عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - رياض السندي

صفحات: [1]
1
الأبعاد القانونية لمرسوم سحب منصب بطريرك الكلدان
د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي


-   توطئة
بتاريخ 20 حزيران من عام 2023 الحالي، أصدر رئيس جمهورية العراق عبد اللطيف جمال رشيد، مرسوماً جمهورياً برقم (31) استناداً للبند سابعاً من المادة (73) من دستور العراق الدائم النافذ لعام 2005 الذي ينص على تولي رئيس الجمهورية "إصدار المراسيم الجمهورية". وقد تم نشر المرسوم الجمهوري المذكور  في جريدة الوقائع العراقية وهي الجريدة الرسمية لإصدار القوانين والتشريعات العراقية التي تصبح نافذة بمجرد نشرها في هذه الجريدة الرسمية. وقد جاء المرسوم المذكور ليقضي في الفقرة أولا منه على (سحب المرسوم الجمهوري رقم (147) لسنة 2013، وهو المرسوم الخاص بتعيين البطريرك مار لويس رفائيل الأول ساكو بطريرك بابل على الكلدان والعالم و متولياً على أوقافها بعد المصادقة عليه من فخامة رئيس الجمهورية.

-   نبذة تاريخية
تجدر الإشارة ابتداءً إلا أن المسيحية خالية من السلطة السياسية، فالمسيح وتلاميذه من بعده لم يقيموا أي سلطة سياسية، فيسوع المسيح ظلّ يردد طيلة حياته على الأرض، إن مملكته ليست من هذا العالم (يوحنا 36:18). وهكذا ظلت المسيحية الشرقية خالية من السلطة السياسية منذ رحيل المسيح وحتى يومنا هذا، على خلاف المسيحية الغربية التي كانت قد أقامت السلطة السياسية حتى قبل مجيء المسيح، وهذه السلطة ذاتها ممثلة بالإمبراطورية الرومانية هي التي قامت بصلب المسيح، وجاء اعتناقها للمسيحية بعد ثلاثة قرون زمن الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول. وفي ظل غياب السلطة السياسية للمسيحية الشرقية، فقد خضعت كنيسة المشرق وأتباعها إلى السلطات المختلفة التي تواجدوا في ظلها، مثل المملكة الفارسية، والإمبراطورية الرومانية، ثم الخلافة الإسلامية بصيغها المختلفة وآخرها الخلافة العثمانية التي سقطت رسمياً وبشكل نهائي في 3 مارس 1924. وخلال أكثر من 2000 سنة من تاريخ المسيحية في الشرق الأوسط، كان التواجد المسيحي مرهوناً بشروط التعامل الثلاث للإسلام مع الجماعات غير المسلمة، وهي: إما الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال. وقد مورست جميع هذه الحالات الثلاث بدرجات متفاوتة، وفي أغلب الأحوال كان دفع الجزية هو العامل الأبرز في استمرار التواجد المسيحي حتى وقتنا الحاضر.
ونظراً لتمسك المسيحية بموقفها الراسخ في عدم الاعتراف بالإسلام وبنبؤة محمد ولضمان بقائها دون التعرض للعنف الإسلامي فقد لجأت إلى ابتداع عدة وسائل قانونية إلى جانب دفع الجزية. ومن هذه الوسائل:-
أولا. استحصال رسائل من نبي الإسلام وخلفائه من بعده تتضمن حرية العبادة وممارسة الطقوس وإدارة كنائسهم وضمان أمنهم وعدم التعرض إليهم. وقد إتضح فيما بعد إن معظم هذه الرسائل مختلقة و مزيفة وغير صحيحة، ابتدعها الرهبان لضمان عدم مساس المسلمين بهم، كما أشار إلى ذلك عددا من الباحثين الثقات، كما ذهب الباحث والمؤرخ الكنسي العراقي المعروف ألبير أبونا إلى رأي مماثل بشأن الوثائق الإسلامية الخاصة بكنيسة المشرق النسطورية، حيث كتب تحت عنوان فرعي "وماذا عن العهود؟" يقول: "هل كانت ثمّة علاقات مباشرة بين الجاثليق إيشوعياب الثاني وبين الرؤساء المسلمين؟ نحن نعلم أن المسلمين لم يخرجوا من الجزيرة العربية إلا بعد موت الرسول. ففي خلافة عمر بن الخطاب، إجتاحت القوات العربية بلاد فارس في سنة 637/638. وقد ذكرنا كيف إستقبل المسيحيون الفاتحين العرب. وتضَعُنا الوثائق السريانية أمام مجموعة من الكتابات والمراسلات المتبادلة بين الرؤساء المسيحيين وبين الرسول وخلفائه الأولين. إلا أن معظم هذه الوثائق لا تثبت أمام النقد العلمي والتاريخي، إنما هي روايات ينبغي النظر فيها بكثير من التحفظ.... لذا فأن هذه الكتابات تعكس حالة متأخرة، فيها يشعر المسيحيون بما يتهددهم من الأخطار، فيتذرعون بعهود خيالية يستنبطونها للذود عن كيانهم والحفاظ على دينهم وتقاليدهم". [الأب ألبير أبونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، الجزء الثاني، من مجيء الإسلام حتى نهاية العصر العباسي، ط2، دار المشرق-بيروت 2002، ص54-57.]


ثانيا. الحصول على اعتراف خطي (عهد) من الخليفة يتضمن حقهم في إدارة كنائسهم وأديرتهم، وحق ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية دون التعرض إليهم على أن يكون البطريرك ممثلاً لهم و مسؤولاً عنهم أمام الخليفة. وهذا الأسلوب كان مريحاً للخلفاء المسلمين الذين تخلصوا من مشاكل المسيحيين وطلباتهم وتم حصرها بشخص البطريرك. ومن الجانب المسيحي فقد كان هذا سلاح ذو حدين، فمن جهة يؤمن حماية المسيحيين وكنائسهم من المسلمين، ومن جهة أخرى يضمن خضوع المسيحيين لسلطة البطريرك وهيمنته باعتباره وكيلاً للخليفة، ومن أمثلة تلك العهود، عهد الخليفة العباسي المقتفي لإمر الله للبطريرك النسطوري عبد يشوع عهداً بذلك في عام 1138 م، لا سيما وأن هناك العديد من البطاركة الذين ارتبطوا بصداقات شخصية مع خلفاء معينين ولعبوا أدواراً تاريخية متميزة، مثل البطريرك طيمثاوس الأول الذي جمعته صداقة مع الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، ومن جانب آخر كان لبعض البطاركة دورا غير محموداً في تسهيل مهمة الفاتحين والغزاة، مثل البطريرك مكيخا الثاني الذي لعب دورا في تسهيل سقوط بغداد بيد هولاكو عام 1258م من خلال استغلال التقارب مع زوجة هولاكو المسيحية النسطورية دقوز خاتون.
وقد استمر اقرار خلفاء المسلمين لشرعية منصب البطريرك حتى عهد الخلافة العثمانية التي استمرت في حكم المنطقة أكثر من 700 عام، من خلال منحهم وثيقة رسمية بختم الخليفة تتضمن تثبيت البطريرك في منصبه وتقر له بجملة من الحقوق والامتيازات والمسؤوليات.
ففي ظل الدولة العثمانية، ونظراً لكونها دولة دينية قائمة اساساً على الشريعة الإسلامية، فقد كان لكلّ ملّة مسيحيّة رئيسها الديني وهو البطريرك الذي أعتبر كفيلا لضمان تنفيذ رعيته لشروط أهل الذمة، وفي مقدمتها دفع الجزية. وكانت الأحوال الشخصية للمسيحي تحدّد بصفته عضواً في الكنيسة التي ينتمي إليها، وليس بانتمائه للدولة. وبحلول القرن السادس عشر أتم العثمانيون سيطرتهم على المنطقة وبالرغم من عدم الاعتراف بكنيسة المشرق والكنيسة السريانية الأرثوذكسية كملل رسمية إلا أنهم غالبا ما مثّلوا في الباب العالي عن طريق الأرمن الذين حازوا على هذا الحق. [آشوريون/سريان/كلدان، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.]
وقد "تم تنظيم الرعايا غير المسلمين وفقاً للنظام الإداري العثماني في هياكل شبه مستقلة تُسمّى "ملل" Millets تحل محل السلطة المباشرة لحكومة السلطان وتُمثل بؤرة التمركز الاجتماعي.  واعترف العثمانيون بملّة الأرمن الأرثوذكس في عام 1461. كما  إعترف السلطان العثماني للملل المسيحية الدينيّة الاخرى في القرن التاسع عشر، فأعترف بملّة النساطرة (كنيسة المشرق القديمة) وبطريركها عام 1844. ثم أعترف بملّة الكنيسة الكلدانية عام 1861.
وإعتبر السلطان العثماني البطريرك المسكوني مسؤولا عن ملّتة المسيحية، فأصدر براءة ضمّن فيها إحترام البطريرك، وإمتداد سلطته لتشمل الرؤساء الدينيين الخاضعين له. كما خوّله سلطات زمنية على أبناء الملّة المسيحية.  وهذا أخطر ما في الموضوع، وسيكون لاحقاً وبالاً على البطريرك والكنيسة وأتباعهما معاً. كما إعتبره مسؤولاً عن تصرفات أتباعه، وحاسبه عليها بشدّة. والواقع إن هذه السلطات الزمنية كانت إدارية أكثر منها سياسية. وحتى بعد سقوط الخلافة والدولة العثمانية، لم يكف البطريرك الآشوري مار شمعون إيشاي من المطالبة بالسلطتين الدينية والدنيوية للبطريرك في عريضة مطالبهم المقدمة للمندوب السامي البريطاني السر هنري همفريز بعد اجتماع سرعمادية في 15و16 حزيران عام 1932، حيث نصت الفقرة الرابعة (على العراق الاعتراف بالسلطتين الزمنية والدينية للمار شمعون). [رياض ناجي الحيدري، الأثوريون في العراق 1918-1936، ط1، القاهرة، 1977، ص271.] وهذا ما قاد إلى مذبحة سميل بحق الأثوريين عام 1933، بعد رفض الحكومة العراقية تلك المطالب.


-   السند القانوني للطوائف المسيحية في العراق
في عام 1921 أقيم الحكم الملكي لدولة العراق الحديث، وزال -على الأقل من الناحية النظرية- حكم الدولة الدينية الإسلامية ليسود الحكم المدني المستند إلى القانون. ومن الناحية القانونية، فإن القانون العراقي قد أعترف بأربعة عشر طائفة مسيحية في العراق وفقاً لنظام ملحق نظام رعاية الطوائف الدينية، والطوائف الدينية المعترف بها رسميا في العراق رقم 32 لسنة 1981، هي: -
1 – طائفة الكلدان
2 – الطائفة الاتورية
3 – الطائفة الاثورية الجاثيليقية
4 – طائفة السريان الارثوذكس
5 – طائفة السريان الكاثوليك
6 – طائفة الارمن الارثوذكس
7 – طائفة الأرمن الكاثوليك
8 – طائفة الروم الأرثوذكس
9 – طائفة الروم الكاثوليك
10 – طائفة اللاتين
11 – الطائفة البروتستانتية والإنجيلية الوطنية
12 – الطائفة الإنجيلية البروتستانتية الأثورية
13 – طائفة الأدفنتست السبتيين
14   – الطائفة القبطية الأرثوذكسية
[نظام ملحق نظام رعاية الطوائف الدينية، الطوائف الدينية المعترف بها رسميا في العراق رقم 32 لسنة 1981. مما يشير إلى أن الإنقسام بين مسيحيي العراق كبير جداً. وقد أورد القانون ثلاث طوائف أخرى موحدة، وهي: 15 – طائفة الأمويين اليزيدية. 16 – طائفة الصابئة. 17 – الطائفة اليهودية.]


-   مضمون إعتراف السلطة السياسية بالبطريرك
سبق الذكر بأن حتى تلك العهود هو عهد الخليفة المقتفي لإمر الله للبطريرك النسطوري عبد يشوع في عام 1138م، والذي نقتطع منه هذا الجزء المهم الذي يبين مضمون العهد وأثاره في حياة البطريرك والمسيحيين، جاء فيه:
" ولما أنهيت حالك إلى أمير المؤمنين، وأنك أمثل أهل نِحلَتك طريقةً، وأقريهم إلى الصَلاح مذهباً وخليقة، وأحواهم للخِلال التي إجتمعوا على تَميُّزك بها عنهم، وإنفرادك: وإستحقاقك للإسعاف من بينهم بمأمولك ومرادك، وكونك حالياً بشروط الجثلقة المتعارفة عندهم بأدواتها، مشهوداً لك بنعوتها الكاملة وصفاتها، وحضر جماعة من النصارى الذين يُرجَع إليهم في استعلام سيرة أمثالك، وإستطلاع انباء مضارعيك وأشكالِك، وذكروا إنهم تصَفَحوا أحوالك ذوي الديانات فيهم، وإستثبتوا باديهم منها وخافيهم، بحكم مساس حاجتهم إلى جاثليق ينظر في أمورهم، ويراعي مصالح جمهورهم، فإتفقوا بأجتماعٍ من آرائهم، وإلتئام قلوبهم وأهوائهم، على إختيارك لرئاسةِ دينهم، ومراعاة شؤونهم، وتدبير وقُوفِهم، والتسوية في عدل الوساطة بين قويّهم وضعيفهم، وسألوا إمضاء نصّهم عليك بالإذن الذي به تُستَقرى قواعدُهُ، وتَصدُق مواعده، وتستحكم مبانيه وتقوّي أواخيه، فأوعز بإسعافهم في ما سألوه بالإيجاب، وإلحافِهم فيما طَلبوه جَناحَ الأطلاب، وبرّز الأذن الأمامي الأشرف، لا زالت أوامره بالتوفيق مَعضُودة، بترتيبك جاثليقاً لنسطور النصارى بمدينة السلام، ومَن تَضمّه منهم ديار الإسلام، وزعيماً لهم ولِمَن عَداهم من الروم واليعاقبة والملكية في جميع البلاد، وكل حاضِرٍ من هذه الطوائف وبَادٍ، وإنفرادك عن كافة أهل نحلتك، بتقمص أهْبة الجثلقة المتعارفة في أماكن صلواتكم، ومجامع عباداتِكُم، غير مشاركٍ في هذا اللباس، ولا مُسوَّغ في التحلي به لمطرانٍ أو أسقفٍ أو شماس، حَطّا لهم عن رتبتك، ووقوفاً بهم دون محلِّك الذي خُصِصتَ به  ومنزلتك، وإن وَلجَ أحد من المذكورين باب المجاذبة لك والخلاف، ورَاعَ سِربَ المتابعة لك وأخاف، وأبى النزول على حُكمِكَ، وعدَلَ إلى حَربك عن سِلمك، كانت المقابلة به لاحقة، والعقوبة به على شقاقه حائقة، حتى تعتدل قناته، وتلين بالقَرع صفاته، ويزدجر أمثاله عن مثل مَقامِه، وينحرِس قانونُك مما يقدَح في نظامه.
وأمر بحملك على مُقتَضى الأمثلة الأماميةِ في حق من تَقَدّمك من الجثالقة وسبقَك، وإجراء أمركَ عليه ومن تلاك منهم ولحِقَك، والحياطة لك ولأهل ملّتِك في الأنفس والأموال، والحراسة الكافلة لكم بصلاح الأحوال، وإتباع العادة المستّمرة في مواراة أمواتكم، وحماية بِيَعِكم ودياراتكم، والعمل في ذلك على الشاكلة التي عملَ بها الخلفاء الراشدون مع من قبلكم، وَرعى بها الأئمة السابقون رضوان الله عليهم عَهدَكم وإلَّكم. وأن يقتصر في إستيفاء الجزية على تناولها من العقلاء الواجدين من رجالكم دون النساء ومَن لم يبلغ الحُلُم من أطفالكم، ويكون إستيفاؤها واحدة في كل سنة، من غير عدولٍ في قبضها عن قضية الشرع المستحسنة. وفُسحِ في الجاثليق أن يتوسط طوائف النصارى في محاكماتهم، فيأخذ النّصفَ من القوي للمستضعف، ويقود إلى الحق مَن مَال إلى القسط والجنف، وينظر في وُقوفهم نظراً يقوم بحقوق الأمانة وأشراطها، ويمضي على واضح حدودها وسويّ سِراطها، فقابلْ هذا الإنعام الذي شمَلَك، وحقق مُنَاك، فيما ناجتك نفسك وأمَّلَكَ، بدعاءٍ يُنبي عن الإعتراف وَيُعْرِب، ويبدع في الإخلاص ويُغرب. وسبيل كافة المطارنة والقسيسين والأساقفة من الطوائف المذكورة أن يحتذوا المأمور به في هذا المثال، ويتلقَّوهُ بالإنقياد والإمتثال، إن شاء الله." [أبن حمدون، التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عباس وبكر عباس، المجلد الثالث، ط 1، بيروت 1996، ص 364-368.]

-   مضمون قرار سحب منصب البطريرك
جاء قرار سحب منصب البطريرك عن بطريرك الكلدان لويس ساكو مختصراً، حيث تضمن ثلاث فقرات مقتضبة، كما خلا المرسوم الجمهوري من الأسباب الموجبة لصدوره، كما هو معتاد في كل القوانين، خاصة وأن المراسيم الجمهورية لها قوة القانون.
فقد نصت الفقرة الأولى من المرسوم المذكور على ما يلي: (أولا: سحب المرسوم الجمهوري رقم(147) لسنة 2013.
وبالرجوع إلى المرسوم الجمهوري المذكور أعلاه يتضح بأن المقصود به هو المرسوم الخاص بتعيين البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو بطريرك بابل على الكلدان في العراق والعالم و متولياً على أوقافها بعد المصادقة عليه من قبل فخامة رئيس الجمهورية، الذي تم تبليغه إلى جميع الجهات ذات العلاقة بكتاب ديوان رئاسة الجمهورية المرقم ذ.و/ر/40/2202 في 15-7-2013م. وهذه أخطر فقرات هذا القرار والتي تلغي تعيين البطريرك لويس ساكو بطريركا على الكلدان و متولياً على أوقافها.
أما الفقرة الثانية من المرسوم فتنص على ما يلي: (على الجهات ذات العلاقة تنفيذ هذا المرسوم). والقصد من هذه الفقرة هو إلزام الجهات الرسمية بعدم التعامل فيما بعد مع لويس ساكو باعتباره بطريركاً على الكلدان في العراق فقط، باعتبار أن المراسيم الجمهورية العراقية لا تسري خارج حدود دولة العراق ولا تلزم الدول الأخرى.
في حين جاءت الفقرة الثالثة من المرسوم المذكور، وهي فقرة شكلية معتادة في ختام كل القوانين والتي تنص على أن بداية تنفيذ هذا المرسوم تكون من تاريخ صدوره ونشره في الجريدة الرسمية، وهي الوقائع العراقية.


-   الأبعاد القانونية لقرار سحب منصب البطريرك
وبعد عرض مضمون المرسوم المذكور، يحق لنا أن نتساءل عن الأبعاد والأثار القانونية لهذا المرسوم. ومن الناحية القانونية فإن قرار تعيين رئيس طائفة دينية هو من قبيل الاعتراف والإقرار لهذه الطائفة بالشخصية القانونية المعنوية التي تخولها القيام بكافة التصرفات القانونية للأشخاص المعنوية المماثلة والتي تتضمن ما يلي:-
1.   يكون لها ذمة مالية مستقلة عن ذمة الأفراد المؤسسين لها. وتعتبر أموال الشخص المعنوي العام من الأموال العامة التي تحظى بالحماية المقررة قانونا للمال العام.
2.   تتمتع بالأهلية القانونية التي تمكنها من اكتساب و الحقوق وتحمل الالتزامات للقيام بكافة التصرفات مثل البيع والشراء.
3.   تتمتع بحق التقاضي وإقامة الدعاوى لمقاضاة الغير باسم الطائفة وتمثيلها لدى المحاكم المختلفة.
4.   يكون للشخص المعنوي موطن ومقر مستقل عن موطن الأشخاص المكونين له أو القائمين على إدارته وهو عادة مركز إدارة هذه الطائفة.
5.   تتمتع الشخصية المعنوية امتيازات السلطة العامة التي يقررها القانون وتعتبر قراراتها قرارات إدارية يجوز تنفيذها جبراً دون اللجوء إلى القضاء.
6.   يتحمل الشخص المعنوي المسؤولية القانونية عن أفعاله الضارة التي قد يتسبب بها للغير.
7.   يعد موظفو الأشخاص المعنوية العامة موظفين عامين ويرتبطون بعلاقة مع الشخص المعنوي ويخضعون لنظام خاص لموظفيها ولوائح خاصة بتأديبهم، ويجوز مقاضاتهم إضافة إلى وظيفتهم.
8.   تخضع الشخصية المعنوية لنظام الوسائل الإدارية وليس تمارسها السلطة المركزية في الدولة لضمان احترامها للقوانين وعدم تجاوزها للغرض الذي أنشئت من أجله، و لتقيدها بالحدود المرسومة لها قانونا.
9.   تخضع الشخصية المعنوية للقضاء الإداري في المنازعات الناشئة عن ممارسة الشخص المعنوي العام لنشاطه المحدد قانونا.

هذه هي أهم الحقوق و المزايا والمسؤوليات والواجبات التي يمنحها القانون للشخصية المعنوية، وبمجرد سحب أو إلغاء الاعتراف أو الإقرار لهذه الجهة بالشخصية المعنوية من قبل السلطة التي منحتها تلك الشخصية، فإن كل هذه الحقوق والمزايا تزول منها ولا تعد تتمتع بها وبالتالي لا يمكن للأفراد المكونين لها القيام بأي تصرف قانوني باسم هذه الجهة ولا يحق لها القيام بأي عملية بيع أو شراء أو تلقي الأموال أو إصدار القرارات ضمن حدود السلطة الممنوحة لتلك الشخصية الملغاة. وفي الحالة مثار البحث، فقد أصبح من المتعذر على السيد لويس ساكو القيام بأي تصرف باسم الطائفة الكلدانية باعتبار أن القانون العراقي لا يعتبره بطريرك على طائفة بابل على الكلدان في العراق على الأقل. وفي حالة قيامه بأي تصرف قانوني باسم طائفة الكلدان في العراق فإنه يعد منتحلا لهذه الصفة التي سحبت منه، ويجوز مقاضاته أمام المحاكم العراقية. ولا يشفع والحالة هذه، البيان الذي اصدره رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد يوم الجمعة الماضي 7-7-2023م في توضيحه حول قرار صح بالمرسوم الجمهوري بقوله: إن "سحب المرسوم ليس من شأنه المساس بالوضع الديني أو القانوني للكاردينال لويس ساكو كونه معينا من قبل الكرسي البابوي بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم".
وفي التحليل القانوني لتصريح رئيس الجمهورية المذكور أعلاه، يتضح لنا إن رئيس الجمهورية يدرك تماما الآثار القانونية لقراره المذكور أعلاه، و يتلاعب بالألفاظ بطريقة مراوغة، حيث يرى أن لويس ساكو يبقى كاردينالاً ولم يقل بطريركاً، لأن الكاردينال منصب كنسي منحه بابا الفاتيكان إلى لويس ساكو، بينما منصب البطريرك هو منصب داخلي خاص بالطائفة الكلدانية في العراق. وربما كان هذا رداً من رئيس الجمهورية على البطريرك وأتباعه بأن منصبه قد منح له من الكرسي البابوي وبالتالي لا يجوز نزعه منه، وقد فات البطريرك ورئيس الجمهورية كذلك بأن أي منصب يمنحه في الخارج يجب أن يحظى بمصادقة من الداخل لكي يستطيع ممارسة العمل وفقا لهذا المنصب، على غرار عمل المنظمات الدولية الأجنبية التي تتأسس في الخارج ولكنها تحتاج إلى موافقة السلطات الوطنية في الدول التي تنوي العمل فيها، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها، وتكون هذه الموافقة على شكل مذكرة تفاهم بين وزارة خارجية الدولة المعنية والمنظمة المذكورة ويجري للمصادقة عليها ثم نشرها في الجريدة الرسمية. وعلى غرار ذلك في القانون الداخلي، فقد نظم القانون أسلوب تسجيل الشركات وفق قانون الشركات ولدى مسجل الشركات، كما نظم طريقة تسجيل الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وغيرها. والإدارة ملزمة بالتسجيل والإقرار لها بالشخصية القانونية متى ما أستوفت الشروط المطلوبة قانوناً.
 

-   التأثيرات السياسية لقرار سحب منصب البطريرك
والحقيقة الواضحة وضوح الشمس إن المرسوم الجمهوري الخاص بسحب منصب البطريرك من لويس ساكو بطريرك الكلدان في العراق إنما هو قرار سياسي بامتياز لا سيما وإن البطريرك ساكو قد مارس دورا سياسيا منذ الغزو الأمريكي للعراق في نيسان 2003، (وقد أشرنا إلى ذلك شخصيا في كتابنا الدور السياسي للبطريرك مصادر في كاليفورنيا عام 2020)، وكانت له مساجلات سياسية وصلت إلى حد الصراع السياسي بما خلق له خصوم سياسيين عديدين، وبالأخص مع الجناح السياسي المسيحي الموالي لإيران و المعروف بحركة بابليون وهي إحدى فصائل الحشد الشعبي والذي يتزعمه ريان الكلداني. ويتضح ذلك جلياً من أول ردة فعل صادرة عن بابليون يوم الإثنين الماضي 9-7-2023م والتي عدت إجراء رئيس الجمهورية الأخير بسحب المرسوم الجمهوري(147) بأنه "قانونياً".
وذكر بيان صادر عن بابليون، ورد لـ السومرية نيوز، "حجة التولية، أو المرسوم، هي إجراءات ادارية ومُخلفات لأنظمة سياسية واجتماعية كانت تتعامل مع البطاركة رؤساء لطوائفهم ليُمثلها في شؤونها لدى الولاة والحُكام، ومن أجل جمع الجزية من ابناء الطائفة لصالح بيت المال او لولي الأمر".

وأضاف، "ان النص المذكور لا يتوافق مع الدستور العراقي والذي ينصَّ في المادة (١٤) على ان "العراقيون متساوون امام القانون من دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي"، كما نصت المادة (٤١) على أن "العراقيون احرار في الالتزام باحوالهم الشخصية حسب ديانتهم أو مذهبهم أو معتقداتهم او اختياراتهم وينظم ذلك بقانون"، وأكدت المادة (٤٣) اولا من الدستور على أن "اتباع كل دين أو مذهب احرار في: أ. ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية. ب. إدارة الاوقاف وشؤونها ومؤسساتها، وينظم ذلك بقانون".

وتابع البيان: "لذلك ان اجراء رئيس الجمهورية الاخير بسحب المرسوم الجمهوري 147 هو اجراء صحيح وقانوني. وعليه، سنعمل نحن نواب كتلة بابليون مع رؤساء الكنائس المسيحية على تشريع قانون الاحوال الشخصية الذي سيضمن حقوقنا المشروعة دستوريا بعد تضمينها في المنهاج الوزاري، كما وسنعمل على تشريع قانون ادارة الاوقاف والمؤسسات الدينية المسيحية بما يكفل كرامة رؤساء الطوائف المسيحية، كونهم المتولين شرعاً ادارة الاوقاف والسهر عليها وحمايتها، وانهاء كل الاجراءات الغير القانونية التي تُعارض حقوقنا الدستورية كعراقيين".
ودعا، رؤساء الطوائف المسيحية "للتعاون من أجل الاسراع في تشريع هذه القوانين".

وهذا يدعم الاستنتاج الوارد في تحليلنا القانوني في أعلاه، بأن هذا المرسوم هو ثمرة صراع سياسي بين البطريرك ساكو وجناح ريان الكلداني الموالي لإيران، وهو صراع سياسي على السلطة وعلى من يتولى إدارة شؤون المسيحيين في العراق. و وقد سبق إن حذرنا شخصياً من خطورة ذلك الصراع ونتائجه الكارثية لاحقاً، وقد نشرنا ذلك في عدة مقالات منها المقالات التالية:-
I.   مسيحيو العراق ... البيت المنقسم على ذاته، موقع الحوار المتمدن-العدد: 5453 - 2017/3/7.
II.   مَنْ يُمثّل مسيحيي العراق؟، موقع الحوار المتمدن-العدد: 5577 - 2017/7/10.
III.   مسيحيّو العراق والإنتخابات القادمة، موقع الحوار المتمدن-العدد: 5769 - 2018/1/27.

كما ذكر هذا الاتهام صراحة في التصريح الصحفي الصادر عن هيئة علماء المسلمين في العراق بشأن التدخل الحكومي السافر في شؤون الكنيسة الكلدانية وصادر في 12 سبعة 2023 والذي جاء فيه: (وقد جاء هذا القرار بعد الخلافات بين البطريرك (لويس ساكو) من جهة (وريان الكلداني) زعيم مليشيا بابليون المسيحي المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في مناطق سهل نينوى، وهي إحدى الميليشيات المنضوية في الحشد الشعبي، والمتهمة من قبل البطريرك والطائفة المسيحية في العراق بسرقة أملاك المسيحيين وتشريدهم).

إن تهيئة ووتحضير كتلة معينة لتمثيل مسيحيي العراق في الإنتخابات القادمة، يتطلب بالتأكيد ضرب وإبعاد باقي الكتل والمجموعات المتنافسة الأخرى، ويبدو ذلك واضحاً في تصريح رئيس الجمهورية سالف الذكر، بقوله: أنّ "سحب المرسوم جاء لتصحيح وضع دستوري إذ صدر المرسوم رقم (147) لسنة 2013 دون سند دستوري أو قانوني، فضلاً عن مطالبة رؤساء كنائس وطوائف أخرى بإصدار مراسيم جمهورية مماثلة ودون سند دستوري". وفي هذا إبعاد لبقية رؤساء الكنائس والطوائف الأخرى من أي منافسة سياسية مستقبلاً. ويدعم هذا الرأي تصريح نواب بابليون في البرلمان العراقي سالف الذكر، والذي جاء فيه: "حجة التولية، أو المرسوم، هي إجراءات ادارية ومُخلفات لأنظمة سياسية واجتماعية كانت تتعامل مع البطاركة رؤساء لطوائفهم ليُمثلها في شؤونها لدى الولاة والحُكام، ومن أجل جمع الجزية من ابناء الطائفة لصالح بيت المال او لولي الأمر". وعليه، سنعمل نحن نواب كتلة بابليون مع رؤساء الكنائس المسيحية على تشريع قانون الاحوال الشخصية الذي سيضمن حقوقنا المشروعة دستوريا بعد تضمينها في المنهاج الوزاري، كما وسنعمل على تشريع قانون ادارة الاوقاف والمؤسسات الدينية المسيحية بما يكفل كرامة رؤساء الطوائف المسيحية، كونهم المتولين شرعاً ادارة الاوقاف والسهر عليها وحمايتها، وانهاء كل الاجراءات الغير القانونية التي تُعارض حقوقنا الدستورية كعراقيين".
و أخيرأ، دعا، رؤساء الطوائف المسيحية "للتعاون من أجل الاسراع في تشريع هذه القوانين". أي بما معناه، إن السلطة تريد أن يبقى رؤساء الطوائف المسيحية ضمن حدود كنائسهم وإدارة أوقاف مؤسساتهم الدينية دون الخروج عليها بما يعد انتهاكا لحقوق العراقيين المسيحيين الدستورية في اختيار ممثليهم السياسيين. ولكون البطريرك الكلداني لويش ساكو أكثر المتدخلين في السياسة وساعين إلى ممارسة السلطة من غيره من رؤساء الطوائف المسيحية الأخرى لذا فإن المرسوم الجمهوري بسحب منصب البطريرك قد صدر بحق بطريرك الكلدان الحالي ساكو دون غيره، لأن البطاركة الآخرين، مثل بطريرك الآشوريين، أو بطريرك الكنيسة الشرقية القديمة لا تتدخلون بالسياسة مثله، ولهذا لم تصدر رئاسة الجمهورية العراقية مراسيم جمهورية بشأنهم، بل اكتفت بعدم إصدار مراسيم تعينهم قطعا للطريق في أي مشاركة سياسية مستقبلية لهم في العراق.

-   ردود الأفعال على هذا المرسوم
لقد تباينت ردود الأفعال الصادرة عن مختلف الجهات المعنية بهذا القرار، وخاصة البطريركية الكلدانية، وهي الجهة المعنية بهذا المرسوم، إلا إن ردود أفعالها كانت متشنجة وغير مدروسة ولا تنسجم مع أبعاد هذا القرار.
فقد أصدرت البطريركية الكلدانية بيانا حول سحب المرسوم الجمهوري عن بطريرك الكلدان بتاريخ 9-7-2023م جاء فيه: هذا القرار غير مسبوق في تاريخ العراق. فمنذ الخلافة العباسية كان البطريرك يمنح براءة رسمية، و واستمر الأمر في العهد العثماني إذا كان (البطريرك) يمنح فرمانا ولنا نسخة منه تسمى "الطغراء" وهكذا في الزمن الملكي والجمهوري. وهذه الحجة كان يقول بها البطريرك الآشوري مار شمعون إيشاي عام 1932 في جداله مع أقطاب السلطة الملكية في العراق، وفي الوقت الذي كان هو أول من خرج على سلطة العثمانية عام 1919. و
ومن جهة أخرى، فقد كتب المعاون البطريركي في رسالة وجهها إلى رئيس الجمهورية بتاريخ 10-7-2023م قائلا: البطريرك ساكو، جبل لا يهزه ريح. كما تضمنت الرسالة مبالغات عديدة لا قيمة لها مثل: (إنه كاردينال العراق يعني أحد مساعدي قداسة البابا فرنسيس الذي يتبعه أكثر من مليار ونصف كاثوليكي بالعالم)، ولكن هل كل هؤلاء الكاثوليك يتبعون بطريرك الكلدان في العراق؟ في رأيي انها مبالغة جوفاء تضر ولا تنفع. وختم المعاون البطريركي رسالته قائلا: لأنه سيبقى هو البطريرك والكاردينال والمرجع الديني لكنيستنا وكلنا معه. الشيء الذي لا يفهمه المعاون البطريركي هو إنه اعتراف السلطة السياسية للطائفة الدينية ممثلة في رئيسها الديني إنما هو بقصد تسهيل كل المعاملات والتصرفات القانونية باسم هذه الطائفة، أما إيمان أشخاص معينين بهذا المرجع الديني إنما هو إيمان لا قيمة له على صعيد الواقع.
وأخيرا خاطب البطريرك ساكو فخامة رئيس الجمهورية برسالة مفتوحة نشرها على موقع البطريركية الكلدانية بتاريخ عشرة تموز 2023 و جاء فيها: (هذه الرسالة الثالثة التي أوجهها إلى فخامتكم، ومن دون الرد عليها ... إنكم أدرى مني بوجود مناصب هي من باب العرف وليس الدستور مثل المناصب الرئاسية ... فخامة الرئيس إني بخلاف سحب المرسوم سأرفع الى القضاء طعناً قانونياً). وأعتقد أن الطعن القانوني لن يجدي نفعاً، وين الحل السياسي هو الأكثر نجاعة، لأن المرسوم المذكور هو سياسي بامتياز. وللكنيسة سابقة في هذا المجال، فقد أصدر الرئيس المصري الأسبق أنور السادات قرارا بإعفاء البطريرك شنودة الثالث بابا الكنيسة القبطية وبطريرك الكرازة المرقسية من صلاحياته بعد رفضه لإتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1977، وتظاهر الأقباط ضد السادات اثناء زيارته للولايات المتحدة، فحدد السادات إقامته، وأفرج عنه الرئي وس الاحق حسني مبارك عام 1985.
ومن جانب أخر، وفي ردود افعال مناهضة، فقد ذهب آخرون من خصوم البطريرك ساكو، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى بيان اخطاء البطريرك ساكو حتى في معالجته لهذه الازمة، ففي مقال (مجرد رأي حول سحب المرسوم الجمهوري عن بطريرك الكلدان)، جاء فيه:
وهنا نتأكد بأن المرسوم الجمهوري الصادر في (2013) لم يكن سوى مجاملة غبطته وعدم معرفة مسبّقة بقوانين الدولة أي (ليس له غطاء دستوري او قانوني) وهذا يعني ان غبطته (لم يعيّن من قبل الدولة ولم يكن المسيحيين تحت معاملة “اهل الذمّة” ولم يكونوا يدفعون الجزية لبيت مال المسلمين وبذلك لم يكن هناك سند قانوني بتعيين الأسقف لويس ساكو بطريركاً على الكلدان).
كان يفترض منذ البداية ان لا يوافق غبطته على هكذا مرسوم يقلل من هيبته وهيبة المؤسسة بعد ان تطوّر حال المسيحيين من (اهل ذمة دافعي الجزية ومهمات “مذلّة” لبطريركهم “جامع ضرائب”) فلماذا يصر غبطته لإرجاعنا لتبعيّة (مذلّة) بعد ان تحررنا إلاّ اذا كان يعتبر ان هكذا مرسوم هو (فخراً شخصياً له) (انه يتصوّر ان هناك مجداً سيحصل عليه ليزيد من القابه) وليسمح له هكذا مرسوم في الدخول في الحياة السياسية للدولة العراقية وهذا ما لاحظته الدولة العراقية بمسؤوليها من تدخل سافر في حياتها السياسية كأخذ دور (وزير خارجية .. باستقبال وتوديع سفراء دول العالم في العراق الزيارات الدائمة لمسؤولي الدولة من وزراء ومديري مخابرات وأمن ورؤساء أحزاب وتنظيمات سياسية ومناقشة الوضع السياسي وكأنه “مستشار لرئيس الوزراء” كذلك تشييعه لدرجة الكاردينالية لى أساس انها تعادل درجة وزير في العراق وبدأ يمارس مهام وزير دولة في تعيين المستشارين ومنهم على سبيل المثال رئيس الرابطة الكلدانية السابق تم تعيينه كمستشار للكاظمي … الخ ).

-    خاتمة
إن الأزمة الحالية التي تمر بها كنيسة الكلدان في العراق هي نتيجة صراع سياسي على من يتولى شؤون المسيحيين ويمثلهم أمام السلطة العامة ويرعى شؤونهم، وقد إتخذ هذا الصراع طابعا شخصيا بين البطريرك الحالي ساكو، وريان الكلداني مسؤول حركة بابليون الموالية لإيران والموضوع على قائمة الإرهاب الأمريكية، وإن الغرض من إصدار هذا المرسوم الجمهوري، هو لتحجيم البطريرك ومنعه من لعب أي دور سياسي أو تقديم مرشحين مسيحيين للانتخابات المقبلة، كما أن القصد منه هو أن يتولى ريان الكلداني تمثيل المسيحيين وتقديم مرشحين موالين لإيران، وإطلاق يده في التصرف بأموال المسيحيين وعقاراتهم خاصة وأن الكثير منهم قد غادر البلاد وأصبح من المتعذر عودتهم إليها.
إي إن أفضل معالجة لهذه الأزمة الحالية هو اعتماد عناصر كفوءة وعلى قدر من التعليم العالي ومن المشهود لهم بالنزاهة وحسن التصرف للتدخل لحل هذه الأزمة بوعي وكياسة، وانتهاج الدبلوماسية وعدم إطلاق التصريحات المتشنجة التي تعقد الموقف ولا تحله.
د. رياض السندي - كاليفورنيا


2
قرن كامل بين المس بيل والرئيس ماكرون حول الشيعة
د. رياض السندي

المجاملة عُرْفٌ دبلوماسي وتقليد إجتماعي مطلوب، أما التملق والمراءة والخداع فهي أمور قبيحة ومستهجنة في كل المجتمعات. وقد إبتلت المجتمعات العربية والإسلامية بهذه الأمراض الإجتماعية، فغدت الأغلبية تمارسها هذا النفاق الاجتماعي، إما خوفاً أو مراعاة لمصالحها. وهذا لا يعني عن الغرب لا يمارسها، بل إنه يمارسها فقط عندما تقتضي مصلحته سواء العامة أو الخاصة منها. فالرئيس الأميركي أوباما إستقبل نوري المالكي عندما كان رئيساً لوزراء العراق، وهو في الحقيقة لا يطيقه، ولا يعتبره شخصاً محترماً، ولكن مصلحة أمريكا وأوباما إقتضت ذلك، بينما رفض الرئيس ترامب إستقبال عادل عبد المهدي لأكثر من سنة حتى تاريخ إستقالة عبد المهدي. وهذا يدل على إن الغرب وفي مقدمته أمريكا وبريطانيا تعمدوا تسليم السلطة للأحزاب والجماعات الدينية الإسلامي بشقيها (السُنية والشيعية) والتغاضي عن تغلغلها في مؤسسة الدولة، لعلمهم يقيناً إن هذه الجماعات هي أفضل من يخرب الدول بعد أن يهدم حدودها ويضيع سيادتها. 
 ومنذ أكثر من 17 عاماً والعراق يشهد تدهوراً في كل مجالات الحياة، ومع ذلك، فالقلة القليلة من سياسيي الغرب من أبدى قول صدقٍ بصدد ذلك. ولم يكن أحد منهم يرغب أن يشخِّص المرض أولاً، ويصف الدواء تالياً. وإستمر هذا الوضع الشاذ حتى مجيء الرئيس الأمريكي ترامب الذي يمتاز بصراحته المتناهية فكشف العديد من هذه العورات بكل وضوح، في الوقت الذي كان فيه الجميع كان يعرف إن الداء الذي أبتليت به دول عربية عديدة كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، وبدت أعراضه على دولٍ أخرى البحرين والكويت وغيرها، إنما يكمن في الولاء الأجنبي لدولة أخرى، وهو في السابق كان يُعَد جريمة كبرى تمس أمن الدولة في قوانين عقوبات هذه الدول تحت مسمّى (جريمة الخيانة والتعامل مع دولة أجنبية)، ولكن بعد عام 2003، أصبحت هذه الجريمة مصدر فخر ومباهاة للكثيرين فيها، فإختل التوازن في ميزان الحياة، وفقد النظام فيها، وضاع الصراط المستقيم. وكانت إيران في مقدمة الدول التي يقدم لها هذا الولاء، حتى جاء إنفجار مرفأ بيروت الرهيب في الرابع من آب 2020، لينتبه العالم وفي مقدمته فرنسا إلى حقيقة خطورة السكوت على الخطأ، والمجاملة على حساب الحق، ومداهنة الباطل، والقبول بالفساد ونتائجه الخطيرة.
وهكذا، ففي زيارته بتاريخ 6 آب المنصرم، قال الرئيس الفرنسي ماكرون لممثل حزب الله محمد عيد: أريد العمل معكم لتغيير لبنان، لكن أثبتوا أنكم لبنانيون، فكلنا يعلم إن لكم أجندة إيرانية. نعرف تاريخكم جيداً، ونعرف هويتكم الخاصة، ولكن هل أنتم لبنانيون، نعم أم لا؟ هل أنت لبناني أم إيراني؟ أجبني بنعم أو لا؟ أنا اعرف تاريخك المهني وسيرتك الذاتية كاملة، فارجعوا من سوريا واليمن، ولتكن مهمتكم هنا لبناء الدولة، لأن الدولة الجديدة ستكون لصالح أبنائكم، فاعملوا لمستقبل أطفالكم.
نفس هذا القول وبمعاناة أكبر قالته المس بيل السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني في العراق لعدد من الشيعة عام ١٩٢٠، أي قبل قرن كامل بالضبط، عندما أرادوا مناصب في الدولة العراقية، فقالت: هل أنتم عراقيين أم إيرانيين؟ فأجابوها: نحن من رعايا إيران. وفي رسالتها بتاريخ 2 تشرين الثاني 1920 تقول بيل "فالشيعة يشكون من إنهم غير ممثلين تمثيلاً كافياً في المجلس (التأسيسي) وهم بهذا يتغاضون بالكليّة عن إن قادتهم كلهم تقريباً رعايا إيرانيون، وعليهم أن يغيروا جنسيتهم قبل أن يتبوءوا المناصب في الدولة العراقية. إنهم أصعب العناصر إنقياداً في البلاد، وهم كلهم متذمرون مستاؤون تقريباً، ولا يبالون بالمصلحة العامة بالمرة."
وفي رسالة ثالثة بتاريخ 7 تشرين الثاني 1920، كتبت تقول: "والشيعة، كما بيّنت في مناسبات عديدة من قبل، يكوّنون مشكلة من أعظم المشاكل ... إن رجالهم المتقدمين في المجتمع من العلماء وأسرهم كلهم من رعايا إيران. وقد وجدت إن أحسن حجّة أتذرع بها، عندما يأتي إليّ بعض الناس شاكين من إن فلاناً أو فلاناً لم يدخل أسمه في قائمة الوزراء، هي أن أسألهم قائلة "أفندم. هل يمكنني أن أسأل عما إذا كان المؤما إليه من رعايا الدولة العراقية أم لا"، فيكون الجواب "أفندم، كلا إنه من رعايا إيران" وعند ذاك أذكر لهم إنه في هذه الحالة لا يمكنه أن يشغل منصباً في الحكومة العراقية".
وقد إختصرت المس بيل رأيها في فيهم قائلة: "ويجب أن أعتبر سيطرة الشيعة كارثة لا يمكن تصورها". فهل صدقت نبوءتها بعد أكثر من 80 عاماً؟ إن نظرة واحدة إلى عراق اليوم تبين ذلك بجلاء.

د. رياض السندي
كاليفورنيا في 5/9/20220


3
مصطفى (ال) رشيد.. كاتب مزيف ومتملق رخيص

د. رياض السندي

نشر بالأمس على موقع كتابات مقالا بعنوان (العراق بين مطرقة ازماته المالية وسندان ازماته الدولية والحاجة الى عودة هوشيار زيباري) لكاتب مغمور يكتب أولى مقالاته في واحد من أهم موضوعات السياسة في العراق وهي إختيار وزير خارجية لهذا البلد المنكوب والمبتلى بالفاسدين والمتملقين معاً. فمن هو هذا مصطفى الرشيد؟ وما هي دوافعه؟

إبتداءً، يمكن ملاحظة ما يلي على هذا الكاتب: -
1.   هذا هو أول مقال له.
2.   وضعه الموقع على لائحة أحدث الكتاب.
3.   نشر هذا المقال على موقعين إلكترونيين فقط هما: موقع كتابات، وموقع صوت العراق.
4.   لا توجد صورة لهذا الكاتب بخلاف معظم الكتّاب على موقع كتابات، أما الموقع الأخر فلا يطلب صورة الكاتب.
5.   إن الكاتب يمدح مهارات وكفاءات هوشيار زيباري ويناشد رئيس الوزراء الكاظمي بتوزيره مرة أخرى.

ونظراً لمعرفتي بهذه الشخصية حق المعرفة، فسأحاول تقديمها للقراء الكرام، ليعرفوا سبب بلاء العراق في وجود طائفة من المخادعين والكذابين والمتملقين والمداهنين وماسحي الأكتاف في العراق، ومنهم هذا الكاتب المزيف والمتملق الرخيص.

بالعودة إلى عام 2013، عندما بدأت أكتب مقالات تنتقد وزير الخارجية آنذاك هوشيار زيباري بسبب ظلمه لي وكشفي بالأدلة لعقد فساد كبير بملايين الدولارات، والوقوف إلى جانب الفاسد محمد علي الحكيم سفير العراق في جنيف (وزير الخارجية لاحقا)، والذي أقيل ضمن حكومة عادل عبد المهدي المواليد لإيران والمتهمة بخيانتها للشعب العراقي وقتل المتظاهرين، والذي لم يُكمل سنة واحدة فقط، كما هي عادة هذا الخائن والحاقد على العراق والعراقيين (وأعني به الحكيم)، مما أرغمني على الإستقالة من وزارة الخارجية بدرجة مستشار، وبقرار معطل لعدة سنوات بمنحي درجة وزير مفوض. فكتبت مقالا على موقع كتابات بعنوان (هوشيار زيباري خارج وزارة الخارجية) بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر 2014.
أثار هذا المقال كاتباً مغموراً أخر يدعى (مصطفى حسين رشيد) الذي كتب مقالا بعنوان (الهجوم على الخارجية ومبدأ أن طاح الجمل تكثر سكاكينه)، فردّ عليه أحد الكتّاب العراقيين المعروفين بشهامتهم ووقوفهم إلى جانب الحق ضد الظلم -جزاه الله خير الجزاء، ويدعى إبراهيم محمد، بمقال عنوانه (رد على مقال الهجوم على الخارجية ومبدأ ان طاح الجمل تكثر سكاكينه) بتاريخ 2 تشرين أول/أكتوبر 2014، جاء فيه: " قرات مقال نشر على صفحات كتابات بقلم شخص وهمي اسمه مصطفى حسين رشيد.. وكانت إرادة الله أن يفضحهم بهذا المقال ويأتي بعكس ما حاول كاتبه … وهذا ما قلناه إن هناك عصابات في وزارة الخارجية ومنها عصابة كاتب المقال الذي هو في حقيقته نفسه الذي كان يكتب دفاعا عن الوزير باسم ياسين البدراني؟؟؟ والذي تبين فيما بعد انه السفير العراقي في بلجيكا واسمه محمد المحيميدي وجاء مقاله إدانة له وإدانة للوزير وليثبت هو أن هناك فساد يزكم الأنوف في وزارة الخارجية … وليطلع الشعب العراقي ليعرف الحقيقة كاملة ويطلع على الخبث والنهج الذي سار عليه الوزير... أنت تقول نعم هناك خلل وهناك قصور وهناك مشاكل وبهذا أنت صدقت.. وتكمل وتقول هناك أوجه نجاح وبهذا أنت لم تصدق لا يوجد في وزارة الخارجية طيلة عمل الوزير هوشيار زيباري أي نجاح واي بناء بل كان في وزارة الخارجية طيلة هذه الفترة الاتي أرجوك اقرأها جيدا كان الاتي: فشل ذريع للدبلوسية العراقية – عصابات داخل الوزارة – فساد إداري ومالي هائل – فساد أخلاقي هائل دعارة وشذوذ وغيرها وأرجوك وأترجاك أن تسكت افضل – رشاوي – شهادات مزورة – كذب – نفاق – تهديم للدبلوماسية…. ماذا تريد أكثر من هذه النجاحات "، ورابط المقال في أدناه.
فعاد هذا الكاتب الوهمي والمزيف لينشر مقالا أخر مستمداً من عقليته المذهبية التي تعودت على الطعن حتى بأسرة نبيها. فردّ بمقال عنوانه (رياض السندي-دبلوماسي مطرود بشهادة مزورة). وكم تمنيت لو كان هذا الكاتب رجلا بمعنى الكلمة فيثبت للعالم وبالأدلة شهادتي المزورة وقرار طردي من الوزارة. ولكنه عاد يعتذر بطريقة خجولة تشبه المرأة التي إرتكبت عملا قبيحاً شائناً، بعد أن رددت عليه بمقال بعنوان (ردا على مقال مصطفى حسين رشيد "الشمس لا تحجب بغربال الأكاذيب) في 2 تشرين أول/أكتوبر 2014. أما هو فكان عنوان مقاله الإعتذاري الخجول بعنوان (المغزى من مقالاتنا حول الخارجية) بتاريخ 6 تشرين أول/أكتوبر 2014 جاء فيه: " يبدو ان هناك حاجة لي لتفسير مقالاتي الموسومة (الهجوم على الخارجية ومبدأ ان طاح الجمل تكثر سكاكينه)،، اذ لاحظت ان احد الاخوان السيد (ابراهيم محمد) قد تكلف عناء كتابة رد انفعالي دونما التأني وقراءة المقال بروح منفتحة، وقبل ان اتطرق لهذا الموضوع انوه ايضا برد السيد رياض السندي عن مقالي (رياض السندي-دبلوماسي مطرود بشهادة مزورة)، فالرجل اورد مجموعة من الامور يدعي بها ان شهادته غير مزورة، وبصرف النظر عن شكوكي في صحة ما اورده فان كنت تحديدا بهذا الموضوع قد ظلمته فانه لابد لي من ان اعتذر له عن وصفي له بالمزور، ….".
فكتبت ذات مرة قائلا: " لم ارضى بهذا الاعتذار وقررت إقامة الدعوى ضده، ولجأت ابحث عن صاحب الاسم المستعار (مصطفى حسين رشيد) فأتضح انه سفير العراق في بلجيكا محمد الحميميدي، البعثي السابق، فرحت ابحث عن تاريخه فاتضح انه كان يعمل في السفارة العراقية في نيويورك زمن صدام حسين وهو شيعي من الديوانية وكان يكتب التقارير ضد الآخرين وبضمنهم الشيعة وانه طلب اللجوء في أمريكا قبل السقوط عام 2002 (وترك بعثة العراق في نيويورك بحراسة ال (اف . بي . آي) حسب صحيفة الشرق الأوسط بالعدد 8255 في 5 يوليو 2001). وانه أقام هناك واتضح إن عمله كان عامل توصيل طلبات البيتزا (ديلفري)، وفِي احدى زيارات هوشيار عام 2006 قدمه وكيل الوزارة محمد الحاج حمود ابن ولايته ورفيق الخلية الحزبية ليعود للوزارة وليرشحه هوشيار لدرجة سفير بعد أن تعهد له بالدفاع عنه في كل ما يكتب ضده على الإنترنيت. بعد أن نشرت هذه المعلومات تمت إحالته على التقاعد، وإنقطع عن الكتابة عموما).
وقد نشرت ذات مرة رداً على شخص إستشهد بمقاله السابق للطعن في شهادتي، قائلا: " رددت عليه بمقال (الشمس لا تغطى بغربال يا مصطفى حسين رشيد) وأرفقته شهاداتي للماجستير والدكتوراه، فطالبه الموقع بالاعتذار خشية التعويض، فاعتذر مرغما ذليلا بمقال أخر بعنوان (المغزى من مقالاتنا حول الخارجية)، وهذا ما جاء في المقال، هذا ما كتبه معتذرا كالكلب الذليل".
وإتضح إنه مجرد كاتب أجير ومرتزق رخيص لهوشيار زيباري بالذات. وإني ما زلت أحتفظ بحق إقامة الدعوى ضده وضد الوزارة عند توفر القضاء النزيه في العراق.
وهكذا تحددت ملامح هذا الكاتب المزيف، وهي:
1.   إن أسمه الحقيقي هو محمد الحميميدي، عراقي شيعي، كان بعثياً يكتب التقارير ضد أبناء طائفته، فكرمته القيادة آنذاك بمنصب في وزارة الخارجية.
2.   إنقلب على حزب البعث الذي أكرمه، فأتصل بالولايات المتحدة الأمريكية أثناء وجوده فيها بصفة نائب السفير (د. محمد الدوري) ممثل العراق في الأمم المتحدة بنيويورك، عارضا خدماته لهم في ضرب العراق، فتم نقله إلى مكان آمن وإنقطع عن البعثة.
3.   بعد سقوط النظام السابق في العراق، لم تهتم له الولايات المتحدة، فلقي ذليلا يبحث عن فرصة عمل ولم يجد غير وظيفة عامل توصيل الطلبات في مطعم بيتزا أو كما يسمى (ديلفري) منذ 2002-2006.
4.   أعيد إلى وزارة الخارجية بوساطة وكيل الوزارة الأسبق محمد الحاج حمود بعد تعهده بالدفاع عن الوزير الكردي هوشيار زيباري، في الصحافة والإعلام لتلميع صورته والرد على منتقديه وكاشفي فساد إدارته.
5.   يستخدم أسماء وهمية عديدة، مثل: ياسين البدراني، مصطفى حسين رشيد، وأخرها أبعد كلمة حسين لكي لا يكشف إنتمائه الطائفي، وأضاف (أل) التعريف للأسم الأخير رشيد، ليكون مصطفى الرشيد.
علماً، إن موقع كتابات قد حذف كافة مقالاته السابقة لغرض ما. لا بل أن حتى كتابات القليلة مليئة بالدس ونفث السموم والعزف على الوتر الطائفي البغيض. وفي مقال سابق إنتقد خالد بن الوليد لأنه قتل مالك بن نويرة ودخل بزوجته، ويومها كتبت عنه مقالاً بعنوان (مصطفى حسين رشيد.. أنظر لعيوبك أولا) جاء فيه: أنظر في المرأة يا مصطفى.. فاذا وجدت وجه أكثر بياضاً من وجه خالد بن الوليد صدقناك"، ولكني لم أنشر المقال في حينه، ويبدو حان وقته يا سبحان الله. ففي مقاله الأخير المشار إليه في أعلاه، ينتقد الجعفري ليروج لزيباري، فكتب يقول: "كما هو معروف فان ظرف العبادي والدعم الامريكي اللا محدود الذي تلقاه لمحاربة تنظيم داعش سمح بترحيل بعض المشاكل ولكنه عجز عن حلها، خصوصا في وجود السيد الجعفري كوزير للخارجية والذي اصبحت نوادره وزلاته مصدر احراج كبير للعراق".
وبالأمس عاد هذا الكاتب المرتزق ليتملق لسيده مرة أخرى، ويلمع صورته على أمل إعادته وزيراً للخارجية ليعود هو بطريقة أو بأخرى ليكون مستشاراً أو في القليل الجندي الإلكتروني والعبد المدافع عن سيده. ونسي أو تناسى فساد الوزارة في عهده وبمشاركته هو أيام كان يحصل على الإيفادات بالجملة وكان الموظف البسيط يتمنى أن يوفد للأردن من أجل أن يسدد إيجار بيته. ونسي كذلك حفلات الصخب والمجون في عهد سيده الميمون، فيريد إعادتها ليعود الخرف محمد الحاج حمود الذي أحيل على التقاعد مرتين منذ عام 2002. ولتعود سكرتيرة الوزير هناء الدليمي تتحكم بالوزارة ودبلوماسييها، وتناسى يوم كانوا يبعدون الكفاءات ليستبدلوها بالحثالات، ونسي عقود الفساد التي كتبت أنا وغيري عنها طويلا ونشرناها معززة بالوثائق. ألا بئس ما تفكر يا محمد (المصطفى). ستبقى كاتباً مزيفاً، ومتملقاً رخيصاً مهما طال الزمن ومهما إنتحلت من أسماء مزيفة.


https://kitabat.com/2020/06/04/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d9%85%d8%b7%d8%b1%d9%82%d8%a9-%d8%a7%d8%b2%d9%85%d8%a7%d8%aa%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%b3%d9%86%d8%af%d8%a7/
https://kitabat.com/2014/10/02/%d8%b1%d8%af-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%ac%d9%88%d9%85-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%a7%d8%b1%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d9%85%d8%a8%d8%af%d8%a3-%d8%a7/



4
رؤية جديدة في محاكمة يسوع
د. رياض السندي

تمهيد
في ظهيرة يوم الخميس 14 نيسان من عام 30-33م  ، قبل 2020 سنة، وفي السنة السابعة من حكم الوالي الروماني على اليهودية بيلاطس البنطي (26-36م) وفي السنة العشرين من حكم القيصر الروماني طيباريوس (13-36م)  ، الموافق 13 أبيب لسنة 3760 يهودية (حالياً سنة 5780 عبرية) وبعد نشاط تبشيري إستغرق بحدود سنة إلى ثلاث سنوات، إشتهى يسوع الناصري الذي كان يتجول ويتنقل بين مدن وقرى مقاطعة اليهودية، أن يتناول الفصح أو الفطير في عيد الفصح اليهودي الذي يقام سنوياً في بَيْتِ عَنْيَا بقرب المدينة المقدسة أورشليم، قائلاً لِرُسُلِهِ:‏ «اِشْتَهَيْتُ شَهْوَةً أَنْ آكُلَ هٰذَا ٱلْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ».‏‏ (لوقا 22-15)‏.
كانت أورشليم مزدحمة جداً بالحجّاج أثناء موسم الفصح. كان عدد سكان أورشليم 25-30 ألف نسمة تقريباً. بينما يُقدَّر عدد الحجاج أثناء الفصح 85-135 ألف نسمة. لهذا قُدِّر عدد الناس الكلي أثناء موسم الفصح أكثر من 100,000 نسمة. 

-   تقاليد الفصح اليهودي
كما هي العادة في المجتمعات الزراعية، فإن إحتفالاتها تكون في موسم الربيع. ويستغرق الفصح اليهودي سبعة أيام من الإحتفالات تبدأ من يوم 15 نيسان. 
الامتناع عن الخمير حيث إن معظم تقاليد العيد مأخوذة من وصفة في التوراة مع التفاسير التي أضيفت إليها عبر العقود. ومن أبرز مميزات العيد هو الامتناع عن أكل الخبز أو أي طعام مصنوع من العجين المختمر، وبدلاً من الخبز يؤكل الفطير غير المختمر المختبز للعيد بشكل خاص، ويسمى هذا الفطير بـ"ماتْساه" (מַצָּה). ويشرح سفر الخروج هذا التقليد كرمز لاستعجال بني إسرائيل عند خروجهم من مصر حيث لم يتمكنوا من الانتظار لانتفاخ العجين عندما أعدوا مؤونتهم.
حسب الشريعة اليهودية المعاصرة على كل يهودي التخلص من كل المأكولات المصنوعة من عجين مختمر قبل حلول العيد وأن يقوم بحرق ما يبقى من هذه المأكولات في طقس يقوم به عشية العيد عبارة عن استعداده لأداء وصايا العيد.
والتقليد الأهم فيه هو عشاء العيد تعرف عشية العيد باسم "ليل هسيدر" (לֵיל הַסֵּדֶר "ليلة المنهاج") وفيه يجتمع أبناء العائلة والأقرباء للعشاء الاحتفالي المرافقة بصلوات وسلسلة من الطقوس الدينية، وتعرض تفاصيل منهاج الصلوات والطقوس في كتاب خاص يسمى ب"هچداه" (הַגָּדָה "سرد"). "كتاب الهجداه" هو من أكثر الكتب التقليدية انتشاراً لدى اليهود، وهو يحتوي على نصوص ذات علاقة بالعيد من التوراة، الميشناه والتلمود كما يحتوي على صلوات العيد والمزامير مع تعليمات عن الوقت الملائم لقراءة كل منها وطريقة أداء الطقوس المرافقة بالقراءة. ويتكون العشاء من: بقدونس – الأعشاب المرة – خليط المكسرات المطحون مع تفاح – بيض مشوي مكسور – ماء بملح – برتقال -مع إضافة عظمة مشوية لخروف في الطبق. وبالطبع مع هذا أربع كؤوس من النبيذ (عصير عنب).
من أهم الطقوس هو شرب أربع كؤوس من خمر العنب خلال قراءة نصوص ال"هجاداه"، كذلك يغني أصغر أبناء العائلة ترنيمة بعنوان "ما نشتانا" (מָה נִשְתָּנָה "كيف تختلف"، أي كيف تختلف هذه الليلة عن باقي الليالي). وتطرح في هذه الليلة أسئلة عن العيد وأجوبة يغنيها جميع أفراد العائلة وهي عبارة عن واجبهم لسرد قصة الخروج لأبناء الأجيال القادمة. في نهاية العشاء يفتح أحد الشيوخ مع أحد الأولاد باب البيت ويدعوان إيليا لينضم إلى العائلة عند شرب الخمر ويبارك أبناء العائلة. وعادة يستحم أفراد العائلة أستعداداً وطهارة للعيد، وعند وجود ضيوف لديهم، يقوم ربُّ العائلة بغسل أقدامهم كنوع من التكريم.
ويقوم صاحب الدار بتكليف أحدهم بتوزيع بعض الأموال على الغرباء -كما هي العادة في الأعياد عند كل الشعوب- ولهذا فقد أرسل يسوع تلميذه يهوذا خازن المال أو أمين الصندوق -والذي غالباً ما أتهم باختلاسه من تلك الأموال- إلى أورشليم لهذا الغرض، وهناك تمكّن الكهنة اليهود من رشوته بمبلغ ثلاثين قطعة من الفضة مقابل أن يدلّهم على معلمه يسوع، في قُبلة هي الإشارة إليه، لكيلا يتم الخلط بينه وبين تلاميذه في ظلام المساء، ولتلافي هروبه منهم. 

-   العشاء الأخير ليسوع
تعني كلمة فصح في العبرية "العبور"، وهي بحسب سفر الخروج الليلة التي تحرر بها بنو إسرائيل من فرعون، بعد أن "عبر" ملاك الله عن البيوت التي عليها دم الحمل بينما قتل الأبكار في البيوت التي لم تكن عليها تلك العلامة. ويدعى اليوم الثاني من تذكار الحدث "يوم الفطير" حيث تجتمع عائلات بنو إسرائيل استذكارًا لخروج أسلافهم من مصر، ويتناولون فطيرًا أي خبزًا غير مخمر، إذ إن أسلافهم عند خروجهم من مصر لم يتسع لهم الوقت ليختمر العجين فخبزوه دون خمير، وفق سفر الخروج أيضًا، كما يتناول حمل الفصح وبعض الأعشاب المرّة في ذلك العشاء. وبهذه المناسبة أمر يسوع بطرس ويوحنا بن زبدي حسب إنجيل لوقا أن يذهبا إلى القدس ويطلبا من أحد الرجال إعداد المكان الذي سيتناول به الفصح مع التلاميذ، وهو مكان قريب من بستان الزيتون حيث يسوع قد انتقل بعد العشاء.
وعَمَلًا بِإِرْشَادَاتِ يَسُوعَ،‏ يَصِلُ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَبْدَآنِ بِإِعْدَادِ تَّرْتِيبَاتِ الْفِصْحِ.‏ وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ. فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلًا: «اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ» فَقَالاَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟». فَقَالَ لَهُمَا: «إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا». فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاثْنَا عَشَرَ رَسُولًا مَعَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: «شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ، أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ». ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْسًا وَشَكَرَ وَقَالَ: «خُذُوا هذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ». وَأَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلًا: «هذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي». وَكَذلِكَ الْكَأْسَ أَيْضًا بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلًا: «هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ. وَلكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ.
وَسُرْعَانَ مَا يَصِلُ هُوَ وَتَلَامِيذُهُ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ.‏ فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى ٱلْبَيْتِ حَيْثُ سَيَأْكُلُونَ ٱلْفِصْحَ،‏ وَيَصْعَدُونَ إِلَى ٱلْعُلِّيَّةِ ٱلْكَبِيرَةِ.‏ فَيَجِدُونَ كُلَّ شَيْءٍ مُعَدًّا لِيَتَنَاوَلُوا هٰذِهِ ٱلْوَجْبَةَ عَلَى ٱنْفِرَادٍ.‏ لَقَدْ كَانَ يَنْتَظِرُ بِشَوْقٍ هٰذِهِ ٱلْمُنَاسَبَةَ.‏ لِذَا يَقُولُ لِرُسُلِهِ:‏ «اِشْتَهَيْتُ شَهْوَةً أَنْ آكُلَ هٰذَا ٱلْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ».‏ ‏[لوقا 15:22‏].‏
وقد دَرَجَتِ ٱلْعَادَةُ أَنْ تُمَرَّرَ عِدَّةُ كُؤُوسٍ مِنَ ٱلْخَمْرِ إِلَى ٱلْمُحْتَفِلِينَ.‏ وَيَأْخُذُ يَسُوعُ وَاحِدَةً مِنْهَا،‏ ثُمَّ يَشْكُرُ وَيَقُولُ:‏ «ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْسًا وَشَكَرَ وَقَالَ: «خُذُوا هذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ». وَأَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلًا: «هذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي». َكَذلِكَ الْكَأْسَ أَيْضًا بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلًا: «هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ.».‏ [لوقا18:22]
ويعتبر هذا الحدث شديد الأهمية في المسيحية إذ به أسس يسوع، وفق الإيمان المسيحي، القداس الإلهي والقربان الأقدس ويدعى يوم استذكار ذلك سنويًا «خميس الأسرار»، لكونه قد شهد تأسيس سري الكهنوت والأفخارستيا. ويؤمن الكاثوليك والأرثوذكس الشرقيون والمشرقيون وكذلك أتباع كنيسة المشرق الآشورية وأغلب البروتستانت بأن الخبز والخمر يتحولان فعلاً في جوهرهما إلى جسد يسوع ودمه بينما اكتفت بعض الطوائف البروتستانتية بالمعنى الرمزي للحدث.   وهنا ظهر فصح مسيحي إل جانب الفصح اليهودي.
وَبَيْنَمَا هُمْ يَحْتَفِلُونَ،‏ فَإِذَا بِيَسُوعَ يَقُومُ عَنِ ٱلْعَشَاءِ،‏ يَضَعُ رِدَاءَهُ جَانِبًا،‏ وَيَأْخُذُ مِنْشَفَةً.‏ ثُمَّ يَصُبُّ مَاءً فِي طَسْتٍ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُ.‏ فِي ٱلْعَادَةِ،‏ يَحْرِصُ صَاحِبُ ٱلْبَيْتِ أَنْ تُغْسَلَ أَقْدَامُ ضُيُوفِهِ.‏ وَغَالِبًا مَا يَقُومُ بِذٰلِكَ أَحَدُ ٱلْخَدَمِ.‏ (‏لوقا 44:7‏)‏ لٰكِنَّ صَاحِبَ ٱلْبَيْتِ لَيْسَ مَوْجُودًا.‏ لِذَا يَأْخُذُ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلْمُهِمَّةَ عَلَى عَاتِقِهِ.‏ طَبْعًا،‏ كَانَ بِٱسْتِطَاعَةِ أَيٍّ مِنَ ٱلرُّسُلِ أَنْ يَغْسِلَ أَقْدَامَ ٱلْبَاقِينَ.‏ لٰكِنَّ هٰذَا لَمْ يَحْصُلْ.‏ فقد أعطاهم يسوع درساً في التواضع وخدمة الناس.‏
وَعِنْدَمَا يَحِينُ دَوْرُ بُطْرُسَ،‏ يَعْتَرِضُ قَائِلًا:‏ «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَدَيَّ وَرَأْسِي»‏.‏ يَغْسِلُ يَسُوعُ أَقْدَامَ رُسُلِهِ ٱلِـ‍ 12 جَمِيعًا،‏ حَتَّى قَدَمَيْ يَهُوذَا ٱلْإِسْخَرْيُوطِيِّ.‏ وَبَعْدَمَا يَنْتَهِي وَيَلْبَسُ رِدَاءَهُ،‏ يَتَّكِئُ ثَانِيَةً إِلَى ٱلْمَائِدَةِ."  [يوحنا4:13] 
إن مشاركة يسوع الناصري وتلاميذه في الفصح اليهودي تدل دلالة قاطعة إن يسوع كان يهودياً وظلّ كذلك، حتى صلبه. ولم يدّع إنه رومانياً، ولو تم ذلك لتعذر صلبه، فالمواطن الروماني لا يعاقب كالمجرمين والخارجين على القانون.

إلقاء القبض على يسوع
يبدو إن يسوع كان يخشى من إلقاء القبض عليه ليلاً، حيث يتعذر على اليهود ذلك نهاراً، لكي لا يسبب ذلك القلاقل لدى الشعب وخاصة من تلاميذه ومحبيه، وقول لوقا يفسر ذلك: وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ. [لوقا2:21] لذا فقد إعتاد على أن يقضي النهار في الهيكل، ويختلي ليلاً في جبل الزيتون. "وَكَانَ فِي النَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ، وَفِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ." [لوقا37:21]
وبعد العشاء، وكما تتفق الأناجيل الإزائية تقدم يهوذا الإسخريوطي يرافقه فرقة من الجند الرومان بقيادة كورنليوس، وهم في الغالب يقيمون منفصلين عن اليهود في محميات خاصة خارج المدن، فلم يكونوا على اختلاط بيسوع وربما استقدموا في إطار حفظ الأمن خلال عيد الفصح لا غير، وقد اتفق مسلموه مع الجند ويهوذا، أن الذي يقبله هو يسوع، فبعد أن قبله قال له يسوع: "يا يهوذا أبقبلة تسلّم ابن الإنسان."[لوقا 48/22]
 
لا يذكر إنجيل يوحنا شيئاً عن قبلة يهوذا، لكنه يضع التسليم في إطار لاهوتي، فعندما سأل يسوع الجند من تريدون وأجابوه أنهم يريدون يسوع الناصري، قال لهم "أنا هو"  ، وهو العبارة التقليدية في الديانة اليهودية للإشارة إلى الله فتراجع الجنود بقوة خارجية وسقطوا على الأرض، لكنهم قبضوا عليه بعد ذلك، وبحسب العقائد المسيحية واتفاق الأناجيل الأربعة، فهو من سمح لهم بالقبض عليه. حاول التلاميذ إبداء المقاومة، وقام بطرس بضرب عبد رئيس الكهنة المدعو ملخس فقطع أذنه، لكن يسوع رفض استخدام القوّة وقال: "ردّ سيفك إلى غمده!، فإن الذين يلجأون إلى السيف بالسيف يهلكون. أم تظنّ أني لا أقدر أن أطلب من أبي فيرسل لي اثني عشر جيشًا من الملائكة؟ ولكن كيف يتم الكتاب حيث يقول إن ما يحدث الآن لا بدّ أن يحدث".[متى 52/26-54] وقام بإعادة أذن ملخس إلى مكانها، ثم وجه كلامه للجند ومرافقيهم: "أكما على لص خرجتم بالسيوف والعصي لتقبضوا عليّ؟ كنت كل يوم بينكم أعلم في الهيكل، ولم تقبضوا علي ولكن قد حدث هذا كله لتتم كلمات الأنبياء".[متى 55/26] أما التلاميذ فقد هربوا بعد ذلك جميعًا،[متى 56/26] وتركوه وحيدًا وينقل إنجيل مرقس أن الجند حاولوا اعتقال بعض التلاميذ لكنهم فشلوا.[مرقس 51/14]

التهم الموجهة ليسوع
ويمكن تلخيص التهم الموجهة ليسوع، والتي تقسم إلى ثلاث أنواع مختلفة إلى تهمة دينية، وتهم جنائية وسياسية، وتهمة إقتصادية واحدة، وهي: -
1.   التجديف (المساس بالذات الإلهية)، أو إزدراء الدين، أو إهانة الله، أو الادعاء بالألوهية، وإنتحال صفة الله.
2.   إفساد الشعب.
3.   التحريض على الشغب والثورة.
4.   الإمتناع عن دفع الجزية (الضريبة) للحاكم.
5.   الإدعاء بالسلطة (المَلَكية).
وقد تغيرت التهم الموجهة ليسوع الناصري من تهم دينية تتمثل في الإدعاء بالألوهية، أو الادعاء بأنه المسيح، والتي لا يعاقب عليها القانون الروماني بإعتبارهم إمبراطورية تتعدد فيها الآلهة، على الرغم من أن الشريعة اليهودية تعاقب عليها بالعقوبة الأشد وهي الرجم، إلى تهم سياسية وهي الإدعاء بالسلطة على مقاطعة اليهودية بإعتباره ملك اليهود وإثارة الشغب والقلاقل بين الشعب والتحريض على الثورة، وهي تهم سياسية مناهضة لسلطة قيصر روما، ويعاقب عليها بالعقوبة الرومانية الأشد وهي الصلب. ولما كانت اليهودية تحت سلطة الاحتلال الروماني قبل 63 سنة من ذلك التاريخ، فإن سلطة إنزال العقوبة القصوى بالموت قد أصبحت محصورة بيد الوالي الروماني وهو بيلاطس آنذاك، وإذا ما إرتكبها رؤساء الكهنة اليهود فإنهم يعاقبون بجريمة القتل العمد.
أما التهمة الاقتصادية والمتمثلة بتخريب إقتصاد الإمبراطورية الرومانية من خلال دعوة يسوع الناصري للشعب إلى عدم دفع الجزية للقيصر، فَلم تثبت، لأن موقف يسوع العلني منها كان واضحاً، وهو ضرورة دفع الجزية للقيصر، بقوله: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ».
" وينقل لنا لوقا في إنجيله ثلاث تهم هي: يفسد الشعب، يمنع دفع الجزية للقيصر، يدعي إنه ملك، فكتب يقول: وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». [لوقا 2:23] ويبدو أن بيلاطس لم يهتم لها، لعدم إيمانه بها أو قناعته بصحتها، وربما تذكّر الجميع قول يسوع: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ». [مرقس 12:12-17]. 
ويذكر إنجيل يوحنا إن تهمة يسوع كانت وفقاً للناموس لإدعائه بأنه إبن الله. أَجَابَهُ الْيَهُودُ: «لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللهِ». [يوحنا 7:4019]
وخشية من إفلات يسوع من العقوبة، فقد إرتأى اليهود تحويل التهمة من تهمة دينية إلى تهمة سياسية، لا بل والأكثر من ذلك، فقد هدوا بيلاطس بتهمة عدم محبته لقيصر روما، "مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ: «إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكاً يُقَاوِمُ قَيْصَرَ». [يوحنا 12:19] وقد نجحوا في ذلك.

وقفة عند فكرة المسيح
فكرة المسيح (المسيّا) هي بدعة يهودية خالصة، تشير إلى مجيء شخص من نسل الملك داود يتمتع بالقوة لإنقاذ اليهود وجمع شتاتهم وردت على لسان إشعيا النبي ووضع له شروط معينة، وهي أن يولد من عذراء بقوله: اسمعوا يا بيت داود هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهي أيضا، ولكن يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو إسمه عمانوئيل. [إشعيا 13:7 -14] وكان يسميه زكريا (ربُ الجُنود) أو مرسل من قبله، وهو تعبير يشير إلى القوة العسكرية. ويقول إشعيا "هُوَذَا السَّيِّدُ الرَّبّ ُبِقُوَّةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ. هُوَذَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَعُمْلَتُهُ قُدَّامَهُ. [إشعيا 10:40]   ويذكر إشعياء 53، والمعروف بأنه نبوة "الخادم المتألم"، تفاصيل موت المسيا من أجل خطايا شعبه. ويقدم إشعياء تفاصيل حياة وموت المسيح قبل ميلاده بحوالي 700 عام. سوف يكون المسيا مرفوضاً (إشعياء 53: 3؛ لوقا 13: 34). سوف يقتل المسيا كذبيحة كفارية عن خطايا شعبه (إشعياء 53: 5-9؛ كورنثوس الثانية 5: 21). سوف يكون المسيا صامتاً أمام المشتكين عليه (إشعياء 53: 9؛ متى 27: 57-60). سوف يكون المسيا بين مجرمين عند موته (إشعياء 53: 12؛ مرقس 15: 27).
وقد تكررت هذه الفكرة وتطورت لدى الكثير من أنبياء إسرائيل مثل إرميا ودانيال وملاخي وزكريا وغيرهم، حتى أصبحت فكرة مجيء المسيح المخلص والمنقذ لشعب إسرائيل اليائس والمشتت والضعيف ويعيد بناء الهيكل وإحقاق الحق وبداية العصر المسيّاني فكرة متسلطة على اليهود حتى يومنا هذا، علماً يمكن أن يكون المسيح غريباً مثل الملك الفارسي كورش الثاني الذي أطلق عليه النبي أشعياء لقب المسيح (سفر أشعياء 45:1). كما رأى العديد من يهود العصر الحديث إن "بن غوريون" أول رئيس لدولة إسرائيل قد حقق كل ما أرادت نبوءات العهد القديم من المسيح تحقيقه في جمع شتاتهم وغير ذلك.
"ومع ذلك، تتفق جميع الروايات التوراتية الأربعة على أن قيافا والسنهدرين أدانا يسوع في نهاية المطاف بتهمة التجديف. وتُسجل الأناجيل أنه عندما سأل قيافا يسوع عما إذا كان يدعي أنه المسيح، أجاب: "أنا هو" (مرقس 14: 62) (أو «أَنْتَ قُلْتَ!». (متى 26: 64) أو «إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ». أو فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ». (لوقا 22: 67-8) أو "أنتَ تقول إنني" (يوحنا 19: 7).  على الرغم من أن كتاب المِشنا، وهو رمز القانون اليهودي والذي تم تجميعه حوالي 200م، في القسم هاء، يُعرف التجديف بشكل أضيق على أنه المساس بأسم الله المقدس (يهوه)."   

جلسات الإستماع ومحاكمة يسوع
عُقِدت ست جلسات للأستماع إلى التهم الموجهة ليسوع الناصري وشهود القضية، ثلاث منها دينية وثلاث الأخرى مدنية، وأمام كل مِنْ:
1.   رئيس المجلس اليهودي الأعلى (السنهدريم) حنانيا.
2.   كبير الكهنة اليهود قيافا (المُعيّن من قبل الرومان) وهو نسيب حنانيا.
3.   الوالي الروماني لمقاطعة اليهودية بيلاطس البنطي.
4.   الحاكم الروماني لمدينة الجليل هيرودس.
أما شهود الإدعاء ضد يسوع فكانوا:
من قبيلة إسرائيل: روان، دانيئيل، رامبينيل، يوناكين، روتيم، يوتافيل وبيريكولان.
من المملكة والولاية الرومانية: لوكيوس، ستيتيليوس وماكسيميليوس.
من الفريسيين: باربوس، سيميون وبونيلي.
من القضاة الأعليين الرومانيين: رابان، ماندانيس وباكارولاس.
مراقب الجرائم اليهودية: بوتان."   
وقد وصفهم الإنجيل على أنهم شهود زور. فيقول متى في إنجيله: " وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلكِنْ أَخِيرًا تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ وَقَالاَ: «هذَا قَالَ: إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ». فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟» [متى 59:26]

إهانة المتهم وإحتقاره
ويثور التساؤل الآتي: هل إحتقر بيلاطس يسوع وأهانه هو أو جنوده الرومان؟ في الواقع، بخلاف ما يشاع وما توحي به بعض الأناجيل، فإن بيلاطس لم يحتقره أو يهينه، بل إن الذي قام بذلك هو هيرودس أنتيباس حاكم الجليل وشرق الأردن   الذي ورث الحكم عن والده هيرودس الكبير في سنة 4 ق.م. وقد تم تقسيم مملكته بين أولاده الأربعة، فكانت الجليل من حصة هيرودس أنتيباس ولهذا كان يسمى برئيس الربع. وكان من المفترض أن يحاكم يسوع أمامه لكونه جليلياً، ولكنه بدهائه تخلص من هذه الورطة، وألقى الكرة في ملعب بيلاطس، ولكنه لم يَدَع الفرصة تَمُر دون أن ينتقم معنوياً من يسوع، وكان يومها قد جاء من الجليل إلى أورشليم ليحضر إحتفالات الفصح، وعندما أحيل يسوع إليه، إستمع إلى التهمة الدينية التي يتهمه به اليهود، وهي الادعاء بأنه المسيح ملك اليهود، ويذكر إنجيل لوقا دور هيرودس بوضوح قائلا: " فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ الْجَلِيلِ، سَأَلَ: «هَلِ الرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟» وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضًا تِلْكَ الأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدًّا، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيل أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَي آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ، فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاسًا لاَمِعًا، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا. [لوقا 11:23] بينما الأناجيل الثلاثة الأخرى لا تتهم هيرودس بالإسم بإحتقار يسوع. فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ، فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، وَضَفَرُوا إِكْلِيلًا مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. ويضيف يوحنا جزئية صغيرة أخرى في ذات السياق وهي إجلاس يسوع على كرسي الولاية بإعتباره ملك إستهزاءً به: فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هذَا الْقَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «الْبَلاَطُ» وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا». وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ، وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَقَالَ لِلْيَهُودِ: «هُوَذَا مَلِكُكُمْ!». [يوحنا 13:19]
ويبقى السؤال: لماذا فعل بيلاطس أنتيباس كل ذلك، وكان فرحاً بمصير يسوع، وما هو الدافع لذلك؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب العودة إلى الوراء أكثر من 30 سنة من ذلك التاريخ، وتحديداً في عام 6 ق.م. وعند ولادة يسوع، حيث تنبأ المجوس الذي زاروا هيرودس الأول   أو هيرودس الكبير بولادة طفل سيكون ملكاً لليهود وفقاً لنبوءة ميخا (2:5). وخشية على زوال ملكه، فقد أمَر هيرودس بقتل جميع أطفال بيت لحم بعمر يوم واحد وحتى السنتين. وقد صادفت ولادة يسوع أثناء الإحصائية الأولى عندما كان كيرينيوس والياً على سوريا (لوقا 2: 2)، وينقل لنا إنجيل متى القصة ببعض التفصيل، بقوله: "وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ.  فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ: «أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟ فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ». حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ: «اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ. وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ». فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلًا وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ." [متى 1:2-15]
وهكذا، فما فشل فيه أبوه هيرودس الأول قبل أكثر من 30 سنة، حققه هو هيرودس انتيباس. وإذا كان يسوع قد إستطاع أن يفلت في المرة الأولى وهو طفلاً، فإنه لم يفلت في المرة الثانية وهو رجلا بعمر الثلاثين. كما تجدر الإشارة إلى إن يسوع كان قد نَعت هيرودس بالثعلب. [لوقا 32:13]
وقد ذهب العديد من المؤرخين القدماء مثل تاسيت إلى إن هيرودس هو الذي أمر بصلب يسوع.  إقترحه هيرودس بالذات، حيث يذكر إنجيل بطرس المنحول، وهو أقدم نص منحول بين أيدينا حول آلام المسيح لذا يسمى بإنجيل الآلام، بقوله: إذاك أمر الملك هيرودس بأقتياد الرّب، قائلا: "نفذوا الأوامر كلها التي أعطيتكم إياها في شأنه."    أو إقترح هيرودس الصلب، وهو ما نفذه بيلاطس بلا مبالاة.

دفاع يسوع عن نفسه
تكاد كل الأناجيل تعطينا صورة واضحة تبين فيها إن يسوع لم يدافع عن نفسه بل كان دفاعه ضعيفاً، وكانت إجاباته غير منطقية، وبعيدة عن الأسئلة الموجهة إليه، كما إنها كانت فلسفية يصعب على أي حاكم أن يفهمها في سياق محاكمة قضائية. يضاف إلىذلك، إن يسوع لم يُفند شهود الوزر ضدّه. وينقل لنا إنجيل متى ذلك، قائلا: وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلكِنْ أَخِيرًا تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُور وَقَالاَ: «هذَا قَالَ: إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ». فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلًا: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا وَقَالوُا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ». [متى 60:26] وحتى أمام الوالي بيلاطس لم يُجِبْ بكلمة واحدة على الشهود العديدين ضدّه، مما دفع الوالي إلى التعجب من ذلك جداً. فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟» فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدًّا. [متى 13:27]
وأضعف نقطة في دفاع يسوع هي عندما "وَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قِائِلًا: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ»." [متى11:27] وكان على بيلاطس أن يقول له: إن هذا هو سؤال موجّه لك كمتهم وليس رأيي الشخصي فيك. ولكن بيلاطس لم يشأ أن يزيد في معاناة يسوع، وإكتفى بذلك. ويبدو إن يسوع كانت قد تملكته حالة من الذهول المفاجئ والوقتي -وخاصة في حالات تخطيط المشتكي مسبقاً ومفاجأة المتهم بها فيؤخذ على حين غرّة- والتي تجعل منه يبدو كما لو كان أخرساً، وهي حالة تزول بعد فترة قليلة، وهكذا نجد أن يسوع بعد ذلك وهو في طريقه للصلب يعزي بنات ونساء أورشليم ويتحدث مع اللصين الذين صلبا معه على يمينه ويساره، ويوعد أحدهم بالجنة. ومن المستغرب ألا نجد في كل مراحل محاكمة يسوع إدعاءه صراحة بأنه هو (المسيح المنتظر)، رغم تكرار السؤال عليه أكثر من مرة مِنْ قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، كما أسلفنا.
ومن المؤكد إن نفي يسوع للتهمة كانت ستنقذه من الصلب، وكان عليه مناقشه الشهود والإدعاء بإن ما قصده كان أمراً مغايراً، ولكن يبدو إن ذلك كان سيُسقطه في نظر تلاميذه وأتباعه كمعلم ومخلص ولن يعودوا يصدقوا بإدعاءاته لاحقاً، ولما قامت الديانة المسيحية فيما بعد، ولكنه كان سينقذ حياته. وما جرى هو خلاف ذلك كما في السياق. والواقع، إن قضية صلب يسوع إنما تشير بوضوح إلى الفجوة الكبيرة بين مجتمعين هما: المجتمع الروماني المتحرر، والمجتمع اليهودي المنغلق، أو شرخاً كبيراً حضارتين، بين الشرق والغرب. فحكام روما الأشرار والفاسدون والذين لم يتورعوا عن القتل بوحشية وممارسة الزنا حتى بالأقارب، ويعبدون آلهة متعددة، بالتأكيد كانوا يسخرون في سرّهم ويستهزئون من تعقيدات المجتمع اليهودي الشرقي الذي يحاسب على الزنا بالرجم حتى الموت، أو السرقة، أو القتل، أو حتى التجديف "الإستخاف المتعمد بالمقدسات"، ونكران الله أو الشرك به. فهيرودس الذي أصدر حكم صلب يسوع لإنه قال أنا المسيح الموعود، كان قد تزوج أخته هيرودية، وهكذا، يمكن تصور هذا الفرق بينهما. وهذه الفجوة موجودة حتى يومنا هذا.

