عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - نجاة تميم

صفحات: [1]
1
                                     
العنف الرمزي وإخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال
جزيرة كارباثوس أنموذجا

بيرنار فينيي *
ترجمة وإعداد: نجاة تميم 


   أود أن أبدأ  باقتباس من كتاب بيير بورديو الموسوم "منطق الممارسة": "العنف الرمزي هو ذلك العنف الذي يفرض خضوعا، لا ينظر إليه كخضوع، وذلك لأنه يعتمد على ما تتوقعه الجماعة من خلال معتقدات مغروسة اجتماعيا. كما أن نظرية العنف الرمزي ترتكز على الإيمان أو على نحو أفضل، على نظرية إنتاج المُعتقد، وعلى عملية التنشئة الاجتماعية اللازمة لإنتاج عوامل تتمتع بأنماط الإدراك والتقدير التي ستمكن المهيمَن عليهم من إدراك الأوامر الزجرية المتداولة التي يجب أن يُطيعونها".
   يبدو لي أن إحدى الطرق الجيدة لجعل مفهوم العنف الرمزي مفهوما، هو إعطاء، في الوقت نفسه، فكرة عن المدى المحتمل لمجاله التطبيقي، يمكن أن يكون من خلال تقديم سلسلة من أمثلة ملموسة، ومواقف بسيطة ومتنوعة بما فيه الكفاية حيث يمكن تطبيق العنف الرمزي فيها. سآخذ هذه الأمثلة من مجتمع عملت فيه لفترة طويلة كإثنولوجي وسأطبق ما تعلمته من بيير بورديو، خلال دراستي الجامعية في مدينة ليل. هذا سيجعل من الممكن إظهار تنوع الآليات التي يتم التعبير عنها، داخل نفس المجتمع، لممارسة هذا العنف الرمزي والحصول على خضوع، غير مُدرك على هذا النحو، للمهيمَن عليهم ولكن هذا سيوفر أيضا ميزة التأكيد على الطابع التعسفي للحدود الاثنولوجية| الاجتماعية التي تعد واحدة من أهم العقبات التي تعترض تطوير العلوم الاجتماعية من خلال الحد من تنافس الأفكار داخل المجال العلمي.

جزيرة كارباثوس أنموذجا

   كان رجال ونساء جزيرة كارباثوس اليونانية، في بحر إيجة، قد نظموا توريث أملاكهم من جيل إلى جيل، حسب مبادئ، تبدو فريدة من نوعها في أوروبا. حتى خمسينيات القرن العشرين، اتسمت العلاقات العائلية بالهيمنة والاستغلال، مفضلين الأبناء البكر من الجنسين على إخوانهم وخصوصا على أخواتهم الأصغر سنا. فهذه العلاقات تجسد عنفا كبيرا، بحسب بورديو. إن نظام القرابة الذي ينظمهم يتميز بوجود أحقية الابن والابنة البكر في الميراث. على عكس ما كان موجودا في جزء كبير من أوروبا في ظل النظام القديم، كان في هذه الجزيرة وريثان لكل أسرة. يرث البكر من الذكور جميع ممتلكات والده (منزل، أرض، طاحونة، مصلى خاص، إلخ) وترث البكر من الإناث من جميع ممتلكات والدتها. كان هذا النظام يسمح لخطين جنسانيين، الذكر والأنثى، منفصلين بوضوح، بالتكاثر من جيل إلى جيل اثناء إعادة إنتاج وضعهما الاجتماعي؛ حيث يتم نقل الميراث الجنساني (من الجنس نفسه) بطريقة متكاملة إلى الطفل من الجنس المقابل. أما الأبناء الآخرون، فيحرمون من الميراث. وتضطر أغلبية الإخوان الأصغر سنا إلى الهجرة. أما أغلبية الأخوات الأصغر سنا فيبقين عازبات مدى الحياة. يعملن كخادمات أو عاملات في الحقول بدون أجر للثنائي البكر (الأخ أو الأخت).
    يمكننا وصف علاقات البكر (ذكرا أو أنثى) بالأصغر سنا بالأدوات المفاهيمية الماركسية: يستغل البكر من كلا الجنسين، وهم أصحاب وسائل الإنتاج (الأرض، إلخ) أخواتهم الأصغر سنا، ولأنهن مضطرات من أجل العيش، فإنهن يقدمن مقابل ذلك جهدهن في العمل (كأيدي عاملة). كان هذا الاستغلال شرسا بشكل خاص مقارنة بالاستغلال الذي وصفه ماركس في المجتمعات الرأسمالية. ففي هذه المجتمعات كان الراتب الذي يتقاضاه البروليتاري مقابل قوة عمله يسمح له على الأقل بتأسيس أسرة وإعالتها. كان للبروليتاريا أسلوبها المستقل في التكاثر البيولوجي. أما في مجتمع كارباثوس، فهذه العلاقات الاستغلالية لم تسمح للفتيات الصغيرات ببناء أسرة. هنا كانت المجموعة المهيمِنة من الأبناء البكر الذين، من خلال استنساخ أنفسهم، وازدياد أعدادهم بيولوجيا، ساهموا، في الوقت نفسه، في إعادة إنتاج المهيمَن عليهن، اللواتي هم في حاجة لخدماتهن.
   في كلا النوعين من المجتمع، يتم إعادة إنتاج هيمنة المسيطَر عليهم، قبل كل شيء في المجال الاقتصادي. ولكن إذا كانت التبعية القانونية الاقتصادية للفتيات الأصغر سنا كافية لإجبارهن على العمل من أجل إخوانهن وأخواتهن البكر (بنفس الطريقة التي حكمت بها التبعية القانونية الاقتصادية للبروليتاريين، المستبعدين من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لتوظيف قوتهم العاملة)، فهذا لا يفسر سبب موافقة الأخوات الصغيرات على البقاء في القرية في ظل ظروف استغلال قاسية جدا. والسؤال:" لماذا لم يحذون حذو إخوانهن الذين فروا من الهيمنة العائلية وهاجروا القرية؟
      لفهم هذا اللغز، يجب أن نترك موقف العالِم الذي يحلل الأشياء بشكل موضوعي وعن بعد، كما يسميها بورديو "موضوعية"، وعلينا أن نهتم بالأخوات الأصغر أنفسهن، ونعتبرهن أشخاصا، لديهن مشاعر وإرادة، ونتوجه إلى تجربتهن الحية.  ونتساءل كيف ينظرن إلى أنفسهن وكيف يعشن أوضاعهن. فإذا بقين في القرية ووافقن على العمل في مثل هذه الظروف، يبدو أنهن لم يرين استغلالهن بهذه الطريقة ( فهن، إذا ضحايا ما يسميه الماركسيون ظاهرة الوعي الزائف)، يعشن حياتهن ويعتقدن بأن مصيرهن أمر مسلم به.

العنف الرمزي وإخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال

   يمكننا الآن إعطاء محتوى دقيقا للمفهوم الذي انطلقنا منه. يشير العنف الرمزي إلى كل ما جعل في هذا المجتمع إخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال ممكنا على هذا النحو؛ وبشكل أعم، كل ما جعل الفتيات الأصغر سنا (بصرف النظر عن التبعية القانونية والاقتصادية الصارمة) خاضعات، يعشن مصيرهن كأمر طبيعي، أي شرعي.
     هناك، أولا، الوزن الهائل للتقاليد. فهذه الأخيرة هي مصدر قوي لإضفاء الشرعية على التعسف في جميع مجتمعات ما قبل الرأسمالية، (وما زالت قوية في مجتمعاتنا التقليدية وتتجلى في زواج أبناء العم مثلا). يكفي أن يكون هذا السلوك موجودا في الذاكرة الحية ليبدو شرعيا. فالفتيات الأصغر سنا يدركن بالكاد تعسف مصيرهن. لأنه، في جميع الأوقات، هو نفس السلوك المتداول والمتعارف عليه وبالتالي كان يبدو لهن كأنه مصير طبيعي. وبتعبير أدق، كن يجدن صعوبة في إدراك استغلالهن على هذا النحو، ولكي يتمكن من أن يقلن لأنفسهن "أنا مستغلَّة"، يجب عليهن أولا التفكير في مقارنة الأجر الذي يتلقيانه مع العمل المقدَّم. من الضروري أن يكن قادرات على الحساب بمنطق اقتصادي صارم. كان الأمر مستحيلا هنا، لأن الفتيات لم يتلقين أي أجر على عملهن. وغياب دفع الأجور مقابل أعمالهن منعهن من التفكير من منظور اقتصادي بحت، وبالتالي منعهن من إدراك استغلالهن.
     لقد أدركت النّسَويات أن مؤسسة الأسرة تخفي كفاءة غامضة ورائعة؛ فالعمل الذي تنفذه هؤلاء الفتيات لا يُدرك أبدا وفقا لمنطق اقتصادي بحت. فهذه الخدمات التي هي اقتصادية بشكل موضوعي وتتم داخل هذه القرية (هنا عمل الفتيات)، تخضع تلقائيا لعملية تحويل حقيقية؛ فإنها تتحول إلى إشارات وإثباتات على الإخلاص أو المودة أو الحب. فإذا كانت مؤسسة الأسرة قد لعبت دورا أساسيا في هذا العنف الرمزي تجاه الفتيات الأصغر سنا، فإن عدم تقدير عملهن اقتصاديا هو إنكار اقتصادي بحد ذاته وهو الذي ساهم في عدم وعيهن بالاستغلال الاقتصادي الذي كن ضحاياه.
     أما التأثير الأكثر تطرفا لاستغلالهن هو بقاؤهن عازبات. حُكم عليهن باستثمار كل المودة في خدمة الأخ أو الأخت البكر وأولادهم، لدرجة أنهن يهدين المال، في حالة حصلنا عليه من خلال عملهن عند أسر أخرى إلى أطفال إخوانهن البكر وذلك بكل عفوية وسرور. وهذا يعني مدى تهميشهن الاقتصادي وكذلك العاطفي.
     وإذا كانت الأخوات الأصغر ينظرن إلى خضوعهن على أنه أمر بديهي وليس قيدا مفروضا، فذلك يرجع إلى أن نظام القرابة، الذي نظم علاقات القرابة العملية، قد نقش في ذهنهن وبعمق فكرة دونيتهن. كما أن القرية بكاملها تمارس هذا العنف الرمزي في الحياة اليومية. فالفتيات يلقين نفس المصير في كل العائلات، ويمكنهن التحقق من أن مصيرهن مصيرا طبيعيا، وأنه يتوافق مع ترتيب الأشياء في الواقع المعاش. يمكنهن أن  يرون أن مصطلح "دولا" ويعني عبدة، كان يُستخدم وبسهولة للإشارة إلى الأخوات الأصغر سنا؛" i doula tis Ernia” " أي عبدة إرنيا.
     من المفهوم، لاستئناف الاقتباس المقدم في البداية، أن الأخوات الأصغر سنا "مزودات بأنماط الإدراك والتقدير التي ستسمح لهن بإدراك الأوامر (تلك الخاصة بالأخت البكر على سبيل المثال) مدونة في موقف أو في خطاب وذلك لطاعتها". هذه الأنماط من الإدراك والتقدير، التي تم اكتسابها تدريجيا خلال عملية التنشئة الاجتماعية متعددة الأوجه، هي التي تجعل الأخت الصغرى في كل لحظة وفي كل موقف تعرف ما يجب عليها فعله لأختها البكر، حتى قبل ان تتفوه هذه الأخيرة بذلك.
     وكما يقول الكثيرون وبورديو ايضا، فإن جميع المجتمعات التي تمر بعلاقات الهيمنة تميل إلى إضفاء الشرعية عليها من خلال تطبيعها وتأسيسها في الطبيعة. وكان هذا هو الحال أيضا في كارباثوس. كان يُعتقد ان الأخوات والإخوان الأصغر سنا هم (apospori) ؛ منتج السائل المنوي الجنسي ذي النوعية الرديئة.

   في حالة العنف الرمزي، بحسب بورديو، كانت المشكلة الاجتماعية ( ولكن السياسية أيضا) التي يتعين حلها هي: لماذا يوجد تمرد قليل في عالم ما زال يتسم  بالكثير من عدم المساواة والظلم، كما يتضح من علاقات الهيمنة و| أو الاستغلال بين الطبقات الاجتماعية، بين الرجال والنساء، بين الأبناء البكر والأبناء الأصغر منهم سنا (في المجتمعات ذات الحقوق المكتسبة للأبناء البكر)، بين سكان الحضر والفلاحين، بين الملك والشعب، إلخ.
   الجواب الأول على هذا السؤال: يمكن لمن هم في موقع مهيمِن استخدام القوة الجسدية البسيطة أو المسلحة لمنع أي تمرد. فإن الدولة في مجتمعاتنا (Weber) تحتكر الممارسة المشروعة للعنف الجسدي. نحن نعلم أنه ليس من غير المألوف أن تستخدمه  لإخماد التمردات الاجتماعية وبالدم.
* أستاذ بجامعة ليون 
المصدر
       Bernard Vernier, «Violence Symbolique, Pierre Bourdieu», les champs de la critique, Colloque organisé par la BPI en actes, Bibliothèque Centre Pompidou, Paris, 2004. pp. 21-42


2
تيار الوعي والوعي الثقافي
رواية "راحلون رغما عن أنوفهم" أنموذجا
                                                                                                   
نجاة تميم                    
يقول رولان بارت : "لا يستطيع أحد الكتابةَ من دون أن يتّخذ موقفا انفعاليا ممّا يحدث في العالم".
   
تيار الوعي
   عندما نذكر رواية تيار الوعي، سيحضرنا، بالتأكيد، سرد عن كل ما يخالج الشخصية الروائية من مشاعر وإحساسات متناقضة وربما اضطرابات نفسية تجري في تيار منساب من أعماقها، تشاركنا، من خلاله، تجربتها الحياتية وتخبطاتها على شكل اعتراف أو إعادة حسابات أو تنفيس عن طاقة مكبوتة.
   يعتبر "تيار الوعي ثورة في الأدب في القرن العشرين. فهو، حسب روبرت همفري، علمٌ يكشف الحياة الداخلية والعقلية والعاطفية للإنسان. يعتمد على سرد قصص تركز أساسا على ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي وذلك للكشف عن الوعي الداخلي والنفسي للشخصية.
    ويصنف روبرت همفري أربعة أنواع أساسية من التكنيك المستخدمة في تقديم تيار الوعي؛ وهي المنولوج الداخلي المباشر بالضمير المتكلم، والمنولوج الداخلي غير المباشر، والوصف عن طريق المعلومات المستفيضة، ومناجاة النفس ( ). ونعلم أن إدوارد دو جردان هو أول من استعمل المنولوج الداخلي في روايته "أوراق الغار المقصوصة" عام 1888( ) . ولقد توصل دو جردان أن المنولوج الداخلي، الذي يستخدم ضمير الغائب أو ضمير المخاطب، هو مجرد قناع للمنولوج الداخلي بضمير المتكلم. واستخدم، لذلك، مصطلحا مستعارا هو المنولوج الداخلي غير المباشر ) (.
   لقد اكتشف وليم جيمس أن الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الظاهري وأكثر من ذلك فهي تَظهر للإنسان لا على أنها سلسلة بل على أنها تيار... فيضان ( ). فالوعي هو وعي الانسان بالتجربة الانسانية وهذا ما تجسده الكاتبة والروائية العراقية، صبيحة شبر، في عملها. فتطلق العنان لذكرياتها وتجربتها الحياتية وتعبر عن مشاعرها وأوهامها وحتى تخيلاتها. وبهذا فقد تصل إلى رؤية وبصيرة تجعلها تمزج بين التجربة الروحية والعقلية. فتتداخل المشاعر والأحاسيس والوعي الثقافي الذي عن طريقه تُحدِّدُ الشخصية موقفَها في الحياة كإنسانة أولا وكامرأة يسارية في مجتمع تقليدي ونظام متسلط.
   تقع هذه الرواية في 178 صفحة من القطع المتوسط وتتكون من سبعة فصول وثمانين جزءاً مرقما ومتتاليا. بعد الاستهلال، ينقسم السرد إلى مستويين تتناوب فيهما تقنية المنولوج الداخلي المباشر وأحيانا مناجاة النفس والمنولوج الداخلي غير المباشر. ففترة ابتعاد ليث لمدة شهر عن سامية يجعلهما، كل على طريقته، يعيدان النظر في حياتهما ويسترجعان ما حدث خلال ثماني عشرة سنة مضت. فليث هو السارد الأول، أما السارد الثاني فهو سارد عليم يتمثل في وعي الشخصية الرئيسة سامية. فتارة يقص علينا ليث ما حدث منذ يوم عيد ميلاده النحس، وتارة أخرى، يتوجه السارد العليم بضمير المخاطب إلى سامية.
    يروي لنا السارد ليث أحيانا في منولوج داخلي مباشر وأحيانا في مناجاة مع نفسه قائلا: "لا داعي لأن أترك شعوري بالإثم ينمو في داخلي ويتضخم، إنما جميل أن يكون لي ضمير صاح يحاسبني إن أجرمت في حق الأحبة.. ر.(ص6). فينتقل بنا السارد العليم مخاطبا سامية أصبحتِ تتعبين بسرعة.. وحين كنتِ في الشهر الثاني نزفتِ، لأنك أرهقتِ نفسكِ في الأشغال المنزلية التي لا تجدين أحدا يقوم بها سواك  ر. (ص6). وهذا السارد الذي يستعمل ضمير المخاطب ويتوجه مباشرة إلى سامية ما هو إلا وعيها - قرينها الذي يذكِّرها بأحداث في الماضي. ويحاول الوعي - القرين أن يعيد النظر في هذه الأحداث ويُقيِّمها في الحاضر. فزوجها نصير لا يساعدها في الأعمال المنزلية كما أنه يعاتبها لعدم التنويع في وجبات العشاء. ويذكرها وعيها - قرينها بتصرفات زوجها. فكيف تتحمل هذا الزوج الذي يستغلّها ماديا ولا يهتم لتعبها ويصرف راتبها على أهله دون مشورتها، وجعلها تستغني عن ركوب التاكسي وهي حامل في شهرها السابع لأنه صرف راتبيهما وما تبقى أعطاه لأخته لتسافر به إلى فرنسا، فضلا عن تعب الحمل وتحمل تصرف زوجها وجب عليها أن تتحمل، أيضا، مضايقات وإلحاح وتهديد جلاوزة الحزب الحاكم لكي توقع وتنضم إليهم. لكن حصل ما كانت تخافه. أتوا فجرا وأخذوا زوجها نصير وقد صادف ذلك يوم عيد ميلاد ليث ابن جيرانها. لكن قبل أن يطفأ ليث شمعات الكيكة الخمس طرق الباب واقتحمه مسلحون متَّهمين العائلة  باجتماع ممنوع. وحدثت الكارثة.
   جاء الاسترجاع الفني في هذا النص السردي على شكل نسق زمني هابط، فانطلق من نقطة في الحاضر وهي ذروة الحدث؛ إحساس ليث بالذنب اتجاه سامية، خلال فترة غياب مدتها شهر، ثم ارتد إلى الماضي. بدأ ليث  يسترجع ذكرياته وحياته مع سامية، أحيانا في مونولوج داخلي مباشر، بحيث يواجه وعيَه من خلال مناجاة نفسه ويُعلم بذلك المتلقي بما يجول في دواخله  واستكناه عالمه الخفي الذي يخفي فيه عشقه لحبيبته سامية، التي تكفلت بتربيته بعد إعدام أهله. لقد مرّت خمس سنوات على زواجه منها. وأصبح عمره، الآن، ثلاثة وعشرين ربيعا.
   فبعد اعتقال زوجها، نصير، نصحها رفاقها بمغادرة العراق كونها ترفض التوقيع والانضمام إلى الحزب الحاكم. كانت حاملا في شهرها الأخير فتوجهت إلى الكويت وأخذت معها ليث لتلتحق بوالديها اللذين اضطرا قسرا لمغادرة العراق. فهربت بتاكسي وباغتتها آلام المخاض على الحدود، لتلد ابنة ميتة وفي الوقت نفسه كانت والدتها، في الكويت، تحتضر وتفارق الحياة قهرا على فقدانها لأولادها الخمسة، وتموت أيضا شهيدة.
      إن هذه الرواية لا تعالج فقط ثيمة الجندر ووضعية المرأة العراقية اليسارية في مجتمع تقليدي وإنما تذهب إلى أبعد من ذلك وتوثق لفترة زمنية من تاريخ العراق المعاصر؛ حيث نرى عوائل تختفي تماما تحت التراب لمجرد أنها تتوق إلى بلد مدني ديمقراطي، أكثر عدالة وحرية. فنجد أن الجد الشيخ يُقتل من قبل النظام الحاكم وكذلك أقرباؤه وأصدقاؤه. ويضطر ابنه أن يغادر العراق إلى الكويت بعد ما اعتقلا ولداه عادل وطالب وأعدما لاحقا. كما أن بناته الثلاث هدى ونجوى وشذى غائبات وصديقتهن ولا يُعرف مصيرهن. والشاهد الوحيد، الراوي ليث ما زال يتذكر ما قيل له آنذاك، يوم احتفالية عيد ميلاده الخامس: أنت الصغير ستبقى شاهدا أننا نحب الأطفال  ر. (ص 19).
الجندر
   إن استعمال الضمير المخاطب يجعل الشخصية الرئيسة تأخذ مسافة من الأحداث، وبهذا فإن وعيها يُعكَس ويرى نفسه أيضا معكوسا. وإذا وقفت الشخصية الرئيسة خارج الأحداث لكي تستعيد ما حدث، فذلك لأن الوعي يريد أن يبرز الأنا الأخرى ويمنح اهتماما لصوت هذا الوعي ( ). وبذلك يحدث حوار بين الأنا نفسها وقرينها. وقد تكون "الأنت" السردية "مناسبة للإشارة إلى الذاتية الممنوعة والحديث الصامت عند البطلة" ( ). وهذا ما حدث مع الشخصية سامية، فوعيها يبحث عن البصيرة. وربما وجدها. فأخذ يحاور عقلها وخوالجها خلال فترة غياب ليث. فيعود شريط حياتها إلى عامها الأول من زواجها بنصير. فهنا ضمير المخاطب أو بالأحرى وعيها - قرينها يشير إلى الراوي المتكلم وهو مُنقسم على ذاته يُكلّمها ويُذكّرها. فتستعيد سامية ذكرياتها وتعب الحمل وإجهادها في الأعمال المنزلية. وأن نصير لم يكن متفهما لحالتها الصحية والنفسية لتعرضها السابق للنزيف، "رغم أنه يردد الأقوال التي تدل على التقدمية ومناصرة المرأة  ر. (ص 7). لكنه لم يبادر بتقديم المساعدة بل كان يعاتبها. فتحاور نفسها؛ يسألكِ:
-   ماذا أعددتِ لنا لطعام الغداء؟
-   كباب مقلي وسلطة...
-   كل يوم نأكل الطعام نفسه...ألا تملين  ر. (ص 7)؟
فعندما يراها والدها حزينة ومتضايقة يقول لها: ابكي.. لا تبتئسي يا ابنتي، كلنا في الهم عراق  ر. (ص 14)!

