جعلت الاقتصاد العراقي مكشوفاً بالكامل على الخارج من حيث التصدير والاستيراد، والتي عاش مرارتها في فترات مختلفة خلال العقود المنصرمة.
 
السمة الرابعة: اقتصاد تابعي
إن السمات الثلاث السابقة مجتمعة حددت بوضوح كبير موقع العراق الضعيف والتبعي والهامشي وغير الديناميكي في التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل، موقع المنتج للمواد الأولية والمصدر لها والحائز على الريع من جهة، والمستورد والمستهلك للسلع المادية من جهة ثانية، والعاجز بسبب طبيعة الدولة وسياسات النخب الحاكمة عن تحقيق التنمية والتثمير الإنتاجي والتشغيل وتغيير بنية الناتج المحلي الإجمالي من جهة ثالثة.
فالعراق يشكل جزءاً عضوياً من النظام الرأسمالي العالمي، ولكنه الجزء المتخلف والتابع والمُستنزَف في موارده الاقتصادية وأمواله، والقائم على علاقات اقتصادية غير متكافئة. فالاقتصاد العراقي يشكل جزءاً من تلك الدوائر المتخلفة التي تدور في فلك المراكز الرأسمالية الدولية، وهذا الواقع المشوه يجعل من عملية إعادة الإنتاج أو مجمل العملية الاقتصادية بالعراق بمراحلها الأربعة (الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك) ضعيفة تعيق تحقيق عملية إعادة إنتاج موسعة وضمان تراكم رأسمالي وإغناء الثروة الاجتماعية من فروع وقطاعات اقتصادية أخرى وزيادة في التشغيل وتحسين في مستوى الدخول والحياة والمعيشة(3).
وقد اشتدت ظواهر التبعية والتخلف والتشوه خلال العقود الثلاثة الأخيرة بسبب القفزة الكبيرة في دور العولمة الرأسمالية التي ارتبطت عضوياً بالثورة العلمية والتقنية والإنفوميديا على صعيد الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية، إضافة إلى الآثار المتناقضة، السلبية منها والإيجابية، بعد غياب دول المعسكر الاشتراكي وتراجع الحرب الباردة بين المعسكرين وبوادر العودة إليها مجدداً، ولكن على وفق أرضية وقواعد أخرى، إضافة إلى سياسات النخب الحاكمة التي تبتعد بإصرار عن التنمية المنشودة المغيرة لطبيعة الاقتصاد وبنية المجتمع.
     
السمة الخامسة: تدهور البنية الطبقية
ولكن ماذا نشأ عن هذا الواقع العراقي أو هذه السمات السلبية المتضافرة في فعلها؟ لو كان العراق قد اتجه صوب التصنيع التحويلي واستخدم موارد النفط المالية والمادية لهذا الغرض لتغيرت بنية المجتمع. ولكن هذا لم يحصل إلا ببطء شديد حيناً وبتشوه كبير في أحيان أخرى.
ونتيجة ذلك برز تحول نسبي تدريجي في بنية المجتمع الطبقية، فازداد عدد العمال، سواء أكانوا من العاملين في اقتصاد النفط الخام أو مشاريع السكك الحديد والطاقة والماء وموانيء تصدير النفط الخام أو مشاريع الصناعة التحويلية التابعة للدولة والقطاع الخاص والمختلط الأخرى، إضافة إلى تنامي دور البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الصناعية والبيروقراطية المتوسطة وفي قطاع التجارة(4). إلا إن هذا التطور النسبي الذي تحقق في فترات مختلفة، بضمنها سنوات العقد الثامن من القرن العشرين وقبل بدء الحرب العراقية- الإيرانية قد انهار تماماً بفعل سياسات النظام البعثي الدكتاتورية والعسكرة والتسلح والقمع والحروب الداخلية والخارجية وتعريب القوميات الأخرى والتهجير القسري، ما قاد إلى تدهور شديد في البنية الطبقية للمجتمع العراقي، والتي لم تساعد السياسات التي أعقبت سقوط الدكتاتورية على تغييرها لصالح المجتمع.




السمة السادسة: علاقات إنتاج متخلفة
تتجلى السمة المميزة السادسة في طبيعة التشكيلة المتخلفة التي ما تزال سائدة وفاعلة في الاقتصاد والمجتمع بالعراق. فالسمات السابقة تعتبر نتاجاً منطقياً وطبيعياً لاستمرار وجود بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية، والعودة الشديدة لدور العشائر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية من جهة، ولكنها تعدّ السبب في استمرار وجود هذه العلاقات المتخلفة من جهة أخرى، وخاصة في الريف العراقي حيث تنعكس طبيعتها وسلوكية كبار الملاكين وشيوخ العشائر على المجتمع بالمدينة أيضاً، فضلاً عن النمو الضعيف في علاقات الإنتاج الرأسمالية في الزراعة والصناعة وتمركزها في قطاعات النفط الخام والتجارة ووجود مصارف مالية وقطاع تأميني ضعيف ومتخلف.
وتتجلى عواقب استمرار وجود هذه التشكيلة المتخلفة من العلاقات الإنتاجية والانكشاف الشديد على الخارج، في التخلف الكبير في القوى المنتجة المادية والبشرية وتجلياته في المستوى الواطيء لإنتاجية العمل وكفاءة الخدمات الاجتماعية والإنتاجية، وتدهور مستوى التعليم والبحث العلمي النظري والتطبيقي، والنسبة العالية من الجهل والأمية السائدتين في الريف وفي المناطق العشوائية وبين النساء، وانتشار الفكر الطائفي الظلامي في المجتمع بعد عقود من الاستبداد بعقلية شوفينية وأساليب فاشية وقمعية وقهر وحروب وتجويع. يضاف إلى ذلك العواقب الوخيمة التي نجمت عن جريمة الحصار الاقتصادي الدولي (1990- 2003)م التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عبر الأمم المتحدة.، بذريعة وجود سلاح الدمار الشامل لدى النظام السابق.

السمة السابعة: الفساد بأنواعه

هي سمة جديدة، يزيد عمرها عن خمسة عقود، لكنها لم تكن بهذا الاتساع والشمولية الحالية، ونعني بها سمة الفساد المالي والإداري. نشأت هذه السمة منذ عقود في العراق وتفاقمت بمرور الزمن وأصبحت نظاماً سائداً تتجلى في واقع الفساد المالي والإداري القائمين، وهما يجسدان اليوم حالة عامة وشاملة وعميقة ومصحوبة بحركة شرسة لتنظيمات مافيوية قوية وواسعة ومتعددة الرؤوس، كالإخطبوط الذي مد أذرعه بعيداً في جسم الدولة والمجتمع ومع الخارج.
لقد نما الفساد المالي خلال الأعوام التي أعقبت سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان 2003م بسرعة كبيرة جداً، وشكل في النظام السياسي الطائفي الحالي الذي يعتمد الفكر الديني الشمولي، نظاماً خاصاً وسائداً في العلاقات المالية والإدارية، نظامَ الفساد الذي يجري التعامل به من جانب الدولة بسلطاتها الثلاث وفي عالم الإعلام والصحافة وفي المجتمع والعلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية، إذ لم يعد الفساد المالي مجرد ظواهر متفرقة، بل هو نظام معمول به ومتشابك بصورة عضوية مع الفساد الإداري ومع ظاهرة الفساد الدولي.
ولا يجري الحديث بشأن ظاهرة الفساد المالي عن عدة ملايين من الدولارات الأمريكية أو عن مجموعة صغيرة من المتعاملين به، بل يدور الحديث عن عشرات المليارات المفقودة والمسروقة أو التي يجري التعامل بها على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. فالفساد المالي والإداري لا يستنزفان المال العام ويفرطان بأموال الدولة وكفاءاته حسب، بل ويكرسان حالة الإرهاب الراهنة وينميانها ويعمقان من حالة الفوضى والتبعثر والصراع بالبلاد، ويزيدان من حالة التذمر والهيجان المستمر.
فالمعلومات المتوفرة تشير إلى إن العراق وبعد مرور (11) عاماً على إسقاط الدكتاتورية يحتل المرتبة (169) من أصل (176) بلداً، فيما وضع البنك الدولي العراق في سنة 2011 في أسفل قائمة آخر عشر دول من مجموع (100) دولة من التي تحاول السيطرة على الفساد. وتشير منظمة الشفافية الدولية في آخر تقرير لها لعام 2014 إلى إن 10 دول تحتل مركز الصدارة في الفساد العالمي فيهما دولتان شرق أوسطيتان هما العراق وليبيا.(5). إن استمرار هذه الحالة في ظل قوانين جائرة وغير عادلة واستبدادية سابقة من جهة، وابتعاد مستمر ومتفاقم عن الالتزام بالدستور العراقي الجديد وبلائحة حقوق الإنسان من جانب الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والحكومات المحلية من جهة أخرى، تؤشر حالة البلاد الراهنة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية المتردية. والمتضرر الأساسي من هذه الحالة هم بنات وأبناء الفئات الكادحة والفقيرة والمتوسطة وفئة المثقفين وأصحاب الدخول المحدودة بشكل خاص.   

السمة الثامنة: الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي

 تتجلى هذا السمة بتفاقم الاستبداد ومصادرة حرية الفرد والجماعة والحريات الديمقراطية العامة والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، إذ تتكرس وتتكثف مستلزمات بقاء واستمرار وإعادة إنتاج علاقات التسلط لتنتج مجتمع الدولة الاستبدادية القمعية الفاسدة والفاشلة.
فالدولة الريعية وسلطتها السياسية مُنتِجة فعلية للاستبداد والعنف والقسوة، منتجة للتمييز بمختلف أشكاله المقيتة، وغياب العدالة الاجتماعية وحقوق المرأة وحقوق القوميات. وهذه الحقيقة مرتبطة عضوياً بمستوى ومحتوى الوعي الفردي والاجتماعي والسياسي والمستوى الثقافي بالبلاد وحجم الأمية والتخلف في القوى المنتجة البشرية.
إن الدولة العراقية التي كان يراد لها أن تكون دستورية مدنية وديمقراطية وبرلمانية في سنة 1921 على وفق الدستور الملكي وقبل البدء باستخراج وتصدير النفط الخام، تحولت إلى دولة غير ديمقراطية، وأصبحت حتى بعد إلغاء قرار الانتداب واقعة تحت الهيمنة السياسية البريطانية غير المباشرة وهيمنة العلاقات الإنتاجية الإقطاعية، فتراجعَ فيها الالتزام بحقوق الإنسان وحقوق المواطنة وحقوق القوميات، ونُحّي الدستور جانباً وتم تزييف الحياة البرلمانية. ولم يكن هذا ممكناً لولا التخلف الثقافي والاجتماعي وضعف الوعي العام.
وقادت هذه الأوضاع وغيرها إلى حصول ثورة تموز 1958(6)، ولكن سرعان ما اختفى إشعاع الثورة القصير وهيمنت الدكتاتورية ابتداءً من شباط 1963م حين فُرضت الأساليب السياسية الفاشية في الحكم والمناوئة للشعب وحقوقه ومصالحه الأساسية. وبهذا المعنى المتعدد الجوانب كتب الدكتور "أحمد علوي" بصواب في مقال له عن "الاقتصاد الريعي ومعضلة الديمقراطية" ما يأتي: «تتناسب العلاقة بين العملية الديمقراطية عكسياً مع ازدياد صادرات النفط، أي أنه كلما ازدادت المداخيل النفطية للدول المنتجة للنفط، تصاب العملية الديمقراطية بالخلل وتتراجع الحريات السياسية. وهذا على عكس ما يجري في البلدان المتطورة. فاستناداً إلى الأبحاث المختلفة، فإن حال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات السياسية في البلدان المتطورة تتناسب طردياً مع زيادة الناتج الإجمالي الداخلي ومع دخل الفرد. وعلى خلاف ما يجري في الدول المتطورة، لا تؤدي الزيادة في مداخيل الدولة أو الدخل الوطني في الدول التابعة والريعية إلى التطور السياسي» (7).
إنها العلاقة الجدلية بين ضعف الوعي الاجتماعي والسياسي والمستوى الثقافي وقدرة الحكام على فرض الاستبداد الشمولي والرؤية ذات الوجهة الواحدة. 

ثانياً: العواقب الوخيمة الناشئة عن الواقع الاقتصادي العراقي
إن تنامي إيرادات النفط الخام المصدر في الدولة الريعية العراقية الراهنة أدى، إلى جانب ذهنية الاستبداد والتسلط، إلى تفاقم ظاهرة الاتكالية لدى الحكام الجدد على موارد النفط الخام المصدر، وتم إهمال وضع إستراتيجية للتنمية الوطنية الشاملة وخطط وبرامج اقتصادية تسهم في تغيير بنيتي الاقتصاد والمجتمع، وتراجعَ تصميم وتنفيذ سياسات ضريبية وجمركية عقلانية، وأهمل مردودها المالي المهم للميزانية الاعتيادية وتنوع مكوناتها. كما برزت ظواهر سلبية حادة أخرى في الدولة والمجتمع. ووجد هذا الاتجاه في الحكم تأييداً واسعاً من الدول الرأسمالية المتطورة ومن الدول الإقليمية المجاورة التي لا تريد للعراق أن يخرج من دائرة التخلف بل الدوران في فلك المراكز الرأسمالية الدولية، وأن يعتمد على الدولتين الجارتين إيران وتركيا في استيراداته السلعية.
وأبرز تلك الظواهر يجدها الباحث في تراجع الاستثمارات وفرص العمل في القطاعات الإنتاجية التحويلية، بسبب تدهور وتقلص عدد المشاريع الصناعية العامة والخاصة والمختلطة، وزيادة التوظيف والاستخدام في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، ونشوء التضخم الشديد فيها إذ تبدأ هذه الأجهزة باستنزاف نسبة مهمة من إيرادات النفط أو من الدخل القومي. وفيها تبرز بوضوح محاولة الحكام المستبدين استرضاء الناس بهذه الطريقة المضرة بالاقتصاد الوطني وبالمجتمع.
ولكن في ذات الوقت تنشأ ظاهرة مقصودة وهادفة تشير إلى حالة الارتباط والتبعية لفئات الموظفين والمستخدمين للدولة الريعية وللحكم القائم، إذ تسعى النخبة الحاكمة إلى إخضاع إرادة هذه الفئات لها والدفع بها لتكون ضد المجتمع وإرادته وحاجاته ومصالحه الأساسية. إنها معضلة كبيرة حين تصبح الأجهزة المدنية والعسكرية ونسبة عالية من السكان من العاملين في أجهزة الدولة وأفراد عائلاتهم خاضعين في معيشتهم ونوعية حياتهم للدولة الريعية ولإرادتها ومصالح الفئة الحاكمة المستبدة والرثة في تفكيرها وممارساتها.
كما تنشأ حالة أخرى من التبعية والمصالح المشتركة بين الفئة الحاكمة المناهضة لإرادة ومصالح الشعب في الدولة الريعية وبين الدول المستوردة للنفط الخام والمتحكمة بسوق النفط الدولي وتلك المصدرة للسلع المصنعة. فحين تتعرض مصالح المستوردين للنفط الخام إلى مخاطر معينة، مثل التأميم أو إجراء تعديلات على الامتيازات القديمة، كما حصل حين صدر قانون رقم 80 لسنة 1961م، بالعراق وحين بدأ العراق يتعامل مع الدول الاشتراكية، وخاصة مع الاتحاد السوفييتي، لتطوير قطاع الصناعة التحويلية، بدأت الدول الرأسمالية الكبرى وشركات النفط الاحتكارية الدولية بالتآمر ضد النظام السياسي الجديد لإسقاطه والمساعدة في تسلم السلطة من قبل أعوانها، كما حصل في انقلاب شباط في سنة 1963م ضد الجمهورية الأولى وحكومة عبد الكريم قاسم. تشير المعلومات الدبلوماسية والمخابراتية إلى الدور "غير الرسمي" للولايات المتحدة الأمريكية في انقلاب شباط. فقد جاء في الكتاب الموسوم "التدخل السري للولايات المتحدة في العراق خلال المدة 1958-1963" للكاتب "ويليام زيمان" بهذا الصدد ما يأتي: «إن المخططين الامريكين قرروا أن حزب البعث سيكون في المقدمة وإنهم راغبين في دعم الانقلاب... وكانت السي آي أي على علم بما يحدث... وإنها دفعت إلى مخبرين داخل حزب البعث ولكن لم يكن لديها سيطرة على أية عمليات...ومن الجانب العراقي سمع أبو ريش من عضو الوزارة البعثية التي شُكلت بعد الانقلاب هاني الفكيكي والكثير من العراقيين بأن وكالة المخابرات المركزية عملت مع حزب البعث قبل الانقلاب، وأن هاشم جواد وزير خارجية قاسم أبلغ بنروز أن وزارته كان "لديها معلومات عن وجود تواطؤ بين البعث والسي آي أي"» .
ومن الظواهر البارزة في وجهة نشاط القوى الحاكمة في الدولة الريعية، وبسبب انعدام الثقة والعداء بين السلطات الثلاث وبين الغالبية العظمى من المجتمع لغياب الديمقراطية والحياة الدستورية وتفاقم الفساد المالي والإداري، كان وما يزال سعي الحكام الواضح إلى امتلاك ترسانة كبيرة من السلاح والتحول إلى عسكرة الاقتصاد وتشكيل قوات عسكرية (الجيش والشرطة والأمن الداخلي والأجهزة الخاصة والمخبرين السريين)، لأنها تريد بذلك إسكات الشعب وقمعه ورفض مطالبه والبقاء في السلطة. ويمكن أن نتابع هذه الحقيقة في ما حصل ويحصل حتى الآن بالعراق.
وكان في مقدور المبالغ المالية التي وجهت حتى الآن للأغراض العسكرية من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة أن تخلق حياة رائعة يتمتع الشعب فيها بالحرية والديمقراطية وممارسة حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وتنمية الاقتصاد الوطني والتشغيل الواسع وتحسين مستوى المعيشة. وإذا كان حكم صدام حسين هو النموذج القومي الشوفيني والاستبدادي، فأن النموذج الجديد يمثل الحكم السياسي الطائفي والاستبدادي الذي يقوده حزب الدعوة الإسلامية، إنهما نموذجان يستندان أساساً إلى العلاقة العكسية السائدة بين امتلاك موارد النفط المالية وغياب الديمقراطية.