الباعث الخفي لمحاكمة يسوع
على الرغم من أن يسوع ظَلّ ينتقد رؤساء الكهنة اليهود والفريسيين طيلة نشاطه التبشيري الذي إستمر لسنة أو ثلاث في أكثر تقدير، ويصفهم بأقذع الألفاظ، مثل: أولاد الأفاعي (متى 34:12)، أو (وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ)، (متى 14:23) ومع ذلك لم يلتفت اليهود إلى ذلك كثيراً، إلا إن دخول يسوع الهيكل يوم السبت قبل أسبوع عيد الفصح اليهودي، وهو أقدس الأماكن اليهودية، ومجادلته أحد الكهنة حول الطهارة. وقد إستغربوا من محاسبة يسوع لهم، وَفِي أَحَدِ تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ، وَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ الشُّيُوخِ، وَكَلَّمُوُه قَائِلِينَ: «قُلْ لَنَا: بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ أَوْ مَنْ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟» [لوقا 1:19]
يقول متى الرسول: "وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ داخل الهيكل، مشيراً إلى قول إشعيا النبي: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!»" (متى 21: 13). كان هذا الإقتحام بمثابة القشّة التي قصَمت ظهر البعير، فقد مسّ بتصرفه هذا الجانب الاقتصادي الهام للمجتمع اليهودي، وهذا الجانب لا يقل أهمية عن الجانب الروحي لكل دين، فالثراء والتجارة في المعابد الدينية أمر جَليّ وواضح في كل الديانات بحيث جرى الإهتمام بتذهيب تلك المعابد مقابل إهمال الاهتمام بحياة الناس ومستوى معيشتهم. وقد كانت عملية إقتحام الهيكل والطعن بتصرفاتهم التجارية-الدينية، واحدة من التهم التي وجِهَت ليسوع أثناء المحاكمة، كما سنرى لاحقاً.
ويقول ليندر: " تصف روايات الإنجيل مشاركة يسوع في احتجاج موجه إلى بعض الممارسات التجارية المرتبطة بالهيكل.  وقد أساءت هذه الممارسات إلى العديد من اليهود.  وفقاً لمتى، اشتكى يسوع: " بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ" (متى 21: 13). ووفقاً لمرقس ويوحنا فإن يسوع قد قَلِب طاولات الصيارفة، وهؤلاء الأشخاص هم الذين يقومون بتحويل القطع النقدية التي تحمل صورا للإمبراطور إلى القطع النقدية الفضية التايريان (شيكل)، وهو الشكل الوحيد للعملة المقبولة للتبرع.  كما تصف الأناجيل يسوع وهو يخرج بائعي الحمام (استخدمت الطيور كذبائح من قبل المصلين) من المعبد.  إن من الصعب أن نتصور أن مثل هذا العمل الدرامي لم يكن ليجلب ردًا فوريًا من حراس الهيكل المسلحين، لذلك من المرجح أن الأناجيل بالغت في أفعال يسوع. ومهما كانت الطبيعة الدقيقة لأفعاله، فقد كان من شبه المؤكد أنها كانت مصحوبة بأقوال - بما في ذلك التنبؤ بأن المعبد سيسقط ما لم يتم إجراء إصلاحات لإعادة المعبد إلى مهمته الدينية المركزية. في وقت من التوتر الشديد مثل عيد الفصح، فمن المرجح أن أي عمل تخريبي في المعبد - حتى العمل ذو طبيعة رمزية - من شأنه أن يثير ردّة فعل قوية من كبار الكهنة والمسؤولين الرومان. وهذا ما حدث. ولِفهم الجريمة التي أدت على الأرجح إلى اعتقال يسوع، فإن من الضروري أولاً فهم دور الهيكل في الحياة اليهودية في القرن الأول.  لقد خدم الهيكل في القدس أغراضا مزدوجة. كان المركز المبجّل للحياة الدينية - مكان للصلاة والتضحيات - وبنك مركزي، ومكان للضرائب والعُشور." 

إصدار حكم الصلب
وأخيراً، رضح الوالي الروماني لرغبة اليهود ورؤساء الكهنة وأصدر قراراً بالصلب في الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة، وسيق يسوع للصلب في الساعة العاشرة صباحاً، فوصلوا جميعاً إلى مكان الصلب وهي قمة تلة تدعى «جُلْجُثَةَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ». [مرقس 22:15] حيث كان هناك خشبة عمودية طويلة مغروسة في الأرض، فيما كان المجرم يكلف بحمل خشبة قصيرة تمتد على طول الذراعين والتي كانت تُلف بالحبال ومثقوبة في الوسط لتنزل أفقياً داخل الخشبة العمودية، فيما كانت المسامير الطويلة تُدق على الأرجل فقط خشية عدم السقوط.
أما اللافتة الصغيرة التي وضعت أعلى الخشبة العمودية والتي كتب عليها عبارة [يسوع الناصري ملك اليهود] فلم يكن القصد منها السخرية كما صورتها الأناجيل، ولكنها كانت صورة مصغرة جداً لتهمة المصلوب، لكي يطّلع الجمهور ويعرف الشعب سبب عقوبة هذا الشخص، حيث إن القاعدة تقضي بعدم قتل إنسان دون سبب أو جرم. وهذا ما قصده مرقس في إنجيله بقوله: “وكان عنوان علته مكتوبا: ملك اليهود.“ [مرقس 15:36] ويقصد بالعِلّة التهمة الموجهة له. وهي الإدعاء بالملوكية على اليهود خلافاً لإرادة القيصر.
 وقد إعترض اليهود على ذلك لعدم إعترافهم بيسوع ملكاً عليهم، ولكن بيلاطس لم يلتفت لهم ورفض تغيير اللافتة، وردّهم بالقول لقد كتبت وانتهى الأمر، في إشارة ضمنية إلى إن هذه هي التهمة السياسية التي إدعيتم بها وحكم عليه بموجبها، ولا يمكن تغييرها. "فَقَرَأَ هَذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيباً مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوباً بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَاللَّاتِينِيَّةِ. فَقَالَ رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ الْيَهُودِ لِبِيلاَطُسَ: «لاَ تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ». أَجَابَ بِيلاَطُسُ: «مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ». [يوحنا 20:19].
وترى الكنيسة إنها إعتراف بملوكية يسوع، "فالعبريّة هي الآراميّة لغة الكتاب المقدّس؛ واللاتينيّة   هي لغة السلطة الرومانيّة المحتلّة، أما اليونانيّة، فهي لغة المخاطبات الثقافيّة والتجارية... ويرى يوحنا، في العنوان الممنوح ليسوع، كلامًا نبويّا حقيقيّا، وإعلانا ملوكيّا. ونقول، مع الكاردينال كارلو مارتينيّ: إنّ الحقيقة العميقة التي تنطوي على هذا المشهد هي بالضبط ”الملوكيّة المشيحانيّة للكلمة المتجسّد”. فيسوع هو المسيح الذي كان إسرائيل ينتظره؛ وعلى الصليب، أظهر سيادته، حسب تفسير القديس يوستينس، وقد تبنّته الليترجيّا: ألربّ يملك بالصليب، اعترفت السلطة العليا المعاصرة بهذه السيادة."
وكانت الإجراءات تقضي بإسقاء المصلوب عصارة من الخل ممزوجا بمرارة لتخديره قليلاً وعدم شعوره بالألم، كما يُطعن المصلوب بعد عدة ساعات في قلبه بالرمح للتأكد من موته، وفي حالة يسوع قام جندي روماني إسمه لُوْنْجان بطعنه في جنبه، متناولاً حربة، فخرج دم وماء. وأخيراً تكسر ساقي المصلوب كعقوبة أخيرة، ولكن يبدو إن الرومان قد إستغنوا عن ذلك فيما يخص يسوع فإستثنوه من ذلك الإجراء إعتقاداً منهم إنه قد مات، كما جاء في الإنجيل، وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. (يوحنا 33:19)
وقبل وضع المجرم على الصليب يتم تعرية المصلوب كنوع من الإهانة له أمام الشعب. ويشرح يوحنا في إنجيله ذلك، بقوله: ثُمَّ إِنَّ الْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ نَشُقُّهُ بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ». لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». هَذَا فَعَلَهُ الْعَسْكَرُ. (يوحنا 23:19) وبهذا الصدد يقول ليندر: "ويبدو إن تجريد السجناء من ملابسهم ومقتنياتهم كانت أيضاً ممارسة رومانية عادية، حيث يتم تقسيم الملابس وغيرها من الممتلكات الصغيرة لضحايا الإعدام بين الجلادين.  فالإذلال في الصلب عارياً في مكان بارز يشكل إضافة إلى قيمة الردع المقصود من العقاب."   وذهب إنجيل نيقوديموس المنحول غير المعترف به كنسياً، والذي يعود إلى القرن الخامس الميلادي، إستثناءً إلى القول: عرّاه الجنود من ثيابه وزنّروه بقطعة قماش."   أي أن الجنود وضعوا في حقويه قطعة قماش.
وجرى الصلب بحضور والدة يسوع مريم وأحد تلاميذه يوحنا، وهو الوحيد من بين تلاميذ يسوع الإثني عشر، فقد هرب الجميع خشية القبض عليهم ومعاقبتهم. وكان من بين الحضور عدد من النسوة اللواتي عَرفن يسوع في حياته ومن بينهم مريم أخت أمه زوجة كلوبا أو مَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، بالإضافة إلى مريم المجدلية.
وبعد 3 ساعات، وفي تمام الساعة الثالثة بعد الظهر، أسلم يسوع الروح، وكانت إجراءات الصلب تقضي بقاء المصلوب على الصليب لعدة أيام، وهي في الغالب ثلاثة أيام لتنهشه طيور السماء، ولكن يسوع أستثني من ذلك بناءً على طلب أحد أعضاء المجلس اليهودي المكون من 70 عضواً والذي كان بمثابة تلميذ ليسوع خفية كما يذكر يوحنا في إنجيله، وهو يوسف الرامي (من مدينة الرامّة) الذي يصفه مرقس في إنجيله بأنه شخص مشير شريف بقوله: جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا مُنْتَظِرًا مَلَكُوتَ اللهِ، فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. (مرقس 43:15) بينما يذهب يوحنا مجازاً إلى إنه تلميذ يسوع بقوله: "ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ، وَلكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ". (يوحنا 38:19). وقد طلب يوسف من بيلاطس بحكم معرفته به، أن يأمر الجنود الرومان بأن يسلِّموه جسد يسوع ليقوم هو ونيقوديموس، وهو عضو أخر في مجلس السنهدريم إعترض هو الأخر على محاكمة يسوع، بتحنيطه وتعطيره ودفنه في قبر في بستان قريب كان يوسف الرامي قد إشتراه سابقاً. وتجدر الإشارة هنا إلى إن القبر هو أشبه بكهف أو غرفة صغيرة يوضع فيها الميت ملفوفاً بكف من القماش أبيض والقطن، ويمكن دخول شخص أو شخصين إلى الداخل والجلوس إلى جانب الميت. وتغلق هذه الغرفة بلوح خشبي أو بحجر، وفي حادثة يسوع، تم غلق القبر بحجر دحرج أمام الباب. ومن هنا يجب التفريق بين القبر والدفن، فالقبر في تلك الأيام كانت أكثر فسحةً، بينما الدفن هو طمر الإنسان تحت التراب في مساحة ضيقة جداً لا يدخلها أحد، كما يتعذر على المدفون الجلوس لو عادت له الحياة.
وينقل لنا إنجيل يوحنا ذلك بقوله: وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا. وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ الْيَهُودِ لأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ قَرِيباً. وقد وافق بيلاطس على إنزاله بعد موته كما هي العادة، وقد إستغرب كثيراً عندما علم إنه مات بعد الصلب بثلاث ساعات، فسأل قائد المئة المكلف بالصلب، فيما إذا كان قد مات فعلاً. فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعًا. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: «هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ، وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ. (مرقس 44:15). فيما طارد اليهود يوسف هذا، وسجنوه لاحقاً.
وقد أنزل جسد يسوع في الساعة السادسة مساءً لتلافي حلول الظلام ودخول عشية يوم السبت الذي يُحرّم فيه على أي يهودي القيام بعمل ما.
والأناجيل الأربعة متفقة في تحديد موعد العشاء يوم الخميس والصلب يوم الجمعة والقيامة يوم الأحد.
إن هذه الحقائق لا تنتقص من يسوع الناصري ورسالته الإنسانية، بل هي عرض لبعض الحقائق والوقائع التاريخي بشكل موضوعي ودقيق، والتي غالباً ما يتم تجاهلها تحت التأثير العاطفي أو التعلق الشخصي، أو عدم معرفتها.
هذه هي خلاصة محاكمة يسوع الناصري وصلبه، والتي كانت لها تداعيات كثيرة، سنوردها بالتفصيل في كتابنا القادم حول محاكمة يسوع.

د. رياض السندي
خميس الفصح 2020


5
د . رياض السندي

–    تمهيد
لا تسقط الدول إلا بالظلم. وواحدة من أدهى ممارسات سياسة الدول العظمى هي دفع الحكومات إلى قمع شعوبهم لقيام حالة الظلم التي تشكل دوماً مؤشراً على قرب سقوط الدولة أو الحكومة، في الأقل. وحوادث التاريخ كثيرة في هذا المجال، وأنظمة الحكم في دول الشرق الأوسط زاخرة بالعديد من تلك الحالات.
وهذا ما حدث مع الدولة العثمانية بداية الحرب العظمى عام 1914، فتعاملت مع تطلعات شعوبها بالقسوة والقمع، مما ولَّد الظلم الذي كان سبباً في سقوط الدولة وإنهيارها وتمزقها.
ويكشف لنا وثائق عصبة الأمم الملغاة والمحفوظة ضمن أرشيف الأمم المتحدة، عن خفايا تلك الحالات، وتفاصيلها الكثيرة والمثيرة.
وهذه هي الوثيقة الثالثة ضمن سلسلة وثائق عصبة الأمم التي دأبنا على نشرها مؤخراً. وهي عبارة عن رسالة وجهها أهالي مدينة قرقوش   في أطراف لواء الموصل إلى لجنة عصبة الأمم حول قضية الموصل وتحديد عائديتها، إما لتركيا أو لدولة العراق الحديث، بتاريخ 15 شباط 1925، موقعة من عدد من رجال الدين المسيحيين ووجهاء المدينة.

–    مضمون الوثيقة
” قد تشرفنا وكتبنا لكم قبلا وطلبنا مواجهتكم وتنازلكم لزيارة قريتنا. والآن نرانا مضطرين لأن ندنو منكم بأحترام وثقة ونعلمكم بأننا ولفيف الذين نتكلم بأسمهم إنما نحن سكان قرية قرقوش القريبة من الموصل وذات الشهرة التاريخية. وإننا من صنف الزراع وأصحاب المواشي. ومن طائفة السريان الكاثوليك ومن القومية العراقية. ونحن نعتقد فيكم حتماً العدل والرحمة لتمثيلكم جمعية عصبة الأمم المحترمة المعروفة كشريعة قويمة ودستور منظم لمهام العالم كله.
بمناسبة وجودكم بيننا مثل حكَم فاحص ومدقق قضية حدود الموصل وما يتعلق بها فمن شأننا أن نرفع إليكم أمرنا معربين عما حلّ بنا من الأضرار في زمن الأتراك وما إحتملناه من جورهم بتوالي الأعوام ولا سيما مدة الحرب 1914-1919 من التعديات التي لا يمكن السكوت عنها بتّةً.
فمع كل خضوعنا لأوامرهم وتحكماتهم الخارجة عن الوسع البشري قد إرتكبوا بحقنا جرائم شتى قد ذُكر بعضها في الجدول المقدم لكم من طيه البالغ 48290 ليرة ذهباً تقاضاها الأتراك بدون رحمة. وقتلوا وأبادوا منا ثلاثين شخصاً ومن جملتهم كاهنين جليلين مع تخريبات أخرى توجب الأسف، حتى أصبحت قريتنا الكبرى المضاهية لمدينة وحاوية من الكنائس فقط نحو السبعة في أشد حالات الاضطراب.
فإليكم يا فخامة الرئيس وإلى لجنتكم الموقرة نرفع شكوى بتألم من مظالم الأتراك ونطلب منكم أن تتنازلوا وتبلغوا رسماً عصبة الأمم المحترمة في جنيف صدى صوتنا الأسيف لتتأمل في مصيرنا وترثي لحالنا وتنصفونا جميعاً بإلزام الأتراك بالتعويض بدل الأموال التي سلبوها والأنفس التي قتلوها منا بسوء نية مجرداً لأننا مسيحيين وعراقيين.
ولا جناح إن قلنا إننا نتعجب كيف إن العالم المتمدن يسكت إلى الآن عن محاكمة الأتراك ومعاقبتهم وتضمينهم ما إقترفوه من الجرائم المدهشة مع الإنسان والكائنات. وعن لزوم أخذهم تحت المراقبة إصلاحاً لنفوسهم غير المنكفة عن السوء. 
لعمر الحق إنه لم يسمع قط إن حكومة ما، صنعت برعيتها وأبناءها ما صنعته تركيا مع الأبرياء من الإيقاع والشرور وهذا دليل كافي على إن حكومة الأتراك بعنصريتها التورانية هي غريبة عن هذه الديار ومعادية لعنصريتها العربية وتعمل على إستئصالها. ولا يهمها حياة أو ممات الشعب العراقي، بقاء أو دمار الموصل. ومع ذلك فتبلغ بهم الشجاعة وبالأحرى الجسارة بل ويفسح لهم مجالاً للتشبث بالرجوع ثانيةً إلى هذه البلاد العراقية التي لا حق لهم فيها ولا علاقة طبيعية كانت أو مكتسبة فضلاً عن الذكر الردي وآثار الخراب التي تركوها هنا وإنصرفوا غير مأسوف عليهم. فالتاريخ والعنعنات القومية، واللسان وأدبياته، والعنصرية العربية المنتهية إلينا من الأجداد العظام تردُ تطلباتهم وتُنكر عليهم قولهم. فهذه مقررات المؤتمرات الدولية في مدّة الحرب وبعده مع قواعد ويلسن المعلومة المؤيدة بتصديق وحكم جمعية الأمم نفسها تبطل مدعياتهم وتنبذها بعدما تقرر بالإجماع إن كل أمّة أو شعب ذات قومية عريقة وماضي دولي يحق له الإنسلاخ من حكومة شدّدت عليه الخناق وأعدمتْه التمتع بالحرية والإستفادة من بلاده. وله أن يحيي قوميته ويستعيد حكومته وليستقل في بلاده.
فَمن هو أحقُ منا بذلك نحن الشعب العراقي والتاريخ يشهد والآثار تؤيد بماضياتنا المجيدة. وسيادة دولتنا العربية الراقية المعظمة أجيالاً طوالاً في عهد الخلفاء العباسيين فاتحي الأقطار وممصِّري البلاد.
فماذا يقصد الأتراك من محاولة الرجوع ثانية إلى بلادنا ولا شيء يجمعنا معهم، أهَلْ لكي يكملوا سيئاتهم معنا أو ليواصلوا فينا ضغائنهم ووقائعهم الدموية الوسيفة التي أوقفتها يد الله العادلة وحطمتها بإخراجهم من هنا حاسرين. فنحن نرفض بتاتاً إحتمال ظهورهم بيننا ثانية وتدّخلهم في شؤون بلادنا التي أخذت تتنفس قليلاً بتواريهم عنّا.
ومن جهة أخرى فلا نرضى قَط ولا يجدر أبداً أن ينفصل شيئاً من الموصل ومحيط أقضيتها. لأنه كما إن العراق وضمنه بغداد لا يمكن أن يعيش بدون الموصل. فالموصل يمكنها بتّةً أن تعيش بدون أقضيتها وملحقاتها بما فيها. ولا مندوحة من إسترجاع حدودها القديمة الواسعة المعروفة عند كل جيوغرافي ومؤرخ ذي خبرة وإطلاع الكافلة بصيانة منافعها الطبيعية والإقتصادية والإدارية والسياسية والعسكرية إلخ. وغَني عن البيان إن سكان جبال الموصل هم قوم أكراد لا نسب ولا صلّة لهم مع الأتراك أو للأتراك معهم. ومن قديم الدهور آغاهم مشتركون وتابعون أهل الموصل بإتحاد تام في سائر شؤونهم الاقتصادية والإدارية والإجتماعية. وفوق ذلك فإن فيهم من هم من أصل عربي كالمضري وغيره مثل قبائل المزورية والبروارية فيشهد على نفسه أميرها مفتخراً بأنه من نسل العباسيين.
وبالإفتراض إذا وجد أحد يعود إلى الأتراك فينطبق عليه لا محالة أصول مبادلة السكان الجاري عندهم. فيذهب مِن هنا مَن يريد الإلتحاق بهم ويأتي إلينا من إخواننا الساقطين في بقعتهم وهم يأنون متنهدين من سيطرتهم وشدّة الجفاء وأنواع العذاب الذي يتجرعوه عندهم. فإنهم بلا ريب، إذا ما جرى هذا التبادل مع إخواننا المعتقلين هناك ويمّموا ديارنا فينظر إليهم بصفة من يقدم على حجّ وطني ويكونوا قد أتوا أهلاً ووطئوا سهلاً.
هذا وإن قريتنا قرقوش منذ عرفتْ بقدوم لجنتكم المحترمة يا فخامة الرئيس قد أخذ ينكشف عنها شيئاً من ستر المأتم الذي أنزله عليها الأتراك بتعدياتهم الفظيعة. لأننا كلنا نعتقد بسلامة نواياكم وحسن إستعدادكم بما فيه حفظ بلادنا وصيانة وطننا والرفق بالضعيف ومعاضدة الأقليات نظيرنا التي ما تناقصت ولا قلّت إلا بفتك تلك المظالم. وتأمين حياتنا بعدم السماح لظهور الأتراك مرة أخرى في هذه بلادنا العربية العراقية. وما نحن قاطنوها إلا ساميون عرباً وسرياناً، إسلاماً ومسيحيين يجلّون حكومتهم العراقية ومليكها المعظم ويحترمون الدين ويعبدون الله القادر على كل شيء.
ثم من واجبنا أيضاً أن نعلن بأننا نذكر بالمعروف حكومة بريطانيا العظمى لأنها حافظت على بقية حياتنا وموجوديتنا في تلك الأوقات العصيبة بظهورها بيننا كحليف منقذ ساعة خروج أنفاس الحرب ونجّتنا من القتل العام الذي كان قد هيأه الأتراك. ونشكر لها حسن تعاملها منذ نهاية الحرب إلى حين تشكيل دولتنا العراقية المعظمة. حتى وقد عقدنا معها معاهدة لمدة أربع سنين لفائدة البلاد وعند لزوم الحال فسوف نمدها بقدر الإحتياج. وبهذا كله يبدأ الدور الجديد لحياتنا الاجتماعية والسياسية بحرية الإدارة ورائد الإستقلال حيث نحن الآن مع حكومتنا العربية الجليلة بعناية جلالة مليكنا المعظم بإستراحة تامة وسعادة. ولا نريد تركها أو الإنفصال عنها بوجه من الوجوه لا سمح الله.
وعلى هذا الأمل نتشرف ونقدم لكم يا فخامة الرئيس وبكم إلى اللجنة الموقرة جزيل إحترامنا وعظيم إعتبارنا ونكون لفخامتكم مدى الحيوة.

قرقوش 15 شباط 1925                                                      الداعون الحقيرون
                                                            هيئة الرؤساء الروحانيين ومقدمهم في قرقوش
–    الموقعون على الوثيقة
وقّع على هذه الوثيقة مجموعة من رجال الدين المسيحيين يتقدمهم القس جبرائيل حبش، وخمسة كهنة أخرين يمثلون الرؤساء الروحانيين لأهالي القرية، إلى جانب مختارين لقرقوش هما: سمعان زكو، وعبد الله منصور، بالإضافة إلى (26) أخرين من وجهاء قرقوش وختياريتها، وبذلك يكون العدد الكلي للموقعين على هذا الطلب هو (34) شخصاً. وهم: –
أولا. الرؤساء الروحانيين
1.    القس جبرائيل حبش  – رئيس كهنة قرقوش
2.    القس يوسف دديزا
3.    القس إسحاق موشي
4.    القس منصور دديزا
5.    القس يوسف موساكي
6.    القس إسطيفان سكرية

ثانيا. هيئة الأختيارية، الشيوخ ووجهاء القرية
7.    سمعان زكو – مختار قرية قرقوش
8.    بطرس عبدال
9.    كرومي جبو سكرية
10.     جرجس يوسف قاشا
11.     نوح متي قاشا
12.     داود ددو
13.     حنا ياكو
14.     عبد الله منصور – مختار سريان قديم
15.     يوسف بهنان أوسو
16.     بهنان قس متي
17.     كرومي بهنان فرنسو
18.     باجي دديزا
19.     يعقوب توما
20.     ججو القس يوسف
21.     متي حنا حبش
22.     حنا موما
23.     منصور متي إيو
24.     أبراهيم عبا
25.     بطرس شيتو
26.     عبد المجيد بهنان هدايه
27.     يعقوب متي عولو
28.     جرجس بهنان أوسو
29.     موسى جبو
30.     يعقوب جبو
31.     يعقوب موسى حنونا
32.     كرومي هدايه
33.     سمعان فرنسيس
34.     متوكا سمعو

–    قائمة بأضرار القرية
ضمّت الوثيقة ملحقين لها، تضمن الأول بياناً بالخسائر البشرية التي ألحقها الأتراك بأهالي القرية أثناء الحرب (العظمى) العالمية الأولى 1914-1919، فيما تضمّن الملحق الثاني بياناً بالأضرار المادية وحيوانات النقل والأموال والأرزاق التي أجبرت القرية على دفعها للجيش التركي (الجندرمة) لإدامة الحرب، والتي بلغ إجماليها (48290 ليرة ذهب). وهذا ما سنبحثه بشيء من التفصيل.

الملحق الأول/الأضرار البشرية
جاء الملحق الأول متضمناً الخسائر البشرية بالإضافة إلى أضرار مادية توثيقاً لبعض لحالات محددة، ونصَّ على ما يلي:

الملحق الثاني/الأضرار المادية
أما الملحق الثاني المرفق بالشكوى فقد تضمّن بياناً بالأضرار المادية التي ألحقها الأتراك بقرية قرقوس طيلة سنوات الحرب العامة (الكونية) 1914-1919، مع الطلب إلى عصبة الأمم بالسعي لتحصيل تلك الأموال وإلزام الأتراك بتقديم تعويضات مادية وأدبية (معنوية) عن تلك الجنايات والمظالم الفظيعة التي جرت بحقهم. وكما يلي:

–    تحليل الوثيقة
إن نظرة فاحصة على الوثيقة المذكورة تثير عدد من الملاحظات، وهي: –
1-    إن الوثيقة مكتوبة بلغة عربية فصيحة وبخط يد أنيق.
2-    إن رجال الدين هم في طليعة الموقعين على الطلب، ما لم يكونوا هم من دعا إليها ووجه بتقديمها. وهذا يعطي مؤشراً على مدى نفوذ رجال الدين -على مختلف الأديان- في المجتمع العراقي.
3-    إنها تعرب عن رغبة أهل قرقوش في ضَم الموصل إلى العراق، وبقائهم تحت سلطة المملكة العراقية.
4-    إنها تتضمن وصفاً شاملاً لإنتهاكات الأتراك ومظالمهم تجاه أهالي قرقوش، حيث بلغ مجمع القتلى (30) شخصاً من أهل القرية، بضمنهم إثنين من الكهنة هما: القس يوسف جبو سكرية والقس بهنام خزيمة  ، وثلاثة من المدنيين هما: داود بن يعقوب عيسو وحودي بن فتوحي عيسى، وسمعان بن يوحنا مقدسي شمعون، إلى جانب 25 شخصاً آخرين.
5-    إنها تتضمن جرداً لمعظم الخسائر والأضرار المادية والتي بلغت إجماليها (48,290 ليرة ذهبية)، طالبت الوثيقة عصبة الأمم الشكوى من الأتراك لتعويضهم. وتثير هذه الفقرة بحد ذاتها، جملة من الملاحظات، مثل: –
أ‌-    إن الإدارة الحكومية التركية كانت على قدر كبير من الفساد.
ب‌-    إن الجيش التركي كان يسلب الناس أموالهم وممتلكاتهم، ويفرض عليهم الأتاوات.
ت‌-    إن أفراد مخفر الشرطة التركية (الجندرمة) في قرقوش كانوا مرتشين وفاسدين ويقتلون الناس لأتفه الأسباب، لا بل يأخذون أهالي القرية كلهم بجريرة المذنب.
ث‌-    إن إدارة الجيش التركي كانت تعتمد في تجهيزاتها على أفراد الشعب، فتسلبهم ما يملكونه من حيوانات للتنقل، مثل البغال، وكذلك في توفير العلف لهذه الحيوانات. لذا فإن الخسارة كانت مضاعفة وثقيلة على كاهل الأفراد في ظِل الحكم العثماني.
ج‌-    من الضحك أن أهالي القرية في شكاواهم يطالبون عصبة الأمم بتعويضهم عن الكحول (العرق) الذي إستولى عليه الشرطة من أهالي القرية وشربوه. وهذا يلقي الضوء على واحدة من الممارسات المتناقضة لأنظمة الحكم الديني الإسلامي، والتي نراها واضحة في عراق اليوم في ظِل الحكم الإسلامي. 
6. إن طلب أهالي قرقوش، وهم في غالبيتهم من المسيحيين السريان، يفيض بممارسات القمع التي مارستها السلطات العثمانية. وإن ممارسات الدولة العثمانية المذكورة في أعلاه، قد ألحق بها سمعة سيئة، وصلت حد الكره والحقد عليها، وهذا ما أكسب رغبة البريطانيين والعراقيين بالوصاية، في إبقاء الموصل ضمن العراق قبولاً لدى عصبة الأمم والدول الأعضاء فيها، ساعد إلى حد كبير في إتخاذ قرار العصبة الشهير بإلحاق الموصل بدولة العراق الحديث. كما رغب الملك فيصل الأول في دمج ولاية الموصل بالعراق، نظراً لغالبية السكان السنية، وأعتقد أنه بحاجة لها لتحقيق التوازن مع السكان الشيعة.  ولولا ذلك، لكان العراق دولة شيعية منذ قيامها حتى يومنا هذا.
وختاماً، فإن إضطهاد المسيحيين ومعاناتهم زمن الدولة العثمانية، ومناشداتهم الكثيرة، كما تدّل عليها رسائلهم، كان لها الأثر الكبير في بقاء الموصل ضمن دولة العراق.
 ……………………..
[1] بخديدا أو بغديدا أو قره قوش (بالسريانية: ܒܓܕܝܕܐ) هي بلدة سريانية تقع في محافظة نينوى شمال العراق على بعد نحو 32 كم جنوب شرق مدينة الموصل و60 كم غرب مدينة أربيل، على الضفة الشرقية لنهر دجلة الذي يشكل مع نهر الخازر المنطقة الجنوبية من سهل نينوى بالقرب من مدينتي نينوى وكالح الأثريتين. تتوسط بخديدا سبع كنائس وعددًا من الأديرة التاريخية والتلال والمناطق الأثرية. في السبعينات من القرن العشرين بدّل اسم بغديدا رسمياً باسم آخر وهو الحمدانية استناداً إلى (الحمدانيون) الذين حكموا الموصل ما بين 890 م. و1004 م. بالرغم من الاختلاف في كتابة كلمة قرة قوش فتكتب أحياناً (قرقوش أو قراقوش) إلاّ أنّه هناك إجماع عام وقناعة ثابتة بأنّها لفظة تركية تعني (الطير الأسود) وأطلقت هذه التسمية أبان حكم الأتراك وهناك من يقول أنّ الزي الأسود الذي كان يرتديه سكان بغديدي من كلا الجنسين آنذاك كانت تسمى بهذا الاسم. أما بغديدا – بخديدا بالسرياني (ܒܓܕܝܕܐ) فهو الاسم السائد استعماله بين أبناء البلدة.  تعتبر البلدة كذلك مركز قضاء الحمدانية أحد الأقضية الخمسة للمحافظة. تمكن العثمانيون من السيطرة على المنطقة في القرن السادس عشر، حيث أصبحت بخديدا جزءا من ولاية الموصل واتسمت هذه الفترة بالهدوء النسبي حتى مجيء الأفشاريون سنة 1743 بقيادة نادر شاه الذي نهب البلدة وأحرق أربع من كنائسها. غير أن معظم سكانها تمكنوا من النجاة بعد أن تحصنوا داخل أسوار الموصل حيث ساهموا في الدفاع عن المدينة. وكمكافأة على صده لهجوم نادر شاه أهدى السلطان العثماني محمود الأول مبلغ 800 قرش لحاكم الموصل حسين باشا الجليلي لكي يشتري بلدة بخديدا بأكملها فلما علم الأهالي بالأمر قرروا هجر البلدة. غير أن حسين باشا أعدل عن الأمر وقرر أن يكتفي بعشر مدخول الأهالي سنويا بدلا من ذلك. من أهم أحداث القرن التاسع عشر مجاعة سنة 1828 أهلكت العديد من سكانها. بانتهاء الحرب العالمية الأولى آلت المنطقة إلى الإمبراطورية البريطانية التي سرعان ما ضمت ولاية الموصل إلى المملكة العراقية المشكلة حديثا. وشهدت السنين التالية معركة قضائية شهيرة بين أيوب الجليلي أحد أحفاد حسين باشا الجليلي وسكان البلدة. حيث ادعى أيوب الجليلي أحقيته بأراضي البلدة استنادا على نظام الإقطاعية السائد آنذاك. تمكنت عائلة الجليلي من ربح القضية في 21 تشرين الثاني 1949، غير أن الأهالي استأنفوا الحكم فأعادت المحكمة العليا في بغداد البلدة لأهاليها 15 آذار 1954 وثبتت محكمة أخرى الحكم نهائيا لصالح الأهالي. في بداية تموز 2014، حاول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) احتلال بغديدا ولكن قامت قوات بيشمركة الكردية وهيئة حراسات بغديدا بردع الهجوم ولكن العوائل لجئت إلى كردستان العراق والمدن المسيحية المجاورة لينظموا إلى بقية اللاجئين المسيحين من الموصل. قامت داعش بقطع الماء عن القرية وباحتلال حقول النفط المجاورة مما أدى إلى انسحاب البيشمركة من المدينة ودخول داعش إليها في اليوم التالي. وبقت بغديدا تحت احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى 19 أكتوبر 2016 بعد معركة الموصل حيث بدأ بعض أهالي بغديدا الرجوع إليها. وحسب الإحصائية الأخيرة للمنظمات فإن الآشوريين/السريان/الكلدان الذين ينقسمون إلى سريان كاثوليك ويمثلون أكثر من 90% وسريان أرثوذكس 7% بالإضافة لذلك وصل للبلدة مؤخرا أكثر من 15,000 نازح نتيجة العنف في مدن عراقية، وينتمي هؤلاء إلى مختلف الطوائف المسيحية وبخاصة الكلدانية للبلدة مؤخرا أكثر من 15,000 نازح نتيجة العنف في مدن عراقية، وينتمي هؤلاء إلى مختلف الطوائف المسيحية وبخاصة الكلدانية والسريانية الأرثوذكسية وكنيسة المشرق الآشورية. أنظر، بغديدا، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.
وكتب عنها المؤرخ عبد الرزاق الحسني، قائلا: ناحية الحمدانية تتألف من 118 قرية، يقطنها زهاء 21,000 نسمة. جلهم أصحاب زرع وضرع، ومركزها قرية “قرقوش” التي تبعد 33 كيلومتراً عن الموصل شرقاً. عبد الرزاق الحسني، العراق قديما وحديثا، ط 3، صيدا 1958، ص 254.

[2] القس جبرائيل حبش (1854-1932) هو أصغر الأبناء لـ يوسف حبش: ولد القس جبرائيل عام 1854 ميلادية وتلقى علومه الدينية على يد الشمامسة والكهنة. تزوج من مريم بهنام ياكو وفي عام 1888 تمت رسامته كاهنا بوضع يد المطران (قورلس بهنام بني) أيضا البطريرك فيما بعد

وبما أن رئاسة الكهنة والشعب كانت كلها تابعة للسلطة الدينية لذلك إستلم الرئاسة في عام 1906 وذلك بعد فترة من وفاة القس ميخائيل القس موسى. (في فترة رئاسته تم إنشاء نظام الحراسات في البلدة) وبذلك احتفظ القس جبرائيل برئاسة الكهنة والشعب وأصبح يدير شؤون البلدة بالتعاون مع المختار ووجهاء البلدة من الشخصيات التي كانت معروفة آنذاك حتى وفاته في الرابع من آب 1932هو ابن يوسف حبش وأخو القس يعقوب. ولد في قره قوش عام 1854. سيم كاهنا في كانون الأول عام 1888. وخدم الرعية في قره قوش مدة اثنتين وخمسين سنة، قضى 35 سنة منها في رئاسة الكهنة والشعب. وقد امتاز بدماثة الأخلاق وطول البال والعدالة في قضائه. توفاه الله في 4 آب 1930 في شيخوخة موقرة. أنظر، كتاب (تاريخ وسير) للمطران ميخائيل الجميل.

[3] القس اسحق موشي هو ابن شمعون موشي (وهو جد راعي الأبرشية سيادة المطران مار يوحنا بطرس موشي والقس إسطيفان بن حنا زكريا) ولد في قره قوش عام 1879 وتعلم في مدرستها وتربى في العلم على يد عمه القس توما بن متي بن بولس بن القس متي موشي جد السيدة أمينة والدة المطران ميخائيل الجميل. إستعد للكهنوت في القصادة الرسولية بالموصل مدة عدة أشهر وسيم كاهنا في 15 أيار 1915 بوضع يد المطران بطرس هبرا.. أبدى نشاطا أجتماعيا وفكريا ملحوظا، وكان في الحرب العالمية الأولى مستشارا في الهيئة الاختيارية فأنقذ قره قوش بذكائه من الدمار المحتوم حين أحاطت بها مدافع القوات العثمانية عام 1918. كما أبدى همة منقطعة النظير في دعوى الأراضي بين الجليليين وأهالي قرقوش

في سنة 1950 انكسرت احدى ساقيه بالموصل وهو يتعقب قضية الأراضي المذكورة لدى المحاكم، فلازم داره حتى توفاه الله في 14 كانون الثاني 1968. موقع بغديدا هذا اليوم، الرابط:

https://www.facebook.com/Baghdida.Life/

[4] رُسِم كاهنا في دير الشرفة عام 1910. أنظر، إحصاء الكهنة المتخرجين من إكليريكية الشرفة في جبل لبنان. مجلة رابطة الشرفة، الرابط:

http://alshurfeh-mag.com/احصاء-الكهنة-المتخرجين-من-اكليريكية-ا/ وتُعد إكليريكية دير الشرفة أم جميع الإكليريكيات وأقدمها في جبل لبنان. وقد أسسها البطريرك مار أغناطيوس ميخائيل الثالث سنة 1786 وافتتحها لقبول التلامذة في 14 أيلول 1787. تخرج منها حتى الآن 267 كاهناً.

[5] هو القس بهنام خزيمة من الموصل، رُسِم كاهنا بتاريخ 22 تموز 1906 في دير الشرفة – لبنان.

[6] مشكلة الموصل، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.
.










6
تفسير الكتلة الأكبر.. بدعة قانونية

د. رياض السندي

تنص المادة (76) أولا من دستور العراق لعام 2005 على أن: "يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية".
وهذا النص مبهم في تعبيره وإصطلاحه لمفهوم الكتلة الأكبر، حيث يقصر تعريفها على أنها (الأكثر عدداً) ولم يكمل الدستور عبارته لتوضيح هذا المفهوم. فهل يقصد الأكثر عدداً في الأصوات الانتخابية، أم الأكثر عدداً في المقاعد البرلمانية.
وإزاء هذا الغموض، فقد كانت مشكلة تحديد مفهوم الكتلة الأكبر تثار دائماً بعد كل انتخابات برلمانية. وقد أثيرت للمرة الأولى بعد انتخابات عام 2010، وتم اللجوء إلى المحكمة الإتحادية العليا لتفسير هذا المفهوم. فذهبتالمحكمة إلى إن تعبير "الكتلة الأكبر" يعني: إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، دخلت الانتخابات باسم ورقم معينين وحازت على العدد الأكبر من المقاعد، أو الكتلة التي تجمعت من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية التي دخلت الانتخابات بأسماء وأرقام مختلفة ثم تكتلت في كتلة واحدة ذات كيان واحد في مجاس النواب، أيهما أكثر عدداً، فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشح الكتلة النيابية التي أصبحت مقاعدها النيابية في الجلسة الأولى لمجلس النواب أكثر عدداً من الكتلة أو الكتل الأخرى بتشكيل مجلس الوزراء استناداً إلى أحكام المادة (76) من الدستور". (25/اتحادية/2010).
والملاحظ إن قرار المحكمة لم يكن قطعياً كما يفترض بالأحكام القانونية، فقد إستخدم عبارة (إما أو إما)، وهذا ما ترك الباب مفتوحاً لإجتهادات سياسية أكبر. والحقيقة، إن قرار المحكمة المذكور قد جاء تلبية للأحزاب الموالية لإيران وإنتزاعاً لحق الفائز بأكبر عدد من المقاعد آنذاك أياد علاوي، ومنحها لنوري المالكي. وفي انتخابات 2014 أثير مفهوم الكتلة الأكبر مجدداً، وآنذاك كررت المحكمة تفسيرها المبهم لهذا المفهوم في قرارها 45/ ت. ق/ 2014 فأنتزعت هذا الحق من الفائز رسمياً آنذاك وهو نوري المالكي وأعطي إلى حيدر العبادي.
وتكررت المسألة مرة أخرى في انتخابات عام 2018 والتي قاطعها 82% من الناخبين العراقيين، لتنتزع من كتلة سائرون الفائزة وتعطى إلى عادل عبد المهدي الذي لم يكن مرشحاً لأي كتلة، وقد تكرر الفشل مرة أخرى، فأضطر إلى تقديم إستقالة حكومته في 1/12/2019 إثر إندلاع الإحتجاجات في العراق وضغط الشارع. وبدا إن تفسير المحكمة لمفهوم الكتلة الأكبر كان بدعة قانونية تذكرنا بالحديث النبوي القائل: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
ثم جاء بيان المحكمة الأخير في 22/12/2019 مكرراً لما جاء في قراريها السابقين. ولذا فقد كان بيان المحكمة مبهماً مما زاد المشكلة تعقيداً بدلاً من أن يحلها. وذهب البعض إلى إن بيان المحكمة الاتحادية سياسي بامتياز، ولا يمت إلى القانون أو القضاء بصلة، لأن القضاء لابد أن يصدر قرار واضح وقطعي، وترشيح أسماء معروف عنها الولاء للخارج بكل تأكيد سيفجر الأوضاع بين الكتل البرلمانية، لأنه تحدي لاسيما أن مرشح البناء قصي السهيل تابع للصدر وتم إبعاده واستطاع المالكي إعادته للحياة السياسية نكاية بالصدر، والصدر وسائرون رفضوا ترشيحه لذلك سيكون زلزال سياسي بين أطراف العملية السياسية. وأخيراً فان تفسير المحكمة لم ينه الصراع القانوني، وعلى رئاسة المجلس أن تبت في شأن الكتلة الأكبر. في الوقت الذي يرمى الرئيس صالح مسؤولية تحديد الكتلة الأكبر في ملعب البرلمان في كل مرة. وتحت ضغط الكتل السياسية فقد هدد صالح بالإستقالة، أو أنه يلجأ أخيراً إلى خرق المادة 76 أولا من الدستور وتكليف مرشح مستقل أخر يرتضيه الشعب.
ومن الناحية الفعلية، فقد كلّف رئيس الجمهورية في ثلاث حالات سابقة مرشحين من خارج الكتلة الأكبر، كما أسلفنا، وبالتالي لا يوجد ما يمنع الكتل الفائزة من أن تقدم مرشحاً أو عدة مرحين لرئيس الجمهورية ليختار أحدهم وفقاً لمتطلبات المتظاهرين وشروطهم في أن يكون عراقياً وطنياً مستقلاً من خارج الأحزاب السياسية، وأن لا يحمل أي جنسية أخرى غير العراقية، وأن يكون كفوءاً ومشهوداً له بالنزاهة والإستقامة، ويقدم برنامجاً لإنقاذ العراق وإنتشاله من حالة الفوضى والفساد والتبعية. ولا يشترط في ذلك أن يكوم من دين معين أو مذهب محدد، فالدستور لا يشترط أن يكون رئيس الجمهورية كردياً، وان يكون رئيس الوزراء شيعياً، وأن يكون رئيس البرلمان سنياً، فلا يمكن لأتباع أي دين أو طائفة أن يحكموا العراق لوحدهم ويقصوا غيرهم مثل الأقليات العراقية، كما لا يمكن ترشيح أي شخص إلا بحكم المواطنة فقط.

د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
23/12/2019


7
بداية المؤامرة على العراق
د. رياض السندي
- تمهيد
قامت دولة العراق بعد إنفصالها عن الدولة العثمانية عام 1921، وبعد سنة من أول معارضة شعبية عارمة عُرفت بثورة العشرين. وكانت قد تزامنت معها حركة الشيخ محمود الحفيد، كأول معارضة كردية عام 1919-1931، ثم تلتها حركة التمرد الأشوري، أو ما عُرف حينها بثورة التياريين عام 1930-1933.
وقد فُسِّرت كل حركات المعارضة هذه بأنها ضد سياسة الاحتلال البريطاني في العراق. بينما لم يشهد التاريخ معارضة أو ثورة عراقية ضد الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة طيلة 400 سنة بأسم الإسلام إمتداداً لسلسلة خلفاء للرسول العربي، وطاعة لأولي الأمر.
وبعد قيام الحكم الوطني في العراق، ونتيجة لإستقرار الأوضاع بصورة عامة، ولقمع السلطات لأي معارضة بصورة خاصة، فَلَم تقم معارضة حقيقية للحكم في العراق، بإستثناء بعض الحركات الإنقلابية التي قام بها عدد من ضباط الجيش العراقي، ولكن حركة التمرد الكردي عادت ثانية بعد عودة مصطفي البارزاني من منفاه في الإتحاد السوفييتي عام 1958. وظلت المعارضة الوحيدة التي شغلت الحكومات المتعاقبة منذ عام 1961 وحتى عام 1970.

-   لماذا لم تقم المعارضة في العهد العثماني؟
والسؤال الذي يثار بهذا الصدد، وهو لماذا لم يثُر العراقيون على الحكم العثماني رغم أوضاعهم المزرية وضعف الخدمات وتخلفها طيلة أربعة قرون؟
يمكن إرجاع ذلك إلى عدّة عوامل، أهمها: -
(1)   العامل الديني: فقد كان يُنظر إلى السلطان العثماني على إنه خليفة المسلمين وولي أمرهم، ويجب طاعته وعدم الخروج عليه.
(2)   قساوة العثمانيين وقمعهم لكل من يعارضهم، وقد بدا ذلك واضحاً من قمع الأكراد والأرمن.
(3)   إعتماد العثمانيين أسلوب "الحكم السائب" -على حد تعبير الدكتور علي الوردي- الذي يرى إن إلعراقيين -وخاصة الشيعة- لم يثوروا على العثمانيين، بحسب تفسيره، بسبب " أن الشيعة لا يميلون الخضوع للقانون، ويحبذون أن يعيشوا حياتهم الخاصة التي إعتادوا عليها، حتى لو كانت في نظر الأخرين فوضى ... وكل ما يطمحون إليه هو نظام حكم يجارهم في عاداتهم هذه، وهم لا يبالون إذ ذاك أن يكون الحاكم مسلماً أو كافراً، نجفياً، أو غير نجفي، سُنياً كان، أو شيعياً. ولهذا كانوا راضين عن الحكم التركي قبل الحرب، فلَم يثوروا عليه؛ وقد إتّبَع الأتراك نظام "الحكم السائب"، إذ هي إعتادت أن تترك الناس يفعلون ما يشاؤون ولا تتدخل في شؤونهم إلاّ فيما يخص جباية الضرائب ... وقد أعتاد العراقيون على هذه الحياة وألفوها حتى أصبحت في نظرهم كإنما هي الحياة الطبيعية التي لا يمكن أن يكون هناك شيء أخر غيرها.   ويقول الكابتن البريطاني لايل: " إن الطبيعة الفوضوية المشاغبة التي إتصف بها أهل العراق معروفة تماما لدى المطّلعين على شؤون الشرق الأوسط من الساسة الأوربيين وإن عدم رغبة العراقيين فينا ليس بالأمر الجديد فهُم لا يحبون أي شكل من أشكال الحكومة يمنعهم من مواصلة غرائزهم الموروثة في التمرد على القانون وإقتراف الجرائم العنيفة". 
(4)   ضعف الوعي الشعبي بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

-   معارضة أعداء صدام
بدأت المعارضة تظهر للوجود بعد بروز صدام حسين كمتنفذ رئيسي في السلطة منذ عام 1970، فقد حاول القضاء على المعارضة بوسائل ومعالجات غير محسوبة، فقرّب الأكراد وأغراهم بالحكم الذاتي 1970، ثم ضربهم عام 1975 بالإتفاق مع شاه إيران على إتفاقية الجزائر. ثم تودّد للشيوعيين وضمهم في الجبهة الوطنية والقومية القدمية عام 1972، ثم ضربهم عام 1975، وإنفك عقد الجبهة عام 1979. ثم ضرب المؤسسة العسكرية العراقية الرصينة، عندما منح نفسه رتبة (مهيب) وهي أعلى رتبة عسكرية حتى الوقت الحاضر، ولم يحصل عليها أي شخص أخر من الذين جاءوا بعده، وهذا ما أدى إلى تذمر العديد من الضباط السابقين، وإلتجأ الكثير منهم إلى سوريا، وبدأوا معاضته من هناك. كما حاول صدام كسب المسيحيين، فأصدر قانون منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية عام 1972  ، وجرى التضييق عليهم أيضاً في عام 1979. ثم كسب صدام أعداء جدد عند وصول الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979، فقرر ترحيل قرابة 60 ألف عراقي من أصول إيرانية إلى إيران مع بدء الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.
هذه كانت المجموعات المعارضة لصدام حسين والتي لم تكن تفرق بين الدولة والحكومة، كما إن صدام ربط الدولة بشخصه، مما قاد إلى سقوطها بسقوطه.

-   معارضة مشتتة ... وتجنيد أجنبي
ظلّ المعارضون العراقيون تائهون في بلدان العداوات للعراق، وهي سوريا البعثية، وإيران الفارسية، وليبيا التوتاليتارية، ليستقر الكثير منهم لاحقاً في بريطانيا، حاضنة التطرف في العالم، يتنقلون فيما بينها، ولا أحد يصغي لهم، ويعاملوهم مضيفيهم بإحتقار واضح، وقد عانوا الخوف من خشية تسليمهم إلى السلطات العراقية، أو أن تلاحقهم المخابرات العراقية فتغتالهم هناك، كما عانوا الحرمان من التعليم والحياة الحرة الكريمة، وبقوا على تحصيلهم الدراسي الذي إكتسبوه في العراق. لذا عاشوا حياة التقشف والبؤس، وكانوا لا يعلمون ما سيؤول إليه مصيرهم المظلم دون أن يبدو أي ضوء في نهاية نفق اللجوء.
وجاء تغيير النظام في إيران من النظام الملكي الشاهنشاهي إلى النظام الإسلامي الشيعي في 11 شباط/فبراير عام 1979 بمثابة طوق نجاة يرمى لهم في بحر اللجوء المتلاطم.
بقي اللاجئون العراقيون هناك ليشهدوا أكبر تحول سياسي جذري هزّ منطقة الشرق الأوسط، وسيبقى عامل عدم إستقرارها لأكثر من 40 سنة قادمة، دون أن يتوقع أي أحد منهم ذلك، ألا وهو سيطرة الخميني وتياره الديني المتشدد على إيران. وعلى غرار حزب البعث في إنتشاره القومي (العروبي) للأقطار العربية، فإن هذا النظام الإسلامي بشَّر بإنتشاره المذهبي (الشيعي) حصراً وفقاً لمفهوم تصدير الثورة الإسلامية الذي تبنَّاه الخميني.
هذا الشعور بالإنفراج المشوب بالحذر ساد جميع الفصائل العراقية المعارضة لحكم صدام حسين، وأحيا الأمل فيهم، ولاح نور في نفق معاناتهم الطويل. وفي مقدمة هؤلاء -بالطبع- المجموعات الإسلامية الشيعية الصغيرة الملتفة حول مراجع دينية شيعية هربت من العراق، أبرزها عائلة الحكيم  ، وعلى رأسهم محمد باقر الحكيم  ، وإخوانه مهدي الحكيم  ، وعبد العزيز الحكيم. وكذلك عائلة الصدر، ولكن بدرجة أقل، نظراً لأصولهم العراقية، بعكس عائلة الحكيم وأصولها من أصفهان بإيران، ولإكتواءهم بنار التطرف الخميني منذ البداية.   فقد أعدم محمد باقر الصدر عام 1980، وقتل محمد محمد صادق الصدر عام 1999  ، وكلاهما أيدا ثورة الخميني. كما إن أصابع الإتهام في إختفاء الإمام موسى الصدر   مؤسس حركة أمل في لبنان، تشير إلى الدور الإيراني في الطلب من معمر القذافي بقتله، لعدم تناغمه مع التوجهات الشيعية الفارسية المتنامية.

-   حزب الدعوة الإسلامية
اجتمع الأعضاء المؤسسون للحزب في سنة 1957، وتأسست النواة الأولى لحزب الدعوة الإسلامية على صيغة هيئة مؤلفة من 8 أعضاء، وكان لـمحمد باقر الصدر دور رئيسي في لجنة قيادة الحزب الذي تشكل لخلق حالة توازن فكري مع الشيوعية والعلمانية والقومية العربية وغيرها من الأفكار المادية، كما كان لمحمد حسين فضل الله تأثرًا كبيرًا بفكره وعقلانيته وتدينه.
في عام 1975 قامت الحكومة العراقية بحظر أحد الطقوس الدينية الشيعية وهو المسيرة من النجف إلى كربلاء والذي كان يطلق عليه اسم "مراد الراس". وفي عام 1977 قام حزب الدعوة وكتحد منه للحكومة العراقية بتنظيم هذا الطقس الديني الشيعي فحصلت في ذلك العام أي 1977 ما يطلق عليه حزب الدعوة "انتفاضة صفر الجريئة" حيث قتل في هذه الانتفاضة عناصر قيادية من حزب البعث.
أما حزب الدعوة فأن الكثير من قيادته إيرانية الجنسية والهوى مثل مرتضى العسكري (زعيم الحزب في مرحلته الثالثة.. في تاريخ حزب الدعوة) ومحمد مهدى الآصفي (حاليا يمثل ولى الفقيه في العراق بعد أن كان الأمين العام لحزب الدعوة قبل تسليمها لإبراهيم الجعفري وعلى زندي (الأديب) وغيرهم كثير)، فقد تهيأت للدعاة معسكر الأهواز وانطلاق العمليات العسكرية التي قتلت الآلاف من الأبرياء من الحدود الإيرانية العراقية فقد اشتركت في عمليات الداخل وكذلك الكثير من عمليات الحرب بين العراق وإيران فضلا عن مكاتب سورية ومسؤولها نوري كامل المالكي، فضلا عن مكاتب وبيوت وجوازات تهيؤها أجهزة المخابرات الإيرانية والسورية وغيرهما. لكن مشكلتين أساسيتين أضعفت الدعاة أولاهما أن المسؤولين على معسكر الأهواز وغيره كحسين بركة الشامي وتورطهم في تسليم ما يسمى بالمجاهدين بصفقات مشبوهة وقصة أبى حوراء واتضاح عمالة قيادات الدعوة لأجهزة المخابرات العالمية من خلال وثائق خصوصا السفارة الأمريكية في طهران وأجهزة السافاك مما أدى على التحجير على مرتضى العسكري (الذي كان يقود الحملة السيئة ضد المفكر الاجتماعي على شريعتي) ولجوء حسين الشامي وإبراهيم الجعفري وغيرهم إلى لندن وغير ذلك من قضايا يخاف الدعاة كشفها ويهددون ناشرها.
بعد انطلاق الثورة الإسلامية في إيران أعلن حزب الدعوة الوقوف إلى جانبها فقامت الحكومة العراقية في 31 مارس 1980 بإصدار قرار نص على إعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية، وكان في طليعة من أعدم بهذا القرار محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى في 8 أبريل 1980.
بعد ذلك قام الحزب في عام 1981م بإنشاء معسكر الصدر في الأهواز بإيران وهو نواة لعمل عسكري بهدف إسقاط صدام حسين.   وهي البداية الفعلية لحزب الدعوة بنسخته الفارسية الصرفة حتى يومنا هذا.

-   المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق
أنشأ هذا المجلس عام 1982، أي بعد سنتين من قيام الحرب العراقية - الإيرانية، بإدارة إيرانية ليتولاها لاحقاً محمد باقر الحكيم، حتى إغتياله بعبوة ناسفة زرعت في سيارته عام 2003، الذي لعباً دوراً قذراً في تعذيب الأسرى العراقيين في إيران، وما زالت عائلته تكمل هذا الدور التخريبي لهذه العائلة الأصفهانية (عائلة الحكيم) حتى يومنا هذا، وقد تولى رئاسة الحزب من بعده أخوه عبد العزيز الحكيم الذي إغتصب دار طارق عزيز منذ عام 2003، كما فعل أخوه عندما إغتصب دار تاجر إيراني معارض طيلة 21 سنة، والذي توفي عام 2009 إثر مرض عضال، وتولاها بعده أبن أخيه عمار الحكيم، وما زال حتى الآن. 
ولدينا شهادتين موثوقتين عن خفايا أسرار وتفاصيل وتوجهات هذا الحزب.

-   شهادة شاهد شيعي

يعد الباحث نبيل الحيدري   المختص في الشأن الشيعي، من أبرز من إنتقد ممارسات الأحزاب الشيعية التي نشأت في إيران، وقد كتب يقول: -
" بعد مجيء الثورة الإيرانية كانت القضية العراقية من اهتمام المسؤولين الإيرانيين على أعلى المستويات من قيادتها التي لجأت إلى العراق في 14 عاما وحتى مراجعها الذين درسوا في حوزات العراق من الكاظمية وكربلاء وسامراء والنجف وغيرها حتى تزوج البعض من العوائل العراقية المعروفة بطيبتها فضلا عن تأثير وأهمية العراق وعمقه العربي... كان مكتب حركات التحرر التابع للشيخ المنتظري فيه فرع (مكتب العراق) الذي سيطر عليه وعلى الإذاعة آنذاك الخط الشيرازي ومنظمة العمل الإسلامي للمدرسي.
محمد باقر الحكيم كان مترددا في المجيء لإيران باعتبار العلاقة التاريخية بين الشاه وآل الحكيم خصوصا المرجع محسن الحكيم. لقد دخلت على إحدى قياداتهم الخلفية فرأيت صورة الشاه كبيرة خلفه في مكتبه. قلت له: (لقد سقط الشاه) أجابني (سيعود قريبا الوفي الكريم). عرف آل الحكيم بالعلاقة التاريخية والإستراتيجية بالحكام كالشاه وهاهي الرسائل المتبادلة والمبالغ الضخمة واضحة، كما اشتهرت علاقتهم بالتجار الفجار والمترفين والبرجوازيين وبعدهم عن الفقراء والمحرومين وزواجاتهم وبيوتهم وترفهم كالطواغيت.
بعد تردد طويل خوفا من الإنتقام والقتل فكر باقر الحكيم في لبنان أو غيره لكن الإشارات والرسائل من طهران كانت هي الأقوى لدرجة (القرار الصعب دون بديل مناسب) كما قال لي. علما أن الحكيم هو الرجل الثاني في المرحلة الأولى من الدعوة وقد خرج عام 1960 بعد طلب أستاذه الصدر كما شرحت سابقا. حزب الدعوة الذي كشفت بعض أسراره وفساده أراد رمزا لمشكلة القيادة والزعامة المزمنة للدعاة فاستقبل الحكيم كزعيم وتهيأت الجماهير العراقية وغيرها في وقت مشحون عاطفيا زمن اشتعال الحرب بين العراق وإيران وتهجير صدام للآلاف إلى إيران، كان الدعاة وغيرهم من العراقيين والإيرانيين إستقبلوا باقر الحكيم كزعيم وقائد ورمز وهم يرددون بالآلاف (يا حكيم سير سير كلنا جنودك للتحرير). 
حتى توهم البعض في مرحلات معينة أن محمد باقر الحكيم هو زعيم حزب الدعوة خطأً في فترة كانت الصراعات على أشدها بين الحكيم والدعوة وأخذ الإيرانيين معسكر الأهواز من حزب الدعوة إلى الحكيم وكذلك دعم مؤسساته مثل (مؤسسة الشهيد الصدر) ومجلسه الأعلى فضلا عن تسليمه الأسرى العراقيين بيد صدر الدين القبانجي مسؤول حزب الله الإيراني فرع العراق.   
كانت الحكومة الإيرانية قد أعطت باقر الحكيم بيتا عظيما في طهران. الظاهر كان بيتا لتاجر لم يؤيد الحكومة الإيرانية مما جعلها تصادره كما صادرت آلاف البيوت والممتلكات لمن يعارضها بحجة محاربة الله ورسوله. هكذا يستخف ما يسمى بالحكم الإلهي بمصادرة حقوق الناس وأموالهم لكن الله تعالى برئ ممن يتحرك ظلما بنفسه. دعاني باقر الحكيم إلى بيته مرة فتفاجأت بكونه بيتاً جباراً طاغوتياً فسألته عن ذلك مستغربا (إن بيت على بن أبى طالب كان بسيطاً) وأجابني (إنه بيت لأحد معارضي الحكومة الإسلامية وقد لجأ إلى دول الكفر) فقلت له (وهل يجوز الصلاة في مكان مغصوب لا يرضى صاحبه) فنظر إليّ نظرة متعجب قائلا (لم يسألني أحد هذا السؤال من قبل) قلت له (لأن حاشيتك ممن لا يعترض عليك أبدا كما أنه لا يعرض الحقائق. أخرج بنفسك لترى الحقائق ومحنة العراقيين ومعاناتهم في إيران).

تأسس (مكتب العراق) ثم (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) في 17 تشرين الثاني عام 1982 برعاية مباشرة من أجهزة المخابرات الإيرانية حيث يشرف جهاز إيراني بحت يسمى(بشتبانى) فضلا عن ممثل الولي الفقيه الذي كان أحيانا على خامنئي نفسه (ولى الفقيه المعاصر) الذي قد يرفض حتى الورقة البسيطة لإذلال العراقيين وطريقة تعامل غير أخلاقية كان يشكو منها الحكيم نفسه مرارا، وهي طبيعة مزمنة للإيرانيين بسبب عقدة النقص عندهم من الشخصية العراقية. علما أنه ليس من حق العراقي في إيران أن يعمل أو يتزوج أو أي حق آخر.. كانت محنة كبيرة وعظيمة لآلاف العراقيين في دولة تدعى الإسلام بالاسم فقط وتطبق أعلى أنواع العنف والدكتاتورية والعنصرية والبعد عن حقوق الإنسان، فيكفي أن تهين المقابل بتسميته عراقي وتعنى وقتها في العرف الفارسي صدامي برؤيتهم. نعم حاول الإيرانيون إستغلال العراقيين كثيرا مثل محاولة تجنيدهم وتجنيد الأسرى العراقيين لما سموهم التائبين لمحاربة إخوتهم العراقيين في حرب أراد النظام الإيراني إطالتها خوفا من ثورة شعوبه المتعددة القوميات في الداخل لكنهم يمكن أن يتحدوا عند الأزمات الخارجية مما يسهل تصفية خصومهم الإيرانيين في الداخل واتهامهم بالعمالة للخارج كما فعل النظام الإيراني مع الشيوعيين ومجاهدي خلق وفدائيين إسلام وغيرهم في تصفيات وإعدامات واعتقالات رهيبة حتى أنها تنكرت للكثير من القوى والتيارات والشخصيات التي اشتركت معها في إسقاط الشاه لكنها استفردت في القرار وصفت خصومها بحجة أنهم أعداء لولاية الفقيه.

كان حزب الدعوة يمتلك معسكر الأهواز وقوات الشهيد الصدر وجريدة الجهاد، أما الحكيم فقد فتح مكتب الشهيد الصدر وجريدة لواء الصدر فضلا عن تأسيس لواء بدر واسمه الحقيقي (سباه نوه بدر) وإدخال الأسرى العراقيين فيه كمقاتلين للخروج من جحيم الأسر والتعذيب والإذلال وسوف أكتب عما جرى لهم من الويلات تحت رحمة الطغاة في الحلقات القادمة.

كانت قيادات (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) الأولى هي إيرانية صرفة كاملا أولا محمود الهاشمي الشاهرودي (رئيس القضاء الأعلى حاليا في إيران الذى يسرع في إمضاء الإعدامات الكثيرة لمن يعترض على الظلم والظالمين إرضاء لولي الفقيه وجبروتها) ثم على الحائري صهر على المشكيني (رئيس مجلس الخبراء الذى يختار ولى الفقيه) وكان الحكيم ناطقا رسميا في دوراته الأولى ولا يمتلك القرار الحاسم حيث كان المجلس يضم وقتها الحكيم والدعوة ومنظمة العمل الإسلامي وتيارات أخرى. أرادت بعض قيادات الدعوة استلام رئاسة المجلس لكنها متهمة في الكويت بتصريحها الإعلامي المعروف (الخميني حمار تمتطيه الشيوعية) فضلا عن اتهام القيادات العلمائية العليا بالماسونية من خلال الوثائق والمستندات مما حجبها عن القيادة رغم وجود شخصيات إيرانية الجنسية والهوى كفقيههم كاظم الحائري وقياداتهم من محمد مهدى الآصفي ومرتضى العسكري وكوادره كعلى زندي الأديب وموسى الخوئي وعماد الخوئي فضلا عن المرتبطين المعروفين بأجهزة المخابرات الإيرانية. كان الصراع بين باقر الحكيم ومحمود الهاشمي وكاظم الحائري على أشده للسيطرة على الزعامة في القضية العراقية.
شيئا فشيئا بدأ الحكيم يتولى رئاسة المجلس بعد عدة دورات ويجلب مؤيديه مثل أبى على المولى التركماني وصدر الدين القبانجي وعبد العزيز الحكيم وهمام حمودي وسامي البدري ومحمد الحيدري وأبو ميثم الخفاجي للإستحواذ على المجلس تماما مبعدا كل الخصوم مما أدى إلى خروج الكثير من التيارات الأخرى فضلا عما أشرنا إليه في الحلقة الأولى حول الشيرازيين وفضائح حزب الدعوة، وعندها بدأ المجلس يصير حكيمياً بامتياز مما يجعل القضية العراقية تدخل في مرحلة جديدة من الصراعات والأهواء.
وفي 17 تشرين الثاني 1982 أعلن عن تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (تغيّرت تسميته إلى المجلس الأعلى الإسلامي العراقي لاحقاً) برعاية النظام الديني الجديد في إيران، وبرئاسة محمود الهاشمي شاهرودي   (إيراني) لفترة قصيرة بحدود  سنة واحدة، وهو التشكيل الذي كان يضم تنظيمات وقوى سياسية شيعية معارضة عدة (فهو لم يكن حزبا بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما إطار عام ومجلس يضم مختلف الأحزاب العراقية التي لجأت إلى إيران، من أهمها: حزب الدعوة بانشقاقاته فصائله المتنوعة، ومنظمة العمل الإسلامي، وحركة الجماهير المسلمة، وجماعة العلماء المجاهدين، وحركة المثقفين الرساليين، وحركة المجاهدين، وغيرها من القوى والحركات المعارضة الشيعية)، وذلك بدعمٍ وإشرافٍ مباشرين من الحكومة الإيرانية، ثم سُلِّمت رئاسة المجلس إلى السيد محمد باقر الحكيم واشترك المجلس إلى جانب الجيش الإيراني في حربه ضد العراق من خلال جناحه العسكري المسمى بفيلق بدر.
لقد كان المجلس الأعلى تعبيراً عن التقاء الإرادة الإيرانية مع الإرادة العراقية المعارضة، وذلك تحت قيادة الحرس الثوري الإسلامي الإيراني (Pasdaran)، الذي كان مهتما بتقديم الدعم للحركات والأحزاب العراقية بهدف إسقاط نظام صدام حسين من الداخل. وقد تطور المجلس الأعلى من تنظيم مقاتل يجمع الفصائل السياسية المتنوعة على هدف إسقاط نظام البعث، إلى ما هو عليه الآن، بتشكيلاته الثلاث  ، التي تضم أكثر من خمسة عشر ألف منتسب، بحسب بعض التقديرات، وذلك برغم انسحاب الكثير من مكوناته (إذ انسحب حزب الدعوة ما عدا الدعوة تنظيم العراق، وحركة العمل الإسلامي وقوى أخرى)، وبرغم أن عملية تفكيك منتظرة بعد سقوط نظام صدام حسين كانت ستحدث. لكن شيئاً منها لم يتم، ربما لأن الإرادة الإيرانية التي أرادت تفكيك التنظيم بعيد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، قد أعادت حساباتها من جديد.

-   رواية شاهد مسيحي 
كتبَ أحد الشهود مستذكراً ذكرياته عن تلك الفترة، قائلا: في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنا نعمل مع المعارضة العراقية في سوريا ضد النظام الدكتاتوري في بغداد، وتحت قيادة اللواء الركن حسن مصطفي النقيب، وكنت آنذاك ممثل لحزب بيت نهرين الديمقراطي في دمشق، وفي سياق نشاطات حزبنا السياسية، قمت بزيارة الى ايران ولعدة مرات، وفي احدى هذه الزيارات كانت بتاريخ 1982، وبينما كنت في طهران ، ذهبت الى مؤسسة الصدر للاطلاع على لوائح  الأسرى العراقيين الذين كانت قوائم أسمائهم تعلق في  بناية مؤسسة الصدر التي كانت تضم مقر قيادة المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة المرحوم  آية الله محمد باقر الحكيم وفي تلك الأثناء التقيت مع بعض العناصر التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى، وطٌلب من عندي بصفتي ممثل للحزب تقديم الاعتراف، والتأييد للتشكيل السياسي الجديد الذي انبثق منه المجلس الإسلامي الأعلى باعتباره  الممثل الشرعي، والوحيد للمعارضة الشيعية العراقية ضد النظام الدكتاتوري في بغداد، ولكن قبل تلبية طلبهم طالبتهم بتأمين مقابلة لي مع قيادة المجلس ولا سيما السيد محمد باقر الحكيم، للاطلاع على السياسة الجديدة لهذه الجبهة السياسية الجديدة، وفعلاً تم استصحابي الى الطابق الثاني من البناية والتقيت مع السيد أبو حيدر لترتيب المقابلة وبعد نصف ساعة تقريباً، دخلت الى مكتب السيد محمد باقر الحكيم وإستقبلني بحفاوة، وكان عدد من أعضاء قيادة  المجلس الإسلامي الأعلى موجودين داخل المكتب، ومن ضمنهم السيد محمود الهاشمي الذي كان يرأس المجلس آنذاك، وهو رجل دين  إيراني ولكنه سياسي محنك، وكذلك أتذكر الشيخ أبو علي وهو من أهالي تلعفر، والسيد أبو حيدر وأخرين، ودار بيننا حديث طويل مع السيد الحكيم، وبعضه كان اجتماعياً حيث تحدث عن العلاقة الودية التي كانت تربط المرحوم والده السيد محسن الحكيم مع المرحوم البطريرك مار بولص شيخو الذي هو من أقربائي، وبعدها عرضت عليهم بعض الأسئلة التي تتعلق بمستقبل شعبنا الأشوري الكلداني، وفجأة رفض هذه التسميات وقال نحن نتعامل معكم كمسيحين ليس إلا، لأننا لا نؤمن بالقومية لأي كان، لأن في الإسلام لا توجد قومية ولا فرق بين فارسي وعربي وتركماني وأخرين طالما هم مسلمين،  والدليل على ذلك إن رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية حالياً هو السيد بني صدر وهو تركماني من تبريز وليس فارسي، ثم قلت له نحن في حزب بيت نهرين الديمقراطي نؤمن، ولنا أمل كبير بان النظام في بغداد سوف لن يدوم طويلاً وان البديل الوحيد لهذ النظام هو مجلسكم المؤقر بدعم ورعاية القيادة الإيرانية الحالية، فما هو موقفكم من شعبنا الأشوري الكلداني السرياني؟
 ومرة أخرى قاطعني وقال إننا لا نحبذ أن نسمع مثل هذه الألفاظ والأفضل لك أن تستخدم تسمية المسيحين، وأضاف قائلاً اسمع مني جيدا، إننا لسنا سياسيين، يجب أن تعرف ذلك، إننا رجال دين، لا نكذب عليكم، ولا نبالغ في كلامنا، وليس عندنا تكتيك، أو ديالكتيك كما لدى غيرنا من أحزاب المعارضة العراقية ومنهم البعثين، والشيوعين، و الأحزاب الكردية، وغيرها، انهم يكذبون ويخدعون الأخرين عندما يكونون خارج السلطة، ولكن متى ما يستلموا الحكم فيعملون عكس الوعود التي قطعوها مع الأخرين، وهذا ليس نهجنا، وليست قيمنا وأخلاقنا، وهذا ما لمسناه منهم في الماضي القريب وان تجاربنا معهم في العراق ماثلة أمامنا منذ تموز عام 1958والى يومنا هذا أما نحن فنعاملكم بصراحة واحترام كمسيحين من أهل الكتاب وكما جاء في القرآن الكريم، وحسب فهمنا وتفسيرنا للآيات القرآنية إننا سوف لن نعاملكم كاليهود وان الحكومة العراقية الملكية آنذاك قامت بطرد اليهود وحجزت أموالهم المنقولة وغير المنقولة وإستولت على ممتلكاتهم  وأصبحت ملك وقف للدولة العراقية، أما انتم سوف نطبق عليكم الشريعة الإسلامية ونضع أمامكم ثلاث خيارات، الخيار الأول وهو اعتناق الدين الإسلامي وحسب المذهب الشيعي الاثني عشري، والخيار الثاني وهو دفع الجزية، أما الخيار الثالث فهو مغادرة البلاد، ثم قاطعته وقلت له كيف يمكن أن تعاملوننا ذلك ونحن  أهل البلد الأصليين ولنا دور رئيسي في بناء تاريخ  وحضارة هذا البلد، وأثارنا في بابل ونينوى تشهد على ذلك، فرد عليَّ قائلاً: نعم انتم من أهل البلد الأصليين وشاركتم في بناء التاريخ وحضارة بلاد ما بين النهرين ولا احد ينكر عليكم ذلك ولكن، لكم عندنا خصوصية وليس كما فعلنا باليهود فإننا نسمح لكم في بيع ممتلكاتكم واستلام أثمانها لتساعدكم في مغادرة البلاد والسفر الى بقاع الدنيا الواسعة، وهذا هو موقفنا الإيجابي تجاهكم الآن ونحن خارج الحكم، وسوف يكون نفس الموقف في المستقبل القريب ونحن في دفة الحكم، وكل من يقول لكم غير ذلك فهوا يكذب عليكم أو يجاملكم، وعليكم أن تعرفوا جيداً أننا نقدم كل هذه التضحيات بأرواحنا وممتلكاتنا من اجل استلام الحكم في بغداد لتطبيق الشريعة الإسلامية في  العراق ومن ثم لتصديرها الى دول الجوار كما أوصى بها الأمام الخميني، وحسب المذهب الشيعي، وبموجب نظام ولاية الفقيه، وكما هو قائم الآن في جمهورية ايران الإسلامية، ولا يمكن أن نحيد عن ذلك قيد أنملة، هذا هو موقفنا الآن وسوف يكون نفس الموقف في المستقبل القريب عند استلامنا للسلطة ،وسيبقى هكذا والى الأبد، حتى نحقق كافة أهدافنا.
وبعدها غادرت مكتب السيد وإستصحبني معه الشيخ أبو علي مسؤول الإعلام في المجلس آنذاك الى الطابق الأرضي، ودخلنا في غرفة كانت تضم جهاز إرسال لإذاعة المجلس، وأجرى معي مقابلة إذاعية مباشرة على الهواء حول موقفنا من التشكيل الجديد للأحزاب والمنظمات الشيعية التي انبثق عنها المجلس الإسلامي الأعلى للثورة العراقية في إيران.

-   خاتمة
بعد هذا الإستعراض الموجز لنشوء المعارضة العراقية -إن جاز التعبير- وكيف نمت، وما هي الأحداث التي مرّت بها، فإن شهادتي من عاصرها، تلقي الضوء على خفايا تفكيرها وخططها، ودور الأيادي الأجنبية في تشكيلها وحمايتها وصولا إلى تسليم الولايات المتحدة السلطة لها عام 2004، بعد إسقاط نظام صدام حسين، ونتيجة لأيدلوجياتها المتطرفة فقد فشلت في أدائها السياسي وإدارة الحكم طيلة 17 عاماً، وما جلبته جراء ذلك من خراب ودمار وقتل وقمع وتبديد الثروات وسرقة الأثار وهدم مؤسسات الدولة وتحطيم المرافق الأساسية في التعليم والصحة والصناعة والزراعة وغيرها، تقطع أي شك في وجود وعِظَم حجم المؤامرة على العراق. مما قاد إلى ظهور وعي عراقي شعبي جديد بدأته جماعات النخبة بالتحشيد لمقاطعة الانتخابات عام 2018، ثم إندلاع حركة الإحتجاجات الشعبية في الأول من أكتوبر عام 2019 وخاصة في المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، ومع تزايد الضغط الشعبي إزاء قمع الحكومة أدى إلى إستقالة حكومة عادل عبد المهدي في الأول من ديسمبر من ذات العام، مما يجعل نهاية هذا النظام الذي أقيم برعاية وحماية أجنبية إلى أن يشارف على نهايته. وما زالت هذه الأحزاب التي أنشأها نظام الخميني في إيران بعيد الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 تمارس نفس الأساليب اللإجرامية في القتل والتفجير وتهديم الكنائس وإرغام السُنّة والأقليات من المسيحيين والأيزديين والصابئة على ترك مناطقهم والهجرة خارج العراق في كل مرافق الدولة (وبضمنهم كاتب هذا المقال) بدعم إيراني واضح بقيادة قاسم سليماني، وقد أدى هذا القمع إلى قتل 450 متظاهراً، وجرح نحو 20 ألف أخرين، وإعتقال الالآف من المحتجين، ولكن تبقى إرادة الشعوب هي الأقوى وهي مصدر كل السلطات. ولا بد أن تشرق شمس الحرية على أرض العراق قريباً.

د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
كاليفورنيا في 15 ديسمبر 2019


8
إستقالة أم سحب الثقة أم إقالة لحكومة عبد المهدي؟

د. رياض السندي
دكتوراه في القانون


-   مقدمة
كيف يمكن وصف طلب إستقالة عادل عبد المهدي من رئاسة الحكومة والموجّه إلى البرلمان، من الناحية الدستورية والقانونية؟
وقبل إعطاء الوصف القانوني لطلب عبد المهدي، فإن من الضروري تقديم تعريف لهذه المصطلحات أولا، بقصد إدراك المقصود بها وأثارها القانونية.
يقصد بالإستقالة: الاستقالة هو الفعل الرسمي الذي يقوم به الشخص بالتخلي عن وظيفته أو منصبه. تكون الاستقالة إن قام شخص ما بترك منصب له أو عمل حصل عليه بالانتخاب أو بالتوظيف، بينما لا يعتبر ترك المنصب أو الوظيفة مع انتهاء الفترة المحددة استقالة منه. في حال الوظيفة، فعندما يختار موظف ما ترك عمله بنفسه فهو يعتبر استقالة، وذلك على عكس الفصل أو إنهاء العمل الذي يكون إما بانتهاء مدة العقد المحدد أو بقرار من الشركة بفصل الموظف.
فالاستقالة هي عبارة عن طلب يقدمه الموظف يعلن فيه رغبته بترك وظيفته دون ضغط ولابد من وجود سبب لقبول الاستقالة.
وعلى العموم لا يلجأ أحد للاستقالة وهو يعتقد أن البدائل أقل جودة، سواء على مستوى الراحة النفسية أو المادية، وتبقى الحكمة مطلوبة في اختيار التوقيت المناسب للاستقالة وانتقاء الطريقة المناسبة في التعامل مع العمل الذي سيصبح من الماضي.
وجرياً على ذلك، يمكن إعتبار إستقالة وزير الصحة السابق الدكتور علاء الدين العلوان بتاريخ 15 أيلول 2019، إستقالة من هذا القبيل.
ويقصد بسحب الثقة: حجب الثقة في المقام الأول عبارة عن بيان أو تصويت ينص على أن شخصًا ما يشغل منصبًا رفيعًا، سواء كان المنصب حكوميًا أو إداريًا أو غير ذلك، لم يعد صالحًا للاستمرار في هذا المنصب. وقد يكون هذا بسبب تقصير الشخص المذكور في بعض الجوانب أو بسبب إخفاقه في القيام بالتزاماته أو بسبب قيامه باتخاذ بعض القرارات التي يرى بقية الأعضاء أنها تمثل ضررًا.
في القانون، يُعد اقتراح حجب الثقة (ويُطلق عليه أيضًا التصويت على حجب الثقة أو اقتراح توجيه اللوم أو اقتراح سحب الثقة أو (فشل) اقتراح منح الثقة) إجراءً برلمانيًا من شأنه أن يبرهن لرئيس الدولة أن البرلمان المنتخب لم يعد لديه ثقة في (واحد أو أكثر من أعضاء) الحكومة المعينة السلطة التنفيذية (الحكومة).
وسحب الثقة أشبه بالفصل من الخدمة أو إنهاء العمل وهو الحدث الذي يتم فيه فصل الموظف من وظيفته من قبل صاحب العمل، وذلك على عكس الاستقالة التي تتم بقرار إرادي من الموظف نفسه لإنهاء العمل. يكون الفصل من الخدمة عادة بسبب خطأ من قبل الموظف أدى إلى حدوث أضرار كبيرة في العمل، لذلك عادة ما يعتبر الفصل من الخدمة أمرا معيبا وعارا لصاحبه، كما أنه قد يؤدي في الكثير من الأحيان إلى مشاكل للشخص أثناء بحثه عن عمله التالي. كما لا يمكن إعادته لوظيفته السابقة.
ويختلف سحب الثقة في النظام البرلماني عنه في النظام الرئاسي، حيث إن مسؤولية الوزارة في النظام البرلماني جماعية وتضامنية وبمجرد سحب الثقة عن رئيس الحكومة، فأن الحكومة تسقط بكاملها لإنها طاقم أو فريق رئيس الحكومة وهو الذي إختارهم. أما في النظام الرئاسي فأن كل وزير هو مسؤول أمام رئيس الجمهورية نظراً لعدم وجود رئيس للوزراء في هذا النظام.
وهناك حالة قانونية أخرى، وهي حالة الإقالة. ويقصد بالإقالة: قرار إداري يمنع الموظف من استمراريته بالعمل، وبالأغلب يكون هناك تحذير قبلها بوقت. ولم يشر إليها دستور العراق الحالي فيما يخص رئيس الوزراء لأنه إستعاض عنها بسحب الثقة، ولكنها وردت الأشارة إليها فيما يخص الوزراء فقط، وحصر حق إقالة الوزير برئيس الوزراء، حيث نصّت المادة (78) بقولها: " رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، يقوم بإدارة مجلس الوزراء ويترأس اجتماعاته، وله الحق بإقالة الوزراء، بموافقة مجلس النواب". كما ورد ذكرها في النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم (2) لسنة 2019 والصادر في 18/3/2019، والمنشور في جريدة الوقائع العراقية بالعدد 3533 في التاريخ المذكور، حيث نصّت المادة 16 في الفقرة ثانياً منها على ما يلي: " للرئيس الطلب من مجلس النواب إقالة الوزير عملا بأحكام المادة (78) من الدستور".
وهكذا نجد، أن الفرق بين الإستقالة والإقالة هو، أن الاستقالة طوعية (تقدم من قبل الموظف). أما الإقالة فهي جبرية من قبل الإدارة (كالإستغناء عن خدمات الموظف لعدم رضاها عن أدائه) بما يقضي بعدم إمكانية إعادته أو تكليفه بأي عمل مماثل مجدداً، بعكس الإستقالة التي تجيز ذلك.