التكرار في السرد
    نلاحظ  استعمال التكرار في هذا النص السردي؛ كلمة وحدثا. ولقد جاء تكرار الأحداث ليثبت أهمّيتَها، في جزء لاحق، ويعمل كوسيلة للانتقال من جزء إلى آخر؛ أي كمدخل لتسلسل الأحداث. وقد استخدم أيضا لخلق إيقاع وتعزيز الفكرة والإحساس والعاطفة، وهذا ما يسميه جان جيرودو "الصدى"( ) . هكذا صادفنا تكرار أكثر من حدث خلال مستويي السرد المتناوب. لكنه، أحيانا، يربك القارئ وربما يدفعه أكثر إلى التركيز في القراءة.
   وسنرى أيضا أن الكاتبة سخّرت مفهومي "الصمت" و"العجز"  لإغناء النص وإعطاءه مدلولات متعددة.
-   مفهوم الصمت
    الصمت، بحسب موريس بلانشون، هو جزء من اللغة، يقول نَصمت، إنها أيضا طريقة للتعبير عن أنفسنا ( ). وبالتالي فإن أي صمت لمتحدث قادر على الكلام، يجب اعتباره عملا تطوعيا كخيار متعمد، كأسلوب للتعبير. الصمت فعل، توقف عن الكلام أو فعل عدم البدء في الكلام. لذلك فهي عملية استراتيجية، إنها تواصل ( ). أما جوزيف رسام فيقول إذا كان الكلام يُميّز الانسان فالصمت يعرّفه ويحدّده. الكلام والصمت نوعان من القدرات الأساسية المتاحة للإنسان. على الرغم من أن كليهما متساويان في الأهمية، إلا أنه لا يمكن، في نظر رسام، وضعهما في الرتبة نفسها. والصمت، بالنسبة له، هو أكثر تعبيرا، وأكثر بلاغة، ويشكل في حد ذاته السمة اللافتة للنظر، والنوعية الأسمى، ونوعا من اللغة المطلقة التي تتجاوز الكلام وتتفوق عليه ( )
. وربما صدق صمويل بكيت  (1906-1989) و أوجين إيونيسكو (1909-1994) عندما لم يكتفيا بوصف أمراض اللغة (الكلام) ولكنهما أشارا إلى ضعفها؛ عيوبها وإفلاسها ( ). وكما نعلم أن الصمت أساسي في مسرح  بيكيت الذي تجاوز كل الحدود ليقدم الصمت كمادة وكموضوع الأداء المسرحي. وهناك أمثال وأقوال تؤكد هذا الافتراض باحتمال تفوق الصمت؛ فإذا كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب ونذكِّر أيضا بأن نقلب اللسان في الفم سبع مرات قبل أن نتكلم.
    في هذه الرواية، نلاحظ أن للغة الصمت حيِّزا كبيرا. وهي تعكس ثقافة معينة، تميز حياة الشخصية الرئيسة، سامية وأحيانا تطغى عليها. ففي ظرف شهر، أعادت الشخصية الرئيسة سامية حساباتها ووقفت على نقاط الضعف في شخصيتِها وتساهلِها أحيانا لطيبتها وأحيانا لأخذها بعين الاعتبار أعرافا اجتماعية، تربّت عليها، وأحيانا أخرى  ظروفا سياسية جعلتها تكبت آراءها وأفكارها خوفا من بطش الحاكم. وهكذا خُطّت مسيرة حياتها. فكان الصمت، أحيانا، العائق الأكبر في اتخاذ قراراتها، بالرغم أن سامية انسانة عصامية، متعلمة وفنانة، لكنها لم تطبِّق نصيحة أبيها حتى في حياتها الخاصة: لا تسكتي عن إبداء رأيك يا بُنيَّتي  ر. (ص 173)! فتبدأ رحلة الصمت مع التهرب من التوقيع للانخراط في الحزب ويطبق الصمت على حياتها خلال شهر العسل عندما يناديها زوجها نصير باسم امرأة أخرى، سهام. وتشعر آنذاك كأنه يقوم باغتصابها. ولم تنس أنه اعترف بحبه لأخرى تحت تأثير الكحول في جلسة أصدقاء. كما أنه لم يطلب لها، يوما، التاكسي لزيارة أهله وذلك لأن ما تبقى من راتب سامية أعطاه لأخته لتسافر به إلى فرنسا. لم تكن راضية عن هذه المعاملة لكن مع هذا كانت ترضخ له. تَصمت. بالإضافة إلى أنه لم يكن ميالا لزرع الثقة في نفسك وكثيرا ما كان يستهزئ من قدراتك، يضحك باستصغار حين تصممين على أمر، أراد أن يقتل الثقة التي زرعها أبوك في نفسك. فأصبح التردد صديقك، وزاد وزنك وتضخم بدنك، ولم تعد الرشاقة تشغلك. وإذا احتجت إلى ملابس الحمل، اخذ نصير يصرخ : خزانة ملابسك ملأى بملابس جديدة ر. (ص 41)... وكم أهداك أبوك أشياء بسيطة تحمل الفرح إلى النفوس وقد حرمك منها نصير، رغم انها لا تكلف شيئا  ر. (ص 38). بالإضافة إلى ذلك فإن ليث يشكو من مضايقة جلاوزة النظام الحاكم له للانضمام إليهم، لكنه لا يهتم لمضايقتهم لها. تتذكر سامية أنها أرادت، يوما، أن تطلب الطلاق من زوجها نصير، لكن والدها الذي كان أصلا يرفض زواجها منه، منعها من ذلك، حتى لا يُحكم على ابنها باليتم قبل ولادته. فالطلاق بالنسبة لوالدها هو ببساطة موت الأب. فكانت تكبت صمتَها الصارخ. وعندما يُعنِّفها نصير بكلام جارح تصمت متوهّمة أنه يحبها كما تحبه. والآن، تصمتين، ماذا يمكنكِ أن تقولي، تتوهّمين أنه يحبك كما تحبينه... ر. (ص 8). ويذكرها وعيها – قرينها: آه لو كنت قادرة على التعبير عن رفضك له، ما بالك.. فلماذا أنتِ بهذا الضعف؟ (...) كوني قوية كما ينصحك أبوك المحب ر. (ص58).  تصمت سامية، أيضا، عندما يسألها الطبيب عن شرب الحليب أثناء حملها وتخفي عنه انها لا تستطيع شراءه لأن زوجها يوزع راتبيهما على بيتهما وعلى أسرة والديه وإخوته. وهذا أيضا تخفيه عن أهلها. كما أنها تصمت عند قبولها، من أخت زوجها، ملابس رثة، ووالدها قد أرسل لها، من بلد المهجر، الكويت، كل ما يحتاجه المولود الجديد. وأختها تعاتبها على ذلك. لكنك تصمتين، ليس من عادتك أن تجرحي أحدا ر. (ص 28). وعندما يعيدون لها زوجها نصير جثة هامدة، يجبرونها على تسليمهم تكاليف الدفن وأن لا تخبر أحدا بذلك. صمتَتْ سامية، لم تعد تستطيع الكلام  ر. (ص 22 ).  ثم تغادر العراق إلى الكويت وتُعيّن مدرسة للرسم. تضطرين للذهاب إلى السفارة العراقية بالكويت لتجديد جوازك، فماذا ستقولين عندما يطلبون منك أن تجاوبي على أسئلتهم ر. (ص 37)؟  تصمتين، فأنت تعرفين أنهم لم يوجهوا لك انتقادا لأنك فنانة ولا تعبر رسوماتك عن رأيك مباشرة  ر. (ص 71).  وأنت واثقة أن للمبادئ التي تسعين إليها أعداء كثيرون، لا يناسبهم أن يكون العالم بخير، وأن تتحقق المساواة بين البشر  ر. (ص37).. تمقتين الخيانة بكل أصنافها، تسمعين من بعض الصديقات أنهن يقابلن خيانة الزوج بالمثل. تصمتين، تتعجبين لهذا الكلام، كيف تقوم المرأة بالخيانة ر. (ص94)؟  يذكر ليث أنه سمع اصدقاء متنورين والذين غادروا العراق هروبا من الاضطهاد يقولون: لا يمكن أن نساوي أنفسنا بالنساء!.. وأي حماقة تجعلنا نضحي بالمكتسبات التي حققها تسلط الرجال طيلة آلاف السنين  ر. (ص 143). ومع هذا يقرُّ ليث، معاتبا نفسه، أنه تغيَّر وأصبح يكلِّف سامية بأصعب الأشغال. وهي تتحمل صاغرة، ولا تنطق بأي كلمة تدل على رفضها لمعاملتي التي لم أكن أتوقع أن أقوم بها نحو سامية المعشوقة  ر. (ص 144).  ولم تتذمر يوما كونها تتحمل كل الأعباء. وتمر الأيام وهي صامدة، مهما حصل لها من ضرر، وابتسامتها مرسومة على وجهها. تستقبل صديقات ليث في بيتها وترحب بهن، رغم أنهن يحاولن الإساءة لها والتجاوز على حياتها الشخصية. وكيف لك أن تتحملي كل هذا الذل؟ أنت في بيتِك؟ ألأنه تحبِّينه وهذا هو الجحيم بعينه! هل لأنك صامتة؟ هل السبب يكمن في طيبتك..؟ أنت الساهية الصامتة عن حقك  ر.(ص 154).  وأنت القوية المحترمة في مؤسسة التعليم وفي قاعة الرسم. هل تواصلين الصمت؟ هل تقومين بالصراخ؟ هل تواصلين الصبر  ر. (ص154)؟  فتحتِ الباب عليهما، هو ورحاب، ووجدتهما في عناق وقبلة طويلة. فلماذا أخذ ليث يصرخ في وجهك؟ "هل ليداري على فعلته، أم ليجبرَك على الصمت، هل خشي أن تقومي برفع دعوى ضده للسلطات (البلغارية)؟ أم أنه استمرأ سكوتكِ وتحملكِ لإهاناته المتواصلة. أنت جبانة،.. توجهين كل الناس للدفاع عن حقوقهم، وتصمتين حين يكون المعتدي عليك فردا من أفراد عائلتك  ر. (ص 155). وبقيت سامية صامتة والنساء الزائرات لبيتها يتفنَّنْن في إظهار عواطفهن الحارة نحو زوجها ليث. وهذا يحدث طبعا أمام ابنتيهما، شهد، ذي الرابعة من العمر؛ التي جهّزت، حسب الكاتبة، فنجانين من القهوة لأبيها ولرحاب، عندما تركتهما سامية لوحدهما وذهبت إلى مرسمها. فكان أصدقاء سامية يعاتبونها على تربية شهد. هذه الأخيرة تلوم أمَّها وتصطف مع أبيها الذي يعاملها كفتاة شابة: صرتِ كبيرة حبيبتي، دخِّني هذه السيجارة  ر. (ص159)! تتذكر سامية بأنهن ينعتنها بالمعقَّدة، لا تحب التجديد، ولا تتلاءم مع مواصفات الحداثة لمجرد أنها لا تتوافق معهن. فيذكرِّها وعيها - قرينها: أخذتِ تصمتين، إذ لا فائدة ترجى من إسداد النصح لأشخاص يحبون السخرية من الناس(...) صمتك أخذ يطول، وهم ينتقدونك لكل شيء  ر. (ص 164). وأنت صامتة لا تميلين إلى الكلام الذي لا يجديك  ر. (ص 165). فغايتك هو إرضاء ليث، لكن من حقك ان تدافعي عن حبك الذي سيسرق منك؟ والأهم أنك ترين أن من واجبك المحافظة على بيتك أن يتهاوى وقد بذلت العمر كله في تقوية أركانه  ر. (ص 166). لكن في النهاية يعترف ليث، لنفسه، أن النقاد الفنيين يشيدون برسوماتها المعبِّرة عن قضايا الإنسان المعاصر، الذي يتوق إلى الانعتاق من أنواع القيود. أما اصدقاءهم فهم يصفونها بالأم المثالية والزوجة المُخلصة. ويعود ليث إلى ابنته شهد وسامية، هذه الأخيرة التي كثيرا ما سهرت الليالي لتدرأ المرض عنا.. وآثرتنا على نفسها ر. (ص 177)... فالشخصية سامية فضلت العمل بمقولة الحاكم الروماني ماركوس أوريليوس التي تقول: "أعطني القوة لقبول ما لا أستطيع تغييره والشجاعة لتغيير ما يمكنني تغييره والحكمة للتمييز بين الإثنين" ( ).
  فبعد هذا المسار، يبقى السؤال: هل هذا الصمت، يا ترى، تصرف سلبي أو حكيم أو عجز؟

