عقوبات غريبة طالت عوائل عنكاوية من قبل أمن صدام حسين
لطيف نعمان سياوش في مسعى الكتابة عن هذا الموضوع المهم دأبت ابحث عن خفايا بعض الاحداث السياسية المهمة ، ومن أجل الوصول الى الحقائق صرت تارة اعتكف على جمع المعلومات من عدد من العوائل العنكاوية التي تعرضت للظلم في اواسط الثمانينات عندما كانت الحرب العراقية الايرانية مستعرة وعلى اشدها ، واخرى استعين بذاكرتي المنهكة التي فقدت بريقها .. لأوثّق بعض الاحداث المثيرة واثبتها لتطلع عليها الاجيال قبل ان يعلوها التراب و تصبح طي النسيان ..
قام رجال دائرة أمن عنكاوا بملاحقة العديد من البيوت التي تنصل ابنائها من المشاركة في الحرب العراقية الايرانية وفروا الى الجبال ، وانتموا الى صفوف البيشمركة تاركين وراءهم عوائلهم التي صارت تعيش القلق والخوف .. الخوف على مصير ابنائها الذين لايمكن لأحد أن يتكهن ما يضمر لهم المستقبل من مفاجئات في غمار التجاذبات السياسية والعسكرية والامنية التي جعلت السلطة تستنفر كل وسائلها من أجل ملاحقة اي جندي هارب من الخدمة العسكرية ..
إن البيشمركه لم يكونوا في مأمن من تلك الصراعات فهم في تلك الحقبة عاشوا أكثر ايام النضال صعوبة لأنهم كانوا بين فكي كماشة .. من هنا يلاحقهم الجيش والامن الصدامي ، والقصف المدفعي الميداني، والصواريخ من الجو، ومن هناك تارة الرياح الصفراء للجندرمة الاتراك واخرى حرس خميني والجيش الايراني ..هكذا اختلط الحابل بالنابل وتشابكت الامور ، وعجزت حتى الشياطين معرفة موعد نهاية الحرب المستعرة.
اساليب مبتكرة في ملاحقة الفارين من الجيشعلى خلفية التقارير السرية الدقيقة التي رفعها وكلاء الامن ممن نعرفهم جيدا وهم من سكنة المنطقة نفسها، وتعاون المخاتير (جمع مختار) معهم، تم تشخيص العوائل التي فر ابنائها الى المنطقة الجبلية ، وانضموا الى صفوف قوات البيشمركة ..
قامت دائرة أمن عنكاوا بملاحقة تلك العوائل بشتى الاساليب سواء بأستجوابها الدوري لجمع المعلومات ، أو ملاحقتها في أدق الامور واستفزازها بين فترة واخرى عن طريق تبليغهم بواسطة مختار المحلة المؤتمن واستدعائهم لدائرة الامن ، وطلبهم صور حديثه لأبناهم الفارين من الخدمة العسكرية.
هذه المرة كانت العقوبة غاية في الغرابة والظلم عن طريق قطع خدمات الكهرباء، والماء ، والهاتف من بيوت تلك العوائل ..
كان ذلك في اوائل تموز 1985 ولنا أن نتصور مدى صعوبة الامر عندما يحرّم الانسان من اهم الخدمات في عز الصيف ..
استمر قطع الخدمات 45 يوما. احتارت العوائل اين توجه قبلتها. إنها فقدت بوصلتها لأن أقرب المقربين منها صار يشيح وجهه عنها كونه يرتعب خوفا من إيوائهم خشية ان تطالهم عقوبات ومسائلات السلطة الغاشمة ..
هامت تلك العوائل على وجهها تجوب الشوارع والازقة، وتطرق الابواب متوسلة بالمعارف والاصدقاء علها تحظي بمأوى ولو لبضعة ايام وربما سويعات يعتورها الرعب والقلق وهي تترقب مستقبل مجهول أقل مايقال عنه انه أسوأ كارثة حلت بهم ، لاسيما العوائل التي لها بنات شابات فأن ظروفها تفوق صعوبة وتعقيدا ..
العوائل العنكاوية المشمولة بالعقوباتعيسى عودا عجمايا
يوسف منصور يوسف معمار (زوج برباره توما نعمان)
بهنام بطرس كوندا
الياس هرمزعجمايا
يوسف هرمز شمعون
جلال يوسف هرمز
برباره هرمز شمعون
حنا يوسف إيشوع
نجيب روكسي عقراوي
ربما توجد عوائل اخرى تخونني الذاكرة من تدوينها فعذرا لهم ..
تشريد وتهجير العوائلتم تشريد وتهجير بعض العوائل التي كان النظام قد تيقن تماما من معارضتها له وهي :-
الراحل صباح يوسف إيشوع ، ولم يشفع له حتى عوقه كونه رجل ضرير!!
سليمه رحيم زوجة حنا يوسف ايشوع ، ولم تشفع لها حرمتها كونها إمرأة قاصر ..