-   ملاحظات على طلب إستقالة عبد المهدي

إذا أمعنّا النظر بطلب الإستقالة المقدم من رئيس الوزراء، فإننا نرى أن شروط الإستقالة لا تتوفر في هذا الطلب. وكان من الممكن إعتبار طلب عادل عبد المهدي إستقالة إرادية لسبب وجيه لو قدّمها قبل إندلاع التظاهرات والإحتجاجات في العراق منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. كما إن السبب أو الأسباب التي أوردها في طلبه المقدم إلى رئيس مجلس النواب بتاريخ 29/11/2019 غير منطقي ومخالفة للدستور والقانون للأسباب التالية:
1.   ذكر رئيس الوزراء أنه يقدم إستقالته عن منصب رئيس الوزراء (إستجابة لنداء المرجعية ...) وهذا يعني إن إستقالته ليست بإرادته الحرة وإنما أرغمته المرجعية على ذلك. وهذا يطرح إشكالية قانونية وهي إن المرجعية هي التي منحته الثقة، وهي تنزعها منه اليوم، وليس البرلمان الذي صوَّت بأغلبية النواب الحاضرين وهم 220 من أصل 329 نائب، على منح الثقة به وبحكومته في (جلسة منح الثقة للحكومة) بتاريخ 25 تشرين الأول/أكتوبر 2018، وأدى اليمين الدستورية مع 14 وزيراً من أصل 21 وزيراً. كما إن هذا يوحي بأن المرجعية الدينية الشيعية هي أعلى من البرلمان العراقي، وهذا توجه خطير، ويثبت إن النظام الساسي السائد في العراق هو نظام ديني مذهبي قائم على حكم الطائفة الواحدة.
2.   جاء في طلب إستقالة عبد المهدي الخطية بخط يده، بأنه يستقيل (إستجابة ... لمطالب الشعب)، وهذا يرتب نتائج قانونية خطيرة، وهي: -
(1)   إن هذا الطلب ليس بإرادته الحرة المختارة وإنما إستجابة لطلب الشعب الذي وجده فاشلا هو ووزرائه وغير أهل للثقة، فطلب إقالتهم جميعاً. والواقع، إن تقديم الطلب جاء بعد إندلاع التظاهرات قبل شهرين، وبعد إجراءات الحكومة بقمعها بكل الوسائل من بينها إطلاق الرصاص الحي عليهم، مما أدى إلى مقتل أكثر من 400 متظاهر في أقل تقدير، وجرح أكثر من 20 ألف أخرين.
(2)   تأسيساً على النتيجة السابقة، فأن الوصف القانوني لهذا الطلب هو (الإقالة) وليس الإستقالة، مثل فصل الموظف من عمله من قبل صاحب العمل أو رئيسه، وليس بإرادته كما في الإستقالة.
(3)   وتاسيساً على النتيجة الثانية السابقة، فإن الإقالة لا تعفيه هو وحكومته من المسؤولية القانونية الجزائية عما إرتكبه هو وحكومته وإدارته من جرائم تجاه الشعب عموماً والمتظاهرين خصوصاً. ويؤكد ذلك، النداء الذي أطلقته العشائر العراقية في محافظة ذي قار بعد مجزرة دامية جرت هناك يوم الخميس الماضي 28 تشرين الثاني/ نوفمبر، بقولها: (موش تذبها وتخلص ... لازم تصعد بيها إعدام) أي (ليس فقط أن ترمي إستقالتك وتفلت من العقاب ... بل يجب معاقبتك على جرائمك بالإعدام).
3.   والسبب الأغرب والذي يثير الإستغراب حد الضحك، هو ما ورد في طلب الإستقالة الذي قدّمه عبد المهدي بأنه يعلن إستقالته لسبب أخر قائلا: (وعدم قدرتي من العمل مع مجموعة من اللصوص وسراق المال العام). والواقع إن عبد المهدي هو أحد أعضاء مجموعة (اللصوص) التي ذكرها، وأحد (سراق المال العام) وفضيحة سرقة أفراد حمايته لمصرف الرافدين - فرع الزوية في آب/أغسطس 2009، عندما كان عادل عبد المهدي يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، ولم يستطع تبرئة نفسه منها حتى الآن. وكذلك تكليف عدد من عناصره العاملين في ممثلية العراق في الأمم المتحدة في جنيف من بيع سكائر غير مرسّمة كمركياً من السوق الحرة للدبلوماسيين وبيعها بأسعار مضاعفة وبكميات كبيرة بلغت أقيامها مليون يورو، وقد ألقت الشرطة الفرنسية بالتعاون مع الشرطة السويسرية القبض على إثنين من العاملين في الممثلية، وإتضح أثناء التحقيق إنهم من أتباع عبد المهدي كما أفادوا هم بأنفسهم وإتصل أحدهم به في مكتبي عندما كنت نائباً للسفير هناك عام 2012، وقد نشرتُ عن ذلك في مقال مستقل، كما نشرت الصحف والمواقع السويسرية عن الحادث. وقد جرى غلق التحقيق من السفير محمد علي الحكيم (وزير الخارجية الحالي).   

-   في الدستور العراقي النافذ
الدستور العراقي النافذ حالياً هو دستور العراق لعام 2005، وتجدر الإشارة إبتداءاً بأن هذا الدستور لم يذكر حالة إستقالة رئيس مجلس الوزراء أو رئيس الحكومة، وإنما أورد حالة سحب الثقة من الحكومة في المادة
ونظراً لخلو دستور العراق من حالة الإستقالة، فهنا يجب الرجوع إلى القواعد العامة في هذا المجال. وتشترط القواعد العامة للإستقالة، الشروط التالية:
أ‌-   أن تكون الإستقالة إرادية.
ب‌-   أن تكون تحريرية ويفضل أن تكون خطية بخط يد المستقيل، لإثبات الشرط الأول السابق في أعلاه، وهو إن الأستقالة هي طوعية وبإرادته الحرة ودون تأثير أو ضغط.
ت‌-   يجب أن تكون الإستقالة مسبَّبة. أي أن يذكر سبب أو أسباب الإستقالة، لإنها إعتراض على حالة واقعية للوظيفة.
ث‌-   لا ترتب الإستقالة أية مسؤولية على المستقيل، لأنها رفض لواقع إداري خاطيء، أو تعبيراً عن الرغبة في واقع أفضل. مثل أجر أعلى أو درجة وظيفية أفضل.
ج‌-   يجب أن لا تكون الإستقالة عند إنتهاء مدة عقد العمل، أو عند الإستجواب، أو عند التحقيق في إنتهاك قانوني، لأن ذلك يعّد تهرباً من المسؤولية وتخلصاً من العقوبة
ولو دققنا في الوقائع التي أدت إلى تقديم عبد المهدي لإستقالته، لوجدنا إنه قدّمها مرغماً وليس بإرادته، بدليل أنه قال فيها إنها تأتي إستجابة لنداء المرجعية ومطالب الشعب. وقد سبق له رفض تقديمها لأكثر من مرة، وطيلة 60 يوماً من إندلاع حركة الإحتجاجات في العراق، وحتى تاريخ 26 من شهر نوفمبر الجاري بقوله: إنه مرشح المرجعية، ولم يصعد على أكتاف أحد، وهو لن يستقيل إلا إذا طلبت المرجعية منه ذلك.
كما إنها جاءت بعد أن شهدت محافظة ذي قار في جنوب العراق موجة إحتجاجات كبيرة، قامت السلطات بقمعها بالرصاص الحي بقسوة مما أدى إلى مقتل 47 شخصاً وجرح أكثر من 100 شخص في يوم واحد.
لذا، فإن إستقالته هي للتهرب من المسؤولية القانونية الجنائية، بقصد التخلص من المحاكمة والعقاب. وإن ذلك لا يعفيه منها بأي حال بالأحوال.
أما حالة سحب الثقة الواردة في دستور العراق الحالي، فقد أوردته المادة 61 من الدستور بقولها: يختص مجلس النواب بما يأتي: -
ثامناً:
أ ـ لمجلس النواب سحب الثقة من أحد الوزراء بالأغلبية المطلقة ويعد مستقيلاً   من تاريخ قرار سحب الثقة، ولا يجوز طرح موضوع الثقة بالوزير إلا بناءً على رغبته أو طلب موقع من خمسين عضواً، إثر مناقشة استجواب موجه إليه، ولا يصدر المجلس قراره في الطلب إلا بعد سبعة أيام في الأقل من تأريخ تقديمه.
ب ـ
1.   لرئيس الجمهورية تقديم طلب الى مجلس النواب بسحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء.
2.    لمجلس النواب بناء على طلب خمس "1/ 5" أعضائه سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، ولا يجوز أن يقدم هذا الطلب إلا بعد استجواب موجه إلى رئيس مجلس الوزراء وبعد سبعة أيام في الأقل من تقديم الطلب.
3.   يقرر مجلس النواب سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه.
ج ـ تعد الوزارة مستقيلة في حالة سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء.
د ـ في حالة التصويت بسحب الثقة من مجلس الوزراء بأكمله يستمر رئيس مجلس الوزراء والوزراء في مناصبهم لتصريف الأمور اليومية لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً، إلى حين تأليف مجلس الوزراء الجديد وفقاً لأحكام المادة "76" من هذا الدستور.
وقد كررت ذلك، المادة (64) من النظام الداخلي لمجلس النواب المرقم 50 والمنشور بجريدة الوقائع العراقية العدد 4032 بتاريخ 05/02/2007 بقولها:
أولاً: لمجلس الرئاسة، تقديم طلب الى مجلس النواب بسحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء
ثانياً: لمجلس النواب وبناءً على طلب خُمس أعضائه طرح سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء إثر استجواب موجه إليه، ولا يجوز أن يقدم هذا الطلب إلا بعد سبعة أيام في الأقل من تاريخ تقديم الطلب.
ثالثاً: يقرر مجلس النواب سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه.
كما تكرر ذات النص في قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم 13 لعام 2018، بالمادة 31 منه بقولها: "للنائب وبموافقة خمسة وعشرين عضوا توجيه استجواب الى رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء أو مسؤولي الهيئات المستقلة أو المحافظين لمحاسبتهم في الشؤون التي تدخل في اختصاصهم."

ويمكن أن نستخلص شروط سحب الثقة عن رئيس مجلس الوزراء، وهي:
(1)   أن مجلس النواب هو الجهة الوحيدة التي يحق لها سحب الثقة من رئيس الوزراء.
(2)   إن طلب سحب الثقة يقدم من رئيس الجمهورية أو بطلب خُمس 1/5 أعضاء مجلس النواب، أي من (66) نائباً. في حين نصت المادة 58 من النظام الداخلي لمجلس النواب النافذ على أن يقدّم طلب الإستجواب من نائب وبموافقة (25) نائباً فقط. 
(3)   إن طلب سحب الثقة يقدم إثر مناقشة إستجواب رئيس الوزراء.
(4)   يقدم طلب سحب الثقة بعد سبعة أيام في الأقل من إستجوابه.
(5)   أن يتم التصويت عليه بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه ال (329)، أي بتصويت (165) نائب على سحب الثقة.
(6)   تعد الوزارة مستقيلة في حالة سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء.
(7)   في حالة سحب الثقة، تستمر الحكومة بتصريف أعمالها لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً.

-   التكييف القانوني لطلب عبد المهدي
بعد هذا الشرح والتوضيح لحالات الإستقالة، والإقالة، وسحب الثقة، فماذا يمكن أن يكيّف طلب إستقالة رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي المشار إليه في أعلاه؟
من الناحية الدستورية، فإن الدستور العراقي لم يطرح سوى حالة قانونية واحدة تخص رئيس مجلس الوزراء، وهي حالة سحب الثقة. وهذه الحالة يجب أن يسبقها إستجواب لتقييم أداء رئيس الوزراء أو الوزراء في الشؤون التي تدخل في اختصاصهم. ومناقشته وإصدار قرار سحب الثقة بالتصويت عليه بالأغلبية المطلقة.
ولكن رئيس الجمهورية برهم صالح الموالي لإيران، لم يقدم إلى مجلس النواب طلب سحب الثقة عن رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي، إستناداً لصلاحياته المنصوص عليها بالمادة 61 ثامنا/ب. كما إن مجلس النواب وخاصة رئيسه محمد الحلبوسي المحسوب على إيران أيضاً، قد رفض إستجواب رئيس مجلس الوزراء، على الرغم من تقديم طلب إستجواب عادل عبد المهدي، موقّع من (119) عضو، قدّمه النائب عدنان الزرفي، بتاريخ 26 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري استناداً إلى أحكام المادة 61 سابعا/ج من دستور العراق، والمادة 58 من النظام الداخلي لمجلس النواب   رقم 50 لسنة 2007 (الملغي)  مستنداً للأسباب التالية: -
-   إخفاق السيد رئيس مجلس الوزراء في تنفيذ البرنامج الحكومي المصادق عليه من قبل مجلس النواب.
-   إستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين وسقوط عدد كبير من القتلى في صفوف المتظاهرين السلميين.
-   الإخفاق في تنفيذ قانون الموازنة العامة الإتحادية لعام 2019 وعدم تنفيذ بنوده وفقراته.
وإزاء عدم القيام مجلس النواب بإجراءات إستجواب رئيس مجلس الوزراء فلا يمكن القول إننا أمام حالة سحب الثقة عن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.
كما لا يمكن تكييف الحالة المذكورة بطلب عادل عبد المهدي المذكور بانه إستقالة، لعدم ورود حالة إستقالة رئيس مجلس الوزراء في نصوص دستور جمهورية العراق النافذ لعام 2005، وبالتالي فإن الدستور النافذ لم يجيز رئيس الوزراء.
فما الحكم القانوني لهذه الحالة إذاً؟
لم تبق سوى حالة إقالة رئيس الوزراء من قبل الشعب الذي هو مصدر السلطات وفقاً لنص المادة (5) من دستور جمهورية العراق النافذ بقولها: "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية".
وبهذا فإن الشعب قد أقال رئيس وزراء الكابينة الخامسة لحكومة عادل عبد المهدي، وعزلها بكامل وزرائها بإعتبارها مستقيلة وفقا للمادة الدستورية 61 من دستور العراق النافذ والنصوص القانونية ذات الصلة. وهي حالة نادرة تجرى لأول مرة في العراق. وهي حالة تدل على إستعادة الشعب العراقي لسلطاته المغيبة طيلة 17 سنة، بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وهيمنة إيران على الطبقة السياسية في العراق. وبالتأكيد ستسعى هذه الطبقة وبدعم من ربيبتها إيران على الإلتفاف على إرادة الشعب العراقي في ثورته المباركة للتخلص من الهيمنة الإيرانية وحكومات الفساد لإنقاذ العراق وشعبه.
د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
كاليفورنيا في 30 نوفمبر 2019

9
وثيقة أهالي قرقوش إلى لجنة الموصل 1925

د. رياض السندي

-   تمهيد
لا تسقط الدول إلا بالظلم. وواحدة من أدهى ممارسات سياسة الدول العظمى هي دفع الحكومات إلى قمع شعوبهم لقيام حالة الظلم التي تشكل دوماً مؤشراً على قرب سقوط الدولة أو الحكومة، في الأقل. وحوادث التاريخ كثيرة في هذا المجال، وأنظمة الحكم في دول الشرق الأوسط زاخرة بالعديد من تلك الحالات.
وهذا ما حدث مع الدولة العثمانية بداية الحرب العظمى عام 1914، فتعاملت مع تطلعات شعوبها بالقسوة والقمع، مما ولَّد الظلم الذي كان سبباً في سقوط الدولة وإنهيارها وتمزقها.
ويكشف لنا وثائق عصبة الأمم الملغاة والمحفوظة ضمن أرشيف الأمم المتحدة، عن خفايا تلك الحالات، وتفاصيلها الكثيرة والمثيرة.
وهذه هي الوثيقة الثالثة ضمن سلسلة وثائق عصبة الأمم التي دأبنا على نشرها مؤخراً. وهي عبارة عن رسالة وجهها أهالي مدينة قرقوش   في أطراف لواء الموصل إلى لجنة عصبة الأمم حول قضية الموصل وتحديد عائديتها، إما لتركيا أو لدولة العراق الحديث، بتاريخ 15 شباط 1925، موقعة من عدد من رجال الدين المسيحيين ووجهاء المدينة.

-   مضمون الوثيقة
" قد تشرفنا وكتبنا لكم قبلا وطلبنا مواجهتكم وتنازلكم لزيارة قريتنا. والآن نرانا مضطرين لأن ندنو منكم بأحترام وثقة ونعلمكم بأننا ولفيف الذين نتكلم بأسمهم إنما نحن سكان قرية قرقوش القريبة من الموصل وذات الشهرة التاريخية. وإننا من صنف الزراع وأصحاب المواشي. ومن طائفة السريان الكاثوليك ومن القومية العراقية. ونحن نعتقد فيكم حتماً العدل والرحمة لتمثيلكم جمعية عصبة الأمم المحترمة المعروفة كشريعة قويمة ودستور منظم لمهام العالم كله.
بمناسبة وجودكم بيننا مثل حكَم فاحص ومدقق قضية حدود الموصل وما يتعلق بها فمن شأننا أن نرفع إليكم أمرنا معربين عما حلّ بنا من الأضرار في زمن الأتراك وما إحتملناه من جورهم بتوالي الأعوام ولا سيما مدة الحرب 1914-1919 من التعديات التي لا يمكن السكوت عنها بتّةً.
فمع كل خضوعنا لأوامرهم وتحكماتهم الخارجة عن الوسع البشري قد إرتكبوا بحقنا جرائم شتى قد ذُكر بعضها في الجدول المقدم لكم من طيه البالغ 48290 ليرة ذهباً تقاضاها الأتراك بدون رحمة. وقتلوا وأبادوا منا ثلاثين شخصاً ومن جملتهم كاهنين جليلين مع تخريبات أخرى توجب الأسف، حتى أصبحت قريتنا الكبرى المضاهية لمدينة وحاوية من الكنائس فقط نحو السبعة في أشد حالات الاضطراب.
فإليكم يا فخامة الرئيس وإلى لجنتكم الموقرة نرفع شكوى بتألم من مظالم الأتراك ونطلب منكم أن تتنازلوا وتبلغوا رسماً عصبة الأمم المحترمة في جنيف صدى صوتنا الأسيف لتتأمل في مصيرنا وترثي لحالنا وتنصفونا جميعاً بإلزام الأتراك بالتعويض بدل الأموال التي سلبوها والأنفس التي قتلوها منا بسوء نية مجرداً لأننا مسيحيين وعراقيين.
ولا جناح إن قلنا إننا نتعجب كيف إن العالم المتمدن يسكت إلى الآن عن محاكمة الأتراك ومعاقبتهم وتضمينهم ما إقترفوه من الجرائم المدهشة مع الإنسان والكائنات. وعن لزوم أخذهم تحت المراقبة إصلاحاً لنفوسهم غير المنكفة عن السوء. 
لعمر الحق إنه لم يسمع قط إن حكومة ما، صنعت برعيتها وأبناءها ما صنعته تركيا مع الأبرياء من الإيقاع والشرور وهذا دليل كافي على إن حكومة الأتراك بعنصريتها التورانية هي غريبة عن هذه الديار ومعادية لعنصريتها العربية وتعمل على إستئصالها. ولا يهمها حياة أو ممات الشعب العراقي، بقاء أو دمار الموصل. ومع ذلك فتبلغ بهم الشجاعة وبالأحرى الجسارة بل ويفسح لهم مجالاً للتشبث بالرجوع ثانيةً إلى هذه البلاد العراقية التي لا حق لهم فيها ولا علاقة طبيعية كانت أو مكتسبة فضلاً عن الذكر الردي وآثار الخراب التي تركوها هنا وإنصرفوا غير مأسوف عليهم. فالتاريخ والعنعنات القومية، واللسان وأدبياته، والعنصرية العربية المنتهية إلينا من الأجداد العظام تردُ تطلباتهم وتُنكر عليهم قولهم. فهذه مقررات المؤتمرات الدولية في مدّة الحرب وبعده مع قواعد ويلسن المعلومة المؤيدة بتصديق وحكم جمعية الأمم نفسها تبطل مدعياتهم وتنبذها بعدما تقرر بالإجماع إن كل أمّة أو شعب ذات قومية عريقة وماضي دولي يحق له الإنسلاخ من حكومة شدّدت عليه الخناق وأعدمتْه التمتع بالحرية والإستفادة من بلاده. وله أن يحيي قوميته ويستعيد حكومته وليستقل في بلاده.
فَمن هو أحقُ منا بذلك نحن الشعب العراقي والتاريخ يشهد والآثار تؤيد بماضياتنا المجيدة. وسيادة دولتنا العربية الراقية المعظمة أجيالاً طوالاً في عهد الخلفاء العباسيين فاتحي الأقطار وممصِّري البلاد.
فماذا يقصد الأتراك من محاولة الرجوع ثانية إلى بلادنا ولا شيء يجمعنا معهم، أهَلْ لكي يكملوا سيئاتهم معنا أو ليواصلوا فينا ضغائنهم ووقائعهم الدموية الوسيفة التي أوقفتها يد الله العادلة وحطمتها بإخراجهم من هنا حاسرين. فنحن نرفض بتاتاً إحتمال ظهورهم بيننا ثانية وتدّخلهم في شؤون بلادنا التي أخذت تتنفس قليلاً بتواريهم عنّا.
ومن جهة أخرى فلا نرضى قَط ولا يجدر أبداً أن ينفصل شيئاً من الموصل ومحيط أقضيتها. لأنه كما إن العراق وضمنه بغداد لا يمكن أن يعيش بدون الموصل. فالموصل يمكنها بتّةً أن تعيش بدون أقضيتها وملحقاتها بما فيها. ولا مندوحة من إسترجاع حدودها القديمة الواسعة المعروفة عند كل جيوغرافي ومؤرخ ذي خبرة وإطلاع الكافلة بصيانة منافعها الطبيعية والإقتصادية والإدارية والسياسية والعسكرية إلخ. وغَني عن البيان إن سكان جبال الموصل هم قوم أكراد لا نسب ولا صلّة لهم مع الأتراك أو للأتراك معهم. ومن قديم الدهور آغاهم مشتركون وتابعون أهل الموصل بإتحاد تام في سائر شؤونهم الاقتصادية والإدارية والإجتماعية. وفوق ذلك فإن فيهم من هم من أصل عربي كالمضري وغيره مثل قبائل المزورية والبروارية فيشهد على نفسه أميرها مفتخراً بأنه من نسل العباسيين.
وبالإفتراض إذا وجد أحد يعود إلى الأتراك فينطبق عليه لا محالة أصول مبادلة السكان الجاري عندهم. فيذهب مِن هنا مَن يريد الإلتحاق بهم ويأتي إلينا من إخواننا الساقطين في بقعتهم وهم يأنون متنهدين من سيطرتهم وشدّة الجفاء وأنواع العذاب الذي يتجرعوه عندهم. فإنهم بلا ريب، إذا ما جرى هذا التبادل مع إخواننا المعتقلين هناك ويمّموا ديارنا فينظر إليهم بصفة من يقدم على حجّ وطني ويكونوا قد أتوا أهلاً ووطئوا سهلاً.
هذا وإن قريتنا قرقوش منذ عرفتْ بقدوم لجنتكم المحترمة يا فخامة الرئيس قد أخذ ينكشف عنها شيئاً من ستر المأتم الذي أنزله عليها الأتراك بتعدياتهم الفظيعة. لأننا كلنا نعتقد بسلامة نواياكم وحسن إستعدادكم بما فيه حفظ بلادنا وصيانة وطننا والرفق بالضعيف ومعاضدة الأقليات نظيرنا التي ما تناقصت ولا قلّت إلا بفتك تلك المظالم. وتأمين حياتنا بعدم السماح لظهور الأتراك مرة أخرى في هذه بلادنا العربية العراقية. وما نحن قاطنوها إلا ساميون عرباً وسرياناً، إسلاماً ومسيحيين يجلّون حكومتهم العراقية ومليكها المعظم ويحترمون الدين ويعبدون الله القادر على كل شيء.
ثم من واجبنا أيضاً أن نعلن بأننا نذكر بالمعروف حكومة بريطانيا العظمى لأنها حافظت على بقية حياتنا وموجوديتنا في تلك الأوقات العصيبة بظهورها بيننا كحليف منقذ ساعة خروج أنفاس الحرب ونجّتنا من القتل العام الذي كان قد هيأه الأتراك. ونشكر لها حسن تعاملها منذ نهاية الحرب إلى حين تشكيل دولتنا العراقية المعظمة. حتى وقد عقدنا معها معاهدة لمدة أربع سنين لفائدة البلاد وعند لزوم الحال فسوف نمدها بقدر الإحتياج. وبهذا كله يبدأ الدور الجديد لحياتنا الاجتماعية والسياسية بحرية الإدارة ورائد الإستقلال حيث نحن الآن مع حكومتنا العربية الجليلة بعناية جلالة مليكنا المعظم بإستراحة تامة وسعادة. ولا نريد تركها أو الإنفصال عنها بوجه من الوجوه لا سمح الله.
وعلى هذا الأمل نتشرف ونقدم لكم يا فخامة الرئيس وبكم إلى اللجنة الموقرة جزيل إحترامنا وعظيم إعتبارنا ونكون لفخامتكم مدى الحيوة.

قرقوش 15 شباط 1925                                                      الداعون الحقيرون
                                                            هيئة الرؤساء الروحانيين ومقدمهم في قرقوش
-   الموقعون على الوثيقة
وقّع على هذه الوثيقة مجموعة من رجال الدين المسيحيين يتقدمهم القس جبرائيل حبش، وخمسة كهنة أخرين يمثلون الرؤساء الروحانيين لأهالي القرية، إلى جانب مختارين لقرقوش هما: سمعان زكو، وعبد الله منصور، بالإضافة إلى (26) أخرين من وجهاء قرقوش وختياريتها، وبذلك يكون العدد الكلي للموقعين على هذا الطلب هو (34) شخصاً. وهم: -
أولا. الرؤساء الروحانيين
1.   القس جبرائيل حبش  – رئيس كهنة قرقوش
2.   القس يوسف دديزا
3.   القس إسحاق موشي
4.   القس منصور دديزا
5.   القس يوسف موساكي
6.   القس إسطيفان سكرية

ثانيا. هيئة الأختيارية، الشيوخ ووجهاء القرية
7.   سمعان زكو – مختار قرية قرقوش
8.   بطرس عبدال
9.   كرومي جبو سكرية
10.    جرجس يوسف قاشا
11.    نوح متي قاشا
12.    داود ددو
13.    حنا ياكو
14.    عبد الله منصور – مختار سريان قديم
15.    يوسف بهنان أوسو
16.    بهنان قس متي
17.    كرومي بهنان فرنسو
18.    باجي دديزا
19.    يعقوب توما
20.    ججو القس يوسف
21.    متي حنا حبش
22.    حنا موما
23.    منصور متي إيو
24.    أبراهيم عبا
25.    بطرس شيتو
26.    عبد المجيد بهنان هدايه
27.    يعقوب متي عولو
28.    جرجس بهنان أوسو
29.    موسى جبو
30.    يعقوب جبو
31.    يعقوب موسى حنونا
32.    كرومي هدايه
33.    سمعان فرنسيس
34.    متوكا سمعو

-   قائمة بأضرار القرية
ضمّت الوثيقة ملحقين لها، تضمن الأول بياناً بالخسائر البشرية التي ألحقها الأتراك بأهالي القرية أثناء الحرب (العظمى) العالمية الأولى 1914-1919، فيما تضمّن الملحق الثاني بياناً بالأضرار المادية وحيوانات النقل والأموال والأرزاق التي أجبرت القرية على دفعها للجيش التركي (الجندرمة) لإدامة الحرب، والتي بلغ إجماليها (48290 ليرة ذهب). وهذا ما سنبحثه بشيء من التفصيل.

الملحق الأول/الأضرار البشرية
جاء الملحق الأول متضمناً الخسائر البشرية بالإضافة إلى أضرار مادية توثيقاً لبعض لحالات محددة، ونصَّ على ما يلي:

بيان المظالم وقتل الأنفس التي أجراها الأتراك في قرقوش مدة الحرب
1.   قتل الأتراك رمياً بالرصاص كاهنين من قرقوش وسلبوا أموالهما بين الموصل والقرية وهما: القس يوسف جبو سكرية والقس بهنام خزيمة.
2.   أعدموا شنقاً شخصين بالقرية وهما: داود بن يعقوب عيسو وحودي بن فتوحي عيسى.
3.   أعدموا بالرصاص شخصاً من القرية أسمه: سمعان بن يوحنا مقدسي شمعون.
4.   فُقد من القرية خمسة عشر نفراً بحجة إنهم عسكر ولم يظهروا إلى الآن وقد أماتوهم.
5.   قتل الأتراك رمياً بالرصاص على عشرة أشخاص من قرقوش يوم هجومهم على القرية وحصارها بالمدافع.
6.   هجم الأتراك على قرقوش عند آخر الحرب وحاصروها بالمدافع وقيدوا بالسلاسل نحو خمسين من كهنتها وشيوخها بقصد الإعدام. ولشدَّة الهول فَرّ الناس إلى الخارج وتركوا منازلهم ومقتنياتهم ولبثوا تائهين نحو ثلاثة أيام في البراري وفُقد لهم وقتئذٍ كثيراً من المال والأثاث والمواشي وآخرون ماتوا من شدّة الضيق والمخاوف. وقد أعطي لقومندان تلك العساكر مبلغ 440 ليرة ذهباً لنجاة القرية وسكانها.
ونكتفي بذكر هذا المقدار من مظالم الأتراك. ونترك الباقي إلى يوم الله الأخير وحكمه العادل.



الملحق الثاني/الأضرار المادية
أما الملحق الثاني المرفق بالشكوى فقد تضمّن بياناً بالأضرار المادية التي ألحقها الأتراك بقرية قرقوس طيلة سنوات الحرب العامة (الكونية) 1914-1919، مع الطلب إلى عصبة الأمم بالسعي لتحصيل تلك الأموال وإلزام الأتراك بتقديم تعويضات مادية وأدبية (معنوية) عن تلك الجنايات والمظالم الفظيعة التي جرت بحقهم. وكما يلي:


-   تحليل الوثيقة
إن نظرة فاحصة على الوثيقة المذكورة تثير عدد من الملاحظات، وهي: -
1-   إن الوثيقة مكتوبة بلغة عربية فصيحة وبخط يد أنيق.
2-   إن رجال الدين هم في طليعة الموقعين على الطلب، ما لم يكونوا هم من دعا إليها ووجه بتقديمها. وهذا يعطي مؤشراً على مدى نفوذ رجال الدين -على مختلف الأديان- في المجتمع العراقي.
3-   إنها تعرب عن رغبة أهل قرقوش في ضَم الموصل إلى العراق، وبقائهم تحت سلطة المملكة العراقية.
4-   إنها تتضمن وصفاً شاملاً لإنتهاكات الأتراك ومظالمهم تجاه أهالي قرقوش، حيث بلغ مجمع القتلى (30) شخصاً من أهل القرية، بضمنهم إثنين من الكهنة هما: القس يوسف جبو سكرية والقس بهنام خزيمة  ، وثلاثة من المدنيين هما: داود بن يعقوب عيسو وحودي بن فتوحي عيسى، وسمعان بن يوحنا مقدسي شمعون، إلى جانب 25 شخصاً آخرين.
5-   إنها تتضمن جرداً لمعظم الخسائر والأضرار المادية والتي بلغت إجماليها (48,290 ليرة ذهبية)، طالبت الوثيقة عصبة الأمم الشكوى من الأتراك لتعويضهم. وتثير هذه الفقرة بحد ذاتها، جملة من الملاحظات، مثل: -
أ‌-   إن الإدارة الحكومية التركية كانت على قدر كبير من الفساد.
ب‌-   إن الجيش التركي كان يسلب الناس أموالهم وممتلكاتهم، ويفرض عليهم الأتاوات.
ت‌-   إن أفراد مخفر الشرطة التركية (الجندرمة) في قرقوش كانوا مرتشين وفاسدين ويقتلون الناس لأتفه الأسباب، لا بل يأخذون أهالي القرية كلهم بجريرة المذنب.
ث‌-   إن إدارة الجيش التركي كانت تعتمد في تجهيزاتها على أفراد الشعب، فتسلبهم ما يملكونه من حيوانات للتنقل، مثل البغال، وكذلك في توفير العلف لهذه الحيوانات. لذا فإن الخسارة كانت مضاعفة وثقيلة على كاهل الأفراد في ظِل الحكم العثماني.
ج‌-   من الضحك أن أهالي القرية في شكاواهم يطالبون عصبة الأمم بتعويضهم عن الكحول (العرق) الذي إستولى عليه الشرطة من أهالي القرية وشربوه. وهذا يلقي الضوء على واحدة من الممارسات المتناقضة لأنظمة الحكم الديني الإسلامي، والتي نراها واضحة في عراق اليوم في ظِل الحكم الإسلامي. 
6. إن طلب أهالي قرقوش، وهم في غالبيتهم من المسيحيين السريان، يفيض بممارسات القمع التي مارستها السلطات العثمانية. وإن ممارسات الدولة العثمانية المذكورة في أعلاه، قد ألحق بها سمعة سيئة، وصلت حد الكره والحقد عليها، وهذا ما أكسب رغبة البريطانيين والعراقيين بالوصاية، في إبقاء الموصل ضمن العراق قبولاً لدى عصبة الأمم والدول الأعضاء فيها، ساعد إلى حد كبير في إتخاذ قرار العصبة الشهير بإلحاق الموصل بدولة العراق الحديث. كما رغب الملك فيصل الأول في دمج ولاية الموصل بالعراق، نظراً لغالبية السكان السنية، وأعتقد أنه بحاجة لها لتحقيق التوازن مع السكان الشيعة.  ولولا ذلك، لكان العراق دولة شيعية منذ قيامها حتى يومنا هذا.
وختاماً، فإن إضطهاد المسيحيين ومعاناتهم زمن الدولة العثمانية، ومناشداتهم الكثيرة، كما تدّل عليها رسائلهم، كان لها الأثر الكبير في بقاء الموصل ضمن دولة العراق.
د. رياض السندي
كاليفورنيا 13 تشرين الأول 2019
riadhsindy@yahoo.com






10
وثيقة أثورية إلى لجنة الموصل 1925
د. رياض السندي
-   نبذة تاريخية
نزلت القوات البريطانية ميناء البصرة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1914، بداية الحرب العالمية الثانية التي أعلنت في 28 حزيران/يونيو 1914، وبعد أقل من شهر من إنضمام الدول العثمانية إلى جانب ألمانيا في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1914. ومذاك اليوم، أصبح وادي الرافدين ساحة حرب دولية لصراع الدول العظمى. وإستمرت القوات البريطانية بالتقدم نحو ولاية بغداد فإحتلتها في 11 آذار 1917 بعد عدة معارك مع القوات العثمانية ودخلت باب المعظم في الرابعة مساءً، وأصدر قائد القوات البريطانية الجنرال مود بيانه الشهير في إن قواته جاءت لتحريرهم لا لإحتلالهم. وتقدمت القوات البريطانية شمالا فإحتلت كفري ووصلت إلى مشارف كركوك في آب/أغسطس 1918، وتوقفت عند هذا الحد. وأعلنت الهدنة ونهاية الحرب الكونية كما سميت آنذاك مع قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث وقّعت الدولة العثمانية المهزومة مع البريطانيين معاهدة مودروس في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1918. هذه الهدنة دعت إلى وقف جميع الأعمال الحربية بين البريطانيين والعثمانيين. بعد ثلاثة أيام، في 2 تشرين الثاني، قام السير وليام مارشال، وهو جنرال بريطاني، بغزو ولاية الموصل حتى 15 نوفمبر 1918 عندما نجح أخيراً في هزيمة القوات العثمانية وأجبرهم على الإستسلام. وفي ذات اليوم 15/11/1918 غادر القائد التركي علي إحسان باشا مدينة الموصل تاركاً وراءه وكيلاً لإدارة الشؤون المدنية الذي ما لبث أن غادر هذا الوكيل نهائياً المدينة ، وكان هذا آخر تواجد عثماني في الموصل التي تركوها إلى غير رجعة. لذا فإن إحتلال الموصل جاء بعد إنتهاء الحرب بأسبوعين، حيث إستغلت بريطانيا ضعف الدولة العثمانية وإنكسارها.
ومنذ ذلك التاريخ نشبت مشكلة عائدية الموصل؟ هل لتركيا أم للعراق؟ فظهرت قضية دولية سميت "قضية الموصل" Mosul Question. وهي أزمة دبلوماسية نشبت بين المملكة العراقية وجمهورية تركيا بعد الحرب العالمية الأولى حول مصير ولاية الموصل.
كانت ولاية الموصل جزءاً من الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما احتلت من قبل بريطانيا. وكانت ولاية الموصل تشمل (السليمانية، أربيل، الموصل، كركوك، شهرزور، شاربازير، خانقين). وبعد حرب الاستقلال التركية، إعتبرت تركيا الجديدة الموصل واحدة من القضايا الحاسمة المحددة في الميثاق الوطني. وعلى الرغم من المقاومة المستمرة، تمكنت بريطانيا من طرح هذه القضية في الساحة الدولية، وتوسيع نطاق ذلك وصولاً إلى جعلها مشكلة حدود بين تركيا والعراق.

كان على العراق قبل أن يتقدم لعضوية عصبة الأمم أن تكون له حدود واضحة المعالم مع الدول المجاورة. لذا بدأ يعقد إتفاقيات الحدود مع الدول التي تجاوره، وكانت المشكلة تكمن في حدوده مع الدولة العثمانية التي إنفصل عنها. وكان البريطانيون يقومون بهذه المهمة نيابة عن العراق بإعتبارها دولة الإنتداب.
وفي 24 تموز 1923 تم التوقيع على إتفاقية لوزان والتي حددت ما يعرف ب (خط بروكسل) كخطٍ فاصل بين حدود العراق وتركيا. ونصت المادة الثالثة من الإتفاقية، على ما يلي:
"ترسم الحدود بين تركيا والعراق بشكل ودي يتم إبرامه بين تركيا وبريطانيا العظمى في غضون تسعة أشهر.
وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين في غضون الوقت المذكور، يحال النزاع إلى مجلس عصبة الأمم.
تتعهد الحكومتان التركية والبريطانية على نحو متبادل بأنه ريثما يتم التوصل إلى قرار بشأن موضوع الحدود، لن يتم القيام بأي حركة عسكرية أو أي حركة أخرى يمكن أن تعدل بأي شكل من الأشكال الحالة الراهنة للأقاليم التي مصيرها النهائي. سوف تعتمد على هذا القرار."   
لم يتم التوصل إلى إتفاق ودِّي بين بريطانيا وتركيا لذا أحيل هذا النزاع الحدودي إلى عصبة الأمم التي قررت تشطيل لجنة لدراسة الموضوع وتقديم توصياتها بهذا الشأن، سميت ب "لجنة الموصل". لم تكن تركيا عضواً في عصبة الأمم آنذاك، وكانت بريطانيا أحد الأعضاء البارزين والمقررين في العصبة بغياب الاتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة. وفِي 30 أيلول 1924 قررت العصبة تعيين لجنة دولية مؤلفة من ثلاثة خبراء مجري وسويدي وبلجيكي لدراسة المشكلة من جميع وجوهها وتقديم توصيات في هذا الصدد.
وصلت اللجنة بغداد في كانون الأول 1925 وبعد اتصالات دامت أكثر من شهرين عادت بتقرير مفصل أهم ما فيه:
1. خط الحدود المقترح من قبل بريطانيا بين العراق وتركيا والمعروف بخط بروكسل هو خط مناسب.
2. سكان المنطقة هم من الأكراد والعرب على مختلف طوائفهم.
3. كانت المنطقة تحت الحكم التركي عدة قرون ولكنها كانت تحكم منذ أمد بعيد من قبل باشوات بغداد.
4. الاعتبارات الاقتصادية تدعو لضم المنطقة للعراق.
5. سياسياً، إن المنطقة تركية إلى أن تتنازل عنها، وأكد هذا البند أنّ العراق لا يستطيع أن يتطور وينمو نمواً طبيعياً إِلَّا بضم ولاية الموصل، وأوصت اللجنة بعدم تقسيم المنطقة بين الطرفين بل أوصت بضمها إلى العراق بشرطين:
1. أن يبقى العراق تحت الانتداب البريطاني لمدة 25 سنة.
2. أن تُراعى مصالح الأكراد في الشؤون الإدارية.
عيّن مجلس عصبة الأمم لجنة تحقيق والتي أوصت بأن تعود ملكية الموصل إلى العراق، فأُجبرت تركيا على قبول القرار على مضض من خلال التوقيع على معاهدة الحدود مع الحكومة العراقية في عام 1926. قام العراق بمنح إتاوة 10 في المئة من الودائع النفطية في الموصل إلى تركيا لمدة 25 عاماً. وقد تنازلت تركيا عن ذلك البند لاحقاً مقابل استلام مبلغ 500,000 جنيه إسترليني ذهب، دفعة واحدة.

-   موقف العراقيين من الإستفتاء على الموصل
أدارت بريطانيا بمساعدة حكومة العراق العربية الفتية منذ عام 1921 قضية الموصل بدبلوماسية فائقة، وساعدها كثيراً أهل الولاية من مختلف الطوائف وفي مقدمتهم المسيحيين الذين عانوا كثيرا من قساوة العثمانيين وإنتقامهم خلال الحرب العالمية الأولى الأربع، والتي عرفت ب "مذابح سيفو" نسبة إلى إستخدام السيف في قتل الضحايا. وطلب ملك العراق فيصل الأول إستقبال لجنة الموصل التابعة لعصبة الأمم بما يليق بها من إحترام، وإبداء أرائهم في ضم ولاية الموصل لدولة العراق الحديث في زيارته التاريخية لمدينة الموصل عام 1924. "وتضامناً مع الحركة الوطنية، فقد أكد الملك فيصل على عروبة الموصل أثناء زيارته لها، إذ القى خطاباً، أعلن فيه إن ولاية الموصل جزء لا يتجزأ من العراق، ولن تستطيع حكومة بغداد أن تعيش يوماً واحداً بدونها، وأكد أن لمشكلة الموصل علاقة بالسلام في الشرق كله، وأعرب عن اعتقاده بطمع الأتراك بنفط الولاية ومعادنها، ورجا أن يكافح سكان الموصل لاستقلال العراق التام ومن ضمنه الموصل." 
في 30 أيلول 1924 قررت عصبة الأمم، تأليف لجنة دولية لبحث مسألة الموصل، وعلى هذه اللجنة أن تقدم الى مجلس العصبة كل المعلومات والاقتراحات الخاصة بقضية الموصل والتي تساعد المجلس على إصدار قراره. وقد وصلت اللجنة الى الموصل في 27 كانون الثاني 1925 وبدأت أعمالها على نطاق واسع. وإتخذت من قصر الشربتي في المدينة مقراً لها.
‏من الطبيعي أن يحدث انقسام بين أهالي ولاية الموصل عند قدوم اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) بسبب اختلاف السكان وأوضاعهم الاجتماعية. فمنهم من كان يريد الرجوع إلى الحكم التركي بدافع الدين الإسلامي ورفض حكم الإنكليز غير المسلمين. أما الأقليات (المسيحية واليهودية) فكانت تصِّر على عدم العودة للحكم التركي الديني.
فسَارع المسيحيون من الأثوريين والكلدان والسريان والأرمن إلى كتابات عرائض تفيض بعذاباتهم من تصرفات العثمانيين وإنتهاكاتهم لحقوقهم، فحسموا أمرهم في البقاء تحت سلطة بريطانيا بإعتبارها دولة مسيحية. "وقد اجتمع رؤساء الدين من مسلمين ومسيحيين ويهود فقابلوا أعضاء اللجنة وكلفوا القس (المطران فيما بعد) يوسف غنيمة بأعداد كلمة للمناسبة بالعربية والفرنسية، فلبّى طلبهم وجاء في نص الخطاب: 
يتشرف رجال الدين من مسلمين ومسيحيين وموسويين أن يرحبوا بقدومكم الميمون إلى حاضرتنا يا رجال لجنة العصبة الأممية الكرام، وان يبرزوا لكم أخص عواطف احترامهم الصميمي.
بديهي أن إيفادكم من عصبة الأمم مطمح أنظار العالم وناشرة ألوية العدل والقائمة بكشف ظلامة الإنسانية فهو دليل واضح عما لكم لديها من المنزلة الرفيعة والثقة التامة، وهذا ما يشدد عزائمنا ويوطد أركان آمالنا ويوطن أنفسنا على أن قضيتنا العادلة والحيوية معاً قد عنى بأمرها إلى أبناء جلدتها وقد أعطى السهام باريها.  نحن أيها السادة الفِخام بصفتنا من رجال الدين في مدينة الموصل ومجاوراتها واقفون وقوفاً تاماً على روحية قاطني الحدباء وعلى حقيقة مشاعرهم وعواطفهم الثابتة.
إن أهالي الموصل أيها الكرام لا يبتغون إلا أمراً واحداً هو في غاية الأهمية وهو محط آمالهم الوحيد وضالتهم المنشودة وما ذلك الأمر الوحيد إلا الحياة. والحياة من لا يبتغيها ناشدتكم الله؟ أفتعجبون أيها الكرام إذا ما طالبكم اليوم الموصليون بلساننا بالحياة وما الحياة في كل اتساع معانيها سوى حق طبيعي لكل امرئٍ به وبه وحده يقر عيناً وينعم بالاً؟ اجل إن أهالي الحدباء ينشدون الحياة، حياة حرة لا تشوبها شائبة، حياة لا تمس فيها حرمة الأديان ولا كرامة العوائد وقومية الأخلاق. وصفوة القول إنهم يبتغون أن يعيشوا تحت ظل لواء قوميتهم العربية في ظل دائرة استقلالهم القومي." 
أما العرب فقد كان سُنّة الموصل قوميون حد النخاع، وأرادوا ضم الموصل للعراق تخلصاً من العنصرية الطورانية التركية، والإنضمام لدولة عربية يرأسها ملك عربي.
في حين إلتزم الأكراد الذين كانوا يسكنون مناطق شمال وشرق الموصل بالصمت، فقد كانوا يسعون لإقامة دولتهم الكردية، ولم تكن علاقتهم مع سلطات الإحتلال البريطاني قد تحسنت بعد، فالمجتمع الكردي مجتمع متدين، وكانت تربطه بالعثمانيين صلة الدين والولاء لأولي الأمر من المسلمين. وكانت الحركات القومية تثور بين آونة وأخرى، مثل ثورة الشيخ محمود الحفيد عام 1919، كما قتلوا عدد من المندوبين البريطانيين لديهم، ولكنهم أثروا الصمت وتفضيل البريطانيين على الأتراك، أملا في تحقيق بريطانيا لوعودها لهم بإقامة دولتهم الخاصة، ولم يشعروا بأنهم جزء من دولة يحكمها العرب إسمها العراق حتى يومنا هذا. وبدا موقفهم هذا بمثابة قبول ضمني لضم الموصل إلى العراق. لذا فقد كتب اللجنة في تقريرها قائلة: "لقد وجدنا بين الأكراد وعياً قومياً متنامياً، وهو بلا ريب قومي كردي وليس عربياً، وهو شعور متزايد بقوه كلما اتجهنا جنوباً ويتناقص شمالاً ويتلاشى في سهل ولاية الموصل وجبال (عقرة / آكري)". وهكذا اعتقد المجلس (عصبة الأمم) أن الأكراد ككل لم يحركهم التضامن القومي. أما إذا أخذت المسألة الاقتصادية بنظر الإعتبار، فيمكن أن تكون ولاية الموصل ضمن حدود الدولة العراقية. ولكن في هذا الوقت وقعت حادثتان في تركيا قوضتا، وعل نحو خطير، المعسكر الموالي للأتراك في ولاية الموصل. ففي آذار/مارس 1924 ألغت أنقرة الخلافة العثمانية (الإسلامية) متنكرة لآخر حلقة مهمة بين المواطنين المسلمين السابقين للإمبراطورية العثمانية وتركيا. وفي كردستان تركيا أندلعت ثورة الشيخ سعيد بيران، وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه اللجنة تقوم بتحرياتها تم قمع هذه الإنتفاضة الكردية، وقام الأتراك بتهجير قرى كردية بأكملها عنوة من مناطقها الأصلية الكردية. 
 ومن البديهي أن يقف يهود العراق والموصل خاصة إلى جانب الإقتراح البريطاني والعربي تخلصاً من تمييز الأتراك لهم على أساس ديني. وتفضيلا للإنتداب البريطاني على العراق، إسوة بالمسيحيين.
 أما شيعة العراق فقد عارضوا الإحتلال البريطاني في البداية وأشعلوا ثورة العشرين عام 1920 المعروفة، إمتثالا للإجتهاد الديني بوجوب نصرة المسلمين الأتراك ضد البريطانيين الكفار، إلا إنهم رضخوا في النهاية لحكم ملك عربي، وقبلوا بدولتهم الجديدة بحكم الواقع.
وبقي أخيراً من أكثر المعارضين لضم الموصل لدولة العراق وسلخها من تركيا هم أتراك العراق الذين تجمعهم وشائج قوية بالأتراك على أساس العنصر واللغة والدين والتاريخ والمصالح المشتركة، ولكن قلتهم وضعف نصيرهم العثماني جعلهم في موقف غير مؤثر ولا يؤخذ بالحسبان.
والخلاصة، "ففي استفتاء 1921 تبين أن غالبية العرب في الموصل، التي يقطنها أيضاً الأتراك والكرد والأثوريون النساطرة وطوائف مسيحية أخرى، فضلاً عن الايزيديين واليهود، كانت ترغب في ضم الموصل إلى العراق. ووقف الموقف نفسه الإيزيديون واليهود والمسيحيون والأكراد (عدا سكان تلعفر). وبناء على ذلك رأت لجنة التحقيق أن من الملائم ضم ولاية الموصل إلى حكومة الملك فيصل، ورفعت رأيها ذلك إلى مجلس عصبة الأمم الذي أحال التوصية إلى محكمة العدل الدولية لإبداء الرأي في 23/9/1925. وفي 21/11/1925 اجتمعت محكمة العدل الدولية وقررت منح الموصل للعراق. وفي 16/12/1925 أقر مجلس عصبة الأمم اعتبار الموصل جزءاً من العراق. واضطرت تركيا إلى الموافقة على الضم في 7/6/1926 لقاء حصة من النفط". 

-   الدور المسيحي في تقرير ولاية الموصل
كان الكلدان وهم جماعة إنشقت عن الكنيسة الشرقية (الأثورية) قبل نحو خمسة قرون، بسبب الخلاف على مبدأ الوراثة البطريركي، قد إعتنقت المذهب الكاثوليكي وتبعت روما، تتصرف بعقلانية أوربية، لذا كانت أكثر ميلاً لحكومة عربية تحت سلطة دولة مسيحية عظمى هي بريطانيا، وقد أبرق رؤساء الطوائف المسيحية إلى قداسة البابا وكرادلة لندن وبروكسل وفينا وبودابست يحتجون على مطالب الأتراك اللاشعبية ويستنجدون بهم لدى عصبة الأمم لصيانة ولاية الموصل لأن الموصل هي الملجأ الوحيد لعشرات الآلاف من مهاجري مسيحيي العالم الشرقي. (صحيفة العالم العربي في 3 شباط 1925م).
وذكرت جريدة العراق؛ التي يُصدرها صحفي مسيحي ؛ أن اللجنة افترت على النصارى واليهود بقولهم إنهم يفضلون الحكم التركي على الحكم العراقي من دون الانتداب، وأكدت أن نصارى العراق كلهم بقلب واحد يفضلون البقاء مع إخوانهم المسلمين العرب مهما كان مصيرهم ويفضلون أن يموتوا بين إخوانهم المسلمين العراقيين ومع العرب وبيدهم؛ عن أن يعودوا الى براثن النمر التركي الضاري الذي لا يروى دم جشعه. وأكد ساسون حسقيل وزير المالية العراقية وهو يهودي أن الموصل عربية وأن نواب ولاية الموصل وأعيانها يرغبون في البقاء في العراق. وقد أرسل رؤساء المسيحيين واليهود برقيات إلى الملك فيصل وإلى المندوب السامي البريطاني في العراق وإلى رئيس الوزارة العراقية وإلى عصبة الأمم يحتجون وينكرون ما نشر عنهم في تقرير اللجنة عن رغبتهم في الرجوع إلى تركيا ويصرحون بأنهم عرب ويريدون أن يعيشوا تحت العلم العراقي العربي مع إخوانهم المسلمين. وقد وقع على هذه البرقيات مطران السريان الكاثوليك ومطران السريان اليعاقبة ومطران الكلدان ونائب البطريرك وقس الأرمن وحاخام اليهود وغيرهم من الأطــــباء والمحامين والقسس من المسيحيين واليهود. (جريدة العالم العربي، في 4 أيلول 1925م). وأرسل رئيس بلدية الموصل ورئيس بلدية أربيل وبطريرك بابل ومطران اليعاقبة وحاخام اليهود برقيات شكر إلى وزير المستعمرات البريطاني ليوبولد إيمري. 
وبإختصار شديد كان القرن العشرين هو قرن القومية العربية وثورتها التي قادها الشريف حسين شريف مكة عام 1916، بعد أن نبَّه البريطانيون المسلمين العرب إلى إن الأتراك ليسوا من آل بيت رسول الإسلام، وهم ليسوا بعرب ولا يمتون بصلة لقريش التي حملت الخلافة الإسلامية إلى العالم، بعد أن خضع لهم العرب قرابة سبعة قرون.
كانت إحدى الجوانب الرئيسية في المشكلة تكمن في المناطق التي كان يسكنها الأثوريون في جولاميك بحكاري، والتي يرغبون في العودة إليها. إلا أن بريطانيا واجهت صعوبات جمة في ذلك، فالقوات البريطانية لم تصل إليها لتحتلها وتفرض الأمر الواقع، وكانت تركيا ما تزال تسيطر عليها، وعيون بريطانيا ترنو إلى الموصل الغنية بالنفط بدلا من مناطق جبلية تضم قرى بائسة مشحونة بذكريات أقلية (الأثوريين).
أما الأثوريين فكانت ذاكرتهم مشحونة بإنتقام الأتراك وقسوتهم حتى الأمس القريب، وما تحملهم لكل تلك الخسائر وإنضمامهم إلى قوات الحلفاء والقتال إلى جانب بريطانيا العظمى كحليف صغير، سوى لتحقيق هدف استعادة مناطقهم والعودة إليها، إلا إن مناطقهم وقراهم وأراضيهم الزراعية وكنائسهم التاريخية ما زالت بيد الأتراك، وقد جرى هدم غالبيتها إنتقاماً من موقف الأثوريين السياسي المتمرد على الدولة العثمانية. لذا فقد تنازعتهم رغبتين متعارضتين هما: التخلص من الحكم التركي المسلم أولاً، والعودة لمناطقهم التاريخية شمال ولاية الموصل التي عاشوا فيها طيلة خمسة قرون ثانياً، شريطة أن تكون تحت حكم دولة مسيحية عظمى. وهاتان الرغبتان كانتا شبه مستحيلة، وتحقيقهما معاً ضرب من الخيال.
كان البيت الأثوري يعاني من الإنقسام والضعف. فمن جهة كان القيادة الدينية ممثلة بالبطريرك الأثوري إيشاي مار شمعون ذي 16 ربيعاً الذي سافر إلى بريطانيا لإكمال دراسته الدينية هناك. وكانت العائلة البطريركية قد إحتكرت التعاون مع البريطانيين لصالحها بعد التخلص من خصمها العنيد قائد القوات الأثورية الجنرال أغا بطرس حيث نفته بريطانيا إلى فرنسا عام 1921، ومات هناك في 1932، والذي جمع في شخصه أمرين مهمين هما: الأول، إنه كان أول من أدرك خداع البريطانيين، لذا أصَرّ على العودة إلى مناطقهم الأصلية، وثانيا، إنه كان يفصل بين الدين والسياسة، فيطلب تحديد صلاحيات البطريرك بالمسائل الدينية فقط، على أن يترك المسائل السياسية والعسكرية لغيره من المدنيين ، ولخَّص موقفه هذا بعبارة وجيزة شهيرة، قالها للبطريرك السابق بنيامين مار شمعون وهي: (ليكون لك الصليب، ودَعْ السيف لي). إلا إن البطريرك رفض ذلك، ودفع حياته وحياة رفاقه ثمناً لعدم تقبل تلك الفكرة، عندما ذهب في 3 أذار 1918 ليتفاوض مع إسماعيل آغا المعروف ب (سمكو) رئيس عشيرة الشكاك الكردية في إيران فقتله هو وحاشيته ومَثّلوا بجثته.
إعتقد الأثوريون بأن بريطانيا ستجعل مناطقهم التاريخية ضمن الدولة العراقية الجديدة، أو تحت حمايتها في الأقل، بينما كانت بريطانيا تقدّم مصالحها في أية مفاوضات مع الأتراك. وكان نفط الموصل هو المعبود الذي يصلّون له في الخفاء. بينما كانت عصبة الأمم ولجنة الموصل ترى إن المنطقة موضوع الخلاف كانت "مسكونة من قبل المسيحيين والأكراد والعرب والأتراك واليزيديين واليهود حسب الترتيب العددي"، وحيث إن رأي المواطنين كان عاملا مهما في تقرير مصير ولاية الموصل، فان الوجود الأثوري (الذي مثّل معظم المسيحيين) ورغبتهم المطلقة لإلحاقهم بالعراق تحت انتداب العصبة كان العامل الأهم لضمان ضم ولاية الموصل إلى العراق. حقا، إن توصية المفوضية بضم ولاية الموصل الى العراق، والتي اشترطت استمرار انتداب العصبة، كانت مطابقة تماما لرأي الأثوريين المقيمين في تلك المنطقة".

-   رسالة الأثوريين إلى لجنة الموصل
من بين الرسائل التي يحتفظ بها أرشيف الأمم المتحدة، عثرنا على رسالة كان قد أرسلها الأسقف يوسف خنانيشوع خال البطريرك الأثوري إيشاي مار شمعون وعدد من رؤساء العشائر الأثورية   إلى لجنة الموصل مكتوبة بخط اليد وباللغة السريانية ومؤرخة في 2 أذار (بالتقويم الشرقي) أي 16 آذار (بالتقويم الغربي) 1925، وقد قُمنا بترجمتها من السريانية، وهذا نصّها:
أصحاب السعادة رئيس وأعضاء لجنة عصبة الأمم
إسمحوا لنا أن نبين لسعادتكم أحوالنا بإيجاز.
لقد كتب الكثير من الكتاب عن تاريخ القديم للأثوريين، وما زال الكثيرون حتى هذه الأيام يكتبون عن ذلك.
نحن قسم صغير من الأثوريين الذين أقاموا في كردستان لقرون عديدة وسط صعوبات جمّة، وتضحيات دائمة بالأنفس، تمكننا أن نحافظ على وجودنا. ولقد ظُلِمنا كثيرا من الترك وأداتهم الكرد، لسبب واحد هو للقضاء على إسمنا وكياننا.
وقبل الحرب العظمى، حُوِلَت العديد من كنائسنا إلى مساجد، والكثير من قُرانا وأملاكنا أنتُزعت من أصحابها وأعطيت للأغوات الأكراد: ونتيجة لحالات القمع العديدة بالمئات: فقد هجر الآلاف لقُراهم، وهربوا إلى روسيا ودول أخرى طلباً للحماية.
وعند إندلاع الحرب العظمى في كانون الأول/ديسمبر 1914، إستعد الأتراك بكل ما أمكنهم لتدمير أمتنا بالكامل. ابتدأوا من الباق، وگاوار، وفي كل مناطق الجبال المسيحية التي أقاموا فيها، بالقتل والفناء وأعمال أخرى لإستعبادنا. ونحن بدورنا سعينا بكل ما هو ممكن لحماية أنفسنا وبيوتنا. ولكننا أصبحنا متروكين على قمم الجبال، حيث حصرنا أنفسنا، نعاني من نقص الغذاء والبرد القارص. وبمشقّة بالغة للحياة، وجدنا طريقنا إلى إيران، وهناك وجدنا خلاصنا تحت حماية الروس الذين كانوا في ذلك الوقت يحتلون البلد.
وبعد الإضطرابات في روسيا، إنسحبوا من هناك، وبقينا نحن مضطرين في إيران: فقام الأتراك مجدداً بالهجوم علينا. فخرجنا من إيران بصعوبة كبيرة خسرنا فيها ألاف الأرواح، وبقينا شهراً كاملاً في سفرنا، حتى عثرنا على الأمان بالقرب من الإنكليز.
وعند وصولنا إلى بعقوبة تحت رعاية بريطانيا العظمى، قامت بترتيبات مذهلة ومعاملة طيبة تجاهنا، لا يمكن نسيانها.
ومنذ وقت وصولنا إلى بعقوبة، لم ننفك عن مطالبتنا بمواطننا في جولامرك، وديز، وديز العليا، وشمزدين، وتياري، وتخوما، وجيلو، وباز، ودياز – وأن توضع تلك المناطق تحت حماية بريطانيا العظمى، ولكن طلبنا لم يلقِ أي عناية. وخلال السنوات الأخيرة، عاد قسم صغير منَّا إلى مناطقه في تياري وتخوما: وبصعوبة بالغة جداً، عمّروا بيوتهم وكنائسهم وحرثوا مزارعهم، وفي السنة الماضية، تم طردهم مجدداً من بيوتهم، وهم الآن يعيشون في الكهوف والقرى المهجورة في ظروف بائسة للغاية.
نحن الأثوريون لقد وصلنا إلى يأس عميق: ولكن قدوم لجنتكم إلى هذه النواحي قد أبهجنا، مع أمل جديد، لكي نضع أمامكم أحوالنا الشقية. لأننا نؤمن بأن عصبة الأمم قد أسست لرعاية وضمان حقوق الأمم الصغيرة التي نالها العذاب. والآن، نحن نطالب عصبة الأمم، بأن تتخذ إجراءً رسميا تضع فيه، مناطقنا المذكورة في أعلاه والتي هي مواطننا منذ قرون، تحت رعاية عصبة الأمم لحمايتها. وإذا تعذر ذلك، فإننا على أمل أن تضعنا عصبة الأمم تحت حماية بريطانيا العظمى، لنتمكن من العيش بسلام وأمان. وإذا ما أنتزعت منَّا مواطننا وأعطيت لتركيا، فإنه ليس بإمكاننا العيش في العراق بسبب حرارة الطقس.
آنذاك، نطلب بأخذ تعويضات من تركيا عما استحوذت عليه، وما فقدناه في مواطننا، ونحن سنرحل من هذا البلد إلى أماكن أخرى حيث يمكننا أن نحفظ حياتنا ووجودنا، ونعمل بسلام. لأن العيش بأسلوب التهجير المرتقب هو بحد ذاته بؤس وشقاء عظيمين.
كتب في مدينة الموصل بتاريخ 3 آذار 1925 م.
تواقيع: الأسقف يوسف خنانيشوع، المطران زيا سركيس – أسقف جيلووباز، ملك شمزدين، ملك إسماعيل، عبد الأحد م. يوسف، ملك خمو، ملك وردا، قاشا أبريم، قاشا كينا كورئيل، الكسندروس دقليتا، الشماس إسحق أشيتا، خيو عوديشوع، بوكو اوشانا، يعقوب ... (الأسم الثاني غير واضح).

 
-   الموقف الأثوري من قضية الموصل
كما أسلفنا، فأن وضع الأشوريين كان يعاني من إنقسام داخلي عميق. لذا فإن موقفهم تجاه قضية الموصل كانت تحكمه ثلاثة إتجاهات متعارضة، كالأتي: -
أولا. كان الإتجاه الأول، والذي يمثل أغلبية الأثوريين، يرمي إلى العودة لموطنه الأصلي الذي غادروه أواخر عام 1915، حيث هناك قراهم ومساكنهم وحقولهم، بالإضافة إلى كنائسهم التاريخية منذ قرابة خمسة عقود. ويمكن تسميته ب (حلم العودة). وكان القائد العسكري آغا بطرس إيليا من أكثرين الساعين لتحقيق ذلك الحلم، بعد أن أدرك خداع البريطانيين. وبالفعل إستطاع بعض الأثوريين التسلل إلى مناطقهم ثانية بعد غلق مخيم بعقوبة للاجئين إبتداءً من عام 1921، وأعادوا بناء قراهم ومساكنهم وبعض كنائسهم المدمرة، إلا إن الأتراك أعادوا الهجوم عليهم إنتقاما منهم على مواقفهم من الدولة العثمانية الزائلة زمن الحرب العالمية الثانية. وجرى تهجيرهم تماماً عام 1925، ولم يعودوا إليها حتى يومنا هذا، وبعد مرور أكثر من مئة عام.
ثانياً. أما الإتجاه الثاني، والذي كانت تتبناه عائلة البطريرك الأثوري مار شمعون وبعض أتباعهم الخُلَصْ، فقد كان يسعى إلى بقاء الأثوريين تحت حماية ورعاية بريطانيا العظمى التي تحالفوا معها حتى أسمتهم ب (الحليف الأصغر – Smallest Alley). إن هذه الأمنية كانت أيضاً ضرباً من الخيال، فبريطانيا دولة مُحتَلة للعراق، ثم دولة مُنتَدَبة عليه، ومن المعروف أن كل هذه الأنظمة القانونية المعروفة في القانون الدولي، لها قواعد تحكمها، وتحدد موعد إنتهائها، لذا فهي مؤقتة وزائلة لا محال، ولو بعد حين، سواء أطالت المدة أو قصرت. وهذا يدل على عدم واقعية هذا الإتجاه، وضعف الوعي السياسي والقانوني لأصحابها، إضافة إلى تغليب المصالح الضيقة على المصالح القومية العامة. وكان أصحاب هذا الإتجاه غالباً ما يقترحون حلولاً بديلة لا منطقية، مثل اللجوء إلى الإنتداب الفرنسي أو إي دولة أخرى إذا تعذر الحل الأول. وهو يمثّل بحد ذاته خروجاً من حفرة للوقوع في حفرة أكبر.
ثالثاً. وبقي الإتجاه الثالث والأخير، والذي يمثل الإتجاه الوطني، لنسبة لا بأس بها من الأثوريين الذين تصرفوا بواقعية سواء أثناء عودتهم إلى مناطقهم في تركيا، أو بعد طردهم من هناك، حيث أدركوا إن حلم العودة أصبح مستحيلا، وعليهم القبول بالأمر الواقع الذي يفرضه الواقع السياسي الجديد، وإن مصلحتهم تكمن اليوم في البقاء مع العراق وإتخاذه موطناً بديلا لهم. وكان يتزعم هذا الإتجاه أحد أبرز قادة العشائر الأثورية وأتباعه، وهو ملك خوشابا ملك إسماعيل، رئيس عشيرة تياري السفلى، ورَفيق نِضَال أغا بطرس. وكان هذا الإتجاه هو الأكثر واقعية في المسألة الأشورية.

-   تحليل الرسالة
إن قراءة متأنية لهذه الوثيقة تقود إلى جملة إستنتاجات منها:
1.   إنها مقدمة من عائلة البطريرك الأثوري مار شمعون وبعض الموالين لها.
2.   إنها تستند على خلفية تاريخية من العلاقة السيئة مع الأتراك والأكراد، مما دفع مقدموها إلى الإرتماء في أحضان البريطانيين دون التنبه إلى إن البريطانيين لا يختلفون عن الأتراك كثيراً سوى في إسلوب العمل، فالأتراك إستندوا على الدين، بينما إستند البريطانيون على المال. والنتيجة واحدة وهي ضياع الأثوريين وتشتتهم.
3.   إن الحلول المقدمة غير واقعية، مثل البقاء تحت حكم بريطانيا أو أي دولة مسيحية أخرى، وعدم العودة تحت الحكم الإسلامي، ولكن البقاء تحت حكم القانون هو الأفضل، وهذا ما لم يهتدوا إليه في حينه.
4.   نية مقدمي الرسالة في الرحيل من العراق مسبقاً. وعدم الرغبة في البقاء في العراق بسبب حرارة الطقس. وهذا سبب غير منطقي في السياسة.
5.   تشكل مسألة المطالبة بالتعويضات أساسا قانونياً مقبولا حتى يومنا هذا، وكان بالإمكان الإصرار عليه بشكل دائم.
6.   وتبقى لغة الكتابة وأسلوبها وتنظيمها ما يدفع لإهمالها وعدم العناية بها، وعلى الرغم من ذلك، فقد كتبت باللغة السريانية، وقامت سكرتارية عصبة الأمم بترجمتها إلى الإنكليزية. بينما كتب البطريرك الكلداني يوسف غنيمة رسالته إلى لجنة عصبة الأمم في قضية الموصل باللغة الفرنسية، وبلغة وجيزة وخط يد أنيق. 
وبهذا الصدد، يذكر يوسف ملك خوشابا في كتابه حقيقة الأحداث الأثورية المعاصرة، عن حيثيات تقديم هذا الطلب إلى لجنة عصبة الأمم، قائلا: -
" في سنة 1925 جاءت لجنة الأمم إلى الموصل وإجتمعت بممثلي الأثوريين في قصر الشربتي، فبينت لهم بأنها مخوّلة بإسكانهم في أراضيهم الأصلية إلا إنها لا تملك صلاحية تقرير الدولة التي ستكون تلك الأراضي خاضعة لها. وأوضح ملك خوشابا ومن شاركه رأيه لتلك اللجنة بأنه لا أهمية لمن سيحكم تلك الأراضي طالما كان ذلك خارج إرادتهم، وغنما ما يهمّهم هو إعادتهم إلى أراضيهم وتأمين سلامتهم ومستقبلهم. أما أتباع المار شمعون فصرحوا بأنهم لا يريدون تلك الأراضي ما لم تكن نحت ظِل العلم البريطاني. ولذا لم تتمكن اللجنة من إتخاذ أي قرار حول الموضوع بسبب الإختلاف في أراء الأثوريين حول إعادتهم إلى أراضيهم تحت أي حكم تقرره عصبة الأمم. ونتيجة لهذا الخلاف حاولت العشائر العبور إلى مناطقها الأصلية عبر حدود العراق الشمالية إلا إن الإنكليز والمار شمعون والحكومة العراقية منعوها من ذلك. فأرسلت سُرمة خاتون المطران يوآلاها مطران برواري بالا كما أرسلت الحكومة العراقية معاون الشرطة عزرا وردة للتجول بين العشائر الأثورية ناقلين أقوال سرمة خاتون إليها بأنها ليست ضد فكرة عودتها إلى أراضيها وإنما تريد أن تضمن ملكية تلك الأراضي لها ليكون الأثوريون أحراراً فيها قبل عودتهم إليها. بهذه الكلمات المعسولة تمكنت سُرمة خاتون من إقناع الأثوريين وتخديرهم مما أدى إلى فقدانهم لفرصتهم الأخيرة في الحصول على قبول لهم مرة ثانية من قبل الحكومة التركية التي إعتبرت عملهم بعد هذا التراجع ليس إلا لعبة." 
كان هدف الإنكليز من الإحتفاظ بالأثوريين لغرض إستخدامهم كمقاتلين ضد بقية طوائف الشعب العراقي. و" قد أخفت عائلة المار شمعون عن جماهير الأثوريين – الهدف الحقيقي لتشكيل الفرق العسكرية والمتمثل في خدمة المصالح الإستعمارية لإنكلترا، ومن أجل ذلك نشطت سورما خانم (عمة البطريرك) في تشكيل هذه الفرق.   
وتثير شخصية سورما (شقيقة البطريركين بنيامين المغدور وبولص المريض، وعمّة البطريرك القاصر إيشا) الكثير من الجدل حتى يومنا هذا. فهذه الشخصية الأثورية التي عاشت قرابة 92 سنة، والتي تحكمت بمصير الأثوريين منذ عام 1915 وحتى عام 1933. فقد كانت المشرفة على مستودع الذخيرة الأثورية المستلمة من الروس في منطقة أورميا عام 1915.   وقد كان لها "الدور الكبير في تأسيس هذه الكتائب. إذ كان لها كما للملوك والكهنة مصلحة مادية في توسيع تشكيلات الكتائب العسكرية، حيث كانت العائلة البطريركية وكبار القادة والكهنوت يتقاضون وفق الاتفاق مع القيادة الإنكليزية حصة نقدية من مرتب كل ضابط ومجند آشوري". 
لقد بلغ تعداد الكتائب الأثورية 10 آلاف مقاتل، وقد كان المقاتل يتقاضى 12 روبية شهريا عام 1920، ولو إفترضنا إنها كانت تتقاضى 2 روبية عن كل مجند أثوري، فهذا يعني إستلامها (2000) ألفي روبية شهرياً، وهي لا تساوي سوى مبلغاً ضئيلاً من نفط الموصل وحياة الأثوريين.

-   بريطانيا ... وتقسيم غنائم الموصل
" بعد توقيع إتفاقية الصلح الحكيم في عام 1918م لم يكن لدى تركيا المكلفة بحَلِّ جيشها وكذلك إيران القوة الكافية لإعاقة عودة الأثوريين إلى ولاية هكاري ومقاطعة أورمي." 
كانت بريطانيا غير راغبة في التخلي عن الأثوريين تماما، وترغب في الإحتفاظ بهم كحزمة واحدة، بل تسعى للإستفادة القصوى منهم، وكانت في الوقت ذاته ترغب في التنصل من وعودها لهم، والتقليل من نفقاتها عليهم. لذا فقد كان لها دور في إعادة الأثوريين الذين عادوا متسللين إلى مواطنهم في تركيا للفترو من عام 1921-1925. وجرياً على ذلك، فقد فسَّر بعض الأثوريين محاولة إغتيال وأسر الوالي التركي لجولامرك أثناء زيارته لهم عام 1924 على يد بعض المقربين من مار شمعون، بأنه كان بدفع من الإنكليز.  ورداً على ذلك، "بدأ الأتراك مطاردة الأشوريين من قراهم في هاكاري وأزاحوهم إلى العراق، وقد وصل آنذاك ما يقارب 8 آلاف إنسان أشوري." 
 وربما كان القصد لذلك هو أن يكون الأثوريين بمجملهم ورقة رابحة بيدهم لتقرير عائدية الموصل للعراق والإستفادة من وارداتها النفطية بدلاً أن تكون بيد تركيا الحديثة، بدليل أن قرار عصبة الأمم حول عائدية الموصل للعراق ينصّ على أن يقوم العراق بمنح نسبة 10 في المئة من الودائع النفطية في الموصل إلى تركيا لمدة 25 عاماً. وقد تنازلت تركيا عن ذلك البند لاحقاً مقابل استلام مبلغ 500,000 جنيه إسترليني ذهب، دفعة واحدة. وهكذا باعت تركيا الأثوريين العائدين مقابل 10% من نفط الموصل لمدة 25 عاماً، أو مقابل نصف مليون جنيه إسترليني ذهباً. وكسبت بهم بريطانيا الملايين من نفط الموصل لمدة تزيد على 25 سنة.
وكانت بريطانيا قد أستطاعت قبل ذلك من إقناع فرنسا بتنازلها عن الموصل التي كانت من حصتها وفقاً لتقسيمات خارطة سايكس – بيكو 1916. ووافق كليمنصو على طلب لويد جورج نقل الموصل إلى سلطة الانتداب البريطاني بشرط أن تنال فرنسا حصة من نفط الموصل، وأن توضع دمشق وحلب وبيروت والإسكندرونة تحت سلطة الانتداب الفرنسي. وهذه الوقائع تؤكد أن بريطانيا وفرنسا اعتبرتا سورية والعراق أسلاباً يوزعونها حصصاً كما توزع المغانم. وفي 24/7/1923 وُقعت معاهدة الصلح بين الحلفاء وتركيا (معاهدة لوزان) التي نصت على تعيين الحدود بين العراق وتركيا خلال تسعة شهور بالتفاوض الثنائي، وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن خلال المهلة المذكورة، فيُرفع الأمر إلى مجلس عصبة الأمم. ولما لم يتم التوصل إلى أي تفاهم في شأن مصير الموصل فقد قرر مجلس عصبة الأمم في 30/9/1924 تأليف لجنة تحقيق لدراسة تلك القضية.
" وقصارى القول إن النفط كان العنصر الحاسم في تقرير مصير ولاية الموصل، علاوة على الواقع الجغرافي والسكاني، وإن لم يظهر النفط في مناقشات ترسيم الحدود إلا بشكل خفي. وتبين لاحقاً أن "شركة النفط التركية"، وهي شركة دولية في الأساس ظهرت في سنة 1912 جراء اتفاق بين ألمانيا وبريطانيا وشركة دارسي للنفط على أن تكون حصة ألمانيا 25% وبريطانيا 25% وشركة دارسي 50%، قد نالت امتياز تسويق الحصص، ومنح رجل الأعمال الأرمني البريطاني الجنسية كالوست غلبنكيان 5% من الأسهم اقتطعت بالتساوي من حصة بريطانيا ومن حصة دارسي، ثم مُنحت فرنسا حصة ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب." 

-   خاتمة
إن الإنقسام والتشرذم وإنعدام وحدة القرار هي أهم الأمراض التي تصيب الأقليات من أمراض إجتماعية وسياسية، ويضاف إليها المصالح الشخصية الضيقة التي تقدم مصلحة الشخص على المجموع. وكما يقال فإن المصالح تبقى الصخرة التي تتحطم عليها أعظم المبادئ، ولم تكن المصالح المالية والشخصية الضيقة بعيدة عن عائلة البطريرك مار شمعون.
كانت القيادة الأشورية، قيادة دينية، وفي ظِل غياب قيادة سياسية، كانت تعاني من ضعف الدهاء السياسي في مواجهة إمبراطورية الدهاء البريطاني، ولا تجيد إدارة الصراعات مع الدول. لذا فقد جرى إستغلال هذه الطائفة لأغراض إستعمارية مقابل منافع رخيصة. وكان النفط في مقدمة تلك الأغراض وما زال حتى يومنا هذا. وكان على الأثوريين مساومة بريطانيا والحكومة العراقية الفتية في الحصول على بعض المطالب مقابل دورهم المتميز في تقرير عائدية الموصل للعراق، بدلا من الذهاب إلى عصبة الأمم للشكوى، فالعصبة أولا أخيراً إنما هي منظمة دولية تعتمد في ميزانيتها على مساهمات الدول المالية وإشتراكاتها، وتستطيع الدول أن تضغط عليها في هذا الجانب، وحتى يومنا هذا عادة ما تتلكأ الولايات المتحدة في تقديم مساهماتها المالية للأمم المتحدة لغرض فرض وجهة نظرها. كما إن المنظمات -بعكس الدول-لا تمتلك جيشاً ينفذ إرادتها وتعتمد في ذلك على الدول، لذا فمن الخطأ التعويل عليها بشكل مطلق، وهذا ما حدث مع الأثوريين لاحقاً. ونجد ذلك واضحاً في رَد البريطانيين على القائد الأثوري آغا بطرس، "عندما طالبهم بتعويضه مبلغ (38) ألف روبية إدعى إنه صرفها على حملته الفاشلة، وقد هددهم بتقديم شكوى إلى عصبة الأمم، وفرنسا، والبابا، إذا لم ينفذوا له ذلك، إلا إنه دهش عندما أجابه الأنكليز بأن عليه أن يذهب إلى هؤلاء جميعا وإلى الشيطان إن شاء." 
كما إفتقرت القيادة الأثورية إلى الواقعية السياسية في المفاوضات، والتي تقوم على تقليل الخسائر والحصول على المكاسب قدر الإمكان. وكان معظم الأثوريين قد إعتادوا على نمط حكم معين طبقه العثمانيين عليهم وعلى غيرهم من الجماعات والمكونات الأخرى داخل الدولة العثمانية، وهذا ما يطلق عليه الدكتور علي الوردي نمط "الحكم السائب". فقد إعتاد العثمانيون على عدم التدخل في شؤون العشائر الأثورية، وتركوا ذلك لقيادتهم الدينية الممثلة في البطريرك الأثوري الذي كان يعد -في ظل الدولة الدينية- مسؤولا أمام الخليفة أو السلطان العثماني عمّا يرتكبه أتباعه من مخالفات. لذا، فقد واجهوا مشكلة في التأقلم مع الدولة العلمانية التدخلية، وتمنّوا أن تطبيق الدولة الجديدة نفس أسلوب الدولة السابقة التي هربوا منها، ويشكون من ظلمها وتعسفها. ويرى الوردي إن هذا الأمر، ينطبق على الشيعة في الأساس، فيقول: " أن الشيعة لا يميلون للخضوع للقانون  ، ويحبذون أن يعيشوا حياتهم الخاصة التي إعتادوا عليها، حتى لو كانت في نظر الآخرين فوضى، "وكل ما يطمحون إليه هو نظام حكم يجاريهم في عاداتهم هذه، وهم لا يبالون إذ ذاك أن يكون الحاكم مسلماً أو كافراً، نجفياً، أو غير نجفي، سنياً كان، أو شيعياً. ولهذا كانوا راضين عن الحكم التركي قبل الحرب، فلم يثوروا عليه؛ لإنه تركهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم، ولم يتدخل في شؤونهم إلاّ قليلاً. ولم يكد الحكم التركي يتدخل في شؤونهم خلال الحرب حتى ثاروا عليه، وأعلنوا العصيان. وكذلك فعلوا مع الحكم الإنكليزي؛ إذ هم لم يثوروا عليه إلاّ بعد أن تدخل في شؤونهم".  وقد إتبع الأتراك نظام "الحكم السائب"، وكانت صلة الحكومة بمواطنيها تنحصر في أمرين فقط، هما الضرائب، والتجنيد. 
وقد دفع الأثوريون ثمنا باهضاً جراء تلك الأخطاء، بينما حقق البريطانيون والعراب غايتهم في ضَم ولاية الموصل إلى العراق.

د. رياض السندي
جنيف في 15 أيلول 2019


11

 
د. رياض السندي

-   تمهيد
كثيراً ما يطرح العراقيون هذا السؤال الهام والذي يمسُّ حياة العراقيين ومستقبلهم، في حين تأتي إجابة الحكومة على هذا السؤال غير دقيقة وتتضمن خداعاً لأغراض سياسية، ومزايدات حزبية، ودعايات إنتخابية، مما يشوش الصورة على المواطن العراقي الذي عانى من حصار إقتصادي لمدة 13 سنة، أعقبتها 17 سنة من الفشل الإداري، مما زاد من معاناة العراقيين وضياع حقوقهم. وهذا ما دفعنا إلى بحث الموضوع بشكل علمي وموضوعي دقيق ومحايد، لتوضيح الصورة كاملة.
أدخل العراق تحت أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بموجب القرار 660 الصادر عن مجلس الأمن في 2 آب/أغسطس 1990، بعد ساعات من غزوه للكويت، حيث أشار المجلس -ولأول مرة في تاريخ المنظمة الدولية إلى المادة القانونية التي يتصرف بموجبها، بعد أن كان لا يشير إلى الفصل أو المادة القانونية من الميثاق التي يتصرف بموجبها ووفق الصلاحيات المخولة له بموجبها، حيث أشار القرار المذكور في ديباجته إلى إنه " وإذ يتصرف بموجب المادتين 39 و40 من ميثاق الأمم المتحدة". وهاتين المادتين تقعان في الفصل السابع من الميثاق الذي يتضمن المواد من (39-51). 
ويمكن الإستدلال على ذلك من خلال قرارات مجلس الأمن الدولي حيث يتضمن في الغالب إشارتين إلى ذلك، وهما: -
1.   صدور القرار بموجب الفصل السابع من الميثاق، أو إحدى مواده في ديباجة القرار وقبل الفقرات التنفيذية. وأول قرار فيه إشارة لمواد الفصل السابع من الميثاق هو القرار 598 الصادر بتاريخ 20 تموز/يوليو 1987 في الحالة بين إيران والعراق، حيث أشار المجلس في ديباجة قراره المذكور إلى إنه (إذ يتصرف بموجب المادتين 39 و30 من الميثاق). وقد تكررت هذه الإشارة أيضا بعد ثلاث سنوات لاحقة في القرار 660 لعام 1990 وهو أول قرار يصدر في الحالة بين العراق والكويت.
وقد ظَلّ المجلس يكرر عبارة (وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) في كل قراراته الصادرة في الحالة بين العراق والكويت، منذ صدور القرار S/RES/664 بتاريخ 18 آب/أغسطس 1990 وحتى القرار S/RES/2335 الصادر في 30 كانون الأول/ديسمبر 2016.
2.   إبقاء المسألة قيد نظر المجلس: حيث يختتم المجلس قراراته بعبارة (يقرر إبقاء المسألة قيد نظره الفعلي)، أو أية عبارة أخرى مماثلة، كما أشار في القرار S/RES/660الصادر في 2 آب/أغسطس 1990 وهو أول قرار صدر عن الحالة بين العراق والكويت، قوله (يقرر أن يجتمع ثانية عند الإقتضاء للنظر في خطوات أخرى لضمان الإمتثال لهذا القرار). أو عبارة (يقرر أن يبقي هذا البند على جدول أعماله وأن يواصل جهوده لوضع حد للإحتلال)، كما ورد في القرار S/RES/662 الصادر في 9 آب/أغسطس 1990. وأوضح هذه العبارات ما ورد في القرار 687 في 3 نيسان/أبريل 1991 بقولها (يقرر أن يبقي المسألة قيد النظر وأن يتخذ ما قد يلزم من خطوات أخرى لتنفيذ هذا القرار وضمان السلم والأمن في المنطقة). وما زالت هذه العبارة تتكرر في كل قرارات المجلس حول الوضع في العراق حتى في آخر قرار له برقم S/RES/2470 في 21 آيار/مايو 2019.