ثالثاً: طبيعة البنية الطبقية الراهنة بالعراق
من غير السهل ممارسة التحليل الطبقي بالعراق في وقت لا توجد إحصائيات دقيقة ومفيدة للبحث العلمي.
فخلال الفترة الواقعة بين (1980-2014)م وقعت بالبلاد أحداث جسام غيرت الكثير من بنية المجتمع وأثرت سلباً على البنية الطبقية المشوهة أصلاً من خلال تأثيرها المدمر على البنية الاقتصادية واختفاء الكثير من منشآت الصناعة التحويلية التي أقيمت خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى سنة 1979/1980. فهي فترة تفاقمت فيها الدكتاتورية وتعددت الحروب المدمرة، الداخلية منها والخارجية، والحصار الاقتصادي الدولي والاحتلال الأمريكي-البريطاني للعراق، ومن ثم إقامة الحكم الطائفي السياسي وتفاقم والإرهاب وانتشار الفساد المالي كنظام سائد معمول به، ووقوف العراق على حافة الحرب الأهلية وغياب التنمية الاقتصادية على امتداد الفترة الواقعة بين (1980-2014)م.
يشهد العراق الراهن نمواً مستمراً في فئة البرجوازية الطفيلية الموزعة على مجالات عديدة غير إنتاجية، كقطاعات السمسرة العقارية والتجارة والمضاربات المالية. وصار جزء من ممثلي هذه الفئة يحتل مراكز مهمة في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وجزء آخر يعمل في المقاولات والعقار، وجزء ثالث يشرف على العقود النفطية والسلاح وعلى اقتصاد النفط الخام، وجزء رابع يشتغل في التجارة الخارجية، وجزء خامس يلتقي في طبيعة نشاطه بفئة الكومبرادور المرتبطة مباشرة بالشركات التجارية الأجنبية والتي تعمل لصالحها، وجزء سادس يمارس نشاطه المالي في المضاربات المالية وسوق الأوراق النقدية.
إن هذه الأجزاء أو المراتب من الفئات الطفيلية لا تعتمد في أسلوب حياتها ومعيشتها على رواتبها الحكومية العالية وامتيازاتها الكثيرة حسب، بل وعلى السحت الحرام وأساليب نشاط غير مشروعة تستنزف أموال الدولة من الباطن أيضاً. إن هذه الفئة الغنية جداً والمتخمة بالمال الحرام تقوم بتهريب الكثير من أموال البلاد بالعملة الصعبة إلى الخارج ولها حساباتها في البنوك الأجنبية وقصورها العامرة، وهي التي يمكن اعتبارها من الفئات الرثة في سياساتها المتعددة الجوانب والمؤذية للاقتصاد وللمجتمع وللمدينة والريف في آن. وهي مناهضة عملياً للتنمية الاقتصادية والتقدم الحضاري بالبلاد. إنها تتوزع على الأحزاب الحاكمة ذات الخلفية الدينية الطائفية والقومية الشوفينية من الناحيتين الفكرية والسياسية. إنها فئات تلحق أفدح الأضرار بالمجتمع العراقي وبمستقبل أجياله.
فالواقع القائم بالعراق واتجاهات تطوره الراهنة يدفعان بهذه الفئة الاجتماعية خارج إطار الطبقة الوسطى ويصنفانها في خانة الفئة الحاكمة الرثة المستغِلة للشعب وموارده المالية على طريقة القطط السمان. وهي معرقلة لكل تقدم منشود للخروج من مستنقع الطائفية السياسية الآسن والمفرّق للصف والنسيج الوطني والاجتماعي، فهي تستخدم الهويات الفرعية القاتلة بدلاً عن استخدام هوية المواطنة الحرة والمتساوية.
كما تنتشر بالبلاد مجموعة كبيرة من متوسطي وصغار الموظفين والعا  رواتبهم من خزينة الدولة وتعيش نسبة عالية من السكان من عائلات الموظفين والمستخدمين، على هذه الرواتب(9). وفي هذه المجموعة نجد فئة دنيا من حيث الراتب ومستوى المعيشة ونوعية الحياة، وفئة وسطى هم الفنيون أو التقنيون والمدراء وضباط الجيش والشرطة والأمن الداخلي. ويمكن أن ندخل جمهرة كبيرة من المثقفين الذين يتوزعون في الغالب الأعم على المرتبة الوسطى والدنيا ولا نجد بينهم من الفئة العليا إلا النادر الذي أصبح جزءاً من الحكم ومن وعاظ السلطان!
      ويجد متتبع أوضاع عراق اليوم جمهرة واسعة جداً من السكان تحسب على فئة أشباه البروليتاريا، فئة واسعة هامشية ورثة في مستوى معيشتها ونوعية حياتها وهي غير مسؤولة عن واقعها الراهن، ولكنها في الغالب الأعم تعيش وضعاً فكرياً وثقافياً واجتماعياً متخلفاً. فهم في الغالب الأعم عاطلون عن العمل وعمال موسميون وباعة مفرد وجوالة في الشوارع وجمهرة الحمالين والكناسين والشحاذين. إنهم يعانون من الفقر المالي والجهل بشكل عام والفاقة الفكرية في آن، وهم الذين في الغالب الأعم يعيشون تحت خط الفقر وعلى هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذين بلغت نسبتهم على وفق تقدير وزارة التخطيط العراقية 19% في العام 2013، وهي نسبة غير واقعية، إذ إنها أكثر من ذلك وتصل إلى حدود 22-25%، وارتفعت حسب تقدير وزارة التخطيط العراقية في الوقت الحاضر إلى 30% من مجموع سكان العراق في العام 2014، وهو رقم متواضع بالقياس إلى الواقع الراهن، وخاص في أعقاب اجتياح الموصل وعموم محافظة نينوى ومناطق أخرى من غرب العراق.  ومن بين الفقراء والعاطلين عن العمل، وليس وحدهم، يمكن أن تجد القوى الإسلامية السياسية المتطرفة والإرهابية أرضية صالحة ومحروثة لكسب عناصر لفعالياتها الإرهابية.   
أما الطبقة العاملة العراقية فقد تقلص حجمها ووزنها النوعي في البنية الطبقية العراقية الحالية بالقياس إلى سبعينات القرن العشرين. وقد اتسع وجودها نسبياً في قطاع التنقيب عن النفط واستخراجه، في حين تقلص عددها كثيراً في القطاع الصناعي التحويلي وفي الزراعة كعمال زراعيين كانوا يعملون في مؤسسات الدولة الزراعية وفي محطات المكائن والمعدات الزراعية. وهذا العامل يرتبط بدوره بضعف البرجوازية الصناعية العراقية التي تراجع حجمها ووزنها النوعي ودورها وتأثيرها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لصالح البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية والعقارية والمقاولة والكومبرادور التجاري. إنها البرجوازية الصناعية الوطنية المتوسطة التي لعبت دوراً مهماً في النضال الوطني في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي ثم تلقت ضربة قاسية حين أصدر النظام السياسي القومي العربي إجراءات التأميم سنة 1964.
إن ضعف حجم ودور البرجوازية الصناعية يقود إلى ضعف حجم ودور الطبقة العاملة، وهو ما نعيشه اليوم، كما يقود إلى ضعف في الوعي الاجتماعي والسياسي متجلياً في فكر وثقافة المجتمع في المرحلة الراهنة، وإلى ضعف القدرة على بناء المجتمع المدني العراقي، إذ أن هاتين الطبقتين هما حاملتا المجتمع المدني الديمقراطي وبالتعاون الوثيق مع فئة المثقفين العراقيين ذات الدور المحدود حالياً، بسبب دور الحكومة الموجه ضد الفكر الحر والثقافة والديمقراطية ومكافحتهما بمختلف السبل والوسائل ودعمها غير المحدود وتبنيها للفكر الرجعي المرتبط بجمهرة من شيوخ الدين المنتفعين وبالأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية.
أما فئات الفلاحين فهم لا يعانون من شحة الماء وخصوبة الأرض المتدهورة فحسب، بل ويعانون من عودة شيوخ العشائر وكبار ملاك الأراضي الزراعية وتقاليد العلاقات شبه الإقطاعية البالية وأساليب توزيع المحصول الزراعي إلى الواقع العراقي في الزراعة. ولم يعد هناك أي اهتمام فعلي بالزراعة وحياة الفلاحين والريف العراقي. وتغرق سياسة الحكومة البلاد بالسلع الزراعية والصناعية المستوردة ما لا يفسح أي مجال إيجابي لتطور الصناعة والزراعة بالبلاد. وقد تراجع عدد سكان الريف لصالح سكان المدينة الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل، ولصالح القوات العسكرية أي الجيش والشرطة والأمن، إذ بلغ تعدادهم حالياً أكثر من مليون وربع المليون فرد. وهو أعلى رقم بلغه تعداد القوات المسلحة في تاريخ العراق كله.
ولا نتجاوز الحقيقة حين نقول بأن وعي الطبقة الوسطى في أغلبيتها ما يزال بعيداً عن الوعي الضروري لإدراك ما يجري بالعراق وما ينبغي أن يكون عليه، كما لا يعي كل أفرادها دورها في المجتمع، وبالتالي فأن هذه النسبة الكبيرة من هذه الفئة تساهم شاءت أم أبت في استمرار الوضع المأساوي القائم حالياً والمهدد بمخاطر جدية كثيرة.
وإذا ما أضيف إلى كل ذلك ضعف الوعي لدى الفئات الاجتماعية الفقيرة والمعوزة من جهة، ودور الفئات الرثة الحاكمة من جهة أخرى، ودور المؤسسات والحوزات الدينية من جهة ثالثة، وتأثيرات دول الجوار والولايات المتحدة من جهة رابعة، لأدركنا عمق الأزمة والمحنة التي تواجه المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة.     
أما فئة المثقفين فتعتبر ضمن فئات "البرجوازية الصغيرة" Petite bourgeoisie التي تشارك في بناء الإنسان فكرياً وثقافياً وروحياً واجتماعياً وسياسياً، وهي مؤهلة لأن تلعب دوراً إيجابياً بالعراق. وتاريخ العراق الحديث شاهد على دور هذه الفئة الاجتماعية الطليعية في حقبة قبل، وبشكل خاص، بعد الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر بالرغم من كل الصعوبات والتعقيدات التي صاحبت وما تزال تصاحب عمل المثقفات والمثقفين.
فئة المثقفين بالعراق موزعة على موقعين، في الداخل والخارج. ويمكن الإدعاء بأن نسبة كبيرة ومهمة من مثقفي ومثقفات العراق تعيش وتعمل في الخارج، ولكن يتوجه فعلهم في الغالب الأعم صوب الداخل ولصالح الداخل. أما النسبة الكبيرة التي تعمل في الداخل فموزعة على اتجاهات عدة ، فمنهم من أصبح يشكل جزءاً من وعاظ السلاطين والمدافعين عن المستبدين وعن الدكتاتورية أو النظام الطائفي وقادة هذا النظام، وهم من مشوهي ومعرقلي دور ومهمات الثقافة والمثقف؛ في حين أصبحت نسبة مهمة منهم تبذل قصارى جهدها لتغيير الحالة الراهنة لصالح الثقافة العراقية الحرة والديمقراطية ورفض المحاولات المستميتة لإبعاد المثقفات والمثقفين عن لعب دورهم المطلوب في الحياة الثقافية والاجتماعية وفي التنوير المطلوب لتغيير العقلية والحالة المزرية الراهنة التي يعيش الشعب تحت وطأتها.
إن المثقفات والمثقفين الذين يعون دورهم الثقافي والاجتماعي هم حملة مشاعل الحرية والحياة الديمقراطية، وهم الذين يشاركون بفعالية في إنارة الطريق صوب المجتمع المدني الديمقراطي وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية. ولكن هذه المشاعل يراد حجب نورها ودورها وتأثيرها عن الغالبية العظمى من أفراد المجتمع لصالح الفكر والطقوس المتخلفة المليئة بالخرافات وأعمال الشعوذة التي تعمل على بث التخلف ومحاربة التنوير الديني والاجتماعي بالبلاد. ومع ذلك فأن فئة المثقفات والمثقفين تشكل جزءاً مهما من الطبقة الوسطى، وليس الشريحة العليا من هذه الطبقة، والتي يمكنها أن تتحمل مسؤولية كبيرة في تخليص الفكر من تخلفه وتنوير عقول الناس لكي تسعى وتشارك في التغيير المنشود.

رابعاً: الدولة العراقية والفئات الرثة الحاكمة
إن القراءة الموضوعية المتأنية لواقع الاقتصاد والمجتمع بالعراق، ونهج الدولة الاتحادية وطبيعة السلطات الثلاث فيها، وسياسات الحكومة الاتحادية، وما آل إليه الوضع بعد اجتياح قوات الإرهاب الدموي تحت قيادة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) لمساحات شاسعة من العراق، تكشف لنا بما لا يقبل الشك إن جزءاً أساسياً وغالباً من النخبة الحاكمة الحالية انحدر من فئات اجتماعية هامشية وغير هامشية، ثم انسلخ عنها وتحول إلى الفئات التي أطلقُ عليها مصطلح "الفئات الرثة"، وهي ليست ذات الفئة التي أُطلقَ عليها في الأدب الكلاسيكي الماركسي مصطلح "البروليتاريا الرثة".
 إن مصطلح "الفئات الرثة"، ينطبق على الجزء الأكبر من النخبة السياسية العراقية، سواء أكان هذا الجزء في السلطة التنفيذية أم في السلطة التشريعية أم السلطة القضائية، أم من يجلس منهم على مقاعد وثيرة في بقية أجهزة الدولة والقوات المسلحة. وعملية إنتاج مثل هذه الفئات الرثة غير متوقفة بل هي عملية تحول وصيرورة مستمرة بالارتباط مع السمات التي وردت في الفقرة الأولى من هذا المقال.
وهذه الفئات الرثة الهجينة تسعى إلى الاغتناء على طريقة القطط السمان وتستنزف موارد الدولة من الباطن وبأساليب مافيوية معروفة وأساليب الرشاوى والنهب والسلب العلنيين. وهذا الجزء المؤثر والحاسم في النخبة الحاكمة يطبع عمل الحكومة كله ويميزه ويمنحه سلوكية معينة وإجراءات محددة، إذ تسعى هذه الفئة من خلال كل ذلك وغيره إلى إنعاش وتوسيع قاعدة الفئات التي يصطلح عليها بالطفيلية، سواء أكان ذلك في قطاع المضاربات المالية، أم في قطاع السمسرة العقارية، أم في قطاع المقاولات والعقود النفطية واستيراد السلاح، أم في قطاع التجارة الخارجية والداخلية، أم في المجالات الاقتصادية والإدارية الأخرى وفي المجتمع. وتبرز هنا إلى جانب ذلك تلك العلاقات والسلوكيات العشائرية التي لم تعد تنسجم مع القرن الواحد والعشرين، بل تعود إلى علاقات ما قبل الرأسمالية أو حتى أسوأ من الفترة التي كان العراق يئن تحت وطأة الهيمنة الاستعمارية المباشرة وسياساتها الاقتصادية. وهي تزيد في الوقت ذاته من اعتمادها على شيوخ الدين والمؤسسات والمرجعيات الدينية وعلى فتاواها عموماً، لأنها تمارس الطائفية، وبانتحال اسمها، حقاً أو باطلاً، تتحرك وتعمل المافيات المتنوعة في البلاد.
إن الواقع العراقي يشير بوضوح إلى تدهور مستمر في الأوضاع العامة. فالوضع القائم بالبلاد يعكس تشابكاً عجيباً يخدم على المدى القريب مصالح النخب الحاكمة من الفئات الرثة ذات النعمة الحديثة التي لا يهمها بأي حال تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني والمجتمع المدني، بل يتركز همها وجوهر نشاطها على سبل زيادة ثروتها من سرقة المال العام وتعظيم حساباتها المصرفية الخاصة على حساب الاقتصاد الوطني وقوت الشعب.
ويتركز ذكاء الفئات الرثة في هدف أساسي هو: كيف تحافظ على الوضع القائم وعلى وجودها في السلطة وإدامته بما يسهم في زيادة فرص نهبها لموارد الدولة وإسكات الشعب ومنع احتجاجاته. ولكنها حتى في هذه القضية فشلت في الاحتفاظ والدفاع عن أرض العراق ووحدته، إذ سمحت هذه "الفئات الرثة" باجتياح "داعش" واحتلاله لما يقرب من ثلث مساحة العراق في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز أياماً معدودة.   
لم تخل المجتمعات الرأسمالية من وجود مثل هذه الفئات البينية التي تبرز في مراحل وفترات انتقالية في إطار النمط الإنتاجي الرأسمالي أو في أثناء عملية التحول من النمط السابق للرأسمالية، وكذلك في مرحلة التراكم البدائي لرأس المال أو حتى في مرحلة متطورة منه. ويختلف دور وتأثير هذه الفئات في المراحل المختلفة من تطور الرأسمالية. ونشأت مثل هذه الفئات في البلدان النامية بفعل السياسات التي مارستها وفرضتها الدول الاستعمارية على اقتصادياتها وبالتعاون الوثيق مع الفئات الاجتماعية المرتبطة بنمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي الرافضة للتطور الصناعي والتنمية الاقتصادية أو المعرقلة له والمكافحة ضد الحداثة وتغيير البنية الاجتماعية. وقد نشأت مثل هذه الفئات الرثة في الدول الاشتراكية الأوربية وأحزابها الحاكمة لأنها تخلت عملياً عن المبادئ التي حملتها عندما وصلت إلى السلطة، وكان أهم أسباب انهيارها من الداخل أولاً وقبل كل شيء. ويمكن أن نلتقي بنماذج من هذه الفئات الرثة في الصين وكوبا وكوريا الشمالية.
وإذا كان العراق قد عرف الفئة الهامشية أو الرثة في ظل الهيمنة البريطانية على العراق والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي مارستها النخب الحاكمة المعبرة عن مصالح شركات النفط الاحتكارية ودولها الرأسمالية ومصالح فئة الكومبرادور التجاري وكبار الإقطاعيين والملاكين للأرض الزراعية وفي ظل اقتصاد نفطي ريعي، إلا إنها لم تكن ذات تأثير كبير على المجتمع والاقتصاد العراقي في ظل الحكم الملكي، كما إنها لم تكن في الحكم بشكل مباشر.
ثم أصبح العراق في ظل حكم البعث والقوميين ابتداءً من سنة 1963م تحت الهيمنة المباشرة لهذه الفئات الرثة بكل نزعاتها التدميرية وما أفرزته من عواقب وخيمة على المجتمع والاقتصاد الوطني ومستقبل أجيال العراق. وقد تواصل وجود هذه الفئة في العقود اللاحقة تحت سيطرة القوميين ومن ثم البعثيين، وبشكل خاص منذ منتصف العقد التاسع من القرن الماضي.
ومع تفاقم عواقب الحروب والحصار الاقتصادي والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المناهضة لمصالح الشعب، اتسعت قاعدة الفئات الاجتماعية الهامشية، ومن ثم تبلورت أكثر فأكثر هذه الفئة الاجتماعية الرثة الواسعة والمتسعة باستمرار والمتنوعة من حيث المنحدر الطبقي، وازداد دورها في الفترة التي سبقت سقوط الدكتاتورية. لقد كانت قيادة البعث والحكم البعثي النموذج الفعلي للفئات الرثة التي قادت البلاد لمدة (35) عاماً، وزجته في أعقد وأسوأ المحن والكوارث والموت الشنيع لمئات الألوف من أبناء وبنات العراق.
ولكن هذه الفئات الرثة التي تلقت قيادتها ضربة قاسية مع سقوط الدكتاتورية وهيمنة الاحتلال الأمريكي–البريطاني على العراق 2003م، أخلت مكانها بالقوة لقيادات وكوادر وأحزاب أخرى لتحكم البلاد بذات الذهنية الرثة ولكي تسود الرثاثة بالعراق. هذه الفئة المتسعة والمتعاظم دورها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر الدولة وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والقمعية على نحو خاص هي التي نطلق عليها مصطلح "الفئات الرثة"، وهي الحاكمة بالعراق في الوقت الحاضر، بل ومنذ 2003م. وهي التي وجدت الدعم والتأييد والمساندة الكاملة من الإدارة الأمريكية وممثلها الحاكم المدني للعراق "بوب بريمر"، فضلاً عن الدعم الرسمي من أعلى مراكز السلطة في إيران.
هذه الفئات الرثة الهجينة ليست حديثة العهد بل كانت في قوى المعارضة السياسية للنظام السابق، وهي التي اتفقت مع الإدارة الأمريكية ومنذ مؤتمر المعارضة ببيروت أن تتسلم الحكم بذريعة أنها تمثل الغالبية العظمى من السكان من الناحيتين الدينية والمذهبية. وبالتالي فإن غالبية قوى المعارضة حسمت الأمر على هذه الصورة الطائفية والأثنية في بنية قيادة المعارضة التي وافقت على شن الحرب في سنة 2003م لإسقاط نظام صدلم حسين. وكانت تشكيلة الحكم الطائفية القائمة على أساس المحاصصة مطلوبة من الإدارة الأمريكية ومناسبة لمصالحها بالعراق وبمنطقتي الخليج والشرق الأوسط، إذ بهذا الصورة يبقي العراق دون استقرار وفي صراع ونزاع مستمرين يبعده عن التنمية والتغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لما بعد صدام حسين. هذه الوجهة البائسة في التطور هو ما أطلقت عليه وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة "كوندليزا رايز" بـ"الفوضى الخلاقة" Creative Chao.  فما هي السمات التي تميز الفئات الاجتماعية الرثة التي تخلق الرثاثة وتنشرها بالبلاد؟
ابتداءً، يجب أن نشير إلى ضرورة التمييز بين الفئات الهامشية والفئات الرثة، فهما لا يعنيان بشكل تلقائي شيئاً واحداً، كما إنهما ليسا مترادفين، ولكنهما يلتقيان ببعض السمات المشتركة وأهمهما: موقعهما من الإنتاج ومن الملكية لوسائل الإنتاج وفي بعض الأخلاقيات. فالفئات الرثة الحاكمة بالعراق لا علاقة لها بالإنتاج المادي حتى الآن، وهي غير مالكة لوسائل الإنتاج حتى الآن، ولكنها تهيمن على الاقتصاد الوطني من خلال موقعها في الدولة والحكم وفي الأحزاب السياسية المهيمنة حالياً على الساحة السياسية العراقية والحكم. وهي تهيمن على موارد البلاد، وخاصة النفط الخام وعوائده المالية المتأتية من التصدير السنوي للنفط الخام، والذي يشكل أكثر من (97%) من صادرات العراق، ونسبة عالية من الناتج القومي الإجمالي ومن الدخل القومي. وهو بيد هذه الفئة الاجتماعية الرثة التي توجه الموارد المالية صوب مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، وبعيداً كل البعد عن مصالح الشعب والاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبشكل خاص التنمية الصناعية أو حتى استخدام النفط في التصفية وفي الصناعة التحويلية أو في تطوير البنية التحتية، بما في ذلك الطاقة الكهربائية ونظافة المدن والبناء  والشوارع. وهي فئة نهابة للثروة الوطنية، وتحت وطأة حكمها يسود الفساد المالي والإداري بكل صوره وأبعاده وعواقبه على الاقتصاد والمجتمع، كما ينتشر الخراب والبؤس والفاقة الفكرية والسياسية والاجتماعية والمدنية والحضارية بالمدن.
وبالرغم من وجود فساد مالي وإداري بإقليم كردستان العراق، فأن نخبه الحاكمة الممثلة لأحزاب سياسية غير إسلاموية وغير طائفية استطاعت تحقيق نتائج إيجابية في مجالات العمران والتعليم ونظافة المدن، وتطور سريع وتحسن ملموس في مستوى حياة ومعيشة السكان. ويتخلص الإقليم بسرعة ملموسة من الإهمال والتهميش والرثاثة السابقة يوماً بعد آخر، رغم إن هذا لم يتجه حتى الآن صوب عملية التنمية الاقتصادية الصناعية والزراعية بشكل ملموس ومطلوب.
أما الرثاثة السائدة في محافظات ومدن الوسط والجنوب وبغداد وغرب العراق، فهي نتاج لرثاثة الفئات الحاكمة، فحيثما وجدت تنشر رثاثتها في كل مكان. ويزيد الوضع سوءاً انتشار الإرهاب الدموي المنطلق من ذات المواقع الفكرية والسياسية، والمستخدم لأبشع الأساليب السادية قسوة ومَرَضَية، وبصورة أكثر تخريباً وتدميراً.
وقد دأبت هذه الفئات الرثة الحاكمة على فتح حساباتها المصرفية في خارج البلاد، وهي تغتني على حساب ثروة الشعب وموارده المالية وعلى حساب حياته ومعيشته. ولكنها لا تعيش على موارد البلاد حسب، بل وعلى موارد من يدفع لها من الخارج لكي تنسق معه وتتعاون في مختلف المجالات. وأجزاء مهمة من الفئات الرثة لا تكتفي بما تحت تصرفها من أموال الشعب والسبل المشبوهة في استخدامه في غير صالح المجتمع، إذ إنها تمول أجهزتها الإعلامية وحملاها الانتخابية وغيرها بأموال تأتيها دورياً من إيران، وبعضها من السعودية والخليج. ولا يتردد بعض قياديي هذه التنظيمات الإسلاموية الرثة من التصريح بمصدار تمويلهم هذه إذ يعدّونها نوعاً من العمل السياسي "المشروع".
هذه الفئات الرثة الحاكمة بالعراق لا تعرف الوطن ولا الدين الذي تتبناه شكلياً ولا المذهب الذي تدعي الانتساب إليه ولا الطائفة التي تتبجح بالدفاع عنها، فالمصالح الذاتية لكل فرد فيها هي الغاية الأساسية، وهي الوسيلة والهدف، إنها السلطة بما تعنيه من نفوذ وهيمنة ومال وجاه وإقصاء واستئصال للفكر الآخر والشخص الآخر والحزب الآخر والشعب الآخر. ولو كان في مقدورها أن تحكم بدون الناس لتخلصت منهم أيضاً.