-    مفهوم العجز
    تعريف الفعل عجز هو عَجِزَ عن الشيء، ضَعُفَ ولم يقدر عليه أو لم يكن حازما. وكل عجز من شأنه أن يحد جزئيا أو بصفة مستديمة من القدرة على العمل. وقد كانت ثيمة العجز موضوع بيكيت المتكرر. بالرغم من ذلك فإن عظمة إنسانية بيكيت لا تكمن في نفي الحياة والإنسان، بل في استمرار ندائها لعدم السماح لأنفسنا بالدمار وهو يبحث عن أصداء في جميع العالم حيث توجد قدرة وإرادة  للعيش ( ) .
    لقد استعملت كلمة "العجز" اثنتي عشرة مرة  في هذا النص السردي. وكل مرة تحمل دلالة متباينة. ففي البداية، كان العجز الجنسي، الذي اصاب ليث، وسببه الإحساس بالذنب لخيانته لزوجته وللمبادئ التي تربى عليها. أراجع طبيبا. إني مصاب بعجز جنسي مبعثه الشعور بالإثم  ر. (ص 5). كما أن العجز يشكل عقبة في الحياة عندما سلب الظالمون حيوات أحبابنا نشعر بالعجز وعدم القدرة على الحياة لأن المصاب يعجز عن رؤية الجانب المضيء من الحياة  ر. (ص 79).  لقد فقدت الشخصية الرئيسة سامية، في  ضربة واحدة، شقيقين عادل وطالب وثلاث شقيقات مُغيّبات. أما والدها، فإن الآلام التي تراكمت عليه منذ إعدام أبيه الشيخ الجليل، ذي التسعين ربيعا، جعلته عاجزا أن يكون في محله التجاري كل يوم (قبل مغادرته للعراق مُتَّجِها إلى الكويت). ضعُفت قوة الوالد بعد إعدام والده الشيخ ولم يستطيع أن يفعل له شيئا. تتذكر سامية كيف كانت تواسيه  فبقي يلوم نفسه:
-   ماذا بإمكانك أن تفعل يا والدي وهم عتاة مجرمون؟ وأبوك شيخ أعزل؟
-   كان يمكن أن أؤلب الرأي العام العالمي..
-   أي رأي عام يا أبي، وهم يملكون الرأي وأصحابه  ر. (ص 86)! 
    إن العجز يعيق الحياة ويؤثر سلبا على الجسم والعقل والروح ويصيب الفكر بالشلل ويعرقل الطموح والتوق إلى الأفضل؛ وقد يكون عجزا عضويا أو ماديا أو معنويا. فليث، الطفل الذي ربّته سامية، كان أيضا عاجزا عن تخفيف ما تعانيه سامية من ضغوط نفسية من آلام الفقدان والحرمان بعد إعدام زوجها. وكذلك العراقيون المقيمون بالكويت، فقد غادروها  لمضايقة السفارة العراقية لهم وكثرة الضغوط عليهم لدفع مبالغ مالية كبيرة لدعم الحرب. فكانوا يحسّون بالعجز  بسبب ضيق اليد  ر. (ص 118).  أما سامية، الابنة البارة، فبقيت بعد وفاة والدها بالمهجر، الكويت، عاجزة عن تنفيذ وصيته ودفنه بالعراق. يوصيها والدها: حين يتغير  نظام الحكم في العراق، ادفنوني قرب أحبابي هناك (...) ضعيني مع الأحباب في وطني ر. (ص 124). اضطرت للرحيل مرة أخرى رغما عن أنفها وأحست بالوحدة  واليتم في مدينة صوفيا، بعد وفاة والدها، وكان ليث يتألم وهو العاشق الولهان. ويتساءل: لماذا أشعر بالعجز، وأنا أرى حبيبتي تنوح وحيدة تعاني آلام الثكل  ر. (ص 130).  بعد أيام سيبلغ ليث ربيعه الثامن عشر. وهو الذي يعاني من حبه لها، أظل عاجزا عن التعبير لسامية عما يغلي داخل نفسي الولهى وقلبي الذي تَتَربّى على عرشه الحبيبة سامية ر. (ص 135).  سامية التي أصبحت فنانة نشيطة، تقيم المعارض في صوفيا وفي دول أوروبية وعربية وتدرِّس الرسم في مدارس بلغاريا. لكنها تحس بغربة مضاعفة وسط البلغاريين لعدم تمكنها من اللغة والاندماج في المجتمع، تبقين عاجزة عن فهم مدلول ما يقولون  ر. (ص 136). وربما ملاحظة وعيها- قرينها تكون الخطوة الأولى لكي تُتقن سامية لغة البلد المضيف. ففي أحد الأيام طلب ليث من سامية أن تعلمه كيفية طهي الطعام. لكن حَبْلَ صبرِه كان قصيرا وهو يعرف أنه لا يملك الصبر الذي يجعله يحرز التقدم. فلذلك كان ينتقل من عمل إلى آخر. فعندما أصابه الضجر طلب من سامية:
-   أكملي الطبخة واغسلي الأواني!
-   عرفت من البداية أنك لن تكمل  ر. (ص  150)!
   لم ينس هذه الحادثة فيناجي نفسه ويعاتبها:  أبديتُ غضبي من سامية لأنها تجرأَت ونعتتني أني عاجز عن الطبخ  ر. (ص 149).  ويذكرها وعيها - قرينها بأن ليث كان يتَّهمها بأنها لم تحسن فهمه، مع أنك لم تطلبي شيئا منه. فما زالت كلماته ترن في أذنيك: كلاّ قلتِ...اعترفي أنني لا أجيد شيئا وأنني عالة عليكِ  ر. (ص 151). فتجيبينه بأنك لن تعترفي بشيء ولم تقولي أي شيء. إن ليث وسامية مرّا بظروف قاسية وأليمة، لم يستطيعا استيعابها. لذلك اثّرت على قرارات وتصرفات غير مدروسة في حياتهما. فأحيانا اليأس وعدم الثقة بالنفس والتخبط والشك كل هذا يساهم في الإحساس بالعجز العضوي والفكري والنفسي. ويضطر المرء، أحيانا، إلى اتخاذ استراتيجية للاستمرار في الحياة وتجاوز مصاعبها المعقَّدة .
الوعي الثقافي السياسي
   حرصت الكاتبة على أن تؤرخ لفترة زمنية من تاريخ العراق وألمّت بالإشكاليات النفسية والفكرية لشخصيات روايتها من خلال قصة سيدة متعلمة ومدرسة للرسم، متخرجة من أكاديمية الفنون الجميلة. ترفض أن تنضم إلى الحزب الحاكم وتتحمل المضايقات حتى خلال نزفِها بالمستشفى. يحاربونها بعدم تعيينها كمدرسة رسم وركنوها كموظفة استعلامات. اعتقلوا زوجها وهي حامل.  لكن مع كل هذا فإنها تفكر بمصير زوجها نصير وتتساءل إذا كان سيتحمَّل التعذيب ولا يفشي  بالأصدقاء، ويكشف عن أسرارهم وعن أحلامهم في تغيير الواقع المظلم إلى حياة أجمل  ر. (ص 19). لكنهم أعادوه إليها جثة هامدة ومنعوها من التحدث عن ذلك واستقبال التعازي. واضطرت لكي تغادر العراق وتلتحق بوالديها بالكويت. لكن هناك أيضا لم تسلم من تدخلات السفارة العراقية في شؤون العراقيين، خصوصا خلال فترة حرب الخليج الأولى. وصلت إلى الكويت بصعوبة وهي حامل في شهرها الأخير وأخذت معها ليث. تعينت مدرسة في ثانوية الأمل بعد ان اضطرت لتصديق شهادة التخرج، بعيدا عن السفارة العراقية. كما أكدت ذلك لليث؛ نحن فنانون، يا حبيبي ليث، ونجيد التواقيع   ر. (ص64). انكبت على الرسم وإقامة المعارض في الكويت وفي دول أخرى منها بلغاريا. كما كانت سعيدة ومخلصة في عملها إلى أن التحقت بالمدرسة وكيلة جديدة تخلف الوكيلة الراحلة آهات الطيبة. فبدأت تضايقها وتطالب منها دعم الحرب، في ثمانينيات القرن الماضي، بكل طاقاتها وهذا ما كانت ترفضه سامية بصمت، وتنسل إلى أن هزت الرحال وغادرت الكويت إلى صوفيا وذلك بعد وفاة والدها الذي كان يعاني من مرض فقدان الأحبة والذي ساءت حالته بحيث أصبح يهذي وينادي بأسماء أولاده، عادل وطالب وبناته الثلاث، لكي يودعهم.
النتائج
1-   يلعب تكنيك تيار الوعي دورا مهما في الغوص في أعماق الشخصية الرئيسة ويجعلها تحاور وعيها - قرينها وتعيد النظر في قراراتها وسلوكها وبذلك تقيِّم تجربتها الحياتية عن طريق البحث عن المعنى والتعرف على الذات، تماما كما تعمل فرجينيا وولف مع شخصياتها.
2-   هذه الرواية تستند إلى الجندر بامتياز؛ وتسلط الضوء على العلاقة بين الرجل والمرأة  في مجتمع يحدد تحركاتهما. فالشخصية الرئيسة، سامية، سيدة متعلمة وفنانة؛ فهي مثل للمرأة العصامية التي استطاعت، رغم الظروف الاجتماعية والسياسية، أن تتخطى عراقيل كثيرة، نفسية واجتماعية وسياسية. وتتغلب على العجز باستعمال لغة الصمت .
3-   نجحت الكاتبة في توثيق فترة تاريخية من خلال شخصية نسائية، ألمَّت بوضعها النفسي والاجتماعي و الثقافي والسياسي وجعلتها تراجع نفسها وتواجه عجزَها وصمتَها وتستخلص العبرَ من تجارب انسانية واجتماعية.
ونختم بقول هنري جيمس، بأن التجربة لا تحد أبدا، ولا تكمل أبدا.

الرمز: " ر." يرمز إلى رواية صبيحة شبر، راحلون رغما عن أنوفهم، بيت الكتاب السومري، بغداد، 2018.
الهوامش

3
مفكرات في "نيران الحرية"
الأخلاقيات المعاكسة والاستقلال الميتافزيقي
   
نجاة تميم
    للفيلسوف والكاتب الألماني فولرام  إيلنبرغر (1972)، الذي سبق وأن حقق كتابه "عصر السحرة" ... العقد العظيم للفلسفة (1919 – 1929)" أفضل المبيعات في العام 2018، وتناول فيه حيات كل من  فنغشتاين وهايدغر وبنيامين وكاسيرير، صدرت ترجمة باللغة الهولندية لكتابه المهم الآخر " نيران الحرية"، الذي تناول فيه حياة وفكر أربع فيلسوفات من عصر واحد؛ هُنَّ:  آين راند، هنّا أرنت، سيمون فاي، وسيمون دو بوفوار.
   لقد تناول إيلنبرغر، المعروف أيضاً ببرنامجه التلفزيوني الشهير "فلسفة اللحظة العظيمة"، في كتابه هذا، أحلك فصل في تاريخ أوروبا الحديث الذي تمثل في السنوات (1933 – 1943). ورصد صيرورة وتطور الأفكار المستقبلية لهؤلاء الفيلسوفات الأربع، حول العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الفرد والذات، بين الرجل والمرأة، بين الجنس والجندر، وبين الحرية والشمولية. وتتبعهن من لينينغراد الستالينية إلى هوليود، ومن برلين هتلر واحتلال باريس إلى نيويورك.
الهروب من الحرب
       ففي العام 1919، شدت آين راند الرحال ووالداها إلى شبه جزيرة القرم. ثم انتقلت، في وقت لاحق، إلى الولايات الأمريكية بمفردها. أما سيمون فاي وهنّا آرنت ففرا من النازيين في الثلاثينيات بسبب أصولهما اليهودية. وعندما تقدم الفهرماخت إلى العاصمة، باريس، غادرتها سيمون دو بوفوار، عام 1940. لكنها سرعان ما عادت إليها.
   يقدم إليلنبرغر حياة الفيلسوفات الأربع على شكل فسيفساء يقصها ويحررها بذكاء. حيث يرصد تدفق عملهن وحياتهن. كما أنه يعطي لفصول الكتاب عناوين مثيرة للاهتمام؛ مثل الفصل الأول: شرارة 1943؛ دو بوفوار مزاجها جيد، وفاي في نشوة، راند غريبة عن نفسها وآرنت في كابوس". أما الفصل الثاني: 1939-1938: فنقرأ: "فاي تجد الرب، وراند تجد الحل، وأرنت تجد قبيلتها، ودو بوفوار تجد صوتها"، إلى آخره.
   لكن بحسب الكاتب، فما يجمع هؤلاء الفيلسوفات هو أنهن كن يعانين في سن مبكرة بسبب السؤال عما يجعلهن مختلفات عن الآخرين أو الأخريات. بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يهتمن، أربعتهن، بعلاقة الفرد والجماعة والعلاقة بين الذات والآخر.
    ينتقل الكاتب بسلاسة شديدة بين المفكرات الأربع. يُشاركُنا حكايات شيِّقة ويشرح أفكارهن بوضوح وبشكل مناسب. كما أنه يتعامل معهن كشخصيات، فيخلق بذلك قصة حميمية، تصب في قالب مع مزيج رائع من الأدب والفلسفة والتاريخ.
الأخلاقيات المعاكسة
   هاجرت آين راند، Ayn Randالروائية والفيلسوفة (1905 – 1982) من الاتحاد السوفييتي إلى أمريكا في سن العشرين. كانت الحرية الفردية هي المبدأ التوجيهي في حياتها وعملها. جاء نجاحها  الكبير مع الكتاب الأكثر مبيعا  “The Fountainhead” "المنبع الأزلي" في عام 1943، الذي تم تحويله إلى فيلم عام 1949. وصدرت لها بعدئذ رواية تحت عنوان "أطلس يستريح" والتي لاقت، أيضا، نجاحا كبيرا بحيث اعتبرها قراء مجلة التايم من أهم الكتب في القرن العشرين. ويشير العنوان إلى الأسطورة اليونانية حيث يحمل أطلس العالم على كتفيه. وترى راند أن صانعي الثروة هم  "أطلسيون حداثيون". إن راند مكروهة ومشهود لها في نفس الوقت. فالأنانية، بالنسبة لها، فضيلة أخلاقية. أما الإيثار فهو أمر سلبي. فمن يقبل المساعدة يسلِّمُ نفسَه لما يرغب الآخر في تقديمه ولا يتعهد بأي شيء بعد ذلك. ويحدث هذا على حساب الإبداع مما يعني نهاية مجتمع مزدهر. وقد يبدو هذا وحشيا، لكن بالنسبة لراند، هذا منطقي تماما.
   فهي تؤمن، أيضا، بأهمية المسؤولية الشخصية والإبداع. فإذا تحمَّلَ المرءُ المسؤوليةَ عن نفسِهِ، فإنه يستطيع أن يتحمَّلَ مسؤوليةَ المجتمعِ. وتعتقد بأن التغيير الاجتماعي يجب أن يبدأ بثورة أخلاقية من داخل كل فرد، وبأن انتشار الأفكار والمثل الصائبة يتم من خلال الخطاب العقلاني والإلهام الفني. ووفقا لراند، يجب أن يكون تدخل الدولة في حده الأدنى، فقط لحماية عدد قليل من الحقوق الفردية، مثل الحفاظ على الحياة والممتلكات وما مسموح به أخلاقيا. وكل تدخل يكون على حساب روح المبادرة والإبداع. وتنكر راند أن منظومتها الفلسفية "الموضوعانية " التي تجمع ثلاث صفات، الجوهرية والذاتية والموضوعية، ستدمر المجتمع بسبب الأنانية المفرطة. وهي تعتقد على العكس من ذلك؛ فقط مجتمع من الأفراد الفخورين، الذين يسعون وراء سعادتهم في الحياة ويفضلون العقل على المشاعر الزائفة، هو مجتمع عادل ومتناغم. بحسب راند، جميع الأشكال الأخرى تؤدي إلى العنف. لكن ما كانت تفكر به راند، وفقا لسيمون فاي، لم يكن ذلك ممكنا. هكذا كتبت في دفتر ملاحظتها: "يود المرء أن يكون أنانيا، ولا يمكنه أن يكون كذلك. هذه هي السمة الأكثر لفتا للنظر في بؤسه وعظمته".
الاقتلاع من الجذور
   كانت سيمون فاي (1909 -1943)، Simone Weil شديدة الذكاء والهشاشة في الوقت نفسه. كانت تهتم بمحنة عمال المصانع، لدرجة أنها ذهبت للعمل في المصنع تضامنا معهم. فكتبت في مقال تحت عنوان "الشخص والمقدس": "في حين أن العمل الجسدي يتطلب جهدا، فهو ليس مهينا في حد ذاته". لكن كان الأمر بالنسبة لفاي مهينا. لقد كانت خرقاء للغاية وبطيئة، وارتكبت العديد من الأخطاء، وبالتالي لم تكن فعالة وكانت السبب في تعطيل عملية الإنتاج. لم تكن فاي فيلسوفة فحسب، بل ناشطة سياسية ومفكرة روحية. تقول في كتابها الموسوم" L’Enracinement"، أن الإنسان المعاصر "اقتلع من جذوره". هذا الاقتلاع ليس نتيجة الحرب فحسب، بل هو نتيجة لتزايد قوة المال وفقدان العلاقات مع المجتمعات التقليدية. من أجل العثور على الجذور مرة أخرى، لا تناقش فاي العودة إلى التقاليد، ولكن من أجل موقف جديد تجاه العمل البدني". والمفهوم المتكرر في عملها هو الانتباه. القدرة على الانتباه هي ما يجعلنا بشرا. لن تنجح في جذب الانتباه بالجهد. يتعلق الأمر بالانتظار والانفتاح والسماح بحدوث ذلك لك. وبذلك، فإنك تمحو مصلحتك الذاتية. بالنسبة لفاي، الانتباه هو أكثر بكثير من مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة؛ الانتباه يجلب النور للروح. لقد أظهرت فاي تضامنها مع المضطَهدين، البائسين والفقراء، ليس فقط في عملها، ولكن أيضا في حياتها. على سبيل المثال، رفضت راتبا أعلى من المساعدة الاجتماعية عندما كانت تعمل كمدرسة فلسفة، وعندما كانت مريضة، لم ترغب في أن تأكل أكثر من الحصص الغذائية الموزعة آنذاك في فرنسا المحتلة. توفيت بمرض السل في نفس العام، 1943، الذي ظهر فيه كتاب سيمون دو بوفوار (1908 – 1986) لأول مرة تحت عنوان "L’Invitée" "الضيفة". فبهذه العبارة تنتهي هذه الرواية وتعلن الراوية بأن الشخصية الرئيسة "فرانسواز، قد اختارت أخيرا نفسها". وهذا يذكرنا بالعبارة المعروفة "السعي وراء السعادة" المأخوذة من إعلان استقلال الولايات المتحدة وتعتبر حجر الأساس لفلسفة راند والمستوحاة من نيتشه. إن راند تعلن أن الإيثار خطيئة وهي تدعو إلى الأنانية. كما جاء على لسان بطل روايتها هوارد رورك "لكل شخص سعادته، ليس سعادة شخص آخر". فعلى عكس راند، فإن دو بوفوار لا ترى العلاقة بين الذات والآخرين على أنها صراع. فراند تسعى جاهدة من أجل "الاستقلال الميتافيزيقي" بينما ترى دو بوفوار أن الأمر كله يتعلق "بالتضامن الميتافيزيقي".
   كانت دو بوفوار جالسة، في الطابق الثاني من مقهى فلور، منشغلة بثلاثة أسئلة كلاسيكية: ما هو البعد البشري؟ ما هي الأهداف التي يمكن للإنسان أن يضعها لنفسه، وما هي الآمال التي يمكنه أن يستمتع بها؟ لقد طلب منها الناشر جان جرنيي Jean Grenier  أن تكتب نصا عن الوجودية. هكذا سماها الآخرون. لكن دوبوفوار كانت تتجنب هذا المفهوم بوعي. وككاتبة، فقط تفعل ما أحبته. وهو تكريس نفسها قدر الإمكان للأسئلة التي شغلت حياتها والتي لم تعرف إجابتها بعد. أولا، مسألة المعنى المحتمل لوجودها وثانيا، مسألة أهمية الآخرين في حياتها.
   أما هنّا أرنت، Hannah Arendt التي طاردها النازيون، فقد فكرت أيضا في العلاقة بين الذات والآخر. لقد ولدت في ألمانيا، هانوفر، عام 1906، كطفلة وحيدة لوالدين يهوديين وتوفيت عام 1975. وواصلت لتصبح واحدة من اكثر المنظرين السياسيين في القرن العشرين. درست اللاهوت والفلسفة على التوالي في برلين وماربورغ، حيث أقامت علاقة حب مع مارتن هايدغر. ثم فرت إلى فرنسا بعد وقت قصير من وصول هتلر إلى السلطة في العام 1933. حيث التقت بكامو وسارتر، من بين آخرين. وانتهى بها الأمر في الولايات المتحدة. هناك كتبت مقالا جميلا ومؤثرا "نحن لاجئون". وفي عام 1941، كتبت "أصول الشمولية".
   ما كان يهم  آرنت في المقام الأول هو استغرابها لكيفية تجريد الشر من رعبه. فكتابها "أصول الشمولية" يدور حول ألمانيا النازية وروسيا البلشفية، ووفقا لها، كلاهما أنظمة شمولية.
   ففي النظام الشمولي، يسود الإرهاب والعنف، فقط كوسيلة للترهيب. اما الخوف فهو الآلية الرئيسية. وتسعى الحركات الشمولية إلى تعبئة الجماهير وتعزيز انعدام الثقة المتبادلة بين المواطنين. الشمولية، وفقا لآرنت، قد وضعت حدا للمسافة بين الحاكم (الفوهرر- القائد) والمحكومين. وتذكِّر كيف صاغ هتلر هذا الأمر بقوله: "كل ما أنتَ عليه، أنتَ من خلالي؛ كل ما أنا عليه، أنا من خلالك وحدك".
   إن تأثير أفكار الفيلسوفات الأربع آرنت، وراند، وفاي، ودو بوفوار  شكّل حاضرنا. فليس تفكريهن فحسب، بل وجودهن بالكامل، كلاجئات ونشيطات ومقاومات، شاهدٌ بشكل مثير للإعجاب على التوق التحرري للأفكار.
نشر في الطريق الثقافي، يوم 4 تموز\يوليو 2022 العدد 105