-   الحالات المستنفذة
ويمكن إستخلاص الحالات التي أخرجت من تحت أحكام الفصل السابع من الميثاق، إستنادا إلى قرارات المجلس، وكما يلي: -
أولا. أشار القرار S/RES/1483 الصادر في 22 آيار/مايو 2003 (أي بعد 45 يوماً من الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق) وهو أول قرار يصدر عن المجلس يقرر رفع إجراءات الحظر الإقتصادي على العراق وفقا للفقرة 10 من القرار المذكور بقولها: " يقرر (المجلس) ألا تسري بعد الآن جميع تدابير الحظر المتصلة بالتجارة مع العراق وبتقديم الموارد المالية أو الاقتصادية للعراق، والمفروضة بموجب القرار 661 (1990) والقرارات اللاحقة ذات الصلة، بما فيها القرار 778 (1992) المؤرخ 2 تشرين الأول/أكتوبر 1992، وذلك بإستثناء تدابير الحظر المتصلة ببيع الأسلحة أو الأعتدة ذات الصلة إلى العراق أو تزويده بها، فيما عدا الأسلحة والأعتدة ذات الصلة التي تحتاجها السلطة لخدمة أغراض هذا القرار، والقرارات الأخرى ذات الصلة".
ثانيا. تضمن القرار 1957 والصادر في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2010 حالات أخرى لم يتم التحقق من وجودها بعد تعذر العثور عليها، وهي أسلحة العراق إذ نصت الفقرة 1 منه على ما يلي: " يقرر أن ينهي التدابير المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والقذائف والأنشطة النووية المدنية المفروضة بموجب الفقرات 8 و 9 ﻭ 10 ﻭ 12 ﻭ 13 من القرار 687 (1991) والفقرة 3 (و) من القرار 707 (1991)؛ وعلى نحو ما أعيد تأكيده في القرارات اللاحقة ذات الصلة".
ثالثا. جاء القرار 1956 والصادر في 15 كانون الأول/ديسمبر 2010 لينص على إنهاء آلية إيداع أموال صادرات العراق النفطية بحلول 30 من حزيران/يونيه 2011، حيث نصت فقرته الأولى على ما يلي: " يقرر أن ينهي في 30 حزيران/يونيه 2011 الترتيبات المحددة في الفقرة 20 من القرار 1483 (2003) بشأن إيداع العائدات المتأتية من مبيعات صادرات النفط والمنتجات النفطية والغاز الطبيعي في صندوق تنمية العراق.....".
رابعا. يعتبر القرار S/RES/2107 الصادر في 27 حزيران/يونيه 2013 قرارا مهما بهذا الصدد، حيث نصت الفقرة 3 منه على ما يلي: "يقرر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إنهاء التدابير المنصوص عليها في الفقرات 2 (ﺝ) ﻭ2 (ﺩ) ﻭ3 (ﺝ) من القرار 686 (1991)، والفقرة 30 من ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ687 (1991) والترتيبات المنصوص عليها في الفقرة 14 من القرار 1284 (1999) والتي أعيد تأكيدها في قرارات لاحقة ذات صلة).
وبالرجوع إلى هذه القرارات الثلاث المشار إليها في هذا القرار، نجد إن تلك المواد تتضمن حالات مستنفذة، وهي:
1.   إطلاق سراح جميع الكويتيين ورعايا الدول الثالثة الذين إحتجزهم العراق وأن يعيد أي جثثت للموتى منهم. (الفقرة 2 ج، من القرار 686 لعام 1991، والفقرة 30 من ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ687 لعام 1991).
2.   إعادة الممتلكات الكويتية التي إستولى عليها العراق. (الفقرة 2 د، من القرار 686 لعام 1991).
3.   إطلاق سراح جميع أسرى الحرب وإعادة أية جثث للموتى من أفراد قوات الكويت والدول الأعضاء المتعاونة معها. (الفقرة 3 ج، من القرار 686 لعام 1991).
خامسا. جاء القرار  S/RES/2390الصادر في 8 كانون الأول/ديسمبر 2017 ليقرر إعتبار العراق والأمم المتحدة قد "نفذا تنفيذا تاما جميع التدابير المفروضة بموجب قراري مجلس الأمن 1958 (2010) و2335 (2016) المتخذين بموجب الفصل السابع من الميثاق" حيث قرر المجلس إخراج بعض إلتزامات العراق من تحت طائلة الفصل السابع من الميثاق، ومعظمها قد جرى تكراره وهي: -
أ‌-   إطلاق سراح جميع الكويتيين ورعايا الدول الثالثة الذين إحتجزهم العراق.
ب‌-   إعادة كافة الممتلكات الكويتية التي إستولى عليها العراق.
ت‌-   إطلاق سراح جميع أسرى الحرب وإعادة إي جثث للموتى من أفراد القوات الكويتية والدول الأعضاء المتعاونة مع الكويت.
ث‌-   تحويل الأموال المتبقية في حساب الضمان المنشأ بالقرار 1958 (2010) إلى حكومة العراق.
وبإختصار شديد، يمكن القول بان الحالات التي تم رفعها وإخراجها من الفصل السابع، هي:
1.   الحظر الاقتصادي، بموجب الفقرة 10 من القرار 1483 لعام (2003).
2.   إنهاء المنطقة المنزوعة السلاح التي تمتد عشرة كيلومترات داخل العراق وخمسة كيلومترات داخل الكويت بدءا من الحدود العراقية - الكويتية وإنهاء بعثة الأمم المتحدة للمراقبة في العراق والكويت في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2003، بموجب القرار 1490 لعام (2003).
3.    تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، بموجب الفقرة 1 من القرار 1957 لعام (2010).
4.   إطلاق سراح جميع الكويتيين ورعايا الدول الثالثة الذين إحتجزهم العراق وأن يعيد أي جثثت للموتى منهم، بموجب الفقرة 3 من القرار 2107 لعام (2013).
5.   إعادة الممتلكات الكويتية التي إستولى عليها العراق، بموجب الفقرة 3 من القرار 2107 لعام (2013).
6.   إطلاق سراح جميع أسرى الحرب وإعادة أية جثث للموتى من أفراد قوات الكويت والدول الأعضاء المتعاونة معها، بموجب الفقرة 3 من القرار 2107 لعام (2013).
7.   غلق حساب الضمان العائد لصندوق تنمية العراق والمرتبط ببرنامج النفط مقابل الغذاء وبالتعويضات ونفقات الأمم المتحدة، بموجب القرار 2390 لعام (2017).

عدا الحالات المذكورة في أعلاه، لا يمكن القول إن العراق قد خرج من تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وإنه ما زال تحت أحكام هذا الفصل حتى يومنا هذا.

-   إدعاءات حكومية
من جانب آخر نرى إن الإعلام الحكومي الرسمي وتصريحات المسؤولين العراقيين تتباهى بخروج العراق من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، في أحيان كثيرة.
إن إدعاءات الحكومات العراقية المتكررة منذ عام 2010 حتى يومنا هذا، هي إدعاءات غير صحيحة وغير دقيقة، وتنم عن جهل قانوني وتدخل ضمن إطار الخداع والتضليل السياسي الذي مارسه العديد من المسؤولين العراقيين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي إدعى بأن خروج القوات الأمريكية عام 2010 هو خروج للعراق من الفصل السابع للميثاق، لا بل ظلَّ يتبجح في حملاته الانتخابية لعامي 2010 و2014 بأن من أهم إنجازاته هو إخراج العراق من الفصل السابع من الميثاق. وخلال احتفالية مركزية أقيمت بمناسبة خروج العراق من أحكام البند السابع قال رئيس الوزراء نوري المالكي، بتاريخ 29 حزيران 2013، إن خروج العراق من طائلة البند السابع بالخطوة المهمة لاستعادة مكانته الدولية، مؤكدا إن القرارات الدولية “أصبحت من الماضي”، وفيما أشار إلى إن العراق أصبح متحررا من القيود التي فرضت بسبب “حماقات” النظام السابق، وجه نداء لكل دول المنطقة والعالم بـ” مد يد الصداقة”، وشدّد على أن “العراق لا يمكن أن ينخرط في سياسة المحاور والاستقطابات”.   
 أما المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي علي الموسوي فقد اعتبر في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن هذا اليوم «يوم وطني يحق لكل العراقيين الخيرين أن يفخروا به خصوصا الأجيال القادمة، لأن خروج العراق من البند السابع الذي كان بسبب سياسات النظام السابق الحمقاء إنما تم من خلال جهود ضخمة بذلتها الحكومة والدبلوماسية العراقية بصبر كبير على الرغم من كل العوائق والشكوك».   وكان وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري قد صرَّح لقناة العربية عام 2013 قائلا: "خروج العراق من تحت الفصل السابع يوم تاريخي".   وقد تكرر هذا الإدعاء الأجوف على لسان ممثل العراق الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك محمد علي الحكيم الذي تحدث في 21/9/2013 لإذاعة مونت كارلو الدولية عن الأهمية التي إكتسبها خروج العراق من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. 
وأعاد المسؤولين في العراق حملة أخرى في هذا السياق عام 2015 أيضا، في حين إن أحداً لم ينتبه إلى إن القرار 2335 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بعد أكثر من سنة وفي اليوم قبل الأخير من عام 2016 وتحديدا بتاريخ 30 كانون الأول/ديسمبر 2016 قد أشار في ديباجته إلى إن المجلس إذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة).
وفي عام 2017 تكررت مرة أخرى إدعاءات المسؤولين في العراق بخروج العراق من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ادلى المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية أحمد محجوب ببيان صحفي بتاريخ 9 كانون الأول/ديسمبر 2017 بأنه " تم إنهاء ملفات العراق في مجلس الأمن، والموروثة من حقبة النظام السابق والصادرة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة". 
ومما يثير الإستغراب هو قيام رئيس العراق برهم صالح بتاريخ 11/11/2018 بتسليم الكويت دفعة من الممتلكات والأرشيف الكويتية الموجودة في خزائن وزارة الخارجية العراقية، مشيرا إلى أنه سيتم تسليم بقية تلك الممتلكات على دفعات لاحقة ومتتابعة. وقال صالح في تصريحات لصحيفة “الراي” الكويتية، إن زيارته “ستشهد تسليم دفعة من الممتلكات والأرشيف الكويتية الموجودة في خزائن وزارة الخارجية العراقية، على أن يتم تسليم بقية تلك الممتلكات على دفعات لاحقة ومتتابعة، كجزء من بادرة حسن النية لدى العراق تجاه دولة وشعب الكويت الشقيق. في حين أن الأمم المتحدة قد أغلقت ملف الممتلكات الكويتية، ولا أدري هل هي خطوة تصحيحية لاحقة أم مجاملة مبالغ فيها؟
وعلى ما يبدو أن حكومات العراق المتعاقبة والمسؤولين فيها يفتقرون للثقافة القانونية ويجهلون القانون الدولي تماما، وفي سعيهم للتظاهر بتحقيق إنجاز معين فإنهم يتصورون أن صدور أي قرار من مجلس الأمن يتضمن إشارة إلى إستكمال أحد طلبات الأمم المتحدة فإن ذلك يعني خروج العراق تماما من أحكام الفصل السابع من الميثاق، ويسارعون إلى الإعلان عن ذلك كأحد أهم إنجازات الحكومة في تحقيق الرفاهية والحياة الكريمة لشعبها وفي الحفاظ على سيادة العراق. وشخصياً، وكان الإستغراب يتملكني كل صباح عندما أذهب إلى عملي في وزارة الخارجية ماراً بجسر الجمهورية حيث هناك لافتة طولية معلقة على بناية المطعم التركي تتضمن إنجازات رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وفي مقدمتها إخراج العراق من الفصل السابع من الميثاق. لا بل أقام العراق -كما أسلفنا- في حزيران 2013 إحتفالية كبرى بمناسبة خروج العراق من الفصل السابع من الميثاق، بينما أصدر مجلس الأمن الدولي بعد أكثر من ثلاث سنوات، قراره المرقم 2335 في 30 كانون الأول/ديسمبر 2016، استناداً إلى الفصل السابع من الميثاق.
مما يؤكد إن كل تلك الإدعاءات كانت غير صحيحة. وكما وصف أحد الدبلوماسيين في الأمم المتحدة تلك الحالة بقوله: أن المسؤولين في العراق يرقصون قبل بدء الموسيقى.
إن الحالات التي ما زالت تحت أحكام الفصل السابع من الميثاق، هي:
أ‌-   الأسلحة
فقد جرى فرض إجراءات الحظر على السلاح إلى العراق بموجب القرار 687 (1991). ورأينا كيف إن مجلس الأمن قد إستثنى تدابير حظر الأسلحة عندما قرر رفع الحظر الاقتصادي عن العراق في 22/5/2003، ويتعين على جميع الدول منع بيع الأسلحة والمعدات ذات الصلة للعراق أو تزويده بها. وقد جرى تأكيد ذلك في الفقرة 22 من القرار 1546 (2004)، وأشار المجلس إلى أنه لا يوجد في الفقرة السابقة ما يمس الحظر المفروض على الدول أو التزاماتها فيما يتعلق بالبنود المحددة في الفقرة 8 (الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والقذائف التسيارية التي يفوق مداها 150 كيلومترا) والفقرة 12 (الأسلحة النووية) من القرار 687 (1991) أو الأنشطة الوارد وصفها في الفقرة 3 (و) (الأنشطة النووية) من القرار 707 (1991). وكانت الفقرة 10 من قرار مجلس الأمن 1483 في 22 أيار/مايو 2003 قد نصت على إستثناء حظر السلاح للعراق منه إجراءات رفع الحظر بقولها: إلا تسري بعد ألان جميع تدابير الحظر المتصلة بالتجارة مع العراق وبتقديم الموارد المالية أو الاقتصادية للعراق، والمفروضة بموجب القرار 661 (1990) ... وذلك باستثناء تدابير الحظر المتصلة ببيع الأسلحة والأعتدة ذات الصلة أو تزويده بها. ومن المعروف أن إجراءات حظر الأسلحة إلى العراق قد جرى إتخاذها إستناداً للفصل السابع من الميثاق بالقرارات ذات الصلة.
ب‌-   التعويضات الكويتية
ما زال ملف التعويضات العراقية للكويت مفتوحا ولم يجري غلقه، على الرغم من إن المبلغ المتبقي من إجمالي التعويضات هو 4.1 مليار دولار أميركي. وما زالت حكومة العراق مستمرة بدفع أقساط التعويض بمعدل 300 مليون دولار كل 3 أشهر، كما جرى تفصيله سابقا. 
ج‌-   المفقودون الكويتيون
خلال عامي 1990 و1991، وقع 605 من الكويتيين ورعايا الدول الأخرى قيد الأسر لدى القوات العراقية، وبقي مصيرهم مجهولاً حتى عام 2004 حين جرى التعرف على بقايا 236 من جثث هؤلاء، ولم يحصل أي تقدم منذ لك الحين تجاه المفقودين الـ 369 الآخرين. وتتولى لجنة ثلاثية برئاسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالإضافة على العراق والكويت إجتماعاتها الدورية بصدد هذه المسألة، رغم عدم إحراز أي تقدم يذكر. وقد أشار ممثل الكويت في الإحاطة الأخيرة لممثلة الأمين العام في العراق السيدة بلاسخارت بتاريخ 21/5/2019 بأن المعلومات المتعلقة بمئات المفقودين الكويتيين لا تزال غير كافية. وإنه لم يتم إسترداد أي رفات منذ عام 2004.
ح‌-   تجميد الأصول المالية للنظام السابق
شكّلت لجنة مجلس الأمن المنشأة عملا بالقرار 1518 (2003) في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2003، باعتبارها الهيئة الخلف للجنة مجلس الأمن المنشأة عملا بالقرار 661 (1990) بشأن العراق والكويت. وتنفذ الدول عمليات تجميد الأصول وتدابير النقل في ما يتعلق بالأفراد والكيانات من المدرجين في قائمة الأفراد المنشأة عملا بالقرار 1483 (2003) في 30 آيار/مايو 2003 أو قائمة الكيانات المنشأة عملا بالقرار ذاته. وتحتفظ اللجنة بالقائمتين المذكورتين وتعمل على استكمالهما بشكل منتظم. تتألف اللجنة من جميع أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر وتتخذ قرارتها بتوافق الآراء. والرئيسة الحالية للجنة، للفترة المنتهية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019، هي سعادة السيدة يوانا فرونيتسكا (بولندا). ونائب الرئيسة لعام 2019 هو إندونيسيا. وتعد اللجنة تقارير سنوية عن أنشطتها.
وأنشئت اللجنة من أجل مواصلة تحديد كبار مسؤولي النظام العراقي السابق وأفراد عائلاتهم الأقربين، بما في ذلك الكيانات التي يملكونها أو يسيطرون عليها هم أو أشخاص يعملون نيابة عنهم، من الخاضعين للتدابير المفروضة بموجب الفقرة 23 من القرار 1483 (2003). وتحقيقا لتلك الغاية، تعمل اللجنة على استكمال القوائم التي تضم أفرادا وكيانات ممن سبق أن حددتهم اللجنة المنشأة عملا بالقرار 661 (1990).
وقرر مجلس الأمن أيضا، في القرار 1518 (2003)، إبقاء ولاية اللجنة قيد الاستعراض والنظر في إمكانية الإذن بتكليفها بالمهمة الإضافية المتمثلة في مراقبة مدى وفاء الدول الأعضاء بالتزاماتها المنصوص عليها في الفقرة 10 من القرار 1483 (2003).
ومن المعروف أن القرارين 1483 (2003) و 1518 (2003) قد صدرا بموجب الفصل السابع من الميثاق. وما زالت قائمة الأفراد والكيانات المشمولة بالقرار الأخير في أعلاه موجودة على موقع الأمم المتحدة، وتحتوي قائمة الجزاءات في الوقت الراهن على أسماء 86 فردا و 108 كيانا. وقد تم تنقيح واستكمال قائمة الأفراد في 14 أيار/مايو 2019. ولم تقم الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2003 على إجراء أي تعديل عليها، على الرغم إنها ما زالت قوائم الأفراد تتضمن أسماء أشخاص متوفين بشكل مؤكد منذ أكثر من 17 عاما، مثل إبنّي الرئيس الراحل صدام حسين (عدي وقصي)، وكذلك تتضمن قائمة الكيانات المحظورة أسماء عدد من الكيانات المنحلة والتي لم يعد لها وجود منذ 17 عاما، وعلى سبيل المثال هيئة التصنيع العسكري.
-   خاتمة
إن المجتمع الدولي ما زال ينظر إلى حكومات العراق بعد عام 2003 على إنها حكومات ضعيفة وغير شرعية وإن سيادة العراق منقوصة في ظل هذه الحكومات غير الحريصة على مصالح العراق، ولو كان المجتمع الدولي والأمم المتحدة مقتنعاً بأداء حكومات العراق المتعاقبة منذ 2003 وحتى 2019 لما كانت الأمم المتحدة تراقبه وتصدر قراراتها المتضمنة توصياتها بحقه حتى اليوم، ولما كانت هناك من حاجة لوجود بعثة الأمم المتحدة في العراق أصلاً.
ومن جانب آخر، فإن الكويت ما زالت تقف موقفاً متصلباً من هذه المسألة تحديداً، فقد "صرح محمد عبد الله أبو الحسن مبعوث أمير الكويت إلى موسكو الذي نقل رسالة من رئيس الوزراء الكويتي إلى نظيره الروسي، إن مضمون الرسالة يتألف من شقين يتعلق أحدهما بالعلاقات الثنائية، في حين يتعلق الثاني برؤية الكويت لطلب العراق من الأمم المتحدة بالخروج من الفصل السابع وفقا للقرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي تحت بند الحالة بين الكويت والعراق.
وأكد أبو الحسن عدم جواز أن تقوم أي دولة صدرت بحقها قرارات دولية أن تنفذ ما تريد وتتجاهل ما تريد موضحاً أن هذه القرارات تشكل حزمة متكاملة. وشدد على أن الخروج من الفصل السابع الذي يسعى العراق إليه لن يجوز أن يأتي إلا بعد الالتزام بالتنفيذ الكامل للقرارات الدولية وبإقرار من قبل منظمة الأمم المتحدة وليس الكويت أو العراق". 
إن خروج العراق من أحكام الفصل السابع بشكل كامل ونهائي إنما هو مرهون بتوفر طبقة سياسية وطنية تمتلك إرادتها بمعزل عن التأثيرات الدولية، وتسترشد بأحكام وقواعد ومبادئ القانون الدولي، وتحتفظ بسيادة العراق ووحدته وإستقلاله. نتمنى أن نشهد حقا خروج العراق من تحث طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة قريبا، ليعود إلى مكانته المتميزة في المجتمع الدولي قبل الثاني من آب/أغسطس 1990.


د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي – دبلوماسي سابق
كاليفورنيا في 11 حزيران 2019


المصادر/
1.   ميثاق الأمم المتحدة.
2.   قرارات الأمم المتحدة بصدد الحالة بين العراق والكويت.
3.   قائمة جزاءات لجنة 1518، موقع الأمم المتحدة، الرابط: https://www.un.org/securitycouncil/ar/sanctions/1518/materials 

12

نظرة على قرار مجلس الأمن الأخير حول العراق
(دراسة قانونية)

د. رياض السندي
أثيرت الكثير من التفسيرات والأقاويل حول قرار مجلس الأمن الأخير بصدد الحالة في العراق، ومن أجل بيان الرأي القانوني بهذه المسألة بعيداً عن تأثيرات الحكومة وعواطف الشعب، من أجل توضيح الحقائق والملابسات التي إكتنفت هذا الموضوع الحساس والذي يمسُ بحقوق العراقيين جميعا. 
فقد أصدر مجلس الأمن قرار الأخير في الحالة في العراق والمرقم 2470 الصادر 21 أيار/مايو 2019 بعد الإحاطة التي قدمتها ممثلة الأمين العام في العراق السيدة جينين هينيس-بلاسخارت التي أشارت في تقريرها إلى عدد من الحقائق في العراق، وهي:
1.   إن الصراع السياسي المستمر يشكل عقبة أمام التقدم في العراق.
2.   إن الفساد لا يزال متفشياً على جميع المستويات.
3.   أنه وبعد مرور عام كامل على الانتخابات الوطنية لم يتم بعد إستكمال التعيينات الوزارية للمناصب الرئيسية، بما في ذلك الداخلية والدفاع والعدل والتعليم.
4.   إنه وبعد أشهر من المفاوضات، تم التوصل مؤخراً إلى إتفاق بشأن تشكيل حكومة إقليم كردستان الجديدة التي قد تكون قائمة في حزيران/يونيو.
5.   تأخر إختيار الرؤساء والنواب المقررين للجان البرلمانية.
6.   تواصل الجهات الفاعلة المسلحة التي تعمل خارج سيطرة الدولة في ممارسة النفوذ الاقتصادي والإجتماعي في جميع أنحاء البلاد.
7.   إن المنطقة الخضراء، قريباً جداً لن تكون موجودة.

أما ملاحظاتها فكانت:
أ‌-   إن الفساد يعيق مصداقية العراق.
ب‌-   إن التشكيلة الوزارية تخلو من أي امرأة في منصب وزير.
ت‌-   إن التشكيلة الوزارية تخلو من أي وزير من الأقليات.
ث‌-   إن القوانين لا تزال معلقة بسبب تأخر اللجان البرلمانية.
ج‌-   إن نقص المياه في أنحاء البلاد يضعف سلطة الدولة ويقود على إشعال الإضطرابات الاجتماعية، كما رأينا خلال احتجاجات عام 2018 في الجنوب.
ولا يقدم قرار مجلس الأمن المذكور صورة واضحة عن الأوضاع في العراق، لأن القرار عادة ما يكون مختصرا ومصاغا بطريقة دقيقة من خلال لجنة الصياغة. ويمكن في هذا المجال الإستئناس بمحاضر جلسات مجلس الأمن التي تسلط الضوء بشكل أكبر فتبدو الصورة أوضح من خلال مناقشات وتعليقات مندوبي الدول الأعضاء في المجلس.
وبالرجوع إلى محضر اجتماع مجلس الأمن ليوم 21 أيار/مايو 2019 بالوثيقة (SC/13819) يمكن إستعراض مواقف الدول الأعضاء الدائمة وغير الدائمة في المجلس بإختصار، وكما يلي:
-   مندوب الولايات المتحدة: نشدد على أهمية ملء الشواغر في مجلس الوزراء، وإستعادة الخدمات الأساسية.
-   مندوب الإتحاد الروسي: نحذر من التحركات الرامية إلى جر العراق إلى صراع مصطنع.
-   مندوب فرنسا: يجب أن تستمر الأليات الأيجابية، بما في ذلك مكافحة الحكومة للفساد.
-   مندوب بريطانيا: يجب أن يكون التركيز على عدم عودة ظهور الظروف التي أدت إلى داعش. وإن المساءلة مهمة.
-   مندوب ألمانيا: يجب أن تظل مكافحة الفساد على رأس جدول أعمال الحكومة، ونواصل التأكيد على الحاجة إلى إشراك المرأة في الحكومة. ونؤكد على الحاجة إلى إصلاح القطاع القضائي.
-   مندوب الكويت: نشاطر الأمين العام الأسف لأن المعلومات المتعلقة بمئات المفقودين الكويتيين لا تزال غير كافية. وإنه لم يتم إسترداد أي رفات منذ عام 2004.
-   مندوب غينيا الإستوائية: نؤكد أنه لكي تكون عملية تشكيل الحكومة أكثر فاعلية يجب أن تضم النساء وممثلي الأقليات.
-   مندوب بولندا: يجب على السلطات تقديم الخدمات العامة والأساسية وتلبية غحتياجات جميع العراقيين. والإكمال السريع لعملية تشكيل الحكومة.
وأخيرا، قال مندوب العراق الذي سمح له بحضور الجلسة بإعتبار العراق دولة معنية بموضوع الإجتماع لكونها دولة غير عضوة بالمجلس: إنه على الرغم من التشكيل غير الكامل للحكومة، إلا إنه يمكن للسلطات تنفيذ برنامجها والحفاظ على المكاسب للشعب العراقي والمضي قدماً في غعادة الإعمار، مؤكداً إن العلاقة بين بغداد وأربيل اليوم هي أفضل ما كانت عليه. وإن قوات الأمن في العاصمة تقترب من فتح جميع الطرق التي كانت مغلقة منذ 2003. وإن عدد النازحين قد إنخفض من 4.5 مليون إلى 1.8 مليون شخص. وعلى الرغم من هزيمة داعش، فإن التهديد الذي تشكله الجماعة لم ينتهي بعد. وإن رئيس الوزراء سيزور الكويت غداً، وإن العراق ملتزم بحل أي قضايا عالقة.
وفي ختام الجلسة إعتمد مجلس الأمن بالإجماع قراره المرقم 2470 الذي تضمن مايلي:
1.   تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق حتى 31 أيار/مايو 2020.
2.   أن يقوم الممثل الخاص للأمين العام بما يلي:
(أ‌)   اعطاء الأولوية لتقديم المشورة والدعم والمساعدة إلى العراق، حكومة وشعباً، بشأن تعزير الحوار السياسي الشامل.
(ب‌)    تقديم المزيد من المشورة والدعم والمساعدة إلى:
(1)   حكومة العراق والمفوضية المستقلة للإنتخابات بشأن وضع الإجراءات اللازمة لعقد الإنتخابات والإستفتاءات. (ربما يقصد بالإستفتاءات الإشارة إلى إستفتاء إقليم كردستان لعام 2017).
(2)   حكومة العراق ومجلس النواب بشأن مراجعة الدستور وتنفيذ الأحكام الدستورية، وكذلك بشأن وضع الإجراءات التي تقبل بها حكومة العراق من أجل تسوية مسألة الحدود الداخلية المتنازع عليها. (وهذه إشارة إلى تطبيع الأوضاع في كركوك وفقا للمادة 140 من الدستور).
(3)   حكومة العراق من اجل إحراز تقدم في جهود إصلاح قطاع الأمن، بسبل منها منح الأولوية لتخطيط وتمويل وتنفيذ برامج إعادة إدماج الأعضاء السابقين في الجماعات المسلحة حيثما كان ذلك مناسباً.
(4)   حكومة العراق بشأن مسائل أمن الحدود والطاقة والبيئة والمياه واللاجئين.
           (ج) العمل على تعزيز ودعم ما يلي:
1.   تنسيق المساعدات الإنسانية وإيصالها وعودة اللاجئين والمشردين أو دمجهم محليا.
2.   تحسين قدرات العراق لتوفير خدمات مدنية وإجتماعية بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم.
3.   مساعدة الجهود التي يبذلها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مجال الإصلاح الاقتصادي وبناء القدرات لتحقيق التنمية المستدامة وإعادة الإعمار.
(د) تعزيز المساءلة وحماية حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والقانوني.
(ه) كفالة مشاركة النساء وإنخراطهن وتمثيلهن على جميع المستويات.
(و) تعزيز حماية الطفل.
ثم يقرر المجلس في فقرة الختامية للقرار على (أن يبقي المسألة قيد نظره). مما يدل على أن الحالة في العراق ما زالت تحت مراقبة المجلس.

وبهذا الصدد فقد ذهب الكثير من العراقيين في تفسيراتهم لهذا القرار إلى إن ذلك يعيد العراق إلى أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والتي عانى منها منذ دخول القوات العراقية إلى مدينة الكويت في 2 آب/أغسطس 1990. والحقيقة، وإستنادا إلى قرارات مجلس الأمن بصدد الحالة بين العراق والكويت، أو الحالة في العراق، فإن العراق لم يخرج تماما من طائلة الفصل السابع من الميثاق حتى الآن، على الرغم من كل الإدعاءات الحكومية وتصريحات المسؤولين في العراق بذلك، والتي تفتقر إلى الدقة وتحييد عن الصواب وتنم عن جهل بالقانون الدولي، وهي مجرد إدعاءات للإستهلاك المحلي وتدخل في باب الخداع السياسي والمزايدات الحزبية. وعلى الحكومة في العراق العمل بشكل أفضل لإعادة العراق إلى وضعه الدولي ما قبل ذلك التاريخ، وإستعادة سيادته ومكانته في المجتمع الدولي.
وهذا ما نتمناه قريباً.

د. رياض السندي - كاليفورنيا في 9 حزيران 2019

13
الرأي القانوني في إقالة محافظ نينوى


إبتداءً يقتضي القول إن إقتراح رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بإقالة محافظ نينوى نوفل العاكوب لا علاقة له بمأساة (حادث العبّارة) التي وقعت يوم ٢١/٣/٢٠١٩، فكتاب اقتراح مجلس الوزراء المرقم م. ر. و./د 6/3/4069المؤرخ في ٢٣/٣/٢٠١٩ يتضمن إتهام المحافظ المذكور بالتسبب بهدر المال العام والاستغلال الوظيفي، ولو كان قرار إحالته للإقالة قد تم وفقا لتهمة (الإهمال أو التقصير المتعمدين في أداء الواجب والمسؤولية.)، لكان الأمر يبدو رداً على تقصيره في الحفاظ على أرواح ضحايا الحادث. ومن هنا يبدو الضعف القانوني لدى رئيس الوزراء وطاقم مكتبه ومستشاريه القانونيين.  علما إن التهمة المشار اليها بكتاب مجلس الوزراء أعلاه، تضع رئيس الوزراء نفسه تحت طائلة الإتهام في التستر على تصرفات المحافظ طيلة هذه الفترة، لا سيما وإنه سبق وان أثيرت حول المحافظ ضجة إهانته ومحاولة ضربه لأحد المعلمين، وقضايا أخرى كثيرة تمت تسويتها والتستر عليها، كما أثيرت حوله شبهات فساد كثيرة، وقد تم استدعائه إلى مكتب رئيس الوزراء نفسه الذي قابله بتاريخ ٢٦ تشرين الثاني ٢٠١٨، والتقى في اليوم ذاته بأعضاء مجلس المحافظة وبضمنهم المحافظ ذاته. كما سبق لرئيس الوزراء السابق حيدر العبادي إن إلتقاه أيضا في تموز 2018، ويبدو أن هذه اللقاءات ليست للمحاسبة الإدارية والتحقق من الأداء الوظيفي الأمثل، بل للمجاملة أو لأغراض أخرى.

ورغم تصريحات العديد من النواب وخاصة نواب محافظة نينوى، إلا إن رئيس الوزراء ظل متمسكا به حتى وقوع الكارثة ليتهمه ليس بحادثة العبارة كما أشارت وسائل الإعلام، نظرا لتزامنها مع الحادث، وإنما بالفساد الإداري والمالي، وهنا يضع رئيس الوزراء نفسه شريكا له في الجريمة ذاتها. كما أن إجراءات سحب يد المحافظ المذكور، أو تقليص صلاحياته قد طرحت قبل حادث العبارة بأربعة أيام، ولكن دون جدوى.

إن إقالة أي محافظ في العراق تستند إلى نصوص قانون المحافظات رقم 21 لسنة 2008، والأصل أن يُقال المحافظ من ثلثي أعضاء مجلس المحافظة، وهذا ما نصت عليه المادة 7 / ثامنا /1 على ما يلي:
ثامناً:
1ــ استجواب المحافظ أو أحد نائبيه بناءا على طلب ثلث أعضائه وعند عدم قناعة الأغلبية البسيطة بأجوبة المستجوب يعرض للتصويت على الإقالة في جلسة ثانية ويعتبر مقالا بموافقة الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس ويكون طلب الإقالة أو التوصية بها مستندا على أحد الأسباب الحصرية الآتية:
أ ـ عدم النزاهة أو استغلال المنصب الوظيفي.
ب ـ التسبب في هدر المال العام.
ج ـ فقدان أحد شروط العضوية.
د ـ الإهمال أو التقصير المتعمدين في أداء الواجب والمسؤولية.

وقد سعى المجلس أكثر من مرة لذلك، ولكن المحاصصة الحزبية والصراعات الطائفية حالت دون ذلك.

كما تنص المادة 7 الفقرة ثامنا / البند 2 على جواز أن تكون الإقالة بقرار من مجلس النواب، حيث نصت الفقرة المذكورة على ما يلي: " لمجلس النواب إقالة المحافظ بالأغلبية المطلقة بناءاً على اقتراح رئيس الوزراء لنفس الأسباب المذكورة أعلاه."

كما يجوز للمحافظ المذكور أن يقدم إستقالته من منصبه، وهذه تختلف عن الإقالة.
 
وهكذا نرى أن كل هذه التهم لا علاقة لها بمأساة نهر دجلة التي تسببت بغرق 187 شخصاً حسب بعض التقديرات.

أما ما يتطلبه قرار مجلس النواب لإقالة المحافظ المذكور فهو شرط تحقق الأغلبية المطلقة أي النصف + 1، وذلك يعني تصويت 165 عضوا من مجموع 329 نائب لإقالته. وهذا يخضع لمساومات الكتل السياسية الكبيرة والأحزاب السياسية الفاسدة، وفقا لموقفها من فساد المحافظ، واعتمادا على التعليمات الخارجية التي تفرض عليها من الدول ذات النفوذ السياسي في العراق وفِي مقدمتها إيران وتركيا وحتى الولايات المتحدة.

يضاف إلى كل هذا وذاك، إقتناص هذه الأحزاب الفاسدة للفرصة، والاصطياد في الماء العكر لترشيح أحد اتباعها، وطبعا هذا يخضع لسوق المزايدات المالية وليس الولاء الوطني قطعا، وقد صرّح النائب عبد الرحيم الشمري عن إن سعر منصب محافظ نينوى قد وصل في سوق المزايدات السياسية إلى 10 مليون دولار أمريكي. أن هذا يذكرنا ببيع منصب والي بغداد وبقية المناصب الأخرى أيام الدولة العثمانية قبل أكثر من قرن حيث كان يمنح لمن يدفع أكثر للخليفة العثماني، ومن البديهي أن يبدأ هذا الوالي عهده بالسرقة والرشوة وإبتزاز المواطنين وفِي مقدمتهم التجار، وهكذا. أما اليوم، فأن هذا المبلغ يذهب إلى إيران مباشرة لأنها تبحث عن أي مورد مالي للتخفيف من أثار العقوبات الاقتصادية الأمريكية عليها، ونظرًا لنفوذها الطاغي بعد تحرير الموصل من داعش عام 2017، وسيطرة الميليشيات الموالية لها على المحافظة، كما إن المكاتب الاقتصادية للأحزاب السياسية، وهي مكاتب متخصصة في إستحصال الأموال باي طريقة أو وسيلة سواء أكانت قانونية أو غير قانونية لغرض تمويل أحزابها ودعم إيران اقتصاديا، حتى لو أقتضى الأمر خطف المواطنين ومطالبة ذويهم بفدية كبيرة، حيث اصبح المواطن مجرد سلعة يمكن بيعها والمتاجرة بها، وهذا ما كانت تقوم هذه الأحزاب نفسها قبل أن تستلم السلطة، ويمكن في هذا المجال إستذكار حادثة إختطاف الصيادين القطرين في العراق ومطالبة قطر بفدية بلغت ٨٠٠ مليون دولار. وهذه التصرفات غير المشروعة هي ما زادت من معاناة المواطن في هذه المحافظة أضعافا مضاعفة، لا بل أن كثير من العوائل المتحرك منها والتي عادت إليها قبل سنة، اضطرت للمغادرة مرة أخرى نحو كردستان العراق، حيث الأمان.

واليوم يخضع موقف محافظ نينوى لعدة احتمالات منها:
1.  استقالة المحافظ ذاته.
2.  إقالة المحافظ بقرار من ثلثي أعضاء مجلس المحافظة.
3.  إقالة المحافظ بقرار من الأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان، وقد طرح الموضوع على جدول أعمال المجلس لهذا اليوم.
4.  هروب المحافظ، وهو أسلوب تمارسه الكتل السياسية بدفع من إيران، لتلافي فتح ملفات الفساد التي يكون الكثير منهم شركاء فيها، ولغرض عدم الإشارة لأسلوب منح المنصب أصلا بالرشوة أو المحاصصة، وعادة ما تقام ضدهم تهم كيدية وأخرى صحيحة، يشارك في ذلك، القضاء العراقي الذي أصبحت العديد من قراراته مثار شبهة، ومما يطعن في نزاهتها، ويثار الشك حولها عند إلغائها لاحقا، وربما بعد سنوات طويلة، ومن ذات القضاء الذي اتهمه، كما حدث مع القاضي رحيم العكيلي، مع إختلاف الدعوى ضد كل منهم. وهذا الأسلوب قد طبق بحق الكثيرين مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي وخميس الخنجر وغيرهم الكثير، مع إمكانية إسقاط كل التهم ضدهم وإعادتهم عند الحاجة إليهم.
5.  وهناك احتمال أخير، وهو أن يقدم المحافظ تنازلات جديدة لإيران، أو حتى أن يزور الولي الفقيه في إيران، ليصدر فتوى العفو عنه، ويرفقها بأوامره وتعليماته لأتباعه في العراق. كما حدث عن إتهام العديد من السياسيين وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب السابق سليم الجبوري عام 2015، عند إتهامه بالفساد من قبل وزير الدفاع آنذاك خالد العبيدي داخل مجلس النواب، فزار إيران وإلتقى المرشد الأعلى خامنئي وحصل على صك الغفران، وعاد للعراق، فنظر القضاء في قضيته وأصدر قراره بتبرئته في 17 دقيقة فقط.
وفي كل الأحول، فإن للمحافظ المقال أن يطعن بقرار الإقالة لدى محكمة القضاء الإداري خلال 15 يوماً من تاريخ تبلغه به، وتبت المحكمة بالطعن خلال 30 ثلاثين يوماً من تاريخ إستلامها الطعن، وعليه أن يقوم بتصريف أعمال المحافظة خلالها. وهذا ما نصّت عليه البند 5 من الفقرة ثامنا، من المادة 7 من قانون المحافظات المنافذ.

إن هذا هو الحال في العراق في الوقت الحاضر، للأسف الشديد، نتمنى زواله سريعا، وفِي ذات الوقت لا يسعني شخصياً إلا أن أقدم أصدق التعازي لأهالي ضحايا العبّارة تغمدهم الله برحمته، وألهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان.

الدكتور رياض السندي
دكتوراه في القانون
في صبيحة 24 آذار 2019



14
قوانين الجنسية في العراق وهواجس التعديل المقترح
د. رياض السندي
دكتوراه في القانون

-   مقدمة
أثيرت في الآونة الأخيرة حملة من الإنتقادات شنَّها ناشطون عراقيون على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والصحف ردَّا على مقترح البرلماني العراقي لتعديل قانون الجنسية العراقي النافذ رقم 26 لعام 2006، والذي صيغ أصلاً لإضفاء الشرعية على الحكومات التي جاءت مع الاحتلال الأمريكي للعراق منذ 2003 وحتى الآن، لا سيَّما وأن معظمهم يحملون جنسيات أجنبية مزدوجة أو متعددة.
ولغرض تسليط الضوء على هذا المقترح، فإنه يقتضي بحث الموضع من الناحية القانونية.

-   الأسس القانونية للجنسية
إبتداءً، تقوم الدولة على ثلاثة عناصر أساسية، هي: الإقليم، والشعب، والحكومة، ويضيف لها بعض الفقهاء القانونيون عنصراً أخر، وهو السيادة، بإعتبار أن لا قيمة لأي حكومة بدون سيادة، ولهذا يقال دولة ذات سيادة، واي إخلال بسيادة الدولة يجعلها دولة ناقصة السيادة، كما في حالة الدول الواقعة تحت الإستعمار أو الإنتداب في القرن الماضي والتي تحررت جميعها قبل نصف قرن. كما يجعل من تلك الحكومة ضعيفة وغير قادرة على إتخاذ قرارها بشكل مستقل بمعزل عن التأثيرات الداخلية والخارجية.
ويتم تحديد الشعب من خلال جنسية الدولة التي تبين أفراد شعبها الذين يخضعون لها ويتمتعون بالإمتيازات الممنوحة لهم، ويلتزمون بالإلتزامات المقررة عليهم.
فالجنسية هي أداة لتوزيع الأفراد في العالم، بحيث يمكن معرفة القانون الذي يخضع له الشخص في جميع تصرفاته، بمجرد معرفة جنسيته، سواء تلك التصرفات الصادرة عنه داخل دولة الجنسية أو في أي دولة أخرى في العالم.
وتعرف الجنسية بأنها: رابطة قانونية وسياسية ومعنوية (روحية)، تربط الفرد بدولته، وتنظم كل تصرفاته بموجبها. ووسيلة الإثبات فيها داخل نطاق الدولة هي وثيقة الجنسية (شهادة)، فيما تكون وسيلة الإثبات خارج نطاق الدولة إستنادا إلى وثيقة السفر (الجواز). وهذا يفسر لماذا يكون أول سؤال توجهه الشرطة وحتى المواطنين في أي بلد في العالم لأي شخص يصادفهم وهو: ما هي جنسيتك؟
ويمكن توضيح عناصر هذا التعريف في أن الشخص يخضع لقانون دولته، ومن خلال جنسيته تترتب عليه مجموعة من الحقوق، مثل التعيين في الوظائف العامة، والتي تشترط أولا أن يكون المتقدم لها حاصلا على الجنسية الوطنية، وكذلك التقدم للدراسات الجامعية والعليا، وغير ذلك. وفيما يخص العلاقة السياسية، فإنها تتضمن مجموعة من الحقوق السياسية، مثل ممارسة حق الإنتخاب والمشاركة في الانتخابات، وكذلك حق الترشح على المناصب السياسية، مثل الترشح لعضوية البرلمان، والمجالس المحلية الأخرى، وكذلك الإنضمام للأحزاب السياسية والجمعيات المختلفة أو تأسيسها، وأخيراً الإنضمام للنقابات المهنية، مثل نقابة الأطباء والمحامين والمهندسين وغيرها. أما الإلتزامات التي ترتبها الجنسية على الفرد، ففي مقدمتها أداء الخدمة العسكرية والدفاع عن الوطن في حالات الطوارئ، وإلتزامه بالقوانين الداخلية، وخضوعه للقضاء الوطني عن الجرائم التي يرتكبها داخل إقليم الدولة، وغالبا ما يحال الفرد لمحاكمته حتى عن الجرائم التي يرتكبها في الخارج لدولة الجنسية وفق قواعد وإتفاقيات تسليم المجرمين، بإستثناء حالات الإختصاص المكاني للجريمة، أو الإختصاص الشامل لقوانين العقوبات في كل بلد، وذلك في حالات معينة مثل الإرهاب وتزوير العملة للدولة التي يتواجد فيها، وما إلى ذلك من تفصيلات قانونية، لا مجال لسردها هنا.
وتختلف الجنسية عن التجنس، فالأولى حالة مقررة بموجب القانون وتدعى ب (الجنسية الأصلية) وهي التي يحصل عليها الشخص الطبيعي بقوة القانون دون حاجة إلى تقديم طلب أو موافقة الدولة وذلك لحظة ولادته، مثل المولود من أبوين عراقيين فإنه يعد عراقيا بالولادة. أما التجنس فهو حالة إختيارية يقوم بها الفرد بإختيار الجنسية التي يرغب بحملها وتسمى ب (الجنسية المكتسبة) وهي الجنسية اللاحقة أو الطارئة وتقوم على شرطين رئيسيين، هما : إرادة الشخص طالب التجنس وموافقة الدولة التي يرغب في اكتساب جنسيتها وغالباً ما يرتبط هذا الأمر بمصلحة الشخص طالب التجنس، وهي بمنزلة أدنى من الجنسية الأصلية، والتي عادة ما تمنح بناءً على طلب يقدمه الشخص طالب التجنس، ووفقا لشروط يحددها القانون، وبعد مدة معينة من الإقامة للتأكد من ولاءه وإنسجامه مع المجتمع الجديد، وهي عادة تكون بالسنوات، والأكثر شيوعا هي مدة الخمس سنوات، كما في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، وهي مدة عشر سنوات في القانون العراقي (وفق م 6 من قانون الجنسية النافذ). وأكثر المدد من هذا النوع هي في سويسرا لمدة 13 سنة، وفي دولة لايخشتنشتاين أطول مدة لمنح الجنسية للأجانب هي 25 سنة من الإقامة المتواصلة. وتختلف الجنسية المكتسبة عن الأصلية، في أن المكتسبة يجوز سحبها وعودة الشخص لجنسيته الأصلية، بينما الأصلية لا يجوز سحبها، لإن ذلك يخالف إلتزاما دوليا في عدم خلق حالة عديم الجنسية.
أما تفسير الرابطة المعنوية أو (الروحية) فذلك يعني الولاء لدولة الجنسية والشعور بها ومشاركتها الأفراح والمآسي، مثل تشجيع فريق كرة القدم الوطني، ومواساتها في حالات الكوارث والفيضانات والحرائق. والسؤال الأكثر رواجا في مقابلات منح الجنسية في أميركا وبعض الدول الغربية هو: إذا ما نشبت حرب بين بلد الجنسية وبلد دولتك الأصلية، فإلى جانب من تقف وتحارب؟ وبالتأكيد فإن الجميع يقول: سأقف إلى جانب البلد الجديد وأحارب بلدي الأصلي، لإنه بخلاف ذلك سيرفض طلبه في الحصول على الجنسية الجديدة. وهذا يفسر سبب عدم ولاء العراقيين الذي إكتسبوا الجنسية الأمريكية والبريطانية والفرنسية لبلدهم الأصلي العراق عند عودتهم إليه بعد عام 2003. ويمكن اليوم الإستدلال على ذلك اليوم بسهولة من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، وقد سبقت الولايات المتحدة جميع الدول، فقررت منذ بداية عام 2018 أن يبين المتقدم للجنسية صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي لتدقيقها والتثبت من ولاءه الروحي. ومن أعقد هذه الحالات ما وجدته شخصيا في سويسرا، حيث يطلب من الشخص المتقدم للجنسية معرفة إمكانية إعداد الأكلة الشعبية الأشهر فيها وهي الجبنة المطبوخة (الفوندو).
وسعت الأمم المتحدة منذ قيامها على ثلاثة مبادئ بهذا الصدد، تضمنتها المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، وهي: أن يكون لكل شخص جنسية ما، لأنه بخلاف ذلك يكون عديم الجنسية، ويجب أن تكون جنسية واحدة لا متعددة، لأنه في هذه الحالة نكون أمام مزدوجي الجنسية أو متعددي الجنسية. إلا أن هذا المبدأ قد إنتهك بداية من الولايات المتحدة الأمريكية التي تسمح للشخص بالإحتفاظ بجنسيته السابقة، إضافة للجنسية الأمريكية. وثانيا، جواز تغيير الشخص لجنسيته بالتخلي عنها وعودته إليها. وأخيرا، عدم حرمان الشخص من جنسيته، إي إسقاطها، كما كان يجري سابقا بحق المعارضين السياسيين فتم إسقاط الجنسية عن بعض الأشوريين عام 1933 وعن اليهود عام 1950. وكذلك عن بعض المعارضين السياسيين.
وعلى الرغم من أن الدولة حرة في إختيار مواطنيها، فأن الفقه القانوني الدولي قد حدد أسس منح الجنسية لأي دولة في العالم، وبعض الدول قد تجمع بينهما، وهما:
1.   رابطة الدم.
2.   رابطة الإقليم.
ويمكن توضيح هذين الأساسين بشكل مبسط، وهو أن حق الدم يستند إلى منح الجنسية إستنادا لجنسية الوالدين أو أحدهما. وهذا ما أخذت به جميع قوانين الجنسية في العراق. ومعظم دول العالم تعتمد هذا الأساس لمنح جنسيتها للحفاظ على قومياتها الوطنية، وللحفاظ على اللحمة الوطني وإنسجامها المجتمع، وخشية من ذوبان العنصر الوطني الأصيل نتيجة لإزياد العنصر الأجنبي أو المكتسب، وهذا يبرر قرار جميع دول الجامعة العربية في عدم منح الفلسطينيين جنسية أي دولة عربية مهما طالت مدة إقامتهم فيها، تجنبا لذوبان الشعب الفلسطيني.
 وكما أسلفنا، فإن الدول لا تمنح جنسيتها للمقيمين على أراضيها إلا بعد فترة طويلة، تجرى فيها عدة إختبارات وتوضع فيها شروط معقولة مثل دخول البلد بصورة مشروعة ومن المنافذ الحدودية والمطارات الدولية، وأن يكون خاليا من الأمراض الإنتقالية كما في العراق، وبعضها صعبة مثل تعلم اللغة وأداء الإمتحان فيها كما في أميركا وفرنسا وغيرها، وكذلك عدم إرتكاب جرائم ومخالفات طيلة فترة الإقامة. وكانت سويسرا من أعقد الدول في هذا المجال، حيث كانت تراقب المقيم طالب الجنسية وتمنع تجنسه إذا إرتكب مخالفات مرورية بسيطة، مثل العبور من غير المناطق المخصصة لها، أو قيادة السيارة بسرعة، وهكذا. لذا تتميز رابطة الجنسية بأنها تقوم على الشعور الوطني.
أما رابطة الإقليم فتستند إلى حق الإقامة على إقليم الدولة أو ما يعرف برابطة التوطن. وهذا ما تأخذ به بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا. وهو أساس منح الجنسية للدول الحديثة والتي يكون إقليمها واسعا، وأحيانا بحجم قارة بأكملها مثل أميركا وأستراليا وغيرها. وهي غالبا لا تتكون من قومية واحدة متجانسة، ويشكل المهاجرين إليها نسبة كبيرة من أبناء شعبها. وهكذا يمنح المولود جنسية الدولة بمجرد الولادة على إقليمها، حتى لو تمت الولادة على متن طائرة محلقة فوق إقليم الدولة أو باخرة في مياهها الإقليمية.

-   قوانين الجنسية في العراق
 وفي العراق، فإن المشرع العراقي وفي كل قوانين الجنسية الأربعة وتعديلاتها قد أخذ برابطة الدم بإستثناء جنسية التأسيس، والجنسية الممنوحة للعرب والتي إعتمدت على حق الإقليم لتحديد مفهوم الشعب، وهذه القوانين هي:
1.   قانون الجنسية في العراق رقم 42 لسنة 1924.
2.   قانون الجنسية في العراق رقم 43 لسنة 1963.
3.   قانون منح الجنسية العراقية للعرب رقم 5 لسنة 1975.
4.   قانون الجنسية في العراق رقم 26 لسنة 2006.
 وعند تأسيس دولة العراق الحديث عام 1921 إعتمد أول قانون للجنسية في العراق، وهو قانون رقم 42 لسنة 1924 والصادر في 6/8/1924 على أساس حق الإقليم إمتثالا لنصوص معاهدة لوزان (30-36) التي حددت الدول الجديدة التي إنسلخت عن الدولة العثمانية وإستقلت حديثا لتحديد شعبها، فنصت المادة الثالثة من قانون الجنسية على أن " كل من كان في اليوم السادس من آب 1924 من الجنسية العثمانية وساكنا في العراق، تزول عنه الجنسية العثمانية ويٌعد حائزا الجنسية العراقية إبتداءً من التاريخ المذكور". ولهذا ما زالت الكثير من شهادات الجنسية فيي العراق تشير على جنسية الأب أو الجد بعبارة (تبعية عثمانية).
وبإستثناء جنسية التأسيس فقد أخذ القانون بحق الدم لمنح الجنسية العراقية، بعد أن أسس لجنسيته الجديدة، فنصّت المادة الثامنة منه على أن، يعتبر عراقيا:
(أ‌)   كل من كان له حين ولادته بصرف النظر عن محلها، والد عراقي بعلة تولده في العراق أو إكتسابه الجنسية العراقية بطريق التجنس أو بالطرق المبينة في المادة الثالثة والرابعة والخامسة.
(ب‌)   كل من وُلِد في العراق وبلغ سن الرشد إن كان والده مولودا في العراق وكان مقيما به عادة حين   ولادة أبنه.
ومنذ ذلك التاريخ شاعت عبارة أن (أبن العراقي عراقيا) وهي دلالة على رابطة الدم والنسب، وجنسيته أصلية.
أما حالة التجنس أو (الجنسية المكتسبة) فقد حددت المادة العاشرة منه على ما يلي:
"من تمت فيه الشروط الآتية من غير القاصرين له أن يطلب شهادة تجنس بالجنسية العراقية بالكيفية الآتي بيانها:
(أ‌)   أن يكون بعد بلوغه سن الرشد قد جعل محل إقامته المعتاد في العراق لمدة ثلاث سنوات مضت قبل طلبه مباشرة.
(ب‌)   أن يكون حسن الأخلاق.
(ج) أن يعتمد الإقامة بالعراق.
وهكذا نجد أن مدة التجنس في العهد الملكي هي الإقامة لمدة (3 سنوات)، ومبرر ذلك أن العراق أعلن دولة ذات سيادة في عام 1921، وصدر قانون الجنسية عام 1924، إي أن القانون إشترط الإقامة منذ قيام دولة العراق، وما يليها.
وبعد قرابة 40 عاما صدر القانون الثاني للجنسية في العراق وهو قانون رقم 43 لسنة 1963، وإستند إلى رابطة الدم في منح الجنسية العراقية، حيث نصّت المادة 4 منه على أن: -
"يعتبر عراقيا:
1 – من ولد في العراق أو خارجه لأب متمتع بالجنسية العراقية.
2 – من ولد في العراق من أم عراقية وأب مجهول أو لا جنسية له.
3 – من ولد في العراق من والدين مجهولين ويعتبر اللقيط الذي يعثر عليه في العراق مولودا فيه ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك."
هذا فيما يخص الجنسية الأصلية، أما الجنسية المكتسبة فقد حددت المادة مادة 8 منه شروط ذلك، وكما يلي: -
"للوزير أن يقبل تجنس الأجنبي بالجنسية العراقية بالشروط التالية: –
1 – أن يكون بالغا سن الرشد.
2 – دخل العراق بصورة مشروعة ومقيما فيه عند تقديم طلب التجنس.
3 – أقام في العراق بصورة مشروعة مدة عشر سنوات متتاليات على الأقل سابقة على تقديم طلب التجنس.
4 – أن يكون حسن السلوك والسمعة ولم يحكم عليه بجناية أو جنحة مخلة بالشرف.
5 – أن تكون له وسيلة جلية للتعيش.
6 – أن يكون ملما باللغة العربية أو أية لغة محلية معترف بها قانونا.
7 – أن يكون سالما من الأمراض والعاهات الجسمية والعقلية."
ونجد أن القانون قد رفع مدة الإقامة من 3 سنوات في العهد الملكي إلى 10 سنوات في العهد الجمهوري. 

أما قانون منح الجنسية العراقية للعرب رقم 4 لسنة 1975 والصادر في 11/1/1975، فلا يثير أي مشكلة لإنه يتضمن مادة واحدة موضوعية إلى جانب مادة النشر الشكلية. وكان من الأفضل إضافة هذه المادة اليتيمة إلى قانون الجنسية في صيغة تعديل. وتتضمن المادة 1 منه على ما يأتي:
"يجوز لوزير الداخلية منح الجنسية العراقية لكل عربي يطلبها، إذا كان قد بلغ سن الرشد، وكان حسن السلوك والسمعة، دون التقيد بشروط التجنس الواردة في الفقرة (1) من المادة الثامنة من قانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963 المعدل، ويستثنى من ذلك الفلسطينيون ما لم يصدر قانون أو قرار تشريعي خاص بخلاف ذلك."
ولا تحتاج هذه المادة لشرح أو تفسير، فالأسباب الموجبة لصدوره كافية تماما لتوضيح الغرض منه، وهو بناء أسس الوحدة العربية، كما جاء في خاتمته: "بالنظر إلى إن قانون الجنسية العراقية وتعديلاته لم يول منح الجنسية العراقية للعرب الأهمية الملائمة له ولم يؤكد الدور الذي يضطلع به العراق في مجال السياسة القومية في الوطن العربي، وحيث إن التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب القائد لنظام الحكم في القطر العراقي كان قد أكد على أهمية هذا الدور في توثيق الصلات مع الأخوة العرب في أقطارهم المختلفة، وبناء الأسس الموضوعية لقيام الوحدة بين الشعب العربي في جميع أقطاره لإزالة الحدود المصطنعة التي اقتلعها المستعمر.
من اجل ذلك. وكخطوة أولى على هذا الطريق، صدر هذا القانون المتعلق بمنح الجنسية العراقية للعرب، على أن يستثنى من ذلك المواطنون الفلسطينيون ما لم يصدر قانون أو قرار تشريعي خاص بخلاف ذلك."
وهذا القانون الملغي كان يتعارض مع قرارات جامعة الدول العربية التي تقضي اتفاقية الجنسية المعقودة بين دول الجامعة العربية لسنة 1954، في مادتها السادسة على أن: (لا يُقبل تجنس أحد رعايا دول الجامعة العربية بجنسية دولة أخرى من دول الجامعة إلا بعد موافقة حكومته وتزول عنه جنسيته السابقة بعد اكتسابه الجنسية الجديدة).
 ولا يشكل هذا القانون اليوم أية أهمية تذكر عند دراسة قوانين الجنسية في العراق، سوى على الصعيد الأكاديمي.

وبعد 43 عاماً أخرى، صدر قانون الجنسية المرقم 26 لسنة 2006 الصادر من 7/3/2006، وقد أعتمد القانون أسساً جديدة للجنسية تختلف عن القانونين السابقين في العهد الملكي والجمهوري، ويمكن تسمية القانون الجديد بقانون عهد الاحتلال. وقد راعى القانون الجديد حالة دخول العراق عدد من الأجانب أو حاملي جنسيات أجنبية من أصول عراقية. كما راعى القانون أيضا حالة أعادة الجنسية لمن سحبت عنهم في ظل النظام السابق، مثل العراقيين من أصول إيرانية، والكرد الفيليين الذي سحبت عنهم الجنسية العراقية عشية الحرب العراقية-الإيرانية عام 1980 والتي إستمرت لثمان سنوات. بالإضافة إلى تسهيل حالة التجنس، بعد دخول الكثير من الإيرانيين للعراق دون تأشيرة دخول، وخاصة في مواسم الشيعة الدينية لزيارة العتبات والأضرحة في العراق والإقامة فيه بشكل غير شرعي، بعد أن أصبح الحكم بيد الطائفة والأحزاب الشيعية في الأساس.
وإذا كان القانونين السابقين قد إعتمدا حق الدم في منح الجنسية العراقية، فإن القانون الجديد قد إعتمد حقي الدم والإقليم لمنح الجنسية العراقية.
فقد نصت المادة 3منه على أن:
"يعتبر عراقياً:
أ-من ولد لأب عراقي أو لام عراقية.
ب-من ولد في العراق من أبوين مجهولين ويعتبر اللقيط الذي يعثر عليه في العراق مولوداً فيه ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك."
ولا نجد ضرورة لمنح الجنسية إستنادا إلى حالة الأم بهذا الشكل المطلق، في حالة كون الأب معلوماً ويحمل جنسية معينة، لأن المولود عادة ما يتبع الأب، بل إن حتى الزوجة تتبع زوجها وليس العكس. كما إن منح الجنسية إستنادا إلى حق الدم للمولود من عراقية وأب مجهول طالما تمت الولادة في العراق، يعتمد أساسا حق الدم المعزز بحق الإقليم، فالمولود يعدُ عراقيا إذا ولد من أب أو أم كان أحدهما عراقي الجنسية، ولم يحصل على جنسية أخرى بسبب مجهولية الأب أو لكونه عديم الجنسية، ولكن إذا كان الأب معروفا ويحمل جنسية معينة، فإن فرض الجنسية العراقية عليه إستنادا لجنسية الأم، قد يخلق حالة إزدواج الجنسية إذا ما إكتسب الطفل جنسية الأب والأم معا.  مما يقود إلى حالة تنازع القوانين بينهما. وهذا ما عالجته المادة 4 من القانون بقولها:
"للوزير أن يعتبر من ولد خارج العراق من أم عراقية وأب مجهول أو لا جنسية له عراقي الجنسية إذا اختارها خلال سنة من تاريخ بلوغه سن الرشد إلا إذا حالت الظروف."
وهذه المادة هي تكرار للمادة الخامسة من قانون عام 1963، التي نصّت على أن يعتبر عراقيا: " للوزير أن يعتبر من ولد خارج العراق من أم عراقية وأب مجهول أو لا جنسية له عراقي الجنسية إذا اختارها خلال سنة من تاريخ بلوغه سن الرشد." سوى إضافة عبارة مشوهة في نهاية المادة وهي (إلا إذا حالت الظروف). وتبدو نهاية هذه المادة مبتورة، وكان من الأفضل إستكمالها بعبارة (دون ذلك) لتكتمل الجملة ويتم المعنى.
وهذه الحالة أصبحت مستقرة في معظم قوانين الجنسية في العالم، وقد أخذ بها المشرع المصري في قانون رقم 26 لسنة 1975، حيث نصت المادة الثانية منه على أن:
"يكون مصريا: 2- من وُلِد في مصر من أم مصرية ومن أب مجهول النسب أو لا جنسية له".
أما حالة التجنس، أو الجنسية المكتسبة، فقد كرر القانون الجديد بالمادة 6 نفس الشروط الواردة بالمادة 8 من قانون 1963، بقولها:
" المادة 6 أولا: للوزير أن يقبل تجنس غير العراقي عند توافر الشروط الآتية:
أ- أن يكون بالغا سن الرشد.
ب-دخل العراق بصورة مشروعة ومقيما فيه عند تقديم طلب التجنس ويستثنى من ذلك المولودون في العراق والمقيمون فيه والحاصلون على دفتر الأحوال المدنية ولم يحصلوا على شهادة الجنسية.
ج-أقام في العراق بصورة مشروعة مدة لا تقل عن عشر سنوات متتالية سابقة على تقديم الطلب.
د-أن يكون حسن السلوك والسمعة ولم يحكم عليه بجناية أو جنحة مخلة بالشرف.
هـ-أن يكون له وسيلة جلية للتعيش.
و-أن يكون سالما من الإمراض الانتقالية."

وكل ما جاء به قانون الجنسية الجديد لعام 2006 والنافذ، هو:
أولا. إزدواج الجنسية للعراقي
وهي حالة إرتضاها دستور العراق الجديد لعام 2005، بنص المادة 18/رابعاً بقولها: "يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً التخلي عن أية جنسية أخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانون." ومع ذلك لم يتخلى أي مسؤول عراقي طيلة 16 سنة الماضية عن جنسيته الأجنبية، بإستثناء رئيس الجمهورية برهم صالح، الذي تخلى عن جنسيته البريطانية عند توليه المنصب في أواخر عام 2018.
حيث نصّـت المادة 10 منه، على ما يلي:
" أولا: يحتفظ العراقي الذي يكتسب جنسية أجنبية بجنسيته العراقية ما لم يعلن تحريريا عن تخليه عن الجنسية العراقية.
ثانيا: تطبق المحاكم العراقية القانون العراقي بحق من يحمل الجنسية العراقية وجنسية دولة أجنبية."
والحقيقة، إن هذه المادة مشوَّهة ومن المعيب والمخجل تواجدها في إي قانون للجنسية في العالم، للأسباب التالية:
1.   أن الفقرة أولا من هذه المادة تقود إلى حالة إزدواج الجنسية، وهي حالة غير مرغوب فيها في القانون الدولي الخاص، لإنها تقود إلى إنقسام الولاء الوطني. ورأينا أن حكام العراق الجدد من مزدوجي الجنسية، لم يكونوا حريصين على مصالح العراق وحقوق العراقيين وثرواته الوطنية، مما قاد إلى كوارث متتالية منذ 2003 وحتى يومنا هذا.
2.    إن ذلك يستتبع قيام حالة قانونية شاذة، تسمى (تنازع القوانين)، ففي حالة إرتكاب الشخص لأي جريمة، فعلى أي قانون ستجري محاكمته؟ هل على القانون العراقي أم قانون الجنسية الأجنبية؟ وهذا ما قاد بالفعل إلى هروب العديد من المسؤولين الذي يحملون جنسيات أجنبية على جانب جنسيتهم العراقية. إن الحل الذي قدّمته الفقرة ثانيا من المادة 10 في أعلاه، هو حل غير عملي ومرفوض من الكثير من الدول التي يحمل العراقيين جنسيتها. فلا يمكن للقضاء العراقي تطبيق القانون الوطني على متهم يحمل جنسية أجنبية. وتشير تلك المعلومات إلى أن أبرز تلك الشخصيات هم: رئيس البرلمان السابق سليم الجبوري، الحامل للجنسية القطرية، فيما يمتلك رئيس الجمهورية السابق فؤاد معصوم والقيادي السابق في التيار الصدري بهاء الأعرجي، ووزير الخارجية إبراهيم الجعفري، والقيادي السني صالح المطلك، بالإضافة إلى رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، الجنسية البريطانية.
وكان وزير الخارجية إبراهيم الجعفري قد أعلن سابقًا أن أكثر من 32 سفيرًا عراقيًا من أصل 66 يحملون جنسية مزدوجة، وهو ما أثار الجدل حينها عن هذا العدد الكبير في السفراء العراقيين مزدوجي الجنسية.
وقد قدّم نواب عراقيون قانون مزدوجي الجنسية إلى البرلمان عام 2009 لكن مجلـس النواب في دوراته السابقة وخلال 9 سنوات لم يتمكن من التصويت عليه، بسبب الخلافات والتقاطعات بين الأحزاب السياسية. 
وتمثل الجنسية المزدوجة الأخرى للمسؤولين العراقيين حصانة من الملاحقات القضائية والقانونية في حال ثبت تورطهم بملفات فساد إداري أو مالي، كما حصل مع الكثير منهم.
وتمكن محافظ البصرة ماجد النصراوي الذي يمتلك الجنسية الأسترالية من الهرب، العام الماضي، بعد صدور أوامر قضائية بمنعه من السفر والتحقيق معه بشأن ملفات فساد متورط فيها مع نجله.
كما تمكن وزراء سابقون من الهرب اعتمادًا على ما توفره الجنسية الثانية من دعم وحصانة، كما حصل مع وزراء التجارة، والدفاع، والكهرباء السابقين على التوالي عبد الفلاح السوداني وحازم الشعلان وأيهم السامرائي، وغيرهم، ولم تتمكن السلطات العراقية من ملاحقتهم قضائيًا باعتبارهم مواطنين في دولة أخرى.
3.   إن الإجراء الذي نصت علية الفقرة ثانيا من المادة المذكورة، هو إجراء غير واقعي وغير مطبق عمليا، بقولها (ما لم يعلن تحريريا عن تخليه عن الجنسية العراقية). فنادراً ما يلجأ العراقي المتجنس بجنسية أجنبية إلى التنازل عن جنسيته العراقية تحريريا، ولا تتطلب الدول الأجنبية أو تشترط ذلك غالباً.
وتسري هذه الحالة أيضا على الزواج المختلط للمرأة العراقية، حيث نصت المادة 12 منه على أنه: "إذا تزوجت المرأة العراقية من غير العراقي واكتسبت جنسية زوجها فأنها لا تفقد جنسيتها العراقية ما لم تعلن تحريريا تخليها عن الجنسية العراقية."
ثانيا. إستعادة الجنسية العراقية للعراقيين من أصول إيرانية
حيث نصت المادتان 17 و18 على ما يلي:
" المادة 17 يلغى قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (666) لسنة 1980 وتعاد الجنسية العراقية لكل عراقي أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب القرار المذكور وجميع القرارات الجائرة الصادرة من مجلس قيادة الثورة (المنحل) بهذا الخصوص.
المادة 18أولا: لكل عراقي أسقطت عنه الجنسية العراقية لأسباب سياسية أو عنصرية أو طائفية أن يستردها بتقديم طلب بذلك وفي حالة وفاته يحق لأولاده الذين فقدوا الجنسية العراقية تبعا لوالدهم أو والدتهم أن يتقدموا بطلب لاسترداد الجنسية العراقية.
ثانيا: لا يستفيد من حكم البند (أولا) من هذه المادة العراقي الذي زالت عنه الجنسية بموجب أحكام القانون رقم (1) لسنة 1950 والقانون رقم (12) لسنة 1951.
وقرار مجلس قيادة الثورة المشار إليه في م 17، هو القرار المنشور في الجريدة الرسمية/الوقائع العراقية ذي العدد (2776) والمؤرخ في 26/5/1980 والقاضي بإسقاط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة وتخويل وزير الداخلية صلاحية إبعاد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية ما لم يقتنع بناءً على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسمياً.
وبهذا تكون هاتين المادتين من قانون الجنسية لعام 2006، قد أعادت الجنسية العراقية للعراقيين من أصول إيرانية سبق أن قرر قرار مجلس قيادة الثورة في أعلاه (عدم ولائهم للوطن والشعب) حتى دون أن يبرأهما القانون الجديد أو القضاء العراقي. ويبدو هنا التأثير الإيراني بصدد هذه الحالة. وهذه المادة، بطبيعة الحال، لم يقصد منها معالجة حالات سحب الجنسية عن كل العراقيين لإنصافهم، بدليل إن القانون قد إستثنى في م 18/ثانيا، يهود العراق الذين نزعت عنهم الجنسية العراقية وصودرت أملاكهم في عام 1950. على الرغم من إن الدستور الجديد لعام 2005 قد أعطى جميع الذين سحبت منهم الجنسية العراقية حق إستردادها في حالة ولادتهم في العراق، بقولها:
" ثالثاً:
أ ـ يحظر إسقاط الجنسية العراقية عن العراقي بالولادة لأي سببٍ من الأسباب، ويحق لمن أسقطت عنه طلب استعادتها، وينظم ذلك بقانون."
وهكذا يبدو نص المادة 18 الفقرة ثانيا من قانون الجنسية العراقي رقم 26 لسنة 2006 مخالفا لنص المادة 18 الفقرة ثانيا/ أ من دستور العراق النافذ لعام 2005. فحق إسترداد الجنسية عن المولود في العراق قد ورد على الإطلاق، وإن تنظيمه بقانون لا يعني حرمان فئة معينة منه، وإنما يقصد ب (التنظيم) بيان الإجراءات الواجب إتباعها في ذلك، لإن القانون لا يلغي نصاَ دستورياً، إستناداً لمبدأ سمو الدستور وأعلويته على جميع القوانين في الدولة. وهذه حالة لم ينتبه لها المشرع العراقي، على ما يبدو.
ثالثا. الطعن بقرارات عدم منح الجنسية
حيث نصت المادتان 19 و20 من القانون المذكور على جواز الطعن بقرارات وزير الداخلية في رفض منح الجنسية العراقية لطالب التجنس. وكما يلي:
" المادة 19تختص المحاكم الإدارية في الدعاوى الناشئة عن تطبيق أحكام هذا القانون.
مادة 20 يحق لكل من طالبي التجنس والوزير إضافة إلى وظيفته الطعن في القرار الصادر من المحاكم الإدارية لدى المحكمة الاتحادية."
 وهذا ينسجم مع توجه دستور العراق الجديد لعام 2005 الذي نص في المادة 18/سادسا منه على ما يلي:
" سادساً: تنظم أحكام الجنسية بقانون، وينظر في الدعاوى الناشئة عنها من قبل المحاكم المختصة".
وهذا يقدم ضمانات لطالبي التجنس في العراق، وبما ينسجم مع المعايير القانونية الدولية.
-   التعديل الأول المقترح لقانون الجنسية
بعد هذا الإستعراض الموجز لقواعد الجنسية وأحكامها العامة، وقوانينها الخاصة بالجنسية في العراق، لتوضيح أهمية الجنسية كأداة لتوزيع الأفراد في العالم وكرابطة قانونية-سياسية-روحية تربط الفرد بدولة معينة، وعوداً إلى التعديل مثار الجدل، فإن التعديل المذكور هو التعديل الأول لقانون الجنسية العراقية رقم 26 لسنة 2006 النافذ، هو مشروع قانون قدمته حكومة حيدر العبادي عام 2017، وموجود على موقع مجلس النواب العراقي ضمن مشروعات القوانين التي لم تُشَّرع بعد، وقد جرت قراءته قراءة أولى في اللجنة الأمنية البرلمانية، بينما المفترض أن تتم قراءته ومناقشته في اللجنة القانونية البرلمانية، وهذه مخالفة إجرائية إبتداءً.
يتضمن التعديل المشار إليه على 10 مواد قانونية جاءت لتعدل المواد 2، 4، 5، 6، 7، 11،13 و17، وأخيراً إلغاء البند (ثانياً) من المادة 21.
والمواد المثيرة للجدل هي: 2، 3، 4، 5، 6، 7، و8. ويمكن إبداء عدد من الملاحظات من الناحية القانونية على عمل المشرع العراقي، فيما يخص مسائل الجنسية، وكما يلي: -
1.   عدم تفريق المشرع العراقي بين الجنسية الأصلية (العراقي) والجنسية المكتسبة (المتجنس).
2.   عدم الدقة في معالجة حالات الزواج المختلط بين عراقي أو عراقية بأجنبي أو أجنبية، فهذه الحالة لها أحكامها الخاصة في القانون الدولي الخاص.
3.   ضعف معالجة حالات إسترداد الجنسية للعراقي الذي فقدها أو تنازل عنها.
4.   التكرار في مواد التعديل، وحتى في قانون الجنسية النافذ لعام 2006.
5.   خلق حالة إزوادج الجنسية بدفع من السياسيين الأجانب في العراق بعد 2003، مما يتعارض مع قواعد القانون الدولي، ويدخل العراق في إشكالات قانونية دولية لاحقاً.
6.   يبدو إن المشرع العراقي لا يفرق بين الجنسية والإقامة ويخلط بينهما كثيرا.
7.   يخلط المشرع العراقي بين حالات قانونية متعددة ومختلفة وإن بدت متشابهة، مثل اللاجئ والمهَاجر والمُهجَّر (أو النازح).
8.   الخلط بين إكتساب الجنسية وإستردادها. فالإكتساب يتم لأول مرة، بينما الإسترداد يكون لجنسية أصلية جرى التنازل عنها أو فقدها لسبب من الأسباب. وفي الحالة الأولى يكون أجنبيا وفي الثانية سبق له وإن كان عراقيا.
9.   عدم تحديد تعريفات للمصطلحات الواردة في التعديل، لإزالة اللبس والغموض وتحديد المقصود بها. وعادة ما توضع التعاريف في المادة الأولى من القانون.
وسنناقش هذه المواد بشيء من التفصيل كما وردت في مسودة التعديل المشار إليه في أعلاه.
(1)   إلغاء نص المادة 2 من القانون النافذ ويحل محلها نصا يكرر المادة السابقة وليس يلغيها، بل يضيف لها نصا مستحدثا ليكون الفقرة أولا من المادة المذكورة، ويصبح النص القديم فقرة ثانية. وكما يلي:
" أولاً: - كان عثماني الجنسية وساكناً في العراق هو أو أحد والديه أو جده ابتداءً من يوم 23/8/1921 لغاية 6/8/1924.
ثانياً: - حصل على الجنسية العراقية بموجب أحكام قانون الجنسية العراقية
رقم (42) لسنة 1924(الملغى) وقانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963(الملغى) وقانون منح الجنسية العراقية للعرب رقم (5) لسنة 1975 (الملغى)وقرارات مجلس قيادة الثورة (المنحل) الخاصة بمنح الجنسية العراقية."
وهذا نص زائد، وهو نص توضيحي أكثر منه نصاً قانونياً، لأن ما مذكور في أولا أعلاه كان موجوداً في ظل القانون الأول لجنسية التأسيس رقم 42 لسنة 1924، كما مرّ شرحه سلفاً. وربما قصد به معالجة خطأ المشرع في قانون الجنسية النافذ والذي ألغى القانون المذكور، دون الإشارة إلى عدم الإخلال بحقوق العراقيين الذي إكتسبوا الجنسية وفقاً للقوانين السابقة، وخاصة جنسية التأسيس. وبالتالي لا مبرر لإعادة التذكير بعراقية من كان عثمانيا وساكنا في العراق عند إقامة دولة العراق الحديث. كما إنه يخلق مشكلة قانونية تتمثل في تعدد جنسية التأسيس في العراق، كما أشار لها بعض القانونيين في بحوثهم عام 2014.
(2)   تلغي المادة 2 من التعديل المقترح، نص المادة (4) من القانون النافذ، فتصت مادة التعديل على ما يلي:
" للوزير أن يعدّ مَن ولد خارج العراق من أم عراقية وأب غير عراقي أو لا جنسية له عراقي الجنسية إذا اختارها خلال سنة من تأريخ بلوغه سن الرشد إلا إذا حالت الظروف الصعبة دون ذلك بشرط أن يكون مقيماً في العراق وقت تقديمه طلب الحصول على الجنسية العراقية."
ولو دققنا نص المادة 4 من القانون النافذ وقارنَّا بينها وبين المادة 2 من التعديل، لرأينا أنها تكرر نفس الصياغة بإستثناء عبارة مضافة هي (وأب غير عراقي)، وهذا مما يخلق مشكلة قانونية جديدة هي (إزدواج الجنسية)، بدلاً من أن يحلَّ المشكلة. وكما أسلفنا، إن معظم قوانين الجنسية ومنها قانون الجنسية المصري لعام 1975 المشار إليه سابقا تعطي الجنسية لأولاد المرأة المتزوجة من أب مجهول أو عديم الجنسية. وعلَّة ذلك، هو عدم وجود جنسية أخرى يمكن للأبناء أن يحصلوا عليها من أبوهم، فتكون جنسية الأم بمثابة حل لمشكلة إنعدام الجنسية للأولاد. أما إذا كان الأب ممن يحملون جنسية أجنبية (غير عراقية مثل جنسية الأم) فلا مبرر لمنحهم الجنسية العراقية، ولربما يحصلون على جنسية الأب والأب معا، وهنا نكون أمام حالة إزدواج الجنسية.
(3)   المادة 3 من التعديل، زهي أخطر مواد مشروع التعديل، فقد ألغت المادة (5) من القانون النافذ وحلت محله ما يأتي:
" للوزير أن يُعد عراقياً مَن ولد في العراق وبلغ سن الرشد فيه من أب أو أم غير عراقيين مولودين فيه أيضاً وكانا مقيمين فيه بصورة معتادة عند ولادة ولدهما بشرط أن يقدم الولد طلباً بمنحه الجنسية العراقية."
وهذه أغرب مادة وجدت في كل قوانين الجنسية في العراق، وتقضي بمنح الجنسية العراقية للمولود في العراق من أبوين غير عراقيين بشر ولادة أحدهم في العراق والإقامة فيه.
أن المشرع بهذه المادة من التعديل، يسعى لنسف أساس الجنسية في العراق القائم على رابطة الدم، وإحلال رابطة الإقليم أو (التوطن) محلها. ولعمري هذه المادة لم يكتبها إلا أجنبي مقيم في أمريكا أو بريطانيا، ومتأثراً بحق الإقليم. ولكن ذلك سيقود إلى تمزيق المجتمع العراقي وإفقاده لإنسجام نسيجه المجتمعي، ويقود على القضاء على وحدة الشعب، من خلال منح الجنسية لأجانب ولدوا في العراق سابقا، وعادوا للإقامة فيه لاحقاً.
وكان نص المادة 5 من القانون النافذ ينص على منح المولود في العراق الجنسية العراقية إذا كان الأب فقط غير عراقي، بقولها:
" للوزير أن يعتبر عراقيا من ولد في العراق وبلغ سن الرشد فيه من أب غير عراقي مولود فيه أيضا وكان مقيما فيه بصورة معتادة عند ولادة ولده، بشرط أن يقدم الولد طلبا بمنحه الجنسية العراقية."
إن مثل هذه الحالات يجب أن تتم معالجتها من خلال قانون الإقامة في البلد المعني، وليس قانون الجنسية. وبعد مضي مدة معينة يحددها من الإقامة المتواصلة، جاز لوزير الداخلية منحه الجنسية العراقية عند طلب المقيم.
(4)   تنص المادة من التعديل المذكور، على إلغاء المادة (6) من القانون النافذ وإحلال محلها ما يلي:
" المادة ـــــ6ـــــــ أولاً: للوزير أن يقبل تجنس غير العراقي عند توافر الشروط الآتية: -
أ. أن يكون بالغاً سن الرشد.
ب. دخل جمهورية العراق بصورة مشروعة ومقيماً فيها عند تقديم طلب التجنس ويستثنى من ذلك المولودون في العراق والمقيمون فيه.
جـ. أقام في جمهورية العراق بصورة مشروعة مدة لا تقل عن (10) عشر سنوات متتالية سابقة على تقديم الطلب ويستثنى من ذلك المهجر قسراً على ألا تقل مدة إقامته عن (1) سنة واحدة.
د. أن يكون حسن السلوك والسمعة ولم يحكم عليه بجناية أو جنحة مخلة بالشرف.
هـ. أن تكون له وسيلة جلية للعيش.
و. أن يكون سالماً من الأمراض الانتقالية.
ثانياً: لمجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير قبول تجنس غير العراقي إذا كان يؤدي خدمة نافعة للبلد وتقتضي المصلحة العامة ذلك شرط إقامته في جمهورية العراق مدة لا تقل عن سنة.
ثالثاً: لا يجوز منح الجنسية العراقية للفلسطينيين ضماناً لحق عودتهم إلى وطنهم ويستثنى من ذلك المرأة الفلسطينية المتزوجة من العراقي وفقاً لمبدأ وحدة العائلة.
رابعاً: لا تمنح الجنسية العراقية لأغراض سياسة التوطين السكاني المخل بالتركيبة السكانية في العراق.
خامساً: يعاد النظر في جميع قرارات منح الجنسية العراقية التي أصدرها النظام السابق لتحقيق أغراضه."
ومادة التعديل هذه، هي تكرار للمادة (6) الحالية في القانون النافذ، بإستثناء عبارة (ويستثنى من ذلك المهجر قسراً على ألا تقل مدة إقامته عن (1) سنة واحدة).
وهذه المادة تثير الإستغراب كثيراً وتكشف عن الجهل القانوني للمشرع العراقي وضعف الوعي القانوني لدى معظم نواب البرلمان في العراق منذ 2003 وحتى يومنا هذا.
فمن المعيب أن لا يفرق المشرع بين (اللاجئ) و(المهجر). فالأول هو شخص أجنبي دخل البلاد هربا من بلده الأم خشية تعرضه لخطر يقود إلى فقدانه لحياته. أما المهجَّر، فهو عراقي أصلا هجر من منطقته بسبب الطائفية التي تعرض لها العراق منذ 2004 وحتى الآن، وبالتالي فإن التسمية الأصح له هي (نازح) الذي نزح من منطقته لمنطقة أخرى داخل الدولة. أما المهاجر حالة قانونية أخرى تشير إلى (الهجرة) وتتحقق عند رغبة الشخص بالإنتقال والإقامة والعيش في دولة أخرى، دون أن يرافق ذلك أي تهديد لحياته. لذا فإن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، ومنظمة الهجرة الدولية غير معنيتين بحالة المهجَّر (أو النازح) داخل بلده، لأن ذلك مسؤولية مفترضة على عاتق الدولة والحكومة في توفير الأمن والأمان وإزالة أسباب التهديد، وإعادة المهجرين لمناطقهم، وبخلاف ذلك، فإن التقصير الحكومي قائم وواضح.
ومن المضحك المبكي أن هذه المادة من مشروع القانون، تقلص شرط الإقامة للمهجر إلى سنة واحدة بدلاً من (10) سنوات. وهل يحتاج الوطني في أي بلد الإقامة سنة واحدة لمنحه الجنسية التي أصلا منحها له القانون؟
أما إذا كان المشرع يقصد بمصطلح (المهجر) السوريين في مخيمات اللجوء في العراق، فإن الوصف القانوني لهم هو (لاجئين) وليس مهجرين. لإن اللاجئ هو وصف دولي، في حين إن المهجر وصف داخلي. أما إذا كان يقصد بذلك العمال الأجانب العاملين في العراق (كالبنغاليين مثلا)، فهؤلاء مقيمين، ولهم جنسيتهم الوطنيين، ولا يجوز فرض أي جنسية أخرى عليهم، لأن ذلك يقود إلى خلق أزمة سياسية دولية مع دولتهم الأصلية بنغلاديش.
(5)   أما المادة 5 من التعديل المذكور، فتقضي بإلغاء المادة 7 من القانون الحالي وإحلال محله ما يلي:
" للوزير أن يقبل تجنس غير العراقي المتزوج من امرأة عراقية الجنسية إذا توافرت فيه الشروط المنصوص عليها في البند (أولاً) من المادة (6) من القانون
على ألا تقل مدة الإقامة المنصوص عليها في الفقرة (جـ) منه عن (2) سنتين مع بقاء الرابطة الزوجية."
ولم تأتي هذه المادة بجديد سوى تقليص مدة بقاء الرابطة الزوجية من 5 سنوات إلى سنتين. وحتى في هذه لم يكن مشرع التعديل موفقاً، فمعظم قوانين الجنسية في العالم، تجعل هذه المدة 3 سنوات، للحفاظ على العنصر الوطني وخاصة فئة النساء من المتلاعبين والمحتالين والمتسلقين بقصد الحصول على الجنسية، وهي في هذه الحالة المرأة العراقية المتزوجة من أجنبي، وهي حالة تعرف في القانون الدولي الخاص ب (الزواج المختلط).
(6)   إن المادة 6 من مشروع التعديل، فتقضي بإلغاء نص المادة (11) من قانون الجنسية النافذ، وتحل محله النص التالي:
" أولاً ـــ للمرأة غير العراقية المتزوجة من عراقي أن تكتسب الجنسية العراقية وفقاً للشروط الآتية:
أـــ تقديم طلب إلى الوزير.
ب ــــ مضي مدة لا تقل عن (2) سنتين على زواجها وإقامتها في العراق.
جـ ـــ استمرار قيام الرابطة الزوجية حتى تأريخ تقديم الطلب ويستثنى مــن ذلك المطلقة أو المتوفى عنها زوجها وكان لها من مطلقها أو زوجها المتوفى ولــد.
ثانياًــــ لمجلس الوزراء باقتراح الوزير منح المرأة غير العراقية المتزوجة من العراقي الجنسية العراقية بناءً على طلبها وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة على أن تكون مقيمة في العراق مدة لا تقل عن سنة واحدة."