خامساً: الدولة العراقية... إلى أين؟
لا عجب أن يعيش العراق اليوم بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة من بدء العهد الطائفي، في خضم هذا الصراع والنزاع والخراب والدمار والموت غير المنقطع، فضلاً عن هيمنة الثقافة الصفراء التعصبية. فالعملة الرديئة الرثة بدأت بطرد العملة الجيدة لأن الفئا

488
كاظم حبيب
كتاب "الرثاثة في العراق "أطلال دولة ... رماد مجتمع"
كتاب مشرك، تحرير الدكتور فارس كمال نظمي



صدر عن "دار ميزوبوتاميا" ببغداد في العام 2015 كتاب جديد تحت عنوان "الرثاثة في العراق، أطلال دولة ... رماد مجتمع"، يتضمن "نصوصاً تشريحية للوظيفة الهدمية للإسلام السياسي" بالعراق. وقد ساهم في إنجاز هذا الكتاب 21 من الباحثات والباحثين العلميين والكاتبات والكتاب في مجالات وعلوم السياسة والاقتصاد والمجتمع وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والثقافة والأدب والفنون الإبداعية والصحة والعلاقات العامة. وقد أخذ الدكتور فارس كمال نظمي على عاتقه مهمة تحرير هذا الكتاب القيم وإصداره. وحقق ذلك بشكل رائع وبجهد كبير ومحمود.
اسُتخدم مصطلح الفئات الرثة في الفكر الاقتصادي، وخاصة الماركسي، للتعبير عن أوضاع تلك الفئات الاجتماعية الفقيرة والمعدمة والمهملة من الدولة والمجتمع والتي تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية. والمصطلح العربي "البروليتاريا الرثة" هو ترجمة حرفية للمصطلح الألمانيLumpenprolitariat  . والكُتّاب هنا لا يقصدون في مقالاتهم هذه الفئة الاجتماعية الواسعة والموجودة بالعراق وفي كل البلدان النامية، وهي ما تزال موجودة في الكثير من الدول الرأسمالية المتقدمة وفي تلك الدول التي تقف على حافة التحول أو الانتقال صوب الرأسمالية والتي يطلق عليها بالألماني Schwellenländer، كما تسمى أحياناً ببلدان العالم الثاني التي تقع في مستوى تطورها بين العالمين الصناعي الأول أو المتقدم والعالم النامي أو المتخلف اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً وفي مستوى تطور قواه المنتجة المادية والبشرية.
ولكن هذا الكتاب الذي ساهمت فيه هذه المجموعة من الباحثين العلميين لم يقصدوا هذه الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة والمحرومة والمضطهدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وتعليمياً، بل هم يقصدون تلك القوى والأحزاب والجماعات أو الشخصيات السياسية والمالية وغيرها التي تمارس الحكم بالعراق ونشرت عبر وجودها في السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) الرثاثة بكل أبعاد هذه الكلمة في الدولة والحكم والتشريع والقضاء والمجتمع، وفي سلوك أجهزة الدولة مع المجتمع وأدوات وأساليب الحكم، كما نشرت الرثاثة في العلاقات الاجتماعية وفي المدن والريف العراقي وشوهت الشخصية العراقية التي لا بد أن تعود إلى نقائها يوماً. إنهم ليسوا بالضرورة من فئة اجتماعية واحدة بل يمكن أن ينحدروا من طبقات وفئات اجتماعية مختلفة ولكن المحدد لهم المحك الذي نستند إليه يبرز في الفكر الذي يتبنونه والسلوك الذي يمارسون به نشاطهم الهدمي للمجتمع والاقتصاد والفكر والثقافة والبيئة بالعراق. ويمكن أن يجد المتتبع ذلك بوضوح تام في الفساد المالي والإداري المنتشر بالبلاد والذي تحول منذ إسقاط الدكتاتورية من ظواهر سلبية واسعة الانتشار، وخاصة في أعقاب احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي الذي دام 13 سنة، إلى نظام System ) ( معمول به ومقبول من قبل الدولة والسلطات الثلاث والمجتمع منذ سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة واحتلال العراق في العام 2003 وبناء حكم طائفي ومحاصصة طائفية وأثنية بالبلاد، رغم رفض هذا النظام الشائن من الجماعات الأكثر وعياً في المجتمع. فالرثاثة بهذا المعنى تجد تعبيرها في السلوك والعلاقات الاجتماعية والأساليب والأدوات والأهداف التي فرضتها القوى الماسكة بقيادة الدولة والسلطات الثلاث، إنها أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة بالعراق، إنها الأحزاب التي تمارس قوة الهدم والتخريب والطائفية السياسية المقيتة والتشطير الفعلي للمجتمع على أسس قومية شوفينية ومذهبية طائفية متطرفة وعدوانية إزاء الديانات والمذاهب الأخرى.  إنها شوهت وهمشت الدولة والمجتمع!
إن كُتاّب مقالات هذا الكتاب تكشف عن زيف الإيديولوجية الحاكمة وأحزابها الإسلامية السياسية بشكل خاص وتشوهاتها والعواقب المريعة الناجمة عنها على الفرد والمجتمع. ويمكن أن نشير هنا إلى بعض من تلك العواقب الوخيمة التي تجد تعبيرها في كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعلاقات في ما بين الأفراد والجماعات وفي التخلي عن نهج المواطنة والمجتمع المدني إلى نهج التمييز والتهميش والإقصاء بل والقتل لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى من جانب قوى وأحزاب الحكم الطائفي. كما داست على قيم الاستقلال والسيادة الوطنية في علاقاتها مع دول الجوار والعالم، وجعلت العراق أكثر مكشوفية على اقتصاد النفط (الاقتصاد الريعي الوحيد الجانب) وعلى العلاقات الاقتصادية الدولية، وبشكل خاص التجارة الدولية تصديراً واستيراداً.
وإذا كان حكم البعث قد كرس بالعراق دعائم وسياسات الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والحروب الداخلية والخارجية والحرمان في فترتي حكمه الأولى (1963) والثانية (1968-2003)، وحوَّل البلاد إلى سجن كبير على مدى نيف وثلاثة عقود، فأن نظام الحكم الطائفي السياسي الجديد قد استثمر واعتمد ذلك الخراب الروحي والسياسي والأخلاقي ليمعن فيه ويعمق في خراب البنيان الهش ويجعل من العراق والفرد والمجتمع عمارة خربة وبؤس حقيقي لملايين البشر وفاقة فكرية وسياسية واجتماعية وتسييد تربية ثقافة صفراء جرداء وينشر حياة قاحلة بكاءة، ويمعن في تكريس مخلفات النظام الدكتاتوري السابق.
سيكتشف القاري أو القارئة لهذا الكتاب بمقالاته الـتي بلغت 22 مقالاً ودراسة بأنه يقرأ في سجلٍ مفتوح ما سطَّره الكتَّاب العراقيون بموضوعية عالية ووعي عميق بالواقع العراقي حول سمات وخصائص الأحزاب والقوى والبلد والحكم والمجتمع في واحدة من أسوأ المراحل التي مرًّ بها العراق وما يزال يعيش فيها حتى الآن. إذا كان الفساد هو المنجز الأول لهذا النظام السياسي الطائفي بالعراق فأن المنجز الثاني هو الإرهاب الذي تسلط على رقاب الناس والذي مارته ميليشيات طائفية سياسية مسلحة، سواء أكفرت الإنسان أم لم تكفره ولكنها في الممارسة العملية استخدمت العنف والقسوة في القتل على الهوية وفي قتل المزيد من البشر أو تشريدهم وتهجيرهم. إن المليشيات الطائفية المسلحة، سواء أكانت شيعية أم سنية، هي أحد منتجات النظام السياسي الطائفي الذي ابتلي به العراق منذ إسقاط الدكتاتورية، وسياسات هذا النظام الطائفية الشرسة هي التي أدت إلى اجتياح العراق من بوابة الموصل وما لحق بسكان نينوى من عواقب وخيمة، وخاصة بالنسبة للإيزيديين والمسيحيين والشبك وتركمان تلعفر. والذي أدى إلى تشريد عدة ملايين من البشر من محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك على وجه الخصوص. كما قتل الآلاف من الناس الأبرياء على أيدي جحافل الأوباش عصابات داعش وقادة البعث العسكريين وسبي النساء الإيزيديات من سنجار وزمار وغيرهما واغتصابهن وبيعهن في سوق النخاسة واختطاف المئات من الأطفال الإيزيديين وتربيتهم على القسوة والقتل والتدمير، إضافة إلى محاولة تدمير الذاكرة العراقية التاريخية من خلال تدمير تراثه الحضاري بمحافظة نينوى.     
لقد أبدع الدكتور فارس كمال نظمي في التمهيد أو المقدمة التي وضعها لهذا الكتاب والتي أوجز فيها ما يعاني منه العراق في ظل الرثاثة الحاكمة والتي جاء في بداية التمهيد المقتطف التالي:
" أوانَ تتهرأ الحياة اليومية في أي مجتمع بشري، حد انفراط العقد الاجتماعي، واندثار المعايير الجامعة، وانحطاط الوعي بالذات المشتركة، وتهشم الذاكرة الوطنية، وتفتت الهاجس المستقبلي، وزوال الذائقة الجمالية، وازدراء الجدوى من أي فضيلة، وازدهار ولع التنكيل بالآخر، وهيمنة العدمية السلوكية، وطغيان الأسطرة الكهنوتية؛.. حينذاك تختفي الغاياتُ كلها، ويصير الوجودُ العاقلُ محضَ فوضى بيولوجية لاستقواء اللحظة على الزمن، ولاحتفاء الخواء بالألم، ولتجذّر الموت في كل حياة! 
هل يبتعد العراقُ اليومَ- إنساناً ومجتمعاً وسلطة ودولة- عن هذا التوصيف كثيراً؟ هل نغامرُ بعيداً بسعينا لإشتقاقِ تأطيرٍ فكري لكل هذا التهرؤ والانفراط والاندثار والانحطاط والتهشم والتفتت والزوال والازدراء والتنكيل والعدمية والأسطرة، ضمن مفهومٍ تشريحي/ استنتاجي، متعدد الأبعاد والاختصاصات، أجدني منقاداً لتسميته بـ"نـزعة الرثاثة" التي باتت تغلف الحياة العراقية، بوصفها تعبيراً عن ثقافة الإسلام السياسي العراقي الحاكم منذ 2003م. وهذه الرثاثة الإسلاموية ما كان لها أن تتسع وتتسلط بكل هذا "العنفوان" لولا عامل ممهد أساسي هو الأرضية السوسيوسياسية التي وفرتها حقبة الاستبداد البعثي (1968- 2003)م إذ جرى وقتها تدميرٌ منظم للثقافة السياسية المستنيرة والمتحدية للمجتمع العراقي، على نحو فريد في تسلطيته وساديته وشموليته." 
       
   
       


489
كاظم حبيب
هل في مقدور التعبئة العسكرية الدولية وحدها تصفية داعش؟
خلال الأسبوع المنصرم سعى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى التعبئة العسكرية الدولية بعد اعتداء 13 نوفمبر 2015 لتشكيل حل
ف عسكري واسع النطاق، بين قوى دولية وإقليمة متعارضة ومتصارعة، ليواجه به عصابات داعش وتنظيمات إرهابية أخرى، مثل جبهة النُصرة. والسؤال الذي يراود المتتبع للأحداث وتعقيداتها بمنطقة الشرق الأوسط هو: هل في مقدور هذا التحالف الدولي العسكري تحقيق النتائج المرجوة بضرب داعش ومثيلاته بالمنطقة؟
الحراك السياسي لهولاند يماثل الحراك الذي سار عليه جورج دبليو بوش بعد اعتداء القاعدة على الولايات المتحدة في 11 أيلول 2001 وما أعقبه من تحالفات وحربين في أفغانستان والعراق والعواقب الدامية التي تعيشها بعض دول المنطقة.
إن إعلان الحرب الجوية الدولية على تنظيم داعش ومن يماثله غير كاف في كل الأحوال للانتصار على هذه التنظيمات العسكرية التي تمارس أساليب مختلفة في حربها بالعراق وسوريا وفي العالم. سأحاول تعليل هذا الاستنتاج ببعض الملاحظات:
أولاً: إن قوى التحالف الدولي التي يراد تشكيلها غير موحدة في النوايا والمصالح والأهداف التي تسعى إليها، إذ لا يكفي أن تتفق على هدف محاربة داعش، في حين إن بقية المسائل تبقى معرقلة جدية للوحدة المنشودة.
ثانياً: كما إن في التحالف الدولي الذي يراد تشكيله مجموعة من الدول تمارس دورين متعارضين، دور المناهض لداعش وجبهة النُصرة وغيرهما، ولكنها لا تمارس العمل الفعلي، بل تمارس في السر وشبه العلن بتزويد داعش والنصرة بما تحتاجه من أفراد ومعدات وأموال وفتاوى دينية تنسف التحالف العسكري المنشود. النماذج: دور تركيا والسعودية وقطر بشكل مباشر، ودول أخرى بصورة غير مباشرة في ممارسة هذين الدورين.
ثالثاً: تاسعاً: إن إصرار الولايات المتحدة والسعودية وقطر والولايات المتحدة الأمريكية على سقوط الأسد، وإيران وروسيا والعراق وحزب الله على إبقاء الأسد ونظامه، يجعل الهدف المركزي بعيد المنال. وزاد الأمر سوءاً إسقاط تركيا للطائرة الروسية في الأجواء السورية.