 

4
   
مئوية التْرَكتاتوس ... رسالة فلسفية للإلهام  وليس للجدل
نجاة تميم
    ما زال تأثير "التركتاتوس" للفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيخ فتخنشتاين كبيرا جدا، حتى خارج نطاق الفلسفة. فكيف لهذه الفلسفة الصعبة والمجردة والمنطقية فلسفيا أن تحظى بهذا الاهتمام بعد مرور مائة سنة على طرحها؟ 
   يقول راي مون،  في حوار مع الصحافية لورا مولنار، بأن الرسالة – التْرَكتاتوس، كتاب صعب، مبهم، فلسفي منطقي. وهو العمل الرئيسي لفتخنشتاين، ويرجع سر بقائه إلى القوة الشعرية للكتاب.
   ويضيف  مونك، أنه واجه صعوبة في فهم الرسالة عندما قرأها لأول مرة، وهو في أوائل العشرينات من عمره. يقول عن ذلك: "لم أفهم الرسالة على الاطلاق.  إلا بعد أن درست ميتافيزيقا التراكتاتوس في الجامعة".
واشتهر مونك، الذي عمل أستاذا في جامعة ساوث هامبتون في إنجلترا، بعد كتابته سيرة حياة فتخنشتلين، تحت عنوان "واجب العبقرية".
لقد أنهى فتخنشتاين كتابه "تراكتاتوس" في عام 1918، لكنه واجه صعوبة كبيرة في العثور على ناشر. لم يكن هذا بسبب الوضع المالي الصعب في النمسا مباشرة بعد الحرب العالمية الاولى، ولكن كان بسبب محتوى الكتاب نفسه. كتب إلى ناشر مُحتمل: " يتكوَّن كتابي من جزأين: الجزء الأول موجود هنا... الجزء الآخر بالتحديد هو المهم." وما نستنتجه عند دراسة هذا الفيلسوف هو أنه قد أحدث تحولا كبيرا في فلسفته، لدرجة أن المرء يتحدث عن فتخنشتاين الأول وما بعده.
   ظهرت الرسالة باللغة الألمانية في عام 1921، ثم تلتها الترجمة الإنجليزية بعد عام، بفضل تعاون برتراند راسل، الذي كتب مقدمة الكتاب بصفته فيلسوفا معروفا وصديقا لفتخنشتاين. أما العنوان فهو إشارة إلى عمل سبينوزا الموسوم "رسالة في اللاهوت والسياسة" Tractatus Theologico-Politicus” الصادر عام 1870.
   يتكون التراكتاتوس من 7 مقترحات رئيسية. وكل اقتراح رئيسي (ما عدا السابع) مزود بتفاصيل وتعليقات، هي نفسها مزودة بالتفاصيل والتعليقات. أعطى للمقترحات الرئيسية عددا صحيحا (من 1 إلى 7)، وللتعليقات على المقترحات الرئيسية  رقما عشريا واحدا (1.1، 1.2إلخ...) . أما التعليمات فتحتوي على رقمين عشريين (2.12، 1.12 إلخ..). وهذا يؤدي  إلى إنشاء ترتيب صارم ؛ لذلك لا يبدو العمل كتابا فلسفيا "عاديا" على الإطلاق.
   لم تكن الظروف التي كتب فيها فتخنشتاين العمل مثالية. فقد بدأ به خلال الحرب العالمية الأولى أثناء خدمته جنديا ( ولاحقا ضابطا) في الجيش النمساوي. وأكمل العمل عندما سُجن في معسكر أسرى حربٍ إيطالي في نهاية الحرب. وكان قد بدأ بالفعل في وضع الأفكار الرئيسية للكتاب، بعد دراسة الفلسفة على يد راسل في كامبردج لمدة عام ونصف فقط، ثم غادر إلى النرويج في عام 1913، أي قبل عام من اندلاع الحرب العالمية الأولى، للعمل على فلسفته في عزلة في كوخ بناه بنفسه.
   وفقا لفتخنشتاين، فالهدف من الفلسفة هو التوضيح المنطقي للأفكار. كما أن الفلسفة ليست عقيدة، بل نشاط. وهي لا تؤدي إلى "الافتراضات الفلسفية"، بل إلى توضيح الافتراضات. ويجب عليها أن توضح وتحدد بدقة الأفكار الغامضة. وأن تحدد ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره. وتشير إلى ما لا يوصف، من خلال التعبير عن ما يمكن قوله بوضوح.
   لطالما كان هدف الفلسفة في  زمنه، هو  البحث عن إجابات لكل هذه المشكلات الفلسفية الأساسية، عن طريق خلق  أنظمة ميتافيزيقية مختلفة ومعقدة. كما في أنظمة أفلاطون وسبينوزا وشوبنهاور وكانط وإلى حد ما  نيتشه أيضا، على سبيل المثال. كل من ساهم في الفلسفة عبر التاريخ يوافق على هذا. كان هذا الاتفاق بمثابة أساس الجدل الفلسفي منذ العصور الكلاسيكية.
   لكن فتخنشتاين يعارض هذا الرأي بشكل جذري. إذ يدعي أنه ليس هناك مشاكل فلسفية على الإطلاق. وكل ما يسمى بالأسئلة  الفلسفية الأساسية التي حاول الفلاسفة عبر العصور إيجاد إجابات لها من خلال جميع أنواع الأنظمة الميتافيزيقية هي في الواقع مشاكل خاطئة.
   وقد توصل إلى هذا الاستنتاج بملاحظة أن كل ما يسمى بالمشكلات الفلسفية الأساسية والأنظمة الميتافيزيقية المرتبطة بها تشترك في صفة أساسية واحدة، "أنها جميعا مطروحة في اللغة". أو بتعبير أدق؛ يتمُّ طرحها جميعا في لغة عامية طبيعية. والسبب في أن كل هذه المشكلات هي مشكلات زائفة، ناتجة عن  استخدام غامض أو خاطئ أو حتى غير مناسب للغة.
   يقول مونك "الدافع الأصلي لكتابة التراكتاتوس  هو تناقض واجَهَه الفلاسفة برتراند راسل وغوتلوب فريجه...إذ حاول راسل وفريجه بناء الرياضيات على المنطق لإعطائها أساسا لا شك فيه. وذلك بتشكيل هذا المنطق بشكل مختلف، لكنهما لم يتمكنا من فهمه تماما. ويضيف "كانت فكرة فتخنشتاين أن راسل وفريج واجها تناقضات لأنهما كانا يحاولان قول شيء لا يمكن قوله".  فإن ما يمكن قوله عن طريق التعبير، لا يمكن قوله دون اصطدامه بالحدود التي ترسمها لنا اللغة، والاقوال التي نعبر بها عن عالمنا دون مراعاة هذه الحدود تكون عادة هراءً، فكان الأجدر بنا التزام الصمت عندما يتعذر علينا التعبير بوضوح".
    إنه يريد أن يظهر أن المشكلات الفلسفية ليست سوى سوء فهم بشأن منطق اللغة، من خلال رسم خط واضح بين ما يمكن الحديث عنه وما لا يمكن الحديث عنه. وهو يضع الحدود بوعي مع اللغة وليس مع الفكر؛ لأنه من أجل رسم الحدود، يجب أن نختبر جانبي هذه الحدود. ويلخص فتخنشتاين ذلك في بيانه المعروف " ما يمكن قوله يمكن قوله بوضوح؛ وما لا يمكن الحديث عنه، يجب على المرء أن يصمت".  فالصمت الذي كان قد دعا إليه لا يعدّه مشكلة وإنما علامة على ممارسة سليمة للفلسفة وموقف يلتزم باحترام حدود اللغة. لكن المشكلة تكمن في عدم تحملنا التزام الصمت، بخصوص القضايا التي لا نستطيع التعبير عنها بوضوح. وقد سعى، في مرحلته الثانية، إلى وضع الحدود التي تجعل اللغة تلتزم الصمت، حيث يجب الصمت. علما أن فتخنشتاين ميّز بشكل مهم بين القول والعرض؛ ففي بعض الحالات لا يمكنك التحدث عن شيء ما، بل يمكنك فقط إظهاره. وهكذا أحدث اختراقا في عمله الفلسفي من خلال ما يسمى ب"نظرية الصورة في اللغة". وهو أن العبارة أو الاقتراح هما صورة للعالم، "فالتركيب المنطقي للجمل يعكس البنية المنطقية للواقع".  هذه الفكرة في حد ذاتها لم تكن جديدة، لكن فتخنشتاين أضاف عليها بأن ما تشترك فيه اللغة والواقع لا يمكن التعبير عنه بالكلمات نفسها.
   ونخلص أن الجاذبية الدائمة لهذه التحفة الفنية تتجاوز في الأساس أسلوبها أو محتواها الفلسفي. إن أطروحاته تعدّ نتاجا للإلهام أكثر منه للجدل.  ويبدو أن هذا الإلهام هو الشيء الرئيسي الذي استمدّه ملحنون وفنانون، من عمله؛ على سبيل المثال لا الحصر، الملحن والموسيقي الأمريكي ستيف رايش  والرسام والنحات الأمريكي بارنيت نيومان وغيرهما.  لقد جسّدوا الصمت، الذي فرضه فتخنشتاين، كل واحد على طريقته.
نشر في جريدة الشرق الأوسط، العدد 15829، 31 مارس 2022
   


5
الوجودية والنزعة الإنسانية في "وزن الكلمات"
للكاتب السويسري باسكال مرسييه
                                                                               
نجاة تميم        
   بعد نجاح الرواية الموسومة "قطار الليل إلى لشبونة" (2006) والتي بيع منها أكثر من 300 ألف نسخة في هولندا، صدر للفيلسوف السويسري والكاتب باللغة الألمانية  بيتر بيري (1944)، والذي ينشر تحت اسمه المستعار باسكال مرسييه، رواية بعنوان "وزن الكلمات" (2019) عن دار المكتبة العالمية والتي ترجمتها إلس سنيك من الألمانية إلى الهولندية. وهي رواية فلسفية رائعة تبحث بعمق في الموضوعات الوجودية. فمن العبارات المعبرة والعديدة في الرواية، يقول: "أن الحياة ليست هي الحياة التي نعيشها، إنها الحياة التي نتخيل أننا نعيشها." كما يواجهنا بالسؤال؛ كيف يمكن لخيالك أن يساهم في حريتك؟ فهذه أيضا أحد الثيمات التي تشغل بيتر بيري، أستاذ الفلسفة في الجامعة الحرة ببرلين، والتي سبق أن عالجها، في كتبه تحت اسمه الحقيقي، على سبيل المثال وليس الحصر، "عمل الحرية" (2001) و"الكرامة، أسلوب حياة" (2015). ويستخلص أن على المرء أن يبني حصنا داخليا لحماية نفسه من أعين الآخرين، فقط عندما ينجح في ذلك، يمكنه أن يترك العنان لخياله ويقترب خطوة من حريته الداخلية.
  فبعد ثلاث عشرة سنة، يلقي بيتر بيري، وهو في الخامسة وسبعين ربيعا، الضوء من جديد، في مزيج من الخيال والفلسفة، في روايته "وزن الكلمات"، على إمكانيات الانسان في تشكيل حياته بالطريقة  التي تناسبه وتناسب من هو. إنها مرة أخرى نقطة انطلاق قوية جدا لرواية تطرح أسئلة حول الحياة والزمن والترجمة والكتابة.
   تبدأ الجملة الاستهلالية بترحيب مراقب الجوزات مطار لندن بسيمون لايلاند، "أهلا بك في بلدك" وتنتهي الرواية أيضا بنفس عبارة الترحيب بمطار هيثرو؛ العودة إلى الوطن - الأم. في المرة الأخيرة التي نظر فيها إلى صورة جواز سفره، في منزله في مدينة تريست بإيطاليا، رأى رجلاً آخر دون مستقبل. الآن سيبدأ حياة ثانية، وجود يمكن إعادة ترتيبه من الصفر. ويتساءل ما الذي فعله بحياته، وماذا سيفعل الآن حتى يتمكن من العيش مرة أخرى في "الآن" و "لاحقًا"؟ وهذ ما يختزله، أيضا، الكاتب الهولندي أوك دو يوه، حرفيا ومجازيا في سيرته الذاتية الفكرية الرائعة "القفز إلى المستقبل" (2004) حول الانتماء وكينونة الانسان. كما أن زملاء مرسييه الهولنديين وهما من نفس جيله تقريبا، مارسيل مورينغ وأوك  دو يوه يطرحان نفس الأسئلة الفلسفية والأخلاقية، بطريقة غير مباشرة، في روايتيهما المنشورتين حديثا (2019) والموسومتين بالتتالي، "الحضيرة السوداء" و"آمين": ما الذي صنعته بحياتي؟ كيف تبدو حقا حياتي في الماضي؟ ماذا يمكن أن يقدم الفن؟ كيف أختبر وأحس الوقت - الزمن؟  فالشخصية الرئيسة سيمون لايلاند يتساءل، أيضا، عن موطنه؛ هل في  تريست؟ أو في لندن؟ أو في النهاية في المخيلة، "المكان الفعلي للحرية"؟

بناء الرواية
 تشمل الرواية على خمسة وأربعين فصلا مرقما غطت 474 صفحة. تتطرق إلى ثيمات عديدة، منها لغوية كأهمية الكلمات والكتابة والترجمة وأخرى انسانية - وجودية كالوحدة ومفهوم الصمت واليأس و البحث عن الذات. وهي عبارة عن حكايات متداخلة في بعضها.
   اختار مرسييه لبناء روايته ساردا عليما وشخصية رئيسة، سيمون لايلاند الذي يعلمنا من خلال قراءته رسائل سبق أن كتبها إلى زوجته الراحلة. فخلال وحدته وإنصاته إلى سكون تام، كان يكسر هذا الصمت عن طريق الكتابة إلى زوجته. أحيانا يستذكر الماضي واحيانا أخرى يعلمها بما يجري في حياته كأنه يحاورها. ويعترف أنه يكتب من خلالها ليستمع إلى نفسه، لا لأن يبقيها حية. فتأتي هذه الرسائل مكتوبة بخط مائل، تحكي لنا الشخصية الرئيسة أحداثا سبق أن تعرف عليها المتلقي من خلال السارد العليم. وهو سرد من الداخل. ويفند تكرار الأحداث في هذا النص السردي، لأن وقت استعادة الذكريات هو وقت الاستيعاب، مراجعة النفس، هذا كل ما في الأمر. وأن هذا التكرار يدفع القارئ إلى التأمل والبصيرة. ولا عجب في أن شخصيات مرسييه تطرح على نفسها أسئلة أخلاقية: هل يمكنك التفكير بجدية في وضع فاصلة أو نقطة فاصلة عندما يكون هناك أشخاص لا يعرفون أين ينامون الليلة؟ لكن مع هذا، فإن عم لايلاند البروفيسور وارين شجعه، في رسالة تركها له بعد موته، أن يتجرأ ويكتب بكلماته الخاصة وبصوته الأصلي اعترافات عن شخصه أو قصص يمكن لشخصياتها أن  تعبر عن تجربة مشاعره العميقة بشكل مكثف وشاعري للغاية. فهو الذي ساعد كثيرا الآخرين ومنحهم صوت لغته وصوتا خاصا بهم بلغته. 