وهذه المادة تختلف عن سابقتها في طرف العلاقة الزوجية، حيث يكون الزوج عراقيا متزوجا من غير عراقية. ولم تأتي هذه المادة بجديد أيضاً سوى تقليص مدة بقاء الرابطة الزوجية من 5 سنوات إلى سنتين، علما إن الزوج العراقي هو الطرف الأقوى في العلاقة الزوجية، وحتى مدة السنة من الإقامة والسنتين من الزواج كافية لمنحها الجنسية العراقية بناء على طلبها، شريطة أن تكون مقيمة في العراق. لأن الزوجة عادة ما تكتسب جنسية زوجها وإن كانت أجنبية.
وكان قانون عام 1963 الملغي، يجيز للأجنبية المتزوجة من عراقي أن تكتسب جنسية زوجها دون مضي مدة معينة، ومن تاريخ موافقة الوزير. وقد ما نصّت عليه المادة 12 منه بقولها:
"مادة 12
 1 – إذا تزوجت المرأة الأجنبية من عراقي تكتسب الجنسية العراقية من تاريخ موافقة الوزير، ولها أن ترجع عنها خلال ثلاث سنوات من تاريخ وفاة زوجها أو طلاقها أو فسخ النكاح، وتفقد جنسيتها العراقية من تاريخ تقديمها طلبا بذلك."
(7)    تقضي المادة 7 من التعديل، بإلغاء نص المادة (13) من القانون النافذ، والخاصة بحالات إسترداد الجنسية العراقية بعد التنازل عنها أو فقدها. فنصّت على ما يلي:
" يلغى نص المادة (13) من القانون ويحل محله ما يأتي: -
المادة ــــــ13ـــــ
أولاً ــــ للمرأة العراقية المتخلية عن جنسيتها العراقية وفقا لأحكام البند (أولاً)
من المادة (10) والمادة (12) من هذا القانون، طلب استردادها في احدى الحالات الآتية: -
     أـــــ إذا منح زوجها غير العراقي الجنسية العراقية.
    ب ــــ إذا تزوجت من شخص يحمل الجنسية العراقية.
   جـ ــــ إذا انتهت العلاقة الزوجية بزوجها غير العراقي بالوفاة أو الطلاق أو التفريق بحكم قضائي.
ثانياًـــــ تعاد الجنسية العراقية في الحالات المنصوص عليها في البند (أولاً) من هذه المادة من تأريخ تقديم الطلب على أن تكون موجودة في العراق."
وهذه المادة تعطي الحق للعراقية التي تخلت عن جنسيتها العراقية حق إستردادها في حالات ثلاث في أعلاه دون التقيد بمدة معينة شريطة أن تكون موجودة في العراق.
(8)   تقضي المادة 8 من المشروع المذكور، إضافة البند (ثانياً) إلى المادة (17) من القانون، لتقرأ على النحو الآتي: -
" يُعد عراقي الجنسية كل مَن كان من أفراد الكُرد الفيليين ومسجلاً في سجلات الأحوال المدنية لعام 1957 أو أي تعداد سابق له ويتم التعامل معهم على وفق أحكام المادة (3/أ) من قانون الجنسية العراقية."
ونص المادة 17 من القانون الحالي لعام 2006، قد أعطت لهم هذا الحق حصراً دون الإشارة لهم صراحة. ويبدو إن المشرع قد إستشعر الحرج آنذاك، وذكرهم بشكل مؤارب، في حين رفض إستعادة اليهود العراقيين لجنسيتهم التي فقدوها عامي 1950و1951، بقولها: "يلغى قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (666) لسنة 1980 وتعاد الجنسية العراقية لكل عراقي أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب القرار المذكور وجميع القرارات الجائرة الصادرة من مجلس قيادة الثورة (المنحل) بهذا الخصوص."
وهذا النص الإضافي يعد نصاً توضيحيا لنص المادة 17 من القانون النافذ، وكل ما فعله مشرع التعديل هو ذكر المشمولين بهذه المادة حصراً، وهم الكرد الفيليين، وهم من العراقيين من أصول إيرانية. لذا أثار هذا النص لغطاً وجدلاً كبيرين. فقد سبق الذكر، أن الكرد الفيليين قد غادروا العراق بموجب قرار مجلس قياد الثورة المنحل (666) لسنة 1980 قبل بدء حرب الخليج الأولى (العراقية-الإيرانية) بثلاثة أشهر.
وسبق القول، إن قرار مجلس قيادة الثورة المشار المذكور، هو القرار المنشور في الوقائع العراقية، الجريدة الرسمية بالعدد (2776) والمؤرخ في 26/5/1980 والقاضي بإسقاط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة وتخويل وزير الداخلية صلاحية إبعاد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية ما لم يقتنع بناءً على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسمياً.
وبهذا تكون هاتين المادتين من قانون الجنسية لعام 2006، قد أعادت الجنسية العراقية للعراقيين من أصول إيرانية والتي سبق أن قرر قرار مجلس قيادة الثورة في أعلاه (عدم ولائهم للوطن والشعب). وهذا ما يقتضي سرد تاريخي موجز للكرد الفيليين إعتمادا على مصادرهم، لتوضيح الصورة وتقريبها، دو

15
يوم 10 شباط من عامي 1983 و2007 والإنتقام بعد 24 عاماً
د. رياض السندي

هذه قصة من قصص حرب إستمرت لثمان سنوات (1980-1988)، وأعقبتها قصة إنتقام منذ 2003 وما زالت مستمرة بتفاصيلها الغريبة والمثيرة.
لنبدأ من النهاية، كما في الروايات. ففي يوم العاشر من شباط 2007، كان قد مضى على قدومي إلى بغداد من دهوك بعد قبولي في وزارة الخارجية، وتركي لوظيفة التدريس الجامعي في كلية القانون – جامعة دهوك، قرابة ستة أشهر. ولمعرفتي بالوضع الأمني المتدهور في بغداد فقد إتفقت مع سائق خاص لنقلي إلى الوزارة وإعادتي منها لثقتي به، وكان سائقي (أحمد) نموذجا للثقة. وطيلة ستة أشهر لم أغادر البيت وحدي ولم أتمشى خارج البيت أطلاقا.
وفي يوم السبت فكرت في الذهاب إلى الحلاق، وإنسانيا لم أشأ أن أكلف لسائق حتى في يوم العطلة ليرتاح في نهاية الأسبوع. فقصدت صالون الحلاقة في الكرادة، مقابل مستشفى سانت رافائيل المعروفة عند العراقيين بمستشفى الراهبات، وبعد السلام مع الحلاق علي المعروف ب(علاوي). إقترح أن أتمشى قليلا وأعود إليه بعد 15 دقيقة لأنه مشغول بحلاقة ثلاثة زبائن أخرين سبقوني إليه. 
وما إن خرجت من صالون الحلاقة وتمشيت خطوتين حتى وقفت إلى جانبي سيارة لم أعد أتذكر حتى نوعها، ولكن أخر صورة في ذهني توحي بانها كانت سيارة بيضاء. وفجاءة إنفجرت على بعد متر إلى ثلاثة أمتار كما يشير التقرير الطبي للإصابة والصادر من المستشفى. ومن الطبيعي إني فقدت الوعي من شدّة الإنفجار، ولم أستعد وعيي إلا وأنا في سيارة تويوتا بيكب آب دبل قمارة بيضاء اللون. كان يجلس فيها شخصان رثي الثياب، لا يبدو أنهم عراقيين، فالعراقي مغرم بالأناقة، أستعدت وعيي في السيارة وأنا ممدد في الخلف، وتوقعت إنني قيد الإختطاف، وهذا ما إنتشر في العراق بعد عام 2003، وثرت في وجههم متسائلا: وين ما خذيني؟ (أي أن أنتم ذاهبون بي)، فقال السائق: إلى المستشفى. قلت: ولماذا؟ قال: لأن حدث إنفجار وأنت أصبت فيه. فقلت: إذا لماذا لا تأخذونني إلى مستشفى الراهبات، وهي إلى يسار الشارع؟ فقال: لا سنأخذك إلى مستشفى آخر. وفي محاولة لإسكاتي، قال: هل كنت ترتدي حزام ناسف؟ فقلت: لو كنت أرتديه لكنت الآن ميت. ثم عاد يسألني: هل أنت شيعي أم سُنّي؟ فأجبته: أنا مسيحي. فقال: إذا أنت مسيحي، فسأسألك عدة كلمات مسيحية لتقول لي ما معناها. ثم سألني: ما معنى كلمة (، (أخوني)، فقلتك يعني أخي. ثم عاد يسألني ثانية: وما معنى كلمة (بابي). فقلت: أبي. ثم بدأوا يتحدثون بينهم بالفارسية، وأدركت آنذاك أنهم إيرانيون أو عملاء إيران الذين دخلوا العراق مؤخراً بعد 2003. وبعد أن أنهوا حديثهم القصير، إتصل السائق بشخص ما، ويبدو أنه رجل دين شيعي، ليقول له: سيد، هذا طلع إرهابي مسيحي. فإنتفضت قائلا: هو أكو إرهابي مسيحي. شنو إرهابي. فيبدو أعطاه تعليمات بنقلي إلى مستشفى بعيد عن الكرادة، وعند دخول السيارة رفعت رأسي، وقرأت لافتة المستشفى وإذا قد كتب عليها (مستشفى الإمام علي بن أبي طالب). دخلت السيارة إلى المستشفى وتم تمديدي على نقالة متحركة، وضمي إلى مجموعة جرحى هم ضحايا نفس الحادث وكانوا ستة أشخاص. وإلى جانب نقالة أخرى عليها شاب يبدو أنه قد أصيب بشظية في ظهره، وقد إضطجع على جنبه الأيسر وأصبح وجهه في مواجهتي فسألته: شصار؟ (أي ماذا حصل) ولكنه لم يجيبني بكلمة. كانت إصابتي أكبر من الجميع نظراً لقربي من السيارة المفخخة. ويبدو إنهم كانوا من الطائفة السٌنية، فتم نقلهم إلى نهاية باحة المستشفى الخلفية، حيث غرفة كانت في السابق، مخصصة لإستراحة سواق الإسعاف، وإستمعت في صباح اليوم التالي من أحد المضمدين إنهم ماتوا الخمسة جميعا، في إشارة توحي بقتلهم.
وقف الإيرانيان اللذان أقلاني إلى المستشفى، فبحثت في جيب قمصلتي التي أرتديها بحثا عن هاتفي المحمول، فلم أجده، وسألت عليه، فوجدته بيد السائق، فقلت له: أعطني هاتفي لأتحدث إلى شخص ليأتي لنجدتي، وفي هذه الأثناء، دخل شخص ثالث يبدو إنه شيعي أيضا، وقال لي أولا: إطمئن، أنا صديق أخوك، وأسمي ليث. وبدأ يصرخ في وجه الإيرانيان قائلا: ماذا تريدون أن تفعلوا به؟ إن هذا الشخص هو شيعي. فقالوا له: ولكنه يقول إنه مسيحي؟ فردّ عليهم قائلا: صحيح، إنه مسيحي، ولكنه أفضل من أي شيعي. وباغتهم متسائلا: أنتم تتبعون أي مرجع (يقصد شيعي)؟ فأجابوه بصوت منخفض عن أسم مرجعهم سيد ...، ولك أسمع الإسم تماما. فقال لهم: أنا أتبع المرجع فلان. ولم اتبين الإسم أيضا، فقد تنحى بهم جانباً. فقالوا: حسنا. وتقدم نحوي السائق، وقال: من تريد أن تتصل به ليأتي، فقلت له: أخي. فإتصل به، وقال له: تعال أخوك بمستشفى الإمام علي بالجوادر. ثم أعاد لي هاتفي وفي هذه الأثناء، رنّ الهاتف، فتحدثت بصوت مصاب، وإذا به السفير عمر البرزنجي من وزارة الخارجية، وكان قد طلب مني أن أساعده بتقرير عن حقوق الإنسان في العراق، لأنه ينوي تقديمه لمجلس حقوق الإنسان في جنيف والتي سيذهب إليها بعد أيام لحضور دورتها الإعتيادية. فقلت له: يتعذر عليّ ذلك، فأنا مصاب بإنفجار وفي المستشفى، فإستغرب وطلب مني عدم التحرك وأنه سيرسل شخصين لحمايتي ومتابعة حالتي، وإتضح للإيرانيان إني شخص مهم، فسألني أحدهم: ليش إنت وين تشتغل؟ فقلت له: وزارة الخارجية. فقال: بس يوصل أخوك، نحن سنذهب لأن لدينا عمل كثير. وماهي دقائق حتى وصل أخي. وغادروا بعد أن قالوا له: نرجو مراجعة مكتبنا في الكرادة داخل، العمارة المجاورة لأزياء رجالية في مدخل الكرادة، الطابق الثالث، علما لا يوجد أي لافته، وإن إسمه (أبو زمن)، فتأكدت أنهم من عناصر المخابرات الإيرانية أو من الحرس الثوري الإيراني الذين بسطوا نفوذهم في العراق، بعد أن أعطاهم الأمريكان حرية دخول العراق بعد إحتلاله عام 2003. ولا أريد أن أطيل في سرد معاناتي الصحية اللاحقة، ولكني بقيت أتنقل في مستشفيات بغداد لمدة تزيد على السنة، وأجريت لي خلالها أكثر من 11 عملية جراحية. بعد أن إنتقلت في مساء اليوم التالي إلى مستشفى سيدة النجاة الأهلي في الكرادة، إمتثالا لنصيحة مدير المستشفى العراقي الشهم الذي زارني صباح ذلك اليوم، وهنأني على نجاتي قائلا: أنت طلعت من حلك السبع (أي إنك خرجت من فم الأسد). ونصح إخواني وأهلي بإخراجي بالسرعة الممكنة، لأنهم سيقتلوني لاحقاً. وهكذا وانا ممدد وجريح وضعت لهم خطة هروبي من المستشفى، بالإتفاق مع سائق سيارة إسعاف فذهب أخي وإتفق مع أحدهم على إخراجي من المستشفى مقابل ربع مليون دينار عراقي، بحجة إنه ينقل جثة ميت إلى الطب العدلي لدفنه، وهكذا جرت الأمور، وتظاهرت بالموت لحين خروجي من بوابة المستشفى.
وظللت لسنوات أتساءل عن الجهة التي إستهدفتني وتابعت تحركاتي لستة أشهر، حتى إستطاعت رصدي وإرسال سيارة مفخخة لتنفجر عليّ، وهي تحضيرات لا يمكن أن يقوم بها أفراد، وبدأت أستذكر شريط حياتي، وهل ربما تكون السعودية كما يشاع رسميا، هي من أرسلت إرهابياً ليفجِّر نفسه عليّ. ولكن لم أتذكر حتى هذه اللحظة أن لي خلاف مع المملكة العربية السعودية، وبعد عدّة تحقيقات تأكد لي أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي من يقف وراء ذلك. ولكن لماذا؟
في ليلة باردة من الشتاء، وتحديدا ليلة 6/7 من شباط 1983، وقد دخلت حرب الخليج الأولى أو (الحرب العراقية-الإيرانية) سنتها الثالثة. كنت يومها اقضي خدمتي الإلزامية بعد تخرجي من كلية القانون في جامعة بغداد، مع مجموعة من العسكريين العراقيين قاطع الشيب في ملجأ تحت الأرض مكون من غرفتين مفتوحتين إحداهما على الأخرى، الصغيرة لي وحدي وفيها سريري المتواضع والمكون من باب خشبي وضعت تحته على جانبيه أكياس من الرمل وإلى جانبه مكتبي وهو منضدة حديدية، وفي الغرفة المجاورة ينام فيها جنودي وعددهم 7 جنود.
ولسعة ساحات العمليات وخطورتها في القاطع الجنوبي فقد قامت (ق ع ق م) بتشكيل قيادة الفيلق الرابع في سنة 1981 وحددت مدينة العمارة مقراً له ليتسنى له قيادة القطعات التي كانت تقاتل في قواطع (الشيب - الشوش - ديزفول – الطيب) وحتى منطقة جلات الحدودية مقابل مدينة علي الغربي. وفي سنة 1982 تم تشكيل جناح طيران الجيش الرابع في مطار الميمونة (العمارة - ميسان) الذي يقوم بإسناد قطعات الفيلق الرابع.
كنت قد عدت قبل يومين من إجازتي الدورية التي استغرقت إسبوعاً واحداً، وإلتحقت بالجبهة مع وجبة المجازين الملتحقين التي تجمعت في خلفيات مقر اللواء 702 في مدينة العمارة، ضمن قاطع عمليات الفيلق الرابع الذي يقوده الفريق الركن هشام صباح الفخري. وكعادة الجنود زمن الحرب هو أن تُسَلم سلاحك للمشجب عند ذهابك بإجازة، وتستلمه دون عتاد عند إلتحاقك بالمقر الخلفي لوحدتك، على أن تستلم العتاد بعد وصولك إلى قاطع وحدتك في الجبهة. وكنت أحرص على إن يكون مسدسي محشوا، ولكن يبدو أن آمر المشجب قد أفرغه من عتاده. كانت وحدتنا قد إنتقلت إلى قاطع الشيب أثناء إجازتي، وكان السائق على ما يبدو يجهل الطريق تماما، في ظلمة ليلة 5/6 شباط من ذلك العام، ويبدو أنه توغل قليلا في الجبهة دون أن يعرف، وكان يبحث عن نقطة الدلالة وتسمى عسكريا ب (الثاية) وهي حجارة يرش عليها أي صبغ أبيض للاهتداء بها ليلاً، أو أن توضع قطعة صغيرة يكتب عليها إسم آمر الوحدة الأول وتسبقه كلمة قوة، مثل (قوة محمد)، وظل السائق يبحث عن نقطتي الدلالة هذه حتى غرزت السيارة في الرمل والطين، وقد حاول الجنود دفعها إلى اليابسة للخروج، إلى إنه تعذر ذلك، نظراً لثقل السيارة العسكرية من نوع إيفا روسية، فقررت أن ينقسم الجنود إلى مجموعات مكونة من خمسة أشخاص للبحث عن وحدتنا العسكرية وإبلاغهم بالموقف لطلب المساعدة وإرسال سيارة أخرى وبقيت وحدي إلى جانب السيارة، فجلست على جانب الطريق أستذكر ذكريات الإجازة التي إنتهت. وبعد قليل عاد السائق وبعض المجموعات وكلهم قد أخفقوا في العثور على بداية الطريق إلى اللواء. ونحن واقفون هكذا تناهى إلى سمعي صوت عجلة حفر يسميها العراقيون ب (الشفل)، فقلت للسائق أركض بإتجاه مصدر الصوت وأبلغ سائق العجلة بأننا من اللواء 702 ونحتاج إلى مساعدته وأجبره على ذلك وفقا للأوامر العسكرية، فركض السائق تجاه الصوت الذي يبعد قرابة ألف متر، ولم تمر سوى خمس دقائق ليعود لاهثا ليخبرنا بأن سائق الشفل إتضح إنه إيراني وإننا قد وقعنا في ساحة القوات الإيرانية، وحدثني كيف إنه بعد إن نادى على السائق بالعبارة العراقية المعروفة (أبو الشباب) وما إن وصله وعد على الشفل حتى وجده شخصا ملتحٍ وأجابه بالفارسية. فنزل هاربا وعاد ليخبرنا بذلك، فإضطرننا إلى التفرق خشية القبض علينا بعد أن يخبرهم السائق الإيراني بذلك، وأول ما تبادر إلى ذهني هو تهيئة السلاح إستعدادا لأي إعتداء إيراني علينا، وغذا بجميع الأسلحة بما فيها مسدسي الشخصي بدون عتاد حتى ولو طلقة واحدة، فلعنت أمر المشجب على تصرفه، ولكنها الأوامر العسكرية، إلا إنه يبدو كان مدنيا إيرانيا قد سُخِر لحفر مواضع للجنود، ولم يبلغ علينا، فمَر الموقف بسلام، وأرسلت الجنود في الإتجاه المعاكس والإتصال بأي وحدة عسكرية عراقية لنجدتنا، وبالفعل تمكن الجنود من ذلك، وأرسل اللواء لنا سيارة حمل عسكرية (زيل) لينقلنا جميعا، بعد أن أخرج سيارتنا من الحفرة وعاد بها السائق. وبعد وصولنا دخلت وأخبرت الأمر بأن الإيرانيين يعدون العدة للهجوم، ويبدو أن برقيات كانت قد وصلتنا عن ذلك.
كُنا قد تعودنا على السهر ليلاً، والنوم عند الفجر، كأسلوب عسكري في زمن الحرب، فالعدو عادة يشتغل ظلام الليل لتقدمه لكيلا تنكشف تحركاته. كان الجنود يعدون الشاي ويتسامرون، ولم تكن الطائفية قد وجدت طريقها إلى العراقيين، فكان من بينهم السني والشيعي والمسيحي، ولكن والحق يقال، فإن غالبية الجنود كانت من الطائفة الشيعية، فيما كانت غالبية القادة والآمرين من الطائفة السٌنّية، ومن أهالي الموصل والعظمية في بغداد. وبدا لي أن معظم الموجودين في القطعات المتقدمة من جبهة القتال، كانوا من المنبوذين سياسيا، أي أن معظمهم من المستقلين وغير الحزبيين لحزب البعث، والمسيحيين الذين لم ينتموا للبعث من أمثالي.
من داخل الملجأ ناديت أحد جنودي وكان من أهالي البصرة وأسمه صادق، بالذهاب إلى الملازم آمر المستودع لجلب قمصلة عسكرية لي، فقد كانت القيادة العسكرية قد وفرت تجهيزات عسكرية للوحدات المقاتلة في الجبهة. فذهب وعاد بكيس نايلون يحوي قمصلة رومانية جديدة، فإرتديتها وقلت مازحا: هسه حتى لو يصير هجوم، مو مشكلة.
لم تمر ساعتين على ذلك، وإذا بالهاتف العسكري على مكتبي يرن، وإذا بأمر اللواء يقول: رياض أخرج جنودك جميعا، وأدخلوا الخندق. فأجبته: نعم سيدي. واعطيت أوامري للجنود بحمل السلاح والنزول في الخندق القريب الذي كان الفوج الثالث من اللواء 702، قد حفره قبل يومين. وتركنا المقر ومكتب الإدارة جميعا. وقبل خروجنا من الملجأ، قال أحد الجنود: سكوت، إسمعوا أن هناك صوت قادم من بعيد، فأصغينا له، وإذا بصوت حشود كبيرة بالآلاف تهتف: الله أكبر. فقال الجميع: إجوي السادة، يلا (أي جاء الإسلاميون هيا بنا).
جلسنا في الخندق جميعا، وفي هذا الخندق الدائري الكبير الذي يحيط بالفوج رأينا جميع رفاقنا الجنود والضباط، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة والنصف ليلاً. وفي حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وصلت أول طلائع الجيش الإيراني، والعجيب في الأمر أن الإيرانيين كانوا من الغباء بحيث يرون في الهجوم كما لو كان سباق ماراثون المهم فيه من يصل أولا دون خطة عسكرية لمسك الأرض. مر الجنود الإيرانيون على مقربة 300 متر من مقر الفوج دون أن يصطدموا بنا، وبدأ يشتمون ويقولون: راجعيلكم، أصبروا. كان ملجأنا والذي فيه مكتبي يبعد خمسة أمتار عن الخندق، وفي حدود الساعة الثالثة سمعت رنين الهاتف فقلت للجنود سأذهب للملجأ لأرد على الهاتف فقد يكون هناك أوامر جديدة. كان الرمي كثيفا بكل أنواع الأسلحة وقد إشتعلت سماء الشيب وحالت ليلها إلى نهار. زحفت إلى المكتب ورفعت سماعة الهاتف، وإذا بأحد نواب ضباط مقر الفرقة 18 الذي نتبع لها عسكريا، والتي بعد عن مقرنا بحدود 15 كيلومترا، يسأل عن الوضع عندنا. كان قائد فرقتنا هو العميد الركن سلطان هاشم أحمد، الذي أصبح لاحقا وزيرا للدفاع، والآن يقبع في السجن منذ سقوط النظام في 2003. فأوجزت له، وتساءلت عن سبب سؤاله فقال: لأن بعض الجنود الإيرانيين بحدود خمسة أشخاص قد وصلوا مقر الفرقة ودخلوا من باب النظام، فألقى حراس الباب وبعض الجنود القبض عليهم وأسرهم. وبعد أن توادعنا مع تمنياتنا بالسلامة، إتصلت بمكتب إدارة اللواء 704، والذي يقوده العقيد الركن باشا، وهو من الطائفة الأيزدية ويقاتل بشراسة، وقد كرمه صدام حسين عدة مرات. فقال صديقي، إنهم يقاتلون بشراسة، وزخم الهجوم عليهم بشكل أكبر، ولم نطيل بالحديث سوى بضع كلمات.
عدت على جنودي في الخندق، وأخبرني الجنود بإصابة الجندي أول الطابعي داود، وهو مسيحي، نظرا لخروجه من الخندق، فأصدرت أمري بعد خروج أي جندي، وتساءلت أين هو الأن، فأشاروا إلى شخص ممدد في الظلام خارج الخندق على بعد 15 مترا، وشرحوا لي كيف أنهم حالوا عدة مرات سحبه للخندق لإسعافه، ولكن تعذر عليهم ذلك بسبب وجود أحد القناصة الإيرانيين مختبأ داخل مجموعة من القصب، ويمنع أي شخص من إسعافه، وهو الذي أطلق النار عليه. فقررت أن أزحف لسحبه، وطلبت من الجنود تشكيل قوة نار مؤلفة من خمسة جنود تطلق النار في وقت واحد على القصب أثناء زحفي، فقالوا حسنا. خرجت من الخندق زحفا حتى وصلت إلى الجندي الجريح ومسكت يده كان ما يزال حيا، وكان جنودي يرمون بكثافة لتغطية محاولتين ومع كل ذلك، كان القناص يرمي على مقربة من رأسي بحدود عدة سنتمترات من خوذتي، وإتضح إن الجندي ليس داود، وإنما جندي أخر، عرفني وقال سيدي لا تضحي بنفسك، روح إرجع، فقلت له: لا، تشجع وسأسحبك. كانت إصابة في صدره بالقرب من القلب. وما هي لحظات حتى فارق الحياة. إنسحبت زحفا، بينما كان القناص الإيراني يواصل الرمي عليّ لقتلي، ألقيت بنفسي في الخندق، وقلت لجنودي: أنه ليس داود، وقد توفي رحمه الله. فأتركوا موضوعه. وفي هذه الأثناء سرت صيحات داخل شق الخندق، ويبدو أن بعض الإيرانيين تسللوا اليه، فركضت بإتجاه الصوت بأقصى سرعة، متجاوزا الجنود الكثيرين الذين إزدحم بهم الخندق، وبعد مسافة 500 متر داخل الشق، لم يعد هناك جنود عراقيين، وفي الظلام ظهر أمامي جندي إيراني، صوبت سلاحي تجاهه وهو فعل نفس الشيء، وللحظات وقفنا جامدين كلينا دون أن يرمي أحدنا على الآخر، وربما كل واحد كان يمنّي نفسه بالقبض عليه أسيرا. وماهي إلا لحظات حتى رأيت جندي عراقي يرمي بنفسه داخل الخندق ويطوقه من خصره ويديه ويصرخ: سيدي، ألقيت القبض عليه. وزالت عني حالة الذهول، وقلت له: عفية إلزمه زين. في موقف ما زلت أضحك كلما أتذكره. تقدمت ونزعت عنه سلاحه بندقية كلاشينكوف. وفي هذه الأثناء ظهر داود وهو قادم داخل الشق من الإتجاه المعاكس فعنّفته على عدم إلتزامه بالأوامر، وحمدت الله على سلامته، وعدنا معا راكضين نحو مقرنا.
ولإستذكار ذكريات الحرب، أدرج هنا ما كتبه اَلْلِواءْ فَوْزِيّ اَلْبَرَزَنْجْيّ عن تلك المعركة في دراسة عنوانها "شَيٌء مِنْ التأرِيخِ... بِماذا تَمَيَّزتْ اَلْحَرْبُ الْعِراقِيَة الإيرَانِيَةُ (1980 – 1988)"، على موقع شبكة البصرة بتاريخ 28 كانون الثاني 2016، لفهم ما جرى فيها، فيقول:
" في ليلة 6/7 شباط سنة 1983 شن الجيش الإيراني هجوماً كبيراً بكتل بشرية مؤلفة من المُشاة وحرس خميني ومعززة بقطعات مدرعة على المواضع الدفاعية للواء المُشاة 95 ولواء المُشاة 704 ضمن قاطع فرقة المُشاة 18 في قاطع الفيلق الرابع في (منطقة الشيب) وتمكن الجيش الإيراني من إحتلال موطئ قدم في المواضع الدفاعية للوائين المذكورين آنفاً وإستمرت المعركة عدة أيام قاتلت وحدات اللوائين المذكورين قتال بطولي كبدت فيها القطعات الإيرانية خسائر بشرية كبيرة.
وفي يوم 9 شباط 1983 شن إحتياط الفيلق الرابع اللواء المدرع 12 هجوماً مقابلاً على قطعات الجيش الإيراني في موطئ القدم الذي حصل عليه وتمكن من تدمير معظم دروع وآليات العدو وطرده من المنطقة التي إحتلها وتكبد الجيش الإيراني خسائر بشرية جسيمة.
يوم 10 نيسان 1983 شن الجيش الإيراني عدة هجمات تعرضية متعاقبة على المواضع الدفاعية في المرتفعات الحدودية في قاطع الزبيدات والشرهاني قاطع العمارة التي كانت تدافع فيها تشكيلات فرقة المُشاة 20 ضمن قيادة الفيلق الرابع، طبوغرافية هذه المنطقة تخدم قطعات الجيش الإيراني أكثر مما تخدم قطعات الجيش العراقي وبعد عدة هجمات متقابلة بين الطرفين تمكن الجيش الإيراني من الإحتفاظ بموطئ قدم في هذه المرتفعات وتكبد الجيش الإيراني خسائر كبيرة بالأشخاص والمعدات."
بدأنا في مطلع فجر يوم 7 شباط 1983 نرسل جنودا منفردين لإعداد الطعام داخل الملاجيء، والغريب إننا كنا نتناول وجبة واحدة في اليوم ولم نكن نشعر بالجوع طيلة 3 أيام متتالية، بإستثناء الشاي الذي كان سيد الموقف، فأرسلت صادق ليصنع لنا الشاي ويأتي بقدحين كبيرين نشترك بهما حوالي 20 جنديا في الخندق. كان صادق فرحا وسعيدا، وهو يذهب لملجأنا القريب ويحضر الشاي لنا ولرفاقه. وبدأت الأخبار تتوالى مع إقتراب موعد الظهيرة، وهكذا عرفنا إن قوة باشا قد سحقت أعداد كبيرة من الهجوم الإيراني وكسرت زخمه. وهكذا مر يومي 7 و8 من شباط ذلك العام. عدنا شيئا فشيئا إلى مقراتنا ولكن ما زال الهجوم مستمرا.
وفي ليلة 9/10 شباط دفع الإيرانيون أعداد جديدة من المشاة وحرس خميني، وبدا أن الهجوم قد أستعاد نشاطه وحيويته، بقينا الليل كله نقاتل، وبعد قليل وصل إلى مقرنا بعض الجنود الهاربين من بعض الوحدات العسكرية الساقطة. فبقوا يقاتلون معنا الليل كله. كان الإيرانيين يندفعون بموجات بشرية كبيرة بعد أن سقطت الحجابات وإستغلها الإيرانيون فإندفعوا منها إلينا. كانون الصراخ يملأ المكان وأزير الرصاص وأصوات المدافع ترج الأرض رجا. وفي خيوط الفجر الأولى رأينا أن المجموعات الإيرانية التي إندفعت منذ ساعات وهي تشتم العراقيين طيلة الليل، تعود إلينا تمشي وأيديها فوفق رؤوسها. ولاحت من خلفهم دبابات الفرقة العاشرة المشهود لها ببسالتها، وما زلت أتذكر تلك الصورة ما حييت، حيث قادة الدبابات يجلسون عليها مع عدد من الجنود ويرفرف خلفها علمها المثلث الأصفر الصغير، وأمامهم المئات من الجنود الإيرانيين يضعون أيديهم فوق رؤوسهم، فهرع جنودنا يخرجون إليهم من الخندق ليمسكون بهم، وقد تم إجلاسهم على الأرض على شكل أرتال بالقرب من غرفة أمر الفوج الثالث المدعو من قبل الجنود ب (أبو شكرية).
كان الكثير من الجنود الإيرانيين وخاصة حرس خميني منهم يعصّبون رؤوسهم بقطع قماش في الغالب بلون أخضر وقد كتب عليها شعارات دينية. فإنتزعت إثنتين منهم الأولى خضراء اللون وقد كتب عليها بالفارسية (عاشقان كربلا) والثانية وردية اللون وقد كتب عليها بالفارسية أيضا (وافاطمة الزهرا). وضعتهم في جيب قمصلتي العسكرية، وبدأ بقية السرايا والأفواج تجمع الأسرى لإرسالهم إلى مقر الفرقة.
جاء الجندي يحيى، وهو سائق دراجة بخارية، ويدعى ب (معتمد البريد)، وهو شاب من سكنة مدينة صدام، ومخلص في عمله، وقال لي: سيدي، أحد أقاربي قد تم ضمه إلى الجنود الإيرانيين وهو عراقي وأنا أعرفه جيداً، أرجو أن تخرجه من بينهم. فقلت له: أنت متأكد مو إيراني؟ فأقسم بأنه ليس أيراني، فقلت: منو هو؟ فأشار إليه، فقلت له: أخرج، وخذه إلى ملجأي يا يحيى، ففرح كثيرا. ومن المؤسف أن يستشهد يحيى بعد أن تركت مقر اللواء بعد سنتين ونقلت إلى الحبانية، فقد إخترقت شظية كبيرة جمجمته. ولكن ما زالت لدي شكوك حتى هذه اللحظة في إن ذلك الشاب كان عراقيا من أصل إيراني وقد أبعد إلى إيران، وكان قريباً ليحيى فأراد إنقاذه.
وبعد أن تم ترتيب الأسرى وقد بلغ عددهم أكثر من (150) أسيرا إيرانيا، ذهبت إلى غرفة الأمر العقيد محمود، وقبل أن أدخل نزعت خوذتي العسكرية وإرتديت العصابة الخضراء حول رأسي ودخلت على عليه، وللوهلة الأولى تفاجأ وهرع إلى مسدسه، فقلت له ضاحكا: إني رياض سيدي، فلا تخف. فقال: أنعل مذهبك، والله عبالي إيراني دخل عليّ. فنزعتها عن رأسي. فقال: وما هذه اللحظة التي تجعلك تبدو كإيراني. فقلت له: سيدي صار 3 أيام هجوم ولم أتمكن من الحلاقة. فقال: حسنا. ما الجديد؟ قلت له: لدينا عدد من الأسرى فبماذا تأمر؟ فقال: دعني أتحدث إليهم قليلا. فإرتدى خوذته وخرج من ملجأه وخرجت وراءه.
وقف أمام الأسرى وتحدث إليهم، قائلا: كما ترون إنكم تشنون حربا علينا، وهذه أرضنا، وترون إلى الخلف منكم ثاية أو علامة حدودية دولية مؤشر عليها إنها أرض عراقية، وفي الجانب الآخر هي أرضكم. فإعترض أحد الأسرى وقال: أرضنا إلى كربلا. فقال له العقيد: هذا غير صحيح، فهذه أراضٍ عراقية بموجب الخرائط الدولية والأمم المتحدة. ثم لاحظ العقيد وجود جندي صغير يبدو إنه من الأطفال الذين جندتهم إيران، فقال: إنت كم عمرك؟ فهرع إليه الحراس وأوقفوه، فقال: 16 سنة. فتوجه الآمر للجميع وقال: هذا لا يجوز تجنيده. ثم عاد إليه فسأله: هل تعرف العربية؟ فقال: نعم، وانا من كربلاء وتم تهجيرنا قبل سنة إلى إيران. ثم أشار بيده إلى أسير أخر كبير السن، وقال هذاك أبي. فإلتفت لي الآمر، وقال: هل لدينا جنود من محافظة كربلاء؟ قلت: نعم سيدي، ونظرت إلى أحد الحراس وقلت: أحضروا لنا أي جندي يسكن كربلاء. فحضر على الحال أحدهم، وقال له الآمر: تأكد لي من أن هذا وابنه كانوا من سكنة كربلاء. فإستفسر منهم الجندي عن سكناهم هناك، فقال الآب أنه كان صاحب محل صياغة الذهب في سوق كربلاء، وذكر أسم المحل، فتأكد لنا أنهم فعلا من هناك. ثم إلتفت لي، وقال: سجل أسماءهم جميعا، وأحضرها لي، ثم عاد إلى ملجأه. فبدأت أسجل أسماءهم، وكان لفظهم للأسماء بصيغتها الفارسية مشكلة لي. حيث كانوا يلفظون الضاد زاءً، والحاء هاءً. فيلفظون إسم رضا على شكل رزا. وأخيراً، قررت أن أمنحهم الورقة ليكتبوا أسماءهم بأنفسهم. فأخذوا يكتبون أسماءهم، وعندما تم تسجيل أسماء الجميع، أخذتها وذهبت للآمر ثانية، وبعد أن أديت التحية، قلت له: هذه قائمة بأسماء جميع الأسرى. وهنا ساد موقف غريب، فعلى ما يبدو أن إسم الأب لجميع الأسرى هو (فرزنده)، وهنا تساءل الآمر: معقولة كلهم أسم أبوهم فرزنده؟ فقلت له: لم ألاحظ ذلك، ودعني أنتأكد. فخرجت من عنده، وقلت لهم: هل إن إسم أبوكم جميعا هو فرزند، فقال أحد الذين يتحدث العربية: لا، إن فرزند يعني (إبن). فركلهم أحد الجنود قائلا: يعني لازم تذكر كلمة إبن، ليش إحنه بزمن الجاهلية. قول حسين علي مثلا، ونحن نعرف إن حسين هو بن علي. فعدت إلى العقيد، وأخبرته بذلك، وضحكنا معا. وقال، اطبعوا الأسماء وأرفقوا القائمة بكتاب لأوقعه ونرسلهم إلى مقر الفرقة. فقلت: حاضر. وخرجت من عنده، وإتجهت إلى ملجأي لأشرف على العمل مجددا بعد ترك هذا الملجأ والبقاء في الخندق لثلاثة أيام متواصلة دون نوم أو طعام بشكل طبيعي. وهنا رأيت إلى جانب منضدتي جثة جندي غيراني ممددة. فقلت: ما هذه؟ فردّ عليّ الجندي صادق، أن هذا الجندي احضره داود، ثم دردم قائلا: والله عنده سوالف هذا داود. فصرخت داود، تعال. فجاء، فقلت له مؤشرا نحو الجثة، شنو هذه الجثة، فقال: لا سيدي، هذا مو ميت، بل جريح، وأنا شربته مي (ماء)، وراح يعيش. قلت: وشراح نسوي به بعدين؟ إذا عرف الآمر راح يسوي مشكلة. وهنا رن الهاتف، فتحدث لي العقيد قائلا: رياض، شنو عدكم جثة جندي إيراني يمكم؟ فقلت: نعم سيدي، هذا جابه داود، وهو جريح وهو يريد أن يراعيه، وكنت أطلب منه على التو أن يرسله للفرقة. فقال حانقا: قل له، شنو هو بلبل ويريد أن يربيه. أرسله فورا لمقر الفرقة. قلت: حاضر سيدي. وإلتفت للجنود فيما كان داود يضع بعض قطرات الماء في فمه: يلان بسرعة إتصلوا بوحدة الأليات ليرسلوا لنا سيارة لنقله للفرقة. وكملوا طبع قائمة الأسرى. وخرجت، فرأيت الرائد ضابط التوجيه السياسي للفرقة 18، فهنأني على النصر، وسألني: هل هناك من بينهم من قاوم بضراوة؟ فقال له الجنود الواقفين: نعم سيدي، هناك قناص إيراني، يختبأ في القصب هناك، وقد قتل عدّة جنود عراقيين. فأرسل بعض الجنود، فوصلوا إليه وجلبوه، وإذا به، رجل كبير السن ويبدو قد تجاوز الستين من عمره، فأخذه الرائد إلى غرفة خربة من جراء القصف، وسمعوا صوت إطلاقات، وعندما عاد هو والجنود تساءلت مستفهما، فقال لي أحدهم: أعتقد قتله. ففهمت.
تم إرسال جميع الأسرى إلى مقر الفرقة 18، وأخذنا قسطاً من الراحة. وبقيت الذكريات عالقة في أذهان من عاشوا.
والأمر الأهم، إن إيران عادت هذه المرة في عام 2003 بعد أن أسقط الأمريكان نظام صدام حسين، وجاءتهم الفرصة لينتقموا من العراقيين بأبشع شكل، وبعد بحث وتحقيق، إتضح لي أن التفجير الذي أصابني يوم العاشر من شباط 2007 كان بتدبير إيراني للإنتقام من شخص شارك في الحرب العراقية-الإيرانية. ومع كل ذلك، لم أترك العراق، وإستمريت في وظيفتي في وزارة الخارجية، وبعد سنتين تم نقلي إلى مقر بعثة العراق للأمم المتحدة في جنيف، وبعد أربع سنوات زادت التهديدات بقتلي بمجرد العودة للوطن، فإضطررت للبقاء في سويسرا منذ عام 2013 وحتى الآن.
وقد إرتأيت تدوين كل ذلك، للتاريخ. فتحية لحماة الوطن من الجيش العراقي الذين ما زالوا على قيد الحياة، والرحمة لشهداء العراق.

د. رياض السندي
9 شباط 2019




16
الدور السياسي للكنيسة الكلدانية في العراق
(القسم الثالث والأخير)
د. رياض السندي
ثالثا. علاقة الكنيسة الكلدانية بالنواب المسيحيين
وإلى جانب التشجيع على العمل السياسي فإن الكنيسة قد أعربت عن خيبة أملها من النواب المسيحيين، كما اتخذت مواقف متشددة تجاه بعض النواب وأحزابها. فأصدرت أراءها أو فتاواها بإعتبار هؤلاء النواب لا يمثلون المسيحيين ولا أخلاق المسيح، وهي أشبه بصيغة التحريم القديمة في المسيحية، أو بفتوى التكفير عند المذاهب الإسلامية.
وجذور المشكلة تعود إلى عام 2003، عندما قام الحاكم المدني بإختيار يونادم كنّا ممثل الأشوريين، العضو المسيحي في مجلس الحكم، وإستبعاد المطران الكلداني عمانوئيل دلّي (البطريرك لاحقا)، وظلّ موقف البطريركية حتى وفاة البطريرك يرى أن كنّا لا يمثل المسيحيين.   ومن هذه الحالات، ما يلي:
-   أعلنت البطريركية رأيها حول كتائب بابليون برئاسة السيد ريان الكلداني، قائلة: "تؤكد البطريركية الكلدانية ألا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بكتائب بابليون أو غيرها من الفصائل المسيحية المسلحة ولا بالشيوخ الكلدان. لا يوجد للكنيسة الكلدانية شيوخ يمثلونها. إننا نعلن للجميع إن السيد ريان لا صلة له بأخلاق المسيح رسول السلام والمحبة والغفران، ولا يمثل المسيحيين باي شكل من الأشكال، ولا هو مرجعية للمسيحيين، ولا نقبل أن يتكلم باسم المسيحيين. هو مجرد مقاتل في الحشد الشعبي. إنما (الكنيسة) مرجعيتها السياسية هي الحكومة العراقية وان ممثليها الرسميين هم أعضاء مجلس النواب." 
-   أما رأي البطريركية حول النائب الشيوعي جوزيف صليوا، فقد كان أكثر قسوة، ومازالت العلاقة المتشنجة بينهما تشهد سجالات عديدة، قائلة: " إن هذا النائب (جوزيف صليوا) لا يمثل المكون المسيحي باي شكل من الأشكال ولا يمثل الكلدان ولا يشرفهم، ويبدو انه إنسان غير مسؤول ولا يعرف حجمه وحدوده، أو مدفوع من جهة معينة." 
ولاحقا، نشر إعلام البطريركية، قائلا: "مرة أخرى نؤكد إن هذا النائب لا يمثل المكون المسيحي باي شكل من الأشكال ولا يمثل الكلدان ولا يشرفهم، ويبدو انه إنسان غير مسؤول ولا يعرف حجمه وحدوده، أو مدفوع من جهة معينة. البطريركية تحذره من إذا استمر في تصرفه هذا سوف تقاضيه قضائيا. نتمنى إن يتعلم الدرس هو وغيره." لذا نطالب الحزب بمحاسبته والبرلمان برفع الحصانة عنه بسبب تجاوزاته العديدة على الشخصيات العراقية والكتل السياسية الرصينة."   
-   وأخيرا، فقد بدت علاقة البطريركية بالنائب عمانوئيل خوشابا الفائز في انتخابات 2018 عن كتلة الرافدين والأمين العام للحزب الوطني الأشوري، متشنجة منذ بدايتها.
فقد نشر النائب المذكور، بعد تعذّر حضوره دعوة البطريرك للنواب المسيحيين الجدد قائلا: " إن اعتراضي كان على نقطتين رئيسيتين هما إن الدعوة لم أتلقاها بشكل رسمي ولم أراها بأم عيني  والقضية الأخرى هي المجلس المسيحي فقد كان هذا الموضوع محور نقاش  في اجتماع تم قبل عدة سنوات في أربيل  بمشاركة عدد من أحزابنا  وسيادة البطريرك ساكو  واعلنا موقفنا تجاه هذا الطرح  فالمفهوم الذي يتم من خلاله تبني مثل هذا المجلس يتناقض مع الطرح الذي تتبناه أحزاب شعبنا تجاه بلورة دولة مدنية تتكفل بحقوق مواطنيها وهذا ما يتعارض مع فكرة الدولة الدينية فاذا كنا مسيحيين ونتجه محو تبني هذا المفهوم فكم بالأحرى سيكون توجه الأغلبية المسلمة  التي ستكون رؤيتها باتجاه  الجنوح نحو ترسيخ الدولة الدينية بناءا على نظرتنا تجاه هذا الأمر ..". 
ثم عادت الكنيسة الكلدانية لترّد على تصريحات النائب عمانوئيل خوشابا حول إخفاق ترشيح البطريركية لإحدى المسيحيات لمنصب وزير الهجرة، بالقول: " نشر السيد عمانوئيل خوشابا بيانًا وُزِّع على وسائل الإعلام، منها السومرية، زاعما فيه أن إسقاط ترشيح السيدة هناء عمانوئيل لوزارة الهجرة والمهجرين، هو انتصار لمدنية الدولة وفصل الدين عن السياسة. إننا نأسف جدا لهذا التصريح الذي لا يخلو من عدم الدراية والأوهام. وإننا إذ نحترم الخيارات الديمقراطية وفق حيثياتها، نقول إن الدولة الدينية أو المدنية لا تقوم على عدم توزير سيدة مستقلة ومن التكنوقراط. وإذا كان السيد خوشابا واثقا إلى هذا الحدّ من الادعاء، فندعوه بكل تأكيد هو وزملاءه إلى العمل على قيام دولة مدنية حقيقية، وفي هذه الحال، لن يكون ثمة أي داعي، لقيام كوتا مسيحية فهذا تعبير ديني، ولا تستشار من ثم المراجع العليا." 

رابعا. السعي لإنشاء مرجعية مسيحية سياسية
نشر البطريرك لويس ساكو رؤياه للمشهد السياسي المسيحي عام 2016، قائلا: المطلوب تشكيل فريق صغير فعّال من 7-10 من أشخاص حكماء ومقتدرين وشبعانين وسياسيين متزنين ومخلصين ليكونوا ناطقين باسم المسيحيين ويتحملوا المسؤولية بروح الفريق الواحد، ويتصلوا بالمعنيين في الداخل والخارج. فالجوامع المشتركة بينهم لا تزال حية وتتطلب التنازل عن المصالح، والتكاتف والتعاون. والتخلص من العقد، والمشاركة البنّاءة والفاعلة مع المسلمين والأخرين في الحياة العامة. صحيح أن عددهم قد تراجع، لكن حضورهم وأداؤهم لا ينبغي أن يتراجعا.
ألا يمكن أن تجتمع كافة تنظيمات شعبنا تحت اسم واحد كأن يكون: “التجمع المسيحي الوطني العراقي”
لماذا لا يُشكّل “مجلس سياسي مسيحي” ندعو لتأسيس مرجعية سياسية مسيحية.
" البطريرك لا يقدم نفسه بديلا للأحزاب السياسية ولا للنواب. لكن لو نظرنا إلى الساحة السياسية العراقية لوجدنا إن للشيعة مرجعية سياسية وللسنة مرجعية سياسية كذلك للأكراد، وللتركمان جبهة وللشبك ولليزيديين، أما بالنسبة إلى المسيحيين فهناك تبعثر وتشتت. هناك أحزاب قومية ترشحهم هذه الجماعة أو تلك، وهي بالتالي تابعة لها، وجاءت بأشخاص يفتقرون إلى الاقتدار المعرفي والسياسي وبالتالي المسيحيون هم الخاسرون.
كان قد طرح غبطة البطريرك ساكو منذ بداية تسنمه لمسؤوليته مشروع تكوين مرجعية سياسية علمانية موحدة للمسيحيين على قاعدة الكفاءة. هذا الطرح رفض بحجة أن المسيحية ديانة وليست قومية؟ وكلما بادر لجمع شملهم برزت الاختلافات والتوجهات المنفعية الذاتية الشخصية أو القومية." 

ثم أعادها ثانية " البطريركية تقترح تشكيل فريق مسيحي جامع، مقتدر ومهني يكون هو المرجعية السياسية والناطق الرسمي باسم المسيحيين فيما يخص المشاركة السياسية. ويخرج بقائمة انتخابية واحدة تحت “تجمع مسيحي” وتختار من هم الأفضل لتمثيلهم. إنها فرصة مفصلية ونأمل أن تدعم المرجعيات الكنسية هذه المبادرة. بخلاف ذلك سوف تدعم البطريركية وبكل قوتها وإمكانياتها قائمة كلدانية في الانتخابات القادمة وتشكل فريقا وطنيا كلدانيا لإنجاح هذه القائمة." 
" ألا يمكن أن تجتمع كافة تنظيمات شعبنا تحت اسم واحد كأن يكون: “التجمع المسيحي الوطني العراقي” لأننا اليوم نحتاج إلى الوحدة والألفة والتضامن. بهذه الوحدة نقدر أن نبادر بإطلاق حملة وطنية، شعارها تحقيق السلام والوئام والتعايش السلمي واحترام كل الأديان والمذاهب والأطياف وإشاعة روح الحريّة والديمقراطية الصحيحة.

إن تشكيل (جهة سياسية) معنية بشؤون المسيحيين، قد أصبحت رغبة عارمة لدى البطريرك الكلداني الحالي، يطرحها في كل مناسبة أو اجتماع أو لقاء، حتى الدينية منها، وعلى سبيل المثال، ف "في الجلسة الصباحية لأعمال الجمعية العادية لمجلس كنائس الشرق الأوسط المنعقد في عمان-الأردن يوم الأربعاء 7 أيلول 2017، والتي  كانت مخصصة للوجود المسيحي المهدد في الشرق الأوسط، اقترح غبطة البطريرك ساكو تشكيل لجنة في مجلس الكنائس من خبراء سياسيين وقانونيين تهتم بالوضع السياسي في الشرق الأوسط لأجل دراسة وتحليل وتقديم رؤية واضحة وحلول، كما اقترح أن يقوم المجلس بتشكيل وفد رفيع المستوى لزيارة المرجعيات الدينية المسلمة: مشيخة الأزهر والنجف وقم للمطالبة بإصدار موقف واضح حول المسيحيين في هذه البلدان. وقبل الظهر قابل رؤساء الكنائس جلالة الملك عبد الله الثاني." 

فما الذي يميز هذه اللجنة السياسية عن الأحزاب السياسية (المسيحية)؟
الغريب في الأمر، أن هذه اللجنة السياسية ستشكل في مجلس الكنائس، أي سيقوم المجلس بتشكيلها من مجموعة من السياسيين والقانونيين، وهي تابعة لمجلس الكنائس، وهذا ما يميزها عن الأحزاب. أو أن يجعل الأحزاب تنضوي تحت سلطة الكنيسة مجددا كما كان الوضع في أوربا إبان القرون الوسطى.

خامسا. الرغبة في تمثيل المسيحيين لدى السلطة
رغبة البطريرك الكلداني في تمثيل المسيحيين العراقيين جميعا لدى السلطة بدأت مع سعي المطران (البطريرك لاحقا) عمانوئيل الثالث دلّي إلى تمثيل المسيحيين في مجلس الحكم المؤقت لعام 2003، كما أسلفنا، وتعززت هذه الرغبة بتولي المطران لويس ساكو مطران كركوك وتوابعها كرسي البطريركية الكلدانية في 1 شباط 2013م. ففي رسالته إلى سياسيي أبناء شعبه بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر 2013 يضع الخطوط العريضة لتدخله في الحقل السياسي وتسيّده على القرار المسيحي، ورغبته بتشكيل فريق عمل في البطريركية، جاء فيها:
" كنتُ أتمنى أن يتمّ لقاءٌ خاصٌّ يجمع العاملين في السياسة من أبناء شعبنا، لكن ظروفي الكنسيّة الكثيرة وعدم تمكني من تشكيل فريق عمل في الدائرة البطريركية حتّى الآن لم تسمح بذلك، لذلك أوجّه إليكم هذه الرسالة مقترحًا عليكم بعضَ أفكار بغية توحيد الصفوف وتفعيل الدور المسيحي في الحفاظ على اللحمة الوطنيّة من جهة، وعلى حقوق المسيحيين كمُكوَّن عراقيّ أصيل من جهة ثانية... ألا يمكن أن تجتمع كافة تنظيمات شعبنا تحت اسم واحد كأن يكون: “التجمع المسيحي الوطني العراقي” ... لماذا لا يُشكّل “مجلس سياسي مسيحي”." 
وقد نشرت إحدى الصحف رأينا بالقول: " رأى الديبلوماسيّ والخبير في الشأن المسيحيّ الدكتور رياض السندي أنّ النقد المتزايد لتدخّل رجال الدين يكشف عن الصراع على تمثيل المسيحيّين بين السياسيّين ورجال الدين. وفي رأي رياض السندي، الذي كتب مقالات تحلّل أسباب الانقسام الداخليّ المسيحيّ، "إنّ الصراع على التصدّي لتمثيل المسيحيّين بطوائفهم الـ14 ترك تأثيره على مواقف الكنيسة وتصريحاتها التي تتغيّر بين الشدّ والجذب. ففي عام 2016، أعلن البطريرك ساكو أنّ المرجعيّة السياسيّة للكنيسة هي الحكومة العراقيّة، وأنّ ممثّليها الرسميّين هم أعضاء مجلس النوّاب، لكنّه في العام الحاليّ بدّل موقفه مع تصريحه أنّ أحد النوّاب لا يمثّل المسيحيّين ولا يمثل الكلدان فهو يمثّل رسميّاً كتلته السياسيّة، وكان المقصود بذلك النائب جوزيف صليوة." 
-   خاتمة
"ويبدو من سياسة شدّ الحبل بين السياسيّين ورجال الدين أنّ ساكو يعدّ الزعيم الدينيّ المسيحيّ، الذي حاز على الكمّ الأكبر من المعارضة والنقد نظراً لشخصيّته الكاريزميّة واتّخاذه خطوات جريئة شكّلت منافسة قويّة للسياسيّين، مثل دعوته في عام 2016 إلى مجمع مسكونيّ موحّد كمرجعيّة سياسيّة للمسيحيّين يشارك في الانتخابات بقائمة واحدة، وتوحيد تسمية المسيحيّين على أساس دينيّ، بدلاً من التشظّي في التسميات القوميّة، وترؤسه وفود رجال الدين لمقابلة رؤساء الكتل السياسيّة الكبرى." 
والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن الأذهان، وهي أن المسيحيين ما زالوا منقسمين إلى 14 طائفة، وأن هذا الإنقسام كان بسبب الكنيسة ذاتها، التي تحولت إلى كنائس بدلا من كنيسة واحدة، وأن الكرة في ملعب الكنيسة أصلا، وهي التي يمكن أن توحد المسيحيين، ولا حاجة للبحث عن الكرة في ملعب السياسيين ومطالبتهم بتوحيد (المكون المسيحي). بل أن الإنقسام السياسي هو نتيجة منطقية للإنقسام الكنسي.

د. رياض السندي
في 1/1/2019


17
الدور السياسي للكنيسة الكلدانية في العراق
(القسم الثاني)
د. رياض السندي

ثانيا. الفكر السياسي للكنيسة الكلدانية
تاريخيا، " كانت الكنيسة الكلدانية أول كنيسة شرقية تتّحد بروما سنة 1553، حيث إنشقت عن الكنيسة النسطورية".  وقد تناوب على رئاستها (18) بطريركا منذ 1553-2013. وآخر بطاركتها هو البطريرك الحالي مار لويس روفائيل ساكو الذي تم تنصيبه بطريركا للكنيسة الكلدانية في 1/2/2013. 
ومن المفترض إنها تعالج قضاياها ومن بينها مسألة تعاطي الكنيسة ورجالها السياسة، طبقا لتعليمات الكنيسة الكاثوليكية في روما.
وقد تطرق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965)   في الدستور الرعائي “الكنيسة في العالم المعاصر” إلى موضوع حياة الجماعة السياسية حيث خصص فصلاً كاملاً لهذا الموضوع بعنوان " الجماعة السياسية والكنيسة "، نقتبس منه الفقرة 76، التي تنص على ما يلي: -
76- إنه لفي بالغ الأهمية أن ننظر نظرة صحيحة إلى العلاقات بين الجماعة السياسية والكنيسة لا سيما في المجتمعات التعددية. ويجب أن نميز بوضوح تام بين الأعمال التي يقوم بها المؤمنون، أفراداً أم جماعات، بأسمهم الخاص، كمواطنين مسترشدين بضميرهم المسيحي، والأعمال التي يقومون بها بأسم الكنيسة وبالإتحاد مع رعاتهم.
نظراً إلى مهمة الكنيسة وصلاحيتها فهي لا تختلط بحال من الأحوال بالجماعة السياسية ولا ترتبط باي نظام سياسي. إنها العلامة والضمانة لما يمتاز به الشخص البشري من تسام ٍ.
فالجماعة السياسية والكنيسة مستقلتان، لا ترتبط الواحدة بالأخرى في الحقل الخاص بكل منهما. غير أنهما تقومان، وإن بأدوار مختلفة، بخدمة الدعوة الفردية والإجتماعية للناس ذاتهم. وإنهما لتقومان بهذه الخدمة لخير الجميع وبمزيد من الفاعلية، بقدر ما تحاولان دائماً أن تتعاونا تعاوناً صحيحاً نسبة إلى ظروف الزمان والمكان أيضاً. 
والنقطة الأهم في هذه الرسالة الكنسية الكاثوليكية، هو التفريق بين المؤمنين (المسيحيين) في الحياة السياسية، ودورهم فيه، وبين الكنيسة (رجال الدين) ودورهم فيها، مشدّدة على إن دور الكنيسة يختلف عن دور الجماعة السياسية، ويجب التمييز بينهما، لإن "الكنيسة لا ترتبط بأي نظامٍ سياسي".
"وتُحضِر الكنيسة الكاثوليكية التدخل في الشأن السياسي وتعتبرها مهمة قاصرة على العلمانيين. وقد جاء هذا الحظر في التعليم الكاثوليكي المسيحي البند 2442:
 ليس من اختصاص رعاة الكنيسة التدخل المباشر في البناء السياسي وتنظيم الحياة الاجتماعية. فهذه المهمة جزء من دعوة المؤمنين العلمانّيين، العاملين بمبادرتهم الخاصة مع أجل مواطنيهم. ويمكن أن يكون للعمل الاجتماعي ُسُبل واقعية متعددة. ويجب أن يكون أبدا لأجل الخير العام ومتوافقا مع الرسالة الإنجيلية والتعليم الكنسي. ويعود إلى المؤمنين العلمانيين "أن يُحيوا الشؤون الزمنية بغيرة مسيحية، وأن يسلكوا فيها َكفعلة سلم وعدالة." 

وقد طرح موضوع العلاقة بين الكنيسة والسلطة بشكل مثير للجدل بعد تقلُد لويس ساكو منصب بطريرك بابل على الكلدان في عام 2013، وبعد أ، تخلى، عمليا، عن مفهوم الفصل بين الكنيسة والسياسة التي أعلنها عقب توليه المنصب مباشرة.
فثارت الإنتقادات من أتباع الكنيسة الذين لم يَعهدوا أن يمارس رجال الكنيسة الكلدان هذا الدور السياسي، والذي لعِبَته الكنيسة الأثورية عند تشكيل الدولة العراقية بداية القرن العشرين ودفعت هي وأتباعها ثمناً باهضاً في تصدي الجيش العراقي لهم في مأساة سميل عام 1933. بينما إرتأت الكنيسة الكلدانية أن تنأى بنفسها عن دهاليز السياسة وتقلباتها، وهذا ما جنبها هي وأتباعها صدمات السلطة طيلة أكثر من 80 عاماً. إلا أنها بعد عام 2003 وإثر سقوط نظام صدام حسين، وبتشجيع من الأمريكان ومجاراة لرجال الدين المسلمين وخاصة الشيعة منهم، لذا فقد قررت دخول المجال السياسي منذ اليوم الأول، وسعى المطران عمانوئيل دلِّي إلى الإشتراك في مجلس الحكم المؤقت، إلا أن الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر رفض ذلك. 
وبعد موجة الإنتقادات الكثيرة للكنيسة الكلدانية وموقفها من السياسة والسلطة، الذي يبدو في ظاهره متناقضاً لباطنه. فعلى الرغم من كثرة الإدعاءات بعدم التدخل في السياسة ولعب دور سياسي، إلا أن الواقع يكشف خلاف ذلك. وخير دليل على رغبة الكنيسة في ممارسة السياسة ولعب دور سياسي متميز على صعيد السلطة، هو التنظير السياسي الذي يقدمه البطريرك الكلداني ذاته، ويعززه عدد من الكتاب المسيحيين الموالين للبطريرك والمبررين لمواقفه. وقد إنطلقوا يبّررون تدخل رجل الدين في السياسة بحجج وذرائع شتى. إن من يتصفح موقع البطريركية الكلدانية سيجد عدد لا بأس به من أمثال هؤلاء الدُعاة ووعاظ السلاطين.
وفي هذا المجال فقد دبَّج البطريرك الكلداني ساكو أو إعلام البطريركية عدد من المقالات حول ذلك، منها:-
1.   توضيح حول دور البطريركية الكلدانية وتحركاتها
"من المؤسف أن نسمع من بعض رؤساء الكنائس في بغداد انتقادات حول تحركات غبطة البطريرك الكلداني وزياراته وتصريحاته.
البطريرك ساكو يمثل أكبر كنيسة مسيحية في البلد، له أبرشيات لا توجد للكنائس الأخرى، ولو كشفنا عن احصائياتها لصدم المنتقدون. للكلدان في العراق إمكانيات بشرية ومالية وثقافية وسياسية وبإمكانهم التفرد بها، لكنهم مسيحيون منفتحون وغير متعصبين ويساعدون الكل من دون النظر إلى هويتهم، الكل يعلم ماذا قدمت الكنيسة الكلدانية للمهجرين والبطريرك نفسه دعا عدة مرات إلى الوحدة والى تشكيل مرجعية سياسية مسيحية!" 

2.   المشهد السياسي المسيحي في العراق
"كان قد طرح غبطة البطريرك ساكو منذ بداية تسنمه لمسؤوليته مشروع تكوين مرجعية سياسية علمانية موحدة للمسيحيين على قاعدة الكفاءة. هذا الطرح رفض بحجة إن المسيحية ديانة وليست قومية؟ وكلما بادر لجمع شملهم برزت الاختلافات والتوجهات المنفعية الذاتية الشخصية أو القومية.". 

3.   جدل الكنيسة والسياسة والموقف المبدئي
" الكنيسة والسياسة موضوع لا غرابة يثير الجدل، وقد تكتنفه الضبابية، عندما تطلق الآراء بشتى الاتجاهات وعلى مختلف المستويات. وتأتي كتابة هذا المقال من موقع بطريركي مسؤول، لنوضح الرؤية للقارئ الكريم، وخصوصا لأبناء كنيستنا الأحبة، من حيث الموقف المبدئي من هذا الجدل والتعامل الكنسي التراتبي معه... للمسؤول الكنسي الأعلى كلمته وموقفه ومن باب أولى في أوقات الأزمات، وذلك للدفاع عن الشعب وحقوقه. ولكن أين يكمن الفساد؟ " 

4.   الكنيسة والشأن العام   (السياسة)
"الكنيسة تتدخل عندما يتعلق الأمر بالبلد والناس في قضايا مصيرية. وصمتها غير مقبول في مثل هذه الحالات!! ومن حق الكنيسة التدخل في الشؤون العامة وممارسة تأثيرها الإيجابي على الوضع العام. ويجب أن تكون للكنيسة كلمة في الشأن العام Res publica   كالتغييرات الجادة التي طرأت على المجتمع في مجالات عدة، وما نتج عنها من ظلم وإرهاب وإجحاف. إن الضرر الذي لحق بالمسيحيين خلال السنوات الماضية، رغم أنهم سكان البلد الأصليون، كان فادحاً، بتهجيرهم من أرض أجدادهم وتهميشهم ومسح معالمهم مما إضطرهم إلى ترك البلاد وتسبب في تقليص عددهم من المليون والنصف إلى نصف المليون.  إنها مأساة إنسانية حقيقية." 

5.   توضيح حول ما سُمّي بـتدخل الكنيسة في السياسة (الترشيحات)
" صدرت عن بعض الأشخاص والجهات الحزبية المسيحية تعليقات غير مسؤولة ومستفزة، وتفتقر إلى اللياقة الأدبية في موضوع تدخل الكنيسة في الشأن السياسي.
إن الكنيسة تهتم بالشأن العام وهو جزء مهم من رسالتها لخير الناس وحفظا لحقوقهم وكرامتهم، كما فعل المسيح ويفعل البابوات.
الكنيسة ليست بديلاً للدولة، ولا موازية لها، وإنما هي جزء من المجتمع وتسعى للشراكة الفاعلة من اجل تحقيق العدالة وتطبيق القوانين واحترام حقوق كل إنسان. ولما قال يسوع بشأن العُملة التي قدمت له: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (متى 22/21) إنما قصد: أعطوا الضرائب لقيصر وهذا حقه، واعطوا ما لله حقه إي الطاعة وممارسة المحبة والرحمة والغفران تجاه بعضنا البعض." 
 وفي تصريح أخر صدر عنها في 24/12/2018 ما يتناقض تماما مع هذا التوجه، ويبين بأن لا علاقة للكنيسة بترشيح وزراء. 
والواقع أن الشأن العام هو مصطلح فضفاض يسرى على جميع المسائل ذات الاهتمام أو القلق المشترك، وتنصرف للسياسة والإعلام، والمسائل الإجتماعية والصحية والإقتصادية. فأسعار البترول هي شأن عام، ومرض الإيدز وغيره من الأوبئة هي شأن عام أيضا.
وكانت الحركات الإسلامية من أوائل من إستخدم هذا المصطلح للتدخل بالسياسة، لهذا ظهر نوع جديد من الفقه سُمّي ب (فقه الشأن العام). "يستند على موقف أبو حامد الغزالي الذي يرى إن صلاح الدين مؤسس على صلاح الدنيا وليس العكس... لأنه الإسلام أصول وفروع، السياسة من الفروع إذن لا يمكن أن نقطع الصلة بين السياسة وبين الدين، نحن نقول هناك سياسة شرعية ولذلك الحديث عن إنه تسييس الدين وتسييس الدين هذا خطأ، هذا كلام يريد أن يحول الإسلام إلى نصرانية تدع مال قيصر ومال الله لله، ... ويقصد بالشأن العام، التدابير التي تجعل الحياة حياة إسلامية سليمة، هذا معنى الشأن العام." 
ولكن ألا يُحَوّل تدخل رجل الدين المسيحي بالسياسة، المسيحية إلى الإسلام؟
إنتهى القسم الثاني ويليه القسم الثالث والأخير.

18
الدور السياسي للكنيسة الكلدانية في العراق
(القسم الأول)
د. رياض السندي
-   مقدمة
تُعد الكنيسة الكلدانية اليوم أحد لاعبي الحياة السياسية في العراق، فمن ناحية تتمسك التصريحات الرسمية للكنيسة وبطريركها (1)  بالتأكيد، مراراً وتكراراً، على ابتعاد الكنيسة عن التدخل في الشأن السياسي باعتبارها مؤسسة دينية روحية وليست حزبًا سياسيًا وإن البطريرك ليس زعيما سياسياً، وأن علاقتها بالسياسة تنحصر ب(الشأن العام)، على حد وصف البطريرك ذاته، وما يتعلق فقط بالتدخل لحماية الحقوق الدينية لمسيحيي العراق (المكون المسيحي)، بينما تأتي مواقف الكنيسة وعلى رأسها البطريرك لتصِّدر صورة الكنيسة كأحد الفاعلين في الشأن السياسي مما يجعل الكثير من المراقبين يؤكدون أن دورها يتجاوز كثيرًا مفهوم المؤسسة الدينية؛ حيث سعت في العقود الأخيرة لتكون وسيطًا سياسيًا بين المسيحيين والدولة ولتبرز كمرجعية سياسية ودينية في آن واحد. وهذا الموقف هو موقف مشابه للكنيسة القبطية في مصر، والكنيسة المارونية في لبنان. وهو في نفس الوقت إستنساخ مشوّه لدور المرجعيات الدينية الإسلامية، الشيعية منها والسنية، وتقليد لنمط الحكم الديني الإسلامي، بما يتقارب مع تجربة ولاية الفقيه الإيرانية، مما يطرح جدلية قديمة وهي: ما هو الدور الذي يلعبه الدِين في الحياة العامة، وخاصة في السياسة وممارسة السلطة، وما حدود ذلك الدور؟

وهذا ما يقتضي تتبعه وبحثه لتأريخ الكنيسة والدور الذي لعبته في أحداث العراق بعد عام 2003 وحتى يومنا هذا.

في العموم، ظلّ البطريرك الكلداني بعيداً عن السياسة، متجنباً لها، وهذا ما جعل الكلدان يتصفون بالواقعية السياسية عموما.(2) وقد حافظ الكلدان في العراق على إعتماد سياسة النأي بالنفس عن الدخول في صراعات سياسية، ولم يذكر التاريخ لهم موقف سياسي محدد إلا إذا مسَّ عقائدهم، لا بل كُل الذي عُرف عنهم هو موالاتهم للحكم القائم، وإمتثالهم لأوامر الحكومة الوطنية، على غرار القاعدة الإسلامية (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..) (3) على الرغم من أن أولي الأمر لم يكونوا يوماً منهم. وحتى أول مشاركة للبطريرك الكلداني يوسف غنيمة في مجلس الأعيان العراقي في العهد الملكي، لم تكن سوى مشاركة رمزية لا قيمة لها. ولم يسجل تاريخ العراق الحديث سوى تدخل وحيد لرئيس الطائفة الكلدانية بالسياسة، لإستثناء حالة فرض مناهج الشريعة الإسلامية على الطلبة المسيحيين، مما دَفع بالبطريرك بولس الثاني شيخو (1958-1989) الذي يلقّب ب (البطريرك الحليم) إلى التدخل شخصيا ويصبّ جام غضبه على نائب رئيس الجمهورية المسيحي آنذاك طارق عزيز وإلغاءها. (4) 

وتعود أول رغبة في المشاركة السياسية إلى ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وتشجيع الأمريكان لرجال الدين على خوض غمار السياسة بقصد الإساءة للأديان وتلويث سمعة رجال الدين الذين إستفادوا على الصعيد الشخصي وخسروا من جراء ذلك أكثر مما إستفادوا على الصعيد الديني. وإنسياقا مع ذلك، فقد تقدم معاون البطريرك آنذاك المطران عمانوئيل دّلي (البطريرك لاحقا) بطلب منحه عضوية مجلس الحكم الذي كان الحاكم الأمريكي المدني في العراق بول بريمر يعمل لإنشائه، إلا إن طلبه رفض، وقد بيَّن بريمر لاحقا ملابسات هذا الموضوع، وأشار لها في مذكراته المعروفة بعنوان" عام قضيته في العراق"، فكتب عن يوم 12 تموز 2003 قائلا: -
"ثُم خطر ببالي أن أبلغ العديد من المرشحين بأنهم لن يكونوا في عداد المجلس.

أولا. (المطران (البطريرك لاحقا في 2003/12/3 دّلي، زعيم طائفة المسيحيين الكلدان. فقد كانت الجالية المسيحية الصغيرة في العراق مجزأة، على غرار كافة الطوائف الدينية في البلد. كان هناك الكلدان الذين يبدو إنهم يفوقون الآشوريين عدداً، لكنهم لم يكونوا منظمين جيدا مثلهم وأقل فعالية سياسية. وللمحافظة على هدف الحصول على أصغر هيئة تمثيلية ممكنة، كان لدينا مكان لمسيحي واحد فقط في المجلس) يقصد مجلس الحكم الانتقالي). أخذنا ممثلاً للمسيحيين الآشوريين وتوقعنا أن يسبب ذلك إستياء لدى الكلدان. وكان ذلك صحيحاً، إذ في تلك الليلة لم يكن قلب المطران يفيض بالمحبة المسيحية. فبعد التذمر من إستبعاده، غادر غاضباً"(5).

وعلى العموم فلم يكتب لهذه المحاولة النجاح، وأعتبرت محاولة فاشلة من الكنيسة الكلدانية للتدخل في صلب السياسة، بداية العهد الأميركي في العراق.

وإذا ما تتبعنا مواقف الكنيسة الكلدانية بعد سقوط بغداد عام 2003 وإحتلال الولايات المتحدة للعراق، نجد أن مواقفها السياسية كانت دوماً مثار جدل كبير، مما أدخلها في صراع مع أتباعها من جهة ومع الكنائس الأخرى في العراق من جهة أخرى، إلاّ إنها نالت إستحسان الحكومة والمرجعيات الدينية الإسلامية، لتعزيز حالة تدخُل رجال الدين في السياسة والسلطة، وهيمنتهم على حياة الناس بسلاحي الدين والسلطة، وهو الأمر الذي إستفحل كثيراً منذ سقوط النظام السابق.

وسنحاول تتبع هذه المواقف، وفقا لتصريحات البطريركية الكلدانية وإعلامها، كما هو مثبت على موقعها الرسمي وفي الصحافة والإعلام العراقي والعالمي. وقد قمنا بتصنيف تلك المواقف وكما يلي: -

أولا. في العلاقة بين الدين والسياسة

1.   الإبتعاد عن السياسة

لم تمضِ أكثر من ثلاثة أشهر بعد تقليد لويس ساكو مطران كركوك، بطريركاً على الكنيسة الكلدانية في حاضرة الفاتيكان بروما حيث مقر الكنيسة الكاثوليكية، بتاريخ 1 شباط 2013م، حتى صرّح في 22 أيار/مايو 2013، بما يلي:
" البطريرك ساكو ينذر بطرد الكهنة الداعين إلى الدولة الكلدانية
بابا الفاتيكان يدعو إلى فصل السياسة عن المسيحية وانشقاق في كنائس العراق
(لا يمكن لمؤسسة كنسية بحجم الكنيسة الكلدانية ومسؤوليتها أن تزج نفسها في العمل القومي والسياسي على حساب رسالتها هذان المجالان من اختصاص العلمانيين)." (6)

 ثم عاد وأكد مرة أخرى " إننا نؤكدُ أن مجال العمل القوميّ والسياسي هو للعلمانيين المقتدرين. ونحنُ نشجعهم على بناء مدارس لتعليم اللغة وإنشاء مراكز ثقافيّة واجتماعية تعنى بالتراث والفن والثقافة، وتشكيل أحزاب سياسيّة تدافع عن حقّ الناس وتحميهم، لكننا لا يمكن أن ننخرط فيها أو نكون داعين لها. هذا خطٌّ أحمر. نبقى نلتزمُ بدعوتنا الكهنوتية وخدمة كلِّ الناس من دون تمييز."(7) 

"أجل قد تنتقد البطريركية أداء وتبعية البعض، لكنها أيضا لا تريد أن تكون قوة ومرجعية سياسية. والبطريرك لا يسعى أبدا ليكون زعيما قوميا للكلدان ولا قطبا سياسيا للمسيحيين." ( 8 )

"وبهذه المناسبة أوكد أن الكنيسة ليست بديلاً للسياسيين المخلصين ولا موازية لهم، إنما هي جزء من الوطن والشعب وتسعى لتقول كلمة حق في الشأن العام وخصوصا في مجال بناء السلام وتحقيق العدالة وتأمين حياة كريمة للجميع بغض النظر عن انتماءاتهم، وتبقى تحب الناس وكل الناس وتتفانى في خدمتهم على مثال المسيح مؤسسها."(9)   

"العمل القومي والسياسي مجالُ العلمانيين، إننا نؤكدُ أن مجال العمل القوميّ والسياسي هو للعلمانيين المقتدرين." أنذرُ كهنة الكنيسة الكلدانية بعدم التدخل بالسياسة وفصلها عن المسيحية.(10) 

جاء في البيان الختامي للسينودس الكلداني الذي أختتم أعماله في بغداد برئاسة البطريرك لويس ساكو للفترة بين (5 – 11 حزيران 2013)، وهو الأول منذ انتخاب غبطته وتنصيبه ببغداد يوم (6 آذار 2013)، ما يلي:

"ثامنا: يؤكد الآباء أن ما جاء في رسالة غبطة البطريرك بخصوص العمل القوميّ والسياسي هو للعلمانيين المقتدرين. ونحنُ نشجعهم على بناء مدارس لتعليم لغتنا وإنشاء مراكز ثقافيّة واجتماعية تعنى بالتراث والفن والثقافة، وتشكيل أحزاب سياسيّة تدافع عن كرامة الناس وحقوقهم، لكن لا يمكن لأفراد الإكليروس بجميع درجاتهم الانخراط فيها أو التحول إلى دعاة لها. على أعضاء الإكليروس الالتزام الكامل بدعوتهم الكهنوتية وخدمة كلِّ الناس من دون تفريق."(11)

"كما نشجع أبناءنا الكلدان على التعاون مع الجميع للخير العام وعدم التشظي إلى جماعات بلا هوية والانسياق وراء مشاريع وهمية تضر بالمسيحيين. كذلك نشجعهم على الانخراط في الشأن العام والعملية السياسية كشركاء أصيلين لهذه الأرض المباركة وأداء دورهم جنبا إلى جنب مع إخوتهم المواطنين في بناء دولة مدنية حديثة وقوية تناسب حضارة بلادهم ومجدها، وتحترم حقوق الجميع ومساواتهم."(12)
"تشجيع المسيحيين على الانخراط في الأحزاب الأخرى والترشّح في قوائم انتخابية ما عدا الكوتا، خصوصًا في انتخابات 2014 ليكون عدد نوابنا أكبر." (13)

" البطريرك لا يقدم نفسه بديلا للأحزاب السياسية ولا للنواب."(14)
وبيّن ساكو أن “الكنيسة لا تلعب دورا سياسيا وأي مرجعية دينية لا تلعب هذا الدور وإنما توجه فقط ولا نسعى لاستنساخ الإسلام السياسي، ولا يوجد لدينا طموحات سياسية ورَفضْتُ طلبات بالترشيح للبرلمان”. (15)

" أجل قد تنتقد البطريركية أداء وتبعية البعض، لكنها أيضا لا تريد أن تكون قوة ومرجعية سياسية. والبطريرك لا يسعى أبدا ليكون زعيما قوميا للكلدان ولا قطبا سياسيا للمسيحيين. يكفيه ما له من مسؤوليات وأعباء، ..."(16)

2.   التدخل في السياسة
كثيرا ما تدخل بعض رجال الدين المسيحي بمسائل سياسية هامة ومثار خلاف وجدل، مثل تجديد رئاسة إقليم كردستان، والإستفتاء الكردي عام 2017، وترشيح بعض الأسماء للمناصب الحكومية، ناهيك عن كثرة المقابلات للسياسيين العراقيين والأجانب، وأقامة العلاقات معهم، دون أن يصدر موقف من البطريرك ضدهم، بل كان في كثير من الأحيان يُبّرر مواقفهم تلك بوجودهم ضمن مناطق نفوذ تلك الأحزاب، أو ربما خشية البطريرك نفسه من سطوة تلك الأحزاب.

ويبدو أن تدخل رجال الدين المسيحي من الكلدان لم يعد -في الواقع العملي- مخالفة لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، ولم يطلب بطريرك الكلدان منهم ذلك، عدا التصريح السابق عام 2013 في بداية تقلده منصب البطريركية، بدليل أن صيغة إعلان الطاعة للرئاسة الكنسية الخاصة للمطارنة المنتخبين لعام 2014، تضمنت طاعة البابا والبطريرك، وحماية أموال الكنيسة، وخدمة الشعب الموكل إليهم بكل أمانة. ولم تتضمن الصيغة المذكورة أية إشارة أو حظر لممارسة السياسة، بما يدُل وفقا لمفهوم المخالفة على جواز ذلك أو إباحته. (17)

وأعتبر البطريرك الكلداني وجود خمسة فصائل مسلحة مسيحية، ثلاثة منها ضمن الحشد الشعبي وواحد تحت لواء حزب البارتي وأخر مع الاتحاد الوطني الكردستاني دليل على انشطار الموقف المسيحي في العراق ولا وجود لمرجعية سياسية حقيقية تمثله مما دفع بالكنيسة لسد هذا الفراغ".

------------------------------------
[1] البطريرك (ج بطاركة أو بطارقة) كلمة يونانية مكونة من شطرين، ترجمتها الحرفية الأب الرئيس؛ ومن حيث المعنى فهي تشير إلى من يمارس السلطة بوصفه الأب، على امتداد الأسرة، ولذلك فإن النظام المعتمد على سلطة الأب، يدعى النظام البطريركي. أما في المسيحية، فتتخذ الكلمة معنى رئيس الأساقفة في الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية؛ ويدعى مكتب البطريرك البطريركية. أما المؤرخون العرب فقد اصطلحوا على الكلمة لفظ بطريق. ويكبيديا-الموسوعة الحرة.
[2] في رسالة كتبها السياسي والقائد الأثوري أغا بطرس إلى أتباعه من منفاه في باريس بتاريخ 4/1/1922، يذكر فيها زيارة وفد من عائلة البطريرك الآثوري إلى بطريرك الكلدان عمانوئيل الثاني بقصد الإندماج معهم، فأبدى البطريرك الكلداني موافقته بشرط إستبعاد المسائل السياسية وتركها للسياسيين، فيقول: ” اتذكرون يوم قام (مار طيماثاوس) أسقف الملبار مع (سورما خانم) بزيارة (مار عمانوئيل) بطريرك الكنيسة الكاثوليكية سنة 1919 في بغداد وعرضا عليه الاتحاد. الم يرحب هذا الحبر الجليل بهذه الفكرة ..؟ ليقول لهما بالحرف الواحد (إذا أردتم توحيد الطقس الكنسي نأتي بالطقس النسطوري والكلداني ونراهم مع مراعاة الزيادة والنقصان ثم نوحده وأما إذا قصدتم توحيد الأمة فهذا من واجب العامة فعلى الرؤساء من كلا الطرفين الاجتماع والقيام بإنجاز هذه المهمة التاريخية وإنها لخطوة هامة جدا في هذا الظرف. وأما مسؤوليتنا تقتصر على القضايا الطقسية والمذهبية فقط). لم يكن لجواب البطريرك (عمانوئيل) وقع طيب عند الضيفين فغادرا خائبين”. أنظر، نينوس نيراري، آغا بطرس سنحاريب القرن العشرين، ترجمة فاضل بولا، سان دياغو 1996، ص232.
[3] سورة النساء:59.
[4] وهذا الموقف قد تكرر في عهد البطريرك الحالي ساكو وبشكل أخف، حيث أشار إلى أنه ” لقد وردت في كتابيّ التربية الإسلامية للصف الأول الابتدائي والخامس الإعدادي عبارات غير دقيقة وغير لائقة ومؤسفة تحض على الكراهية والفرقة، وهي بعيدة عن قيم التسامح ومبادئ المواطنة والعيش المشترك. إن دور وزارة التربية هو تنشئة الطفل تنشئة سليمة ومتكاملة، كي يقبل الأخر كاخ في الإنسانية وكمواطن وليس كخصم ينبغي إقصاؤه… نودّ أن ننوّه بأن للآيات والأحاديث في كل الديانات، أسبابها وظروفها التي لا بد من أن تؤخذ بعين الاعتبار، فبعضها يبطل العمل به بعد أن تزول ظروفه ومبرراته، وبعضها كان علاجا لحالات معينة… هذا ما أحببت التنويه عنه مع جلّ محبتي واحترامي للإخوة المسلمين وبينهم يوجد علامات مضيئة.” الكردينال لويس روفائيل ساكو، حول بعض عبارات مسيئة للمسيحيين في كتب التربية الإسلامية لوزارة التربية، موقع البطريركية الكلدانية، في 21/12/2018. http://saint-adday.com/?p=27333
[5] بول بريمر، عام قضيته في العراق، ترجمة عمر الأيوبي، بيروت 2006، ص 131.
[6] البطريرك ساكو ينذر بطرد الكهنة الداعين إلى الدولة الكلدانية، بابا الفاتيكان يدعو إلى فصل السياسة عن المسيحية وانشقاق في كنائس العراق صحيفة الزمان في 22/5/2013. http://www.azzaman.com/?p=35002
[7] رسالة من غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو إلى إكليروس الكنيسة الكلدانية في كلّ مكان، 19 مايو، 2013. العمل القومي والسياسي مجالُ العلمانيين.
[8] البطريرك ساكو يكتب: جدل الكنيسة والسياسة والموقف المبدئي، موقع أبونا الإلكتروني في 2016/03/17.
[9] البطريرك لويس روفائيل ساكو، المسيحيون ما بعد داعش، موقع البطريركية الكلدانية في 12/7/2017.
[10] مناشدة من بطريرك الكلدان لعملٍ سواء، 28 مايو، 2013.
[11] http://www.nadibabil.com /البيان-الختامي-للسينودس-الكلداني-الذ/
[12] أنظر موقع البطريركية الكلدانية، بيان “سينودس – مجمع” أساقفة الكنيسة الكلدانيّة المنعقد في روما برئاسة البطريرك مار لويس روفائيل ساكو الكليّ الطوبى 4 – 8 تشرين الأول 2017، http://saint-adday.com/?p=19624
[13] رسالة من البطريرك ساكو إلى سياسيي أبناء شعبنا الموقرين، 16 سبتمبر، 2013.
[14] المشهد السياسي المسيحي في العراق، إعلام البطريركية، موقع البطريركية الكلدانية في 16 يناير، 2016.
[15] ساكو لحوار المدى: نوابنا ليسوا بالمستوى المطلوب ونطالب المرجعيات بموقف مشرف من البطاقة الموحدة، موقع البطريركية الكلدانية، في 12 فبراير، 2016.
[16] البطريرك لويس روفائيل ساكو، جدل الكنيسة والسياسة والموقف المبدئي، موقع البطريركية الكلدانية، في 16 مارس، 2016.
[17] صيغة إعلان الطاعة للرئاسة الكنسية الخاصة للمطارنة المنتخبين، موقع البطريركية الكلدانية في 20 يناير، 2014.