رابعاً: إن أجهزة أمن بعض دول التحالف الجديد تقيم علاقات تعاون غير مباشر ودعم لقوى الإرهاب الدولي، وبعضها الآخر ساهم ببناء وتطوير هذه التنظيمات الإرهابية بأهداف استعمارية وفرض الهيمنة الحديثة. ولا نغفل هنا دور الولايات المتحدة والتابعي لها إسرائيل والسعودية وقطر وتركيا وباكستان.
خامساً: لا يمكن إحراز النصر وتحقيق السلام عبر الضربات الجوية، بل لا بد من قوى برية تستطيع دحر عصابات قوى الإرهاب، وهذا يتطلب تعزيز القوات البرية للعراق وللحكومة السورية التي تصطدم برفض أمريكا ودول الخليج وتركيا.   
سادساً: لم تتخذ إجراءات على مستوى الفكر والثقافة والإعلام في محاربة فكر وثقافة وإعلام داعش والتنظيمات المماثلة. فالسعودية منبع هذا الفكر بشكل مباشر، وقطر هي الممول لتنظيم الإخوان المسلمين الأكثر تطرفاً على المستوى الدولي. بل يمكن القول أن الغرب يقيم أفضل العلاقات مع السعودية وقطر. ولم يتصدى الغرب لفتاوى شيوخ الدين بالسعودية وفتاوى قادة الإخوان المسلمين ومنهم يوسف القرضاوي، المحفزة على العدوان والعنف.
سابعاً: لم تتخذ الإجراءات الكفيلة حقاً بتجفيف منابع الأموال التي تصل إلى أيدي داعش والنُصرة، بل إن تركيا تشتري النفط عبر بلال رجب أردوغان من داعش لها وتبيع نسبة منه لأوروبا وإسرائيل، وهي تعرف بأن هذا النفط مسروق. 
ثامناً: لم يتخذ المجتمع الدولي موقفاً واضحاً وحازماً إزاء استخدام قوى داعش والقاعدة وغيرهما  للفيسبوك وتويتر والفديو وغيرها في الدعاية لأفعالها الإجرامية وتعبئة الناس حولها، مما يجعل الشباب العاطل والأمي سياسياً عرضة لتأثير هذه القوى وانخراطها في صفوفها.
تاسعاً: يلعب الفقر والتخلف والأمية السياسية بدول المنطقة وكذلك الكراهية للسياسات الغربية ومواقفها إزاء القضية الفلسطينية وتأييد سياسات إسرائيل في الاحتلال والعقوبات الجماعية وعدم حل المسألة بصورة عادلة وسلمية دوراً بارزاً في جعل دعايات هذه التنظيمات الإرهابية أكثر قبولاً لدى جمهرة من الشبيبة المسلمة.
عاشراً: إن الأوضاع المزرية لمجموعات سكانية كبيرة من المقيمين بفرنسا وبلجيكا مثلاً، حيث تسود البطالة والفقر والبؤس والتهميش الاجتماعي والاقتصادي، تجعل من شباب وشابات هذه المجموعات عرضة لمناهضة الدول الأوروبية أو الانخراط في التنظيمات الإرهابية. ونسبة عالية من مقاتلي داعش هم من مواطني ومواطنات دول أوروبية.
أحد عشر: كما إن الصراع الطائفي بين إيران والسعودية، والصراع بين إيران وتركيا على الدور القيادي بالمنطقة يقودان إلى المزيد من الحروب الداخلية والتعقيدات. النماذج: اليمن وسوريا والعراق. وتلعب هذه التعقيدات دوراً كبيراً في إضعاف القدرة على تصفية قوى الإرهاب الإسلامي السياسي التي أطلقتها الولايات المتحدة والسعودية وباكستان قبل ما يقرب من ثلاثة عقود في أفغانستان وامتدادها إلي أمريكا والشرق الأوسط وأوروبا أخيراً.
إن حرباً ناجحة ضد داعش ومن يماثلها على صعيد البلدين والمنطقة يتطلب خوض حرب على كل تلك الجبهات العسكرية والأمنية والفكرية والسياسية والإعلامية وعلى الفساد وضد بيع المزيد من الأسلحة التدميرية لقوى ودول المنطقة، يتطلب إيقاف التدخل في شؤون هذه البلدان. وستبقى هذه البلدان عرضة لقوى التطرف والإرهاب ما دام الفقر والتخلف والنهب والحكومات المستبدة ومصادرة الحريات هي السائدة في هذه البلدان والمدعمة من دول الغرب دون استثناء.                   


490
كاظم حبيب
هل يعي المجتمع الدولي طبيعة الإرهاب الإسلامي السياسي؟
خلال الأسابيع القليلة المنصرمة شهد العالم عدداً من العمليات الإرهابية الإجرامية الكبيرة التي أودت بحياة المئات من الناس الأبرياء من مختلف الجنسيات وفي أكثر من بلد واحد، في نيجيريا ومصر ولبنان وفرنسا ومالي والعراق وغيرها. قُتل في الطائرة الروسية في شرم الشيخ 240 شخصاً بفعل وضع قنبلة، وفي لبنان عشرات الأشخاص وفي فرنسا 130 شخصاً ومئات الجرحى والمعوقين، وكذا الحال بمالي والعراق. إن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي التكفيري هو المتهم الرئيس في جميع هذه العمليات، في ما عدا عملية مالي، حيث توجه الاتهام لتنظيم القاعدة الإرهابي. ورغم تصاعد صيحات الغضب من قبل الدول الكبرى ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي، فأن المجتمع الدولي لم يحزم أمره موحداً ولم يضع الخطة الموحدة وكما ينبغي لمواجهة هذا التنظيم الإرهابي وتصفيته وإنقاذ البشرية من شروره. فما السبب وراء غياب الوحدة الدولية؟ ليس هناك من عاقل يشك بأن النفوذ والمصالح الجشعة للدول الرأسمالية الكبرى ببلدان ونفوط الشرق الأوسط يعتبر السبب الرئيس وراء عدم الاتفاق والذي تستفيد منه جميع التنظيمات الإرهابية وتمنحها القدرة في إنزال المزيد من الضربات والموت بسكان أغلب دول منطقة الشرق الأوسط، والتي انتقلت بفعالياتها من جديد إلى دول أوروبا ولا نستبعد إن تصل إلى أمريكا أيضاً.
لم تتحرك الدول الكبرى لمواجهة داعش منذ اللحظات الأولى لبروز هذا التنظيم ونشاطه، ولم تسع إلى تجفيف منابع إعادة إنتاجه، وهي التي تعرف جيداً بأن مصدر الوباء الدموي يكمن في المملكة العربية السعودية وقطر، بل راحت تعزز علاقاتها بهاتين الدولتين المتطرفتين وفتاوى شيوخهما وتبيع لهما المزيد من السلاح والعتاد الحديث والمتقدم الذي يستخدم اليوم في الحرب القذرة للتحالف العربي في اليمن والذي مول وما يزال يمول الإرهابيين من أتباع داعش والقاعدة وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإرهابية المشبوهة. نعم، لم يعي المجتمع الدولي طبيعة المخاطر الجدية التي تواجه الكثير من شعوب العالم أو لا تريد أن تعي ذلك؟
لقد قُتل بالعراق منذ سنوات حتى الآن عشرات الآلاف من العراقيين والعراقيات وهجر الملايين من الناس من مناطق سكناهم في الداخل والخارج. وهذا ما حدث مع سوريا حيث يقدر عدد القتلى حتى الآن بين 250000-300000 مواطن ومواطنة وهجر أكثر من 5 ملايين إنسان يعيشون في أسوأ الأحوال. وليست ليبيا بحال أفضل. لقد عمل بوش الابن وتوني بلير إلى نقل الإرهاب الدموي من أمريكا وأوروبا إلى الشرق الأوسط عبر حربي أفغانستان والعراق، والآن يعود هذا الإرهاب الدموي المجنون إلى أوروبا ثانية وليس بعيداً أن يعود إلى أمريكا وبقية الدول الأخرى، وهو ما حذرنا منه كثيراً ولكن لم تكن لهؤلاء أذاناً صاغية، بل كانت المصالح الأنانية قد أعمت بصائرهم وأبصارهم. وإن تصريحات الندم من بوش الأب وبلير لن تنفع أحداً من القتلى والجرحى والمعوقين ولن تعيد الحياة لهم كما لن تعيد الخسائر المادية والمالية والحضارية لأهلها، فمعاناة الشعوب وفقدان التراث الحضاري لا ينفعها الندم ولا يداوي جراحها ولا يستعيد ما فقدته من تراث عظيم، ولا بد كمن تقديمهما للمحاكمة..
وبالأمس تعرضت باريس، مدينة الحب والجمال، المدينة التي نشرت أفكار الحرية والإخاء والمساواة، هذه المدينة الساحرة التي هي قبلة الملايين من البشر سنوياً، تعرضت إلى أبشع جريمة إرهابية مارسها مسلمون سياسيون متطرفون وتكفيريون من أتباع التنظيم الإرهابي (داعش) وراح ضحيتها حتى الآن 130 شهيداً فرنسياً وأكثر من 300 جريح ومعوق. وكانت عواقب ذلك كثيرة منها:
** انقسام المجتمعات الأوروبية إلى نصفين: نصف ضد قبول اللاجئين والنصف الآخر إلى جانب استيعاب المزيد منهم، بعكس ما كان عليه قبل عمليات باريس. والبدء بتقليص عدد قبول اللاجئين والتوقف عن جمع شمل العائلات.
** تفاقم الوجهة اليمينية في السياسة الأوروبية على المستوى الأوروبي والوطني وتفاقم دور اليمين المتطرف.
** تنامي العداء للأجانب وتفاقم خشية المسلمين عموماً والعرب خصوصاً المقيمين في أوروبا من توتر العلاقات وتنامي الشكوك بهم وسوء المعاملة.
** اتخاذ الحكومات إجراءات أمنية مشددة بما في ذلك تقلص الحريات الفردية الشخصية والعامة، والحركة بين دول الاتحاد الأوروبي، وهي خسارة كبيرة للجميع.
إن معالجة الأوضاع لا تتم بهذه الإجراءات بل بوحدة المجتمع الدولي وممارسة الرأي العام العالمي للضغط على حكوماته لوضع خطة دولية ملزمة لمحاربة داعش والقاعدة وجبهة لنصرة وبوكو حرام والمرابطون وغيرها، وتحريم كل أشكال الدعم الخليجي ودول أخرى لقوى الإرهاب وحل الأزمة السورية ودعم التغيير بالعراق وإيقاف الحرب اليمينية ودعم جهود السلام بليبيا. إنه الطريق الوحيد للتفاهم بين الدول السبعة الكبار + واحد، إذ بدون روسيا لا يمكن النجاح في إيقاف الحرب بسوريا وتأمين الحل السلمي لبناء الدولة المدنية الديمقراطية على أنقاض الدولة البعثية المستبدة، والكثير من مشكلات الشرق الأوسط، والتصدي ضد التوجه لإقامة الدول الدينية.



491
كاظم حبيب
لمن ولاء أجهزة الأمن العراقية للشعب أم لغيره؟
ارتكبت يوم الثلاثاء المصادف 13/11/2015 جريمة اعتداء وحشي على القائد الجماهيري والمناضل جاسم الحلفي ومعه مجموعة من المناضلين نشطاء الحراك الشعبي، نشطاء التظاهرات الشعبية المطالبة بمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين واستعادة أموال الشعب من جيوب وبنوك هذه الزمر التي نهبت الشعب وخزينة الدولة، وتوفير الخدمات للمجتمع وتعبئة الشعب لمواجهة مظفرة ضد عصابات داعش وجرائمها البشعة في محافظة نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالي وغيرها. لقد تعرض المعتقلون للإهانة والشتم والضرب على أيدي أجهزة أمنية حقيرة على مقربة من مجلس النواب العراقي والقريب من حي الخضراء، رغم أنهم كانوا يمارسون حقاً ثابتاً ومكرساً في الدستور العراقي، حق التظاهر السلمي والمطالبة المشروعة بحقوق الإنسان والمجتمع، ومرخصاً به أيضاً. فمن يا ترى أعطى الأوامر باعتقال جاسم الحلفي والمخج السينمائي المعروف محمد الدراجي ومجموعة المناضلين في سبيل مصالح الشعب والوطن؟ لم يبرز جهاز الأمن العراقي قراراً بالاعتقال، بل اعتقلوا بأوامر لم يحدد مصدرها، وهي مخالفة صريحة أخرى ضد الدستور العراقي والقوانين المرعية، كما أنها ضد التصريحات المستمرة لرئيس الوزراء العبادي بتأييده للتظاهرات ودعمه لمطالبهم! فمن يا ترى أعطى جهاز الأمن العراقي حق الاعتقال والاعتداء الوحشي على المعتقلين وممارسة ما كان المجرم صدام حسين يمارسه، أو الذي مارسه المستبد بأمره نوري المالكي حين كان رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة ومسؤول الأجهزة الأمنية والخاصة؟ وعلينا جميعاً أن نتساءل: لمن ولاء أجهزة الأمن العراقية هل للشعب أم للمالكي وطغمته الفاسدة التي ما تزال تتحكم برقاب الناس تماماً كما كانت تفعل قبل إبعاد المالكي المشروع عن السلطة التي "أخذها وبعد ما يريد ينطيها"؟ فهو يدعي أنه نائب رئيس الجمهورية وبالتالي يجد من حقه أن يعطي الأوامر بالاعتقال والضرب دون أن يحاسبه أحد!!! لك الشعب ي نوري المالكي!!
إن الاعتداء الأخير ببغداد قد سبقته اعتداءات واعتقالات كثيرة ببغداد وبمدن عراقية أخرى، وكثيراً ما صرح رئيس الوزراء بأنه طلب التحقيق ولم تظهر النتائج، فهل إن تصريحات رئيس الوزراء جزء من توزيع الأدوار بين قياديي حزب الدعوة؟
 لقد أُطلق سراح جاسم الحلفي ولكن هناك الكثير من النشطاء الذين ما زالوا قيد الاعتقال ويتعرضون يومياً للإهانة والشتائم والضرب، بمن فيهم اختطاف الشاعر جلال الشحماني ويشار إلى إنه قد اقتل تحت التعذيب. فمن المسؤول عن ذلك إن لم يكن رئيس الوزراء، أو أنه لا يستطيع إيقاف مثل هذه التجاوزات العدوانية الفظة من قبل جهاز الأمن الذي ما يزال، كما يبدو، يسيطر عليه أتباع المستبد السابق بأمره نوري المالكي ويدين له وحده بالولاء.
"قال الناشط المدني وعضو الائتلاف المدني جاسم الحلفي في حديث إلى (المدى برس)، إن "المئات من الناشطين المدنيين تظاهروا، صباح اليوم ، قرب المنطقة الخضراء وسط بغداد للضغط على البرلمان لمطالبته بأداء واجباته الدستورية والمهمات المنوطة به"، وأضاف أن "سيارات حكومية يستقلها رجال أمن بزي مدني قاموا باعتقاله إلى جانب العشرات من المتظاهرين بعد ضربهم وشتمهم بألفاظ نابية يصعب التلفظ بها"، مؤكداً أن " القوات الأمنية أطلقت سراحه لكن لا يزال عشرات المعتقلين لديهم من الناشطين وتم أخذهم إلى مكان مجهول". (راجع المدى برس). ونشرت جريدة العالم العراقية صبيحة الأربعاء (18/11/2015) على صفحتها الأولى نداء استغاثة وجهه الناشط المدني والسينارست المعروف حامد المالكي إلى جهات كثيرة بمن فيها المرجعيات الشيعية والمؤسسات الدينية السنية، إلى مجلس الأمن الدولي ومنظمات حقوق الإنسان والرأي العام العالمي لإنقاذ العراق من الاستهتار بحياة الشعب جاء فيه: "العراق يسرق، ومعه تسرق أعمارنا وأحلام أولادنا، أنقذونا قولوا شيئاً. لقد مللناهم وملونا، أنقذوا العراق يا كرام، أنقذونا إننا نموت كمداً، ونموت حباً، ونموت غضباً، أنقذونا."         
إن على الإنسان العراقي الحر، على قوى المجتمع المدني، وعلى الواعين والشرفاء من بنات وأبناء الشعب العراقي أن يرفعوا صوت الاحتجاج بوجه أولئك الذين يمارسون التعسف ضد المتظاهرين المطالبين بحقوق الإنسان والمجتمع، أن يواصلوا التظاهر لتحقيق المطالب الشعبية العادلة والمشروعة التي يتصدى لها أعداء الشعب.   
علينا المطالبة بإطلاق سراح النشطاء المعتقلين بسبب مشاركتهم في التظاهر لصالح حقوق الشعب ومطالبه العادلة فوراً ومحاسبة الذين اعتقلوهم وأعطوا الأوامر بذلك وبالإساءة لهم وضربهم. إن مصداقية رئيس الوزراء تفقد بريقها ما دام العراق يواجه مثل هذه التجاوزات ولا يستطيع إيقافها!!!


492
كاظم حبيب
هل يمكن تحقيق التغيير بولاءين؟
تؤكد تجارب شعوب الأرض، ومنها تجارب الشعب العراقي، بأن من يعمل بولاءين يفقد الأرضية التي تساعده على تحقيق الأهداف التي يسعى إليها، وغالباً ما تميد به الأرض ليسقط خاوياً. البعض من هؤلاء قليل الأثر في الأحداث، والبعض الآخر يمكن أن يتسبب بوقوع كوارث عواقبها على المجتمع. سأحاول هنا طرح نموذجين لشخصيتين عراقيتين بارزتين في هذا الشأن.
النموذج الأول: د. أحمد الجلبي
قبل فترة وجيزة مات الدكتور أحمد الجلبي مبكراً، وكان الرجل مليئاً بالطموحات ويسعى إليها بطريقته الخاصة. عاش الجلبي بولاءين: ولاء للبرالية الجديدة، وولاء للطائفية الجديدة جرَّه إلى الولاء والتوافق مع سياسيات اللبرالية الجيدة الأمريكية, وولاء الطائفية السياسية جرًه إلى التوافق مع السياسات الإيرانية على صعيد العراق بشكل خاص. هذا النهج الثنائي أبعده كلياً عن العلمانية والديمقراطية، وجعله يدور بين مدينتي "نعم" و "لا"، ففقد الأرضية التي يقف عليها وأضاع مصداقيته عند الشعب. لم يمنحه الشعب الأصوات الكافية للفوز في الانتخابات العامة الأخيرة، بل دخل المجلس النيابي لوجوده في قائمة المجلس الإسلامي الأعلى.
لقد احتضنته إيران قبل الحرب العراقية الإيرانية، وكان يسعى لأن يكون وسيطاً بين إيران والولايات المتحدة، كما احتضنته الولايات المتحدة لأنها كانت تريده أن يكون المسوق للحصار الاقتصادي الدولي الذي دام 13 سنة ودمر الشعب العراقي وليس الحكم الدكتاتوري، وكذلك المسوق للحرب ضد الدكتاتورية الصدَّامية، وحين اصطدمت مصالحها بموقف الجلبي من الاحتلال لفظته وجعلته بعيداً عن التأثير في أحداث العراق. وما تأسيسه للبيت الشيعي إلا محاولة جادة للتقرب إلى المرجعية وإيران على نحو خاص واستجابة لرغبة الولايات المتحدة في تشتيت وحدة الشعب وإشاعة الصراع"السني –الشيعي" بالبلاد.
لم يجد الجلبي أمامه إلا التفتيش عن موضوع يستطيع به كسب تأييد الناس فكان الفساد المالي كنظام سائد ومعمول به بالعراق وتمارسه السلطات الثلاث بصيغ وأساليب وأدوات مختلفة. لقد فقد الجلبي ثقة إيران به لعلاقته بالولايات المتحدة، وفقدت الولايات المتحدة الثقة به لعلاقته بإيران, وفقد ثقة الشعب العراقي لعلاقته بإيران والولايات المتحدة وليس بالشعب العراقي. وسيبقى الناس يتساءلون عن ثروته ومصادرها!
النموذج الثاني: حيدر العبادي
ينتمي حيدر العبادي إلى حزب سياسي طائفي بامتياز ومارس حزبه الطائفية السياسية بكل أبعادها وما يزال، وكان جزءاً من المحاصصة الطائفية في الحكومة التي شغل حقيبة فيها وهو الآن رئيس وزراء ضمن المحاصصة. وكان المسؤول المالي في حزب الدعوة، ومرت عليه كل أسرار النهب والسلب ولم يرفع صوته ضدها، بل تركها تمر، ولهذا يعتقد البعض إن أيديه ملطخة بالفساد المالي أيضاً، ولست ممن يعرف حقيقة أمره!
العبادي يعيش ولاءين، أحدهما راسخ فيه كعضو في حزب الدعوة، وهو في قيادته. والولاء الطائفي يعني ضد العلمانية وضد الديمقراطية كنهج فكري وسياسي لحزب الدعوة ويمثله في ذلك نوري المالكي وبطانته، ولا يمارس  حزب الدعوة الديمقراطية إلّا أداة للوصول إلى الحكم، كما عبر عن ذلك زميله في قيادة حزب الدعوة علي الأديب. والولاء الجديد الذي أعلن عنه حين أصبح رئيساً للوزراء بأنه سيعمل لبناء دولة مدنية. والدولة المدنية لا تبنى إلا بعقول علمانيةً وديمقراطيةً ومناهضة للطائفية السياسية وضد وجود أحزاب سياسية دينية تريد بناء دولة دينية تعتمد الشريعة. فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يقود عملية التغيير حين تكون قدمه الأولى راسخة في حزب الدعوة، وقدمه الأخرى متأرجحة في الجانب الآخر. هل يمكن أن يقال عنه أنه يعيش بين مدينتي "نعم" و "لا" كصاحبه الجلبي،  وكما يعبر عنه بالعراقي "لا حَضَتْ برجيله ولا خَذَتْ سيد علي!"؟ إنه يخشى حزبه ويخشى عليه وعلى تحالفه، وهو يريد استمرار التظاهرات ولكن لا يوفر لها الحماية ولا يستجيب لمطالبها! حصل علي تأييد محلي ودولي واسعين فتردد وتراجع، ففسح في المجال ما يكفي لهجوم مضاد من أغلب رفاقه في الحزب، وعلى رأسهم المالكي، هم أعداء التغيير!
وهو إذ يطرح من هم مع التغيير يخشى أن يسمي من هم ضد التغيير. ومثل هذه المواقف لا يمكن أن تلبي مطالب الشعب ولا تقود إلى النجاح. إن خسارة المعركة مبرمجة سلفاً إن استمر بهذين الولاءين: ولاء لحزبه ومن هم فيه من أعداء التغيير على حساب الشعب، وولاء ضعيف ومهزوز لمن يريد التغيير. وسيفقد المعسكرين لأن الأول يريد منه التخلي عن التغيير أو إزاحته، ويرى فيه المتظاهرون إنه عاجز عن أي تغيير حقيقي رغم النداء الذي وجهه للشعب العراقي وأكد إصراره على عملية التغيير وإقامة الدولة المدنية!                   
لا يمكن للمجتمع أن يتحمل الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة والمتفاقمة، فهي مجهدة للإنسان والمجتمع وللمقاتلين  ضد عصابات داعش.  ولا بد من حسمها، ولكن أعداء التغيير يملكون من الأسلحة ما يمكنهم بها إعادة الأمر إلى نقطة الصفر، فهل ستسكت قوى التغيير لترى نهاية الأمل بالتغيير أم سينشأ ما يغير التوازن لصالح الشعب وضد أعداءه؟



493
كاظم حبيب
الموقف من عمليات التغيير الديموغرافي لأراضي المسيحيين بكردستان العراق!