البحث عن التوازن في الحياة
   تلقى الشخصية الرئيسة سيمون لايلاند  خبر إصابته بورم في رأسه وأن ليس لديه سوى وقت قصير للعيش. فبعد إحدى عشر أسبوعا يكتشف حدوث خطأ في المستشفى؛ لقد استبدل كشفه الطبي بأخر، وذلك بعد أن ودّع ابنته وابنه وباع دار النشر الخاصة به. إثرها فقد موطئ قدمه، وتاه في دوامة الوقت الذي يمر بلا رحمة. بدأ يراجع نفسه. ماذا فعلت في حياتي؟  يعتقد، من عرفته حقا؟ وهل كنت حقًا، حقيقيًا، ذاتي الحركة، بالطريقة التي عشت بها؟ وهذا لم يمنعه أن يهتم أيضا بحيوات ممن حوله. ويحاول مد يد العون لهم. فكل الأشخاص في حياة لايلاند هم مهمّون، وبالرغم من نجاحاتهم وإحباطاتهم فإنهم أصروا للبحث وإيجاد شيئا ما في الحياة يشعرون فيه بالانتماء. ونجح الكاتب، فعلا، في وصفه  لنفسيتهم وتخبطاتهم لإيجاد ذاتهم والقيام بما يجدون فيه أنفسهم، كابنته صوفيا، الطبيبة التي أصبحت صانعة أفلام وثائقية وابنه، سيدني المحامي الذي أبدع في الترجمة.
   يبدو أن كل هذه القصص المتداخلة تحمل نقطة مرسييه الأساسية؛ النزعة الإنسانية: وهي اقتناعه بأن الكتابة تساهم في عملية معرفة الذات، مثل التحليل النفسي. كل من يكتب يحصل على صورة أفضل عن نفسه، فإن المخيلة هو المكان الفعلي للحرية، والطريقة التي نعيش فيها؛ الطريق إلى الاستقلال الداخلي. وهذا الاستقلال يعتبر الحجرة الأولى لكرامة الانسان ولا نصل إليه بدون معرفة الذات.
    عندما تم اكتشاف الخطأ الطبي، غادر لايلاند تريست إلى لندن. واتضح أن لديه مستقبلا مرة أخرى. فمن خلال السارد العليم وأيضا الرسائل إلى زوجته المتوفية، عاد بذاكرته إلى الماضي، بالمعنى الحرفي والمجازي. زار أكسفورد، الجامعة التي تركها كطالب ليصبح حارسًا ليليًا في أحد الفنادق. هناك نما حبه الكبير للغات، منهم اللغة العربية والمالطية وكل لغات دول البحر الأبيض المتوسط. كما ترجم كتابه الأول. وتتذكر لقاء حبه الكبير، الصحفية الإيطالية ليفيا، التي تولت إدارة دار النشر بعد وفاة والدها، واضطروا لمغادرة لندن والانتقال إلى تريست مع طفليهما. كان لايلاند مترجما قبل أن يترأس دار النشر بعد وفاة ليفيا. لكنه عاد إلى لندن ليستلم  منزلا ورثه عن عمه، أستاذ  اللغات الشرقية، الذي ترك له رسالة يدعوه فيها إلى الكتابة بكلماته واستعمال صوته الأصلي، بعدما كان لايلاند مترجما لعقود، يُعير كلماته وصوته لكتاب آخرين. ولا ننسى أن  مرسييه يعير اهتماما كبيرا لأهمية اللغة. وروايته هاته عبارة عن تقدير وثناء يوجهه للمترجمين والأعمال المترجمة.
  وأخيرا استعمل لايلاند صوته الأصلي، وشرع في كتابة رواية مكتشفا متعة التأليف والاستقلال الذاتي.






 
 
 

 
 

 
 



    في القطار الليلي الأكثر مبيعًا إلى لشبونة ، يخلع
 بعد أسابيع ، تبين أن التشخيص خطأ ، وتم خلط.

 يبدأ الكتاب عندما يمر سيمون ليلاند ، الشخصية
       
 

6
تأثير مفهوم الجذمور
والتفكير البدوي
                                                                                                                                                   
نجاة تميم               

   تجعل الرواية ولوجَنا إلى عوالم أخرى سهلا، دون حواجز أو عراقيل. يمكننا من خلالها أن نكون شهود عيان على حيوات متعددة، تارة غريبة عنا وتارة شبيهة لنا. الروائي أو الروائية عبارة عن حكواتي، ينسج حكايات، تبدو لأول وهلة أنها متفرقة، لا تمتّ لبعضها البعض بشيء. وكل حكاية تشكل لوحدها حلقة كاملة، لكن كل هذه الحكايات، في الواقع، ليست منفصلة، وإنما هي متداخلة بعضها ببعض داخل حلقة كبيرة. هكذا تشبّه الكاتبة والروائية التركية إليف شفق، في أحد محاضرتها باللغة الإنجليزية، على منصة  Ted Talks، فترات حياتها التي تبرزُ على شكل دوائر عديدة  تلمّها  دائرة كبيرة. كانت بدايتها في فرنسا، حيث ولدت في ستراسبورغ عام  1971. ثم عاشت فترة المراهقة في اسبانيا. فبعد انفصال والديها عادت مع والدتها إلى أنقرا، ليعيشا مع الجدة من جهة والدتها.
   كانت أنقرا سبعينيات القرن الماضي ذكورية بعائلاتها الكبيرة العدد. فكيف لأسرة من ثلاثة أفراد نسائية أن تعيش بينهم؛ طفلة وأمها شابة متعلمة ومنفتحة لكنها مطلقة وجدَة، امرأة تقليدية تؤمن بالمعتقدات. لكنها، مع هذا، رفضت تزويج ابنتها وشجّعتها لإكمال دراستها الجامعية التي جعلتها، بعدئد، تعمل بالسلك الديبلوماسي. هذا من أحد الأسباب التي سمحت لإليف شفق، وشفق هو اسم والدتها، أن تتنقل بين دول عديدة في العالم. و تشبّه، بذلك، نفسها بالرحالة أو البدوية التي هي في ترحال مستمر، حاملة حقائبها المليئة خيالا وذكريات، حنينا وغضبا، فرحا  وخيبة أمل. وهي الكاتبة الأكثر مبيعا في تركيا، تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، وتُرجِمت أعمالها إلى خمسين لغة، ومن أبرز رواياتها "قواعد العشق الأربعون"، "حليب أسود"، "أنا وسيدي"، فضلاً عن "لقيطة إسطنبول" و"الصوفي" وغيرها."
   فما شدّ انتباهي هو بناء تقديمها للمحاضرة التي تحدثت فيها شفق عن فترات حياتها وأيضا عن نظرتها إلى مهنة الكتابة. فهي تعتبر أن كل فترة من حياتها تشكل دائرة تغادرها لكي تشغل دائرة أخرى في مكان آخر أو ربما في نفس الفضاء. فالبقاء في نفس الدائرة يجعل المرء يجف ثم يموت، حسب قولها. كلنا نفضل أن ننتمي إلى مجموعة معينة أو مجموعات، لأن ذلك يوفر الأمان  والحماية والاعتراف الذاتي. لكن سلبية هذا الانتماء لدائرة مغلقة تحدّ من التنمية الذاتية والانفتاح على الآخر. لذلك تعتبر نفسها رحالة، تبني مفاهيمها على أفق متحرك وتعيد بناءه باستمرار. فالتغيير في المضمون يتطلب، أيضا، تغييرا في الأسلوب.
   فطريقة تفكير شفق تحيل على مفهوم التفكير البدوي الجذموري للثنائي الفرنسي الشهير جيل دولوز  والمحلل النفسي فيليكس غتاري في كتابهما تحت عنوان "ألف هضبة" ( 1976). فإنهما يؤمنان بفكرة نظام يتضمن مجموعة من المفاهيم المرتبطة في ما بينها ارتباطا ضروريا ويكون هذا النظام مفتوحا. فالفكر بدون صورة، حسب قولهما، هو ما يعرف الآن بالتفكير البدوي أو البداوة في التفكير. لأن البدوي لا ينشأ عمارات فلسفية ثابتة، بل هو في ترحال مستمر.
   الترحال أو البداوة  ليست مجرد وسيلة للتنقل الجسدي. فحسب القراءة التي قام بها دولوز لنيتشه، فهي شكل من أشكال التفكير الذي يتبع خط الهروب والذي لا يسمح بالسقوط في شباك القوى المؤسساتية. وهذا يعود إلى التفكير الفني البدوي، في القرن التاسع عشر، الذي يغرف من منبع استقلال عالم الفن وتكوين شخصية الفرد الذي يعمل على إبراز فردانيته وهويته الإبداعية.
   أما الجذمور، في علم النبات، فهو عبارة عن نباتات واسعة الانتشار، تنبثق من الأرض وتمتد فوق منطقة واسعة. تبدو وكأنها منفصلة، لكنها مترابطة تحت الأرض، تنمو أفقيا وموازية لسطح التربة، يستعملها النبات للانتشار وتكوين نباتات جديدة تطلق جذورا وسوقا عند العقد الساقية. حسب دولوز وغتاري، تكتسب هذه النبتة  دلالات فلسفية متميزة.
  فمفهوم الجذمور باللاتينية rhizome   يقوم على ستة مبادئ:
مبدأ الترابط والتنافر، التعددية، القطيعة الغير دالة ومبدأ الخريطة.
 أما التفكير البدوي الجذموري، فيعتمد على افق منفتحة وعلى عدم ثباته على تعريف مفهوم معين؛ بحيث يبقى هذا المفهوم الفلسفي عرضة للتغيير والحذف والاضافة المستمرة.
   وهذا ما تدعو له  شفق في كتاباتها ومحاضراتها. ففي روايتها الأخيرة، باللغة الإنجليزية، المعنونة "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب"، تطرح حيوات اجتماعية متعددة، متنافرة وفي الوقت نفسه، مترابطة لتعدد هوياتها وانتماءاتها. تهرب من وسط لا يؤكد ذاتها فترسم لنفسها خريطة طريق؛ تجهل توقعات موطنها الجديد. 