19
متى نَعي أن مصلحة الشعب فوق مصلحة الله؟


عندما تسلم الرئيس ترامب السلطة في 15 كانون الثاني 2017، كانت أكثر الطلبات على مكتبه هي طلبات عراقية، حتى قيل في وقتها إنها بلغت أكثر من 3 آلاف طلب كلها تستصرخ الرئيس الجديد لإنقاذ العراق وتلمح إلى مسؤولية أمريكا، وبالطبع سال ترامب كل مستشاريه وطاقمه الحكومي عن ذلك مستغرباً، في حين كانت الكل تلّمح إلى إن وضع العراق جيد في العموم، ولا مشكلة حقيقية، وربما كانت هذه المعلومات خاطئة.
ولأن ترامب قد تربى في مدينة نيويورك المشهورة بعصاباتها ومافياتها، وهو رجل أعمال كوّن نفسه بصعوبة ونحت في الصخر ليصبح واحد من أثرياء أميركا، فانه لم يصدق ذلك، وبدأ يسقط بطاقمه واحدا تلو الآخر، إذ خرج من الخدمة وزير خارجيته، ومستشاره للأمن القومي، ووزير دفاعه، وسفيرته لدى الأمم المتحدة، وسفيره في العراق، ومبعوث الولايات المتحدة الخاص للتحالف الدولي، إما عن طريق الإقالة وبتغريدة بعد منتصف الليل، أو الاستقالة، حتى استقر إلى طاقم يلبي طموحاته ويطابق أفكاره. وعندما زاره العبادي والجعفري والوفد العراقي في آذار 2017، وبمجرد خروجهم قال انطباعه عنهم بأنهم مجموعة لصوص والأكثر إنجازا لسرقاتهم بنجاح. وقد كان محقا تماما في ذلك، وبالتأكيد كانت لديه معلومات عن إستخدامهم للدين لتبرير سرقة أموال شعبهم وتبديدها، وإنهم مجرد مجموعات دينية لا ترتقي لمجموعات السلطة وليسوا برجال دولة، بأي حال من الأحوال. وإن وقت التغيير قد أزف.
إن سرّ قوة أمريكا يكمن في إنها دولة متقدمة فكريا ودقيقة في تطبيق القانون، قبل أي شيء آخر، إضافة لقوتها العسكرية المتفوقة، وعندما سئل رئيس الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا في مقابلة تلفزيونية، عن سبب انتخابه لترامب وهو ليس بمؤمن ولَم ينتَخب هيلاري، وهي مؤمنة؟ فقال: صحيح، ولكن رأيت إن ترامب يحقق مصلحة أمريكا أكثر من هيلاري. وهذا يعني إن أكبر رجل دين في أمريكا يقدم مصلحة الشعب على مصلحة الله. وذلك ما لا نجده عن العرب المسلمين، الذين ما زالوا للأسف، وبغباء شديد يضيعون مصالحهم ومصالح أوطانهم وكل الناس القريبين منهم والذي يرونهم كل يوم من اجل مصلحة الله، وهو فكرة قال بها عدد من الأنبياء، وقدسّوها رجال الدين. في الوقت الذي تخلصت فيه أمريكا من موضوع تقديس الأشخاص والى الأبد. وتحضرني هنا عبارة بليغة للمسيح، يقول فيها: إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟
والحكومات العربية ومن خلفها شعوبها التي تتمسك بالدين في قشوره، كانت السبب في ضياع دولها، وتمزيق شعوبها. بينما نجد المسلمون من غير العرب، قد أدركوا هذه الحقيقة جيدا، وقدّموا مصالح دولهم وشعوبهم ومجتمعاتهم على الدين، حتى عندما تستلم الأحزاب الإسلامية السلطة فيها، وتركيا وإندونيسيا وماليزيا وغيرها خير مثال على ذلك. وهذا لا يعود إلى الحكومات فقط، بل يعكس فلسفة المواطن العربي الذي يرى ما زال في أي انتهاك بسيط حتى لو كان كسر زجاج في محل صغير (حراما) وليس خرقا (للقانون). ولكن المحرمات حددها الله في كتابه ولا يستطيع كائنا من كان أن يزيدها محرماً واحداً.
وهنا يجب التفريق بين (الجريمة) و (الخطيئة)، فدَور الدولة يتمثل في أن تحاسب على (الجريمة) في حق الغير فقط وفقا لقانون العقوبات والقوانين الأخرى، وليس من حقها أن تحاسب على الخطيئة، فالله يحاسب على (الخطيئة) لأنها معصية أرتكبت في حق الله.
وأسوا ما فعلته الحكومات العربية الحديثة بعد إنفصالها عن الدولة العثمانية، إنها جعلت الإسلام دين الدولة، فحولت هذه المؤسسة الكبيرة إلى شخصية (مؤمنة). بينما الدولة شخص معنوي (إعتباري) كالشركات والجماد، فهل للمنضدة دين؟ وإذا كان الله قد أعفى الحيوانات من الدين فكيف نطلب من الجماد ذلك؟ وبهذا الصدد، كتب أحد المصريين وهو الصديق الدكتور عادل عصمت على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي باللهجة المصرية المبسطة، قائلا: " ولأن عبد الناصر إخوانجي، وأحد أبناء التيار الديني فهو من انشأ جامعة الأزهر عشان يطلّع المحاسب المسلم، والمهندس المسلم، والطبيب المسلم، وانشأ مدينة البعوث الإسلامية عشان ينشر الإسلام وعمل منظمة المؤتمر الإسلامي عشان يوحّد الشعوب الإسلامية، وعمل إذاعة القران الكريم، وخلي الدين مادة نجاح ورسوب لكن اخطر حاجه عملها انه حط الإسلام دين الدولة لأول مره في دستور 1956 في باب الدولة، الباب الأول، فحوّل مصر من دوله وطنية إلى دولة إسلامية."
ولا تشّذ الدول العربية الأخرى عن ذلك النهج كثيرا. ففي العراق، فقد جرى استغلال مشاعر الشيعة من قبل الولايات المتحدة لتخريب العراق وإعادته إلى القرون الوسطى، كما صرح بيكر عام 2002، اعتمادا على المفهوم الشيعي الذي يعتبر أن لا عدل في هذه الدنيا في غياب الإمام، وسعى هذا الحكم الديني إلى تقسّيم الشعب إلى مكونات دينية وقومية، فظهرت مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، مثل المكون السني والمسيحي وهكذا. لا بل حتى أن وزارة الأوقاف أيضا قد قُسِّمت وفقا" للمذاهب، فأصبح هناك ديوان خاص للوقف الشيعي، ومثله للوقف السُني، لا بل وحتى للوقف المسيحي. وشيئا فشيئا تم تقسيم المجتمع، في الوقت الذي يصرخ هؤلاء الحمقى الطارئين على السياسة والسلطة، أن هناك مؤامرة غربية لتقسيم العراق. والحقيقة أن الغرب كله لا يحتاج إلى أكثر من ثلاثة مسلمين إنتهازيين لتقسيم الإسلام بحد ذاته. كل هذا جرى دون أن تكلف هذه الأحزاب الدينية البائسة نفسها لتوفير لقمة عيش كريمة لملايين العاطلين عن العمل، ولملايين الأرامل واليتامى، لا بل أن عراقي غيور تكفل برعاية عدد من الأيتام، في حين عجزت هذه الأحزاب عن فتح ميتم صغير لرعاية بعض منهم. والأخطر من ذلك كله، إنها أنشأت ميليشيات مسلحة بأسماء دينية مثل (حزب الله، وأنصار الله، وأهل الحق) وغيرهم الكثير، فأضعفوا الجيش، وفرضوا على المواطنين أحكام الدين ونواهيه، نيابة عن الله.
وطيلة هذه السنين الستة عشر، أضاع الحكم الديني في العراق حقوق الشعب، على أمل أن يحقق حقوق الله، ولم يَدُر بخلد أي شخص من الذين تسلطوا على الشعب، بأن ليس من واجب الحكومة أن تقود الشعب لتدخله إلى الجنة، بل واجبها أن تُعّيش شعبها برفاهية وإستقرار وحياة حرة كريمة، وتصرفاتهم هذه هي أصلا مناقضة حتى للإسلام نفسه وفقا للآية التي تقول: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. لا بل والأكثر من ذلك، فقد ذهبت العديد من هذه الأحزاب إلى إستحضار صراع إسلامي قديم جداً مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا لتذكية الصراع بين طوائف المجتمع، فقسموا المجتمع إلى معسكرين هما معسكر علي ومعسكر معاوية، أو معسكر الحسين ومعسكر يزيد، كما طاب لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي أن يصّرح بذلك في أكثر من مناسبة.
 وبعد 16 سنة من حكم الأحزاب الدينية، وفي مقدمتها الشيعية منها، فقد حان الوقت لنهاية الحكم الديني الشيعي، وهو مشروع ابتكره أحد العاملين في المخابرات الأمريكية عام 1999 ويدعى غراهام فوللر، بالتعاون مع أمريكية من أصل عراقي شيعي، هي رند فرانكي- رحيم، والأسم الثاني هو لزوجها الأمريكي، وما زالت مقيمة في أميركا. والحقيقة لم يكتب فوللر ورحيم هذا الكتاب إلا بعد صدور قانون تحرير العراق عام 1998، وهذا الكتاب كان بداية المشروع المذكور.
لقد اثبت ترامب للشعب الأمريكي وللعالم، خلال سنتين من حكمه، إن الرئيس غير المتدين أفضل من دعاة الدين الذين أول ما يفعلوه هو تقسيم الشعب إلى فئتين هما المؤمنين والكفار، وبالتالي يمنحون المناصب والوظائف (للمؤمنين). وكما قال المسيح لرجال الدين اليهود: قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ،" ويقصد اللصوص والزانيات يسبقون رجال الدين إلى الجنة الموعودة. فإكتسب ترامب بذلك شعبية كبيرة في أمريكا لصراحته وسعيه لتحقيق كل ما وعَد به وكل ما هو أفضل لشعبه. وهذا الأمر يسري على رجال الدين من جميع الأديان والمذاهب.
إن هذا الكلام ليس دعوة للإلحاد بقدر ما هو دعوة لفهم صحيح للدين، وإبعاده عن دائرة السياسة والسلطة، لإدارة أفضل للدولة والمجتمع. فمتى يَعي العرب ذلك؟
الدكتور رياض السندي
15/1/2019

20
القيمة القانونية لتصريح وزير خارجية العراق حول إسرائيل



د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي

-   تمهيد
أثار تصريح وزير خارجية العراق (وليس العراقي) موجه إستنكار واسعة على صعيد الحكومة وقادة الأحزاب السياسية وفي الشارع العراقي ووسائل التواصل الاجتماعي، حول أثر هذا التصريح وقيمته القانونية، وهل هو إعتراف بإسرائيل من عدمه، أو هو مجرد رأي شخصي للوزير، عبّر في عن إنطباعاته الشخصية التي يسمعها من زملاءه سواء من العرب وخاصة من الدبلوماسيين الفلسطينيين، أو من مستشاريه من العراقيين، إن وجدوا، في ظل طبيعة إدارية لا قيمة لرأي المستشار فيها لدى المسؤول العراقي الذي يرى نفسه جامعا مانعا لكل العلوم.
وإزاء إنقسام الشارع العراقي بين مؤيد للتطبيع مع إسرائيل وبين معارض لذلك، يبقى السؤال الأهم: هل يُعد ما قاله الوزير إعترافاً بإسرائيل كدولة؟ وبالتالي، ما هي القيمة القانونية لهذا التصريح؟ وهل هو تصريح ملزم للعراق؟
أولا. ماهيّة التصريح وتداعياته
بتاريخ 2/1/2019 صرح وزير خارجية العراق محمد علي الحكيم في ندوة حوارية مع صحافيين عراقيين في بغداد، قائلا: -
" بالنسبة لنا القضية الفلسطينية تبقى قضية محورية بالنسبة لنا، إحنا (نحن) قضية حل الدولتين مؤمنين فيها ...". 

ويأتي هذا الجزء من ضمن مجموعة تصريحات كثيرة أدلى بها الوزير المذكور دون حساب للعواقب في ظل منظومة متهرئة عطّلت القانون وألغت المحاسبة. ففي هذا التصريح تحدث وزير الخارجية بشهية مفتوحة بعدة مواضيع كثيرة وشائكة دون تمحيص أو تدقيق. فقد تحدث بالمواضيع التالية: -
1.   زيارة الرئيس الأميركي ترامب للعراق.
2.   زيارة وزير الخارجية الأميركي بومبيو ووزيري خارجية فرنسا وإيران للعراق هذا الشهر.
3.   زيارة الرئيس العراقي برهم صالح لتركيا اليوم.
4.   القمة العربية الاقتصادية المرتقبة في بيروت التي ستعقد في الأسبوع الأخير من الشهر الحالي، ووفد العراق اليها.
5.   موضوع منع العراقيين ممن على جوازات سفرهم أختام (طمغة أو جواز مطموغ بحسب لغة الوزير) سورية أو إيرانية من دخول الأردن ودول خليجية وأوروبية.
6.   الملف الفلسطيني، مشدداً على أنّ "العراق يؤمن بحل الدولتين".
7.   مجلس التعاون الخليجي، وتحسين العلاقات مع الدول الخليجية.
8.   فكرة لإصلاح الجامعة العربية، نواتها برنامج) إصلاح الأمم المتحدة.
9.   تقدّم العراق بطلب للانضمام إلى مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
10.    تأييد العراق لـ"اجتماع إستوكهولم لإنهاء الأزمة اليمنية.
11.    الأمن في سورية ووحدتها ... ودعم عودة سورية للجامعة العربية.
12.    العقوبات الأميركية على إيران، وأنّ "العراق غير ملزم بتطبيقها.
13.    مساعدة دول الاتحاد الأوروبي والناتو (حلف شمال الأطلسي) في التحالف الدولي وعمليات الإعمار وتدريب القوات العراقية.
14.    والتعهّد بتنفيذ مخرجات مؤتمر الدول المانحة في الكويت، الذي انعقد في فبراير/شباط 2018.
15.    وأخيراً، العراق سيكون نقطة انطلاق قوية في المنطقة، وموقفه سيكون جامعاً للعرب. 
إن أي مطّلع على شؤون السياسة والدبلوماسية سيجد أن الحديث في كل هذه المواضيع الحساسة والمثيرة للجدل، إنما ينطوي على مخاطر عديدة لا ينجو منها إلا الدبلوماسيون المحترفون ومن ذوي الإختصاص وليس الطارئون على حقل السياسة الخارجية، لا سيما وأن إختصاص الوزير بحسب سيرته الذاتية المنشور على موقع وزارة الخارجية   تشير إلى أن إختصاصاته هي، الإدارة الهندسية، العلوم والتكنولوجيا، التربية والإحصاء، وهي جميعها إختصاصات بعيدة عن السياسة الخارجية. على الرغم من أن سيرته تشير على إنجازاته في مجال التعليم الأكاديمي، من بينها "الإشراف على مشاريع أبحاث يعدها دبلوماسيون لدرجة مستشار ووزير مفوض."
والأدهى من ذلك، أن الوزير وهو في نشوة سكرة المنصب الجديد يصرح كعادته بأسرار خطيرة تمس الأمن القومي، لم يصرح بها رئيس الوزراء نفسه، مثل إن ترامب لم يمنح رئيس الوزراء أكثر من عشر دقائق للقاء، بينما كانت تصريحات رئيس الوزراء ذاته مختلفة تماما ولم تتضمن مثل هذه التفصيلة التي تمس سيادة الدولة وكرامة مسؤوليها رغم صغرها. ولوكان الوزير المذكور دبلوماسيا محترفا لإستعاض عن كل ذلك بعبارة: (أن ضيق وقت زيارة الرئيس الأميركي لم يعط الفرصة للقاء المسؤولين العراقيين). وكذلك، كشف الوزير عن زيارة وزير الخارجية الأميركي جورج بومبيو للعراق هذا الشهر، في الوقت الذي لم تشر مصادر وزارة الخارجية الأميركية أن العراق من ضمن الدول التي سيزورها الوزير الأميركي بعد.
-   ردود الأفعال
أثار تصريح الوزير المذكور ردود أفعال كثيرة من جانب الكتل والأحزاب السياسية وبعض الميليشيات والفصائل المسلحة، وضجة كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي، والشارع العراقي، أبرزها: -
أ‌-   نائب يعتزم جمع تواقيع لاستجواب وزير الخارجية "إن صحت" تصريحاته بشأن الاعتراف بإسرائيل، جاء فيه: " يعتزم النائب وجيه عباس جمع تواقيع من اجل استجواب وزير الخارجية داخل البرلمان في حال ثبت صحة تصريحاته الاخيرة بشأن "الاعتراف" بدولة اسرائيل.
وقال عباس في بيان تلقت، السومرية نيوز، نسخة منه، اليوم الخميس، إن "تصريحا خطيرا من قبل وزير الخارجية نقف ضده كمجلس نواب عراقي، العراق ليس مرابيا او مقاولا ليعترف بوجود دولتين في فلسطين حتى لو رغب الفلسطينيون بذلك". 
ب‌-   عزت الشابندر يبدي إستغرابه لموقف وزير الخارجية محمد علي الحكيم حول القضية الفلسطينية، تم نشره في 04‏/01‏/2019 جاء فيه: " أبدى السياسي المستقلُ عزت الشابندر إستغرابَه لموقفِ وزيرِ الخارجية محمد علي الحكيم على خلفيةِ تصريح ِالاخير بتأييدِ العراق مشروعِ حلِ الدولتين الاسرائيلية والفلسطينية.
الشابندر في تغريدة له قال ان السيد وزيرَ الخارجية يصرحُ أنّ العراق يؤيدُ مشروعَ حلّ ِالدولتين الإسرائيليةِ و الفلسطينةِ والذي يعني ضمناً الإعترافَ بدولةِ الكيان الصهيوني، موجها تساؤلاً لرئيسِ الوزراء وكتلة الإصلاح التي دعمت تسلمَ الحكيم لحقيبةِ الخارجية حول مدى تطابقِ كلامهِ مع الموقفِ العراقي بشأنِ هذه القضية." 
ت‌-   كتلة نيابية تتهم وزير الخارجية العراقي بالإعتراف بإسرائيل، نشر في 2019-01-03، جاء فيه: " أعرب رئيس كتلة النهج الوطني النيابية عمار طعمة، الخميس، بما سماه "إعتراف وزارة الخارجية بإسرائيل"، مؤكدا أنه لا مبرر لمنح مواقف مجانية لانظمة غاصبة لاراضي المسلمين والعرب، حسب تعبيره.
وذكر طعمة في بيان صحفي له اليوم 3 كانون الثاني 2019 "نستغرب من وزير الخارجية العراقي وإعلانه الترحيب ضمنا والاعتراف بدولة للكيان الصهيوني الغاصب متجاوزا بذلك الأُطر والسياقات الدستورية والقانونية في اتخاذ مواقف مهمة تتعلق بقضية أساسية في وجدان العراقيين خصوصا والعرب والمسلمين عموما".
وأضاف أننا "لانرى اي مبرر لمنح مواقف مجانية لانظمة غاصبة لاراضي المسلمين والعرب تمهد للاعتراف والقبول بنظام عنصري ظالم اقترنته ممارساته ومواقفه بالقمع والاضطهاد وارتكاب المجازر الدموية بحق الشعب الفلسطيني الشقيق" .
وطالب، رئيس الوزراء بتنبيه وزير الخارجية وإلزامه بعدم التعبير عن مواقف تقوي أنظمة عنصرية ظالمة وغاصبة خصوصا وان مثل هذه المواقف لابد من الرجوع فيها الى مجلس الوزراء والبرلمان ولايجتهد فيها بهذه الطريقة الاعلامية دون حساب الأثار والنتائج التي يمكن ان ينتفع منها كيان غاصب وظالم ومنتهك لحقوق الشعوب وكرامتها.
وكان وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم قد ذكر في جلسة حوارية مع عدد من الاعلاميين أمس الاربعاء أن "العراق يؤمن بحل الدولتين لإنهاء الأزمة الفلسطينية مع إسرائيل"." 
ث‌-   كتائب حزب الله تصدر بيانا بشأن تصريحات وزير الخارجية العراقي بخصوص حل الدولتين لإنهاء ازمة فلسطين، نشر في 4/12/2019، جاء فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم
"لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" صدق الله العلي العظيم
لم تزل قضية فلسطين حاضرة في وجدان الشعب العراقي طيلة سنوات الصراع مع الكيان الصهيوني
الغاصب، بل كان العراق في مقدمة الداعمين لنضال شعبها الأبي في طريق تحرير أرضه ومقدساته.   
وعلى الرغم من محاولات التسوية والتمييع وحملات الذل والتطبيع التي تبناها العملاء والخونة، تفريطا بقضية فلسطين وإرضاءً للاستكبار العالمي، إلا أن شعبنا العراقي بقي على موقفه المبدئي الرافض لهذه المخططات، مساندا لأشقائه الفلسطينيين في مقاومتهم وصمودهم بوجه الاحتلال.
إننا نؤمن بأن الحل الوحيد لقضية فلسطين هو درب المقاومة حتى تحريرها واستئصال الغدة السرطانية منها. 
‏والآن وبعد أن تمكن محور المقاومة الذي يمثل إرادة الشعوب العربية والإسلامية، من إفشال جميع المخططات الرامية إلى تدمير المنطقة وإضعافها، خدمة لأمن الكيان وضمان تفوقه، وبعد أن أصبح الصهاينة في أضعف حالاتهم، وباتوا يعيشون مأزقا وجوديا سيؤدي بهم إلى الزوال إن عاجلا أو آجلا، يخرج علينا وزير الخارجية العراقي متبنياً طروحات لا تنتمي لواقع العراق الذي من المفترض أنه يمثله، بل تعترف بالكيان الغاصب، ضاربا بإرادة وثقافة ومبادئ الشعب العراقي عرض الجدار، متماهيا مع ما يطرحه الأعراب والعملاء.
‏ولذا ترى المقاومة الاسلامية - كتائب حزب الله إن من الواجب على الحكومة العراقية تصحيح هذا الموقف الشاذ، وإلزام هذا الوزير بتقديم الاعتذار للشعب العراقي المجاهد الذي قدم دماء زكية، وبفضلها نُصَّب وزيرا ليدافع عن الحقوق والمبادئ، "فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ". 

-   معالجات وزارة الخارجية
سارعت وزارة الخارجية بعد الأزمة السياسية التي خلفّتها تصريحات الوزير الجديد، إلى توضيح الموقف. والمضحك في الأمر، أن وزرارة الخارجية قد دعت في تصريح صحفي لها بتاريخ 4/1/2019 في أزمة شخصية خلقها ذات الوزير مع الوزير السابق، دعت السلطة الرابعة إلى توخي الدقة فيما يصدر من تصريحات من وزارة الخارجيَّة. ويبدو أن الوزير قد أستعاض عن المتحدث الرسمي للوزارة بالمكتب الإعلامي لوزارة الخارجية العراقية. فأصدر المكتب المذكور بتاريخ 3/12/2019 بياناً جاء فيه:
" تؤكد وزارة الخارجية موقف العراق التاريخي، والمبدئي من القضية الفلسطينية في دعم حقوق الشعب الفلسطيني في تحرير الأرض والإنسان وإقامة دولة مستقِلة وعاصمتها القدس، كما يدعم العراق مبادرات السلام العربية، والدولية، ومنها مبادرة السلام العربية التي سبق أن طرحت في قمة بيروت ٢٠٠٢، وأصبحت بنداً دائماً على جدول أعمال القمم العربية اللاحقة." 
وعلى الرغم من أن بيان المكتب الإعلامي قد جاء مقتضبا ومكررا موقف العراق السابق، ومناقضا لتصريح الوزير. إلا إنه تضمّن خللا كبيرا، يتمثل في إشارة غير موفقة إلى دعم لمبادرة السلام العربية التي طرحت في قمة بيروت مارس ٢٠٠٢، والتي هي مثار جدل كبير، سنتناول ذلك، لاحقاً.

والمضحك في الأمر، أن وزرارة الخارجية قد دعت في تصريح صحفي لها بتاريخ 4/1/2019 في أزمة أخرى شخصية خلقها ذات الوزير مع الوزير السابق قبل يومين، دعت فيه السلطة الرابعة إلى توخي الدقة فيما يصدر من تصريحات من وزارة الخارجيَّة. 

وفي اليوم التالي صدر توضيح لوزير الخارجية. وقد جاء فيه ما يلي: -
" صدرت مؤخراً بعض التصريحات والاخبار التي تداولتها وسائل الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي حول تصريح وزير الخارجية بشأن موقف العراق من القضية الفلسطينية وحل الدولتين، وبهذا الصدد نود ان نبين ان ما تم تناقله هو مجاف للواقع وعارٍ عن الصحة والحقيقة.
 ان موقف العراق الثابت من القضية الفلسطينية، والمستند الى المبادرة العربية للسلام لعام 2002 والتي اعيد التاكيد عليها في القمة العربية ببغداد 2012، (اعلان بغداد)، يتجسد في الدعم المستمر لاسترجاع الاراضي الفلسطينية المغتصبة من قبل الكيان الصهيوني فضلا عن دعم جهود السلطة الفلسطينية في المؤتمرات والمحافل الدولية في كل من جنيف ونيويورك وبشكل مباشر من الوزير عندما كان مندوباً دائماً للعراق في كلا الموقعين، حيث عمل الوزير في مجلس حقوق الانسان، وعبر البند السابع من جدول الاعمال والذي يبحث القضية الفلسطينية، على تاشير الانتهاكات الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والمطالبة بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم ضد المدنيين العزل. اما في الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك، واثناء ترؤس الوزير للمجموعة العربية، عمل على اعداد مشروع قرار برفع العلم الفلسطيني في مبنى الامم المتحدة وتعزيز مكانتها في العالم، حيث قدم مشروع القرار الذي مرر باغلبية الاصوات وبنجاح ساحق بعد التصويت عليه في الجمعية العامة للامم المتحدة، وبناءً على هذا النجاح منح الرئيس الفلسطيني محمود عباس الوزير (وسام القدس) وهو اعلى وسام تمنحه السلطة الفلسطينية، مصحوباً برسالة شكر لجهود مندوب العراق سابقاً (الوزير الحالي) وتقديراً لدعم العراق للقضية الفلسطينية.
وفي مجلس الامن الدولي دافع العراق عن حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، تحت بند الحالة في الشرق الاوسط، والقى عدداً كبيراً من الخطابات والبيانات الرسمية تاكيداً على حقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها الحق في العيش بدولة مستقلة قابلة للحياة. وفي لجنة انهاء الاستعمار (اللجنة الرابعة في الجمعية العامة) دأب المندوب الدائم (الوزير الحالي) خلال الاجتماعات الدورية على تقديم الخطابات الوطنية وعقد لقاءات للدول المتماثلة التفكير لدعم دولة فلسطين وانهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية.
كما دعم العراق فلسطين للحصول على عضوية كل من مجلس الامن والجمعية العامة للامم المتحدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ورئاسة مجموعة 77 والصين." 

ويمكن التعليق على توضيح وزير الخارجية، بما يلي: -
1.   تراجع الوزير عن مضمون تصريحه بشكل مشوّه، مبيناً أن ما تم تناقله هو مجاف للواقع وعارٍ عن الصحة والحقيقة. وأين هي الحقيقة؟ إن ما تناقلته وسائل الإعلام جرى في لقاء الوزير مع الصحفيين وليس في علاقة ثنائية مع دبلوماسي زائر. وإن ما نقل هو حديث الوزير مسجل بالصوت والصورة، وليس صورة يمكن الطعن بتحريفها بالفوتوشوب.   
2.   إستند الوزير في توضيحه إلى مبادرة السلام العربية لعام 2002، مكرراً ذات الإشارة التي إستند اليها بيان المكتب الإعلامي للوزارة المشار اليه في أعلاه، دون تدقيق موقف العراق من هذه المبادرة، والتطورات على الساحة العربية حول هذه المبادرة، وأخيراً موقف إسرائيل منها. وأضاف توضيح الوزير أن هذه المبادرة "والتي أعيد التأكيد عليها في القمة العربية ببغداد 2012، (إعلان بغداد)، يتجسد في الدعم المستمر لاسترجاع الأراضي الفلسطينية المغتصبة من قبل الكيان الصهيوني".
3.   تمسك الوزير بحل الدولتين من خلال التأكيد على المبادرة العربية للسلام لعام 2002، والتي أعيد التأكيد عليها في القمة العربية ببغداد 2012، (إعلان بغداد). فهو ليس فقط مؤمن بحل الدولتين، بل متمسك به ضمنياً، من خلال الإصرار على التمسك بهذه المبادرة.
4.   جاء توضيح الوزير مليئاً بمواقفه الشخصية وعلاقاته بالجانب الفلسطيني الرسمي عندما كان سفيرا في الأمم المتحدة ويكرر عبارة (الوزير الحالي) لمرتين، وكإنما هي أفضال قام بها بصورة شخصية، وليس تمثيلا لموقف رسمي عراقي.
5.   النقطة الأبرز في توضيح وزير الخارجية، هي إستخدامه لعبارة (الكيان الصهيوني) في وصف (إسرائيل). بما يؤكد تراجعه عن تصريحه، والعودة إلى نقطة الصفر.

والحقيقة، أن معالجات وزارة الخارجية لإحتواء هذه الأزمة كانت مشوشة وغير دقيقة، وهي ترقيعات لا ترتقي لمستوى الأزمة، وينطبق عليها القول القائل (عذرٌ أقبح من ذَنْب).
ومن خلال تقرير قدّمته قناة العهد نيوز تم نشره في 03‏/01‏/2019، وصف مراسلها أحمد الحربي، وزير الخارجية العراقي محمد الحكيم بأنه يغرّد خارج سرب الدبلوماسية، مضيفا "الحكيم إما إنه مؤمن بحل الدولتين، وأطلق لقريحته العنان أمام الكاميرات، وهي مثلَبة لا تغتفر بالعرف الدبلوماسي، فعلى الدبلوماسي أن يتبنى أسس دولته لا قناعاته الشخصية، وأما إذا كان له رأي ما، فعليه إتباع السبل القانونية لتغيير النهج الدبلوماسي، بما يتوافق مع قناعاته إذا إستطاع إقناع بقية السلطات، وإن كان ما تحدث به الحكيم سقطة لسان فالمصيبة أعظم" 
لذا من الضروري الوقوف على مبادرة السلام العربية التي إستند إليها الوزير ومكتبه الإعلامي، لإلقاء بعض الضوء على مضمون المبادرة المذكورة، وتطوراتها اللاحقة، وتداعياتها، والموقف العربي والإسرائيلي والعراقي حولها بإختصار.

-   وقفة عند مبادرة السلام العربية لعام 2002
مبادرة السلام العربية هي مبادرة أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية للسلام في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين. هدفها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين وانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل، وكانت في عام 2002. وقد تم الإعلان عن مبادرة السلام العربية في القمة العربية في بيروت. وقد نالت هذه المبادرة تأييداً عربياً. وفي ما يلي النص الحرفي لمبادرة السلام العربية:
 " مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة المنعقد في دورته الرابعة عشرة.
إذ يؤكد ما أقره مؤتمر القمة العربي غير العادي في القاهرة في حزيران/يونيو 1996 من أن السلام العادل والشامل خيار استراتيجي للدول العربية يتحقق في ظل الشرعية الدولية، ويستوجب التزاما مقابلا تؤكده إسرائيل في هذا الصدد.

وبعد أن استمع إلى كلمة عبد الله بن عبد العزيز، ولي عهد المملكة العربية السعودية، التي أعلن من خلالها مبادرته داعياً إلى انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ 1967، تنفيذا لقراري مجلس الأمن (242 و338) والذين عززتهما قرارات مؤتمر مدريد عام 1991 ومبدأ الأرض مقابل السلام، وإلى قبولها قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية. وذلك مقابل قيام الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية في إطار سلام شامل مع إسرائيل.

وإنطلاقاً من اقتناع الدول العربية بأن الحل العسكري للنزاع لم يحقق السلام أو الأمن لأي من الأطراف.
- يطلب المجلس من إسرائيل إعادة النظر في سياساتها، وأن تجنح للسلم معلنة أن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي أيضا.

- كما يطالبها القيام بما يلي:
الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو (حزيران) 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان.
التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو (حزيران) في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية.
- عندئذ تقوم الدول العربية بما يلي:
اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.
إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل.
- ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة.
- يدعو المجلس حكومة إسرائيل والإسرائيليين جميعا إلى قبول هذه المبادرة المبينة أعلاه حماية لفرص السلام وحقنا للدماء، بما يمكن الدول العربية وإسرائيل من العيش في سلام جنبا إلى جنب، ويوفر للأجيال القادمة مستقبلا آمنا يسوده الرخاء والاستقرار.
- يدعو المجلس المجتمع الدولي بكل دوله ومنظماته إلى دعم هذه المبادرة.
- يطلب المجلس من رئاسته تشكيل لجنة خاصة من عدد من الدول الأعضاء المعنية والأمين العام لإجراء الاتصالات اللازمة بهذه المبادرة والعمل على تأكيد دعمها على كافة المستويات وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والولايات المتحدة والاتحاد الروسي والدول الإسلامية والاتحاد الأوروبي.

عندما صدرت مبادرة السلام العربية اعتبرها العديد من المراقبين الغربيين عرضاً يصعب على إسرائيل رفضه.
كانت بنود المبادرة بسيطة: ستقيم الدول العربية علاقاتٍ دبلوماسية كاملة مع إسرائيل مقابل قيام دولة فلسطينية على طول حدود الأراضي المحتلة منذ عام 1967. وللحصول على موافقة إسرائيل، تبنت مبادرة السلام العربية موقفاً متبايناً تجاه حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو شرطٌ يعتبره أكثر من 4 ملايين فلسطيني يعيشون في المنفى غير قابلٍ للتفاوض.

ويعتقد خبراء آخرون أن مصير مبادرة السلام العربية كان مُقدرٌ لها الفشل منذ لحظة إعلانها. فقد رفضها أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بالمجمل. وفي وقتٍ لاحق، رحب خليفته إيهود أولمرت، بالاقتراح إلا أنه جادل بأن على الفلسطينيين تقديم المزيد من التنازلات.

فبدايةً، تم توقيع معاهدة السلام مع مصر في 26 مارس 1979، ليتم بعدها اغتيال الرئيس المصري أنور السادات على يد حركة الجهاد الإسلامي المصرية بعد عامين لتوقيعه على المعاهدة. ثم جاء اتفاق السلام مع الأردن، الذي وقعته إسرائيل والملك حسين في 23 أكتوبر 1994.

وبعد توقيع اتفاقات أوسلو، أوضح إسحاق رابين- الذي وصف بصانع السلام العظيم- أنه أياً كان الاتفاق الذي أبرم مع الفلسطينيين، فإنه لن يكون هناك دولة فلسطينية ذات سيادة، وأن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية.”

إلا أن القادة الفلسطينيين، الذين سئموا من اتفاقياتٍ أوسلو الفاشلة، تساءلوا عما يمكن تقديمه من تنازلاتٍ أخرى محتملة. وكتب الدكتور جودت بهجت، مدير دراسات الشرق الأوسط في جامعة أنديانا، أن إسرائيل اعتقدت أنها تستطيع تطبيع العلاقات مع العالم العربي في الوقت الذي تستطيع فيه إجبار الفلسطينيين على التخلي عن كفاحهم من أجل إقامة دولة.

وفي نهاية المطاف، نجح رهان إسرائيل. فلم تبني إسرائيل المزيد من المستوطنات غير القانونية فحسب، بل أجرت أيضاً محادثاتٍ علنية وسرية على حد سواء مع دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة.
واليوم يبدو تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل وشيكاً. ويتمثل دافع المملكة الرئيسي للقيام بذلك بخلق تحالفٍ ضخم ضد إيران، العدو اللدود لكلا البلدين.

أما موقف العراق، فقد حضر مؤتمر قمة بيروت لجامعة الدول العربية عام 2002، بوفد برئاسة نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي عزت إبراهيم نائباً عن الرئيس صدام حسين، وكان العراق يعاني من العقوبات الاقتصادية منذ 12 عاما، وكان تركيز الوفد على تحسين العلاقة مع السعودية والكويت، تجنباً لضربة محتملة تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاءها ضده. فتضمن جدول أعمال القمة بنداً حول الحالة العراقية -الكويتية.   لذا، إرتاى الوفد العراقي القبول بمبادرة السلام العربية التي تقدمت بها السعودية، وهكذا، صدر البيان الختامي للقمة (والموافقة بالإجماع على المبادرة السعودية).

وبعد مرور ستة عشر عاماً، بات مصير مبادرة السلام العربية الفشل بعد أن طلب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من الفلسطينيين “قبول السلام” أو الصمت. فقد أدلى ولي العهد بملاحظاته هذه في اجتماعٍ عُقد في مارس 2018 في نيويورك مع المنظمات اليهودية الأمريكية. وتابع قوله بأن القضية الفلسطينية لم تعد أولويةً للمملكة بسبب القضايا الأكثر إلحاحاً في المنطقة. 

وهكذا نرى بوضوح أن أهم ما تتضمنه هذه المبادرة، هي إقامة دولة فلسطينية إلى جانب (دولة) إسرائيل، وإعتبار الصراع العربي-الإسرائيلي منتهيا، ثم التطبيع مع إسرائيل وإقامة جميع الدول العربية علاقات طبيعية مع إسرائيل.

فهل ينوي العراق، إقامة علاقات مع إسرائيل؟
مما لا شك فيه، أن تغيير الولايات المتحدة لنظام صدام حسين عام 2003 قد أزال من طريق إسرائيل واحد من ألد أعدائها الذي تجرا وأطلق صواريخه عليها. وهذا ما دفع إلى التقارب مع إسرائيل، وشهدنا زيارة عدد من النواب العراقيين إلى إسرائيل، سواء علنا أو سراً.   ولم تخفي الحكومات العراقية عدم إرتياحها لوجود العديد من المقيمين الفلسطينيين بالعراق، ودفعتهم سوء معاملتها لهم إلى مغدرة العراق.

إلا إن تسليم السلطة للأحزاب الشيعية بعد عام 2005، وموالاة هذه الأحزاب لإيران بحكم التقارب المذهبي وسبق احتضانها فيها، مما قاد إلى تغيير سياسة الحكومة من الإنفتاح بدفع أمريكي إلى المعاداة بدفع إيراني. وهنا إلتقت مواقف حكومة الأحزاب الشيعية مع موقف نظام صدام حسين من إسرائيل، بإستثناء إقليم كردستان العراق، حيث زادت أواصر الصداقة والتعاون بين الأكراد وإسرائيل وغدت العلاقة بينهما وشيجة وعلنية، ويرفع الأكراد العلم الإسرائيلي في بعض المناسبات، تعبيرا عن دعم إسرائيل لهم، كما حدث في إستفتاء عام 2017. 

ثانيا. الإعتراف في القانون الدولي
يعرّف الإعتراف بالدولة: (بأنه عمل حر تقر بمقتضاه دولة أو مجموعة من الدول وجود جماعة لها تنظيم سياسي في إقليم معين مستقلة عن كل دولة أخرى، وقادرة على الوفاء بالتزامات القانون الدولي العام، وتظهر الدول بالاعتراف نيتها في عدِّ هذه الدولة عضواً في الجماعة الدولية ". 
أن الاعتراف باعتباره تصرف أحادي الجانب وعن إرادة منفردة هو إرادة منسوبة لشخص من أشخاص القانون الدولي، تملك سلطة الالتزام بشرعية وضع معين وتنتج آثار قانونية مستقلة عن ذلك عن أي إرادة أخرى.

الاعتراف بالدولة لا يخضع لأية قاعدة شكلية خاصة، فهو قد يكون صريحاً أو ضمنيـــــاً، وفردياً أو جماعياً، وقانونياً أو واقعاً (أو فعلياً).
الاعتراف الصريح أو الاعتراف الرسمي، هو الإعلان المباشر الذي تعلنه الدولة بصورة رسمية والمتضمن الاعتراف بدولة معينة. ويتم الاعتراف الصريح بصدور قرار رسمي من حكومة الدولة أو مذكرة دبلوماسية تبلغ الجهة المعترف بها بقرار الدولة المعترف بها.
أما الاعتراف الضمني فهو اعتراف عن طريق الدخول في علاقات مع الدولة الجديدة كعلاقات التي تقيمها مع الدول التي اعترفت بها بصورة رسمية دون أن يصدر إعلان رسمي من الدولة يتضمن الاعتراف بها؛ أي يتم استنتاجه من ملابسات وظروف لا تدع مجالا للشك على اتجاه نية الدولة إلى الاعتراف بالدولة الجديدة.
وسواء كان الاعتراف ضمنيا أو صريحاً فهو يتوقف عن نية الأطراف وما دامت هذه النية واضحة لا تثير أيِّ غموض فإن الاعتراف في الحالتين واحد من حيث آثاره.
أما الاعتراف القانوني: فهو الاعتراف الصريح والحاسم الذي يستند إلى استقرار الشخصية الدولية الكاملة المعترف بها وبثباتها ويصدر إما مباشرة أو بعد صدور الاعتراف الواقعي.
في حين أن الاعتراف الواقعي أو الاعتراف الفعلي: هو اعتراف بدولة من ناحية وجودها على الواقع دون أن تتوافر فيها الشرعية الدولية أي أن هناك خلل في عناصرها الثلاثة أو هناك شكوكاً في هذه العناصر.

يشير الاعتراف الدولي بإسرائيل إلى الاعتراف الدبلوماسي بدولة إسرائيل والتي أعلن عن قيامها بتاريخ 14 مايو عام 1948. إن وضع إسرائيل متنازع عليه نتيجة للصراع العربي الإسرائيلي. تعترف 161 دولة بإسرائيل حالياً من أصل 192 دولة عضو بمنظمة الأمم المتحدة.
في الوقت الحاضر، ما مجموعه 32 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لا تعترف بدولة إسرائيل: 18 دولة عضو في جامعة الدول العربية: الجزائر، والبحرين، وجزر القمر، وجيبوتي، والعراق، والكويت، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وعمان، وقطر، والسعودية، والصومال، والسودان، وسوريا، وتونس، الإمارات العربية المتحدة، واليمن؛ كذلك 11 عضواً في منظمة التعاون الإسلامي: أفغانستان، وبنغلادش، وبروناي، وتشاد، وغينيا، وإندونيسيا، وإيران، وماليزيا، ومالي، والنيجر، وباكستان. كما هناك بلدان أخرى لا تعترف بإسرائيل منها بوتان، وكوبا، وكوريا الشمالية. 

ثالثا. الجانب القانوني لتصريح وزير الخارجية 

على الصعيد الداخلي، فإن الدستور العراق النافذ لعام 2005، على الرغم من خلوه من الإشارة إلى مسألة الإعتراف بالدول، إلا إنه قد حدد رسم السياسة الخارجية بالسلطات الإتحادية التي حددها الدستور بالمادة (47) التي تنص على ما يلي:
"تتكون السلطات الاتحادية من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات."

كما حددت المادة (110) منه إختصاصات هذه السلطة بقولها:
تختص السلطات الاتحادية بالاختصاصات الحصرية الآتية:
أولا: رسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والتفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وسياسات الاقتراض والتوقيع عليها وإبرامها ورسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية.

وهذا النص الدستوري واضح وجَلي في أن السلطات الثلاث هي من يرسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي، وينصرف مضمون ذلك إلى الإعتراف بإعتبار أن ذلك جزء من السياسة الخارجية، وأن نتيجته هو تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين.
لذا لا يجوز لوزير الخارجية العراقي وفقاً للدستور الحالي أن ينفرد برسم السياسة الخارجية وبضمنها الإعتراف بالدول.

أما على صعيد القانون الدولي، فقد شهدت العقود الأخيرة ثورة في وسائل الاتصال، رافقتها تغيرات في الممارسات الإعلامية. وقد تضمن ذلك زيادة كبيرة في وصول وسائل الإعلام لكبار ممثلي الدولة، وطلبات غير منقطعة لهم للتعليق على القضايا ذات الاهتمام الدولي. ومن المناسب هنا، النظر إلى الأهمية القانونية لمثل هذه التعليقات وخاصة تلك التي يدلي بها وزراء الخارجية، لإنها عادة (ولكن ليس دائما) ما تنطوي على موقف الدولة، وان بدرجة اقل من البيانات الرسمية والإعلانات الصادرة عن رؤساء الدول ومن على غرارهم.

ولطالما أثار القانونيون التساؤل حول إذا كان وزير الخارجية يقوم بدور مهم في العلاقات الدولية، فما مدى أهليته لإلزام دولته؟ وهذا، ما يدفعنا إلى تناول مسألة القيمة القانونية للتصريحات الشفهية لوزير الخارجية.

التصريحات الشفهية (Oral Statement)
شهدت العقود الأخيرة ثورة في وسائل الاتصال، رافقتها تغيرات في الممارسات الإعلامية. وقد تضمن ذلك زيادة كبيرة في وصول وسائل الإعلام لكبار ممثلي الدولة، وطلبات غير منقطعة لهم للتعليق على القضايا ذات الاهتمام الدولي. ومن المناسب هنا، النظر إلى الأهمية القانونية لمثل هذه التعليقات وخاصة تلك التي يدلي بها وزراء الخارجية، لإنها عادة (ولكن ليس دائما) ما تنطوي على موقف الدولة، وان بدرجة اقل من البيانات الرسمية والإعلانات الصادرة عن رؤساء الدول ومن على غرارهم.
يمكن القول بان الإعلام شرع منذ عدة عقود يلاحق وزير الخارجية بأمل الحصول على تصريح ما حول موضوع معين أو مسألة من المسائل الهامة في السياسة الدولية والتي غالبا ما تكون موضوع الساعة على الساحة الدولية. لا بل – إذا أردنا الذهاب ابعد من ذلك – فان وزراء الخارجية اليوم قد وضعوا نظاما لمثل هذه التصريحات والمقابلات الصحفية والتلفزيونية ويوجد في كل وزارة خارجية في دول العالم المختلفة جهاز يتولى تنظيم ذلك ويمكنه الاتصال بمندوبي الإعلام في كل وقت، ومهما اختلفت التسميات في جزئياتها فهي الدائرة الإعلامية أو الصحفية.

فوزير الخارجية هو لسان الدولة وخير معبر عنها على الصعيد الدولي واحد أجهزة التعبير عن إرادتها في الخارج، وان سعي الإعلام المحموم هو بقصد التعرف على موقف الدولة من خلال وزير خارجيتها.   

وبهذا الوصف فان وزير الخارجية يستطيع وبكل سهولة من تحديد سياسة الدولة تجاه قضية معينة، لا سيما وان القانونين الوطني والدولي يخولانه ذلك، وحتى إذا لم يوجد نص في القانون الوطني (الداخلي) سواء في الدستور أو أي نص تشريعي أخر.

ويرى الدكتور احمد محمد رفعت رئيس جامعة بني سويف إن وزير الخارجية يتولى تحديد مواقف دولته السياسية ووجهة نظرها فيما يتعلق بالمشاكل الدولية عن طريق مؤتمرات صحفية تعقد بهدف اطلاع الراي العام على سياسة دولته في مواجهة المتغيرات السياسية والأزمات الدولية. 

 إن القانون الدولي قد منحه ذلك الحق استنادا إلى نص المادة 7 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 والتي اعتبرت وزير الخارجية ممثلا لدولته من اجل التعبير عن رضاها في الالتزام بمعاهدة دولية، ومن اجل القيام بجميع الأعمال المتعلقة بعقد المعاهدة، ومن بينها التصريحات الشفهية. لا بل إن المادة 11 من الاتفاقية المذكورة قد بنيت وسائل التعبير عن رضا الدولة الالتزام بالمعاهدة، ومن بينها التوقيع أو تبادل الوثائق أو التصديق أو الموافقة عليها أو قبولها أو الانضمام اليها أو أية وسيلة أخرى تتفق عليها.

وأصرخ مثال على أثر تصريح وزير الخارجية، هو تصريح بلفور الشهير الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور من خلال رسالة مختصرة تضمنت 117 كلمة وردت في 16 سطرا وجهها إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية آنذاك في 2 نوفمبر 1917، وكانت سببا في ضياع دولة عربية في الشرق الأوسط ألا وهي فلسطين ومنذ 95عاما وحتى الآن. 

وهكذا نجد أن وزير الخارجية هو واسطة التعامل القانوني بين الدول وذلك، بما يعلنه من بيانات أو يدلي به من تصريحات يلزم بها دولته. 

ولقد سنحت الفرصة للقضاء الدولي أن يبدي رأيا في ذلك، وفي أكثر من مناسبة. وكانت أولى الحالات التي نظرها القضاء الدولي تتمثل في القرار الذي اتخذته محكمة العدل الدولية الدائمة عام 1933 في قضية غرينلاند (فقد حدث وان صرح وزير خارجية النرويج لممثل الدانمارك كتابة بان دولته تعترف بسيادة الدانمارك على غرينلاند، ثم عدلت النرويج بعد ذلك عن هذا الموقف وعرض الأمر على محكمة العدل الدولية، فقررت في حكمها الصادر بتاريخ 25 أبريل سنة 1933، إن تصريح وزير خارجية النرويج يقيد هذه الدولة، لأنه صدر من عضو له حق التعبير عن إرادتها. 

ولقد قررت محكمة العدل الدولية الدائمة في قضية غرينلاند الشرقية سنة 1933 إن البيان الذي ادلى به وزير خارجية النرويج لوزير خارجية الدانمارك المفوض في أثناء مقابلة رسمية يعتبر ملزما للحكومة النرويجية. وان اتفاقا دوليا ملزما ينجم عن محادثات رسمية بين وزير خارجية ومندوب دبلوماسي لدولة أخرى، وان التعهد الذي يقطعه وزير الخارجية في المحادثات وأثناء قيامه بالعمل ضمن نطاق سلطته الرسمية الطبيعية هو تعهد ملزم لدولته. 

وهكذا ففي دائرة القانون الدولي، يعد كل ما يصدر عن وزير الخارجية، بوصفه ممثلا لدولته في الشئون الخارجية، ملزما لدولته ومنتجا لكافة أثاره القانونية، حتى إذا تجاوز حدود الاختصاصات التي خولها له الدستور.   

وبالتالي فإن تصريح وزير خارجية العراق في 2/1/2019، يعد تصريحا صادراً من جهة دولية مختصة قادرة على إحداث أثار قانونية على الصعيد الدولي، وإنه تعبير عن نية العراق في الإعتراف بإسرائيل إعترافاً ضمنياَ بقوله: (إحنا قضية حل الدولتين مؤمنين فيها). وحتى من الناحية الشرعية ألا يكفي الإيمان للدلالة على النية؟ وحتى لو لم يقصد ذلك، وهذا ما يستشف من توضيح الوزير لاحقاً. ويبقى في كل الأحوال، ملزما من الناحية القانونية.
إن ذلك يذكرنا بالحديث النبوي القائل: "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ".

والواقع، أن الوزير الجديد محمد علي الحكيم (الأمريكي الجنسية) هو من مواليد النجف عام 1952 (67 سنة)، ومن الطائفة الشيعية. عاد إلى العراق بصحبة الحاكم المدني الأميركي في العراق بول بريمر عام 2003، عمل مستشاراً لنائب رئيس الجمهورية (رئيس الوزراء الحالي) عادل عبد المهدي للشؤون الاقتصادية 2005-2010.
إنتقل إلى وزارة الخارجية بدرجة سفير عام 2006، ونقل إلى ممثلية العراق الدائمة لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف عام 2010، دون تدريب وخبرة دبلوماسية سابقة، كما هو معروف لدى الدبلوماسي المحترف أو المهني (Diplomat Careers). والأن يستوزر وزيرا لخارجية بلد ملتهب وسط صراعات دولية كبيرة.

وكثيرا ما كانت مواقفه وتصريحاته تثير أزمات سياسية وإشكالات قانونية مع الدول والمنظمات الدولية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
 
(1)    منح حق الجنسية للأجانب في العراق
قام ممثل العراق الدائم لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف سابقا محمد علي الحكيم والذي ادخل العراق في مأزق قانوني لن يستطيع الخروج منه لعشرات السنين ، عندما صادق على مشروع قرار تقدمت  به الولايات المتحدة الأمريكية إلى مجلس  حقوق الإنسان في جنيف أثناء انعقاد الدورة الاعتيادية العشرون والخاص بالحق في الجنسية : النساء والأطفال، والذي صدر في 16 / تموز /2012، حيث نصت الفقرة 4 من القرار المذكور على إن المجلس (يشجع الدول على أن تيسر، وفقا لقانونها الوطني، حصول الأطفال على جنسيتها عندما يولدون على أقاليمها أو لمواطنيها المقيمين في الخارج ويكونون من غير ذلك عديمي الجنسية). وكان القصد من القرار هو صهر مواطني الدول العربية من خلال منح الجنسية لكل من يولد على إقليم الدولة حتى لو كان والديه من الأجانب، وهكذا فان أي أجنبية تدخل العراق وهي حامل وتلد على الإقليم العراقي حتى لو كانت الولادة قد تمت في طائرة محلقة في الأجواء العراقية، فان على الحكومة العراقية إن تمنحها الجنسية العراقية إسوة ببقية العراقيين. وبرغم من التحذيرات الكثيرة له من المختصين من أعضاء البعثة ومن مسؤول الملف إلا انه اصرّ على ذلك. وهكذا صدر القرار باسم العراق كدولة راعية لمشروع القرار، وهذا سيشكل بحد ذاته قنبلة قانونية موقوتة كما هو الحال في دستور 2005، لتثير مشاكل عديدة للعراق في الأمد البعيد. 

(2)    سيطرة مجموعات مسلحة إرهابية على منشأة سابقة للأسلحة الكيمياوية عام 2014
يوم 9 / تموز / 2014 أبلغ سفير العراق لدى الأمم المتحدة في نيويورك محمد علي الحكيم في رسالة موجهة للأمين العام بان كي مون بتاريخ 30 / حزيران / 2014 بان حكومة بلاده فقدت السيطرة على منشأة سابقة للأسلحة الكيمياوية لصالح مجموعات مسلحة وإنها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها الدولية لتدمير المواد السامة هناك. وان منشاة المثنى (72 شمال غربي بغداد) قد سقطت في 11 من يونيو / حزيران وان بقايا برنامج سابقة للأسلحة الكيمياوية موجودة في غرفتين محصنتين تحت الأرض هناك “. وان كاميرات المراقبة قد رصدت فجر الثلاثاء 12يونيو / حزيران نهب بعض المعدات وأجهزة المشروع قبل أن يعطل المسلحون نظام المراقبة.
وقد أثار هذا الخبر المستند على رسالة السفير العراقي إشكاليات قانونية وسياسية كبيرة وقادت إلى استنتاجات خطيرة أبرزها: –
1. إن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل رغم عجز الأمم المتحدة وفرق تفتيشها لأكثر من 13 سنة من التقصي والتفتيش وكذلك عجز الولايات المتحدة عن إثبات ذلك منذ 11 سنة من البحث داخل العراق.
2. إن العراق قد انتهك التزاماته المقررة بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيمياوية لعام 1993 والتي دخلت حيز النفاذ عام 1997، وأنظم اليها العراق في عام 2009 ليصبح الدولة العضو رقم 186 من مجموع الأعضاء (190) دولة.
وأخيرا جاء القول الفصل والكلمة الحاسمة من بغداد عاصمة السفير، حيث صرح علي الحيدري عضو التحالف الوطني، الأربعاء 9 تموز بانه لا صحة لتصريحات سفير العراق لدى الأمم المتحدة واعتبر تصريحات سفيره الأممي” مدفوعة الثمن” أو كما يعرف بالإنكليزية (paid statement) وهذا ينطوي على شك في إن يكون السفير المذكور قد تقاضى مبلغا من المال من جهة معينة لقاء هذا التصريح. 

(3)    دخول القوات التركية إلى شمال العراق عام 2015
في 7/12/2015 توغلت القوات التركية في الأراضي العراقية مما ولّد أزمة دولية بين العراق وتركيا. وقد صرّح سفير العراق في نيويورك محمد علي الحكيم (الوزير حالياً) داعيا الحكومة العراقية إلى حل المسالة بالطرق الدبلوماسية وعدم تصعيد الموقف بين بغداد وأنقرة لإنه ليس من مصلحة العراق. مما أثار استهجان العراقيين وتساؤلهم فيما إذا كان هذا موظفا لدى العراق ويتقاضى راتبه وامتيازاته المالية الكبيرة منها أو موظفا لدى جهة أخرى مستقلة ومحايدة في ظل هذا النزاع الدولي؟ متخذاً موقفاً مخالفاً لحكومته، ففي تصريح لرئيس الوزراء حيدر العبادي بتاريخ 8/12/2015 أنكر وجود أي اتفاق مع الجانب التركي لهذا التوغل العسكري وأمهل القوات التركية بالخروج من العراق خلال 48 ساعة، ثم تلاه إدانة البرلمان العراقي لهذا التوغل العسكري في 9/12/ 2015.   وما زالت القوات التركية موجودة في العراق، حتى يومنا هذا.

(4)   مشاكل شخصية

في تقديري أن الوزير الحالي يعاني من مشاكل نفسية تتمثل في وسواس العظمة، وهذا ما لاحظته عليه خلال عملنا سوية لمدة ثلاث سنوات (2010-2013). كيف لا، وقد تحول من لاجئ في أميركا إلى سفير ثم وزير.

وقد كتبت عن تصرفاته هذه في عام 2015 فهو يرى نفسه انه قد أصبح رئيس العالم بهذا المنصب، ولكن من الجنون أن يظّن سفير دولة صغيرة بانه أكبر من حجمه، وهذا ما شهدناه أثناء العمل معه، وهذا ما عانيته طيلة فترة العمل معه. خاصة بوجود عدد كبير من المتملقين والمتزلفين الذي يجَمِلون له كل تصرفاته الخاطئة، وخاصة الدبلوماسيين الشيعة، الذين يعتقدون أن إنتقاد أي مسؤول شيعي، مهما كان مخطئاً، بأنه إنتقاد لحكم المذهب الديني الشيعي والسعي لإزالته، دون أن يكلفوا نفسهم عناء إصلاح أخطاءهم. إن هذا ليس من قبيل التقليل والتسقيط رغم الخلافات بيننا، ولكنها شهادة لسوء إدارة الدولة في العراق منذ 2003 وإلى يومنا هذا، وتشخيص الأخطاء والسعي لإصلاحها. ومن الحالات التي أذكرها على سبيل الإستشهاد، هاتين الحالتين:

-   ففي احدى المرات في عام 2011 وأثناء اجتماعنا في مقر بعثة تايلند في جنيف برئاسة رئيس مجلس حقوق الإنسان آنذاك السفير التايلندي سيهاساك فوانغكيتكيو لبحث تقييم عمل وأداء المجلس، واذا به تطلق قريحته متحدثاً باسم جميع الدول العربية والإسلامية دون مراعاة لوجود سفراء الدول العربية والإسلامية، فما كان من سكرتيرة مجلس حقوق الإنسان (Ann Schive Viken)التي كانت تجلس خلف الرئيس إلا أن همست بإذني حيث كنت أجلس بجانبه وطلبت بأن أوجه السفير العراقي آنذاك بأن يتحدث وفقا لاختصاصه الوطني (National Jurisdiction) لا أن يتحدث نيابة عن جميع الدول، بعد أن صرح قائلا : بأننا بإسم جميع الدول لن نقبل بذلك، وبإسم الدول العربية جميعا. وسط دهشة السفراء وخاصة سفير مصر، الدبلوماسي المخضرم الزميل هشام بدر الذي فغر فاه مستغرباً من هذا الطرح على الصعيد الدبلوماسي. وقد همست بإذنه قائلا: سعادة السفير تحدث باسم العراق فقط. فتدارك وقال إني أتحدث باسم العراق فقط.

-   وعلى غرار ذلك ما صرح به لدى أول اجتماعه بمكتب الجامعة العربية في جنيف في نيسان عام 2010 حيث طرح إنطباعاته الشخصية كما في حوار في مقهى بين الأصدقاء، قائلا: بان الجامعة فاشلة ولا فائدة منها، ولا أرى ضرورة لبقائها.

وهذا ما دفعني للاعتذار لاحقاً في الاجتماع التالي وتبرير هذه التصرفات المخالفة للعمل الدبلوماسي، وسارت الأمور بعد ذلك سيراً حسنا مع مندوب الجامعة العربية.

ولهذا فقد ذهب الفقه القانوني الدولي إلى إن الزاوية التي يصعب اكتسابها في الصفات الواجب توفرها في وزير الخارجية، هي تلك الخاصة بمدى القدرة الشخصية على التصرف السليم والوزن الدقيق للأمور. ففي دائرة العلاقات الدولية يكثر الطلب والالتماس والتفاوض.  إن أية كلمة تقال في غير محلها قد تجرح أمة بكاملها. كما إن السعي إلى تحقيق شيء بدون تقدي

21
تحالف قوى المقاطعة                                                                                                                       
      في العراق                                                                                                                                                 العدد: 4

م/ رسالة مفتوحة للمحكمة الاتحادية العليا في العراق

السادة رئيس وأعضاء المحكمة الموقرين
مرة أخرى يثبت ساسة العراق المهيمنين على العملية السياسية فشلهم في بناء أسس الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تحقق أهداف هذا الشعب في العيش بحرية وكرامة، بعد أن أثبتوا أنهم ضد إرادة الشعب العراقي، وإنهم لم يأتوا إلى السلطة سوى لتدمير العراق والإنتقام من الشعب العراقي. أن المجموعات السياسية التي قامت دول عديدة بتصديرها للعراق لتتولى السلطة بعد سقوط النظام السابق والتي لم يجمعها سوى جامع واحد هو السرقة وتدمير العراق، ولتحقيق مسعاهم ذلك فقد قضوا على الجيش العراقي وهو الحارس الأمين للبلاد، وغيبوا القانون لعدم محاسبتهم على جرائمهم في السرقة والتخريب والخيانة العظمى وأخيرا جريمة تزوير إرادة الشعب.
وبعد تجربة مريرة وقاسية طيلة 15 عاما ومازالت مستمرة حتى الآن، إستعاد غالبية الشعب وعيه، بإستثناء أتباع الأحزاب العميلة والباحثين عن الغنائم الذين ظلوا حتى اللحظة الأخيرة يتطلعون للفتات المتساقط من موائد الفاسدين. إن عودة الوعي للشعب العراقي يعد بحد ذاته إنجازاً كبيراً تمخض عن هذه التجربة الأليمة. وقد وقف غالبية الشعب وقفة موحدة ضد الانتخابات الفاسدة، وما زال المقاطعون مستمرون في مواقفهم الراسخة ينظمون قواعدهم الشعبية ومستعدون لتصعيد موقفهم في انتخابات المجالس المحلية القادمة، إذا ما إستمر الفاسدون في فسادهم يسحلون بأذيال هذه العملية السياسية البائسة. وهم يمثِّلون في أقل تقدير نسبة تتجاوز 80% من مجموع الناخبين.
وعلى الرغم من أن محكمتكم قد نظرت في الدعوى التي أقامتها مجموعة مقاطعون للانتخابات في العراق مطالبة محكتكم الموقرة بعدم التصديق على نتائج الانتخابات وقضت برَّد الدعوى بموجب قرارها الصادر بالعدد 86/اتحادية/2108، لقناعتها بعدم توجه الخصومة فيها، إلاّ إننا سنواصل جهودنا في عدم المصادقة على نتائج هذه الانتخابات المزورة.
أن دلائل التزوير والغش وخروقات الانتخابات الأخيرة التي جرت يوم 12 آيار 2018 هي كثيرة وواضحة وضوح الشمس ولا يمكن حجبها بغربال، ويستدل عليها حتى الأعمى، وهذا ما أدى إلى عدم ظهور النتائج النهائية حتى الآن، على الرغم من مرور 55 يوما على إجرائها، ناهيك عن نفقاتها الطائلة، ومن هذه الدلائل: -
1.   إحالة مفوضية الانتخابات إلى هيئة النزاهة، ومنع أعضاءها من السفر إلى خارج العراق بموجب قرار رئيس الوزراء.
2.   تشكيل لجنة لدراسة التقارير التي تخص العملية الانتخابية بموجب قرار مجلس الوزراء المرقم (198) لسنة 2018 والتي قدمت تقريرها في 29/5/2018 حيث أثبت اللجنة في تقريرها حصول خروقات وعمليات تزوير كثيرة رافقت العملية الانتخابية في العديد من محطات المحافظات والخارج وفي التصويت الخاص للنازحين.
3.    إستبدال مجلس المفوضين بقضاة لتدقيق صناديق الإقتراع وإجراء العد والفرز اليدوي..
4.    صدور قرارات بإلغاء تصويت الخارج وتصويت النازحين في الداخل.
5.    إلغاء صناديق اقتراع أكثر من ألف محطة إقتراع.
6.    صدور قرارات من البرلمان بالتعديل الثالث لقانون الانتخابات والمطالبة بإجراء العد والفرز اليدوي.
7.    تصريح السيد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق بتاريخ 11 حزيران 2018 بضرورة إجراء تحقيق عاجل في إنتهاكات التزوير في الانتخابات.
8.   حرق مخازن صناديق الإقتراع في الرصافة يوم 10/6/2018.
9.   سقوط أجهزة البايومتري في مقر المفوضية وتحطمها ومقتل أحد الموظفين وجرح أخرين يوم 23 حزيران 2018.
10.   تفجير مخازن صناديق الإقتراع في كركوك يوم 3/7/2018.
11.    إحالة القضية للمحكمة الإتحادية العليا في العراق، والتي إجراء العد والفرز اليدوي وبإشراف القضاة بموجب قرارها في المرقم 99و104و106/اتحادية/إعلام/2018 في 21/6/2018.
12.    صدور تقرير لجنة تقصي الحقائق النيابية في 30 حزيران 2018 الذي أشار إلى نسبة كبيرة للتزوير تجاوزت 50%، وطالبت اللجنة بإلغاء الانتخابات المذكورة، إحالة مجلس المفوضية للتحقيق.
13.    أشارت نتائج التدقيق لعمليات العد والفرز في كركوك التي جرت يوم 4/7/2018 إلى فروقات كبيرة في نتائج الانتخابات تجاوزت 50%.
 والآن وقد دخل العراق فترة فراغ دستوري حيث لم تعد السلطة التشريعية قائمة بعد إنتهاء الدورة البرلمانية في 30/6/2018 فقد باتت المحكمة أمام مرحلة مفصلية في إتخاذ قرار حاسم بين عدم المصادقة على نتائج الانتخابات التي ثبت تزويرها بشكل كبير للعالم أجمع، وقاطعها معظم الشعب العراقي بنسبة تجاوزت 80% من مجموع الناخبين، وبين المصادقة على النتائج المزورة بحجة تفادي الوقوع في فراغ السلطة. وهنا نقول للمحكمة الإتحادية إن الإستناد على الفساد لن ينقذ هذه العملية الساقطة من الأساس، وإن جريمة التزوير من الجرائم المخلة بالشرف لمرتكبها، فكيف يمكن القبول بسياسي قد أخل بشرفه، وإن مسعى أي محكمة في العالم هو إحقاق الحق، حيث لا يصُح إلا الصحيح.
إن الشعب لن يسكت على تزوير إرادته هذه المرة فقد بلغ السيل الزبى، ولم يعد في القوس من منزع، ونفد صبر الشعب ولم يعد لديه ما يخسره بعد أن خسر بلده وثروته وسيادته وكرامته. وإن التصديق على نتائج الانتخابات المزورة لن يعطي الشرعية لأي حكومة قادمة.


السادة القضاة
لكل ما تقدم من أدلة وبراهين لا يمكن معها تغطية عملية التزوير الهائلة في هذه الانتخابات، لذا فإننا نناشدكم من خلال هذه الرسالة المفتوحة ونهيب بمحكمتكم الموقرة أن تقفوا هذه المرة وقفة قضائية وطنية عادلة ومشرفة، لا سيّما وقد باتت محكمتكم (السلطة القضائية) الحصن الأخير الذي يلوذ به الشعب من فساد السياسيين، وإن محكمتكم مدعوة لإنقاذ العراق وشعبه من سوء إدارة وفساد وتزوير السلطة التنفيذية العاجزة عن محاسبة الفاسدين، وأن تتخذوا قراركم الجريء والعادل في عدم المصادقة على نتائج هذه الانتخابات المزورة التي يشكل قرار المصادقة عليها إساءة لتاريخ العراق وكرامة شعبه، ناهيكم عما يلحقه بالقضاء العراقي من سمعة سيئة، فما بُنيَ على باطل فهو باطل.

كتبت ببغداد في 7/تموز/2018
تحالف قوى المقاطعة في العراق                                                                                                                       

22
أوائل الصحافة النسوية في العراق


  د. رياض السندي   
       

تحل في الخامس عشر من حزيران ذكرى صدور أول صحيفة عراقية وهي (الزوراء) عام 1869 في بغداد على يد الوالي العثماني المصلح مدحت باشا والذي أعتبر فيما بعد عيداً وطنيا للصحافة العراقية.
ويرجع الكثير من الباحثين في تاريخ الصحافة العراقية بداية الصحافة النسوية في العراق إلى 15 تشرين الثاني من عام 1923 ، وهو تاريخ صدور مجلة (ليلى) التي أصدرتها ورأست تحريرها بولينا حسون، إلا إن تحديد بدايات الصحافة النسوية في العراق ليس بالأمر الهين، وقد أثيرت هذه المسالة في خمسينات القرن الماضي بعد أن تناول الباحثون تاريخ الصحافة في العراق، وكان المرحوم روفائيل بطي رئيس تحرير جريدة البلاد سباقا إلى ذلك فقد القى عدة محاضرات في على طلبة معهد الدراسات العربية العالية عام 1955، جمعت فيما بعد في كتاب مستقل بعنوان ( الصحافة في العراق ). وكان قد سبقه شيخ المؤرخين العراقيين المرحوم عبد الرزاق الحسني فجرد كل الصحف والمجلات العراقية في كتاب بعنوان (تاريخ الصحافة العراقية) صدر جزأه الأول عام 1935، ولم تصدر بقية أجزاءه. كما إن إنشاء نقابة الصحفيين العراقيين عام 1959 قد حفّز على إثارة هذا الموضوع مجددا. 
             
مفهوم الصحافة النسوية
ظهرت الصحافة النسوية بصورة مستقلة وأصبح لها كيان خاص بها مع تأسيس في بداية القرن التاسع عشر في أوربا (Curtis) مجلة بيت السيدات كرتس التي نشرها وحررها إدوار بورك أكبر المحررين في تاريخ المجلات النسوية.
وتشير المصادر إلى إن الصحافة النسوية العربية ظهرت في مصر عام ١٨٩٢ ولم تكن قد عرفتها دولة عربية أخرى، لان مصر شهدت نهضة صحفية لم تعرفها البلاد العربية من قبل وهي حديثة عهد بالصحافة وبصناعة الأقلام ولما كان اغلب أصحاب الصحافة وحملة الأقلام بها من الشاميين كان من الطبيعي أن تسعى نسائهم لإنشاء صحف تعالج قضايا المرأة تشبها بذويهن من الرجال، فقد أنشات (هند نوفل) وهي فتاة لبنانية أول دورية نسائية في الإسكندرية في مصر تدعى مجلة (الفتاة). وتعد مجلة ليلى التي أصدرتها السيدة (بولينا حسون) ١٩٢٣ أول مجلة نسوية في العراق.
وتعرف الصحافة النسوية (صحافة المرأة) بأنها نوع من الصحافة المتخصصة التي تعالج شؤون المرأة ومشكلاتها وقضاياها حتى لو عمل بها وأصدرها رجال وهي ليست الصحافة التي تملكها أو تعمل بها النساء وتعالج الأمور العامة.
وفيما يخص العراق فقد ظهرت الصحافة المتخصصة بمفهومها الحالي بعد الانقلاب الدستوري العثماني ١٩٠٨ وبعد إطلاق الحريات وإنشاء الصحف الخاصة باللغة العربية وبذلك تكون الصحافة المتخصصة في العراق قديماً قياسياً إلى بداية صدور الصحف في العراق.
يتسع مفهوم الصحافة النسوية ليشمل مجالين رئيسين:
المجال الأول : صفحات المرأة في الجرائد اليومية والمجلات العامة الأسبوعية والشهرية .
المجال الثاني : ويشمل المجلات المتخصصة بالشؤون النسوية سواء أكانت أسبوعية، شهرية ، فصلية.
وقد عرف المجال الأول في الصحافة النسوية في مدة مبكرة من تاريخ الصحافة، إلا أن المجال الثاني ظهر بشكل واضح بعد نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في قارتي أوربا وأمريكا.
ووفق هذا التعريف تقسم الصحافة النسوية إلى:
١- الصحافة النسوية العامة:
ونعني بها النشاط الصحفي الذي يقوم على أساس إصدار الجرائد والمجلات التي توجه إلى جمهور عام يشمل قطاع النساء إلى جانب قطاعات أخرى والتي تجمع ما بين المضمون النسوي المتخصص المعالج لقضايا المرأة المختلفة العامة والخاصة والقضايا العامة.
٢- الصحافة النسوية المتخصصة:
وتعني النشاط الصحفي الذي يقوم على أساس إصدار الجرائد والمجلات التي توجه إلى جمهور يتسم بالتجانس هو قطاع النساء وتحمل مضموناً نسوياً متجانساً متخصصاً بقضايا المرأة.
وامتازت الصحف المتخصصة الصادرة في تلك المدة بمميزات عديدة منها:-
-1  قصر مدة صدورها.
-2  اعتمادها في التمويل على القدرة المالية لصاحب الصحيفة .
-3  محدودية الجمهور المتخصص.
-4  قلة عدد النسخ المباعة تبعاً لقلة الجمهور.
-5  عدم الإقبال على نشر الإعلانات فيها، وشدة الإقبال على نشر  تلك  الإعلانات في الصحف اليومية الأمر الذي أدى إلى قلة المدخولات المالية للصحيفة، وبعد قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ وإعلان العهد الجمهوري شرعت المؤسسات بإصدار صحف رسمية ذات اختصاص معين واستمرت الصحف المتخصصة بالصدور إلى نهاية عام ٢٠٠٠ إلا إنها لم تكن بالمستوى المطلوب بسبب حرمانها من ممارسة حريتها في النشر وحق التعبير عن أراءها وما يدور من مشكلات وانتقادات داخل المجتمع بسبب السياسة الإعلامية المهيمنة من قبل النظام السابق .

رائدات الصحافة النسوية في العراق
ولتوخي الدقة في تحديد التسميات والألقاب في هذا المجال اعتمادا على أسس موضوعية مستندة لأدلة صحفية دقيقة لإعطاء كل ذي حق حقه، وتلافيا للالتباس الذي سقط فيه الكثيرون ممن كتبوا في ها المجال وتناقل عنهم اللاحقون وهكذا يجب ابتداءا حصر تلك التسميات ومن ثم الانطلاق منها لبيان من ينطبق عليه ذلك اللقب مع تقديم الأدلة التي تثبت ذلك، وهي: -

1.   الصحفية الأولى في العراق.
2.   أول مقال صحفي لامرأة عراقية (الصحفية العراقية الأولى).
3.   أول مطبوع نسوي في العراق.
4.   أول رئيسة تحرير عراقية.                                                 
5.   أوائل الصحفيات العراقيات.
وهذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل.
•   الصحفية الأولى في العراق                                                                                         
لا يمكن تصور ظهور هذا اللقب قبل قيام دولة العراق الحديث عام 1921 في ظل الانتداب البريطاني، وكان العراق يعاني من تركة الرجل المريض في التخلف والأمية وقلة المدارس وضعف التعليم وندرة المطابع، بما انعكس على واقع الصحافة آنذاك. لذا نجد إن أوائل الذين مارسوا العلوم والآداب والفنون كانوا من الأجانب أو الأقليات بحكم كونهم طبقة متعلمة ومتفتحة على تطور المجتمعات الأوربية آنذاك.
إن أول امرأة مارست عملا صحفيا في العراق كانت البريطانية المس غيرترود لوثيان بيل (Gertrud Lowthian Bell)  السكرتيرة الشرقية للسر برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق، وذلك من خلال إشرافها على إدارة وتحرير جريدة (العرب) وهي، يومية سياسية إخبارية تاريخية أدبية عمرانية عربية المبدأ والغرض ينشئها في بغداد عرب للعرب، أصدرتها حكومة الاحتلال البريطاني في العراق بهدف الدعاية لبريطانيا والتأثير على الرأي العام لصالحهم وكسب الرب إلى جانبهم وضرب الدعاية التركية ليتسنى لهم احتلال باقي أجزاء العراق، وقد تم لهم ذلك بإصدار جريدة العرب، وهي كما يدل اسمها ( المستوحى من السياسة البريطانية المعلنة وقتئذ، إذ كانت تعلن تطابقها مع الأهداف العربية ، والعمل من اجل نصرتهم ). والميل إلى جانب العرب لكسب ودهم. ويقف وراء تسميتها بهذا الاسم الذي نال استحسان السر برسي كوكس فيما بعد الأب أنستاس ماري الكرملي أو محمود شكري الألوسي باستشارة من الكرملي وبناء على طلب المس بيل. ويرجع تأخير صدورها إلى فقدان الورق يومذاك وأخذ جميع مواد الكتابة والطباعة من قبل الأتراك غداة انسحابهم من بغداد.
وقد وصفت المس بيل بدايات إصدار هذه الصحيفة في رسالة إلى والدها مؤرخة في 25 حزيران 1917 تقول فيها: "تتخذ الترتيبات اللازمة لإصدار جريدة عربية محلية، كنّا نتمنى صدورها كلنا. وقد تأجل صدورها حتى الآن لعدم توفر الورق اللازم، لكن إصدارها كان سيتأخر لو لم أظهر رغبة شديدة له فيها. فعيّن المستر فيلبي محررا رسميا فيها، كما استحدث وظائف خاصة لاهم أصدقائي العرب في بغداد بين هيئة تحريرها، وسنصدر عددها في اليوم الأول من تموز، وقد أطلق عليها اسم (العرب) لأنها الجريدة الأولى التي تصدر مستظلة بظل العهد الجديد من حرية العرب".
وفي رسالة لاحقة كتبت المس بيل بتاريخ 9 تشرين الثاني عام 1917 إلى والدها تصف له عملها في جريدة العرب، وتعترف صراحة بانها رئيسة تحريرها قائلة: "بدأت اضطلع ببعض الواجبات الجديدة الملذة، ومنها تسلم رئاسة تحرير ((العرب))، الجريدة العربية التي نصدرها. ولدي مشاريع كثيرة تجعل من هذه الجريدة شيئا أكثر حيوية، بتعيين مخابرين في الأنحاء ومخبرين في الداخل. وأنا متأكدة من أن جمهور القراء، حينما يقرأ أن فلان ابن فلان وفلان قد غرم لأنه خرج من دون فانوس، سيهتم أكثر مما يهتم بقراءة أنباء عن قصف قرية مجهولة في بلاد الفلاندرز مثلا. المحرر الثاني، الأب انستاس، يأتينا مرة في الأسبوع ليقرأ عليّ المقالات الرئيسة التي أراقبها. وهو عربي من لبنان في الأصل يذكرنا بأيام شوسر، مثقف كبير ومضطلع في لغته، ويتكلم الفرنسية ويكتبها كما يفعل الفرنسيون أنفسهم ...".

وقد صدر العدد الأول من جريدة العرب يوم 4 تموز 1917 (14 رمضان 1335) - أي بعد احتلال بغداد بما يقرب من الأربعة أشهر- وكانت غير يومية وتصدر بصفحتين بين يوم وأخر في بداية عهدها، وظلت على ذلك مدة الستة اشهر الأولى، كما كان ظهورها خلال الشهرين الأولين بصورة غير منتظمة، ثم أصبحت يومية منذ صدور العدد 28 بتاريخ 3/10/1917، وكان آخر عدد صدر منها هو العدد 872 بتاريخ 21/5/1920. ومما لا شك فيه إنها كانت تعبر عن آراء سلطات الاحتلال، ومن غريب ما وجدنا فيها مقالات تندد بالأتراك لكونهم اضطهدوا اليهود الصهاينة وأجلوهم عن بعض مستعمراتهم في فلسطين، وتدعو إلى منحهم وطناً قومياً هناك. ومع ذلك تعد هذه الصحيفة أولى الجرائد التي أصدرها الاحتلال لما تشتمل عليه من خصائص الصحيفة، وخاصة بعد أن أصبحت يومية منتظمة الصدور في 1/9/1917 أي بعد مرور قرابة الشهرين على ظهورها- من ناحية، وان صدورها بهذا المستوى جاء في وقت كانت فيه الأوقات البصرية ما تزال فيه أقرب إلى النشرة الصحفية اليومية منها إلى الصحيفة- من ناحية أخرى.
وقد اختير (أحسن الكتاب وصفوتهم في العراق وفي غيره) للمساهمة في تحرير الصحيفة، لذلك تجد خيرة كتاب العراق وبعض كتاب العرب يشارك في تحريرها لقاء أجور مغرية أمثال شكري الفضيلي وكاظم الدجيلي وعبد الحسين الأزري ومحمد مهدي البصير وعطا أمين وزير العراق في أنقرة لاحقاً والشاعر جميل صدقي الزهاوي والدكتور نجيب الدمنازي وزير سورية المفوض في لندن. وقد ذيلت اغلب مقالات الصحيفة بتواقيع مستعارة (كأبن العراق) و(ابن الرافدين) و(ابن ماء السماء) و(ابن حلال) و(ابن بابل) و(ابن ذي الجنتين) خشية الاتهام بالتواطؤ مع الإنكليز. وقد استمرت الجريدة بالصدور حتى احتجابها في 21/مايس/1920، بعد أن دامت ما يقارب الثلاث سنوات، ومجموع ما صدر منها (872) عدداً. 
بالإضافة إلى مساهمتها الرئيسة في مجلة العرب، فقد "ساهمت المس بيل بالإشراف على مجلة (الخزانة) التي أصدرتها لجنة مكتبة السلام في بغداد كل ثلاثة اشهر مرة واحدة (أي فصلية) باللغتين العربية والإنكليزية للبحث في وصف الكتب القديمة ونقدها لكل ما يهدى إلى المكتبة من التآليف الحديثة" ومن الكتب التي ترد العراق والتي تصدر فيه وقتذاك، والتي صدرت للفترة من1 كانون الثاني 1923 حتى نهاية العام المذكور.
ومن هذا العرض الموجز يتضح لنا أن المس غيرترود بيل هي أول امرأة غير عراقية دخلت عالم الصحافة في العراق من أوسع أبوابها (اعني بها رئاسة التحرير) ومارست مهنة الصحافة فيه عندما تولت مهمة رئيسة تحرير جريدة العرب وتولت الإشراف الفعلي على المطبوع المذكور ووجهت سياسته الوجهة المطلوبة والمكلفة بها من سلطات الاحتلال البريطاني، وبذلك يكون عملها اول مساهمة نسوية في صحافة العراق الحديث.

•   أول مقال صحفي لامرأة عراقية                                                
على الرغم من أن المس بيل قد دخلت عالم الصحافة في العراق قبل الأخريات، إلا إنها - وعلى ما يبدو- لم تحرر شيئا سواء في صحيفة العرب أو مجلة الخزانة، حيث اقتصرت مهمتها على رئاسة التحرير والإشراف الفعلي على إدارة سياستها وتوجيه كتابها والعاملين فيها.
ونتيجة البحث والتقصي الدؤوب في معظم الصحف والمجلات الصادرة في العراق آنذاك فقد اهتدينا إلى أول مقال كتبته امرأة في العراق وهو بعنوان (إلى طائفة من العراقيين) والموقع بأسم مستعار هو (كلدانية عربية عراقية) والمنشور في مجلة دار السلام البغدادية التي كان يصدرها المرحوم الأب انستاس الكرملي في عددها 11 من المجلد الرابع – السنة الرابعة والصادر في 29 آيار 1921، جاء فيه:
"إذا أردتم أن تعرفوا رقٌي أمة فانظروا إلى نسائها (نابليون)، وتحقيقا لذلك راجعوا تاريخ العالم الماضي والحاضر، فإنكم ترونه يفصح لكم عن منقلب أمم وقبائل شتى منها متمدنة ومنها جاهلة، منها مجتهدة قوية ومنها خاملة ضعيفة. ثم انعموا النظر في الضعيفة منها تروها لم تفد المجتمع البشري فائدة تذكر، فهي مجردة من صفات المدنية وقد أحاط بها الخذلان والجهل لجهل نسائها. وأما تاريخ الأجيال القوية فأنها قد أفادت الألفة بما أفاضت عليها من جلال النعم والمبرات الكبرى فدفعتها إلى الأمام منقادة إلى النجاح بفضل رجالها العظام الذين لم ينشأوا إلا في أحضان الأمهات التي هي المدارس الأولى للأطفال. ومثل هذا القول قل عن الأمم المعاصرة لنا من رفعة في القدر، ومن منحطة في السعي، فإنها كلها تفصح لك عن إن الأمة التي تتركب من عنصري متساعدين متناصرين هما عنصر الذكر وعنصر الانثى على هذه الصورة انشأتهما الطبيعة، ولهذه الصورة يفلحان وينجحان".
 وهو المقال الذي ادعته مريم نرمه لنفسها أثناء اللقاء الصحفي الذي أجرته معها مندوبة جريدة الجمهورية البغدادية ليلى البياتي في الملحق الأسبوعي للعدد 470 في 41/6/1969عشية تكريما من قبل وزارة الإعلام العراقية كرائدة للصحافة العراقية بمناسبة العيد المئوي للصحافة في العراق، وبذا يكون هذا المقال أول مشاركة للمرأة العراقية في تاريخ صحافة العراق، مالم تثبت الأيام لاحقا خلاف ذلك، لاسيما وانه قد مضى قرابة مئة عام دون أن يدعي احد عائدية المقال له، وتكون السيدة مريم نرمه أول إمرأة عراقية تلج عالم الصحافة، وتستحق بجدارة لقب ( أول صحفية عراقية )، لاسيما وقد عثرنا في صحافة العراق ما يعزز هذا الرأي في مقال لمريم نرمه بعنوان ( يوسف القديم ويوسف الجديد ) والمنشور في مجلة نشرة الأحد، السنة الأولى، العدد 12 في 19 آذار 1922بتوقيع (مريم نرمه الكلدانية العراقية) لتغيره فيما بعد إلى (أختكم مريم نرمة الكلدانية) ثم (مريم نرمة الكلدانية) في كتابات لاحقة، ليستقر لقبها أخيرا باسم (مريم نرمة) وهو ما عرفت به لاحقا طيلة حياتها واعتمدته في جميع كتاباتها، نقتطف منه ما يلي:
" أقام الله يوسف بن يعقوب رئيسا على جميع ارض مصر وأودعه خزائنها واختار يوسف بن يعقوب الثاني سيدا على بيته وائتمنه على أخص كنوزه وهي مريم البتول الطاهرة، رأى يوسف الأول رؤية سرية: رأى الشمس والقمر والكواكب تسجد له، وفي بيت الناصرة رأى يوسف النجار الشمس الإلهية والقمر السري أي ألام القديسة يحترمانه ويخضعان له.
كان يوسف الأول عفيفا نقيا طاهرا. ففاقه يوسف القديس بطهارته وعفته إذ كان بتولا وهو عائش مع عذراء.
وجد يوسف القديم حظوة عند فرعون ملك مصر وكان يوسف الجديد أشرف القديسين حظوة ومكانة عند الله رب الجنود إذ جعله مربيا لابنه الوحيد وقرينا لامه البتول.
لم ير يوسف الأول المخلص الذي آمن به وتاق إلى رؤيته واسعد الحظ يوسف الثاني أن يرى المخلص الموعود به ويحمله على ذراعيه ويأكل معه ويساكنه مدة ثلاثين سنة ويموت على صدره".
ومريم نرمة هي مريم روفائيل يوسف رومايا، ولدت في 3 نيسان 1890 في قضاء تلكيف التابع لمحافظة نينوى، ولقبت ب (نرمة) وهي كلمة كلدانية - فارسية الأصل تعني اللطيفة والناعمة للطفها وظرافتها، لاسيما وانها كانت البنت الوحيدة بين سبعة أخوة ذكور. وظل هذا اللقب يلازمها طيلة حياتها وحتى الآن.
وقد أصدرت نرمة في عام 1937 صحيفة نسائية عرفت باسم (فتاة العرب) بعد مضي أكثر من اربعة عشر عاما على صدور أول مطبوع نسوي في العراق، ألا وهي مجلة ليلى.
صدر العدد الأول من صحيفة فتاة العرب بتاريخ 16 آيار 1937 في 16 صفحة من القطع الوسط (نصف حجم الجريدة الحالي. وقد استمرت بالصدور مرتين في الأسبوع يومي الاثنين والخميس، لتتحول إلى صحيفة أسبوعية تصدر كل يوم خميس من كل أسبوع، ومجموع ما صدر منها 24 عددا فقط. وقد تولت طباعتها مطبعة الشباب ببغداد، فيما اتخذت من مسكنها في شارع مدحت باشا المسمى (عقد العريض) مقرا للصحيفة.
ولم يكن مصير نرمة بأفضل من معاصرتها بولينا حسون، فقد واجهتها ظروف صعبة وتحديات جمة كان في مقدمتها الصعوبات المالية التي بلغت 45 ليرة ذهب- بحسب قولها. (صحيفة الأنباء الجديدة، العدد 23، السنة الأولى، في 14 ت2 1964).
فاضطرت إلى التوقف بتاريخ 21 تشرين الأول 1937، إلا إنها اختلفت عن معاصريها ورفيقاتها في طريق الصحافة النسوية في أنها لم تترك وطنها وبقيت في العراق وماتت ودفنت فيه. وربما يعود ذلك إلى صلابتها أولا، وفي تجنبها الدخول في مسائل حساسة لا يقبلها المجتمع كالحجاب الذي التزمت به حتى أخر يوم في حياتها، بل ركزت على مسالة تعليم المرأة.
كانت مريم نرمة ذات اتجاه قومي وحدوي، ويتضح ذلك من إختيار إسم صحيفتها "فتاة العرب" والنهج الذي سارت عليه في صحيفتها، حيث كانت تهدف إلى خدمة الفتاة العربية والعراقية وتقدمها، ولم يقتصر إهتمامها على الأمور النسائية بل إهتمت بالمسائل السياسية.
توفيت نرمة بتاريخ 15 آب 1972عن عمر ناهز 82 عاما.