وقفت الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية والديمقراطية العراقية بحزم وتضامن وأدانت بقوة النشاط العنصري والعدواني الذي مارسه نظام الحكم البعثي الدكتاتوري والدكتاتور صدام حسين في مصادرة بيوت وأراضي الكُرد في كركوك ومناطق أخرى، أو في تغيير تسميات قرى ونواحي وأقضية ومحافظات ولإجراء تبديلات واسعة في التشكيلات الإدارية للمحافظات في محاولة جادة وشريرة لتغيير الطابع السكاني لتلك المناطق وإسكان مجاميع من السكان العرب الذين تم استيرادهم بصيغ مختلفة من الجنوب والوسط. كما مارس النظام ذلك في مناطق المسيحيين في تلكيف وبرطلة على سبيل المثال لا الحصر. وقد عملت منظمات المجتمع المدني ضد هذه الاتجاه المرفوض دولياً وضد الدستور العراقي وضد مصالح الشعب والعلاقات الودية والتضامنية بين أبناء وبنات القوميات العديدة القاطنة بالعراق، خاصة وأن من تعرض لمثل هذه الإجراءات هم من أصل أهل البلاد، وهم الكُرد والكلدان الآشوريون السريان.
وبعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة لم تتوقف عمليات التغيير الديموغرافي لمناطق المسيحيين بل تواصلت في المناطق التابعة إدارياً لمحافظة نينوى، ولكنها كانت تحت حماية حكومة الإقليم وقوات البشمركة. وبسبب التجاوزات الكثيرة على مناطق المسيحيين عقد مؤتمر أصدقاء برطلة في مدينة أربيل وفي برطلة ضد عمليات التغيير الديموغرافي (السكاني) لمناطق المسيحيين بما في ذلك عنكاوة. وكنت رئيس اللجنة التحضيرية لهذا المؤتمر وبمشاركة مجموعة من أصدقاء الشعب الكردي، منهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ القاضي زهير كاظم عبود والأستاذ الدكتور تيسير الآلوسي والأستاذ الدكتور صادق أطيمش وأمين عام هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الأستاذ نهاد القاضي. وقد طرحت في هذا المؤتمر الذي عقد في 23-24/11/2013 الكثير من المعلومات والوثائق التي تبين حصول تجاوز على مناطق المسيحيين من المجلس الأعلى الإسلامي بشراء دور سكن كثيرة ببرطلة ومسجلة بأسماء أشخاص شيعة وكذلك في مناطق أخرى لبناء جوامع في وسط منازل السكان المسيحيين وسكوت حكومة الإقليم على هذه التجاوزات. وفي نهاية المؤتمر دعينا لزيارة السيد رئيس الإقليم مسعود بارزاني الذي لم يتسن له حضور المؤتمر بسبب وعكة صحية. وفي هذا اللقاء المهم سلمنا السيد رئيس إقليم كردستان مئات الوثائق التي تؤكد عمليات التغيير الديموغرافي ضد مناطق المسيحيين، والمخالفة للدستور العراقي والكردستاني، إضافة إلى عدم تنفيذ قرارات صادرة عن محاكم لصالح المسيحيين.
وتضمن آخر تقرير صدر عن لجنة الحقوق الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية ((CESCR التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة بتاريخ 27 تشرين الأول 2015، "فقرة خاصة (الفقرة 13) عن "النزاعات على الأراضي في إقليم كوردستان"، وأبدت اللجنة "قلقها من استمرار هذه النزاعات بين الآشوريين وحكومة إقليم كوردستان" التي قالت بأن أراضيهم قد تم مصادرتها في الكثير من الأحيان بحجة الاستثمار، وأضافت إن العديد من القرارات القضائية الصادرة والداعية لإعادة هذه الأراضي لأصحابها لم يتم تنفيذها نظاميا ومنهجيا." وأنهت اللجنة تقريرها بتوصية وردت في (الفقرة 14) تدعو الطرف المعني "إقليم كوردستان" إلى "اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة الخلافات بين حكومة الإقليم والكلدان السريان الآشوريين، ووضع حد للمصادرة غير المشروعة لأراضيهم، ومن دون التعويض وتوفير البديل، كما ودعت لضمان تنفيذ القرارات الصادرة عن المحاكم والقاضية بإعادة الأراضي لأصحابها، ملفتة انتباه الدولة الطرف إلى تعليقها العام رقم 7 لسنة 1997 والخاص "بحالات الإخلاء بالإكراه".
وفي رسالة وجهتها شخصياً إلى السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في العراق جاء فيها ما يلي:
"جاء عقد هذا المؤتمر نتيجة لواقع التغيير السكاني الواسع النطاق الذي حصل وما يزال يحصل في سهل نينوى وفي أكثر من ناحية فيه في غير صالح المسيحيين على نحو خاص. بدأ هذا التغيير السكاني في عهد دكتاتورية البعث وصدام حسين في قضاء ""تلكيف" ومن ثم في ناحية "برطلِّة وكذلك إزاء الشبك. ولكن تواصل ذلك حتى بعد سقوط الدكتاتورية البعثية الصدامية بصورة أوسع وأكثر خطورة على المسيحيين دفع الكثير من الناس بعقد مؤتمر أصدقاء برطلِّة. فمن يتابع الوضع السكاني في قضاء تلكيف سيجد إن القضاء الذي كان قبل ذاك بالكامل مسيحي، أصبح اليوم قضاءً "عربياً" بحكم التغيير السكاني ووجود أكثر من 90% من العرب السنة والعسكريين السابقين وغيرهم فيه، في حين أصبحت نسبة المسيحيين أقل من 10% فقط. وفي ناحية برطلِّة التي كانت حتى وقت قريب كلها تقريباً مسيحية ما عدا بعض بيوت الشبك، أصبحت اليوم أكثر من 60% شبك شيعة جعفرية, وفيها أقل من 40% مسيحيين لا غير. إن هذا الوضع يعبر عن عمليات تغيير سكاني (ديموغرافي) غير مقبولة على وفق الدستور العراقي لعام 2005 وغير مقبولة دولياً على وفق اللوائح الدولية للأمم المتحدة ولوائح حقوق الإنسان وحقوق الجماعات الدينية والقومية." وبتاريخ 23 تموز 2013 تشكلت المحكمة الاتحادية برئاسة القاضي مدحت المحمود وأصدرت قرارا مهما يقضي بعدم تغيير ديموغرافية المناطق التي تسكنها الأقليات العرقية والأثنية ومنعت المحكمة بأي شكل من الأشكال تغير ديموغرافيتها وعدم توزيع الأراضي وتمليكها على الآخرين وان قرار المحكمة جاء تفسيرا للمادة (23/ثالثاً/ب) من الدستور العراقي. وإلى القراء والقارئات الكرام نص القرار:
" تشكلت المحكمة الاتحادية العليا بتاريخ 23/7/2013 برئاسة القاضي السيد مدحت المحمود وعضوية كل من السادة القضاة فاروق محمد السامي وجعفر ناصر حسين وأكرم طه محمد وأكرم احمد بابان ومحمد صائب النقشبندي وعبود صالح التميمي ميخائيل شمشون قس كوركيس وحسين أبو التمن المأذونين بالقضاء باسم الشعب وأصدرت قرارها الآتي: الطلب :
طلب مجلس النواب العراقي بموجب كتابه الديوان / الدائرة البرلمانية /شؤون الأعضاء / المرقم (1/9/4901 ) في 2/7/2013 من المحكمة الاتحادية العليا تفسير المادة (23/ثالثاً / ب ) من الدستور العراقي أدناه ونصه الآتي :
تحية طيبة :
(( لاتخاذ الإجراءات اللازمة لغرض إعلام مجلس النواب تفسير المادة (23/ثالثاً/ب) من الدستور التي تنص على أن يحضر التملك لأغراض التغيير السكاني ) فيما يتعلق بالنقاط التالية :
1- المكان : ما هو الحيز المكاني الذي يشمله التغيير السكاني على مستوى المدن والقرى ذات الخصوصية والكثافة السكانية التاريخية ؟ أم يتعدى ذلك ؟
2- المدة : أليس بالضرورة إن ما يحدث كثيرة تغييراً سكانياً في منطقة ذات خصوصية قومية أو أثنية أو دينية فأن قليله يمنع ؟ فليس بالضرورة أن يحصل التغيير السكاني مرة واحدة ولكن قد يحصل على مراحل عدة وبأعداد مختلفة .
3- التملك : إن مفردة التملك الواردة في المادة الدستورية , تعني توزيع الدولة للأراضي والوحدات السكنية وعمليات البيع والشراء بين المواطنين لاستملاك أراضي والوحدات السكنية لصالح المواطنين من خارج الوحدة الإدارية ذات الخصوصية المغايرة والتي تحدث باستمرارها تغييراً سكانياً . مع التقدير :
القرار :
لدى التدقيق والمداولة من المحكمة الاتحادية العليا وجد ان المادة (23/ثالثاً / ب ) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 والتي تنص على (( يحضر التملك لأغراض التغيير السكاني )) ويعني ذلك ان الدستور العراقي حظر تمليك أو تملك الأشخاص أفرادا أو جماعات للعقارات بكل أجناسها وأنواعها وفي أي مكان من أرجاء العراق سواء كان ذلك على مستوى القرية أو الناحية أو القضاء أو المحافظة وبأي وسيلة من وسائل التمليك أو التملك وذلك إذا كان وراء ذلك التمليك أو التملك هدف أو غاية التغيير السكاني وخصوصياته القومية والأثنية أو الدينية أو المذهبية , حيث نص ان المادة (23/ثالثاً/ب) من الدستور ورد مطلقاً في حكمه وهادفاً مع النصوص الدستورية الأخرى في الحفاظ على الهوية السكانية بمناطقها الجغرافية في العراق القومية منها والاثنية والدينية والمذهبية وما شكل مقيداً لنص المادة ( 23/ثالثا/ أ) من الدستور التي أجازت للعراقي تملك العقار في أي مكان في العراق, لان نص المادة (23/ثالثاً /ب ) من الدستور ورد بعد نص المادة (23/ثالثاً/أ) من الدستور من حيث الترتيب التدويني ولأنه كما تقدم ورد بصيغة المطلق والمطلق يجري على إطلاقه وصدر القرار بالاتفاق في 23/7/2013". [راجع: موقع بحزاني. بتاريخ 16/11/2015]. راجع الملحق في نهاية المقال ويتضمن نص القرار.
ولكن الاتهام موجه اليوم إلى إقليم كردستان العراق بممارسة ما مورس قبل ذاك ضد الكًرد وهو ما تذَّكر به اللجنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأمم المتحدة بتعليقها رقم 7 لعام 1997. فالتغيير الديموغرافي طال قرية ميزي التابعة لقضاء العمادية والعديد من قرى قضاء عقرة وقضاء زاخو كقرية قرولا وغيرها، كما حصل تجاوز على بساتين وأملاك وقرى المسيحيين في سنهل نينوى في قضائي الحمدانية وتلكيف والقرى التابعة لها، وحصل مثل هذا التجاوز في محافظة دهوك أيضاً.
إن محنة المسيحيين العراقيين في أعقاب ما حصل لهم بالموصل كبيرة جداً ولا يجوز للحكومة العراقية أو حكومة إقليك كردستان العراق تحميلهم المزيد من المحن والكوارث بخسارتهم لدورهم ومناطق سكناهم عبر عمليات تغيير ديموغرافي هادفة وغير مشروعة. إن ما يجري اليوم مخالف لكل الأعراف والدستور العراقي والقوانين الدولية، ولهذا أطالب رئاسة إقليم كردستان التي أوعدتنا بمعالجة هذا الموضوع حين سلمنا السيد رئيس الإقليم مجموعة كبيرة من تلك الوثائق التي تثبت عمليات التغيير الديموغرافي غير الشرعية في يوم 25/11/2013 وبحضور وفد كبير من أعضاء مؤتمر أصدقاء برطلة، وكذلك المطالبة موصولة لحكومة الإقليم والبرلمان والحكومة العراقية. ونأمل أن تعالج هذه المسالة لصالح التعاون والتضامن والتآخي بين أتباع جميع القوميات بالعراق.
 
الملحق 1، نص قرار المحكمة الاتحادية بشأن التغيير الديموغرافي
 
 ثلاث صورة مستنسخة لقرار المحكمة الاتحادية حول ترحيم التفيير السكاني لمناطق المسيحيين ...الخ
 
 
الملحق رقم 2: نص قرار اللجنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة بشأن التغيير الدجيموغرافي لمناطق المسيحيين في إقليم كردستان العراق
United Nations E /C.12/IRQ/CO/4
Economic and Social Council
Distr.: General 27 October 2015
 
13.
The Committee is concerned about the persistence of land disputes between
Assyrians and the Kurdistan Regional Government, and that lands belonging to Assyrians were frequently expropriated for investment purposes. The Committee is also concerned that judicial decisions to return such lands to
Assyrians were not systematically enforced (art.1).
14.
The Committee recommends that the State party take measures to resolve land
disputes between Assyrians and Kurdistan Regional Government, and put an end to illegal expropriation of Assyrian lands without compensation or the provision of
alternative accommodation. It also calls on the State party to ensure that judicial
decisions ordering the return of lands to Assyrians are enforced. The Committee
draws the State party’s attention to its general comment No. 7 (1997) on forced
evictions
.
 
 