البنية النصية
   تُهدي الكاتبة روايتها، التي تتكون من ثلاثة أجزاء معنونة؛ العقل ،الجسد والروح، "لنساء إسطنبول، ولمدينة إسطنبول التي كانت ولا تزال  مدينة أنثى"، أو بالأحرى تتمناها أن تكون أنثى.
   في الجزء الأول، اضطرت الراوية العليمة / شفق أن تعرضَ، في عشر دقائق وثمان وثلاثين ثانية، صيرورة مكثفة لحياة ليلى "التيكلا" التي اشتهرت بهذا الإسم بين زبنائها وأصدقائها. فبدأت بنهاية الحكاية؛ حيث وُجدت ليلى كاملة عفيفة، المولودة يوم 6 كانون الثاني عام 1947 بمدينة فان، مقتولة ومرمية في حاوية نفايات معدنية  في اسطنبول وحذاؤها الأرجواني ما يزال في قدميها، يوم 29 تشرين الثاني عام 1990. كانت رابع عاملة جنس تُقتل خلال شهر حسب التلفاز الوطني. صادف خبر مقتلها تقرير الأمم المتحدة للتدخل العسكري في العراق واستقالة السيدة الحديدية في بريطانيا والتوتر بين تركيا واليونان وإعادة توحيد فريقي كرة القدم في الألمانيتين الغربية والشرقية وإلغاء الشرط الدستوري الذي يفرض على المرأة التركية المتزوجة الحصول على موافقة الزوج للعمل خارج البيت وحظر التدخين على الرحلات الجوية التركية.
   لقد توقف قلب ليلى التيكلا عن الخفقان، لكن دماغها ما زال يقاوم حتى النهاية ولمدة عشر دقائق  وثمان وثلاثين ثانية أخرى؛ حسب تشخيص سابق لأطباء العناية المركزة في كندا.
   وخلال هذه المدة القصيرة ستستعرض ليلى التيكلا ذكرياتها، دقيقة تلو الدقيقة، من خلال مذاق ونكهات أطعمة سبق أن تناولتها تماما كما حدث مع الكاتب الفرنسي مارسيل بروست / الراوي عند تناوله كيكة المادلين في روايته "البحث عن الزمن المفقود".
   ففي أول دقيقة التي توقف قلبها عن الخفقان ومازالت الخلايا العصبية نشيطة تربط بعضها ببعض وتمدها بطاقة أخيرة، كانت أول ذكرى مرّت بعقلها هي ذكرى الملح الذي غُطست فيه إبان ولادتها لامتناعها عن إصدار الصرخة الأولى. ولدت ليلى في عائلة أكارسو في مدينة فان التركية. تزوج أبوها هارون من والدتها، بينّاز، وهي في السادسة عشرة زواجا غير رسميا. بيناّز التي بقوا يعيّرونها بالفقر، هي ضرة الزوجة الأولى سوزان العاقر. هذه الأخيرة التي أصبحت أمّا  لليلي وبينّاز، أمها البيلوجية، عمّتها.
دقيقتان:
   بعد توقف قلبها بدقيقتين، تذكرعقلها مذاقين متناقضين؛ الليمون والسكر. ففي حزيران عام 1953، رأت نفسها طفلة في السادسة من عمرها، في بيتهم الكبير، بمدينة فان، بجدرانه المزينة بجداريات فنية الذي ينمّ عن تاريخ عريق. لقد سكن هذا البيت، قبل الحرب العالمية الأولى، طبيب أرميني مع زوجته وبناته الستة اللواتي كنّ يعشقْن الموسيقى والغناء. لكن هذه العائلة خرجت ولم تعد وتركت ورائها ممتلكاتها الثمينة. وحصل والد هارون، محمود (الأغا الكردي) المتنفذ على هذا البيت لقاء دوره في تهجير الأرمن من هذه المنطقة، اللذين اُرسلوا في جماعات إلى صحراء دير الزور، حيث لم ينج منهم إلا القليل. اكتشفت ليلى أن الأمور ليست كما تبدو عليه؛ يوجد طعم مرّ تحت الطعم الحلو.
ثلاث دقائق:
   بعد توقف قلب ليلى التيكلا بثلاث دقائق، تذكرت القهوة المنكهة بالهيل؛ قهوة مركزة ارتبط مذاقها في عقلها بشارع المواخير في إسطنبول. كان ذلك في شهر أيلول عام 1967، تذكرت ليلى شارعا مسدودا بجوار المرفأ، الممتد بين صفوف المواخير المرخصة. وفي الجوار، توجد مدرسة أرمينية وكنيسة يونانية وهيكل لليهود الشرقيين وتكية للصوفيين وأبرشية للروس الأرثوذكس. وهذا كله ينتمي إلى الماضي الذي أسسه السلطان عبد العزيز في القرن التاسع عشر. كانت ليلى آنذاك في السابعة عشرة من عمرها، حين باعها زوجان منغمسان في الدعارة إلى أول ماخور، ولم يكن في حوزتها إلا خمس ليرات وعشرين قرشا. وذلك حدث قبل ثلاث سنوات. لكنها تعتبر ذاكرتها مقبرة للماضي، دفنت بها مقاطع من حياتها. ففي هذه السنة، تعرفت ليلى على نالان في  الزنزانة، وهي من عائلة ثرية من الفلاحين ومربي المواشي في منطقة  وسط الأناضول. جاءت إلى إسطنبول لكي تصحح الخطأ السافر الذي اقترفته الطبيعة. أسمتها ليلى نوستالجيا. وكانت  نالان تدعى عثمان. هرب في ليلة زفافه إلى إسطنبول. وهي أحد أصدقائها الخمسة.
أربع دقائق
   إن رائحة البطيخ ومذاقه أعادها إلى صيف أب 1953 ورحلة عائلة أكارسو إلى بلدة معروفة بصيد الأسماك على الساحل الجنوبي. هناك بدأت ليلى تعيش كابوس الاعتداءات الجنسية من قبل عمّها وعمرها لا يتجاوز ست سنوات واستمر ذلك خلال زياراته للعائلة.
   كان صديقها الوحيد في هذه القرية، "والشجرة التي تقدم لها الحماية والملاذ" بالرغم أنه يعاني أيضا من التنمر،  سنان، ابن صيدلية القرية. وهو أيضا أحد أصدقائها الخمسة. كان أبوه الذي توفي في الحرب. يعتبر "أن سكان القرية أناس مسحوقين تحت وطأة الدين والمعتقدات الصارمة". وكان يؤكد "أن المرء لا يستطيع تغيير الجغرافيا، إلى أنه في وسعه أن يحتال على القدر".
خمس دقائق
   بعد مرور خمس دقائق على توقف قلبها عن الخفقان، كانت ذكرى ولادة شقيقها تاركان مقرونة برائحة يخنة الماعز المتبل بالبهار ومذاق الكمون والثوم والبصل. ازداد تاركان بمتلازمة داون وكان ذلك بمثابة عقاب رباني للأب هارون. فامتنع هذا الأخيرعن شرب الخمر وخياطة فساتين النساء ومنع أسرته من سماع الراديو وتصفح مجلات الموضة ونجوم الفن.
   في 13 نيسان عام 1963، صادف هذا العام أحداثا كثيرة، اطلعت عليها  ليلى في الجريدة اليومية؛ اعتقال مارتن لوثر كنغ لاحتجاجه على سوء المعاملة. وفي الأخبار المحلية، اضراب فلاحي الأناضول بسبب الفقر والبطالة. حينها بلغت  ليلى السادسة عشرة.
   كان سنان ينقل أخبار الراديو ويمدّها بالمجلات، فعلمت بحصول المرأة الإيرانية على حقوقها السياسية وأن أمريكا خسرت الحرب في الفيتنام. كما أن سنان يعرف الكثير عن الحربين العالميتين الأولى والثانية. لذلك أسمته سابوتاج – تخريب. بالإضافة إلى ذلك، كانا يساندان بعضهما البعض كونهما يعانيان من التنمر خصوصا في المدرسة.
ست دقائق
   بعد ست دقائق على توقف نبضات قلب ليلى عن الخفقان، مرّ في خاطرها ذكرى الموقد المشتعل ورائحة الخشب. كان ذلك يوم 2 حزيران عام 1963 وهو يوم زفاف ابن عمها. وأرعبها حزام الطوق الأحمر الذي يلف خصر العروس ويرمز إلى العفّة. فشعرت بصخرة على صدرها لأنها تعرف عقاب الفتاة الغير عذراء. هكذا بدأت ليلى تؤذي نفسها بأي شيء حاد للتكفير عن ذنبها. وكانت اعتداءات عمّها تتكرر كلما سنحت له الفرصة ويوهِمها كل مرّة بأن القذارةَ موجودةٌ فيها. أما والدها فكان يعلّمها القرآن ويكرّر لها بأن الله يرى كل شيء، لكنها ترى أن الله لم يساعدها عندما تحتاجه. 
سبع دقائق
   إذ واصل عقل ليلى القتال، تذكّرت طعم التربة، الجاف والطباشيري والمرّ. فالطباشير ذكّرها بأطفال كانوا يطاردون رجلا عجوزا يزيديا، فرسموا حوله دائرة بالطباشير وتسمّرَ في مكانه. فهذه الدائرة هي أيضا تمثل شكل لعبة الهيلا هوب التي منعها والدها من اللعب بها كالعارضة الأمريكية التي رأتها في مجلة "الحياة". فكيف يمكن أن يصبح الطوق الدائري الذي عزل إنسانا، أوقعه في فخ، رمزا للحرية المطلقة ونعمة لإنسان آخر؟" فهذا التوق الذي يلف خصر الأمريكية يمثل لها الحرية، أما اليزيدي فكان ينتظر أحدا يمحو له خط الطباشير لكي يخرج من الدائرة.
   أما التربة فقد كانت تلتهمها عندما عرفت أنها حامل من عمّها. وباحت بذلك لعمتها بيناز وهذه الأخيرة أخبرت أباها الذي لم يرد أن يصدق ذلك لكي يحمي أخاه. أما الطعم المرّ فقد اقترن باكتشافها حقيقة والدتها البيلوجية؛ وهي عمّتها بينّاز.
   ففي أيلول عام  1963، قرر الأب منع ليلى من الذهاب إلى المدرسة. وفي تشرين الثاني داهم المرض شقيقها تاركان وغادر الحياة. وفي عصر نفس اليوم تركت ليلى البيت. وعرفت أنها "لا تستطيع العودة، وأن هذا الموت البطيء الذي وجدت نفسها فيه أصبح هو نفسه الآن حياتها".
   تعرفت على جميلة في المستشفى أثناء الفحص الطبي لعاملات الجنس وهي أول صديقة لها في إسطنبول "وهي أحد خمسة". ولدت جميلة في الصومال لأب مسلم وأم مسيحية توفيت باكرا. عند بلوغها السابعة عشرة، انضمت جميلة إلى اجتماع في الكنيسة. ولم يجد ذلك قبولا عند العائلة فأصبحت منبوذة. فخلال فترة حكم سياد بري، جاءت مع العديد من الافارقة إلى إسطنبول هربا من الحرب الأهلية والعنف الديني والعصيان السياسي.
ثماني دقائق
   مرت ثماني دقائق وتمثلت الذكرى التالية، التي تركت أثرا على جسدها في آذار عام 1966، في رائحة حامض الكبريتيك، لقد حاول أحد الزبائن، المختل عقليا، أن يفرغ محتوى الزجاجة على وجهها. فأصاب، لحسن حظها، ظهرها.
   لقد ازداد البؤس والعنف في المدينة، طوال فصل الربيع لعام 1966.  واشتبكت الفصائل السياسية وقتُل الطلاب في الجامعات. لكن ثمة امرأة عربية واحدة كان يروق لليلى أن تقضي الوقت برفقتها، امرأة قامتها قصيرة إسمها زينب 122. وهي أحد خمسة؛ ولدت في قرية جبلية شمال لبنان. كانت تتمنى أن تكون رحالة وهي قارئة الفنجان في أوقات فراغها. ففي نيسان عام 1964، اشتغلت في صالون حلاقة في إسطنبول لساعات طوال لم يتحملْها جسمُها. فعرضت عليها سيدة العمل كمنظفة في الماخور.
تسع دقائق
   تذكرت ليلى د/علي الطالب اليساري ومذاق حلوى الشكولاته المحشوة بالكراميل والكرز والبندق المطحون. ففي تموز عام 1968، كان الأسطول الأمريكي السادس في طريقه لكي يرسو على ضفاف البوسفور. لكن مظاهرات مناهضة للنظام أفشلت قدوم سفينة الناتو. كان من ضمنهم د\علي الذي هرب من الشرطة وآوته ليلى في الماخور. وأصبح يتردد عليها ويجالسها في غرفتها ويحكي لها عن والده العامل في مصنع فورد في كولونيا وعن روزا لوكسمبورغ التي اغتالها الجيش ورماها في ترعة. كما أنه كان يكلمها كأنها ندا له. فراقت لها هذه المساواة.
عشر دقائق
   بمرور الوقت، استعاد عقل ليلى مذاق بلح البحر الأسود المقلي في زيت غامر. ففي تشرين عام 1973، اكتمل جسر البوسفور، بعد ثلاث سنوات من العمل. وهو رابع أطول الجسور في العالم. يلتقي البحر الاسود ببحر مرمرة من جهة في حين يجري بحر إيجه ليلتقي بالبحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى. وقد صادف احتفال التدشين الذكرى الخمسين لتأسيس جمهورية تركيا. في ذالك اليوم،
زار د\علي ليلى وهو محمل بمنشورات ضد النظام وبلح البحر المقلي. لقد كاد أن توقفه الذئاب الرمادية - الفاشيون المسيطرون على المنطقة.
  ففي تلك الفترة، تعرفت ليلى على حميراء بالصدفة عندما وجدتا، على الطريق، قِطّا أسودا مُصابا وقرّرتا أخذه إلى بيطري لعلاجه. فحميراء أحد خمسة،
   ولدت حميراء في ماردين، على مقربة من دير القديس غابرييل في سوريا وهو اقدم دير في العالم للسريان الأرثوذكس. اُرغمت على الزواج وهي في السادسة عشرة من صديق والدها في التجارة والذي كان يعنفها فهربت إلى اسطنبول وكانت خائفة أن تقع ضحية غسل العار. لقد كانت تعمل مغنية في كازينو على رصيف الميناء.
 عشر دقائق وعشرون ثانية
   في الثواني العشرة الأخيرة التي سبقت توقف دماغ ليلى عن العمل توقّفا تامّا، تذكّرت قالبَ حلوى زفافها مع د\علي  وتركها للمهنة واستأجراهما، في شارع هيري كافكا، شقة رقم 7 في الطابق العلوي. لكن  فرحتها لم تدم طويلا؛ لأن  د\علي قُتل أثناء مظاهرات  الأول من أيار، في ساحة التقسيم، من قبل أحد القناصين عام 1977.
عشر دقائق وثلاثون ثانية
   قبل أن يستسلم دماغ ليلى التكيلا نهائيا، تذكرت مذاق الويسكي بالشعير، وكان آخر طعم بين شفتيها قبل وفاتها. ففي تشرين  الثاني عام 1990، بينما كانت  ليلى وصديقتها جميلة في البيت رنّ الهاتف. كانت مديرتها السابقة في الماخور تطلب منها خدمة؛ أن تلتقي إبن باشا وتقنعه بالزواج  من فتاة اختارها له والده. يبدو أن للشاب المُثلي عشيق منذ زمن طويل. وافقت بصعوبة. فذهبت للقاء الشاب في فندق الإنتركونتنتال لكي تعلّمه قواعدَ الإغراء قبل ليلة الزفاف ربما يتماثل للشفاء، حسب والده الباشا المتدين والمحافظ جدا. وخلال حديثها معه تفهّمته وغادرت المكان. وهي في طريقها إلى بيتها، اعترضتها سيارة مرسيدس وعرضوا عليها الركوب لتشاركهم عيد ميلاد صديق وأغروها بمبلغ كبير، كانت هي فعلا في حاجة إليه لعلاج صديقتها جميلة التي تعاني من مرض الذئبة. ففي الطريق، انقبض قلبها. لكن فات الآوان.
الثواني الثماني الباقية
   كان آخر ما تذكرته ليلى هو مذاق قالب الحلوى بالفراولة في السادس من كانون الثاني الذي أعدّته بنفسها. لقد أقام، بمناسبة عيد ميلادها، أصدقاؤها الخمسة، سنان المُخرب، صديق الطفولة والذي لحق بها في اسطنبول، نوستالجيا نالان المتحوّلة جنسيا، جميلة، زينب 122 وحميراء المغنية حفلة لها. لقد كانت تظن أن العدد خمسة مميز؛ فالتوراة تتألف من خمس كتب وأركان الإسلام خمسة وفي البوذية خمسة طرق، في حين أن شيفا كشف عن خمسة وجوه تنظر إلى خمسة اتجاهات مختلفة، وأما الفلسفة الصينية فتدور حول خمسة عناصر؛ الماء والنار والخشب والمعدن والأرض. وهناك خمسة مذاقات متعارف عليها؛ الحلو والمالح والحامض والمر والأومامي (طعم الغلوتامات). كما يعتمد إدراك البشر على خمس حواس؛ السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
   هكذا حاول العقل تكثيف حياة برمّتها في وقت يستغرق غليان ماء في إبريق. أما في الجزء الثاني "الجسد"، فسنرى الأصدقاء الخمسة الذين يريدون انتشال جثة صديقتهم ليلى، التي رفض أهلها إستلامها، من مقبرة "كيروس" للمنسيين والغرباء والمنبوذين واللاجئين والمهمّشين، وذلك لكي يردّوا الاعتبارَ للجسد  ويمنحوه قبرا وليس رقما مجهولا؛ ولأنسنة المجّرد من الانسانية. فبعد أن نُبذت ليلى من جهة قرابة الدم فقد وجدت في أصدقائها قرابة الماء. لقد كانوا "ضعافا منفردين، ولكن أقوى في اجتماعهم".
   أما في الجزء الأخير المعنون "الروح"، فقد نجح الأصدقاء الخمسة في إيجاد قبر الجثة وانتشالها رغم ملاحقة الشرطة لهم.  فلقد غامروا وألقوا بالجثة في آخر لحظة في مضيق البوسفور كما كانت ليلى تتمنى أن تعيش سمكةٌ في كونٍ غنيّ بالألوان الطبيعية. وقد شاهدت كنوزا ضائعة وهياكل صدئة لمراكب غارقة ومحضيّات دُفعن بهنّ دفعا من نوافد القصر وهنّ داخل أكياس تماما كما نقرأ في قصائد "الشرقيات"(1829) للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو. لكن ليلى أضحت سعيدة لكونِها أصبحت جزءا من هذا الملكوت النابض بالحياة والبرّاق مثل ولادة شعلة جديدة. لقد "صارت حرّة أخيرا".

 

 



   



 
   


 


 









7

احتكار الخيال في الإبداع والتوق إلى الحرية
                                                                           
نجاة تميم

   كان التوق إلى الحرية مشروعا فلسفيا سياسيا والشغل الشاغل للفيلسوف والطبيب الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704). فهو يعتبره الحق الطبيعي لكل فرد، لكي يستطيع تكوين شخصيته المتفردة؛ فالإنسان لن يكون مكتملا في انسانيته إلاّ إذا كان حرا مستقلا عن إرادة الآخر. فهذه الأفكار التي تنتمي إلى القرن السابع عشر، ما زلنا في صراع لتحقيقها في الواقع المعاش كما في مجال الإبداع.
   هذا ما عايشناه مع الرواية السيرذاتية المعنونة  "سأعيش حياتي"، التي أثارت ضجة إعلامية، وباتت تتقدم لائحة الكتب الأكثر مبيعا، في هولندا، منذ الأسبوع الأخير من شهر آذار / مارس، بعد صدورها يوم 10 شباط / فبراير 2021. وهي الرواية الأولى لطالبة اللغة الهولندية، ذي الثالثة والعشرين ربيعا، لالا غول، الهولندية من أصول تركية.  فبعد موجة من الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي  ضدها، تبدو أنها ستستسلم  وتتوقف عن الكتابة. لقد اهتم الاعلام المرئي والمقروء برفضها للوسط الذي تعيش فيه وتمرّدها عليه أكثر من اهتمامه بتحليل أسلوب ومتن الرواية وأهمية النقد الاجتماعي ووضع المرأة في الوسط الذي تنتمي إليه الكاتبة.
   تعيش الشخصية الرئيسة، بشرى، في عالمين متناقضين ثقافيا؛ وسط محافظ ومغلق داخل المجتمع الهولندي الأوروبي المنفتح على الآخر. تذهب كل نهاية الأسبوع  إلى مدرسة Milli Görüs  لكي تتعلم اللغة التركية، وتحفظ القرآن عن ظهر قلب دون فهم فحوى الآيات القرآنية.
   بشرى كما الكاتبة، فتاة ترعرعت في وسط تركي - هولندي في منطقة كولنكيت، غرب أمستردام. تحكي تجربتها كشابة تتوق إلى الحرية، ولا تجد من يستمع إليها ويوجّهها. فوالديها  لازالا  يعيشان، بنفس العقلية كما كانا في قريتهما التركية النائية، في وسط تحكمه المعتقدات والعادات والتقاليد وتعاليم إسلامية يُمليها تيارٌ ديني متشدد، ممزوجة بأسلوب حياة مشبع بثقافات راسخة في القدم. كما أنهما غير متعلمين ولغتهما الهولندية ضعيفة. وهذا يجعل التواصل مع ابنتيهما صعبا.
   تعتبرMilli Görüs  أكبر حركة إسلامية تركية في غرب أوروبا ولها نشاطات في عدة دول من بينها هولندا، بلجيكا، فرنسا وألمانيا. فاسم ميلي غوروش مأخوذ من كتاب صدر عام 1975، للزعيم الإسلامي القومي المحافظ "نجم الدين أربكان" (1926 – 2010) والذي يُترجم  كإيديولوجية "رؤية وطنية".
   كان أربكان أول رئيس وزراء إسلامي (1997- 1998) وهو مؤسس لعدة أحزاب إسلامية وآخرها حزب الرفاه، منذ ستينيات القرن الماضي حتى عام وفاته 2010. ايديلوجية ميلي غوروش ترفض العلمانية وتدعو إلى اتباع القيم الإسلامية وتقوية العلاقات مع الدول الإسلامية.  وكان يُؤلمه الصعود السياسي لتلميذيه رجب طيب أردوغان  وعبد الله غول عام 2002 إثر فوز أردوغان وحزبه العدالة والتنمية  في الانتخابات بأغلبية ساحقة من خلال توليفة ذات مرجعية إسلامية تتبنى (علنيا وليس ضمنيا) الديمقراطية الليبرالية.
   تضم مؤسسة ميلي غوروش حوالي خمسين منضمة موزعة في هولندا وثلاثين ألف  منخرط هولندي من أصول تركية وتحصل سنويا من الدولة الهولندية على دعم مادي يصل إلى عشرات الآلاف من اليورو. كانت قيادتها لفترة وجيزة تتسم بالليبرالية الدينية حيث أدانت خلال خطبة في مسجد "ميلي غوروش"  مقتل المخرج  ثيو فان خوخ من قبل محمد بوييري في 2 شباط / نونمبر عام 2004. لكن المركز الرئيسي رفض هذه الليبرالية وسحب الثقة من فرع هولندا. ثم نقل القيادة إلى مقر المؤسسة الأوروبي، المعروف بتشدده. في مدينة كولونيا بألمانيا.
   كانت  البداية في برونشفايك، عام 1967، حين تجمع  بعض الطلاب الأتراك لتأسيس جمعية لتقديم خدمات دينية للعمال الوافدين إلى ألمانيا منذ 1961 وبناء مسجد للصلاة وفضاء لتجمع هؤلاء العمال فيه إلى أن أصبحت، منذ 1995، مؤسسة كبيرة بفروعها المنتشرة في أوروبا.
   ففي روايتنا، الشخصية الرئيسة، بشرى كما لالا،  مجبرة للذهاب إلى مدرسة نهاية الأسبوع، ميلي غوروش، محجبة، من السادسة إلى السابعة عشر من عمرها. وتتذكر أنها يوما طُردت من المدرسة لأن أظافرها كانت مصبوغة. فقوانين المدرسة صارمة جدا. كما أن الحجاب إجباري بالنسبة للفتيات القاصرات. تقول لالا أنها لم تخبر أمها، عامين كاملين، بدورتها الشهرية وذلك خوفا من أن يُفرض عليها ارتداء الحجاب.
   ترفض بشرى القواعد الصارمة في البيت وكذلك في الوسط التركي المغلق الذي يعيشون فيه. النميمة والرقابة الاجتماعية تؤثرا  كثيرا على الفتيات وتحدّا من تحركاتهن وكذلك من تنميتهن الذاتية. فتثور بشرى ولا تجد من يفْهمها ويتفهّم حاجياتها كشابة مراهقة. تتراكم أسئلتها وما من مجيب. الوالدان يقعان تحت ضغط لوائح العيب والحرام وليس لديهما تفسيرا لإقناع شابة تعيش في بلد متقدم ديموقراطي يحترم الحريات وبالأخص حرية التعبير التي يتلقّنها الأطفال منذ نعومة أظافرهم في البيت وفي المدرسة ابتداءً من الروض.
   أَضف إلى لائحة الممنوعات؛ فالاستماع إلى الموسيقى ممنوع، العلاقات الإنسانية مع الجنس الآخر ممنوعة، تكوين صداقات مع شبان غير قانونية، ارتداء الملابس الجميلة والماكياج غير لائق والسهر خارج البيت غير مسموح،  كما الاحتفال بعيد الميلاد والسفرات المدرسية  وغيرها. تقول الكاتبة أن بشرى ليست لالا غول. لكن هذه الأخيرة عانت أيضا من كل هذا. فتقول: " لا أريد أن أكون مجرد نبتة في غرفة المعيشة"
   زاد الضغط على لالا وعلى عائلتها. فوالدها بدأ يتجنب الذهاب إلى المسجد للصلاة. أما التلفون فلم يتوقف عن الرنين. حسب هذا الوسط، فهي تهين سمعة الجالية التركية وتوسخ سمعتها وللحفاظ على أمنها اضطرت أن تغادر بيت والديها لتعيش في مكان آمن وفرّته لها بلدية أمستردام ورئيستها فِمْكَ هِلسْما ( حزب اليسار الأخضر). بالإضافة إلى الرسائل السلبية والتهديديات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأهلها أيضا لم يسلموا من كلام البعيد والقريب. ويقال أن منظمة ميلي غوروش اتصلت بوالدها لتوبيخه. اهتز العالم من حولها داخل هولندا وأيضا في تركيا؛ حيث تًرجمت مقاطع من الرواية وأرسلت إلى الصحف التركية المحافظة. لا تحتوي الرواية على نقد المجتمع الإسلامي المتشدد وسيطرته الاجتماعية وأيضا السياسية على هذه المجموعات بل أيضا رفضا تاما للعيش بهذه المنظومة. وهذا لا يقبله بالطبع المحافظون الإسلاميون ويعتبرونه انتهاكا لشرف العائلة وارتدادا يجب معاقبته.
   تعترف لالا أن روايتها تتضمن تفاصيل كثيرة من حياتها. تذهب لالا /بشرى لزيارة عائلة صديقها الهولندي السابق فريك (اسم مستعار)، دون علم أهلها، وتجد آذانا صاغية لها. فوالدة فريك تهتم برأيها في أشياء كثيرة. تريد معرفة ذوقها في الستائر وتناقشها عن السياسة وعن برامج تلفزيونية شاهدوها. أما والد فريك فيتحدث معها بصراحة عن انتخابه للحزب اليميني المتطرف، حزب الحرية PVV . كما أنها (بشرى / لالا) تشاركه الرأي في إيقاف هجرات المسلمين إلى أوروبا.
    يبدو أن النظام الأوروبي عملة ذو وجهين؛ فلولا الديمقراطية وحرية التعبير وحرية الأديان، لما استقبلت أوروبا في ثمانينيات القرن الماضي الإسلاميين الهاربين من بطش الحكم العسكري التركي. هكذا لقوا ملجأ آمنا ليعيدوا تنظيماتهم ويوطدوا تواصلهم الأيديولوجي. ومن ثم عادوا، واسلاميين لاجئين آخرين، إلى بلدانهم لتطبيق خططهم الأيديولوجية؛ الإسلام السياسي. فالدروس التي تلقتها بشرى / لالا غول في مدرسة ميلي غوروش كانت تتناقض مع  النظام التعليمي الهولندي المبني على المساواة بين الجنسين وحرية التعبير. فهذا التناقص خلق لديها غضبا وبقيت أسئلتها بدون إجابة. فأدارت ظهرها للوسط التركي المحافظ والمتشدد. اختارت حياة جديدة، حريتها. فتوقها إلى الحرية آتى أكله بتسليطها الضوء على وضع المرأة في هذه الغيتوات التي تعيش على هامش المجتمع، وبالتأكيد جعلت فتيات أخريات يتجرأن لحماية أنفسهن في حالات مشابهة، في مجموعات عرقية أو دينية متشددة أخرى.
   وختاما، فإن لالا غول حُكم على شخوص روايتها من قبل أفراد جاليتها، لكن شخوص الرواية المعنونة "لقيطة اسطنبول" لمواطنتها إليف شفق مثلوا أمام القاضي عام 2006، الذي برّأها وشخوصها لعدم توفر أدلة كافية.