•   أول مطبوع نسوي في العراق
تعتبر مجلة (ليلى) التي أصدرتها السيدة بولينا حسون روفائيل باكورة الصحافة النسوية المتخصصة في العراق.
وليلى كما جاء في ترويستها، هي (مجلة نسائية شهرية تبحث في كل مفيد وجديد مما يتعلق بالعلم والأدب والفن وتدبير المنزل، وضعت للأسر ولاسيما العراقية لإفادة وتفكهة الرجال والنساء والأولاد وهي احدى عوامل النهضة النسائية العربية).
صدر عددها الأول في 15 تشرين الثاني 1923 في 48 صفحة من القطع الوسط، طبعت على مطابع دار الطباعة الحديثة في بغداد، واستمرت بالصدور نحو عامين حتى توقفها في 15 آب من عام 1925، وكان مجموع ما صدر منها (20) عددا فقط. وكان للمجلة أبوابها الثابتة في (مسامرات السيدات) و(بوق الحق) و(أخبار الغرائب وغرائب الأخبار) وغيرها.
(وكان يلتقي على صعيد المجلة فريق من المنشئين اللامعين كالزهاوي والرصافي والدجيلي وحليم دموس وسلمى صائغ وأنور شاؤول ويوسف غنيمة). وقد لاقت المجلة تأييدا ورواجا ولاسيما في الأوساط النسائية الراقية خاصة.
وتذكر بولينا إنها كانت تنوي تسمية المجلة بـ "فتاة العراق" إلا أن استمعت لقصيدة للشاعر جميل صدقي الزهاوي وفيها يغازل "ليلى والوطن" فوقع اختيارها على "ليلى"، ويتبين في اختيار عنوان المجلة عمق الثقافة التي كانت تتمتع بها السيدة الرائدة.
صدر العدد الأول من مجلة ليلى في الخامس عشر من تشرين الأول-أكتوبر سنة 1923، وكانت تطبع في شركة الطبع الحديثة ببغداد لصاحبها حسون مراد وشركاه وكانت بحجم 23×15 سم، وبلونين ابيض واسود ولم يتجاوز عدد صفحاتها ولكل عدد الـ (48) صفحة وكتبت بولينا حسون افتتاحية العدد الأول جاء فيها : «إن البعض يعتقد بان ظهور مجلة نسائية في العراق من (الكماليات) التي لا حاجة اليها الآن، وان المناداة بنهضة المرأة العراقية نفخ الرماد فهؤلاء وأمثالهم معتادون على إطفاء الأرواح ولعلهم من بقايا الوائدين .
رحبت المجلة في عددها الرابع الصادر في 15كانون الثاني-يناير 1924 (7 جمادى الأخر 1342هـ ) بالعام الجديد 1924 وكتبت في مثال بعنوان ((اجل الأماني)) تقول : مرحباً بك أيها العام الـ 1924، منها قد انعدم ذلك العام الثقيل (1923) ،فما عساك أن تكون أنت أيها العام الجديد؟ وماذا أخفى الغيب في ثنايا شهورك، وطيات أيامك،» وأضافت «إن العالم يؤمل أن يتنفس فيك وينال نصيباً من الأمل.
أما عراقنا المحبوب فيمني النفس بالتمتع بجميع حسنات الحكم القومي، ترشده الحكمة النيرة، ويعضده الإخاء الوطني، ويدعمه الثبات الراسخ… إن عراقنا العزيز يتوقع أن تمشي روح التجدد الحقيقي في ضلوعه، وبانتشار أنوار التهذيب بين بنيه وبناته، وأما ليلى فتاة العراق، ومعها الجنس اللطيف العراقي اجمع، فمنيتها أن تعم النهضة النسائية المباركة القطر العراقي بأسره .
وتؤمل أن لا ينتهي العام إلا وقد جرت المرأة العراقية، في طريق الرقي، شوطاً بعيدا» .
هي الأخلاق تنبت كالنبات
إذا سقيت بماء المكرمات
ومن أهم المقالات التي نشرتها في افتتاحية العدد (6) الصادر في 15 أيار 1924 تلك (المقالة- الصرخة) الموجهة إلى المجلس التأسيسي العراقي (البرلمان)، وتدعو فيها إلى منح المرأة حقوقها المشروعة.
وفي عددها الأخير الصادر في 15 آب 1925 شرحت لقرائها، عبر مقالة حزينة، الظروف المادية الصعبة التي كانت تواجهها المجلة آنذاك، وللأسف، فقد اضطرت صاحبة امتياز المجلة السيدة بولينا حسون إلى مغادرة العراق وعندئذ توقفت المجلة عن الصدور. وقد يكون من المناسب أن نشير إلى أن العراق لم يشهد صدور مجلة نسائية إلا بعد أكثر من عشر سنين حين صدرت مجلة (المرأة الحديثة) لرئيس تحريرها فاضل قاسم راجي وكانت سكينة إبراهيم المحررة الرئيسة فيها.
كما تعدّ بولينا حسون من قبل مؤرخي الصحافة العراقية، من رائدات الصحافة النسائية في العراق، وقد جاء في كتاب (أعلام الصحافة في الوطن العربي)، وفي المبحث الخاص الذي كتبه عن صحافة العراق الأساتذة د. قيس عبد الحسين الياسري، د. خالد حبيب الراوي، د. هاشم حمادي، وسجاد غازي، إن بولينا حسون، عملت في الصحافة في ظروف بالغة الصعوبة، وقت احتدام الصراع بين دعاة السفور ودعاة الحجاب، وكان المحافظون هم الأغلبية في المجتمع، والمجددون الأقلية.
أما تاريخ ميلاد بولينا حسون فلا يعرف بالضبط، لكنها كانت في مقتبل حياتها تعيش في مصر وفلسطين والأردن قبل عودتها إلى بلدها العراق. وكان خالها هو الشيخ إبراهيم الحوراني، وابن عمها سليم حسون صاحب جريدة "العالم العربي"، وهو صحفي عراقي بارز من الموصل، وعلى هذا الأساس فان بولينا حسون موصلية عراقية من جهة الأب، وشامية من جهة الأم. وثمة مصادر تقول إن بولينا حسون ولدت سنة 1865 وتوفيت سنة 1969.
كانت بولينا من العضوات المؤسسات لنادي النهضة النسائية الذي افتتح في 24 تشرين الثاني 1923 برئاسة السيدة أسماء الزهاوي ابنة مفتي العراق الشيخ أمجد الزهاوي. وأخذت تجهر بآرائها حول تحرير المرأة ومساواتها بأخيها الرجل ومشاركته في بناء العراق ونهضته بعد تشكيل الدولة 1921.
ومن المواضيع التي طرقتها (ليلى) نقتبس الأفكار والتوجهات التالية: -
أولا. نهاية عهد مظلم وبداية آخر مشرق، حيث قالت: -
"لقد ولى الوقت الذي كانت فيه المرأة تماما وكأنها العوبة أو حيوان أليف ويتحكم فيها الرجل باعتباره السيد المطلق الذي له الحق في أن يفعل ما يشاء بامرأته وأطفاله ... وقد بلي الزمن الذي كانت فيه المرأة تحسب إنها خلقت (متعة) أو (ولاَدة) ليس إلا. وكان الرجل يعتبر فيه السيد المطلق يصنع بامرأته وأولاده ما يهوى".
ثانياً. التنبيه إلى مكانة المرأة ودورها في المجتمع، حيث قالت: -
(المرأة اليوم في البلاد الناهضة تعاون الرجل في أموره وضمنت له التوفيق والنجاح- والرجل يركن إلى امرأة ويستشيرها ويعتمد على رأيها وتدبيرها في عظائم الأمور).
ثالثاً. دعت ليلى، فيما دعت اليه الرجل، إلى التعاون في نطاق الأسرة وأبدت أسفها (بالخسارة التي تتكبدها بلادنا بحرمان المرأة من التهذيب الحقيقي ...).
رابعاً. المطالبة بحقوق المرأة السياسية، حيث قالت: -
(وكانت أول صيحة فيما نعلم - بهذا الشأن – هي تلك أطلقتها الصحفية بولينا حسون عند اجتماع أول مجلس تأسيسي عراقي، فقالت في مقالة نشرتها في العدد 15 آذار 1924 من مجلة (ليلى) ... بعد أن أشارت إلى ما تتخبط به المرأة من الجهل والجمود والخمول (أن نجاح النهضة النسوية الناشئة منوط بغيرتكم وشهامتكم أيها الرجال الكرام ولاسيما وأنتم الذين تحملتم أعباء مسؤولية تأسيس الحياة الديمقراطية العراقية على قواعد عصرية راسخة والحياة وأنتم تعلمون إنها ليست حق الرجل فقط).
مديرة مدرسة
بعد انتهاء السنة الثانية من عمر مجلة « ليلى «،عينت بولينا حسون مديرة لمدرسة باب الشيخ الابتدائية في بغداد عام 1925 ،وكان ذلك بداية لحملة شعواء تعرضت لها تلك الصحفية الرائدة من قبل بعض الصحف العراقية وانتقلت إلى المحاكم ، والتي أدت في نهاية الأمر ، إلى نقلها معلمة في مدرسة أخرى ومن ثم إلى تركها العمل.
تعرضت بولينا إلى ضغوطات وحملات صحفية قاسية أجبرتها على حزم أمتعتها ومغادرة العراق في كانون الأول 1925 متوجهة إلى الأردن، مكتفية بعامين من الريادة في مجتمع ساد فيه الجهل والتجهيل، لتترك وراءها ذكرى امرأة عراقية ناضلت ببسالة.
ويرجع توقف المجلة إلى أسباب عديدة استخلصناها من مراجع ومصادر عيدة مختلفة، وهي: -
1)   الخسارة المالية، حيث تكاليف الورق والطبع والتوزيع وغير ذلك كانت مرتفعة، إضافة إلى أن اغلب قراء المجلة كانوا يتباطؤون في تسديد اشتراكهم فيها.
2)   ضعف إمكانات المجلة الطباعية قياسا للمنافسة الشديدة من قبل الصحف اليومية ذات الإمكانات الضخمة.
3)   إقتصار المجلة على طبقة محدودة وهي طبقة النساء وذلك لكونها مجلة متخصصة.
4)   عوامل شخصية واجتماعية تتعلق بطبيعة المجتمع العراقي حيث جوبهت صاحبة المجلة بحملات شخصية انتقلت معها إلى المحاكم ودفعتها ظروفها إلى التخلي عن احتراف الصحافة.
لقد (كانت بحق أول مجلة نسوية عصرية. وقد استطاعت خلال السنوات القليلة التي ظهرت فيها أن تكون لسانا لدعوة أو ترجمانا لفترة، وقلما صادقا معبراً عن مطالب المرأة مع مراعاة الظروف الاجتماعية الغالبة يومذاك).
ومن المؤسف حقا ان تلاقي أول مجلة نسائية صدرت في العراق هذا المصير المؤلم، وأن تغتال بكورة الصحافة عندنا. ومن المخزي بحق الرجال أن يكون ذلك موقفهم منها.

•   أول رئيسة تحرير عراقية
يمكن القول إن بولينا حسون المدير المسؤول لمجلة ليلى هي أول رئيسة تحرير عراقية لمطبوع عراقي، وعلى الرغم من أن المس بيل قد مارست مهام رئيس تحرير مجلة العرب عام 1921، إلا إنها كانت طارئة على الصحافة في العراق ولم تكتب شيئا بقلمها، بالإضافة إلى إنها ليست عراقية.
ونتيجة البحث المضني والتدقيق المستمر استطعنا إحصاء النساء اللواتي تولين مهام رئاسة تحرير مطبوع صحفي في العراق أو صاحبة امتيازه، ومما يفاجأ القارئ هذا العدد من النساء الذين تولين رئاسة مطبوع في العراق، وهو بلا شك عدد لابأس به ويبعث على الفخر لجميع العراقيين وخاصة من النساء، وكما يلي: -
1.   المس بيل (بريطانية) – مجلة العرب 1917- 1920.
2.   بولينا حسون – مجلة ليلى 1923-1925.
3.   حمدية الأعرجي – مجلة المرأة الحديثة 1936.
4.   حسيبة راجي – مجلة فتاة العراق 1936.
5.   مريم نرمة – صحيفة فتاة العرب 1937.
6.   نوال الوائلي – مجلة گلاويز (السهيل) 1939-1949.
7.   فاطمة حسين – جريدة آخر ساعة 1941- 1946.
8.   المسز لوريمر – صحيفة الأوقات البصرية-البصرة تايمز 1943.
9.   المسز ماركو مكفرسن (بريطانية) – مجلة فتاة الرافدين 1943- 1946.
10.   سلمى خالد – مجلة الجيل الجديد 1945.
11.   الدكتورة نزيهة الدليمي – مجلة تحرير المرأة 1946، ومجلة المرأة 1958-1963.
12.    بيتي عجو – مجلة الصيدلي 1946.
13.    أقدس عبد الحميد – مجلة الرحاب 1946- 1954.
14.    الدكتورة لمعان أمين زكي – مجلة الأم والطفل 1946، ومجلة طب الأطفال 1970.
15.    درة عبد الوهاب – مجلة بنت الرشيد 1947-1948.
16.    رحمة الحاج توفيق – جريدة ژين (الحياة) 1954- 1963.
17.    آسيا توفيق وهبي – مجلة الاتحاد النسائي العراقي 1958- 1960.
18.    سهيلة منذر فتاح – مجلة الاتحاد النسائي العراقي 1958- 1960.
19.    نعيمة الوكيل – مجلة 14 تموز 1958- 1963.
20.    نزيهة الدليمي – مجلة ئافره ت (المرأة) 1958-1962.
21.    سلمى الشيخ محمود النائب – مجلة جنة الأطفال 1962.
22.    بشرى كنفاني – مجلة رسالة المرأة 1963.
23.    رابحة الجميلي – مجلة المرأة 1968 ومجلة الظريف 1968.
24.    رمزية الخيرو – مجلة المرأة 1969.
25.    نوار حلمي – مجلة المرأة 1970.
26.    وداد أنور العلمدار- مجلة الثقافة الرياضية 1970.
27.    منال يونس الألوسي – مجلة المرأة 1970-2003.
28.    بديعة أمين سرحان – مجلة المثقف العربي 1973- 1976.
29.    عالية ممدوح – جريدة الراصد 1980-1988.
30.    منال يونس الألوسي – The Iraqi women 1982.
31.    منال يونس الألوسي – نشرة نساء العرب 1983- 1986.
32.    منال يونس الألوسي – مجلة المرأة العربية 1984.
33.    نرمين عثمان حسن – مجلة نرجس 2004- حتى الآن.
34.    هانا شوان – صحيفة ريوان (دليل القافلة) 2001- حتى الآن.
35.    منور ملا حسون – صحيفة لآلي كركوك 2003- 2005.
36.    نرمين المفتي – جريدة القلعة 2005- حتى الآن.
37.    د. كوردستان موكرياني – مجلة شاووشكا 2004- حتى الآن.
38.    منور ملا حسون – مجلة يلدز 2008- حتى الآن.
39.    مادلين وايت (بريطانية) – مجلة نينا 2014- حتى الآن.
40.    بريجيت سينز (هولندية) – مجلة ﮊن (المرأة) 2015- حتى الآن.

•   أوائل الصحفيات العراقيات
العراق بلد متعدد القوميات، والى جانب الأكثرية العربية فهناك قوميات أخرى لها صحافتها الخاصة والتي بدأت متواضعة إلا إنها تطورت شيئاً فشيئاً. ويقتضي بالباحث المؤرخ أن يقف عندها ويقتفي بداياتها استكمالا للبحث من جميع جوانبه. وهذه القوميات والأقليات كالقومية الكوردية والأقلية السريانية التي ينضوي تحت لواءها اغلب الطوائف المسيحية في العراق كالكلدان والأشوريين والسريان، والأقلية التركمانية وقبلهما الأقلية اليهودية، التي رغم سبقها في تاريخ الصحافة والطباعة في العراق، إلا أن من المستغرب أن لا توجد أي صحفية يهودية عراقية.
وتختلف هذه القوميات والأقليات في احتفالها بعيد الصحافة، وعلى الشكل التالي: -
-   عيد الصحافة الكردية في 22 نيسان 1898، ذكرى صدور جريدة كردستان في القاهرة بمصر.
-   عيدالصحافة السريانية في 1 تشرين الثاني 1849، ذكرى صدور صحيفة زهريرا دبهرا (شعاع النور) في أورميا بايران.
-   عيد الصحافة التركمانية في 25 شباط 1911، ذكرى صدور جريدة الحوادث في كركوك – العراق.
وقد كان للمرأة في تلك القوميات جهود حثيثة للعمل الصحفي وتطوير الصحافة فيها. وهذا ما سنحاول بحثه بشيء من التفصيل.

أولا. الصحافة النسوية الكردية
«إن للصحافة الكردية، تاريخ هام ومكمل لتاريخ الصحافة في العراق، وسجل حافل، فاعل، تفاعل بموضوعية وجرأة وصدقية مع مجمل الأحداث التي مرت بالعراق الحديث، ولعب صحافيوها الرواد دورا بارزا في تعميق أواصر الأخوة العربية الكردية، وعبرت بشفافية عن تطلعات شعب العراق عموما، والشعب الكردي على وجه الخصوص».
ويقسم مؤرخ الصحافة في العراق د. فائق بطي في كتابه موسوعة الصحافة الكردية تاريخها وتطورها إلى عدة مراحل ابتداء من مرحلة الولادة في القاهرة عام 1898 بصدور أول جريدة كردية بعنوان (كردستان)، والمرحلة الثانية «التي كان طابعها صحافة رأي حاولت إلى جانب الاحتفاظ بالهوية القومية، نشر الدعاية لشعارات وطنية فرضتها وقائع الكفاح المشترك للشعبين العربي والكردي في العراق ضد الاستعمار البريطاني والأنظمة الإقطاعية والرجعية المتعاقبة على حكم العراق، حتى مطلع الخمسينات، ونجحت في إلهاب مشاعر الشعب الكردي وباتت تعرف بكونها صحافة داعية لمبادئ وحقوق هذا الشعب».
ويشير الباحث إلى نشوء صحافة الجبل خلال فترة الستينات ثم إبان فترة الكفاح المسلح 1977 – 1991 «والتي كانت تلعب دور المنظم بين قوى الثورة المسلحة والمواطنين في قرى ومدن كردستان من جهة، ومواقع وفصائل البيشمركة وقياداتها الموزعة في الجبال وفي خارج العراق من جهة أخرى».
ويذكر بطي أن «الصحافة الكردية عاشت عصرها الذهبي بعد انتفاضة آذار 1991، فقد صدرت خلال السنة الأولى بعد الانتفاضة، ما يقرب من 22 جريدة ومجلة، وبحسب إحصائية صدرت عن نقابة الصحافيين تشير إلى أنه خلال الفترة من 1992 إلى 2010 صدرت 400 جريدة ومجلة في كردستان جرى قيد اعتمادها في نقابة صحافيي كردستان. ولم تشهد الصحافة العراقية عموما خلال عشرات السنين منذ ولادتها، هذا الكم الهائل من مطبوعات منوعة (صحف ومجلات ونشرات) التي صدرت في كردستان العراق، قياسا إلى 15 محافظة أخرى في العراق.
ويذكر بطي عددا كبيرا من الصحف النسوية والطلابية والعمالية والفلاحية وغيرها من التي كانت تصدرها المنظمات الحكومية ومؤسساتها. ففي الفصل الرابع يتحدث عن صحافة الأحزاب السياسية في كردستان يبدأها بصحافة الحزب الديمقراطي الكردستاني ثم الحزب الشيوعي العراقي ثم الاتحاد الوطني الكردستاني، ويعدد صحف بقية الأحزاب والمنظمات السياسية الكردية التي بدأت منذ أربعينات القرن الماضي إلى التاريخ الحديث للصحافة الكردية بظهور صحف يومية في إقليم كردستان.
إلا أن الصحافة الكردية تتميز بجملة مميزات جعلها تفترق عن بقية الصحافة في العراق، واهم هذه المميزات: -
(1)    صحافة منفى، فأول صحيفة كردية (كردستان) قد ولدت في القاهرة وانتقلت إلى لندن ثم جنيف، وذلك لعدم توفر البيئة الملائمة لظهورها على ارض الوطن. وإذا كان هذا هو حال صحافة الرجال (مجازا)، فكيف هو الحال مع صحافة المرأة التي تعاني من سلطتي الحكومة والمجتمع. وحتى هذه اللحظة لم تستطع الصحافة النسوية أن تجد لها موطئ قدم ثابت على أرضها وبين مجتمعها.
(2)    صحافة مقاومة، فالكورد شعب يسعى للاستقلال وبناء دولته منذ سقوط الدولة العثمانية عام 1917، وهذا ما طبع صحافتهم العامة والنسوية بطابع مقاومة البيئة الدولية.
(3)    صحافة مؤسسات، وذلك لعدم قدرتها على الوقوف لوحدها، فقد جرى إخضاعها إما للحكومات الوطنية أو للأحزاب الكردية فغدت أسيرة توجهات تلك المؤسسات.
(4)    إنها سلطة رابعة مع وقف التنفيذ، لقد حاولت الصحافة الكردية لأكثر من قرن من تاريخها أن تقترب من هموم الناس وتطلعاتهم ورغم كل ما حققته في هذا المجال إلا إنها اصطدمت بخطوط مجتمعية حمراء صعب تجاوزها. وهذا ناتج عن خلط السلطة الكردية بين مفهومي الصحافة الحرة وحرية الصحافة فحدث نوع من الإرباك، فالسلطة الكردية تريد صحافة أليفة ومطيعة لها، وهي مثل بقية السلطات التقليدية في بلدان المشرق تخاف من الحرية بصورة عامة ومن حرية الصحافة بشكل خاص.
(5)    صعوبات فنية، فالعراقيل كثيرة أمامها مثل مشكلة التمويل وعدم توفر الموارد المالية، وفتح مقار صحفية نسائية، وضعف إمكانات الكتابة الصحفية المتخصصة وعدم توفر الكادر الصحفي المتخصص، وعدم توفر مطابع متلائمة مع متطلبات صحافة المرأة، وما إلى ذلك.
وقد قسم مؤرخ الصحافة العراقية فائق بطي في كتابه الموسوعة الصحفية الكردية في العراق، تاريخ الصحافة الكردية إلى أربعة مراحل هي: -
-   مرحلة الولادة والتي توجت بصدور أول جريدة كردية هي كوردستان في القاهرة عام 1898.
-   مرحلة الرأي حيث حاولت الاحتفاظ بهويتها القومية وطابع الكفاح المشترك بين الشعبين العربي والكردي في العراق ضد الاستعمار البريطاني. واستمرت إلى مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
-   مرحلة صحافة الجبل خلال فترة الستينات ثم إبان الكفاح المسلح ضد الحكومات العراقية المتعاقبة 1977- 1991، وقد عانت من الشحة المالية والكوادر الفنية ومستلزمات الطباعة الحديثة، فكانت صحافة هزيلة ومختصرة وتقتصر على أخبار الكفاح المسلح.
-   مرحلة الملاذ الآمن منذ 1992- 2003 حيث انتعشت الصحافة الكردية وعاشت عصرها الذهبي، فأصدرت خلال السنة الأولى من الانتفاضة الشعبية ما يقرب من 22 جريدة ومجلة.
-   مرحلة العراق الأمريكي منذ 2003- يومنا هذا، حيث شهدت الصحافة الكردية تضخما كبيرا حيث صدرت 400 جريدة ومجلة في كردستان العراق فقط. حيث أن في كردستان اليوم أكثر من 30 فضائية ونحو 780 صحيفة ومجلة منها خمس صحف يومية، وان عدد أعضاء نقابة صحفيي كوردستان يبلغ نحو 5000 صحفي، ولكن مازال الأمر يحتاج أولا إلى "تكريس الصحافة كمهنة" ووضع لوضع شروط ومعايير صارمة لممارسة الصحافة، فالإعلام الكردي يوصف بانه إعلام "جامح". حسب وصف نقيب صحفيي كوردستان.
وما جرى على الصحافة الكردية بشكل عام فقد كان له انعكاسات أكبر على الصحافة النسوية الكردية في العراق التي عانت من عدم وجود صحافة نسوية كردية متخصصة- إلا مؤخراً- أولا، واستمرار القيود والمعوقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الدينية بما قيد تلك الصحافة من الانطلاق والتحرر ثانياً. وعلى الرغم من الأعداد الكبيرة للصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية فما زالت حصة المرأة فيها ضئيلا.
وكانت سلطات الاحتلال البريطاني قد أصدرت أول جريدة باللغة الكردية في العراق في الأول من كانون الأول 1918 اسمها تيكه شتني راستي (فهم الحقيقة) في بغداد.
إن تأريخ (الصحافة العراقية الكردية) هو تاريخ للنشاط الثقافي للعراقيين الكورد خلال هذه المرحلة والذي تمثل في مجالات كثيرة منها مجال الصحافة، إذ صدرت في مدينة السليمانية جريدة علمية اجتماعية أدبية أسبوعية بأسم (بانك كردستان) أي نداء كردستان باللغات الكردية والتركية والفارسية وقد برز عددها الأول في 2 آب 1922 وكان صاحب امتيازها ومديرها المسؤول مصطفى باشا ياملكي الذي حاول جعلها إدارة فعالة لنشر الوعي الثقافي بين العراقيين الكورد. كما صدرت في السليمانية جريدة بأسم (روژي كوردستان) أي شمس كوردستان وقد صدر عددها الاول في 15 تشرين الثاني 1922. وفي أربيل صدر العدد الأول من مجلة (زاري كرمانجي) يوم 25 مايس سنة 1926 وهي "مجلة اجتماعية أدبية تاريخية فنية شهرية " صاحبها ورئيس تحريرها الصحفي العراقي الكردي حسين حزني موكرياني وقد قامت المجلة بدور بارز في نشر الوعي الوطني والثقافة الكردية وأسهم في تحرير المجلة عدد من الكتاب، فضلا عن موكرياني وشقيقه كيو، كل من عبدالخالق ئه سيري ,ومامن الكركوكي والشيخ نوري الشيخ صالح وعبدالرحمن نوري خان وعبدالخالق قطب وفائق بيكه سي وقد صدر منها خلال ست سنوات (24) عددا فقط.  وفي أيار 1954 صدر في أربيل العدد الأول من مجلة (هه تاو) أي الشمس وكانت مجلة أدبية اجتماعية تاريخية ثقافية تصدر ثلاث مرات في الشهر باللغة الكوردية وصاحب امتيازها ومدير تحريرها كيو موكرياني.
وبالرجوع إلى بدايات الصحافة الكردية في العراق، يطالعنا أول اسم في عالم الصحافة في كردستان العراق اسم السيدة استير سعيد حيث تعود بدايات مشاركتها الصحفية إلى عام 1950 ضمن هيئة تحرير صحيفة (هه ولير) -أي أربيل- الصادرة عن نقابة المعلمين في أربيل منذ 16 كانون الثاني 1950. ولاحقا نجد إن رحمة الحاج توفيق - أو (رحمة خانم) كما تعرف لدى معظم المثقفين الأكراد – هي ثاني إمرأة كردية تدخل عالم الصحافة في العراق عندما أصبحت صاحبة امتياز (ﮊين) -أي الحياة- وهي أول جريدة كردية ابتداءً من 19 كانون الأول 1954 وحتى قيام ثورة 8 شباط 1963، بعد وفاة والدها الكاتب والشاعر الكردي المعروف توفيق بيره مرد الذي أسس هذه الجريدة وسبقها في هذا المنصب، الذي انتقل اليها يوم كان امتياز الصحيفة أو المجلة يعد حقا شخصيا قابلا للتملك والانتقال بالوراثة وتسري عليه سائر التصرفات القانونية على المال المنقول، فكانت هذه الصحيفة أهم ما ورثته عن والدها. وقد ذكرت لي الدكتورة كردستان موكرياني في لقاء صيف عام 1986 في دار النشر والثقافة الكردية ببغداد، ان رحمة خانم لم تكن تعرف القراءة والكتابة. وربما كان وجود رحمة دافعا لبنات جنسها الكرديات قاد إلى مساهمة عدد من الأقلام النسوية منها أديبة علي وبريخان وشفيقة علي وصبرية محمد وحسيبة محمد.
وفي وقت مقارب تدخل عالم الصحافة معاصرتها الدكتورة نسرين محمد فخري بمساهمات صحفية متواضعة عام 1958 بالغة العربية حيث نشرت قصيدة بعنوان (ترنيمة الطفل) عام 1958 كما ذكرت لي إلا اني لم استطع الاهتداء اليها، ثم توالت مساهماتها باللغة الكردية، وقد التقيتها في قسم اللغة الكردية في كلية الآداب – جامعة بغداد ربيع عام 1986حيث عملت في التدريس لسنوات عديدة، وظلت تعتبر نفسها أول كردية دخلت عالم الصحافة في العراق.
أما فيما يخص الصحفيات الكرديات فإننا نكاد لا نجد صحفية كردية متخصصة إلا ما ندر لتأخر استحداث قسم الصحافة والإعلام في كردستان. ويذكر إن حكومة إقليم كردستان أصدرت عام 2008 القانون رقم 35 الخاص بحرية الصحافة وثلاثة قوانين أخرى لتنظيم الصحافة وهي قانون المطبوعات، وقانون نقابة الصحفيين، وقانون تقاعد الصحفيين.
وكانت أول مجلة نسائية باللغة الكردية قد صدرت عام 1959 بأسم ئافرت (المرأة) والتي أصدرتها رابطة المرأة العراقية وتولت رئاسة تحريرها نزيهة الدليمي رئيسة الرابطة آنذاك، وهي امرأة عربية غير كردية. وكانت هذه المجلة أقرب إلى ملحق مرادف باللغة الكردية لمجلة المرأة التي كانت تصدرها الرابطة المذكورة، إلا إنها لم تستمر طويلا حيث توقفت عام 1962، ومجموع ما صدر منها (15) عددا فقط. وللأسف فقد تجاهل معظم مؤرخي الصحافة الكردية في العراق ذكر هذه المجلة. ومنذ عام 2004 تصدر مجلة شاووشكا (أسم الهة كوردستانية قديمة)، وهي مجلة فصلية نسوية متخصصة، تصدر في أربيل.
ثم تلاهما جيل جديد من الكاتبات اللواتي عملن في الصحافة، وقد حاولنا هنا وضع قائمة بالكورديات اللواتي عملن في الصحافة، وإذا نسينا إحداهن فعذرنا عدم توفر المصادر لتوثيق ذلك. وهن: -
1.   أستير سعيد، صحيفة هه ولير 1950.
2.   رحمة الحاج توفيق، صحيفة ﮊين 1954-1963.
3.   د. نسرين محمد فخري، مجلات مختلفة 1950- 1980.
4.    ناهدة الشيخ سلام.
5.    باكيزة رفيق حلمي.
6.    نجاة رفيق حلمي، مجلة روشنبيرى نوى 1985.
7.   ناهدة رفيق حلمي، مجلة روشنبيرى نوى 1985.
8.    لطيفة القزاز.
9.    أديبة علي.
10.    بريخان علي.
11.    شفيقة علي.
12.    صبرية محمد.
13.    حسيبة محمد.
14.    خنجة عبد الرحمن عبد اللطيف موكرياني، مجلة هه تاو 1960.
15.    د. كردستان عبد الرحمن عبد اللطيف موكرياني، مجلة هه تاو 1960، ومجلة روشنبيرى نوى 1980، ومجلة شاووشكا 2004.
16.    أحلام منصور، مجلة هاوكارى 1979.
17.    سه ركول تيمور محمد أمين، مجلة هاوكارى 1973.
18.   زينب حسين مرزة، مجلة هاوكارى 1982.
19.    باكيزة محمد صدقي، مجلة هاوكارى 1974.
20.    بشارت فاتح محمد، مجلة هاوكارى 1974
21.    هانا شوان، مجلة ريوان 2001.
22.    هيفاء دوسكي.
وبعد قيام دار الثقافة والنشر الكردية عام 1970 وصدور مجلة (هاوكارى) –أي التضامن- فقد التف حول المجلة عدد من الأدباء الكورد ومنهم الأسماء الستة من التسلسل 14-19 في أعلاه. إلا أن الملاحظ في كل هؤلاء الكاتبات هو عدم تخصصهن في مجال الصحافة، وإنما دخلن تحدوهن الرغبة في الكتابة والعمل الصحفي بلغتهن وتساعدهن في ذلك موهبتهن الشخصية إلا إننا نكاد لا نجد بينهن صحفية متخصصة أو خريجة قسم الصحافة في كلية الآداب الذي أسس منذ عام 1964، وخاصة بعد استحداث هكذا قسم في كلية الآداب – جامعة بغداد ثم تحولها إلى كلية الإعلام في ذات الجامعة منذ عام 2002، لتغدو الصحافة علما يجمع بين الرغبة والتخصص.
بعد عام 1991 وفرض منطقة الحظر الجوي شمال العراق وإقامة الملاذ الآمن هناك، فقد شهد عالم الصحافة الكردية انطلاقة كبيرة لم تعهد من قبل. واليوم تضم نقابة صحفيي كوردستان العراق التي أسست عام 1998 عددا من الصحفيات اللواتي مارسن العمل الصحفي بكل جرأة وإقدام، إلا إن كل ذلك مازال دون مستوى الطموح وأسيرة توجهات الأحزاب الكردية.
لقراءة الموضوع كاملا انقر على الرابط التالي
http://uploads.ankawa.com/up

23
حكم الشيعة في لعراق
(البزوغ والإفول)

د. رياض السندي
       

سوأل ظل يتردد في أذهان الجميع، وهو لماذا إختارت الولايات المتحدة الشيعة لحكم العراق عام 2003؟ بعد أن رفضت مساعدتهم قبل 12 عاماً، وتهاونت مع صدام على قمعهم في إنتفاضهتم التي سمّاها النظام أنذاك بصفحة الغدر والخيانة، ووصفتهم بإلغوغاء، فيما سمّاها النظام الحالي بالانتفاضة الشعبانية؟ ولماذا فضلتهم على غيرهم من مكونات الشعب العراقي الاخرى، والسُنة تحديداً؟
إن الإجابة على هذا السوأل تقتضي البحث بإختصار في الجذور التاريخية للأزمة. كما تجدر الاشارة الى إن ذلك لا يشكل مساساً بأي مكون إجتماعي، أو مذهب ديني، بقدر ما يشّخص السلبيات في كل جانب من أجل تلافيها. فالسُنة والشيعة مكونان أصيلان من مكونات الشعب العراقي، إلا إن إستخدام إسم أي مكون لاغراض سياسية خاصة، أو في أي مشروع سياسي يربط الدين بالسياسة، دون إلاكتراث لحجم الإساءة التي يلحقها بهذا المكون أو ذاك، هو الذي يطبع هذه المرحلة التاريخية من حكم العراق بإسم الشيعة طيلة 14 عاماً الماضية.
-   الجذور التاريخية
ومن الناحية التاريخية، فإن هناك صراعاً خفياً بين هذين المكونين يستند لأسس مذهبية راسخة، ومصلحية  دفينة. وهي بهذا الوصف أشبه بنار تحت الرماد، تخبو تارة وتثور أخرى. "وحتى لا يبدو وكأننا نُحَمِّل المسؤولية للدين بما هو كذلك، فلنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، بل هي الثابتة الأكثر استمرارية فيه، وإن خمدت جذورها أو اتقدت تبعاً لتقلب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة". كما إن الغلبة كانت للسُنة الذين إنتزعوا الحكم الاسلامي بعد وفاة الرسول مباشرة في الاجتماع المعروف بسقيفة بني ساعدة يوم 13 ذي الحجة لسنة 11ه (632.6.8 للميلاد)، أي قبل 1426 سنة تماما.
فمن المعروف تاريخياً ، أن الانشطار السني – الشيعي بدأ سياسياً خالصاً رغم شكله الديني، حيث اتخذ أسلوب العنف في حروب الخلافة التي تتالت فصولها في موقعتين رئيسيتين: الأولى موقعة الجمل، في عام ستة وثلاثين للهجرة (656 ميلادية) بين علي بن أبي طالب، وبين عائشة ، الثانية، موقعة صفين، بين علي ومعاوية عام 37 هجرية/657 ميلادية، "وفي هاتين الواقعتين، الجمل، وصفين ، خَلَّفّ الاقتتال عشرة آلاف قتيل في أولاهما، وسبعين ألف قتيل في ثانيتهما، وقد أعقبت هاتين الواقعتين ، بعد خمس وعشرين سنة، مجزرة أقل حجماً بكثير، ولكن ذات بعد مأساوي اكبر بكثير أيضاً، تمثلت في موقعة كربلاء التي تمخضت في عام واحد وستين للهجرة (680 ميلادية) عن مقتل الحسين بن علي، وعدا بشاعة المقتلة بحد ذاتها، فقد أخذت مأساة كربلاء بعداً تأسيسياً لما لن يتردد بعض الدارسين في تسميته بـ"الديانة" الشيعية، بالنظر إلى ما تَوَلَّدَ عنها من شعور بالذنب وحاجة إلى التكفير لدى أهل الكوفة –وذريتهم من بعدهم- " .
ومنذ ذلك اليوم, ظّل الحكم بيد السُنة، على الرغم من إنتقاله لاقوام أخرى متعددة ومختلفة من غير العرب، عبرَ نظام سياسي يستند على الشريعة الاسلامية يدعى بالخلافة، الذي استمر منذ انتخاب ابو بكر الصديق، أول خليفة للرسول محمد، حتى تاريخ إلغاءها في 20 ربيع الأول 1342هـ الموافق 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1923، إلا إن الإعلان عن إلغاءها رسمياً جرى على يد أتاتورك في 27 رجب 1342هـ الموافق 3 آذار/ مارس 1924م، بعد أن إستمرت طيلة 1292 سنة متصلة. وبإستثناء حكم العباسيين، حيث تأسست الدولة العباسية على يد المتحدرين من سلالة أصغر أعمام نبي الإسلام محمد بن عبد الله، ألا وهو العباس بن عبد المطلب، وقد اعتمد العباسيون في تأسيس دولتهم على الفرس الناقمين على الأمويين لاستبعادهم إياهم من مناصب الدولة والمراكز الكبرى، واحتفاظ العرب بها، كذلك استمال العباسيون الشيعة للمساعدة على زعزعة كيان الدولة الأموية. نقل العباسيون عاصمة الدولة، بعد نجاح ثورتهم، من دمشق ، إلى الكوفة، ثم الأنبار قبل أن يقوموا بتشييد مدينة بغداد لتكون عاصمة لهم، فإن الشيعة لم يستلموا حكم الدولة الاسلامية أبداً.
وفي عام 1921 أعلن فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، وعلى الرغم من إن الشريف حسين يعتز بنسبه لآل البيت، إلا إن صراع السقيفة كان منسياً، وإستطاع فيصل أن يكسب شيعة العراق من خلال جولاته المختلفة وكان يُقسم بجده الحسين (ع) في العديد من خطبه، كما إن والده كان قد تحفظ حول تنصيبه على العراق بقوله: إن أهل العراق سيقتلونه، كما قتلوا جده الحسين. وقد لعب البريطانيون على هذا الوتر المذهبي الحساس، بالاضافة الى الوتر القومي العربي، عند إستمالة الحسين شريف مكة لإعلان التمرد على الخلافة العثمانية. إلا إن البريطانيين سلموا السلطة الى السُنة ممثلة بالنقيب عبد الرحمن الكيلاني-نقيب أشراف بغداد الذي اخْتِيرَ كَأَوَّلِ رَئِيسِ وُزَرَاءٍ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي 1920 م، وهو شيخ كبير يبلغ من العمر  أنذاك 79 عاماً، وتوفي بعد ذلك بسنتين في 1922. وظّل فيصل ومن بعده غاي وفيصل الثاني يسعون لخلق وإنماء روح المواطنة لدى العراقيين جميعا.
إلا إن نار الصراع المذهبي ظلت قائمة، حتى سقوط الحكم الملكي, إقامة الجمهورية في العراق صبيحة 14 من تموز 1958، وإعلان الزعيم عبد الكريم قاسم رئيساً للوزراء. وعلى الرغم من إن قاسم هو عراقي من المذهب الشيعي في العراق، إلا إنه لم يثبت عليه، طيلة فترة حكمه، ممارسته للطائفية المذهبية.
وبعد أن إنتزع رفيق دربه ومنافسه عبد السلام عارف السلطة منه في 8 شباط 1964، والتي يشير لها أتباع عارف بالتاريخ الهجري بثورة 14 رمضان، حيث عادت من جديد النغمة الدينية-والقومية الى إسلوب الحكم، حتى ثورة 14 تموز 1968 بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي أنشأه المفكر السوري المسيحي ميشيل عفلق، فكان حزباً قومياً علمانياً أكثر منه دينياً.

-   حكم الشيعة في العراق
في 9 نيسان عام 2003، سقط حكم حزب البعث إثر الغزو الاميركي للعراق،  وخلال سنة من حكم الحاكم المدني بريمر، تقاطر الى العراق كل الذين إدعوا إنهم كانوا معارضين لصدام حسين، والذي عاشوا ظروفاً قاسية في مختلف الدول أهمها إيران وسوريا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا، فشكلوا خليطا غير متجانس من المرضى النفسيين لإدارة العراق. ومنحت الادارة الاميركية في عهد بوش الابن، الضوء الاخضر لإيران لتنتقم من نظام صدام حسين والشعب العراقي عموماً، فوجدت في الطائفية الشيعية أفضل داء لتدمير العراق. وكما يفعل جميع المسلمين والعرب في إقتناص الفرصة حتى لو كانت مبنية على خطأ، دون التفكير في العواقب. وهكذا نجد حتى مثقفي الشيعة وليبرالييها يتوجهون الى إيران منذ عودتهم للعراق، وفي مقدمتهم عراب الاحتلال أحمد الجلبي، الذي أثيرت الشبهات حول وفاته مسموما، دون أن يحظى بأية منصب حكومي مكافأة لخدماته. ولحق الشيعة أخرون مثل الاكراد، وخاصة أولئك الذين أقاموا فيها فترة من الزمن، فساعدوا على ترسيخ حكم الشيعة، وتبعهم إنتهازيي السُنة أيضا بعد سنة واحدة، في إنتخابات 2005، ولا نغالي إذا قلنا أن هناك حتى من المسيحيين من الذين اصبحوا موالين لايران. وقد تأخر التأثير السعودي لعشر سنوات، وبدا ضعيفاً، أما التأثير التركي فقد كان محدوداً بتركمان العراق. 
ولكن يمكن القول اجمالاً إن الحكم كان في أساسه شيعياً، حيث إن الأحزاب الحاكمة طبعته بالطابع المذهبي الشيعي. وسنرى لاحقاً، أن الشيعة في العراق، كانوا أكثر المتضررين منه، وتحولوا الى معارضين له بشدة.

-   أسباب إختيار الشيعة
وبعد 14 عاماً من حكم الشيعة في العراق، يظّل السوأل قائماً وهو، لماذا إختارت الولايات المتحدة، الشيعة لحكم العراق عام 2003 وحتى الان؟
إن ذلك يرجع لاسباب عديدة، بعضها تاريخي أو سياسي أو مادي، بالاضافة الى أسباب أخرى، نفسية راسخة في تكوين كل طائفة مذهبية، وأخرى إجتماعية. إلا أنها بالنسبة للولايات المتحدة فإنها ليست أكثر إستراتيجية قائمة على الإنتقام من نظام متمرد، وإستثمار  للكارثة. ويمكن تلخيص هذه الاسباب، وهي:-
1.   إمتناع السعودية ودول الخليج من دفع الضريبة للولايات المتحدة للابقاء على حكم السُنة، وإبعاد الشيعة وحاضنتهم إيران، كما فعلت عام 1991، حيث قاد ضغطها المالي الى إيقاف تقدم قوات الاميركية بقيادة الجنرال نورمان شوارسكوف الى قلب العاصمة العراقية بغداد. وقد سبق إن وضعنا جدولا للنفقات التي تكفلت بها السعودية وبقية دول الخليج، لتغطية النشطة العسكرية ألأميركية، وعلى الشكل الأتي:-
-   تكاليف الحرب العراقية-الايرانية (حرب الخليج الاولى)                    1000 مليار دولار
-   تكاليف حرب  تحرير الكويت (حرب الخليج الثانية)                       620 مليار دولار
-   تكاليف حرب إسقاط نظام صدام (حرب الخليج الثالثة)                  3 تريليون دولار
-   تكاليف حرب القضاء على داعش (الحرب على الارهاب)                   10.2 مليار دولار
-   تكاليف الحرب في سوريا                                                             800 مليار دولار
-   تكاليف الحرب على اليمن                                                           38.7 مليار دولار
-   تكاليف الحر ب الليبية                                                               240 مليار دولار
وإن مما يثير الدهشة والإستغراب، إن  أحد اسباب غزو الكويت، هي مطالبة صدام للكويت بتقديم عشرة مليارات دولار كمساعدة، وإلغاء ديون الحرب العراقية-الايرانية والتي تقدر ب عشرة مليارات أخرى، بالاضافة الى مليارين واربعمئة دولار كتعويض عن النفط المسروق من حقل الرميلة. أي ما مجموعه (22,4) مليار دولار.في حين أشارت بعض تقارير صندوق النقد الجولي الى إن ديون تلك الحرب قد بلغت 60 مليار دولار. ويمكن المقارنة بينها وبين تكاليف حرب تحرير الكويت بعد غزوها والتي بلغت 620 مليار دولار. وهي لا تشكل في كل الاحوال نسبة تتراوح بين 2-9% منها.
وربما أدركت الكويت والسعودية وباقي دول الخليج، إن صدام،كان أرخص شرطي في المنطقة.
           إن هذه الارقام المهولة كانت قادرة على تحقيق الرفاهية لكل سكان المعمورة.
2.   الإستحواذ على ثروات العراق وآثاره، لتعزير مجتمعاتها التي تعاني من المديونية والازمات الإقتصادية، وإنعدام الإمتداد الحضاري.
3.   إن مجموعة من الشيعة كانوا من المعارضين غير السياسيين لنظام البعث، وشكلوا جماعات تدعي بالمظلومية والاضطهاد.
4.   إن البعض من مثقفيهم وكفاءاتهم، تعاونوا مع الولايات المتحدة لوضع برنامج لاسقاط نظام صدام حسين، وفي مقدمتهم رند رحيم فرانكي وأحمد الجلبي وأخرون.
5.   الاستخدام السيء للدين، فمازال الدين في العراق يلعب دورا كبيرا وخطيرا في حياة الشعب العراقي. وقد وجد السياسيون ضالتهم فيه ، فجرى توجيهه الوجهة التي تخدم مصالحهم. كما ان المؤسسة الدينية قد وجدت مجالا كبيرا للتدخل في السياسة العامة، لذا فالمشهد العراقي ملىء برجال الدين من كل الطوائف وهم يمارسون السياسة بطريقة غير علمية. وهذا ما يبرر ظهور فتاوى دينية إسلامية لم تكن معروفة أو مقبولة من قبل، يغذيها رجال دين مدفوعين للإساءة للإسلام. فعلى سبيل المثال، وأثناء خدمتي الدبلوسية، زار ممثلية العراق في جنيف وفد من البرلمانيين العراقيين ، واثناء الحديث قال لي احدهم، بعد  ان عرف بعملي ممثلا للعراق في الامم المتحدة: "أريد يااستاذ ان تتقدم على جميع الدبلوماسيين في الامم المتحدة حتى في القاء الكلمات، لاننا نتقدم عليهم إنسانيا وإلهياً. وشرع يشرح ذلك، قائلا: أما انسانياً، فلإن أدم ابو البشرية قد وُلد في العراق، والهياً، لإن الامام الغائب المهدي المنتظر سيظهر على ارض العراق". ومن المؤكد ان هذا البرلماني من اصول دينية لايعلم اسلوب ونظام القاء الكلمات والبيانات في الامم المتحدة، وهذا ليس ببعيد عن التوجه الفكري الشيعي الإيراني، حيث سبق وإن قال الرئيس الايراني أحمدي نجاد: "أن أمريكا أكبر حاجز يعطل ظهور المهدي المنتظر". وهكذا نجد الاخرون. ويجب أن لا يفهم ذكر هذه الامثلة على التوجهات الفكرية الدينية الشيعية، على إن توجهات الفريق الأخر هي جميعها عقلانية، لابل إن الكثير من الفتاوى السُنية تثير الإستغراب والذهول.
 وقد رأينا، كيف إن  الدين  والمؤسسة الدينية تسيّدا الموقف لمعالجة التدهور الامني في العراق عام 2014 عند ظهور تنظيم الدولة وإحتلاله الموصل، والاخير اخطر من الاول. وقد يقود الى حرب اهلية لاتبقي ولاتذر.
 والى جانب ذلك، فقد لعب الأمريكان دوراً في تشويه الدين والإساءة اليه والى رجال الدين، ولمختلف الاديان، عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، من خلال الاتصال بهم، وطلب التعاون معهم، وتشجيعهم على الاستحواذ على الأموال العامة والعائدة للافراد ولمؤسسات الدولة، وجعل دور العبادة مخازن لإيداع الأموال المسروقة والمختلسة، وإغراء رجال الدين بإلاستفادة منهم.
6.   إعادة المسلمين الى سقيفة بني ساعدة، وتحديداً الى يوم الجمعة 13/3/11 هجرية، ليرجعوا اربعة عشر قرناً الى الوراء، من خلال إثارة الصراع المذهبي بين المسلمين. صحيح إن " ما يجري اليوم في بلدان الوطن العربي عموماً، وفي العراق وسوريا واليمن خصوصاً، لا يدع مجالاً للشك في ان الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه، دون أن نتجاوز الدور الاستعماري في إحياء وتشجيع الصراعات الطائفية، وصياغة بعض الأنظمة العربية وفق المحاصصة الطائفية كما هو الحال في لبنان والعراق وسوريا .. إلخ".
7.   ترسيخ الاستنتاج الاكاديمي، بأن الشيعة لا يصلحون للحكم إطلاقاً، بعد تجربتهم في العراق طيلة 15 عاما, وإستخلاص نتائج هذه التجربة .
8.   تحجيم دور العراق، كبلد عنيد متمرد، يستند لقاعدة إقتصادية قوية، ويشكل تهديدا للولايات المتحدة الامريكية، من خلال تشجيع بقية الدول على التمرد ضدها.
9.   جعل العراق عبرًة للدول الاخرى عموماً، والعربية خصوصاً، لضمان إنصياعها للتوجيهات الامريكية لاحقاً.
10.    توريط إيران في المستنقع العراقي، لتكون الضحية القادمة التي ستحفر، بتصرفاتها الانتقامية، قبرها بيدها في العراق.
11.    جعل العراق المنيع سابقاً، قاعدة أمريكية لتدمير وتفتيت الدول العربية بعد خمس سنوات، وفقاً لمفهوم الفوضى الخلاقة. وهذا ما حدث بالفعل في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا.
12.    إزاحة بعض الاقليات، وفي مقدمتهم مسيحيو الشرق، والايزدية والصابئة وغيرهم، لانهم يشكلون عقبة في  طريق تنفيذ المخطط التدميري الكبير، نظراً لولاءهم لأوطانهم، وطيب العلاقة بينهم وبين الاغلبية المسلمة، وذلك إستعداداً للحرب العالمية القادمة بين المسيحية والاسلام.

-   طبيعة المجتمع الشيعي
الى جانب كل هذه الاسباب، فإن أهم سبب كان هو، طبيعة المجتمع الشيعي التي تتصف بما يلي:
اولاً. الشيعي ميّال الى الغريب، في حين إن السُني ميّال الى القريب. وذلك يرجع الى إحساس الشيعة بالظلم والإضطهاد. فمن الناحية التاريخية، فإن أول مَن ناصر التشيع، كانوا من الفرس الذين سَبتهم الجيوش الاسلامية في فتحها لمملكة فارس. وفي وقت لاحق من تاريخ الدولة الاسلامية، وقف الشيعة الى جانب الفرس وساندوهم في إقامة الدولة العباسية عام 128 ه، الموافق 750م. وفي وقت متأخر، أثناء الحرب العراقية-الايرانية 1980-1988، كانوا يجدون الحرج في مقاتلة إيران، وإلتجأ العديد منهم اليها، وشكلوا أحزاباً وفرقاً عسكرية مثل، المجلس الاعلى وقوات بدر وغيرها، والتي عادت لتستلم السلطة في العراق بعد عام 2003.
ثانياّ. الشيعي يعتقد بالإمامة لا الخلافة. أي إنه يتبع مرجعيته الدينية لا سلطته السياسية. لذا فإن كسب المرجعية سيساعد على أخذ زمام القيادة للشيعة. وهذا سيساعد على إلغاء حدود الدول التي يقيمون فيها، مما يفقدها سيادتها. لإن إهتمامهم سينصب على نشر المذهب لا الحفاظ على كيان الدولة. لذا تراهم يقاتلون في سوريا مؤخراً.
ثالثاً. الشيعي يعتمد مبدأ التقية، لذا فهو بارع في إخفاء مشاعره الحقيقة، وهذا أمر مهم في العمل السياسي. وهذا ساعده على التقرب من الانظمة القمعية المتعاقبة بإستمرار والعمل معها.
رابعا. لايعاني الشيعي من عقدة المرأة التي ظهرت بتأثير أحد الصحابة الاقوياء، وهو عمر بن الخطاب، والذي أصبح لاحقاً ثاني خليفة للمسلمين. لهذا فالمرأة الشيعة لها حرية أكبر في الظهور من مثيلتها في المجتمع السُني، الذي يقيّد على المرأة كثيراً. لهذا كانت وما زالت إحدى نقاط الخلاف بين السُنة والشيعة، هي مسألة زواج المتعة.
خامسا. الشيعة في أصلها مدرسة روحية، في حين إن السُنة مذهب مادي إعتمد السنة النبوية لشرعنة الاستحواذ على السلطة, ولتبرير بقاءها في يد العرب، وتحديداً في قريش. "لكن ، لابد من التأكيد على أن حماية الدين، عند أصحاب المذهب الشيعي، "كانت على الدوام مهمّة النجف، فاتيكانه حتى وإن تزعزع موقع هذا الفاتيكان إثر الثورة الإيرانية، لكن الشيعي الذي تحلّل من انتمائه العشائري، لم يلبس رداء الهوية المدنية، بل صار منقاداً وراء الإمام أو السيّد، وقد ارتكزت هذه الطاعة، على تفسير كلمة أولي الأمر، في الآية 59 من سورة "النساء" التي تدل عند الشيعة على الإمام المعصوم، أو من يحل مكانه، أما ولي الأمر عند القطب الإصلاحي السنّي الشيخ محمد عبده ، حيث تتبدّل دلالات أولي الأمر مع الزمن، إلى درجة جعلت محمد عبده المتصالح مع واقعه، يُخرج الناس من مدار الطاعة لعلماء هذا العصر، ليستبدلهم بممثلي الأمة المنتخبين من الشعب بلا إكراه أو ضغط، أي أهل الحل والعقد والقيادة، في الدولة الوطنية أو القومية الحديثة" .
وعلى عكس الجمهرة الشيعية، يقف رجل الدين السُّني في المنابر السياسية إلى جانب صاحب السلطة/ أو الحاكم، أو الامير أو الملك أو الرئيس أو شيخ العشيرة الذي يتولّى الإعلان عن الموقف السياسي. فالخطابات الدينية في الجوامع السنّية لا توجّه ولا تحذّر ولا تُصدر مواقف متباينة عن مواقف الحاكم المتنفذ ملكاً أو رئيساً أو شيخ عشيرة، ثمة، باختصار، تقسيم عمل بين السياسي (الحاكم)، ورجل الدين السني، يقبع الأول على قمّته".
سادساً. الشيعي منغلق على طائفته بحكم الإضطهاد السياسي، في حين إن السُني منفتح بحكم إستحواذه على السلطة. ومن هنا ظهر مفهوم الطائفية.
و"يُعرِّف معجم أوكسفورد الشخص "الطائفي" بأنه الشخص الذي يتبع ، بشكل مُتعنِّت ، طائفة معينة، أي إنه الذي يرفض الطوائف الأخرى، ويغبنها حقوقها، أو يكسب طائفته تلك الحقوق التي لغيرها ، تعالياً على بقية الطوائف ، أو تجاهلاً لها، وتعصبًا ضدها ؛ في حين لا يعني مجرد الانتماء إلى طائفة، أو فرقة ،أو مذهب، جعل الإنسان المنتمي طائفيًا، كما لا يجعله طائفيًا عمله لتحسين أوضاع طائفته ، أو المنطقة التي يعيش فيها ، دون إضرار بحق الآخرين.".
يرى بعض الباحثين، أن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة، لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقاً موازية للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة، كما إن الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات، إذ من الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
وفي هذا الجانب، فإن "مفهوم الطائفية، أصبح يستخدم بديلاً لمفاهيم "الملة، والعرق، والدين" التي كانت سائدة قبل ذلك، واختلطت هذه المفاهيم جميعاً في بيئة متزامنة، فكريًا وسياسيًا، فأنتجت مفهوم "الطائفية" باعتباره تعبيرا عن حالة أزمة يعيشها المجتمع، حيث أصبحت الطائفية مذهباً، وإيديولوجية، وهوية، حلت محل الهويات الأخرى، والانتماءات الأعلى، بل بدأت تتعالى عليها؛ وقد تبدى الاستعداد للتقاطع معها، وأخذ موقعها، وهذا ما يهدد، اليوم، وحدة الشعوب، كما هو الحال في لبنان، والعراق، وسوريا، وغيرها، كما إن دولاً عربية أخرى تتخذ من الطائفية ذريعة لقمع شعوبها التي تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية".
سابعاً. لقد أفرزت وقائع الصراع السُني- الشيعي طبيعة كل منهم. وهذه أهم نقطة في طبيعة الشخصية. فالسُني، عند بلوغ الصراع أوَجُه، يلجأ إلى الانتحار من خلال تفجير نفسه على خصومه. أما الشيعي فإنه يلجأ الى جلد نفسه وتعذيبها بشتى الاشكال، وهذا ما نجده أساساً في ممارساته لطقوسه الدينية. وإذا كان السنُي سادياً في تعامله، فالشيعي بدا مازوشياً.  وهذه كانت واحدة من أهم النقاط التي دفعت الأمريكان الى تفضيل تسليم السلطة لهم، لانهم لا يشكلون ضرراً عليهم وعلى إستراتيجيتهم.

-   الظهور
من المعروف ان القسم الاكبر من المعارضة العراقية لنظام صدام حسين كانت من الطائفة الشيعية التي استخدمتها ايران وامريكا وبريطانيا لاسقاط ذلك النظام. وقد شجعت الدوائر السياسية الامريكية على ابراز مظلوميتهم، فأصدر أحد المختصين الامريكيين وهو غراهام فوللر بالاشتراك مع شيعية امريكية من اصل عراقي هي رند رحيم فرانكي كتابا باللغة الانكليزية بعنوان (The Arab Shi’a: the forgotten Muslims) عام 1999. وهكذا فقد استطاع الأمريكان ان يعيدوا العراق الى صراعات (سقيفة بني ساعدة) لعام 632م. وشعر الشيعة بان فترة انصافهم قد حلت وبان الوقت قد حان للاخذ بثأر (الحسين) ، فانطلقوا يبحثون عن (يزيد)، وبدؤا يتصرفون على هذا الاساس ، مما قاد الى شيوع الانتماء الطائفي وانعدام المواطنة. ، وباحتلال العراق عينت رند رحيم سفيرة للعراق لدى واشنطن في تشرين الثاني 2003. إلا ان السلطات الامريكية قد خيرتها بين الاحتفاظ بمنصبها كسفيرة للعراق او الاحتفاظ بجنسيتها الامريكية، ففضلت الخيار الاخير وتركت المنصب في اب 2004 بعد تسعة اشهر فقط. ولم يكن مصير زميلها ومعاصرها، وأحد أقطاب هذا المشروع، بأفضل منها. فقد نبذته الادارة الامريكية، وتناست خدماته، بعد أن شعرت بميوله لإيران، ولم يحظى بأي منصب رسمي. وهذا يدل على إن المشروع هو بالأساس سياسي بحت، وإن إستخدم الدين غطاءً له.وقد قاد هذا التمسك الطائفي الى ان يحل مفهوم ( المكونات ) بدل مفهوم الشعب الموحد.
إن المتتبع لشؤون السياسة الدولية يمكن أن يلاحظ إن عام 1979، هو عام بزوغ الاسلام السياسي، حيث ظهرت المؤشرات التالية، وكمايلي:
آ- بزوغ الاسلام السياسي وإستلامه السلطة في عدد من الدول الإسلامية والعربية، إبتدأها الخميني في إيران، ثم طالبان في أفغانستان، وحزب الدعوة الاسلامية في العراق، والإخوان المسلمين في مصر وغيرها. وهكذا، وجدنا إن الغرب عموما والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا خصوصا، قد سعت لتغيير الانظمة السياسية العلمانية في تلك الدول الاسلامية والعربية، مثل نظام الشاه في إيران (1979)، النظام الماركسي في أفغانستان (1979)، ونظام صدام في العراق (2003)، ونظام زين العابدين بن علي في تونس، ونظام علي عبد الله صالح في اليمن، ونظام حسني مبارك في مصر (2011)، لتستبدلها بأنظمة دينية إسلامية.
ب- إن أحزاب الاسلام السياسي قد فشلت في كل الدول التي إستلمت السلطة فيها لسبب جوهري واحد، وهو إنها مارست السلطة وفقاً لايدولوجيتها الدينية، ولم تستطع أن تستوعب حقيقة أن إدارة الحكم يختلف عن حساب يوم القيامة. وتعذر عليها أن تغير من مفاهيمها الدينية لتجعلها ملائمة لإدارة الدولة إلا بعد وقت طويل، قدمت فيه شعوب تلك الدول خسائر جسيمة وتضحيات كبيرة. مما تعذر قبولها وإستمرارها فيما بعد.
ج- إن الدول الغربية ذات التاريخ الاستعماري العريق، قد وجدت في هذه النظم السياسية الاسلامية أفضل وسيلة للأنتقام من شعوبها وتبديد ثرواتها، وإستغلال جهلها وعدم معرفتها بشؤون الحكم، فإستغلتها أبشع إستغلال، ودعمت الفريقين المتعارضين المؤمنين والكفار، فدعمت الفريق الاول رسمياً سراً وعلناً، وإنتصرت للفريق الثاني تحت مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والتعبير والتدين (الإلحاد)، بشكل غير رسمي. فتمكنت بذلك من خداع الجميع.
 د_ لقد وجد الغرب في مفهوم "الجهاد" أفضل وسيلة لتجنيد المقاتلين بأرخص الاثمان. فقاتلت بهم في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، وقاتلت بهم صدام حسين، وحسني مبارك وغيرهم. وهكذا شكّل هولاء المقاتلين جيوشاً تقاتل بهم الدول الغربية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، لتحقيق أهدافها الستراتيجية والعسكرية بشكل إقتصادي كبير، كما إنها إستثمرتهم لبث الرعب لدى الدول العربية والاسلامية الغنية، وفي مقدمتهم الدول الخليجية، للتلويح بهم، كعصا سحرية للتدمير وسحق الشعوب وإسقاط الانظمةالسياسية، وإنتزاع ثرواتهم. ولعل أصدق مثل على التهديد بهم، هو ماقاله الرئيس الاميركي أوبامالرئيس الوزراء العراقي حيد العبادي عام 2014 بأن "الذئب على الباب". ويقصد بهم جماعة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش).
وكما قلت هيلاري كلينتون صراحة: "دعونا نتذكر هنا أن أولئك الذين نقاتلهم اليوم نحن من قمنا بدعمهم يومًا ما قبل 20 عامًا. فعلنا ذلك لأننا كنا عالقين في صراع مع الاتحاد السوفيتي، ولم يكن بإمكاننا أن نسمح لهم بالسيطرة على آسيا الوسطى". «بمباركة الرئيس ريجان وبموافقة الكونغرس بقيادة الحزب الديموقراطي قمنا بالتعامل مع المخابرات الباكستانية ودعمنا تجنيد هؤلاء المجاهدين من السعودية وأماكن أخرى.. استوردنا العلامة الوهابية للإسلام حتى نستطيع الإجهاز على الاتحاد السوفيتي». «في النهاية انسحب السوفييت.. لم يكن استثمارًا سيئًا فقد أسقطنا الاتحاد السوفيتي ولكن علينا أن نوقن أن ما نزرعه فسوف نحصده». وقد كانت كلينتون أول ضحية لنهاية عهد الاسلام السياسي، وكان سبباً لخسارتها في إنتخابات الرئاسة الاميركية عام 2016.

-   الأفول
هل حان وقت إفول حكم الشيعة في العراق، وربما في إيران ودول أخرى أيضاً ؟
لقد أفرزت انتخابات الرئاسة الاميركية طيلة عام 2016 عن بلورة برنامج جديد يبدو متعارضاً مع البرنامج السابق المتمثل في دعم الاسلام السياسي بكافة أشكاله وفصائله المختلفة، وهو برنامج ضرب الاسلام السياسي الذي أستغرق قرابة 30 عاماً (1979-2017 )، والذي حظي بقبول الدولة العميقة في الولايات المتحدة أولا، وبقبول أكثر من نصف الشعب الاميركي، كما حَظي بإرتياح من الشعوب العربية. إن هذا البرنامج في الحقيقة، لا يتعارض مع البرنامج السابق، وإن بدا كذلك، وإنما هو إمتداد له. وقد مثّل هذا البرنامج الانتخابي المقبول أحد أثرياء الولايات المتحدة دونالد ترامب مرشحاً عن الحزب الجمهوري، وفاز بنتيجة غير متوقعة، أقصت واحدة من أكثر الشخصيات التي رافقت نشوء الإسلام السياسي طيلة 30 سنة، ألا وهي هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي.
وطيلة السنوات الثلاث الماضية، كانت الولايات المتحدة تبحث عمن تكون ضحية سقوط الاسلام السياسي، وإنحصرت المنافسة والتفضيل بين السعودية، ممثلة للإسلام السُني في العالم، وإيران، ممثلة للإسلام الشيعي في العالم.
وكانت الترجيحات الاولية تشير الى إن السعودية هي الضحية القادمة، وتحقيقاً لذلك، أصدر الكونغرس الأميركي قانون جاستا المعروف بقانون " تطبيق العدالة على رعاة الإرهاب"  والذي ينص على رفع الحصانة للوجود السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية ،و السماح لأسر ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر أن تقوم بمقاضاة حكومة المملكة العربية السعودية بمليارات الدولارات. وعلى الرغم من الفيتو الرئاسي الذي أصدره الرئيس أوباما في سابقة هي الاولى من نوعها منذ 2008، إلا إن الكونغرس الأميركي تغاضى هذا الفيتو الرئاسي، وأصر على إصدار القانون المذكور في 28 سبتمبر 2016. إلا إن السعودية تداركت الموقف بالتهديد بالسلاح الاقتصادي المتمثل بسحب الارصدة السعودية في الولايات المتحدة، والعودة ثانية الى مركز تمويل أنشطة الولايات المتحدة العسكرية في العالم، مما شجّع الامريكان على تقديم إيران لتكون الضحية القادمة، وعلى الرغم من توصل الطرفين الى الإتفاق النووي في 14 تموز/يوليو 2015، والذي لم يغب عنه السلاح الاقتصادي إيضاً في رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، حيث إن أحد العوامل الخطيرة المؤثرة الأخرى والتي ستنتج عن الاتفاق هو توقع خسارة 20 دولاراً في سعر برميل النفط، وهو ما يعادل خسارة 72 مليار دولار سنوياً للسعودية وحدها.
وكانت مؤشرات برنامج ترامب تشير الى مايلي:-
1.   أن أصل خراب الشرق الأوسط، ومصدر وجع الرأس الأميركي والأوروبي، معا، وسبب ظهور تنظيمات الإرهاب الإسلامي، سنية وشيعية، هي الدولة الفاشلة المتخلفة المؤذية، إيران.
2.   ظلّ ترامب يردد وفي أكثر من مناسبة إن إسقاط نظامي صدام والقذافي كان خطأ، فالعالم كان أكثر أمناً بوجودهما. وفي وقت لاحق، إعتبر غزو العراق، أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة.
3.   تعيين كبار المسؤولين في إدارته ممن يحملون توجهاً حول ضرورة تغيير النظام في إيران، بكل الوسائل الممكنة. وفي مقدمتهم وزير دفاعه جون ماتيس، الذي سُمي ب"الكلب المجنون".
4.   تصريحاته الكثيرة التي تعبر عن نظرته حول إيران. فقد كان ترامب قد وصف خلال حملة الانتخابات الرئاسية - الاتفاق النووي المبرم بين إيران وبريطانيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا واألمانيا والصين بـ"الكارثي" وهدد بإلغائه.فيما نصحه رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو قائلا: لايمكن إلغاءه، ولكن يمكن البحث عن مبرر لذلك. كما أعطى ترامب رأيه في الحكومة العراقية بقوله: لا توجد حكومة في العراق، فإيران تتحكم بكل شيء. وقد أعرب بعد ذلك صراحة، بأن قرار غزو العراق، هو أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة.
 وردّ مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي على ذلك بقوله، إن بلاده "ستحرق" الاتفاق   النووي إذا انتهكه الطرف الآخر، واستمر البعض في التهديد بـ"تمزيقه".
4.   تصريحات بعض المقربين من ترامب، أمثال رودي جولياني عمدة نيويورك الاسبق، الذي قال في حديث لصحيفة "وول ستريت جورنال"، جاء فيها:
-   "إن المشكلة الرئيسية بالنسبة لنا هي 'المملكة' الإيرانية المذهبية التوسعية، حيث أصبح العراق دولة تابعة لتلك 'المملكة'".
-   "نحن الذين سلمنا العراق للإيرانيين، وكان الخطأ الأكبر الذي ارتكبناه". "كما أن الطريقة التي خرجنا بها من العراق كانت أكبر خطأ في التاريخ الأميركي".
-   "فبعد أن سلمنا العراق لإيران سلمناها سوريا أيضا".
-   "لقد أصبح هناك شرق أوسط شمالي يضم إيران والعراق وسوريا واليمن، وآخر جنوبي يضم دول الخليج والأردن ومصر، وهذا يعني أن حربا قد تندلع إن لم نقم باحتواء إيران ونكبح جماحها".
5.   كما صرح جون بولتون سفير الولايات المتحدة السابق في الامم المتحدة، والمقرب من ترامب
في لقاء صحفي نشرته صحيفة هافينغتون بوست الأميركية، بضرورة تغيير النظام في طهران، مؤكدا على أن "رجال الدين في طهران هم أكبر تهديد للسلام والاستقرار في المنطقة والعالم".
6.   أقرار مجلس الشيوخ الأمريكي تمديد العقوبات المفروضة على إيران لمدة 10 سنوات أخرى، ما يعني معاقبة الشركات الأمريكية التي تتعامل مع طهران. وكانت إدارة الرئيس باراك أوباما قد عبرت عن اعتقادها بأن تجديد العقوبات لا لزوم له. وقد رأت فيه إيران "إنتهاكا" للاتفاق النووي.
7.    وفي 3 شباط/فبراير2017، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية اليوم بيانا أعلنت فيه  فرض عقوبات جديدة على طهران تشمل 12 كيانا و13 فردا.
8.   وقد قال ترامب في تغريدة على موقع تويتر الجمعة إن "إيران تلعب بالنار" و"إنهم لا يقدّرون كم كان الرئيس أوباما طيبا معهم. لست هكذا"!. وفي 5 شباط/فبراير2017، صرّح وزير الدفاع الأمريكي ماتيس بأن إيران أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم، وإن طهران تتحدى تحذيرات ترامب بمناورات تشمل إطلاق صواريخ.

إن من شأن ذلك أن يسري أثره على كل الدول التي تقع ضمن دائرة نفوذ إيران، كالعراق، سوريا، لبنان، اليمن، وقطاع غزة. وهذا مابدا واضحاً في تصريحات تلك الدول.
وإذا ما أستثنيت السعودية مؤقتاً من التضحية بها، نظراً لما تدره من حليب على المزارع الامريكي، فعلينا أن لا ننسى تصريح ترامب الذي يعكس نظرته للسعودية، أثناء حملته الانتخابية بقوله: " السعودية بقرة متى جف حليبها سنذبحها".

-   نظرة متفائلة
أزاء هذه الاوضاع المزرية والبائسة والدموية، هل يمكن تقديم نظرة تفاؤلية مستقبلية؟
إن المشكلة تكمن أساسا في إقحام الدين بالسياسة، لان ذلك يقود الى تقسيم الشعوب الى طائفتين متعارضتين، هما: المؤمنون والكفار، مما يفقد التعايش والإنسجام المطلوب بين شعوبها. لذا تبدو مسألة إقامة الدولة المدنية على أساس العلمانية، هو الحل الأمثل. ويجب أن يفهم الدين على إنه مرحلة متوسطة يجب عدم الوقوف عندها إذا ما أردنا البلوغ. وقد ذهب الباحث الفلسطيني غازي الصوراني الى التعبير عن هذه النظرة بأوصاف دقيقة، قائلا:-
"إن العلمانية لن يكتب لها النجاح في العالم العربي – وفي العالم الإسلامي بشكل أعم – ما لم تقترن بثورة في العقليات". ففي صندوق الرأس، وليس فقط في صندوق الاقتراع، يمكن أن نشق الطريق إلى الحداثة بركيزتيها الأخريين: الديمقراطية والعقلانية".
ولذلك فإن تفسيرنا لهذه الممارسات وأسبابها، لا يعود بصورة مباشرة على الإمبريالية فحسب، بقدر ما يعود أيضاً -وبشكل رئيسي- إلى عوامل داخلية ترتبط بطبيعة التطور الاجتماعي المشوه تاريخياً وراهناً من جهة، إلى جانب دور "الطبقات" الحاكمة في النظام العربي، التي تعمل على تكريس مظاهر التخلف حفاظاً على مصالحها، وذلك عبر نشر التدين الشكلي وتعليمه في مدارس وجامعات الدول العربية من جهة ثانية، حيث نلاحظ انه ليس هناك من دولة عربية واحدة لا تجعل من التعليم الديني تعليماً إلزامياً في جميع المدارس العامة وفي جميع المراحل التعليمية بلا استثناء، إلى جانب فرض الزي المدرسي المتخلف (الجلباب والحجاب) على الطالبات في المدارس الجامعات، مع كل ما يترتب على ذلك من اجحاف تمييز أو إذلال بحق المرأة، والأنكى من ذلك إن الدول العربية، توكل التعليم لا إلى مدرسين "متعلمنين" أو ديمقراطيين متخرجين من كليات الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، بل إلى خريجي المعاهد الدينية وكليات الشريعة والجامعات الدينية ذات المنزع الرجعي أو التقليدي الخالص التي ترفع لواء المحافظة والسلفية، وتتنكر حتى لحركات الإصلاح والتنوير الديني.
"على أي حال ، إن حرية العقل – التي هي المدماك الأول في بناء الحداثة – لا تزال في جميع البلدان العربية محدودة السقف بعدم الجهر بعدم الإيمان، ومع أن كثرة من الدساتير العربية تنص على حرية الرأي، فإن القوانين السارية المفعول لا تزال تعتبر جريمة الرأي واحدة من أفدح الجرائم.
لكن، على الرغم من كل ما تقدم، فإن العلمانية -ولو في مستقبل غير منظور بعد– باتت ضرورة مصيرية في بلادنا العربية، إذ أننا -كعرب- في عالم أقلعت جميع قاراته صوب الديمقراطية والعلمانية، بقينا نراوح في أوضاع الجمود والتخلف ، فما لم يتقدم فإنه مهدد بالانكفاء نحو قرون وسطى جديدة، وتلك بالطبع مهمة قوى التغيير الديمقراطية اليسارية، شرط أن تطرد من داخلها كافة مظاهر التخلف الفكري، لكي تبدأ باستنهاض ذاتها، وانتاج ثقافتها من خلال الممارسة، في مواجهة عملية إعادة التديين الشكلية المستشريه اليوم في مجتمعاتنا العربية.

د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
7 فبراير/شباط 2017


المصادر
1.   شيعة العراق، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
2.   الدولة العباسية، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
3.   الحرب السوفيتية في أفغانستان، الموسوعة الحرة.
4.   غازي الصوراني، البعد التاريخي للصراع الطائفي بين السُنَّة والشيعة، غزة – فلسطين المحتلة، يونية/حزيران 2016.
5.   الاتفاق الايراني الامريكي: لا عزاء للعرب؟!، صحيفة القدس العربي، لندن في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2013.
6.   إبراهيم الزبيدي، نحن وإيران، من أوباما إلى ترامب، موقع ميدل إيست أونلاين، 2016-11-22.
7.   د. رياض السندي، هل أزفت نهاية الإسلام السياسي، الحوار المتمدن-العدد5407 - 2017 / 1 / 20.
8.   د. رياض السندي، إيران تلوي ذراع اميركا في العراق، موقع عنكاوا في 01/02/2017.



24
إيران تلوي ذراع اميركا في العراق
د. رياض السندي
بات من المعروف للقاصي والداني، ولأي مطّلع في السياسة الدولية, إن مشكلة العراق الرئيسية، نابعة من الصراعات الدولية على أرض العراق، حتى صار العراق ساحة لتصفية الحسابات الدولية على أرضه، بدلا من تخريب بلدانهم. وهذا ما يفسر حجم الدمار في العراق.
وفي مقدمة هذه الصراعات، هو الصراع الاميركي-الايراني، الذي من المتوقع أن يتفاقم في عهد الرئيس الاميركي الجديد ترامب، بعد أن شهد تهدئة وشبه إتفاق في عهد الرئيس السابق أوباما ذي الاصول المسلمة.
ومنذ البداية،وتحديدا عام 2002، كان الاتفاق مع إيران ليس سهلا، نظراً لاختلاف سياسة البلدين، ونظرة أحدهما للاخر. فإيران كانت منذ قيام الثورة عام 1979وحتى توقيع الاتفاق النووي عام 2015 ترى في أمريكا الشيطان الاكبر، في حين إن أمريكا ترى فيها محوراً للشر في العالم. إلا إن الادارة الاميركية في عهد الرئيس بوش إستطاعت إقناعهم بالمشاركة في التخلص من عدوها اللدود صدام حسين الذي أذاق المرشد الاول للثورة الاسلامية الخميني كأس السم طيلة ثماني سنوات من الحرب (1980-1988)، وقد لعب أكراد العراق دوراً في ذلك. كما إن إيران وجدت في ذلك، فرصة ذهبية للانتقام من العراق عموماً. وقد أرسلت إيران عملاءها ومواليها من العراقيين السابقين الذين رعتهم ودربتهم طيلة 23 سنة، وفي مقدمتهم اعضاء حزب الدعوة والمجلس الاعلى وقوات بدر وغيرهم. وتمكنت من خلالهم من قتل الكثير من الطيارين العراقيين وضباط الجيش العراقي الذين شاركوا في الحرب ضدهم، ودمرت كل المصانع العراقية، وسرقت كل ما أمكنها نقله الى إيران، ونهبت ثروات العراق التي بلغت أكثر من 800 مليار دولار طيلة ثماني سنوات من حكم رجلها الاول (جواد) نوري المالكي (2005-2013)، في وقت تزامن فيه فرض العقوبات الاقتصادية الدولية عليها منذ 2006.
ومن جانب آخر، فقد سعت الى إبعاد الخطر الامريكي القريب من حدودها في العراق بإنسحاب أكثر من 150 الف من القوات الاميركية، فحرّضت رجلها الاول المالكي بعقد إتفاقية أميركية-عراقية لسحب قواتها من العراق، وتحقق لها ذلك في ظل الادارة الاميركية الجديدة لاوباما أواخر عام 2008.
إلا إن الادارة الاميركية سعت للتخلص من المالكي ومنع توليه الولاية الثالثة أواخر عام 2013، من خلال تنظيم الدولة (داعش) الذي إحتل الموصل وثلث العراق في حزيران 2014. وجرى تسليم السلطة لشخص ضعيف من حزب الدعوة موالي للولايات المتحدة أكثر من مولاته لايران، وهو حيدر العبادي (بريطاني الجنسية). وبالمقابل، فقد أصرت إيران على إستبعاد واحد من أبرز رجال الولايات المتحدة في العراق، ألا وهو الكردي هوشيار زيباري من وزارة الخارجية.
وهكذا نجد إن كل خطوة، أو فعل من جانب أي طرف، كانت تقابل بخطوة مماثلة، أو برد فعل مناسب. وهكذا فقد سعت إيران الى إعادة المالكي للحكم بمنصب نائب رئيس الجمهورية، وبالمقابل أعيد زيباري لمنصب وزير المالية، بعد أن كان المنصب من حصة روز نوري شاويس، الذي أدى القسم الحكومي لتسلمه المنصب، ولكنه لم يبقى فيه أكثر من 15 يوماً. إلا انا استطاعت من إزاحته تماما من المشهد السياسي بعد إستجوابه في البرلمان وسحب الثقة منه في 2016.
ووفقا للتوجه الاميركي، ونزولا لرغبة الشعب العراقي، فقد بدأ العبادي الذي إعتقد إنه محمي من الادارة الاميركية لاوباما، أو هكذا أوحى للعالم، جملة من الاصلاحات تحت تأتثير التظاهرات العارمة التي عمت العراق والمعروفة بتظاهرات ساحة التحرير، وغيرها من مدن العراق. فألغى مناصب رئيس الجمهورية، إلا إن المحكمة الاتحادية إعادتهم الى مناصبهم عام 2016. وتحت تأثير المطالبات الشعبية بمحاكمة المالكي، هرب الى إيران في 18/8/2015 بحثاً عن الحصانة او اللجوء، إلا إن إيران أعادته بعد أربعة أيام فقط على متن طائرة إيرانية، بعد أن رأت إن ورقته ما زالت صالحة للاستعمال، ولم تستنفذ بعد.
وظلت إيران تسعى، وحتى الان، الى إعادة المالكي للسلطة، وإزاحة العبادي، لاسيما وانه مازال يبدو أقوى من منافسه كثيراً.
وقد سعت الولايات المتحدة إلى العمل لاستعادة الموصل أواخر عام 2016 لاستثمارها في الدعاية الانتخابية للحزب الديمقراطي ومرشحته هيلاري كلينتون، إلا إن بشائر خسارتها بانت سريعاً، مما قلل الحماس الامريكي لذلك. وبالمقابل، فقد سعت إيران وبقوة الى الزج بميليشياتها أو الفصائل المسلحة الموالية لها في العراق الى المشاركة في عملية تحرير الموصل، إلا إن الولايات المتحدة إستبعدت ذلك تلافيا لحالات انتقام كبيرة تقوم بها إيران لسكان الموصل من السنة.
وبعد فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة، فقد ظهرت دلائل كثيرة على تصعيد الموقف بين أمريكا وإيران. فقد أشار البرنامج الانتخابي لترامب، عدد من المؤشرات بالمواجهة مع إيران، ويمكن تلخيصها بما يلي:-
1.   أن أصل خراب الشرق الأوسط، ومصدر وجع الرأس الأميركي والأوروبي، معا، وسبب ظهور تنظيمات الإرهاب الإسلامي، سنية وشيعية، هي الدولة الفاشلة المتخلفة المؤذية، إيران.
2.   تعيين كبار المسؤولين في إدارته ممن يحملون توجهاً حول ضرورة تغيير النظام في إيران، بكل الوسائل الممكنة. وفي مقدمتهم وزير دفاعه جون ماتيس، الذي سُمي ب"الكلب المجنون".
3.   تصريحاته الكثيرة التي تعبر عن نظرته حول إيران.فقد كان ترامب قد وصف خلال حملة الانتخابات الرئاسية - الاتفاق النووي المبرم بين اإيران وبريطانيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا واألمانيا والصين بـ"الكارثي" وهدد بإلغائه.فيما نصحه رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو قائلا: لايمكن إلغاءه، ولكن يمكن البحث عن مبرر لذلك. كما أعطى ترامب رأيه في الحكومة العراقية بقوله: لا توجد حكومة في العراق، فإيران تتحكم بكل شيء. وقد أعرب بعد ذلك صراحة، بأن قرار غزو العراق، هو أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة.
 وردّ مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي على ذلك بقوله، إن بلاده "ستحرق" الاتفاق   النووي إذا انتهكه الطرف الآخر، واستمر البعض في التهديد بـ"تمزيقه".
4.   تصريحات بعض المقربين من ترامب، أمثال رودي جولياني عمدة نيويورك الاسبق، الذي قال في حديث لصحيفة "وول ستريت جورنال"، جاء فيها:
-   "إن المشكلة الرئيسية بالنسبة لنا هي 'المملكة' الإيرانية المذهبية التوسعية، حيث أصبح العراق دولة تابعة لتلك 'المملكة'".
-   "نحن الذين سلمنا العراق للإيرانيين، وكان الخطأ الأكبر الذي ارتكبناه". "كما أن الطريقة التي خرجنا بها من العراق كانت أكبر خطأ في التاريخ الأميركي".
-   "فبعد أن سلمنا العراق لإيران سلمناها سوريا أيضا".
-   "لقد أصبح هناك شرق أوسط شمالي يضم إيران والعراق وسوريا واليمن، وآخر جنوبي يضم دول الخليج والأردن ومصر، وهذا يعني أن حربا قد تندلع إن لم نقم باحتواء إيران ونكبح جماحها".
5.   كما صرح جون بولتون سفير الولايات المتحدة السابق في الامم المتحدة، والمقرب من ترامب
في لقاء صحفي نشرته صحيفة هافينغتون بوست الأميركية، بضرورة تغيير النظام في طهران، مؤكدا على أن "رجال الدين في طهران هم أكبر تهديد للسلام والاستقرار في المنطقة والعالم".
6.   أقرار مجلس الشيوخ الأمريكي تمديد العقوبات المفروضة على إيران لمدة 10 سنوات أخرى، ما يعني معاقبة الشركات الأمريكية التي تتعامل مع طهران. وكانت إدارة الرئيس باراك أوباما قد عبرت عن اعتقادها بأن تجديد العقوبات لا لزوم له. وقد رأت فيه إيران "إنتهاكا" للاتفاق النووي.
وسبقت إيران أميركا في خطواتها في العراق، ففي 14/1/2017 عينّت العميد “ايرج مسجدي” المستشار الأعلى لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، بمنصب سفير إيران في العاصمة العراقية بغداد. في الوقت الذي رأت فيه السعودية بأنه "مجرم حرب".
في حين أصدر الرئيس ترامب أمراً تنفيذياً بتاريخ 27/1/2017 بحظر دخول مواطني سبع دول من بينهم إيران والعراق.
وردّت إيران بخطوة عسكرية مثيرة، حيث أجرت أول اختبار صاروخي في عهد ترامب، بعد يومين من توقيع الرئيس ترامب أمراً تنفيذياً الجمعة الماضية، يقضي بمنع دخول مواطني 7 دول إسلامية هي إيران والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال إلى الولايات المتحدة. ووصفت وزارة الخارجية الإيرانية الخطوة بأنها "مهينة" وقالت إنها سترد بالمثل. إذ قالت في بيانها: "إن قرار الولايات المتحدة بفرض قيود على سفر المسلمين للولايات المتحدة، ولو لفترة مؤقتة لثلاثة أشهر، هو إهانة واضحة للعالم الإسلامي، وعلى وجه الخصوص إلى أمة إيران العظيمة."
فعادت الولايات المتحدة وطلبت في 31/1/2017 عقد جلسة طارئة بالأمم المتحدة بشأن الصاروخ الايراني على ضوء التجربة التي اجرتها ايران في 29 كانون الثاني على اطلاق صاروخ متوسط المدى. فأصدر مجلس الأمن الدولي قراره بأحالة موضوع إطلاق إيران لصاروخ بالستي إلى لجنة التحقيق المشرفة على تطبيق القرار2231، والذي صدر في يوليو/ تموز لعام 2015، ودعم الاتفاق النووي بين إيران ودول الـ 5+1. وربما ستكون الحجّة أو المبرر الذي نصحهم به نتنياهو لإلغاء الاتفاق النووي.
وبالمقابل أعلن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، بعد الحظر باربعة أيام ، عن قرار طهران تعليق منح تأشيرات الدخول إلى الأراضي الأمريكية للأمريكيين، ردا على منع الإيرانيين من زيارة الولايات المتحدة.
ومن جانب آخر، قررت الكومة العراقية الى الدخول في هذا الصراع الدولي الى جانب إيران. فبعد مماطلة إستمرت شهوراً طوال، ، عيّنت بتاريخ 30/1/2017، وفي خضم الصراع الدولي المذكور، أحد قادة منظمة بدر الموالية لايران، وزيراً للداخلية، الا وهو قاسم الاعرجي أحد مساعدي هادي العامري.  والاكثر من ذلك، فقد أعلنت حكومة بغداد الموالية لايران في أجرأ موقف لها منذ سقوط بغداد، وهي التي جاءت على ظهور الدبابات الاميركية عام 2003، فقالت مصادر مطّلعة إن البرلمان العراقي يدرس إيقاف تأشيرات دخول الأمريكان للأراضي العراقية ردا على وقف الولايات المتحدة لتأشيرات العراقيين.
وردت الولايات المتحدة بخطوة مهمة، أشبه بقانون تحرير العراق عام 1999، حيث قدم أحد أعضاء مجلس النواب الأمريكي، الثلاثاء 31 يناير/كانون الثاني 2017، إلى الكونغرس، مشروع قرار يسمح لرئيس الدولة باستخدام القوة ضد إيران، حيث تقدم النائب عن ولاية فلوريدا، إلسي هاستينغز، بمبادرة عرض مشروع القرار المعنون "السماح باستخدام القوة ضد إيران" على أعضاء الكونغرس.
وباستثناء الحكومة العراقية الموالية في الاساس لايران، وعلى حد وصف النائب حسن العلوي، فقد رأى الشعب العراقي في حفل تنصيب ترامب عرساً عراقياً.
فهل حان دور إيران ليوضع رأسها تحت المقصلة الامريكية، بعد أن دارت على العراق قبل 15 عاماً؟ هذا ما ستكشفه الايام قريباً.