494
كاظم حبيب
شعوب العالم والإسلام السياسي
(1)
أتباع كل الديانات التي يطلق عليها مجازاً بـ"الإبراهيمية"، وبشكل خاص الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلامية، مروا بتجارب مريرة مع نظم سياسية مارست الاستبداد والاستعباد والقهر والاستغلال تحت راية قوى حملة رايات هذه الديانات، كما أنهم عانوا الأمرين من تعدد وتنوع تفاسير العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) والقرآن، والنصوص الدينية غالباً ما تكون حمالة أوجه. والقرون الوسطى خير شاهد على معاناة شعوب القارة الأوروبية من عواقب التشابك بين الدين والحكم حينذاك على سبيل المثال لا الحصر. كما عانت شعوب بعض مناطق أمريكا اللاتينية وأفريقيا من الحكام وشيوخ الدين المسيحيين من استعباد، وكذا الولايات المتحدة الأمريكية قبل الحرب الأهلية أو حتى بعدها. وشهد المسيحيون واليهود صراعات دينية وسياسية وأحياناً دامية بين أتباع الطوائف المختلفة أيضاً. وتاريخ هذه الشعوب يحكي لنا العذابات التي مورست تحت راية الدين المسيحي ما يشيب رأس الطفل. ولم تكن معاناة المسلمين في الإمبراطوريات التي نهضت كالأموية والعباسية والعثمانية أو تحت هيمنة الفرس قليلة، سواء أكان من جانب نظم الحكم ضد المسلمين، أم في صراع الطوائف، أم التمييز والقهر والتهميش والاضطهاد ضد أتباع الديانات الأخرى.
(2)
إلا إن الفارق الإيجابي لدى أتباع الديانة المسيحية أنهم مروَّا بمرحلة تنوير ديني ونهضة مدنية وعلمية-تقنية واقتصادية تم خلالها تعميق الوعي الاجتماعي والتحول التدريجي صوب الفصل الفعلي بين الدين والسياسة والدولة والتي يجدها المتتبع في جميع الدول الأوروبية في المرحلة الراهنة، وأن اختلف مستوى الممارسة فيها. وقد تأثر أتباع الدين اليهودي على الصعيد العالمي بحياة وثقافة وتنوير المسيحيين كثيراً، في حين ما تزال إسرائيل وإلى حدود غير قليلة تربط بين الدين والسياسة والدولة، مما قاد ويقود إلى ممارسة سياسة التمييز إزاء أتباع الديانات الأخرى والتمييز إزاء أتباع ما يسمى بالأجناس الأخرى كالموقف من اليهود السود مثلاً.
(3)
أما أتباع الديانة الإسلامية فلم يمروا حتى الآن بمرحلة التنوير، بل يعيشون اليوم وفي القرن الحادي والعشرين ردة فكرية وسياسية واجتماعية عميقة وشاملة ومدمرة لا تنبع من مذهب واحد بل تشترك فيها كل المذاهب بصيغ مختلفة. ولكن الصورة الأكثر عدوانية وشراسة نجدها في المرحلة الراهنة على نحو خاص في مدرسة الفكر الوهابي الأكثر سلفية وتطرفاً وأكثر عدوانية في تفسير القرآن وفي الفتاوى الصادرة عن أغلب شيوخ هذا الفرع من المذهب الحنبلي المتزمت. ولا يمكن استبعاد نفس المواقف الشرسة من أتباع مذاهب دينية أخرى في الإسلام أو مدارس تابعة أخرى في أوضاع أخرى، كما في سياسات الخميني في تصدير الثورة الإيرانية، أو كما عاش العراق بين 2005-2008 وفيما بعد أيضاً تحت وطأته مثلاً حين نشطت المليشيات الشيعية على نحو خاص وكذلك المليشيات السنية وبدأ القتل على الهوية في إطار الإسلام، ومطاردة وتشريد وتهجير وقتل وحرق كنائس ودور عبادة أتباع الديانات الأخرى كالصابئة المندائيين والمسيحيين والإيزيديين والبهائيين وغيرهم.
(4)
إن المركز الرئيسي لأتباع مدرسة الفكر الوهابي في المذهب الحنبلي هي المملكة العربية السعودية، وهي الدولة التي نشرت هذا الفكر المتطرف عبر مدارسها وأكاديمياتها في أغلب دول العالم وأنشأت مركزا ثانياً لها في باكستان حيث أرسلت الأموال وشيوخ الدين والكتب الدينية المجسدة للفكر الوهابي المناهض لكل الأديان والمذاهب الأخرى في العالم، كما أرسلت السلاح والعتاد القاتل وكونت جيشاً جراراً من المتطرفين الباكستانيين والأفغان ومن مسلمين آخرين من دول أخرى.
(5)
ولكي نواجه الإرهاب الإسلامي السياسي بكل أشكاله الفكرية الدعائية والسياسية والعسكرية، علينا أن نتحدث بصراحة وبرؤية واقعية وبمسؤولية عالية عما جرى ويجري بالعالم في مجال إرهاب الإسلام السياسي بأساليب وأدوات فاشية. فمن واجبنا أن نقول بأن العمل قد بدأ في أفغانستان ثم امتد إلى العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر وغيرها. وقد بدأت به وكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة بالتعاون مع جهاز الاستخبارات السعودي وجهاز المخابرات الباكستاني وبدعم مباشر من حكومات الولايات المتحدة والمملكة السعودية وباكستان أساساً ودول خليجية وعربية أخرى أيضاً.  لقد كان الهم قد توجه بتشكيل منظمات سياسية وعسكرية مسلحة في أفغانستان لخوض الحرب ضد الحكومة الأفغانية وضد الوجود السوفييتي في أفغانستان التي اعتمدت على الفكر الوهابي والمال السعودي والاحتضان وفتح المدارس الدينية الوهابية بأموال سعودية وتدريب عسكري باكستاني، ودعم بالسلاح الأمريكي بأموال سعودية إضافة إلى معلومات استخباراتية أمريكية لهذه التشكيلات الإرهابية. وقد انخرط في هذه التنظيمات الكثير من العرب أو مسلمين من دول أخرى ومن بلدان أوروبية مثلاً. واستطاع هذا التحالف تحقيق إسقاط الحكومة الأفغانية وفرض انسحاب القوات السوفييتية من جهة، ولكنها أقامت نظام ديني متطرف قادجته جماعة طالبان الأفغانية ذات الفكر الوهابي الأكثر تطرفاً ورجعية وتخلفاً. والدولة الطالبانية هي التي دعمت بقوة تنظيم القاعدة الذي قاده أسامة بن لادن، ومن ثم أيمن الظواهري من بعده. وبدأت عملية نشر الدعاة وتشكيل الخلايا النائمة في كل مكان أمكنهم الوصول إليه. وبدأ عمل هؤلاء الدعاة تحت اسم المقاتلين الأفغان بغض النظر عن الجنسية التي يحملونها. وقد مارس تنظيم القاعدة الإرهاب في كل مكان وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2011 قمة تلك العمليات الإرهابية الإجرامية للقاعدة.
(6)
لقد اعتقد جورج دبليو بوش الابن بأن الحرب ضد طالبان أفغانستان وضد نظام صدام حسين بالعراق سوف تسحب الجماعات الإرهابية من أمريكا وأوروبا إلى هذين البلدين، ومن ثم إلى دول الشرق الأوسط، وبالتالي سوف تتخلص الولايات المتحدة منهم أولاً ومن ثم دول الاتحاد الأوروبي وتنقذ من شرور هذه القوى التي تأسست على أيدي وكالة المخابرات المركزية. كان هذا الرأي صحيح على المدى القصير والمتوسط، ولكنه لم يكن سليماً على المدى البعيد، إذ سرعان ما غزا هؤلاء دول الشرق الأوسط وسيصلون إلى إسرائيل أيضاً. ولكنه انتقل الآن إلى أوروبا واحتمال انتقاله إلى أمريكاا وكندا واستراليا أمر قائم لا يمكن إنكار ذلك. وهو الأمر الذي تحدثنا عنه قبل الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة بتحالف دولي واسع وخارج قرارات مجلس الأمن الدولي ضد العراق وفرضت الاحتلال عليه، ولكن لم تكن هناك إذناً صاغية لدى الإدارة الأمريكية والقادة الأوروبيين لأن المصالح الآنية والضيقة وإستراتيجية الهيمنة قد سيطرت على فكر وممارسات قادة الدول الغربية.
(7)
العالم يعيش اليوم حالة حرب مع قوى الإسلام السياسي المتطرفة، مع الأجيال الجديدة المتوحشة لقوى الإرهاب والتي هي عملية إعادة إنتاج للأجيال القديمة التي بدأت في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، وتربت في أحضان الدول الثلاث. والمبادرة في خوض المعارك غير التقليدية ما تزال بيد هذه القوى المتطرفة. والمشكلة أن أتباع الدين الإسلامي في غالبيتهم لم يعرفوا التنوير الديني والاجتماعي، وهم ما زالوا يتبعون شيوخ الدين السلفيين غير المتنورين والمتخلفين فكرياً وسياساً واجتماعياً والمناهضين في أغلبهم للديانات والمذاهب الأخرى. وهي المشكلة المركزية.
(8)
هذه الحرب الراهنة لا يمكن الانتصار فيها لشعوب العالم ما لم يتوجه العالم كله صوب النضال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنوير الديني وتغيير وعي الإنسان المسلم، من أجل تغيير الواقع الذي يعيش في ظله المسلمون بالعالم، في بلدانهم، وتحت وطأة سياسات حكوماتهم الرجعية وغير المتنورة والتي تدمج الدين بالسياسة وبالدولة وتنافس الإرهابيين في تمسكها القاتل بما هو بائد في الإسلام وبما يفترض أن يكون منسوخاً في الإسلام لبعده عن السلف وسياساته أكثر من 14 قرناً.
إن العالم لا يخوض حرباً حقيقية ضد الفكر السلفي الإرهابي، بل ضد المظاهر الناتجة عن الفكر السلفي، سنياً كان أم شيعياً، كما في إيران الخميني والخامنئي والذي يتجلى بشكل صارخ في المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة بالعراق أو الفكر الوهابي السائد حالياً في صوف الكثير من المليشيات السنية المسلحة، ومنها بشكل أخص عصابات داعش. إن نضال الشعوب والحكومات التي تعي مسؤولياتها يفترض أن يكون فكرياً وسياسياً واجتماعياً وإعلامياً وتربية مدرسية وعسكرياً وضد التخلف الاقتصادي والفقر والحرمان في منطقة الشرق الأوسط، وهو طريق النجاح لا غيره. إن عدم إدراك هذه الحقيقة سيجعل العالم أقل أمناً وسلاماً وأكثر عرضة لمثل هذه الهجمات العدوانية.
(9)
إن الضحايا البريئة التي سقطت يوم أمس بباريس وتلك التي سقطت في الوقت ذاته بالعراق ولبنان وفي دول أفريقية وغيرها هو نتاج منطقي لهذا الموقف غير العقلاني للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا من الواقع المزري بمنطقة الشرق الأوسط ومن حكوماتها ومن قوى الإسلام السياسي فيها. إن المسؤولين في هذه الدول المتقدمة يتحدثون بأن الإسلام هو غير ما يقوم به هؤلاء القتلة، وفي هذا الكثير من الخطأ والخلل في التفكير الانتهازي. إن تفسير الإسلام متعدد الوجوه، وباعتباره حمال أوجه يسمح بذلك، إضافة إلى التخلف الفكري والوعي الاجتماعي في هذه المنطقة وطبيعة الحكومات القائمة فيها وغياب التنوير عن الإسلام كفكر وممارسة وعن مئات الملايين من المسلمين غير المتنورين في سائر بقاع العالم هو الذي يساعد على بروز مثل هذه الفرق الأكثر تطرفاً وسادية وإمعاناً في العداء للإنسان والمجتمع.
(10)
والغريب بالأمر إن الدول الغربية دون استثناء تقوم بتزويد المناطق الملتهبة بالسلاح والعتاد لتحقق المليارات لتجار الحروب وصناع الموت في الدول الغربية. ألمانيا التي تتحدث عن السلام قامت بتزيد السعودية بأسلحة تقليدية متقدمة وكذا الولايات المتحدة التي تقوم اليوم بقتل البشر بصورة همجية باليمن وبدعم من الدول الغربية وبعض الدول العربية. لقد نجحت الإدارة الأمريكية في خلق الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، ولكن نيران هذه المنطقة ستصل إلى أوروبا وتحرق الأخضر واليابس ما لم يقتنع العالم بوضع سياسات أخرى غير السياسات الراهن للغرب إزاء شعوب الشرق الأوسط وغرب آسيا. إن الدول التي أنجبت القاعدة وداعش وكل التنظيمات الجهادية الأخرى تريد أن تبدو اليوم وكأنها أبطال مقاومة هذه التنظيمات وبعضها يرسل التعازي إلى فرنسا مثل قطر والسعودية والإمارات العربية، في حين إن أموال هذه الدول وفكرها وسياساتها، إضافة غلى تركيا ودول غربية هي التي كانت وراء ما حصل بالعالم كله وأخيراً بباريس. والمثل العربي يقول قتله ومشى في جنازته!"     



495
كاظم حبيب
أحمد الجلبي في ذمة المجتمع والتاريخ!
ليس غريباً أن يختلف الناس في ما بينهم بشأن حياة ونشاط أو نهج وسياسات أو سلوك وعلاقات الأفراد، سواء أكان ذلك في حياتهم أم بعد مماتهم، بل هذا هو الأمر الطبيعي والمعروف في جميع المجتمعات البشرية. ويصح هذا القول عن الأحزاب والقوى السياسية أيضاً، سواء أطال وجودها أم قصر. ولم يختلف الأمر بالنسبة للدكتور أحمد الجلبي، السياسي العراقي البارز والمعروف على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، وسيبقى كذلك.
لا يختلف اثنان من الناس حول ذكاء وحيوية وطاقات الدكتور أحمد الجلي وكفاءاته المالية والاقتصادية ولا عن ثراءه بالعراق والخارج بغض النظر عن مصدر الثراء، ولكن الناس يختلفون كثيراً حول نهجه الفكري وسياساته ودوره في الحياة السياسية العراقية في فترة المعارضة، بعد أن برز بشكل واضح في مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد ببيروت في العام 1991، وتسنى لي المشاركة فيه والاطلاع على دوره حينذاك ومتابعة نشاطه بعد ذاك، أم بعد سقوط الدكتاتورية البعثية.
يمكن توصيف الدكتور أحمد الجلبي في فترة المعارضة وما بعدها في كونه واحداً من أبرز السياسيين العراقيين البراغماتيين الذين يرون بأن "الغاية تبرر الواسطة" بغض النظر عن العواقب. وجرياً على هذا المبدأ استخدم الجلبي كل ما يمكن أن يكون مقبولاً وغير مقبول، مشروعاً وغير مشروع، إشاعة صادقة أم كاذبة، للوصول إلى غاية واحدة، إلى إقناع مراكز القرار في الولايات المتحدة (البيت الأبيض ووكالة المخابرات المركزية والكونغرس ومراكز البحث والدراسة) بضرورة شن الحرب الخارجية لإسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية بالعراق، علماً بأنها لم تكن بحاجة إلى إقناع، فهذه المراكز كانت قد صممت على ذلك ابتداءً واتخذت قرار الحرب، ولكنها كانت تريد إعطاء الانطباع بأن الشعب والمعارضة يريدان ذلك، وما الحرب إلا استجابة لهم. كان أحمد الجلبي يتحدث بـ "اسم الشعب!"، سواء أمام نواب في الكونغرس الأمريكي، أم في تصريحاته السياسية، في حين كان يعرف تماماً بأنه لا يمتلك مثل هذا التخويل.
لم التق بالجلبي بعد ذاك سوى مرتين احداهما في ندوة اقتصادية عقدت في فيينا في منتصف التسعينات، وأخرى بعد سقوط الدكتاتورية وفي بيت الدكتور عبد اللطيف رشيد ببغداد. كان الرجل ودوداً تبادلنا وجهات النظر. تبنى العلمانية واللبرالية الجديدة في نهجه الاقتصادي، وسلك الطريق الطائفي في السياسة،. فكان المبادر إلى تشكيل البيت الشيعي، وبه دق أسفين الصراع الطائفي وأججه بين القوى والأحزاب الشيعية والسنية وساهم في نقله إلى المجتمع، وكانت هذه واحدة من أكبر الخطايا التي وقع بها الدكتور الجلبي، حين تخلى عن علمانيته تماماً.
اختلفت مع الدكتور الجلبي في موقفه من الحرب، رغم عدائي الصارخ للنظام الدكتاتوري الصدامي، إذ كنت أخشى مما نحن فيه اليوم، فالشعب وأحزابه وقواه السياسية الوطنية هي التي كان يفترض أن تسقط الدكتاتورية وليس الولايات المتحدة. واختلفت معه في الموقف من تشكيل البيت الشيعي وما جرّه على البلاد من كوارث ومحن وأزمات وموت ودمار حتى الآن، واختلفت معه في سكوته الطويل حتى مماته وقبوله بما كان يجري بالعراق من تدخل سافر ومريب لإيران في شؤون العراق الداخلية. والتقيت معه في ثلاثة مواقف:
1.   رفضه القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي بفرض الاحتلال على العراق وبطلب من الولايات المتحدة، مما جّر عليه غضب الإدارة الأمريكية.
2.   رفضه سياسات نوري المالكي في الهيمنة على مؤسسات الدولة والهيئات المستقلة وتجاوزه على قانون البنك المركزي مثلاً.
3.   بدء نشاطه، باعتباره مسؤول اللجنة المالية في مجلس النواب، في جمع المعلومات والوثائق التي تبرهن على سيادة الفساد مالي ونهب البلاد، وقد شخص ذلك في الفترة 2006-2014، أي في فترة ولايتي نوري المالكي، وحتى وفاته.
وحين بثت قناة العراقية وقناة آسيا المقابلات الصحفية التي تحدث فيها أحمد الجلبي عن الفساد المالي وهدد بنشر الملفات والأسماء بعد فترة وجيزة ما لم تتخذ الحكومة الموقف المناسب، أدركت بأن الرجل قد دخل معركة شرسة لا رحمة فيها مع كل الذين لديهم ملف فساد عند الجلبي، وهم كثيرون حقاً.
ليس بودي أن أساهم في معركة الشائعات حول موته، بل أترك الأمر لعائلته التي طالبت بتشريح الجثة، والتي عليها أن تعلن النتيجة، إذ إن أحمد الجلبي كان جزءاً من الشأن العام وربما مات بسبب المال العام. كان الجلبي يتحرك بين مدينتي "نعم" و "لا"، وسقط ضحية مكافحة الفساد! المجتمع العراقي لا يرحم في أحكامه ولا التاريخ. وهو الآن في ذمتهما، وما علينا إلا أن نطرح الوقائع والحقائق النسبية التي نعرفها عن الرجل. أشعر بأن تسليمه مجموعة من وثائق الفساد لمؤسسة المدى يدل على مسألتين مهمتين ثقته بالمؤسسة وإحساسه بمخاطر جدية تحوم حوله، وعلينا الانتظار لمعرفة الحقيقة بشأن موت سياسي عراقي مميز اختلف الناس بشأنه!       


496
الأخوة والأصدقاء الأعزاء
تحية طيبة
بدأت بوضع المفردات الأولية لبحث يصدر في كتاب في العام 2017 عن مواطناتنا ومواطنينا من مسيحيي العراق الذين تعرضوا ويتعرضون لشتى صنوف التمييز والتهميش والقهر والاضطهاد والتهجير والتغيير الديموغرافي بالرغم من دورهم الكبير جداً في تاريخ وحضارة وثقافة وسياسة ومجتمع العراق والعراقيات والعراقيين. أضع تحت تصرفكم المفردات الأولية لهذا البحث راجياً منكم ما يلي:
1.   أبداء الملاحظات التي تجدونها مفيدة على هذه المفردات والتي سأدرسها بإمعان وأستفيد منها في إعادة صياغة المفردات.
2.   الإشارة إلى المصادر التي يمكن أن تعينني في إصدار هذا الكتاب الذي خصصت له ما يقرب من سنتين لإنجازه ووضعه تحت تصرف القراء والقارئات تضامناً مع أبناء وبنات وطننا المستباح حالياً من الإرهاب الداعشي والطائفية المقيتة والمحاصصة المناهضة لحقوق الإنسان والدستور العراقي والخلق الإنساني القويم والفساد السائد بالبلاد.
مع شكري وتقدير سلفاً
كاظم حبيب
برلين في 4/11/2015





أ‌.   د. كاظم حبيب
المسيحيون جزء أصيل من أهل وتاريخ العراق
[مشروع كتاب]


المدخل:   
الفصل الأول: الأقوام الأصلية التي تشكل منها مسيحيو العراق
الفصل الثاني: المناطق السكانية العراقية التي تبنت المسيحية ديناً بعد ظهور المسيحية بفلسطين (هل كان العراق مسيحي الديانة؟)
الفصل الثالث: دور المسيحيين في الفكر والثقافة والإعلام وبناء الحضارة العراقية على امتداد تاريخ العراق وفي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
الفصل الرابع: أوضاع ومعاناة المسيحيين بالإمبراطوريات الفارسية قبل الإسلام والإسلامية الأموية والعباسية والعثمانية والدولة الفارسة في الدولة الصفوية، (التمييز والتهميش والعنف ضد المسيحيين).
الفصل الخامس: أوضاع ومعاناة المسيحيين في ظل الدولة العراقية الملكية (التمييز والتهميش ضد المسيحيين ومصادرة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان).
الفصل السادس: أوضاع ومعاناة المسيحيين في ظل الجمهوريات الخمس العراقية (التمييز والتهميش ضد المسيحيين ومصادرة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان- التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي- مؤتمر برطلة حول التغيير السكاني لمناطق المسيحيين بالعراق)
المبحث الأولال: جمهورية الأولى بعد ثورة تموز 1958
المبحث الثاني: الجمهورية الثانية البعثية-القومية 1963
المبحث الثالث: الجمهورية الثالثة القومية 1963-1968
المبحث الرابع: الجمهورية الرابعة البعثية 1968-2003
المبحث الخامس: الجمهورية الخامسة الطائفية - الأثنية 2003-2015

الفصل السابع: الهجرات المسيحية من العراق إلى أوروبا وأمريكيا وكندا واستراليا والعوامل الكامنة وراء ذلك. [مؤتمر مناهضة الإبادة الجماعية بأربيل ربيع 2015. يتضمن بعض بحوث وقرارات المؤتمر].
الفصل الثامن:  اجتياح الموصل (2014) ومعاناة المسيحيين من قتل وتشريد وفرض تغيير دين ونزوح وهجرة ..الخ، (البوم من الصور حول الموضوع).
الفصل التاسع: موقف الإسلام والإسلام السياسي من المسيحيين ومن أتباع الديانات الأخرى 
الفصل العاشر: مستقبل المواطنات والمواطنين المسيحيين بالعراق
الفصل الحادي عشر استطلاع الرأي
أ‌.   استطلاع رأي المواطنات والمواطنين من أتباع الديانة المسيحية في أوضاعهم ومستقبلهم بالعراق
ب‌.   استطلاع رأي المواطنات والمواطنين العراقيين من غير أتباع الديانة المسيحية عن مسيحيي العراق الموقف وعن أوضاعهم والموقف منهم
الخلاصة والاستنتاجات