8
الميسوجينية أو تعصب جنسي
                                                                     
نجاة تميم
     عاد الحديث عن السيكسيزم والميجوسينية إلى الواجهة في الوسط السياسي الهولندي. فيا ترى ماذا يتضمن هذان المفهومان وما تأثيرهما على صيرورة حياة المرأة السياسية؟  نلاحظ ، في الآونة الأخيرة، مانشيتات الصحف ومقالات تعبر عن قلق السياسيات الهولنديات من تزايد العنف ضدهن على منصات التواصل الاجتماعي وبالأخص على تويتر. فهل يُعقل هذا في دولة تتمتع النساء فيها بحقوقهن السياسية
   لكن الحدث الأهم وربما السبب في هذه الحملة العدوانية ضد السياسيات هو أن عشرَ نساء تقدّمن ولأول مرة في تاريخ هولندا السياسي، قائمةَ انتخابات شهر آذار / مارس 2021 لكي يَقُدْن أحزابَهن. فمن هذه الأحزاب الكبيرة / المتوسطة والقائدات السياسيات، سيكريد كاخ من حزب D66  (ديمقراطيو66، حزب ليبرالي يمين وسط) ، ليليان مراينسن  الحزب الاشتراكي، ليليان بلومن  حزب العمال وإستر أوهاند من حزب الحيوانات.
   كانت المفاجأة مع صعود سيكريد كاخ الجديدة على الساحة السياسية والتي كانت قد تبوأت مناصب عديدة في الأمم المتحدة وفي وزارة الخارجية الهولندية وهي حاليا وزيرة التجارة الخارجية والتعاون من أجل التنمية في حكومة تسيير أعمال. سيكريد كاغ  أثبتت حضورا مميزا خلال حملتها الانتخابية، الأكثر تقدمية حسب قولها، فكان لها النصيب الأكبر من التغريدات السلبية والرسائل التي انهالت عليها كلها كراهية وعدوان، وذلك لكونها امرأة صاحبة كاريزما، بالإضافة إلى أنها متزوجة من فلسطيني مسلم، أنيس القاق، طبيب أسنان وسفير فلسطين سابق في سويسرا. وهي أيضا أم لثلاثة أبناء وابنة. ولنعُد إلى هذه الحملة ضد السياسيات، ونتساءل  عن دور مفهومي الميسوجينية  والسيكسيزم  في حياة المرأة السياسية.
   إن مفهوم السيكسيزم  حديث العهد. لقد لوحظ استعماله في بداية الموجة الثانية لتيار النسَوية، خلال ستينيات القرن الماضي، في الولايات المتحدة. وغالبا ما يُشار، بالأخص، إلى كُتَيب لشلدوم فناوكر حول "السيكسيزم" عام 1968. وهذا المفهوم هو التمييز على أساس الجنس ويقع غالبا على المرأة أكثر من الرجل. أما الميسوجينية فهي بكل بساطة الكراهية التي تُقذف بها المرأة عندما تدخل، بالأخص، ميدان السياسة؛ كره المرأة بشكل عام، الغير مبرر بالنسبة لها. فالنسَويات تحاربن أيضا السيكسيزم. وهذا الأخير يؤثر على المرأة والفتيات. لكن يمكن أن يؤثر أيضا على الرجال والفتيان في حالة أنهم لا يمتَثِلون لأدوار النوع الاجتماعي وما يَنتظر المجتمع منهم.
   السيكسيزم سلاح خفي وخطر ويولّد عند المرء إحساس بالنقص واللجوء إلى الرقابة الذاتية ومحاولة تجنب المجابهة وتغيير السلوك. وقد يؤدي هذا كله إلى تدهور نفسي و صحي. ولا يقوم السيكسيزم على العدل والمساواة بين الجنسين كما أنه يتواجد في كل الميادين.
   الأفعال الفردية لسيكسيزم تبدو لأول وهلة عادية وقد تبدأ بنكتة. لكنها تخلق مناخ التخويف والخوف وعدم الأمان. وهذا يؤدي إلى التغاضي عن العنف، بالأخص من طرف النساء والفتيات. وبما أن هذا المفهوم له تبعات معقدة لذلك تبنى الاتحاد الأوروبي توصية بشأن منع ومكافحة التمييز على أساس الجنس. وإلى جانب هذا، شكّلت الأمم المتحدة للمرأة، عام 2010، أربع هيئات دولية لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، من ضمنها مكتب المستشارة الخاصة للقضايا الجنسانية.
   لقد كشف بحث "دليل السلطة"(1) machtswijzer  لعام 2001 وهو عبارة عن دليل طوّره مجلس النساء الناطقات باللغة الهولندية، عواقب ميكانزمات النوع الاجتماعي خلال الاجتماعات، في الهيئات الإدارية، في مجال اللوبي وما شابه ذلك. وكيف يمكن التعامل معها بمجرد اكتشافها. وينصب الاهتمام على خمس ميكانزمات  التي تعمل على تقويض مهارات عمل المرأة من قبل زملائها.
أولا، جعلها غير مرئية؛ يتجاهلونها.
ثانيا، يَسخرون منها
ثالثا، لا يُعلِمونها بكل شيء
رابعا، يُعرقلون نجاحها
خامسا، يُثقلونها بالإحساس بالذنب.
   علاوة على ذلك، فالتمييز على أساس الجنس يشمل كل تعبير، سواء فعلا، كلمة، صورة، أو حركة أساسها فكرة التقليل من قدر الآخر وتهميشه.
    في المجال السياسي، تواجه المرأة عراقيل من نوع آخر؛ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا ما أكّدته The Gardien وThe New York Times   وAmnesty International ومنضمات دولية أخرى مرارا وتكرارا، خلال السنوات الماضية: أن السياسيين يعانون من الكراهية عبر النت، لكن الكراهية تقع، بالأخص، على شخص السياسيات بشكل فاق كل المقاييس. فنتيجة ذلك لم ترشح ثمان عشرة برلمانية نفسها للانتخابات البرلمانية السابقة في المملكة المتحدة بسبب معاناتهن من هذه الكراهية.
   ولدراسة هذه الظاهرة، قامت  سَهْرا محمد ويُورس فربيك، من جامعة أوترخت بالتعاون مع صحيفة خرون أمستردمر العريقة منذ 1877،  ببحث(2) لتحليل 932 339  تغريدة ما بين الأول من تشرين الأول / كتوبر 2020 و26 شباط / فبراير 2021 مُرسلة إلى كل النساء الموجودات على قائمة الانتخابات آذار / مارس 2021. وقد استعمل برنامجا اُستلهم من البرنامج الذي تستخدمه منظمة العفو الدولية لحصر كراهية المرأة؛ يعتمد النوع الاجتماعي والادوار النمطية للمرأة في المجتمع، بالإضافة إلى توزيع التغريدات حسب العمر / الجسم، العرق والديانة.
   نرى من خلال هذا البحث، أن نسبة  10 في المائة من مجموع التغريدات (932 339 ) الموجهة – تويتر- إلى السياسيات الهولنديات فحواها الكراهية والعدوان وأحيانا التهديدات. فأغلب هذه اللعنات / التغريدات تندرج تحت ملصق النوع الاجتماعي والتمييز على أساس الجنس. وفي حال تنتمي السياسيات  إلى أقليات دينية أو عرقية، أو سمراء اللون، فإنهن يتعرضن أكثر للكراهية. ولوحظ أيضا أن النساء اللواتي يدخلن ميدان السياسة يمكن أن يتوقعن تعليقات حول المظهر الخارجي، كالملابس، اللون، نبرة الصوت، تسريحة الشعر، حول أجسامهن وكذلك ديانتهن. ولا ننسى الحملة الأنثوية التي شُنّت ضد هيلاري كلينتون خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016. ويستنتج من هذا، أن المرأة تتعرض أكثر للكراهية في المجال السياسي. لذلك تخشى السياسيات من تخوف الشابات وعزوفهن دخول المجال السياسي.
   والملاحظ، أن نسبة  22 في المائة من  كل التغريدات (932 339 )، أرسلت للسيدة سيكريد كاغ، القائدة السياسية لحزب ديمقراطيو 66؛ بمعنى  ثلاث عشرة ألف تغريدة سيئة جدا في أقل من خمسة أشهر؛ أي تغريدة كل ربع ساعة. لكن كوثر بوشاليخت رقم 9 على لائحة الانتخابات لحزب اليسار الأخضر، فقد حصدت نسبة 30 في المائة من التغريدات السيئة وذلك لكونها امرأة، محجبة ومن أصول مغربية . ولقد فقدت مصداقيتها لفترة، لأنها كانت نائب رئيس منظمة فيميسو FEMYSO؛  وهي منظمة جامعة لمختلف حركات الشباب الإسلامي في أوروبا، يدعمها الاتحاد الأوروبي. وتضم في عضويتها مؤسسات في ثمانِ وعشرين دولة. وحسب الخبراء، فإن منظمة فيميسو على صلات بجماعة الإخوان المسلمين المتشددة. لكن بوشاليخت نفت عنها، في برنامج تلفزيوني M""، كل الشبهات. بالإضافة إلى ذلك، أكد رئيس حزب اليسار الأخضر يس  كلافر دعمه لشخصها وللمبادئ التي تحملها، حسب قوله. إلى جانب سيكريد كاغ  وكوثر بوشاليخت، هناك سيلفانا  سيمونيس، من أصول سورينامية، سمراء اللون، مذيعة الراديو ومقدمة برامج تلفزيونية  ورئيسة حزب Bij1""؛ هي أيضا حصدت نسبة 20  في المائة من كل التغريدات السلبية. وتعاني منذ 2015 من هذه الكراهية في حقها.
   فإلى أين تتجه كراهية السياسيات؟ والجواب أن نسبة تغريدات الكراهية توزع كالتالي: 40 في المائة  بسبب الجندر،  30 في المائة الديانة، 25 في المائة أسباب أخرى، 20 في المائة العِرق، و9  في المائة العمر / الجسم. كما لوحظ أن المغردين ينادون البرلمانيات بألقابهن، كلغة احترام،  بنسبة 27 في المائة  فقط مقابل  75 في المائة للبرلمانيين. وهذا أيضا يعني أن البرلمانيات لا يؤخذن، من البعض، بمحمل الجد. ويوجه أصبع الاتهام في هذه الميسوجينية  والسيكسيزم إلى اليمين المتطرف والهولنديين من أصول الأتراك- القوميين.
   لقد شمل البحث أيضا 245 مقابلة في صحف وجرائد يومية مع سياسيين، مرشحين في الانتخابات، برلمانيين، أعضاء حكومة ورؤساء بلديات، رجالا ونساءً، ما بين كانون الأول / يناير 2019  وشباط / فبراير 2020. وقد اتضح اختلاف في وصف واستجواب السياسيات عن السياسيين من خلال المواضيع والكلمات المختارة.  فمن بين الكلمات المتكررة التي تداولها الصحفيون مع السياسيين، ملايين، مالية، ضرائب، خطط ودولة القانون. أما المواضيع التي سُئِلت عنها السياسيات كانت أغلبها عن المرأة، الابنة، الأم والحياة وأيضا عن الزوج.
    فمن البرلمانيات اللواتي تجرأن كسر هذا الحاجز، البرلمانية الهولندية، من أصول تركية، سادات كبولوت من الحزب الاشتراكي، التي تقول أن السيكسيزم  وأنواع أخرى من الكراهية يمكن أن تكون سلاحا، يستعمل ضد السياسيات الحاليات كما ضد السياسيات الجدد.  وتضيف أن عددا كبيرا من زميلاتها يفضلن الرقابة الذاتية والسكوت تفاديا التهميش.
   أما سيكريد كاغ  فتقول، إن الأمر لا يتعلق بي، أنا لست مثيرة للشفقة. لدي أحسن عمل في هولندا. وتضيف أن الكراهية فاقت كل المقاييس وهي موجهة بالأخص للسيدات والفتيات لكي لا يتجرأن فتح أفواههن والتعبير عن رأيهن وإذا فعلن ذلك فهم يعرفون مكانَهن. لكنها لا تستسلم بعد ثلاثين سنة خبرة. فما يهمّها،  بشكل رئيسي، هو طموح الفتيات ونظرتهن للمستقبل.
   ولحسن الحظ، فهؤلاء السياسيات الجدد كما السياسيات الناشطات لم يكترثن لهذه الكراهية وكسرن تابو السيكسيزم ونجحن في جعله قيدَ التداولِ. كما أنهن فُزْن بمقاعد في البرلمان لكي يتابعن مسيرتهن السياسية من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين. حسب تغريدة  بوشاليخت؛ "الأمل فوق الكراهية". 
(1) Definiëring van het concept "seksisme", Magda Michielsens Onderzoekshuis, 2009
(2) نشر يوم 3 آذار\مارس 2021، صحيفة خرون أمستردمر، رقم 9