د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
31/1/2017





25
بؤس إعلام بطريركية الكلدان
د. رياض السندي
في الغالب لا أكتب الا عن مواضيع تعنى بالعراق عموماً، ولم أتطرق يوما الى مشاكل الاقليات التي انا منها، لان الكثير من تلك المسائل أصبحت معرفة على الصعيد الدولي, والتي باتت معروفة للمطلعين وذوي الاختصاص بإسم (أمراض الاقليات)، وفي مقدمتها التفرقة والتجزئة والتناحر التي تقود الى التشرذم. والى هذا الجانب الموضوعي، كان هناك سبب أخر شخصي لامتناعي عن الكتابة في هذا المجال, الا وهو تقديري لذات البطريرك، وخاصة البطريرك الحالي لويس ساكو الذي تربطني به صلة قرابة وصداقة. كما إن معرفتي بأبناء طائفتي, يجعلني أدرك تماما إن جانب كبير من الانتقادات للبطريركية تقوم على صراعات مناطقية، بحيث أن كل أماكن التواجد المسيحي في العراق تسعى جاهدة لان يكون البطريرك منها، ولا يخرج عنها.
إلا إن البيان لذي أصدره إعلام البطريركية الكلدانية بالأمس عن أسباب انسحاب وفدها من مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق، لبحث شؤون هذه الطوائف قد دفعني لكتابة هذا المقال. والبيان بحد ذاته بحاجة الى مقال أكبر لما ورد فيه من هنات ونقاط مثيرة للبس والجدل، ولكن لننظر الى المشكلة الأعم.
فمن المعروف إن بطريركية الكلدان قد غدت في الاونة الاخيرة، بطريركية أزمات.فما إن تخرج من أزمة الا وأقحمت نفسها في أزمة أخرى. صحيح القول إنها تسير في حقل ألغام، ولكن مراعاة جانب الدقة والحذر أمر ضروري. وأكثر ما أثار استغرابي هو إعلام البطريركية الذي أصبح هو من يدخلها في هذه الازمات ويحركها. وبمجرد غثارة أي زوبعة حول أحد تصريحات البطريركية أو بياناتها إلا وتسارع هذا الاعلام لتقديم توضيح وربما يلحقه بتوضيح ثاني، وغالبا مايكون التوضيح أسوأ من البيان المراد توضيحه للناس، مما يزيد الازمة إشتعالا, الى جانب مسيرة البطريركية الشائكة طيلة السنتين الماضية.
ولا أريد أن يظن أحد ما، باني لم أحاول أن أنقل رأيي هذا بشكل شخصي الى البطريركية، اعتقاداً مني بأنه أفضل الوسائل في مثل هذه الحالات، الا إني اخفقت في ذلك كما أخفق الكثيرون غيري. فقد حاولت شخصياً توضيح ذلك، وتقديم يد العون والمساعدة لهم, فكتبت ثلاث مرات لموقع البطريركية، الا إنها إمتنعت عن قبولها جميعاً، ولدي مايثبت ذلك. وبعد التشاور مع عدد من الاصدقاء، إتضح لي بأنهم قد تعرضوا لمثل تلك المواقف، مما طمأنني بأني لست الوحيد في هذا المجال. وأيقنت بأن اي شخص يريد أن ينشر شيئاً في ذك الموقع، فعليه أن يختار بين أمرين لا ثالث لهما. فإما أن يعتمد المديح والتملق للبطريركية وشخوصها، أو أن يكتب في أمور سماوية لا يستطيع كل من في الارض الاعتراض عليها، مثل سر الاعتراف أو يوم العنصرة، وربما حظيت مثل هذه المقالات بإعادة النشر، وهذا ما لاحظته في العديد من المرات.
وتكررت أزمات البطريركية التي أقحمت نفسها في مسائل سياسية وتاريخية وإدارية مثيرة للجدل، ومارستها بطريقة غير مختصة. ويبدو إن البطريرك الكلداني أراد هذه المرة أن يلعب دوراً سياسياً في خضم الصراعات التي تسود العراق الان. ولن أسترسل في هذه النقطة بالذات، فلها مؤيدوها ومعارضوها أيضا. ولكن يمكن الاشارة الى بعض الازمات على سبيل المثال لا الحصر، والكثير منها معروف للعراقيين من الطائفة الكلدانية، أو المكون الكلداني، أو أي تسمية أخرى, كما هو متداول هذه الايام. وهذه الازمات هي:-
1.   أزمة الكنيسة الكلدانية في سان دييغو بالولايات المتحدة الامريكية: والتي إستغرقت أكثر من سنتين، وقادت الى إنقسام الناس إثر إستخدام شبكة الانترنيت لمعالجتها, حتى أصبحت قضية رأي عام يتدخل فيها كل من هب ودب بين مؤيد ومعارض, مما أساء الى الكنيسة والمجتمع عموماً، لان أسلوب المعالجة كان غير موفق.
2.   أزمة الطروحات التاريخية: وهو موضوع حساس يثير الاخرين نظراً لما عاشته وتعيشه أقليتنا أو أقلياتنا في صراع تاريخي بسبب التدخلات الاجنبية والمطامع الاقليمية. لذا فإن أي تصريح في هذا المجال من شأنه أن يصب الزيت على النار فيزيدها إشتعالا، ويعمق الفرقة والتباعد, الذي بدت أثاره تظهر جلية واضحة على الصعيدين الشعبي والكنسي. وأكثر هذه الطروحات كانت تثار أثناء المقابلات التلفزيونية، وخاصة على قناة الشرقية. وكان بالامكان تجنبها من خلال الاشارة الى إن هذا الامر هومن اختصاص المؤرخين والمختصين في علم دراسة الاجناس البشرية، أو المختصين بدراسة الحضارات القديمة. أي إحالة الموضوع الى ذوي الاختصاص تلافيا لاي إشكال مستقبلا.
3.   أزمة المنتقدين: وما إن هدأت الاحوال نسبياً، حتى خرج علينا إعلام البطريركية لينشر بياناً أو تصريحاً يشير فيه الى حملة إعلامية ضد الكنيسة الكلدانية في 17/تشرين الثاني 2016، مستشهدا ببعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها الفيسبوك. واهنا يثور التساؤل: إذا كانت الكنيسة تستخدم الاعلام بكل وسائله، الا يحق للأخرين ذلك، أم إنه حق حصري لها؟ وهذا ما لم يقم به حتى رئيس الوزراء العراقي, فكيف بكنيسة ممثلة لطائفة أو أقلية صغيرة.  كما إن المسألة تثير موقفاً قانونياً على طرفي نقيض. فمن جانب، لكل شخص الحق في حرية التفكير والتعبير عما يفكر به، شرط عدم الاساءة للاخرين. ومن جانب أخر، فإن من حق مَن صدرت الاساءة بحقه الرد وعلى نفس الوسيلة مع التقيد بذات الشرط وهو عدم الاساءة أو التجريح، أو اللجوء الى القضاء المختص، ولدينا في العراق محمكة النشر هي صاحبة الاختصاص في هذا المجال، إذا ما تضمن التصريح إساءة غير مقبولة، أو تجاوز الرد حدود الادب والاخلاق والنظام العام.
4.   ألازمات الشخصية: لوحظ إن بعض الازمات يسودها الطابع الشخصي, وتنحصر بمواقف أشخاص لا تتعدى نطاقهم. وكان الاجدى والاجدر بالبطريركية الكلدانية الابتعاد عن خلق مثل هذه الازمات مع أشخاص بذواتهم، لان البطريركية شأنها شأن أي مؤسسسة أخرى. فهي ليست شخصية أو مملوكة لشخص معين، بل هي شخص معنوي أو إعتباري في القانون, بدليل بقاءها واستمرارها حتى بعد رحيل الاشخاص أو تبديلهم. والعجيب إن كل طرف يدعو الطرف الاخر للهداية بعد الانتقاد بشراسة. ويمكن القول بشكل عام، أن الانتقادات قد تركزت على شخص البطريرك ذاته، ونادرا ما يجري الترق الى البطريركية كمؤسسة دينية، ويمكن ملاحظة ذلك في أزمة المنتقدين السالفة الذكر، والتي أشار اليها إعلام البطريركية الى إنها حملة ضد الكنيسة الكلدانية. إن مثل هذه الصراعات الشخصية من شأنها أن تقلل من مكانة هذه الموسسة العريقة. ويمكن إيراد بعض الاسماء المتداولة مثل عامر حنا فتوحي.
5.   الازمة الداخلية: الى جانب أزماتها مع الغير، فقد تولدت أزمة أخرى من داخل الكنيسة ذاتها, قادها أحد الاساقفة المعروفين، الا وهو المطران سعد سيروب، المعاون البطريركي السابق, الذي إستخدم نفس إسلوب البطريركية في النشر على الشبكة العنكبوتية، فنشر مقالا مطولا، يمكن القول بأنه كان افضل ماكتب في هذا المجال، الا إنه عاد وسحبه بعد ايام، ليصدر صيغة إعتذار موجز يوحي بأنه قد كتب تحت ضغط شديد اثناء كتابة مقاله الاول.
ويمكن القول إجمالا، إن هناك الكثير من الازمات غير التي تم ايرادها في أعلاه والتي تعصف بالكنيسة الكلدانية اليوم، إنما تنشأ نتيجة بعض المواقف السياسية التي بإلامكان تجنبها بحنكة ودراية في خضم الصراعات السياسية التي تشهدها الساحة العراقية، والامثلة كثيرة على ذلك, مثل: الموقف من إنشاء سهل نينوى، الموقف من إنشاء جيش أو حرس للمسيحيين. وأرجو أن لا يفهم إن موقف يختلف بالضروة مع تلك المواقف، وهذا رأي شخصي. ولكن الاراء الشخصية تختلف عن أراء المؤسسات والكيانات الرسمية. ألا إنني هنا أنقد أداء أعلام البطريركية وطريقة معالجتها للامور، وقد سبقني آخرون الى ذلك، الا إن الامور سارت بمنحى تصاعدي بما ينبىء بتدهور خطير، وقادت الى مهاترات كلامية أفرزت قيحاً على مواقع الانترنيت، وبإمكان أي شخص أن يرى ذلك بمجرد القيام بزيارة قصيرة لموقع عنكاوا كوم، ويبحث في كلمة البطريركية الكلدانية، ليرى سيلاً من الافعال وردود الافعال بين فريقين متصارعين منقسمين الى مؤيد ومعارض لاشخاص باتوا معروفين بمواقفهم، فريق ينتقد أداء البطريركية, وفريق يتنصر لها. وسأكون صريحاً هنا، فإن ردود الفريق الاول أكثر رصانة ودقة من ردود الفريق الثاني الذي يعتمد إسلوب المديح والتفخيم والاطراء حتى في حالة الاخطاء، مستخدماً عبارات التهديد التي يمكن إختصارها بعبارة (سنقوم بفضح كل من يسيء دون تردد).
إن النقطة الاساسية في الموضوع، أنه يجب التفريق بين النقد والانتقاد. فالنقد ضرب من ضروب الادب التي تدرس في كل العالم. أما الانتقاد فهو تعبير يقصد به الإساءة لشخص او  إستهجان لموقف معين.
وإجمالا فإن إعلام البطريركية الكلدانية هو إعلام بائس وضعيف، ولا يرتقي الى مستوى البطريركية الكلدانية، التي إنقتحت على العالم منذ خمسة قرون مضت، وكان كهنتها من أكثر الطبقات ثقافة وإطلاعاً ومعرفة باللغات الاجنبية. كما إنه لا يرتقي لمستوى الكلدان كطائفة عراقية تضم العديد من الكفاءات التي يمكن أن تقدم إعلاماً رصيناً ومتقدماً، وما مقالنا هذا الا نداء مفتوح للبطريركية، لاعتماد الحرفية والتخصص في إعلامها، لاسيما وإن الاعلام اليوم هو علم منفرد قائم بذاته، يدرس في كليات الاعلام والصحافة، لما له من تأثير كبير على تشكيل الرأي العام والتأثير فيه، حتى لقبت الصحافة والاعلام بالسلطة الرابعة الى جانب سلطات الدولة الثلاث. وبالتالي، لايعقل والحالة هذه, أن يكون إعلام هذه المؤسسة الدينية هزيلا الى هذا الحد، حد البؤس.

د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
15/1/2017

26



نظرا لطول المقال المتكون من 34 صفحة ننشره ادناه على شكل ملف PDF بمكنكم النقر على الرابط التالي لقراءته:
http://uploads.ankawa.com/uploads/1479142413772.pdf

27
سماسرة السياسة في العراق
او
(هوش من زمن بوش)

ان فهم ازمة العراق يتطلب معرفة القائمين على حكمه ، وهم مجموعة من الاحزاب الصغيرة تضم عددا من الاشخاص الساعين الى السلطة باي وسيلة وباي ثمن .وهذه الفئة او الطبقة التي جمعها الرئيس الامريكي السابق جورج بوش،  قد قدّر لها ان تتحكم بالعراق وشعبه ومقدراته،  فلم تكن امينة عليه، وقادت البلاد الى التهلكة. وانضمت اليهم طبقة من الانتهازيين الذين يتلونون كالحرباء فالبعثيون اصبحوا متدينيين، لابل حتى المسيحي البعثي اصبح قوميا اشوريا يمتد نسبه لاشوربانيبال، حتى ضاعت صفة الوطنية العراقية. والامثلة على كل ذلك  كثيرة ومستقاة من الخبرة الشخصية الموثقة باثباتات رسمية ، وهذا كلّه غيض من فيض.
ومن سمات هذه الطبقة ما يلي : -
1 . انهم في الغالب ممن عاشوا خارج العراق لسبب أو لاخر وبذلك ضعفت علاقتهم بالعراق وبالتالي معرفتهم به وباحوال اهله وظروفه وتعقيداته . وبالتالي ضعف عندهم الانتماء للعراق . وتبعا لذلك ضعفت رابطة المواطنة لديهم . وحاشا ان يشمل هذا كل العراقيين الذين اضطرتهم الظروف للهجرة ، لاننا وجدنا الكثير منهم وطنيون حتى النخاع ، ويحملون هموم الوطن معهم ، ويتسابقون لسماع خبر او اغنية عراقية. بل نعني اولئك الذين ارضعتهم  مخابرات الدول المختلفة الحقد على العراق وشعبه وحملتهم الى العراق.
2. انهم يصفون انفسهم بصفة المناضلين وعلى الشعب ان يدفع ثمن نضالهم ، وهم ابعد الناس عنها، لان النضال يحمل معاني التضحية  والفداءالتي لم يراها الشعب في جلّهم. لابل وجد فيهم جشعا يفوق التصور، ورغبة في الاستحواذ على المال العام والخاص ، وهدر الثروات القومية. وربما لايصدق احد ان سفارتنا في الصين كانت قد احالت طلبا للراي الاستشاري الى وزارة الخارجية في عام 2009 حول عقد قيام احد العراقيين ببيع بئر نفطي في العراق لسيدة صينية ، وقد اعددت دراسة من اربع  صفحات حول الموضوع بعد تكليفي رسميا بذلك ، اما اليوم فحتى الارهابيون  يصدرون النفطوبسعر 7-10 دولارات للبرميل ، في حين ان سعره الحقيقي يتجاوز المئة دولار. 
2 .انهم في الغالب الاعم من اختصاصات بعيدة عن اختصاصات الادارة.  لذا نراهم يحاربون اصحاب الكفاءات وذوي الاختصاص، وبذلك ابعدوا طبقة التكنوقراط. والكثير منهم اسرع الى الحصول على شهادات من جامعات مفتوحة هي اقرب الى الشركات التجارية منها الى جامعة بالمعنى الدقيق. ناهيك عن الشهادات المزورة .
3 . جاءوا الى العراق وهم محملين بتصورات قديمة مضى عليها زمن طويل, تغيرت فيها  معالم المدينة في العراق الى حد كبير , وتصورات امنية غير صحيحة فرقتها ظروف العراق قي ظل النظام السياسي السابق . بحيث جاءوا بقناعة مفادها ان الشعب كله ينتمي لحزب البعث , كما انهم وبحكم صلتهم بمخابرات دولهم الجديدة فقد زودوا باجندات خاصة واجبة التنفيذ في العراق . لذا فقد شمل ضررهم واذاهم كل العراقيين في الداخل والخارج ، ولاحاجة لتوضيح الضرر الداخلي فهو واضح للعيان. اما الضرر الخارجي ، فقد عقدت وزارة الخارجية مجموعة اتفاقيات لاعادة العراقيين في كل من النرويج والسويد والدانمارك، وفي يوم توقيع مذكرة التفاهم مع ممثل السويد في مقر وزارة الخارجية ، تردد الوزير العراقي قائلا اعتقد ان هذا الاتفاق سيقود الى المحاسبة. فماكان من وكيل الوزارة  والمسشار الاقدم فيما بعد محمد الحاج حمود الاّ ان حثه بلهجة عراقية خلت من اية لياقة دبلوماسية قائلا: ( دوقّع الحساب يوم الحساب ). وكذا كانوا يبيعون العراقيين مقابل مصالح شخصية رخيصة، علما ان هذا الوكيل كان في العهد البائد المشرف على رسالة ماجستير سبعاوي اخو صدام غير الشقيق عام 1983، ثم المشرف على رسالة ماجستير ابن سبعاوي (ايمن) عام 1995. وعلاقته الحميمة مع رموز البعث ادخلته وزارة الخارجية حتى تاريخ احالته على التقاعد قبل سقوط النظام السابق عام 2003،  وتردد في وزارة الخارجية بان وزير الخارجية انذاك قد همّش على طلب احالته للتقاعد بعبارة ( يحال على التقاعد لغبائه ) وقد تعذر الحصول على نسخة منه. وهذا السلوك يتطابق مع ماقاله بريمر من انهم لايترددون من قضم عظام امهم وابيهم. 
4. الاغلبية الساحقة منهم ليسوا من اصحاب المبادىء، بل انهم انتهازيون ووصوليون . لذا ترى احدهم من حزب معين اليوم يتنقل  في الغد بين الاحزاب الموجودة على الساحة السياسية بحسب مصلحته ، وهم بذلك كالسمسار الذي يرسي المزايدة على المزايد الاعلى . وكما قال الحاكم المدني في العراق بول بريمر بانهم ليسوا اكثر من مادة تنفيذية في سوق المراهنات الشخصية الرخيصة.  وهذا قاد بدوره الى ظهور الطائفية والمحاصصة . وقد سمعنا في هذه الايام من يطالب رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي بان يكون ممثلا للتحالف الوطني ، ولم يقل اد باننا نريده ان يكون ممثلا للعراق كله. لابل رأينا احد الوزراء الكرد كان يقول في بغداد بانه وزير جمهورية العراق، وما ان يغادر اجواء بغداد في طريقه لاربيل حتى تراه يصّرح للاعلام بانه وزير للاكراد. ولا حاجة لايراد امثلة اخرى لكثرتها. 
5 . لذا فقد كانت اولوياتهم تنحصر اولا فيما يلي : -
(أ‌)    طاعة وتنفيذ اوامر من جلبهم الى العراق ومنحهم تلك المناصب ، حتى اطلق عليهم لقب ( سياسيون مسيرون عن بعد ). وكان المالكي اول من يدرك تلك الحقيقة، لذا فان محاولات سحب الثقة منه باءت بالفشل، بمجرد ان يتصل بمراكز قرارهم لتتغير النتيجة بعد ساعات، فمنهم مفتاحه في ايران، واخرون في امريكا، وغيرهم في السعودية وتركيا، وهكذا دواليك. ولم يستطع احدهم ان يتخذ موقفا شجاعا من قضية ما حتى لوكانت مصيرية ، وذات مرة استدعاني احد السفراء حول موضوع مشاركته في مؤتمر مناقشة موضوع الشركات الامنية الخاصة في سويسرا,  فقلت له يجب ان تتحدث عن حادثة ساحة النسور التي راح ضحيتها 17 مدنيا عراقيا ، فقال باللهجة العامية ( اني ما اريد اخرّبها ويه امريكا )، فتعجبت من موقف ممثل دولة كهذه همّه الوحيد الايفاد ومخصصاته المالية ، ولايهمه حتى لو مات افراد الشعب. 
(ب)  جمع اكبر قدر من المال  وباية وسيلة كانت مشروعة او غير مشروعة ، لان الدرس الوحيد الذي تعلموه في الخارج هو ان المال ( الضمان الوحيد للحفاظ على الانسان في الغربة ).
(ج)  اشباع الرغبات الجنسية الرخيصة  التي لم يتسنى لهم تحقيقها في السابق, لذا فقد راينا الكردي يتسارع للزواج من عربية ، وبالمقابل يتزوج العربي من كردية وهكذا. ومثل هذه الزواجات السياسية, ان صحّ التعبير ، هي غير موفقة في الغالب.
(د)  التمتع بقدر من الامتيازات لا نظير لها في دول العالم ، حتى ظهرت احصائيات تشير الى ان البرلماني العراقي يتقاضى عشرة الاف  دولار عن كل يوم عمل برلماني حتى في حالة غيابه . في حين يتقاضى الرئيس الامريكي 33 الف دولار شهريا. 
(ه)  الحصول على قدر من الاحترام لم يحصلوا عليه في الخارج . لهذا فقد كان اول شعار تداولوه عند مجيئهم هو    ( احترم تحترم ) لتعرضهم الى الاذلال في الدول الجديدة التي اقاموا بها ,   والصياغة الاكثر تطابقا لهذا المثل هو ( احترم من لم يحترم )، او( احترم من لايستحق الاحترام ).
(و)  تدمير بنية العراق ، استكمالا لما قام به الاحتلال من حل الجيش والغاء الاعلام الحر ، وذلك عن طريق : -
(1)  الغاء قوانينه الرصينة السابقة واحلال محلها قوانين خلافية ( حمالة اوجه ) وهو اول من لا يطبقها اويعترف بها ، لذا ترى الجميع ينادي بالعمل بموجب الدستور النافذ الذي لايطبقه احد.
(2)  استحداث مؤسسات قائمة على اسس دينية أو مذهبية أو قومية أو طائفية ، مثل مستشفى الصحابي فلان، وجامعة أل البيت وشارع العشرة المبشرة وبنجرجي الامام فلان وهكذا دواليك.
(3)  تعيين انصارهم ومن يساندهم لتحقيق هذه الرؤيا، لذا تجد اقارب المسؤول في كل دائرة ، اضافة الى فئة المتملقين،  خاصة وان هناك فئة من العراقيين يتملقون لكل حاكم على امل ان يلقي لهم بعظمة. وكان التركيز يحري على اللاجئين الحاقدين المقيمين في الخارج، او الغرباء الذين لايعرفون تاريخهم، واخير بعض العاملين في الامم المتحدة والمحالين على التقاعد، لانهم مادة طيعة لتنفيذ الرغبات الرخيصة، وابعاد الوطنيين وذوي الكفاءة من الذين يريدون الحفاظ على العراق من شرور هذه الفئة.
(4) القضاء على قيم المجتمع ومبادئه واخلاقه باستحداث امور جديدة غريبة عن المجتمع العراقي وتسويقها للبسطاء والسذج على انها امور صحيحة بدلالة ان الغرب ياخذ بها ( كظاهرة المثليين وغيرها ) بقصد افساد الاخلاق. لذا قيل ان الصفة الغالبة فيهم الوقاحة وانعدام الحياء.
(5)  كان معظمهم من الذين اخفقوا في علاقاتهم الاجتماعية، لا سيما وان اقامتهم في الغرب واتسام العلاقات فيه بالمادية أو دفع افراد عوائلهم الى استخدام مساحة الحرية الواسعة هناك , لذا فقد كان معظمهم من المطلقين من زوجاتهم . وقد تركوا  ورائهم اولادهم وبناتهم يمارسون تلك الحرية. ونظرا لتقدير المجتمع العراقي للعلاقات الاجتماعية فقد كانوا يضطروا الى الاجابة بانهم متزوجون وعائلاتهم في الخارج وهم بذلك ينطقون بنصف الحقيقة والاصح القول بانهم مطلقون واولادهم خارج سيطرتهم الاسرية , كما هو الحال في المجتمعات الغربية . لذا فقد لازمهم الفشل في ادارة الدولة، لانه من البديهي ان من لايستطيع ان يدير شؤون عائلة صغيرة من  عدة افراد فكيف يدير عائلة كبيرة تضم اكثر من 30 مليون نسمة. 
(6)  لقد كان كل رصيدهم لمواجهة المجتمع العراقي معرفة اللغة الاجنبية, الانكليزية في الغالب ثم الفرنسية والاسبانية وغيرها ، ولكن معرفتهم كانت مقتصرة على لغة الشارع لا لغة علم واختصاص . وكان القادمين من الولايات المتحدة الامريكية هم اكثر من تباهوا بذلك , في حين وجدنا ان الكثير منهم لم يكن قادرا على كتابة كلمة   ( مبروك  Congratulations ) بالانكليزية بشكل صحيح .
(7) كانت سلوكياتهم مستهجنة وغريبة عن المجتمع العراقي فاغلبهم يمكن تصنيفه ضمن انماط الشخصية  المرتابة في علم النفس ونظرا لانهم عاشوا في مجتمعات خاضعة للمراقبة في كل مكان ( ففي كل باص في الغرب ما لا يقل عن   8  كاميرات ) وفي كل موقف سيارات وشارع ودائرة نجد كاميرات المراقبة. لذا فلا نستغرب عندما نسمع أو نقرا ان السفير الفلاني كان يحمل جهازتسجيل معه عند لقاءه باي مسؤول عربي أو اجنبي ويسجل كل حديث حتى لو كان على سبيل المجاملة, وهكذا نجد ان اي لقاء بسيط  في مكتب الجامعة العربية قد تم تسجيله, لا بل وصل الامر الى حد ان يسجل احدهم عن الاخر حركاته وسكناته. وتطور الامر في بعض المراحل بحيث اصبح المسؤول يحذر خصمه عن طريق اي مشروب يقدمه له ليصوره في موقف مشين يهدده به لاحقا ، وجرى مثل هذا الامر مع نائبة في البرلمان.
(8) الكرم الزائف, وكما قال احد الكتاب العراقيين الساخرين ( مجدي ويصيح وير)  وترجمته ( شحاذ ويتظاهر بالكرم ) ولكن الادق ( شحاذ ويتكرم بمال غيره ). وهكذا وجدنا احد السفراء يكتب لمركز الوزارة طالبا التبرع بمبلغ من المال لافريقيا الوسطى، في حين كان هذا السفيرلايتبرع بقرش واحد لاقرب الناس اليه.
(9) عدم التحلي بالصفات العربية كالرجولة والشهامة والفروسية, فالعرب تفتخر برجولتها وشهامتها وفروسيتها، فالمجتمع العربي هو في الغالب مجتمع ذكوري والامثلة على ذلك كثيرة, أما هولاء القادمون من مجتمعات غربية وغريبة عن المجتمع العربي فقد تخلوا عن مبادى الرجولة والشهامة والفروسية, ولهذا فكل منهم اذا وعد كذب واذا حدثك نافق واذا غبت نالك بالغيبة . ولهذا تراه ما ان يستمع لاراء غريبة حتى يهز راسه ويقول صحيح صدقت , وما ان تخرج حتى يقول, ماهذا الغباء والتخلف. وهكذا نجد ان احد السفراء يصف السفير الفلسطيني بأحمد الاوصاف في حضوره، وبمجرد خروجه كان يقول ساخرا: هولاء الفلسطينيين يحسبون انفسهم دولة، ان هذا السفير لم يتقاضى مرتبه منذ ثلاثة اشهر.
(10) الترف الزائد (البطر) , وهكذا تجده يسعى بكل وسيلة لتحميل الدولة مصاريفه الخاصة ويجاهد في ذلك ويتذلل اصغر موظف في الوزارةلتحقيق ذلك . وما فضيحة عمليات تجميل البرلمانيين الباهظة الاّ دليل على ذلك. وفي هذا المجال ترد حادثة طريفة اثناء عملي في وزارة الخارجية, فقد اتصل احد الموظفين العاملين في الدائرة القانونية التي كنت اترأس قسم المعاهدات فيها ليخبرني بورود كتاب من  احد سفراء العراق عام 2010 يطلب فيها بيان مدى شمول (كلبه) بقانون التامين الصحي الخاص بالدبلوماسيين وعوائلهم , فاخبرته ان يكتب الى السفير المذكور العبارة التالية ( اذا كان الكلب احد افراد عائلة الدبلوماسي فانه مشمول بالقانون المذكور ) . وتحضرني هنا ذكرى اللقاء الاول للترحيب بمسؤول جديد الذي قدم نفسه بانه كان طالبا في لندن واقام باميركا, وكانت حياته صعبة، حيث لم يكن يتناول الطعام في الايام العشرة الاخيرة من كل شهر انذاك لعدم كفاية نفقات البعثة انذاك. في حين كان هذا المسؤول لايتناول الا السوشي الياباني طيلة سنوات المنصب الخمس.
(11)  محاربة  ذوي الكفاءات والوطنيين المخلصين لوطنهم لضمان استمرارهم في السلطة, وتطييق اجنداتهم التي جاءوا من اجلها . ولهذا فقد حدثت هجرة معاكسة بمجرد دخول هولاء الى العراق بالتتابع, وبالمقابل خرج من العراق مئات الالاف من العراقيين  والكثير منهم من اصحاب الكفاءات، واتمنى لو كانت هناك احصائية رسمية تبين عدد الكفاءات التي هجّرتها كل وزارة. ويكفي القول ان في بريطانيا اليوم اكثر من خمسة الاف طبيب عراقي، لابل ان احد الاطباء من اصل عراقي تولى منصب وزير الصحة في بريطانيا ، وهو الجراح السير ارا درزي.  وهذا ما جعل من العراق بلد الهجرة الاول دوما .
(12) استشراء الفساد بشكل مفرط ، فضاعت ثروة البلد طيلة اكثر من عشر سنوات ، حتى بلغت اكثر من ترليون و 300 مليار دولار. وهذا ملف يصعب الوقوف عنده، لان الحديث فيه يطول لكثرة تفاصيله ، وما يثيره من شجون.
واذا كان عرّابهم بول بريمر قد قال في وصيته المذكورة سلفا والموجهة لسلفه نيغروبونتي بانهم: " نصفهم كذابون والنصف الاخر لصوص. مخاتلون...يتظاهرون بالورع والتقوى، وتحت جلد هذا الحمل الاليف ذئبا مسعورا...حاذقون في فن الاحتيال...يريدون بقاء جنودنا لانها الضمانة الوحيدة لاستمرارهم على راس السلطة...يجيدون صناعة الكلام المزوق وضروب الثرثرة الجوفاء ...فارغون فكريا وفاشلون سياسيا...يعلمون علم اليقين بانهم معزولون عن الشعب ولايحظون باي احترام.
وازاء كل هذا التخريب الذي لايتحمله اي بلد مهما كان قويا ، فمن الصعب قيام دولة بالمفهوم الحديث. وكانت النتيجة كيان سياسي ( دولة فاشلة ) دون سيادة ، مظاهرها:-
-   دولة بلا عيد وطني.
-   دولة بلا نشيد وطني .
-   دولة بلا رئيس لاكثر من سنة ونصف في عداد المفقودين  علما ان المقصود بالرئيس  في الدستور انسانا فاعلا يؤدي خدمة عامة لا راقدا في الانعاش ، وهذا ماكلف ميزانية الدولة بحسب بعض التقديرات 120 مليون دولار. في حين شهدت شخصيا رفض طلب عامل بصفة فراش بمبلغ من المال يعادل خمسون دولارا لدفن ابنه الرضيع، فقيل له  بانه لايوجد اي باب للصرف لهذا الموضوع.
-   اعلام كثيرة كل منها يمثل فئة معينة. وكان وفد العراق في الامم المتحدة يضع في بعض الاحيان اعلام عديدة في مقدمتها العلم الشيعي ثم علم اقليم كردستان – العراق ، وعلم التركمان الازرق وعلم الاشوريين البنفسجي، وربما لم تتح الفرصة للاخرين القيام بذلك، مما جعل العراق مادة للسخرية وتندر كثير من الوفود التي قال احدهم انتم تمثلون دولة ام مجموعة دول؟
-   غياب الجيش النظامي، الذي افتقد للعقيدة العسكرية، والتدريب العسكري، فانهار في اول مواجهة يوم 10/6/2014 .
-   انعدام الامن وانتشار الميليشيات مع سلسلة تفجيرات شبه يومية.
-   انعدام الخدمات الاساسية كالماء والكهرباء.
-   اعداد كبيرة من النازحين داخليا وخارجيا.
-   تعثر البطاقة التموينية .
-   ضعف التعليم على مختلف مراحله، لابل وجدت جامعات ومعاهد دينية اقرب الى كتاتيب الزمن الغابر.
-   تفشي البطالة وانتشار المخدرات بين الشباب، بعد ان كان العراق واحدا من انظف دول العالم في هذا المجال.
-   القذارة المنشرة في كل مكان .
-   ثالث بلد في  حالات الاعدام. والكثير غير ذلك.
-   ميزانية الدولة التي لم تقّر حتى هذه لحظة كتابة هذه السطور في شهر آب 2014.
وختاما ,  فبعد مرور اكثر من احد عشر عاما فان هذه الفئة الغريبة عن المجتمع العراقي والتي جاءت بالتنسيق مع اجهزة مخابرات دولية تحمل تعليمات معينة الهدف منها تدمير العراق والعودة به الى القرون الوسطى كما قال وزير الخارجية الامريكي جميس بيكر لنظيره العراقي طارق عزيز اثناء لقاءهما في جنيف مطلع عام 1991،مطالبة بالانصياع لاراة الشعب في التغيير الجذري وعدم الالتفاف عليها، لاسيما وقد ظهرت بوادر الصراع على المناصب وتكرار نفس الوجوه القديمة، والا سيقتص منها الشعب العراقي في اول عثرة كما فعل مع سابقيه ، لاسيما وقد حذرهم الرئيس الامريكي اوباما بالامس قائلا( ان الذئب على الباب). والمعروف عن العراقي بانه قد اخذ من البعير صفتي الصبر والحقد ، وقديما قالت العرب ( احقد من بعير). ومن سيبقى منهم سيتذكر العبارة التي قيلت يوم سقوط الاندلس ( ابكوا مثل النساء ملكا مضاعا ، لم تحافظوا عليه مثل الرجال ).       

د. رياض السندي

28
  د. رياض السندي 

ان تولي باراك حسين اوباما رئاسة الولايات المتحدة مطلع عام 2009 كأول رئيس اسود في تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ، لم ياتي من رغبة الحضارة الغربية في تقبل الاختلاف ، وانما دفعتهم الى ذلك الحاجة الماسة للظهور بمظهر المتحضر، لاسيما بعد ان اكتشف العالم فظاعة القطبية الواحدة واستفراد الولايات المتحدة بمصير العالم ، وهو امر لايختلف كثيرا عن الدكتاتورية الفردية، حيث الفارق في الدرجة لا في النوع. لذا فقد كانت الحاجة ملحة لتقديم وجه جديد اكثر نظافة ومقبولية امام العالم، مع السعي للابقاء على جوهر النظام الراسمالي. واليوم تيقن العالم عموما وفي العراق خصوصا من ان مساؤى بوش لاتختلف عن مساؤى صدام في النوع بل في مقاييس سوء الادارة بكل ماتحمله الكلمة من معاني الفساد وتفرعاتها. فالجميع بشر ومتساوون في حسناتهم وسيئاتهم، في نظافتهم وقذارتهم، والفرق غير جدير بالاعتبار كثيرا. لذا فقد جاء احلال اوباما بعد بوش لاعتبارات عديدة اهمها:-                                                                                 

1. ضياع هيبة الولايات المتحدة الامريكية في العالم نتجة حروب مطلع الالفية الثالثة في كل من افغانستان والعراق، ومانتج عنها من كوارث ومآسي بخلاف كل الوعود والتوقعات. وجاءت حادثة رشق الصحفي العراقي للرئيس الامريكي جورج بوش في كانون الاول/ديسمبر 2008، لتنبه الادارة الامريكية وحكومة الظل بان احتقان العالم كبير من جراء سوء الادارة الامريكية في مختلف بقاع العالم، مما قاد الى استنتاج بسيط مفاده ان امريكا لم تتغير كثيرا في الجوهر ومازالت تعمل بعقلية حرب فيتنام لعام 1965. ان تلك الحادثة البسيطة التي افرحت الكثير في العالم وحتى من بعض الامريكيين الذين التقيتهم شخصيا، كان لها اثرا كبيرا فيما بعد، فهي اشبه بحادثة الطفل الذي صرخ بان الامبراطور عاري بعد ان عجز الكبار عن ذلك، كما في الحكمة الصينية. ومن المعلوم ان بصقة ضعيف في وجه قوي ابلغ دلالة واثرا من كل ظلم القوي وجوره، فافاقت الادارة الامريكية على طرقات الصحفي العراقي، فقررت ايجاد حل يبدو جذريا لتحسين وتلميع صورة الولايات المتحة في العالم، بعد ان اضاعتها ادارة بوش، ومازالت نتائجها الكارثية مستمرة الفصول حتى اللحظة. فالماساة اقل مايمكن ان توصف به احوال الدول التي دخلتها امريكا. وكما قال المفكر العربي الدكتور يوسف زيدان: " ومن وجوه الكوميديا السوداء، ان امريكا لم تمسّ مكانا في العالم خلال الخمسين سنة الماضية، او تتماس معه، الا وانتشر فيه الخراب والالم والمعاناة الفادحة: فيتنام، كوبا، الصومال، افغانستان، العراق، ليبيا."                                                                                 
2. تصحيح اخطاء ادارة بوش السابقة الكارثية, والتي اتضح ان الهدف الاستراتيجي منها هو سرقة ثروات العراق وفي مقدمتها النفط, ولانعلم ماذا كانت ضالعة في تسويق مخدرات افغانستان ايضا,  معتمدة على تكتيك المبرر الدرامي للحبكة الروائية الامريكية التي تمثلت في تسليم ابن لادن في افغانستان, واسلحة الدمار الشامل في العراق, والملف النووي الايراني الان, ومستندة الى حجة تدمير تماثيل بوذا في افغانستان, وضرب حلبجة بالسلاح الكيمياوي في العراق, ومستعينة بادوات محلية مثل المقيمين في الولايات المتحة الامريكية من اصول عراقية, في ظل غياب حسهم الوطني وانتمائهم القومي, مع دعم عسكري امريكي،  واشراف سياسي من خلال سفارتها في البلد. كل ذلك تحت مسمى مكافحة الارهاب, والذي بدأت تتضح معالمه بانه صناعة امريكية بامتياز. فمعظم رموزه ممن رضعوا من الحليب الامريكي ابتداء بابن لادن وانتهاءا بالخليفة ابوبكر البغدادي الذي كان مسجونا لدى الامريكان طيلة خمس سنوات في سجن بوكا في العراق.                                                                                                 

3. السعي لغلق الملفات المفتوحة ضد الولايات المتحدة  والتي تثير انتقادات كثيرة ضد سياستها داخل الولايات التحدة وخارجها, مثل ملف غوانتانامو, وملف القوات الامريكية في العراق, وملف سجن ابوغريب, وملفات الفضائح في ويكليكس, وملف التجسس على الحلفاء الغربيين، وما الى ذلك. على الرغم من ان اوباما لم ينجح في غلق غوانتانامو رغم وعده بذلك, الا انه اوفى بوعده في سحب قواته من العراق نهاية عام 2010. وظهرت الان ملف جديد الا وهو ملف الاقليات في العراق كالمسيحيين واليزيديين, مما زاد من قتامة صورة الولايات المتحدة وعقد مهمة اصلاح الخراب الامريكي في العراق بشكل كبير وغير متوقع.       
   
4. واخيرا، يبقى ملف عملاء امريكا في الدول التي نقلت اليها الديمقراطية الامريكية, والتي يمكن تسميتها
بدول التحرير الموهوم والديقراطية الزائفة, فقد غدا العراق ساحة المواجهة عندما طالب العراقييون بالتغيير معولين على انتخابات نيسان 2014, في حين جاءت النتائج خلاف ذلك, مما ولد احتقان شديد في العراق , قاد الى انهيار السلطة وسقوط ثلث العراق بيد الارهابيين. مما اضطر اوباما الى ان يتخذ موقفا حازما فاعلن في 13/6/2014 بانه لن يرسل قواته لدعم سلطة لاتمثل جميع العراقيين. وهذا ما قاد الى شدّ وجذب بين الاخوة الاعداء امريكا وايران وحلفاءهما في العراق انتقلت الى طاولة المفاوضات النووية بينهما, لتأتي الرسالة حازمة من واشنطن بان على حليف ايران الرئيسي نوري المالكي ان يسلم السلطة مرغما ليعلن في الساعة 11 ليلا في 51/8/2014 انصياعه للقرار الامريكي، مما يشكل بادرة اولى لاعادة القطار العراقي على السكة الصحيحة, ولكن مازال الكثيرون مثله بحاجة لاتخاذ نفس الموقف او سيلاقون النتائج التي هددتهم بها كوندليزا رايس عام 2007 عندما قالت باننا لو تركناكم لعلقوكم العراقيون على اعمدة الكهرباء في شوارع بغداد.                                                                                                   

نأمل ان يتمكن اوباما من ازالة مخلفات بوش في العراق فالمشكلة لاتنحصر بالمالكي وحده بل كان جزء من منظومة سيئة بحاجة لاصلاح كامل, خاصة وان اصول اوباما المسلمة قد علمّته ان الاعمال بالتمام.                                                                   
  د. رياض السندي 
  جنيف       
                                                                                                                                                                                                                                                         

29
اسباب الانهيار السريع للسلطة في العراق

   كان لانهيار القيادة العسكرية المدوي والتدهور الامني الخطير وسقوط ثاني اكبر مدن العراق ( مدينة الموصل التاريخية ليلة 10 حزيران 2014 اسباب عميقة غائرة في المجتمع العراقي تولدت بعد 11 سنة من سقوط بغداد في 9 نيسان 2003. وقد حاول المخلصون والوطنيون من ابناء العراق السعي جاهدين لانقاذ البلد من هذا السقوط المخزي الا ان كل تلك المحاولات باءت بالفشل. ونحاول هاهنا استخلاص القسم الاكبر من اسباب هذا الانهيار , كما شخصناها منذ البداية وحتى هذه اللحظة , مع عدم غمط حقوق الاخرين في تحليلاتهم وتشخيصهم لمواطن الخلل والضعف في بنية الدولة العراقية بعد الاحتلال الامريكي عام 2003 وهي : -
1 . طبقة سياسية قادمة من الخارج وغير منسجمة : ان معظم سياسي العراق اليوم كانوا من العراقيين الذين غادورا العراق لاسباب مختلفة ومنذ فترة طويلة تجاوزت 27 سنة للكثير منهم ,  ومن البديهي ان معظمهم قد فقد اوراقه الثبوتية الشخصية ( كهوية الاحوال المدنية أو وثيقة الجنسية العراقية ) بل ان الكثير منهم قد تخلى عنها واكتسب جنسية دولة اخرى, وهكذا كانت هذه الطبقة هي مجموعة من الاجانب والذي فقدوا انتمائهم للعراق وولائهم لبلدهم الاصلي والغالب الاعم منهم لا يجيد حتى العربية وكذلك اولادهم. كما ان ظروف اللجوء المهينة لدى معظم الدولة المستقبلة لهم قد ارضعتهم حقدا على العراق وشعبه لم يتمكنوا من التخلص منه حتى الان. وكانت اقوى تلك المجموعات هي ( مجموعة ايران ) وجميعهم من التيارات الاسلامية المتشددة, ثم ( مجموعة الولايات المتحدة ) وجميعهم من العلمانيين المتطرفين. وقد افتقدت هذه الطبقة للانسجام المطلوب لادارة الدولة، وغدت كل مجموعة تعمل وفق اولوياتها الخاصة وتسعى لعرقلة مشاريع المجموعات الاخرى، وتعامل الجميع مع الوطن ككعكة يجري اقتسامها ويحاول كل طرف الحصول على قطعة اكبر متناسين ان الاقتسام يقود الى ضياع الدولة. وهكذا وجدنا الوزراء يعملون ضد رئيس الوزراء ، والعكس صحيح . 
2 . قلة الكفاءة : ارتباطا بالسبب السابق , فان معظم هولاء لم يتلقى تعليما متقدما , لان ظروف اللجوء القاسية والانشغال باسباب العيش قد منعتهم من التحصيل الدراسي. وتعويضا عن ذلك فقد حصلوا على شهادات دراسية جامعية والكثير منهم بدرجات علمية متقدمة ( كالماجستير والدكتوراه ) وفي اختصاصات مختلفة . لذا فقد اعتبر العراق في مقدمة الدول التي وجد فيها شهادات مزورة جهات متخصصة محايدة بان هناك (9627 ) شهادة مزورة بحسب وزارة التعليم العالي العراقية في حين قدرتها مصادر غير رسمية ب 30 الف شهادة، وهذا ازاح الكفاءات السابقة وساهم في انهيار الادارة.  وهذا بحد ذاته قد يشكل سببا لسقوط اية دولة مهما بلغت قوتها . وهكذا تجد اختصاصات في غير محلها ، وعلى سبيل المثال فمعظم سفراء العراق من اختصاصات بعيدة عن السياسة الخارجية ، مثل الفيزياء النووية والطب وعلوم الحاسبات ، في حين ظل حملة اختصاص العلوم السياسية ابعد الناس عن السلك الدبلوماسي. وهكذا غاب عنصر التكنوقراط طيلة هذه الفترة.
3 . اولويات شخصية : نظرا لان جميعهم لم يكن يتوقع ان يصل الى هذا المنصب . فان اول ما يفعله هو الحفاظ على منصبه وتوفير الحماية له،لاسيما وان جميعهم قد انقطعت صلاته العائلية والاجتماعية والعشائرية في المجتمع العراقي. لذا فقد ابتكر الامريكان لهم منطقة القصور الرئاسية السابقة لصدام حسين وسميت مجافاة للحقيقة ب ( المنطقة الخضراء ) ضمت الامريكان اولا واتباعهم من هولاء . وبقت هذه الطبقة السياسية معزولة عن الشعب العراقي حتى الان . وبعد ذلك يبدا العمل بالاولويات الشخصية مثل تحقيق ثروة طائلة تعويضا عن حرمان سنوات اللجوء العجاف ، ثم الانتقام من خصوم الامس ، ثم ضمان وسيلة للحصانة من هذه الخروقات سواء اكانت قانونية كالحصانة الدبلوماسية ، او حصانة سياسية من خلال التمسك بجنسية دولة اجنبية لضمان طريق هروب آمن في اصعب الاحوال.
4 .  دستور ملغوم : جرى اعداد الدستور العراقي الجديد على عجل , ورغم كثرة المناقشات والمقترحات والاجتماعات حول هذا الدستور الآ ان العراقيين كانوا في واد والامريكان في واد اخر. لا بل ان الامريكيين كانوا غير ابهين لكل تلك المناقشات والمقترحات والمشاريع المقدمة, لانهم كانوا قد كلفوا استاذا جامعيا امريكيا هو ( نوح فيلدمان ) فهو من مواليد 1970 في بوسطن – ولاية ماساسوتنس من عائلة يهودية متزمتة خريج كلية يال للحقوق , استاذ القانون في مدرسة هارفرد للقانون ( كلية ) , ومتخصص في الفكر الاسلامي ومهتم بالتشابك والتداخل بين الدين والسياسة ويجيد العبرية والعربية والفرنسية الى جانب الانكليزية وله كتاب سقوط وقيام الدولة الاسلامية عام 2008 وهذا ما عكسه في الدستور العراق عام 2005 , حيث وضع خلطة قانونية معقدة . قلنا منذ البداية اثناء احدى المناقشات الدستورية صيف عام 2004 بان هذا المشروع ملي بالالغام التي ستنفجر في المستقبل، وهذا ما اعلنه رئيس الوزراء المالكي عام 2012 . وما زالت المشاكل القانونية التي يثيرها هذا الدستور مستمرة ومنها فدرالية الاقاليم في العراق ( علما ان العراق كله اصغر من مساحة اية ولاية امريكية)، وكذلك مسالة تقاسم الثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط والغاز بين المركز والاقليم والمحافظات. وكذلك مسالة توزيع السلطات والصلاحيات, وغيرها .
5 . تغييب الجيش العقائدي : من المعلوم ان لكل دولة جيشها الخاص، وهو سور الوطن ضد اي تهديد خارجي. وتكمن فائدة الخدمة العسكرية الالزامية ( خدمة العلم ) في توحيد الشعب،  حيث يجمع الجيش كل طوائف الشعب ومكوناته القومية والدينية والمذهبية ومن مختلف مناطق البلاد ليصهرها في بودقة واحدة هي الولاء للوطن، مما يولد روح الوحدة والجماعة داخل المؤسسة العسكرية. وقد جاء القرار الامريكي الذي اتخذه الحاكم المدني في العراق ( بول بريمر ) بحل الجيش العراقي بتداعيات كارثية. فقد بقيت دولة العراق بلا جيش . فهل يعقل اليوم ان تقوم دولة مهما كانت صغيرة دون جيش. وهذا الامر كان مقصودا لضمان عدم انقاذ العراق من الاحتلال والانهيار وهذا ما لمسناه في تجربة مصر عام 2013. لان الجيش هو ذراع الدولة وسندها وسور الوطن . فاصبح العراق بلا ذراع كالمعاق, بلا سور، وغدا الشعب بلا سند. وهذا ما فسح المجال لاجتياز حدود العراق من اي شخص سواء كان ارهابي او حتى صحفي . فاصبح العراق ساحة مفتوحة لكل الارهابيين ومخابرات الدول . وقد روى لي شخصيا احد اعضاء البرلمان العراقي عام 2012 بان على ارض العراق تعمل مخابرات 44 دولة اخرهم هي جيبوتي . وقد لعبت ايران دورا كبيرا في الانتقام من جيش العراق نظرا للحرب العراقية – الايرانية ( 1980 – 1988 ) فقتل القسم منهم وهرب الاخر الى دول الجوار . وتم الاستعاضة عن جيش العراق القوي الذي اعتبر في حينه ( خامس جيش في العالم) بجيش من حديثي السن وغير الموالين للعراق والطامعين في المناصب والامتيازات والرواتب ومنحت الرتب العسكرية اعتباطا. وجرى تسليحه من جديد بعد ان نهبت مخازن السلاح ودمرمعظمه. فاستشرى الفساد بشكل طافح في عقود التسليح ومنها صفقة الاسلحة الروسية السيئة الصيت. وهكذا ضاعت مليارات الدولارات من اموال العراق. ومن البديهي ان جيش بلا عقيدة لا يستطيع المقاومة والصمود. وهذا ما عجل الانهيار المريع في قيادة عمليات نينوى في ساعة واحدة . وبعد 11 سنة ، ظهر بريمر في لقاء تلفزيوني على قناة الجزيرة بتاريخ 24/6/2014 يبدي اعتذاره واسفه لذلك القرار، ويتساءل ماذا يجب عليه ان يفعل الان، هل ينتحر على طريقة الساموراي.
6 . سوء الادارة المدنية ومشكلة (استنساخ المجتمعات) :  لقد عدّ استنساخ النعجة دوللي معجزة علمية توصلت لها البشرية في القرن العشرين . الآ ان العراق قد شهد استنساخا للمجتمعات ايضا . فعندما احتل البريطانيون العراق عام 1917 , اقاموا نظاما ملكيا مستنسخا عن النظام الملكي البريطاني عام 1921. وعندما احتل الامريكيون العراق عام 2003, اقاموا نظاما فدراليا  مستنسخا عن النظام  الفدرالي الامريكي عام 2005 ، وهكذا بقية الادارات فظهرت مفاهيم جديدة في الادارة العراقية يصعب استيعابها كادارة الاقاليم والحكومات المحلية والوزارات المختلفة ومبدا كل جزء من الدولة يشعر بانه مستقل تماما عن المركز حتى في الجيش والميزانية وتقاسم الثروات الطبيعية...الخ. لذا كانت مشكلة تصدير النفط العراقي سببا للتنازع بين المركز واقليم كردستان العراق وكذلك بقية المحافظات.
7 . تقسيم المجتمع الى مؤمنين وكفار: ان واحدة من اخطر ممارسات الاسلام السياسي هي تقسيم المجتمع الى فئتين متناقضتين هما المؤمنين والكفار. وهذا ما قاد الى ملاحقة العناصر السابقة والمنتقدة للوضع السياسي  وادى الى امتلاء السجون ( 31  الف سجين ) العدد الرسمي لوزارة العدل العراقية، في حين ان المعارضة تقول  ان الرقم الحقيقي هو (42 الف سجين ). وهذا الرقم الضخم في الاحصاء العالمي جعل من العراق البلد رقم 11 في قائمة سجناء العالم من بين 178 دولة. وقد ظل معظمهم في الحجز لفترات طويلة امتدت الى 9 سنوات للبعض منهم، اتهم معظمهم بالارهاب. واثناء عملي كمسؤول لملف حقوق الانسان في بعثة العراق لدى مكتب الامم المتحدة في جنيف قد اطلعت على حالة غريبة لشاب القي القبض عليه في الشارع اثناء سقوط بغداد في نيسان 2003 لعدم حمله الهوية الشخصية وكان قد امضى سبع سنوات في السجن، وقد تعذر عليه الاتصال بأهله نظرا لانتقال اهله الى مكان اخر ضمن موجة النزوح الداخلي ، ولعدم وجود هاتف محمول في العراق انذاك، وكان كل مايعرفه عنهم هو عنوان السكن ورقم الهاتف الارضي المعطل. ومن المؤكد ان امثال هولاء هم مادة خام قابلة للاشتعال عند حدوث اي اضطراب امني. ومن البديهي ان تضيع هنا المجموعات الضعيفة كالاقليات، وهذا ما بدا واضحا للعيان الان.
8 . فقدان الشعور بالمواطنة وشيوع الانتماء الطائفي: من المعروف ان القسم الاكبر من المعارضة العراقية لنظام صدام حسين كانت من الطائفة الشيعية التي استخدمتها ايران وامريكا وبريطانيا لاسقاط ذلك النظام . وقد شجعت الدوائر السياسية الامريكية على ابراز مظلوميتهم، فاصدر احد المختصين الامريكيين وهو غراهام فوللر بالاشتراك مع شيعية امريكية من اصل عراقي هي رند رحيم فرانكي كتابا باللغة الانكليزية بعنوان (The Arab Shi’a: the forgotten Muslims). وهكذا فقد استطاع الامريكان ان يعيدوا العراق الى صراعات (سقيفة بني ساعدة) لعام 632 م . وشعر الشيعة بان فترة انصافهم قد حلت وبان الوقت قد حان للاخذ بثأر (الحسين) ، فانطلقوا يبحثون عن (يزيد)، وبدؤا يتصرفون على هذا الاساس ، مما قاد الى شيوع الانتماء الطائفي وانعدام المواطنة. ، وباحتلال العراق عينت رند رحيم سفيرة للعراق لدى واشنطن في تشرين الثاني 2003 . الا ان السلطات الامريكية قد خيرتها بين الاحتفاظ بمنصبها كسفيرة للعراق او الاحتفاظ بجنسيتها الامريكية، ففضلت الخيار الاخير وتركت المنصب في اب 2004 بعد تسعة اشهر فقط. وقد قاد التمسك الطائفي الى ان يحل مفهوم ( المكونات ) بدل مفهوم الشعب الموحد.
9 . فقدان المساءلة القانونية والتطبيق الاحادي الجانب للقانون: ان تمتع غالبية السياسيين بجنسيات اجنبية قد وفّر لهم حصانة من المسؤولية القانونية، وتمكن الكثير منهم من مغادرة البلاد رغم اتهامهم بجرائم مختلفة كالقتل والاختلاس والسرقة. وجريا على التقسيمات السابقة ، فقد غدا تطبيق القانون على المعارضين للنظام الجديد، وانحصر الاتهام الموجه ضدهم ب ( الانتماء للبعث  ) او ( الارهاب ). وبالطبع جرى تزكية الشيعة وتنزيههم من ذلك، بعد التحاقهم بطائفتهم وفقا لتوجيهات المراجع الدينية الشيعية التي افتت بجواز معاونة الكافر على المسلم الظالم في نيسان 2003. وهذا وجدنا العناصر الشيعية البعثية تتبؤا اعلى المناصب ، حتى ان المشرف على رسالة الماجستير لشقيق صدام حسين ( سبعاوي ) قد عيّن وكيلا لوزارة الخارجية رغم احالته على التقاعد قبل الاحتلال بسنوات. ورفض تطبيق قانون احتساب فترة ممارسة المحاماة للدبلوماسيين الصادر عن البرلمان العراقي عام 2007 بحجة انه سيمنح درجات عليا للكثير من البعثيين. في حين ان الكثير من اعضاء البرلمان والقادة العسكريين الشيعة كانوا بعثيين في النظام السابق . وماجرى بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي عام 2011 خير مثال على التطبيق الاحادي للقانون .
10 . الاستخدام السيء للدين : مازال الدين في العراق يلعب دورا كبيرا وخطيرا في حياة الشعب العراقي. وقد وجد السياسيون ضالتهم فيه ، فجرى توجيهه الوجهة التي تخدم مصالحهم. كما ان المؤسسة الدينية قد وجدت مجالا كبيرا للتدخل في السياسة العامة، لذا فالمشهد العراقي ملىء برجال الدين من كل الطوائف وهم يمارسون السياسة بطريقة غير علمية.  فعلى سبيل المثال ، زار سفارة العراق في جنيف وفد من البرلمانيين العراقيين ، واثناء الحديث قال احدهم لي بعد  ان عرف بعملي ممثلا للعراق في الامم المتحدة فقال:  يااستاذ اريد ان تتقدم على جميع الدبلوماسيين في الامم المتحدة وحتى في القاء الكلمة، لاننا نتقدم عليهم انسانيا والهيا. وشع يشرح قائلا: انسانيا لان أدم ابو البشرية قد ولد في العراق، والهيا، لان الامام الغائب المهدي المنتظر سيظهر على ارض العراق. ومن المؤكد ان هذا البرلماني من اصول دينية لايعلم اسلوب ونظام القاء الكلمة والبيانات في الامم المتحدة، وهكذا الاخرون. وقد رأينا، حتى اثناء الازمة الاخيرة ان  الدين  والمؤسسة الدينية تسيدا الموقف لمعالجة التدهور الامني، والاخير اخطر من الاول. وقد يقود الى حرب اهلية لاتبقي ولاتذر.
11. استشراء الفساد : ان ملف الفساد في العراق يدمي القلب، والتقديرات الاولية لحجم الفساد وهدر اموال الدولة والثروة القومية بلغت ارقاما فلكية قدرتها بعض المصادر ب ( تريليون واربعمئة مليار دولار ) خلال 11 سنة الماضية. وهكذا فقد سعى الجميع نحو جمع الثروات باية وسيلة. بدأها الامريكان بعقود هاليبرتون، وسار على نهجها الاخرون. وقضية الفساد في صفقة الاسلحة الروسية عام 2012، وقضية عقود وزارة الكهرباء بلغت 40 مليار دولار، ومازال وزير الكهرباء هاربا في الولايات المتحدة، وعقود اعادة اعمار وزارة الخارجية عام 2009 ، ومصاريف القمة العربيةعام 2012 ، وغيرها الكثير الكثير. لابل ان كاتب هذه السطور كان ضحية كشف احد عقود الفساد في وزارة الخارجية عام 2013.
تساؤل في غير محله :
وبعد كل هذا التخريب، هل يستغرب الدمار؟ ولماذا يتساءل سياسييو العراق من اين جاء هذا الدمار. ان هذا تساؤل في غير محله، لابل ان قيام دولة وفق هذه الظروف والمعطيات امر شبه مستحيل.فما من دولة تستطيع الوقوف على قدميها في ظل كل هذه العوامل الهدامة. وربما يكون هذا هو القصد الخفي من تحرير العراق.  ومما يدعو للاستغراب ان معظم سياسيي اليوم هم ممن اقام في الخارج وشهدوا  حرص تلك الدول ومواطنييها على مصالح دولهم وحفظ اموال بلدانهم حتى لو كانت ضئيلة جدا لابل ان بعضهم يدفعك دفعا لشراء تذكرة باص، في حين تصرفوا في العراق عكس ذلك تماما. فهل هكذا تقام الدول؟ بالتاكيد ان الدول لاتقام بالخيانة والسرقة، بل بالاخلاص والوطنية. وستخبرنا الايام القادمة بقناعة قالتها العرب قديما فمهما طال زمن الخطأ فلن يصّح الا الصحيح.

د. رياض السندي



30
عشية صدور مذكرات كلينتون
                                                                                                         
د. رياض السندي
                                                                                                          دكتوراه في القانون الدولي
                                                                                                           جنيف – سويسرا

اعتذار متأخر ... بعد خراب العراق

       صدرت يوم الثلاثاء 10/6/2014 مذكرات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الاميركية السابقة بعنوان ( خيارات صعبة ) عن دار نشر ( سيمون أند شوستر ) باللغة الانكليزية فيما صدرت مترجمة الى الفرنسية في اليوم التالي الاربعاء 11/6/2014 عن دار فايار للنشر، بعد ستة عشر شهرا من تركها للمنصب . وقد اثارت تلك المذكرات الكثير من الانتقادات حتى قبل صدورها, وبمجرد ان اعلنت محطة ( سي بي اس نيوز ) المالكة لدار نشر المذكرات عن الكتاب المذكور بتاريخ 5/6/2014 . وتضمنت تلك المذكرات احداث السنوات الاربع التي قضتها كلينتون في وزارة الخارجية . ومن تلك الاحداث احداث مصر وسوريا والعراق وليبيا والقرم. ولم تخلو المذكرات من ولع الامريكان بالارقام، حيث ورد انها زارت في تلك الفترة 112 بلدا وقطعت مامجموعه مليون ميل .
    وقد اثار النقاد مسائل كثيرة عن هذه المذكرات, فقد كتب مايك الن ساخرا في ( بوليتيكو ) صباح يوم 9/6/2014 بانه " شخير بلا اخبار , كتب بعناية دون الاساءة بان تغذى فكرة ان السياسة تدخل في كل جزء من حياتها ....، في هذا الكتاب, كما في اغنية ليغو موفي ( الكل رائع )".
   وقبل يوم واحد كان جون ديكرسون قد استعرض الكتاب في صحيفة التايمز يوم 8/6/2014 قائلا : " ان هذه المذكرات قليلة الملح , ومنخفضة الدهون, وبسعرات حرارية منخفضة مع رغوة الفانيليا مثل الحلوى. انها مطولة كثيرا, ولكنها ليست عميقة كثيرا " . وهذا ما سبق ان اعرب عنه بيتر نيكولاس في صحيفة دول ستريت جورنال بتاريخ 5/6/2014 حيث كتب قائلا, بان انتقادات شديدة قد وجهت لكتاب هيلاري كلينتون ( الخيارات الصعبة ) على انه ازمة اخبار مفتعلة .... وانها لم تكشف عن الكثير من الامور سوى ما يتعلق بلقاءها الاول مع باراك اوباما , وخطأ التصويت على حرب العراق والهجوم على القنصلية الاميركية في بنغازي .
   وكتب ميشيكو كاكوتاني في صحيفة ( نيويورك تايمز ) في 7/6/2014 تحت عنوان ( كتاب هيلاري كلينتون " الخيارات الصعبة " يصور كدح السياسة المجرب ) قائلا : ان واحد من عدة اشياء يشترك بها هذا الكتاب مع كتاب مذكراتها السابق ( التاريخ الحي ) لعام 2003, هو تشديد السيدة كلينتون على انها شخص قابل للنمو والتغيير: شخص يقول بانه قد تعلم من اخطاءه السابقة، مثل تصويتها عام 2002 بتخويل القيام بعمل عسكري في العراق . وانها اخطأت. والذي وصفته ( بسهولة وبساطة ) . وان عملها في الخارجية الامريكية كان يكمن في اعادة توجيه السياسة الخارجية الامريكية زمن العولمة .. والمساعدة على استعادة صورة الولايات المتحدة في الخارج في اعقاب حرب الخليج واحادية ادارة جورج بوش .
وكتب زيك ج. ميلر في صحيفة التايم في 8/6/2014: ان هناك اعتذار لها طال انتظاره لتصويتها على حرب العراق.
وفي (بزنس انسايدر ) كتب كولن كامبل مقالا بعنوان ( كتاب هيلاري كلينتون سيدمره النقاد ) في 9/6/2014 قائلا : بان هذا الكتاب قد هوجم من النقاد لانه كتب بحذراكثر من اللازم , لذا فقد جاء سرد تلك المذكرات رتيبا تبعا لذلك .
 وقد ذهب جميع المحللين بان هذه المذكرات القصد منها هو تسويق هيلاري كلينتون لرئاسة الولايات المتحدة لعام 2016 ورغم سؤالها عن ذلك, فقد اجابت بانها لم تقرر بعد . وانه خيار صعب اخر قادم .
اما الصحافة العربية فقد نقلت الخبر بشكل روتيني طافح , ولم تجر اية دراسة نقدية لهذه المذكرات, التي تقع في 635 صفحة ,لشخص قد يتبوء  منصب رئيس الولايات المتحدة القادم .
وما نركز عليه في هذا المقال هو ( خطأ كلينتون حول العراق ) بقولها انها صوتت لصالح قرار الحرب على العراق عندما كانت تشغل مقعدا في مجلس الشيوخ عام 2002 حيث كتبت تقول : اعتقدت اني اتخذت القرار بحسن نية وانني اتخذت افضل قرار ممكن انطلاقا من المعلومات المتوفرة لدي, لكني اخطأت بكل بساطة وبسهولة. مضيفة : ولم اكن الوحيدة التي ارتكبت الخطأ . سوف لن اكون جزءا من عراك سياسي على ظهور قتلى امريكيين .
واذا كانت الحرب خطأ كما تراه كلينتون, وقد سبقها رئيسها جورج بوش عام 2008 عندما أسف لفشل مخابرات بلاده في تقديم معلومات صحيحة حول ترسانة اسلحة الدمار الشامل التي على اساسها اتخذ قرار الحرب على العراق , وعلى ماقدمه سلفها في الخارجية الامريكية انذاك كولن باول الذي اشتهر بخطابه في الامم المتحدة مستعرضا رسوما مفترضة لاسلحة الدمار الشامل والتي تبين فيما بعد بانها غير صحيحة .
وقد اثيرت في حينها مسألة المسؤولية الاخلاقية والقانونية عن تلك الحرب، فما بالنا اليوم ونحن نشهد سقوط ثاني اكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد وهي مدينة الموصل الاثرية ( نينوى ) بيد جماعة ارهابية مسلحة وهروب القيادات الامنية ومحافظ المدينة بعد احدى عشرة سنة من ( تحرير العراق).
وفي رأينا, ان البحث عن الاخلاق أمر صعب ولا جدوى منه في دهاليز السياسة اليوم , وربما سيطول البحث عنها , دون ان نجد لها اثرا حالها كحال اسلحة الدمار الشامل العراقية . ولكن المهم هو انفاذ القانون سواء الدولي والوطني والبحث عن المسؤول أو المسؤولين عن هذا الخطأ الذي يقر به الجميع , ليتسنى للمجتمع الدولي بعد ذلك من محاسبته قانونا على ذلك الخطأ وفق الاليات القانونية المتاحة، ومن بينها اقرار التعويضات عن نتائج هذا الخطأ. فالقاعدة القانونية تنص على ان كل خطأ يستوجب التعويض وازالة الضرر. وهذه هي القاعدة التي طبقت وما زالت على العراق في دفع التعويضات عن الاضرار التي ارتكبها نظام صدام حسين . فهل ارتقى المجتمع الدولي في القرن الحادي والعشرين الى تلك المرحلة، وقد شهدنا العديد من المسؤولين الامريكيين يعترفون باخطائهم متأخرين ويعتذرون عنها علنا, لكنهم يتجنبون الحديث عن المسؤولية القانونية عن ذلك الخطأ الذي قاد الى نتائج مريرة على ارض الواقع. وهنا يبدو واضحا بان التأسف سهل اما التعويض فصعب جدا. فعلى الاقل ان تلك الحرب افرزت ( 138692 ) ضحية من العراقيين بحسب موقع (Iraq body count  ) البريطاني . فهل سيقود هذا العدد الكبير من الضحايا والخراب الذي لحق بالعراق ارضا وشعبا واقتصادا لاكثر من عقد كامل الى محاكمات دولية لمسؤولي الحرب, أم ان ذلك يطبّق على الدول الصغيرة مثل العراق والبوسنة والهرسك وروندا فقط فيما ينجو الكبار من فعلتهم. وهل يدين احد للعراقيين المستقيمين بشيء على تدمير بلادهم ؟


31
بعد مرور قرن على الحرب العالمية الاولى

الاقليات اكثر ارتباطا بالوطن

  ظهر مصطلح الاقليات بشدة في اعقاب الحرب العالمية الاولى وتنامي حركات التحرر القومي والمطالبة بالاستقلال اثر انهيار الامبراطوريات الكبرى ونتيجة لاعلان النقاط الاربع عشرة الذي اطلقه الرئيس الامريكي ويلسون عام 1918، ومنها حق تقرير المصير. وبالتأكيد فقد كان للدول الاستعمارية دورا كبيرا في ذلك، وعلى راسها الامبراطورية البريطانية وروسيا القيصرية وفرنسا، ثم التحقت بها الولايات المتحدة التي دخلت حديثا على ذلك الخط من خلال ذلك الاعلان الرئاسي، الذي حرّض قوميات كثيرة ضمن الدولة العثمانية للمطالبة بالتحرر من ربقة الدولة نتيجة للسياسات الخاطئة والقاسية التي انتهجها السلاطين تجاه رعاياها، فجرى قمعهم بدلا من احتضانهم.                                                   
وبات من المؤكد الان – وبعد مرور قرن على تلك الاحداث- ان الغاية الخفية من ذلك هو تقسيم الامبراطوريات الكبرى ومن بينها الامبراطورية العثمانية، واقامة دولة لليهود. ولاجل تحقيق ذلك، فقد بذلت الدول الاستعمارية وفي مقدمتها بريطانيا وعودا كثيرة لقوميات واقليات عديدة، لم يجري تنفيذ معظمها، كتلك الممنوحة للعرب اولا في نقل الخلافة الى العرب واقامة دولة عربية واحدة مستقلة. وهكذا نجد ان الشريف حسين قد اعلن ثورته في 10/6/1916 واعلن نفسه خليفة للمسلمين عام 1922. وكذلك، فقد منح الاكراد وعدا باقامة دولة كردية، فاعلن الشيخ محمود الحفيد ذلك ولقب نفسه بملك كوردستان عام 1919. وعلى غرار ذلك، فقد منح الارمن والاشوريون وعدا بالاستقلال. وكانت نتيجة ذلك، ان دفعت تلك القوميات والاقليات تضحيات كبيرة وقاسية لتلك الوعود الجوفاء، فدفع الارمن اكثر من نصف مليون ضحية، ودفع الاكراد مثلهم الالاف من الضحايا، ودفع الاشوريون ستون الف ضحية من جراء نزوحهم من مناطقهم في تركيا وايران الى العراق .                                       
والحقيقة التي لم يدركها الجميع انذاك, ولم يصغ لها الحكام حتى ضيعت دولا كبيرة من جرائها, الآ وهي ان الاقليات يمكن ان تلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية لاي بلد رغم قلة عدد افرادها , لا بل ان تسييس مسألة الاقليات كانت من اولى سياسات الاستعمار بشقيه القديم والحديث, وان الاقليات التي تعودت على التضحية دوما لهي اكثر ارتباطا بالوطن من الاغلبية المنتفعة والتي غالبا ماترى انها صاحبة حق في الوطن بلا منازع، باستثناء من اتى ربه بقلب سليم كرئيس الوزراء الاسبق الخالد عبد المحسن السعدون، وان احتجاجات الاقليات كانت وما تزال بقصد تصحيح الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلدانها والتي كان بمقدور الحكام معالجتها بدلا من قمعها . وان ردود افعال الحكام تجاه هذه الاقليات هو الذي رسم الخارطة السياسة لتلك الدولة مستقبلا. وقد راينا ان دولا عديدة قد انقسمت على نفسها من جراء سياساتها الخاطئة تجاه القوميات والاقليات التي كونت دولا جديدة .والامثلة على ذلك كثيرة, مثل الدولة العثمانية ويوغسلافيا والسودان, وبعضها على الطريق . وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى, نتائج تلك السياسات الخاطئة, فردود الافعال المتشنجة للدولة العثمانية تجاه الارمن والاشوريين والاكراد قادت الى تقسيمها, فظهرت دولا جديدة كالعراق والحجاز وغيرها. وقد اوجدت الدول الاستعمارية سيناريوا خاصا لمثل هذه الحالات يتمثل في مراحل متلاحقة هي : تحريض الاقليات على المطالبة بالحقوق, ثم تشجيع دولة الاصل ودفعها الى الانتقام منهم, واخيرا اقتراح الاستفتاء ، الذي ستكون نتائجه محسومة قطعا لصالح الانفصال.
 واثناء عملي لدى مكتب الامم المتحدة في جنيف اتيحت لي الفرصة للاطلاع على ارشيف عصبة الامم . ولاهتمامي بتاريخ العراق فقد اطلعت على كل الاف الوثائق المتعلقة بدولة العراق وظروف تاسيسها وقيامها. ومن خلال تصفحي لنتائج الاستفتاء في قضية الموصل وجدت بان ما يثير الانتباه, هو انطباعات القسوة التي مارستها الدولة العثمانية تجاه رعاياها من تلك الاقليات، ورسائلهم الى اللجنة  الاممية المشكلة حول مسالة الموصل تزخر بصور معاناتهم وعذاباتهم ومخاوفهم من عودة العثمانين لحكمهم. وهكذا فقد كان هاجس هذه الاقليات هو الخشية من العودة الى الخضوع لحكم الاتراك ثانية, لا بل ان معظمها تشترط البقاء تحت حماية البريطانيين حتى في ظل حكم عربي . وهكذا فقد ايدت الانفصال عن الدولة العثمانية كل تلك الاقليات من العرب الارمن والاشوريين والاكراد وحتى اليهود . والجميع يدور ضمن خطة استعمارية بعيدة المدى . الآ انهم سرعان ما ادركوا ان الاستعمار لم يأت لسواد عيونهم, بعد ان تنصل لوعوده لهم، وهكذا نجد ان الاشوريين ظلوا يرددون عبارة ( الخيانة البريطانية للاشوريين ). وظهر الجيل التالي من العرب وهو يحمل كره خاص للبريطانيين تمثل في الملك غازي واتباعه, وادرك  الاكراد ان البريطانيين لن يحققوا احلامهم  ولن يفوا بوعودهم لهم فانطلقوا يبحثون عن نصير اصدق وأوفى .
وهكذا, فقد نجد انه وبمجرد ان قامت دولة حديثة على انقاض الدولة العثمانية حتى سارعت جميع تلك القوميات والاقليات – دون استثناء – الى ان تشمر عن سواعد الجد لبناء الوطن مفعمين بروح المواطنة الصادقة, التي غابت عن الاغلبية.   
   وهكذا نجد ان مسيحيو العراق اول من اسرع لبناء الوطن على الرغم من انهم كانوا ضحية التاريخ دوما وحملوا في اعناقهم ذنوب الاخرين. فكان الاب انستاس الكرملي حامي حمى اللغة العربية وحامل لواءها , ومجلته ( لغة العرب ) اشهر مجلة قبل تاسيس دولة العراق ومابعدها. ويكفي ان نذكر بان اول وزير صحة عراقي هو الدكتور حنا افندي خياط ، الذي استوزرفي الوزارة النقيبية الثانية في 12/أيلول 1921. وكذلك الصحفي روفائيل بطي صاحب جريدة البلاد والنائب عن اليصرة في البرلمان العراقي. وكذلك السياسي يوسف غنيمة النائب في البرلمان العراقي, ومريم نرمة اول صحفية عراقية وصاحبة جريدة ( فتاة العرب ) 1937 ، التي وقفت موقفا شجاعا من السفارة البريطانية في بغداد عندما رفضت ان تكون منبرا لهم وفضلت الخسارة المالية واغلقت صحيفتها ودفعت ثمنا لموقفها الوطني  من الاستعمار البريطاني بعد ان رفضت اغرائها بالمال. وبولينا حسون التي اصدرت اول مجلة نسوية عراقية هي ( ليلى ) عام 1923، وهي رائدة الصحافة النسائية العراقية، والتي اضطهدت كثيرا, فتركت العراق وذهبت الى الاردن. والى جانب هولاء كان هناك العديد من المفكرين والاطباء والمهندسين والمحامين والشعراء والفنانين ويكاد لا يخلو اي مجال من مجالات الحياة من هذه الاقليات وانجازاتها .    وكانت احدى العوائل المسيحية المعروفة في الموصل  ( عائلة سرسم ) تقتخر بانها قد انجبت اكثر من مئة طبيب لدولة العراق. وقد  جمع سهيل قاشا في كتابه مسيحيو العراق لعام 2009 الكثير من تلك الانجازات والمساهمات القيمة.   
وعلى غرار ذلك، نجد ايضا اخلاص يهود العراق للمملكة العراقية الحديثة, حيث لعب ابناء الطائفة اليهودية دورا مهما في عملية الاعداد لتأسيس  الدولة العراقية الحديثة في العام 1921, فقد كانوا من الطبقات المتعلمة والمثقفة في العراق انذاك .... وقد استوزر ساسون حسقيل، وهو من يهود العراق كاول وزير للمالية لمملكة العراق ضمن تشكيلة الوزارة النقيبية الاولى التي شكلها عبد الرحمن النقيب عام 1921. لابل عدّه مازن لطيف في كتابه يهود العراق لعام 2011 ، بانزه وزير عراقي.
وقد ساهم ساسون حسقيل الوزير العراقي المخضرم ببناء اقتصاد العراق وماليته على اسس رصينة, كما كان مفاوضا عنيدا وصاحب نظرة استشراقية في مفاوضات العراق مع شركات النفط البريطانية, حيث جلبت سياسته ومواقفه الوطنية واردات كبيرة للعراق، عندما اشار على الوفد العراقي المفاوض في مفاوضات النفط مع الانكليز الى اضافة كلمة (ذهب) على جملة (اربعة شلنات) عند احتساب عائدات النفط، بينما جلبت  لساسون غضب البريطانيين, وعدم رضاهم على استيزاره لاحقا , لكنه ظل فعالا في مجلس  النواب العراقي . واليه يعود الفضل في اصدار اول عملة عراقية وطنية بالاشتراك مع يهودي اخر هو ابراهيم الكبير مدير عام المحاسبة المالية انذاك في عام 1932 ، لتحل محل اليرة التركية والربية الهندية.  وكان النائب ابراهيم حاييم (1876 – 1952 ) وهو من يهود العراق ايضا احد اعضاء الوفد النيابي المكلف بالعمل على ادخال العراق في عصبة الامم عام 1932. وما زال العراقيون يتذكرون الفنانة سليمة مراد والفنان صالح الكويتي والصحفي انور شاؤول والمؤرخ مير بصري وغيرهم الكثير . وممن الجدير بالذكر ان اخر يهودي غادر العراق بعد  سقوط بغداد ودخول القوات الامريكية. لقد كانت الاقليات بحق حاويات فكر ومعرفة. ومازلت اتذكر كيف ان  الرئيس احمد حسن البكر قد طلب احدى راهبات ثانوية العقيدة في بغداد عام 1969 لتترجم لوفد فرنسي كان يزور العراق انذاك. وهذا يدل على ندرة المتحدثين بهذه اللغة من العراقيين حتى ذلك العهد المتأخر من تاريخ العراق.
وما يقال عن المسيحيين واليهود يمكن ان يقال عن طائفة الصابئة المندائيين على قلة عديد افرادها. فقد انجبت هذه الاقلية العراقية الراسخة اول رئيس لجامعة بغداد العريقة لعام 1958 الا وهو الدكتور عبد الجبار عبد الله، الذي اعتقل اثناء انقلاب 8 شباط 1963، على يد مجموعة مسلحة من الحرس القومي انذاك ومن بينهم طالب فاشل لديه في قسم الفيزياء، الذي ضرب استاذه قائلا: اطلع دماغ سز( اي اخرج ايا الغبي) وانتزع من جيب سترته قلم الحبر من الياقوت الاحمر كان قد اهداه العالم المشهور اينشتاين له اثناء دراسته في الولايات المتحدة. 
وبعد الاحتلال الامريكي في عام 2003, فان الاقليات العراقية من المسيحيين والصائبة واليزيدية قد دفعت ثمنا باهضا وصل الى حد تفجير الكنائس وقتل رجال الدين، مما دفع الكثير منهم الى الهجرة خارج العراق, مما اثار مخاوف انهاء وجودهم في ارض الرافدين.
وبعد مرور قرن كامل على قيام الحرب العالمية الاولى, فقد اثبتت الاقليات بانها اكثر ارتباطا بالوطن بعد الدرس القاسي الذي تلقته, حيث نجد ان الاقليات قد وعت الدرس جيدا وادركت تماما بان وجودها مستهدف, وان الدول الغربية – ومهما اختلفت الحجج والدوافع – فانها تسعى لافراغ الشرق الاوسط من الاقليات. وبدأت الكنيسة في العراق تدعو اتباعها الى التمسك بالارض والوطن. فهل سينجح هذا الدواء في وقف هذا النزيف المستمر. وان الغرب يدرك ذلك جيدا, لذا نجده يسعى الى تشجيع الهجرة الى الخارج، مما يعرّض هذه الاقليات للذوبان في تلك المجتمعات الكبيرة والتشتت في دول العالم المختلفة والمتباعدة, وقد تحقق لها ذلك بالنسبة لليهود العراقيين الذين تم اخراجهم من العراق بطريقة دراماتيكية معدة سلفا, ساهم فيها عراقيون دون ان يدركوا ابعادها، لغرض ارسالهم الى الوطن الجديد بدافع استعماري بحت . وما جرى على يهود العراق يجري اليوم على  المسيحيين والصابئة المندائيين واليزيدية وغيرهم, وسيظل الحال هكذا حتى قيام حكومة وطنية تنظر الى شعبها كافراد اسرة واحدة لا تفرق بينهم , وهذه امنية الجميع . 

د. رياض السندي
oshana_iraq@yahoo.com
                                                                                                 
 

صفحات: [1]