المصادر والمراجع



497
كاظم حبيب
العواقب الوخيمة لسياسات الولايات المتحدة
منذ عدوان الإسلام السياسي المتطرف في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2011 وما أعقب ذلك من حرب التحالف الأمريكي الدولي ضد حكومة طالبان، ومن ثم الحرب ضد النظام الدكتاتور البعثي بالعراق، والأحداث المريعة التالية في منطقة الشرق الأوسط، سجل النفوذ والتأثير الأمريكي السياسي والعسكري انحداراً  متسارعاً مع تنامي متعاظم لشعور الكراهية للسياسات الأمريكية التي تميزت بالعنجهية والشراسة والتهديد المستمر بالحصار الاقتصادي والحروب. لقد نشأت قناعة لدى رؤساء الولايات المتحدة بأن من ليس مع السياسة الأمريكية لا بد أن يكون  ليس ضد تلك السياسة حسب، بل ومعادٍ للولايات المتحدة ولا بد من وضعه في خانة الدول التي لا بد من محاربتها وإخضاعها للسياسة والنفوذ الأمريكيين. وهذه السياسة التي بدأت قبل ذاك بأكثر من عقدين تقريبا، أي مع مجيء  رولاند ريكن إلى البيت الأبيض، قد نجمت عن نهج اللبرالية الجديدة التي تبنتها الولايات المتحدة والموغلة بممارسة القوة والعنف في مواجهة المنافسين لها أولاً، وفرض الحلول الرأسمالية الأكثر همجية واستغلالاً للشعوب، بما في ذلك ضد المنتجين والكادحين والفقراء بالولايات المتحدة ذاتها ثانياً. وهذا النهج لم يقتصر على الجانب السياسي المتطرف حسب، بل وبالأساس برز بشكل صارخ في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الدولية، مستفيدة من ظروف وواقع العولمة الرأسمالية الراهنة التي اقترنت بالثورة العلمية والتقنية  وثورة الاتصالات (الإنفوميديا) التي سهلت للإدارة الأمريكية تطبيق هذا النهج المريع. وتفاقم هذا النهج العدواني في السياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والنظم السياسية بالدول الأوروبية الشرقية التي شكلت قبل ذاك عائقاً كبيرا أمام السياسيات الأمريكية في الأمم المتحدة وخارجها. ويمكن ان نتذكر هنا أزمة كوبا في العام  ١٩٦٤ مثلاً.
إن السياسات الأمريكية كانت وما تزال وحيدة الجانب ومتطرفة في الدفاع عن ما يسمى بـ "مناطق نفوذها الحيوية" وترفض المساومة رغم الإخفاقات التي تعرضت لها في منطقة الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية وأفريقيا. لقد نتجت عن هذه السياسات الكثير من الكوارث والمآسي المريعة وبشكل خاص الحروب المحلية والحروب بين دول الشرق الأوسط، منها مثلاً: الحرب العراقية الإيرانية، حرب تحرير الكويت، الحرب الأفغانية، الحروب الإسرائيلية اللبنانية والحروب الإسرائيلية-الفلسطينية، والحرب ضد أفغانستان، والحرب ضد ليبيا وحرب اليمن الجارية من قبل التحالف "العربي!"، والحرب الأمريكية والتحالف الدولي خارج إطار الشرعية الدولية ضد العراق، ومن ثم الحرب في سوريا التي نظمتها ونفذتها وهيمنت فيها على النضال السلمي للقوى الديمقراطية وحولتها إلى حرب مدمرة من قبل قوى الشر والتطرف الإسلامية بدعم مباشر من السعودية وقطر وتركيا وقبول وتأييد أمريكي صارخ لها وتأييدها، وهي تماثل من حيث الحصيلة الحرب باليمن من حيث القوى والهدف التدميري وتأجيج الصراعات الدينية والمذهبية بالمنطقة. إنها سياسة الفوضى "الخلاقة!!" والتدمير الحضاري للتراث الثقافي لشعوب المنطقة والهيمنة على مستقبلها ورسم السياسة النفطية فيها والدفاع عن سياسات إسرائيل الخاطئة والخطرة الموجهة عملياً وعلى المدى البعيد ضد الشعب اليهودي ومستقبل علاقاته مع جيرانه الفلسطينيين والعرب بالدول الأخرى، إنها سياسة التوسع العدواني والغاء القدرة على إقامة دولة فلسطين. ومن حيث المبدأ حققت الولايات، من خلال جملة من التكتيكات الخطرة والمناهضة لمصالح شعوب المنطقة وأهدافها الرئيسية في ضوء استراتيجية  إمبريالية حديثة ومكشوفة افترضت ان تكون منسجمة مع طبيعة سياساتها العولمية، ولكنها تسببت في المزيد من الدماء والدموع والخراب والدمار لشعوب المنطقة وقذفت بها إلى قرون خلت في الصراعات الدينية والمذهبية واستنزفت شبابها ومواردها الأولية واموالها وعطلت حركة التنمية والتقدم الاجتماعي والثقافي والتنويري في جميع هذه الدول، عدا إسرائيل التي زرقت بالمزيد من المساعدات العسكرية، دون ان تعمل لإحلال السلم والديمقراطية بالمنطقة، بل عمقت الأحقاد والكراهية والموت بين شعوبها والتي ستحتاج إلى عدة اجيال لبناء أوضاع وعلاقات إنسانية طبيعية.
إن العراق لا يعاني من السياسات الأمريكية والبريطانية حسب، بل من حلفاء أمريكا بالمنطقة، وخاصة الدول العربية، ومن الدول التي تناهض الولايات المتحدة علناً، مثل سياسات النظام الإيراني وتدخله الفظ في الشؤون الداخلية العراقية. ولولا وجود قوى سياسية داخلية متنفذة موالية لسياسات الدول الأجنبية لما استطاعت تلك الدول ان تجعل من العراق كرة تتقاذفها اقدام المحتلين واللاعبين الأجانب.
إن التخلص من كل ذلك يتطلب انتهاج سياسة وطنية ديمقراطية لا يمكن للقوى الحاكمة الطائفية والأثنية التي تعتمد المحاصصة والفساد استيعابها وممارستها، وهو الأمر الذي يفترض أن يعيه الشعب ويمارس إرادته وفرض مصالحه والدفاع عن مستقبل أبناءه ووطنه. إن العراق بحاجة إلى تغيير فعلي وليس إلى إصلاح ترقيعي من داخل النخب الطائفية الحاكمة التي أوصلت البلاد إلى هذا الحضيض الراهن.



498
الأخ الفاضل الإعلامي الأستاذ لؤي حزام عيال المحترم
تحية طيبة
تسلمت سؤلكم عن رأيي بشأن إقرار مجلس النواب العراقي لقانون جديد حول "البطاقة الوطنية"، واليكم رأيي بهذا القانون المعيب:
1.   صدر هذا القانون المعادي لأتباع الديانات من غير المسلمين في وقت تمارس فيه القوى التكفيرية والظلامية سياسات عدوانية وعنصرية مماثلة ضد المسيحيين والإيزديديين والصابئة المندائيين وغيرهم، وهو ما يؤكد وجود نقاط التقاء بين جميع القوى الإسلامية السياسية، سواء أكانت متطرفة أم ما يطلق عليها زيفاً بالمعتدلة. وهذا ما كنت أخشاه حين كنت مشاركاً في مؤتمركم الأخير بلوند، مؤتمر الجمعيات المندائية خارج الوطن في العام 2015، والذي طرحته بوضوح واعترض البعض القليل.
2.   إن هذا القانون يساهم بشكل مريع في زيادة التنافر الاجتماعي والصراع السياسي ونشر الكراهية والأحقاد بين أبناء وبنات الوطن الواحد، بين أتباع الديانات والمذاهب المكونة للشعب العراقي، في وقت يحتاج العراق إلى المزيد من الوحدة والتضامن والتكاتف لمواجهة العدو الذي اجتاح العراق من بوابة الموصل وتغلغل إلى أعماق العراق ونشب أظافره الوحشية في جسد الشعب العراقي وخاصة ضد الإيزيديين والمسيحيين وأتباع الديانات الأخرى بمن فيهم أتباع الديانة الإسلامية من غير عصابتهم الوهابية الدنيئة.
3.   وهذا القانون يتناقض جدياً ويدوس بأقدام من أقره على مواد الدستور العراقي 2 و3 و39 و40 التي تؤكد احترام الدستور لحريات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب.
4.   وهذا القانون مخالف بالمطلق للائحة حقوق الإنسان الدولية وكل المواثيق والعهود الخاصة بحقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، كما إنه مخالف للخلق الإنساني.
5.   وهذا القانون يعبر بحق عن طبيعة المجلس النيابي الطائفي المشوه الذي انتخب في ظل نظام سياسي طائفي مقيت ومحاصصة طائفية مشينة للشعب العراقي ولحقوق الإنسان والأعراف والمواثيق الدولية.
6.   وبدلاً من أن يهتم المجلس النيابي بأوضاع العراق الأمنية والاستقرار ومكافحة الإرهاب والفساد وضد المحتلين الذين يدنسون أرض البلاد، يمارس الإرهاب ضد أتباع الديانات الأخرى ليدفع بهم إلى الهجرة إلى خارج البلاد، وهو واحد من أهم الأهداف التي تسعى إليها قوى الإسلام السياسي بالعراق والتي تبلورت وبرزت بشكل صارخ ومدمر بعد سقوط الدكتاتورية في جنوب ووسط العراق أولاً ومن ثم في محافظة نينوى وبغداد بشكل خاص.
7.   إن على كل المخلصين للشعب العراقي بالداخل والخارج أن يرفعوا صوت الاحتجاج ضد هذا القانون المشوه والمبتذل والتمييزي ضد أتباع الديانات الأخرى وضد حرية الفرد والعقيدة والدين، وأن تقوم الأحزاب والمنظمات الديمقراطية بالعراق والإقليم والعالم برفع القضية إلى محكمة حقوق الإنسان الدولية في هولندا، إذ لا يجوز أن نسمح بفعل هذا القانون المدمر للنسيج الوط\ني العراقي والمتجاوز على حقوق الفرد وخاصة الأطفال وحقوق أتباع الديانات وحق اختيار الدين أو المذهب أو اللادين.   
8.   لقد أصدرت الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق والمنتدى العراقي لحقوق الإنسان ومنظمات أخرى بيانات شجب واحتجاج ضد هذا القانون. ولكن هذا لا يكفي بل لا بد من تنظيم حملة عالمية ضد هذا القانون وإبطاله فوراً.
9.   مطالبة السيد رئيس الجمهورية العراقية، الدكتور فؤاد معصوم، بعدم التوقيع على هذا القانون لأنه مخالف لروح الدستور وبنوده الأساسية ولحقوق الإنسان وحرياته العامة وللخلق الإنساني السليم.
مع خالص الود والتقدير
أ‌.   د. كاظم حبيب   

499
كاظم حبيب
التناقضات الاجتماعية بالعراق إلى أين؟
لا يخلو مجتمع بشري من تناقضات اجتماعية أو صراعات طبقية على وفق طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم، وبتعبير ادق، على وفق طبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة في هذا البلد أو ذاك.  وحين تبرز مثل هذه التناقضات يفترض في السلطات الثلاث في أي دولة من الدول ان تتحرى عن طبيعة تلك التناقضات والعوامل آلتي تسببت بنشوئها وسبل معالجتها وطرح الحلول لها في محاولة للتعرف على افضل احتمالات حلها. لا شك في ان نكران وجود تلك التناقضات والابتعاد عن معالجتها لا يعني بأي حال غيابها، بل يعني دون أدنى ريب تراكم المشكلات الناجمة عنها وتحولها تدريجا إلى صراعات اقتصادية واجتماعية التي يمكن ان تتحول، في حالة الاستمرار في إنكارها او تفسيرها بعوامل غير واقعية وغير حقيقية أو مواجهتها بسبل غير حضارية من قبل السلطة السياسية، إلى صراعات سياسية يمكن ان تتخذ ابعاداً اخرى بما في ذلك حصول هبات او وثبات أو انتفاضات او ثورات مدنية أو عسكرية، عندها لا يمكن معرفة وجهة تطورها ومدرة قدرة القوى والأحزاب السياسية على السيطرة على عواقبها أو التأثير بوجهتها. ان هذه العملية ذات المضمون الاجتماعي والاقتصادي خاضعة لطبيعة حركة وفعل القوانين الاقتصادي الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي التي تخضع لسبل التعامل معها، إذ إن التعامل غير الواعي معها يوفر الأرضية الصالحة والشروط الموضوعية لحركتها وفعلها باتجاه معين. 
يقدم تاريخ شعوب العالم نماذج هائلة على امتداد تاريخ البشرية على هذه التحولات الاجتماعية والسياسية. والعراق القديم والحديث والمعاصر، وكذلك دول منطقة الشرق الأوسط، تجارب غنية على هذه العملية. ولكن الغريب حقاً ان البلدان المختلفة، حكاماً وشعوباً، وخاصة النخب الحاكمة والاستبدادية، ذات ذاكرة ضعيفة لم تتعلم ولا تريد ان تتعلم من تجارب شعبها المنصرمة او تجارب الشعوب الأخرى وتصر على خوض تجربتها الجديدة الخاصة التي يمكن ان تكون مدمرة لها وقاسية على شعوبها. ومن النماذج المثيرة، إذا استثنينا الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية المعروفة في هذا المجال، نشير إلى دولة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى التي كانت تؤكد ان مجتمعاتها لم تعرف التناقضات عموماً والتناقضات التناحرية، التي تنشأ عن طبيعة النظام الاجتماعي، خصوصاً، قادت شعوبها ونظمها السياسية الاجتماعية، بسبب إنكارها لمثل هذه التناقضات، التي كانت موجودة حقاً وفاعلة فعلاً، إلى تراكم المشكلات وتحولها إلى صراعات لم تعد قابلة للحل وقادت إلى انهيار تلك النظم السياسية الاجتماعية من الداخل، إضافة إلى فعل العامل الخارجي الذي ساعد على حصول  تلك الانهيارات الزلزالية.
العراق "الجديد!"، بما في ذلك إقليم كردستان العراق، يعيش تناقضات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية متفاقمة ومتراكمة ومتعقدة لأسباب ترتبط بطبيعة النظام السياسي الطائفي والأثني القائم على المحاصصة الظالمة لعموم الشعب وسياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية غير العقلانية والسلوك غير السوي للنخب الحاكمة واللاأخلاقي الذي يتسم بالفساد والوعود الكاذبة، وكأن  فرق " الشطار!!" في فترة تدهور الدولة العباسية قد نهضت من جديد مرتدية لبوس المليشيات الطائفية المسلحة الإرهابية (أو) والتكفيرية بمختلف أشكال ظهورها وروعت المجتمع وأغرقت البلاد بالدم والدموع. فالفساد السائد وغياب العدالة الاجتماعية كلية ومصادرة حقوق الأنسان وحقوق اباع الديانات والمذاهب وانعدام ثقة المجتمع بالنخب الحاكمة دون استثناء ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي غير الإنساني والخطير قاد ويقود البلاد  إلى النتائج والعواقب التالية:
١. تصاعد في المد الشعبي المناهض للطائفية والتحاق قوى جديدة ونظيفة بحركة المظاهرات السلمية وتحولها إلى حركة ذات ديناميكية خاصة بها لا يمكن للحكم الراهن الصمود بوجهها ولن ينفع خروج "مارد!!!" إبراهيم الجعفري من قمقمه المطمور حينذاك!
٢. استمرار نزوح الكثير من العائلات وخاصة الشبيبة من العراق صوب الخارج طلبا للأمن والبقاء على قيد الحياة والعيش بكرامة إنسانية. ويشكل هذا النزوح خسارة هائلة لا تعوض للعراق المستباح!
٣. انخراط شبيبة اخرى ضائعة بالقوى الإرهابية بسبب عجزها عن إعالة عائلاتها بسبب الفقر المنتشر بالبلاد، وبالتالي فالوضع يقدم وقوداً جديدة للتنظيمات الإرهابية.
٤. انخراط المزيد من الشبيبة بقوى الجريمة المنظمة التي تعيش وتنمو في مثل هذا الأوضاع الفاسدة بالعراق، خاصة وإن للعديد منها روابط وشراكة مع بعض النخب الحاكمة آلتي توفر الغطاء الواقي لنشاطاتها.
٥. تنامي شبكة العاملين في الدعارة واتساع قاعدة المنخرطين بها من النساء والرجال لأسباب ترتبط بالفقر والخراب الأخلاقي الذي تسببت به النخب الحاكمة ونظامها السياسي الطائفي.
إن وجود ا لعبادي على رأس السلطة السياسية وتحت إمرة رئيسه في الحزب نوري المالكي وتحت إمرة رئيسه في التحالف الوطني ابراهيم الجعفري لا يعني أي تغيير فعلي في النظام الطائفي بل تكريسا له من خلال إجراءات ترقيعية لا يمكن القبول بها لأنها تريد استغفال الشعب وكادحيه لا غير. وأملي ان لا يتأخر اكتشاف هذه الحقيقة من جانب المجتمع ، رغم وجود بعض الصراعات داخل النخب الحاكمة في سبل عبور أزمة النظام الطائفي الراهنة.
 