يقينا هناك عوائل اخرى لم افلح في تشخيصها وذكرها برغم سعي الحثيث للبحث عنها وتوثيقها .. انا اذكر هنا فقط العوائل التي تقطن عنكاوا ، ونتفق جميعا بأن ماخفي كان أعظم..
القصة المثيرة للراحلة برباره توما نعمانهي والدة الراحل ناصر يوسف منصور ، وجورج وكان الاخير بيشمركه في صفوف الانصار .. مرت سنين على الام برباره لم تر ابنها الذي تتواصل معه بصعوبة وسرية بالغة من خلال الرسائل في فترات متباعدة جدا ..
شدها الحنين ومزقها الشوق لرؤية فلذ كبدها وقررت ان تكحل عينيها برؤيته مهما كلف الثمن وكبرت المغامرة . كيف لا وهي الام المتيقنة من ظروف العيش الصعبة بين الجبال الشاهقة والوديان السحيقة لاسيما ايام الشتاء القارص فضلا عن المخاطر المحدقة بالبيشمركة التي تهدد حياتهم في اية لحظة ..
كانت الراحله تتمتع بذكاء وفطنة تؤهلها من خوض هكذا مغامرة ، لكنها ربما لم تدرك عواقبها في حال القوا القبض عليها ..
قد تكون احدى أهم اسباب المغامرة بتلك الرحلة لأن دار ابنها الراحل ناصر يوسف متاخم لدائرة الامن في عنكاوا وكأن لسان حالها يقول أنا أأتمن عدم ملاحقة أمن عنكاوا لي لكونهم جار ولدي ، وكانت كلما تمر من هناك تسلم عليهم وهم يكنون لها الاحترام لأنها إمرأة مسنة وأم جارهم، وصار جميع الحراس ومنتسبي الامن يعرفها...
عوده لمربط الفرس حددت الأم برباره يوم الرحيل هي وابنتها الشابة فاتن .. هيأت للعزيز جورج مالذ وطاب من مأكل ومشرب اتذكر بعضها :- (قنينة ويسكي – كليجة من إيد نانا – كبة حلب من إيد الاخت فاتن . إضافة الى زجاجة مربى، واخرى طرشي) ، وحرصت ان لايكون حملها ثقيلا ، ثم شدت الرحال ..
افلحت نانا برباره بدهائها من عبور جميع سيطرات الجيش في الطريق الى الجبال الوعرة .برغم انها كانت كلما تصل سيطره يخفق قلبها .. وهي لا تعلم هل ان قلبها يخفق من شدة الخوف من السيطره ام لأنها باتت على مقربة من فلذة كبدها؟..
انها تصلي طوال الطريق وتردد مع نفسها متسائلة :- يا إلهي هل سألتقي بأبني واشمه واقبله واضمه الى قلبي وهي تذرف الدموع بغزارة .. تستأنف بداخلها قائلة :- انا سعيده لأنه سيأكل من يدي ما حرمته السنين العجاف منه ، وسيتقاسم الطعام ويحتسي الخمر مع رفاقه ونخب أمه وأخته هذه الليلة..
إنها السيطرة الاخيرة، لو أفلحت في العبور ستكون بعد دقائق على مشارف سيطرة البيشمركه الانصار ..
لكن لسوء حظها صادف وجود أحد عناصر أمن عنكاوا من العرب في تلك السيطره وهو يعرف جيدا أم ناصر..
قال لها مستغربا:- هااااا أم ناصر هاي شدتسوين اهنا ؟!!
وارتبكت الأم برباره مرتعبة ، شكك أفراد السيطره بنوايا ركاب تلك الحافله نتيجة ذلك الارتباك والخوف ، فقاموا بتفتيشهم بدقة فردا فردا، وجردوهم من كل ما كانوا يحلمون بإيصاله للبيشمركه ..
جماعة السيطره استكلبوا أكثر عندما عثروا على سماعة طبية في حقيبة أحد الركاب مع مجموعة من العقاقير والادوية .. تيقنوا بأنهم ينوون نقلها الى المقاتلين البيشمركه هناك ..
بعد زجر المسافرين واهانتهم ..أمروا السيارة بالعودة فورا من حيث أتت !.
لاشك فيه ان المسافرين في تلك اللحظة كانوا محظوظين لأن رجال السيطره اكتفوا بهذا القدر من الاساءة اليهم ، ولم يستدرجوهم الى المراجع الامنية الاكثر فضاضة وقساوة ..
لم تشفع تضرعات نانا برباره بمريم العذراء والقديسين ، ولا جيرة ابنها لدائرة الامن ، كما لم تشفع لها فطنتها بالوصول الى ابنها ، فعادت فزعة خائبة وهي تضرب كفا بكف تندب حظها، وتبكي طوال الطريق ..
راحت الأم بالصلوات، وعادت بالدموع والبكاء خائبة ومنكسرة.
إنها واحدة من صفحات شقاء الأمهات العراقيات وعذاباتهن التي لن ينساها التاريخ مهما مرت به السنون ..
عنكاوا