 


500
كاظم حبيب
المشكلات المتراكمة التي تواجه إقليم كُردستان العراق!
"من يعتقد بأنه صديق الشعب الكردي ويناضل معه في سبيل تحقيق طموحاته وتطلعاته المستقبلية وحياته الكريمة والمزدهرة، يفترض فيه أن يكون صريحاً، واضحاً وأميناً لمبادئه وصداقته، مقتنعاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومدافعاً عنها دون تردد ومنتقداً لما يراه خلاف ذلك دون وجل أو مجاملة، وبغيره تفقد الصداقة مضمونها الإنساني النبيل!!"
ك. حبيب
المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعاني منها إقليم كُردستان هي من ذات الطبيعة التي يعاني منها العراق بقسمه العربي، في ما عدا قضية واحدة هي الأمن الذي يتمتع به الإقليم ولا يتمتع به الجزء الآخر من الدولة العراقية، وهي قيمة مهمة للمجتمع، إضافة إلى إن النظام بكردستان شبه علماني، في حين يفتقد الاتحاد ذلك . ولكن هل هذه القيمة وشبه العلمانية، على أهميتهما العملية والإنسانية، كافية للمجتمع؟
كل الدلائل التي يتلمسها الإنسان ويعيشها بالإقليم تشير بأن المجتمع لم يعد يقبل بهذا الواقع ولا يكتفي بالأمن وحده، وإنه بدأ يدرك بأن فرصاً كبيرة ومهمة واستثنائية فرط بها بعض أبرز السياسات التي مارسها الإقليم، سياسات غير واقعية وغير سليمة في الغالب الأعم تستوجب إعادة النظر بها جذرياً، إذ بدون الإصلاح والتغيير المنشود ستكون الأوضاع بالإقليم غير جيدة للشعب الذي سينقلب بالكامل على جميع النخب الحاكمة دون استثناء لأنها مشاركة في كل ذلك، وعلى كل الساكتين من القوى والأحزاب السياسية عما جرى يجري بالإقليم. وعندها تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. ومن مرّ بكُردستان في الآونة الأخيرة يمكن أن يتلمس بوادر مهمة ظاهرة للعيان ومتفاقمة يوماً بعد وآخر تنذر بمخاطر جمة. ومن لا يشخص هذا الواقع إما مصاب بعمي البصر والبصيرة، وإما راغب في الإساءة للإقليم أو إنه جزء من النخب الحاكمة التي لا تريد أي إصلاح وتغيير ومستفيدة من الوضع الراهن، أو تريد إجراء إصلاح شكلي لا ينفع القوميات المتعايشة بالإقليم!
إن من واجب القوى والأحزاب السياسية الكُردستانية التي تناقش اليوم مبدأ انتخاب رئيس الإقليم، وهو أمر مهم ومطلوب طبعاً لصالح بناء الديمقراطية، كان وما يزال عليها أولاً وقبل كل شيء أن تناقش مسائل أخرى ذات أهمية فائقة لشعوب الإقليم بقومياته العديدة، كما هو حال العراق كله. أرى، وأنا أدعي الصداقة الخالصة للشعب الكُردي ولبقية القوميات بالإقليم، بأن على الأحزاب الحاكمة وغير الحاكمة أن تعيد قراءة الوضع بالعراق وبالإقليم ببصيرة واعية ونافذة وصادقة مع نفسها وشعبها وحريصة على بناء مستقبل مشرق زاهر للعراق والإقليم في آن واحد، وأن تصحح المسارات في النقاط الأساسية التالية: 
1.   طبيعة العلاقة المتوترة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية التي تسببت في نشوء مشكلات كثيرة وتهديدات متبادلة لا فائدة من وراءها. ونشير هنا إلى عدد من النقاط:
أ‌.   موضوع التهديد المستمر بالانفصال عن العراق، في وقت يمتلك الإقليم الحق في تقرير المصير، وهو حق ثابت تؤكده المواثيق والعهود الدولية، فلِمَ هذه التهديدات المستمرة في وقت لا يسمح الوضع الدولي والإقليمي والمحلي بخطوة كهذه. لماذا هذا التهديد المستمر وغير المبرر؟ إنه، كما يبدو لي ولغيري، مجرد دغدغة عواطف الكُرد واستفزاز القوميين العرب والإسلاميين السياسيين سنة وشيعة فقط، وهو أمر غير مطلوب في المرحلة الراهنة وفي الحالتين، إذ يقود إلى إحباط لدى الكُرد حين لا ينفذ، رغم كثرة التهديدات، ويخلق عداء غير مطلوب وغير مفيد لدى آخرين.
ب‌.   موضوع عقود النفط التي وقعتها حكومة الإقليم وما تسببت به من مشكلات بين الحكومتين الاتحادية والإقليم، بسبب مخالفتها الفعلية للدستور العراقي وللعلاقات الدولية الضرورية لوحدة الموقف العراقي العربي والكُردي إزاء المفاوضات وتوقيع العقود مع شركات النفط الاحتكارية التي يفترض أن تكون لصالح الشعوب بالعراق كافة، وتجنب الأضرار التي لحقت بالجميع من جراء هذا الانفراد وانعدام التنسيق. والمستفيد الفعلي هم شركات النفط الاحتكارية وسارقي النفط الخام ومسوقيه خارج القانون فقط. ولم نخف رأينا هذا عن جميع المسؤولين بالإقليم الذين التقينا بهم.
ت‌.   غياب كل أشكال التعاون والتنسيق الاقتصادي بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية. ولا يرمى السبب كله على عاتق حكومة الإقليم وحدها، بل تشاركها الحكومة الاتحادية بالكثير منه، وكذلك مجلس النواب العراقي والبرلمان الكردستاني. ولكن ما هو دور حكومة الإقليم في تصحيح العلاقة وممارسة المرونة العالية والضرورية وإحراج من لا يريد ذلك في الحكومة الاتحادية وإقناع الشعب العراقي بكل قومياته بصواب مواقف الإقليم. إن ما حصل هو العكس والتشديد من الجانبين!
ث‌.   التعويل غير المبرر والتصور الخاطئ وغير المقبول سياسياً واجتماعياً على الخلاف الشيعي السني لتحقيق مصالح الإقليم، في حين إن مصالح الإقليم يفترض أن تكون جزءاً من مصالح العراق كله، والتي تتحقق من خلال وحدة المجتمع العراقي بعربه وكُرده وتركمانيه وكلدانه أشورييه وسريانه وأتباع جميع دياناته ومذاهبه، وعكس ذلك هو المؤذي للجميع لأنه ينطلق من رؤية قومية آنية ضيقة، والتي عرفناها في سياسات رئيس الحكومة الاتحادية السابق المتسم بالطائفية المقيتة والشوفينية المعادية للكُرد وبقية القوميات.
إن هذه السياسات وضعت الكثير من القوى الوطنية الديمقراطية والتقدمية في حرج أمام سياسات الإقليم التي لا تستجيب لرؤيا النضال المشترك والتضامن، مما دفع بالكثير منهم إلى الابتعاد عن تأييد المواقف الرسمية لرئاسة وحكومة الإقليم والأحزاب السياسية الأخرى، وهو الذي أضعف دور وتأثير وعدد أعضاء التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية الذي كان يسعى جاهداً لرأب الصدع لصالح الجميع. كما إن إهمال التعاون مع القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية، الحليف الأمين للشعب الكردي وقضيته العادلة اساء لكل القوى الديمقراطية العراقية ودورها وتأثيرها بشكل كبير. ولم نخف ذلك عن مسؤولي كردستان العراق
2.   خطأ التعويل على الخارج
لقد خاضت الحركة التحررية الكُردية بالعراق تجارب كثيرة بين 1926-1991 واغتنت بدروس مهمة من بينها ضرورة عدم الاعتماد على الدول الأجنبية في تحقيق مصالح شعبها، إذ إن العلاقات الدولية تقوم على المصالح وليس على "الحب" المتبادل! وهكذا كان الأمر قبل العام 1975 وفي اتفاقية الجزائر العدوانية وبعد ذاك. إن التعويل الفعلي والأساسي يفترض أن يكون على التحالف العربي-الكُردي وبقية القوميات داخل البلاد واعتبار الخارج عامل ثانوي وليس رئيسي في تحقيق الأهداف والمصالح الأساسية للشعب الكُردي والقوميات المتعايشة معه بالإقليم. ويفترض أن تتعلم النخب الحاكمة بالإقليم من هذه الدروس لصالح الشعب الكُردي ولصالحها بالذات. وهو ما لم يتجل حتى الآن في سياسات الإقليم، بل استمر التعويل على الخارج وأهمل الداخل تماماً رغم التنبيه والتحذير بهذا الصدد.
3. العلاقات بين الأحزاب الكُردستانية
من بين الدروس المهمة التي يفترض أن تكون الحركة التحررية الكُردية قد اغتنت بها نشير إلى مخاطر الحروب الداخلية بين القوى الكُردستانية ذاتها. فتجارب الفترة الواقعة بين 1964-1998 حيث بدأ الصراع بين أجنحة الحزب الديمقراطي الكُردستاني وتحول تدريجاً إلى كمائن وقتال متبادل وثم إلى معارك عسكرية بعد العام 1976، أي بعد تشكيل الاتحاد الوطني الكُردستاني وبروز قوى سياسية جديدة منبثقة في أغلبها من رحم الحزب الديمقراطي الكُردستاني تعمل بكردستان واستمرار هذه الصراعات المدمرة في فترة الحركة البارتيزانية ومآسي معارك بشت آشان إلأولى والثانية وما بعدها، وخاصة في فترة التسعينات من القرن الماضي وأكثرها مرارة في العام 1995/1996 والعواقب الوخيمة لكل ذلك على الشعب الكُردي والقوميات الأخرى والقوى والأحزاب والقوى الوطنية العراقية. إن التجارب تؤكد بما لا يقبل الشك بأن وحدتها وتعاونها هي الضمانة لتحقيق النجاحات والتقدم لصالح الشعب وقواه السياسية. ويبدو لي حتى الآن، رغم الخسائر الجديدة في الصدامات مع المظاهرات، عدم وجود قتال فعلي بين القوى السياسية الحاكمة، إلا إن القوى والأحزاب المتصارعة سياسيا لم تستفد من هذه الدروس بما يقود إلى اعتماد مبدأ الديمقراطية والدستور المدني الديمقراطي في معالجة مشكلاتها الداخلية، وهو الأمر الذي يمكن أن يقود إلى عواقب وخيمة على المجتمع الكُردستاني ومنجزاته المهمة خلال السنوات المنصرمة. لا يمكن إرساء وحدة القوى وتعاونها إلا بسيادة الحريات العامة والالتزام بالدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات الصغيرة بالإقليم ونشوء قوى متنافسة ديمقراطياً على الحكم مع وجود معارضة سليمة وموضوعية وواعية في مقابل قوى حاكمة تتسم بذات السمات الديمقراطية.
4. الحقوق القومية
لقد عاني الشعب الكُردي الأمرين على أيدي الحكام الشوفينيين العرب منذ العام 1926، وبشكل خاص في فترة حكم البعث الاستبدادي والشوفيني، ومنها سياسات التهميش والتمييز والحروب بسبب مطالبتهم بالحقوق القومية المشروعة والعادلة لا غير. وقد حقق الشعب الكُردي منجزاً كبيراً بنضاله البطولي المديد وتضحياته الكبيرة في العام 1992 حين أعلن عن قيام الفدرالية الكُردستانية ضمن الدولة العراقية. وهذه التجارب الغنية يفترض أن تجعل القوى السياسية الحاكمة حساسةً وواعيةً لأهمية تمتع القوميات الأخرى التي تقطن بالإقليم، وهي من سكان البلاد الأصليين، بحقوقها المشروعة والعادلة، ومنها عدم اللجوء إلى التغيير الديموغرافي للسكان المسيحيين على نحو خاص، كما حصل للكُرد بكركوك وغيرها مثلاً. إن أصوات الاحتجاج التي بدأت تتصاعد من جانب المسيحيين، أو بتعبير أدق، من جانب الكلدان الآشوريين السريان في المناطق التي تشرف عليها رئاسة وحكومة الإقليم والمذكرات والوثائق التي قدمت بهذا الصدد تثير الرأي العام العراقي والعالمي وتؤثر سلباً على وحدة المجتمع وعلى الموقف من رئاسة وحكومة الإقليم. وأعتقد إن من الضروري إعادة النظر بهذه السياسة التي تناقض مبدأ حقوق الإنسان وحقوق القوميات ورفض مشاريع التغيير الديموغرافي.
5. الفساد المالي والإداري
تؤكد المعطيات المتوفرة والتي يتحدث بها الشعب بالإقليم وتشير إليها المؤسسات الإعلامية الدولية ومنظمة النزاهة الدولية إلى ثلاث مسائل جوهرية، وهي:
أ‌.   التعيينات الوظيفية في كل من أربيل ودهوك لا تتم إلا بموافقة من الحزب الديمقراطي الكُردستاني مع ضرورة الولاء له، في حين لا تتم التعيينات الوظيفية بالسليمانية وإلى حد ما بكركوك إلا بموافقة الاتحاد الوطني الكُردستاني والمساومة مع حزب التغيير (كوران) والولاء لهما. وهو أمر بالغ الضرر على مجمل الشعب الكُردي والقوميات الأخرى وعلى المستقلين على نحو خاص، إذ يعتبر جزءاً من الفساد العام المخالف للدستور ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو أحد العوامل التي قادت في دول أخرى، ومنها العراق، إلى كوارث كبيرة والتي مارستها حكومة نوري المالكي الطائفية والشوفينية  والتي لم تنته ببغداد حتى الآن.
ب‌.   من يتابع الوضع بالإقليم يستطيع تشخيص واقع الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء من ذوي الدخل المحدود. وهذه الفجوة الدخلية والمتجلية في مستوى حياة ومعيشة الفرد والفئات الاجتماعية الغنية والفقيرة ستقود، شاءت الأحزاب الحاكمة أم أبت، إلى تفاقم الصراع الاجتماعي (الطبقي)، وعند عدم إيجاد حلول عملية له، يتحول بالضرورة الجدلية إلى نزاع سياسي ويتخذ مجرى آخر لا بد من تقديره منذ الآن. وقد تفاقم هذا الأمر في الفترة الأخيرة بسبب الأزمة المالية وأزمة أسعار النفط الخام وتوقف نشاط الشركات الأجنبية والمحلية وتفاقم البطالة وعدم دفع الرواتب لعدة شهور والمعاناة الكبيرة لذوي الدخل الشهري المحدود والتي يمكن أن يعيشها الإنسان في أسواق كُردستان وفي الشوارع والتي بدأت الإضرابات والمظاهرات التي تجابه بأسلوب غير ديمقراطي رغم إقرار الدستور بحق الإنسان على ممارسة الإضراب والتظاهر والتجمع السلمي والديمقراطي. كما إن مجموعة من المتظاهرين في محافظتي السليمانية وحلبچة لم تلتزم ومارست العنف.
ت‌.   إن العلل الاجتماعية السائدة بالإقليم، ومنها الفساد والاغتناء من السحت الحرام، نجدها أيضاً بباقي المحافظات العراقية وببغداد بشكل خاص. وهو أمر لا يجوز استمراره وما الحراك الشعبي ومظاهرات بغداد ومحافظات أخرى، وكذلك بالسليمانية وأربيل ودهوك، سوى البداية الرافضة لكل ذلك، وما لم يتغير الوضع ستكون العواقب غير حميدة على المسؤولين وعلى المجتمع بأسره. إن ما أشير إليه هنا ليس بتقديرات شخصية، بل إنه بلورة لفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية التي تمارس فعلها بمعزل عن إرادة الإنسان وبسب الأخلال بها وبشروط فعلها. إن ما أتمناه أن يبقى الحراك الشعبي والمظاهرات سلمية وديمقراطية وبعيدة عن العنف بأي شكل كان، وأن تجد المشكلات حلولاً سريعة لها.
6. غياب التنمية الاقتصادية    
حين نتحدث عن التنمية الاقتصادية لا نعني بها بناء القصور والبيوت المرفهة واستيراد السلع الاستهلاكية والكمالية وإغراق الأسواق بها، بل نعني بالتنمية الاقتصادية الشاملة إقامة مشاريع البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية الإنتاجية في الصناعة والزراعة وتوجيه نسبة مهمة من الدخل القومي صوب الاستثمار الإنتاجي الذي يسهم في تحقيق تراكم رأسمالي وتنويع الاقتصاد الوطني وتغيير بنيته الريعية النفطية المشوهة الراهنة وتنويع مصادر الدخل القومي وزيادة التشغيل في المنشآت الصناعية وملحقاتها وفي الزراعة الحديثة لتوفير حاجات المجتمع الاستهلاكية الأساسية واستكمالها بالاستيراد السلعي الذي لا يلحق أضراراً بالتنمية والإنتاج المحلي. وهذا الاتجاه في التنمية غير متوفر وغير محبذ، كما يبدو، بالإقليم وبالنسبة إلى جميع الأحزاب السياسية وقادتها دون استثناء. فالتوجه الراهن ليبرالي جديد من حيث الفكر الاقتصادي الذي لا يتناغم بأي حال مع طبيعة وحاجات وضرورات التنمية الاقتصادية بالإقليم أو بالعراق عموماً. وما الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة سوى المنتوج المنطقي للسياسات التي مارستها الحكومات الكُردستانية المتعاقبة منذ وصولها إلى السلطة في العام 1991 حتى الوقت الحاضر. إن هذا الواقع  السلبي ليس في صالح الإقليم وشعب الإقليم على وفق ما أرى وعلى وفق وعي للعملية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجارية، إذ أن ما يجري الآن هو إخلال شديد بالقوانين الاقتصادية الموضوعية التي يفترض أن يعيها المسؤولون ليتجنوا المطبات والأزمات الراهنة والمستقبلية.
7. الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي
لا شك ي أن أجهزة الأمن المحلية تلعب دوراً مهماً في حماية المواطنات والمواطنين من عبث قوى الإرهاب والجريمة المنظمة وبدونها يصعب الوصول إلى تحقيق الأمن ومحاربة قوى الإرهاب والشر. وقد حققت أجهزة الأمن الكُردستانية نجاحاً مهماً في هذا الصدد يشار إليه بالبنان ومحمود طبعاً. ولكن يفترض في قوى الأمن أن تبقى بعيدة عن السياسة، كما هو حال بقية القوات العسكرية أو الپيشمرگة التي يفترض أن تدافع عن الإقليم وشعب الإقليم وبعيداً عن التدخل في الشأن السياسي اليومي للأحزاب والقوى السياسية وفي حرية الأفراد، وأن تكون موحدة لا كما هو الحال حالياً بالإقليم والموروث من السنوات السابقة. يمكن أن يصان الأمن ولفترة بالقوة، في حين يصبح دائمياً حين يقترن بالحياة الحرة والحريات الديمقراطية والتمتع بحقوق الإنسان وحقوق القوميات وبعيداً عن التدخل في شؤون المواطنات والمواطنين ومواقفهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وانتماءاتهم الحزبية أو المدنية الأخرى. أتمنى على رئاسة وحكومة الإقليم والأحزاب والقوى السياسية أن تسعى إلى جعل مهمة أجهزة الأمن والقوات المسلحة بعيداً عن التدخل في الشأن السياسي أو في شؤون المواطنات والمواطنين، عندها سنجد ردود فعل إيجابية من جانب المجتمع الكُردستاني في احتضان وتأييد النشاط المهم الذي تمارسه هذه الأجهزة حفاظاً على أمن المواطنين خاصة حين يكون جهاز الأمن والقوات المسلحة موحدة لا مجزأة عملياً وفعليا كما عليه الحال في الوقت الحاضر.
8. إن الدستور الكردستاني يؤكد الالتزام بحقوق الإنسان وحقوق القوميات، كما يؤكد على حق الإنسان والجماعات في ممارسة الإضراب والتظاهر والتجمع السلمي والديمقراطي وبعيداً عن كل أشكال العنف. وهذه القاعدة الديمقراطية يفترض في المتظاهرين الالتزام بها لضمان سير الإقليم على أسس أكثر سلاسة وحيوية. ويفترض في الحكومة وأجهزتها الأمنية أن تلتزم هي الأخرى بقواعد الدستور في مواجهة الإضرابات والمظاهرات السلمية والديمقراطية وحمايتها والابتعاد عن استفزازها أو الانجرار لاستفزاز قوى تريد الصيد في الماء العكر. إن الآونة الأخيرة شهدت مدن بمحافظتي السليمانية وحلبچة مظاهرات عديدة بعضها تحول إلى هجوم واعتداء على مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني ومقرات الأمن والپيشمرگة، وهي أساليب محرمة وغير مقبولة دستورياً. وقد أدى ذلك إلى ردود فعل وسقوط قتلى وجرحى أثناء ذلك بما فيه قتلى من المتظاهرين أو من الذين قتلوا حرقاً في المقر المحروق. إن على جميع القوى والأحزاب والحكومة ضبط النفس والسيطرة على المتظاهرين ومنع تحولها إلى عنف يلحق أفدح الأضرار بمطالب المتظاهرين أنفسهم. لا يجوز استخدام العنف في المظاهرات بأي حال ولا العنف المضاد.
إن طرحي الصريح لهذه المسائل الجوهرية ينطلق من إدراكي لثلاث مسائل مهمة هي:
1.   أهمية اعتماد المبادئ الديمقراطية التي يفترض أن تسود في المجتمع المدني الديمقراطي وفي إقامة الحكم الديمقراطي الرشيد والمعبر عن إرادة ومصالح الشعب.
2.   حرصي على تجنيب العراق والإقليم المزيد من الصراعات والنزاعات غير المبررة والمدمرة للجميع، وقناعتي بأهمية وضرورة إقامة الحكم الديمقراطي على مستوى العراق والإقليم لبناء عراق مزدهر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
3.   حرصي على احترام إرادة ومصالح ومستقبل التعاون والتنسيق والتكامل بين القوميات العديدة الموجودة بالعراق، وانطلاقاً من احترامي وودي الصادق لها جميعا دون استثناء ورغبتي في أن يسود الأمن والاستقرار والازدهار للعراق ولإقليم كُردستان وبقية المحافظات العراقية.
تشرين الأول 2015
Kadhim Habib, Prof. Dr. Dr.rer. eok. 

صفحات: [1] 2 3