9

مكانة رواية التشكيل في سرد الاغتراب المزدوج
-رواية "كُنْ لا مرئيا" نموذجا-
                                                                           
نجاة تميم

   "تعلّمنا أن لا نرفعَ أعينَنا وأن نتحركَ داخل البيت كأشباح منفصلة متوجهين إلى الأماكن المخصصة لنا. تعلمنا أن نتحملَ التهديد والضرب أحيانا ونبلعَ الألم." هكذا يروي لنا الطفل "مِتْن"، الشخصية الرئيسة، في الرواية الموسومة "كُنْ لا مرئيا" للكاتب الهولندي من أصول تركية "مورات إسيك"،صيرورة طفولته في أحد أحياء أمستردام، حي "بايْلْمْر". لقد وصل مِتْن ووالدته وأخته من تركيا إلى أمستردام عام 1983 بعد أن رفضت ألمانيا طلب اللجوء السياسي لأبيه الشيوعي الذي نجا من بطش الحكومة آنذاك في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
   هذه الرواية، التي صدرت عام 2017 عن دار أمبو - أنتوس، حازت عدة جوائز من بينها أهم جائزة هولندية وهي "جائزة ليبرس الأدبية"، والتي قال في حقها، رئيس لجنة التحكيم الكاتب والروائي الهولندي من أصول مغربية عبدالقادر بنعلي، بأن مورات إسيك يجذبك من أول صفحة، إلى عمق الحكاية، بواسطة سلطة بديهية لكاتب موهوب، استطاع أن يخلق عالما، يعرفه القارئ من خلال مقالات الجرائد والدراسات الاجتماعية، فمنحه مكانة في رواية كونية ذي عمق إنساني. ورغم الثيمة الحساسة التي تناولها الكاتب، فإنه عرف كيف يروي لنا قصة مهمة وجدية، بطريقة راقية وفي الوقت نفسه مرحة وإيجابية، حول عائلة وجدت مأوى في تاريخنا الحديث.
   فلنبدأ بأول عتبة لهذه الرواية، عنوانها "كُنْ لا مرئيا"، للكاتب مورات إسيك. فهذه العتبة لها مدلولات متعددة وتعتبر الخيط الأحمر الذي يتخلّل هذه الرواية ومنها يمكننا الولوج إلى النص السردي. فهذه الجملة الفعلية: "كُنْ لا مرئيا" تضعنا أمام سؤال عن سبب استعمال فعل أمر ناقص، اسمه ضمير مستتر تقديره أنت وخبره منفي. يبدو أن الهدف هو تحذير على الأكثر. ومِن مَن؟ أو مِن أيّ شيء؟
بنية النص السردي
   ففي597 صفحة، قدم لنا إسيك رواية تتكون من ثلاثة أجزاء بمائة وإثنين فصلا مرقما. يشمل الجزء الأول اثنين وأربعين فصلا والجزء الثاني أربعين والثالث والأخير عشرين فصلا. ما أعجبني أكثر في هذه الرواية بالإضافة إلى الثيمة المتداولة فيها هو أن كل فصل هو حكاية بحد ذاتها، تتمتع ببداية وحبكة ونهاية دون المساس بكرونولوجية سرد الرواية. وهذا يوفر متعة للقارئ الذي يتماهى مع كل حكاية على حدة ومع القصة بشكل عام.
لا يعتبر الراوي- الطفل"مِتْن" نفسه تركيا بل زازائيا. هذا ما كان يسمعه دائما من أبيه الذي يكرّر أنه شيوعي وزازائي. فعائلة متن تنتمي إلى مجموعة عرقية إيرانية تتواجد في تركيا. تعتنق الإسلام وتنقسم ما بين المذهبين السني والعلوي. لها لغتها وثقافتها الخاصة بها. كانت تنعم بالاستقلال الذاتي إلى أن انتزعه منها وبالقوة الجيش التركي عام 1936. الغريب أن لا يوجد تدوين للتراث الثقافي الزازائي. ففي عام 1850، كان عالم اللغات بيتر ليخ Peter Leich هو أول من جمع وثائق مكتوبة عن المكوّن الزازائي. وتوجد أيضا وثيقتان دينيتان، الأولى موسومة "المولد"، مؤرخة عام 1899، لأحمد كساسي، والثانية لعثمان افييو بابيك، نشرت بدمشق بالحروف العربية عام 1933. ويتراوح عدد هذه المجموعة العرقية بين اثنين وثلاثة ملايين، يتواجدون بمنطقة الاناضول بتركيا ومشتتون بين هولندا وفرنسا وبلجيكا والسويد وأستراليا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى.
   فروايتنا تشمل ثلاثة أجزاء. وتصنف تحت رواية "التشكيل" Bildungsroman باللغة الألمانية، أو بما يسمى باللغة الإنجليزية Coming of Age. وهو جنس أدبي تمتد جذوره إلى القرن الثامن عشر. يهتم هذا الجنس الأدبي بصيرورة تكوين شخصية المراهق الذكر فقط. مدلوله (سيمانتيك) هو صراع البطل بين طموحه و ضغط الواقع عليه، وشكله (سانتكسيس) يتميز بنمو مكونات الشخصية باتجاه النضج والتوازن بين الطموحات الذاتية وما ينتظره المجتمع من الشخصية الرئيسة.
   إن مفهومBildung  ينتمي إلى الفضاء الدلالي الألماني بامتياز، بحسب دنيس بيرمو. فجدر هذه الكلمة،Bild ، وتعني بالألماني الصورة التي تُقدم صيرورة تكوين الشخصية الرئيسة، وذلك من الخاص إلى الكوني من خلال حركة اكتشاف العالم واكتشاف الذات. لقد استعمل الأستاذ الأكاديمي كارل فون مورغسترن Morgenstern ، في مؤتمر، لأول مرة عام 1820، مفهوم Bildungsroman ، وذلك لدراسة الرواية الشهيرة الموسومة "تعليم فلهلم مايسترس"Wilhelm Meisters Lehrjahre"-" ليوهان غوته (96|1795).
   هكذا يحكي لنا الراوي - الطفل "مِتْن"، ذو الخمس سنوات، قصته ومجرى حيواته بالضمير المتكلم "أنا".  يخص، الجزء الأول من الرواية، وصوله مع عائلته إلى هولندا عام 1983 وبالتحديد إلى حي "بايلمر" وينتهي عند أحداث العطلة الصيفية التي تسبق دخوله المدرسي للمتوسطة.
   أما الجزء الثاني، فيبدأ من السنة الأولى بالمتوسطة إلى نهاية التعليم الثانوي الذي يمتد على مدار ستة أعوام. ويروي لنا "مِتْن" عن حياته الجديدة وعن عمل أمه بدائرة البريد بعد تعلّمها اللغة الهولندية وكذلك قرار والده أن يتابع دراسته في كلية العلوم الاجتماعية. ويطلعنا أيضا على الحادث المروع وهو ارتطام طيارة بوينك 747 بأحد عمارات حي "بايلمر"، في أكتوبر 1992، والذي راح ضحيته عدد كبير من سكان الحي بالإضافة إلى خسائر مادية جسيمة.
   اجتاز "متن"، في الجزء الثالث، امتحان البكالوريا والتحق بكلية الحقوق بمدينة روتردام وبعدها بجامعة فرانسيسكو. في تلك الفترة تخرج والده من الجامعة وعمل، مشرفا اجتماعيا، لمدة سنة واحدة ولم يمدّد عقد عمله وعاد إلى تذمره.
الاغتراب المزدوج
   لم يكتب الكاتب مورات إسيك سيرة ذاتية قحة، لكن، مع هذا، هناك أوجه تشابه كثيرة بين حياة الكاتب والراوي –الشخصية الرئيسة "مِتْن". فكلاهما من أصل تركي - زازائي وأمهما امرأة قوية مكافحة وأبوهما شيوعي، وسبق أن قطنوا حي "بايلمر" في ثمانينيات القرن الماضي.     

   
يحط الراوي- الطفل "مِتْن موتلو"، ذو الخمس سنوات، وعائلته الرحال، عام  1983، بمدينة أمستردام، عاصمة هولندا، لكي يستقرون بأحد أحياء أمستردام، حي بايلمر. هذا الأخير بُني في أواخر ستينيات القرن الماضي ليكون حيّا راقيا، ببنائه الحديث ووفرة الخضرة والتمتع بالهدوء دون ضجيج محركات السيارات الممنوعة من دخوله. كما أن أسعار الإيجار بحي بايلمر كانت جدا عالية. لكن في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي شهد هذا الحي تدهورا وإهمالا كبيرين.
   عاش الراوي - الطفل متن، في هذا الحي المُهمل. كانت طفولته في المدرسة الابتدائية روتينية كأي طفل من أب وأم من أصول أخرى، غير هولندية. يركز المدرسون على تعليم اللغة الهولندية، كونها اللغة الثانية للطفل، ولأن والديه ينتميان إلى الطبقة العمالية، ومستواهما التعليمي واللغوي لا يُمكّنهما من مساعدة طفلهما لحل واجباته المدرسية. مع هذا كان "مِتْن" يحظى بتقدير وتشجيع أحد معلميه، بالمدرسة الابتدائية، خصوصا في درس الإنشاء. لكن سرعان ما تبدأ مرحلة جديدة في حياة "مِتْن" خلال الصف الثامن، آخر سنة دراسية بالمرحلة الابتدائية. فمعلمة "مِتْن" هذه، تكتب تقريرا يخوّله الانتقال إلى المرحلة الثانوية، وتوجّهه إلى مستوى دراسي أقلّ من معدلاته. وهنا يبدأ مشوار مواجهة الأحكام المسبقة، فيما يخص إمكانية أطفال المهاجرين، التي تحدد مستقبلهم في أخر صف بالمدرسة الابتدائية. لكن والد متن ،هارون، لم يستسلم، كما يفعل عدد كبير من الآباء هنا بهولندا، مقتنعين أن المدرسة تقدر إمكانيات التلميذ وتفهم أكثر منهم أو لعجزهم، أحيانا، الدفاع عن مستقبل أولادهم وأحيانا أخرى تكون اللغة حاجزا عن التعبير عن رفضهم لقرار المدرسة. لكن هارون  وبلغته الضعيفة، استطاع بإصراره أن يقنع مدير مدرسة المتوسطة بأن يسجل ابنه "مِتْن" في أعلى مستوى دراسي؛ وهو "التمهيدي للتعليم العلمي" VWO. فالمعاناة لم تنته عند هذا الحد؛ مِتْن أتى من حي بايلمر الفقير، الذي تتكدس فيه جاليات مختلفة، تعاني من البطالة والتهميش ويتجمع فيه صعاليك السرقة والإجرام والمتاجرة بالمخدرات واستعمالها، لينتقل إلى ثانوية تقع في حي راق إلى حد ما. فكان الوسط الاجتماعي لطلاب الثانوية مختلفا تماما عن الوسط الذي يعيش فيه مِتْن. أحس هذا الأخير بالفروق الاجتماعية ومعاملة المدرسين وإهمالهم له. فقرّر أن ينكمش على نفسه وأن يكون لا مرئيا؛ بجلوسه مثلا في آخر الصف والاختفاء وراء ظهر الطالب الجالس أمامه. فمن بين الأشياء التي كان يراقبها من بعيد، أحذية الطلاب التي كان يتمنى أن يحصل عليها  يوما. فبالرغم من اختياره العيش بسلام، فزملاؤه لم يتركوه في حاله. كانوا ينادونه بالمنظّف. وجرت العادة، أن المهاجرين يعملون غالبا في شركات التنظيف. وقد كان قرار انكماش"مِتْن" واضحا في الفقرة الاستهلالية لهذه الرواية؛ حيث يقول:"وجب علينا أن نتحلى بالصبر، قلت لنفسي، وجب علينا أن نصبر وأن نجابه ما يحدث لنا. التحايل عن الألم لم يكن له معنى، لا مفر. فإذا طفح الكيل فإننا نصبح لا مرئيين". هذا هو خلاصة الوضع السياسي والاجتماعي الذي كان يطبع حياة عائلة هارون موتلو سواء في بلدهم الأم، تركيا، أو في بلدان الغربة المستقبِلة.
   هاورن موتلو، والد متن، شيوعي ومثقف. يقرأ كتب فيودور دوتستويفسكي  وتشيخوف وليف تولستوي وماركس ولينين. فر من بطش النظام التركي في ثمانينيات القرن الماضي. ينتمي إلى أقلية تركية – زازائية مهددة بالانصهار الإجباري من قبل النظام التركي. كان هارون يعاني من التهميش السياسي والثقافي والاجتماعي ببلده تركيا ووقع بلجوئه إلى بلاد الغربة في كماشة تهميش آخر. كان يرفض العمل مدعيا أنه لا يريد أن يخدم النظام الرأسمالي. بالإضافة إلى أن العمل الحزبي أصبح أيضا أكثر تعقيدا في الخارج. فوضع هارون النفسي جعله زوجا مزعجا لشريكته "أسينا" وأبا مفزعا لمِتْن وأخته الكبرى نِفْرا. كانوا يتجنبونه بالبيت. لم يكن يهتم بعائلته ويقضي ساعات في تصفيف شعره والاهتمام بهندامه. لا يهتم بشعورهم ويكرّر أنه ليس أبا كلاسيكيا وأنه شيوعي. ويقصد أن قضيته أكبر من أن يعير اهتمامه لأشياء أخرى. فبالرغم من ثقافته وقراءاته الكثيرة فإنه رجل بطريركيا أبيسي الثقافة. وينعكس ذلك على عائلته، فإنه مزاجي لا يعرفون متى ينفجر غضبا، كما أنه لا يستطيع أن يسيطر على أعصابه وأن يستوعب معاناة نفسه وإخفاقاتها. لقد عانت هذه العائلة من التخفي بوطنهم تركيا واضطروا لثلاث سنوات أن يتنقلوا من بيت إلى أخر لعدم حصول هارون على اللجوء السياسي بألمانيا مما جعلهم يلجؤون إلى هولندا. فأن يعيشوا كأناس لا مرئيين أصبح ذلك جزءا من أسلوب حياتهم.
   هذا الأسلوب اتبعه مِتْن أيضا في مرحلة المدرسة الثانوية. فتنمّر الطلاب وتصغيرهم له جعلته يعاني كثيرا. وبالرغم من ذلك لم يتوقف عن المثابرة في دراسته. ففي اليوم الذي دخل طالب جديد، طويل القامة، إلى الصف وقدمه المدير إلى الطلاب، تغيرت بعض المعادلات. جلس بجانب مِتْن وقدم نفسه له: "أنا تركي الأصل". لم يستطيع هذه المرة أن  يخبره بأنه زازائي، أخفى انتماءه واكتفى بذكر هويته التركية فقط.
   إن الرواية مقنعة؛ لأن إسيك عرف كيف يقدم شخصياته. فمِتْن ينظر إلى عالمه بتفهم كبير وبإيجابية، رغم كل الصعوبات التي واجهته. يتقمص شخصيته عاطفيا ويتماها معها. يبدو أن مِتْن يتوفر على إمكانية "تراجيدية"، فهو يستطيع أن يغفر لأبيه ويقدّره ولو ليوم واحد في السنة وهي ليلة رأس السنة الجديدة، التي حاول خلالها أن يكون لطيفا مع عائلته.  وكان هذا اليوم يوما جميلا وناجحا. ولم ينس،أيضا، يوم عيد ملكة هولندا. ففي هذا اليوم، يبيع الأطفال الألعاب والملابس التي يستغنون عنها بأسعار رمزية جدا. ويتمتع الناس بشراء مأكولات وقضاء وقت جميل. وعائلة مِتْن شاركت أيضا بتحضير الكباب الطازج وبيعه بكمية كبيرة. كما أنه بالرغم من الإحساس بالتضييق على حريته، أثناء وجود أبيه داخل البيت،فإن مِتْن يقتنص أي فرصة للهروب من واقعه، وذلك بخلق عالم خيالي بمجرد استنشاق الروائح العطرة لصابون الحمام الذي تستعمله أخته ويصف ذلك بجمل شعرية جميلة جدا.
  هذه هي رواية تشكيل الفتى "مِتْن"، الذي عاش بين أكثر من ثقافة وكان عليه أن يندمج في المجتمع، وأن يبرهن على تمكّنه وأن يعمل جاهدا للوصول إلى هدفه وهو إكمال دراسته وأن يصبح مواطنا صالحا يخدم بلده الثاني بنجاح. فوجب عليه أن يتكبّد ظروفا صعبة وعراقيل وأحكام اجتماعية مُسبقة كادت أن تقضي على طموحاته. لكن بوجود والدته ودعمها له استطاع أن يضاعف جهده لإرضائها وفي الوقت ذاته إرضاء نفسه بإكمال دراسته وعدم الانحراف، الذي غالبا ما يحدث كردّة فعل لتراكم الإحباطات والفشل في تحقيق الأمنيات من خلال الفرص الشحيحة. لقد كانت حياة صراع من أجل البقاء على كل الأصعدة. لكنه مع ذلك نجح في حياته وحقق أحلامه وجعل والدته، بالأخص، تفتخر بما وصل إليه؛ مواطن هولندي ناجح وقدوة لتلاميذ من أصول أخرى.
 ونخلص، أنّ رواية التشكيل هاته، "كُنْ لا مرئيا"، تؤكد أن هوية مِتْن لا تُتحدّد بعنصر واحد، وأنها تعبّر عن صوت أدبي قيّم في خضم نقاشات الهوية في وقتنا الحالي.




10
وقع الإغتراب على الإبداع
                                                                                             
نجاة تميم
   الغربة بمعناها المتداول هو الانتقال اختياريا، من بلدك ومسقط رأسك للعيش في بلد آخر، للعمل أو الدراسة أو ما شابه ذلك، أو قسريا كاقتلاعك من جذورك، نفيا أو تهجيرا اضطراريا. وفي الحالتين، يغمرك إحساس بالاغتراب عن هذا الوسط الجديد. لكن يمكنك أن تعاني من هذا الإحساس  ببلدك وبين أهلك وخلانك.
   فحالة الاغتراب، هاته، التي يمر بها الانسان، بحسب د. ملحم بركات في كتابه الموسوم "الاغتراب في الثقافة العربية"، تتصل بمشكلات التفكك الاجتماعي والثقافي والسياسي. فعندما يكون المرء عاجزا، ويعي عجزه في علاقاته مع المجتمع ومؤسساته، تكون ثلاث خيارات أمامه؛ إما الانسحاب أو الرضوخ أو التمرد أي أن يثور على وضعه الاجتماعي والثقافي والسياسي.
   لقد استخدم مفهوم "الاغتراب" في الفلسفة والدين وعلم الاجتماع والطب النفسي والأدب والاقتصاد والقانون. وتعددت دلالاته بحسب كتاب كثر؛ مرورا بروسو وهيغل ووصولا إلى علماء الاقتصاد والاجتماع؛ (كارل ماركس) و(إميل دوركايم) و( ماكس فيبر) و (كارل مانهايم) وغيرهم.
   أما هيغل، فيعتبر حالة الاغتراب مرحلة ضرورية وعابرة ووسيلة لخروج الفكر من ذاته ولبلورة محتواه، ويجعل المرء نفسه غريبة عنه و يقوم بإنشاء عالما موضوعيا لا يتعرف فيه على نفسه، لكن هذا الضياع هو اغناء في نفس الوقت، فلولا هذا الاغتراب لما تمكن الفكر من معرفة إمكانياته الحقيقية و لما حقق تلك الإمكانيات.
   وباختصار يقول سارتر أن الانسان يصبح غريبا عن ذاته بفعل الصورة التي يعكسها الآخر عنه والتي لا تكون مطابقة مع صورة ذاته التي يحملها، ويضيف أن الاغتراب عن الذات يتضمن وعيا مؤلما بغياب الذاتية الحقة للفرد.
   هذا، عن الجزء الأول من عنوان الندوة فسننتقل الآن إلى الجزء الذي يخص موضوعنا الأساسي: الإبداع.
   إن الروائية سلوى جراح تقدم لنا سيرة ذاتية، تحت عنوان "لملمة أوراق تبعثرت"، ومن خلالها، سنكتشف معا، خبايا هذا الاغتراب؛ وهي التي تنتمي "إلى عيلة لا تُزوج بناتها للأغراب". ص 10 
   وبالمناسبة، فالسيرة الذاتية هي جنس من أجناس الأدب: ظهرت في بداية القرن التاسع عشر في بريطانيا. وعادة تكتب السيرة الذاتية بعد أن يتجاوز الكاتب عمرا معينا لكي يتسنى له أن يقدم حصيلة تجاربه الحياتية التي ساهمت في تكوينه.
   لكن هناك حالات خاصة؛ فالكاتب الإنجليزي جورج مور والفرنسي ميشيل ليغيس كتبا سيرتيهما الذاتية الموسومتين بالتتالي " اعترافات شاب" (1888) و"عمر إنسان" (1939)،  وعمرهما لا يتجاوز الستة والثلاثين ربيعا. وفي عالمنا العربي المعاصر، اشتهر الكاتب والروائي المغربي محمد شكري  بثلاثية سيرته الذاتية الموسومة؛ "الخبز الحافي" 1982، "زمن الأخطاء" 1992 ، و"الشطار" 2000. مع العلم أنه كتب الجزء الأول منها وهو في الثلاثين من عمره.
  وبحسب فليب لوجون، السيرة الذاتية عبارة عن حكي استيعادي نثري يقوم به شخص عن وجوده الذاتي وذلك عندما يركز على حياته الفردية وبالأخص على تاريخ شخصيته. وقد وضع فليب لوجون ميثاقا سير ذاتيا لجنس السيرة الذاتية والذي ينص على أن يصنف الكاتب مؤلفه، على غلاف الكتاب كأول عتبة أو على أول صفحاته. أما الشرط الثاني وهو أن السارد والشخصية يحملان اسم الكاتب نفسه والشرط الثالث والأخير ينص على أن يكون هناك توافق بين هوية الكاتب والسارد، وتوافق بين هوية السارد والشخصية، بالإضافة إلى الصدق والمصداقية التي يجب أن يسودا هذا النص السير ذاتي.
   إذا تمعنا في كتاب سلوى جراح، فإننا نجده مصنف كسيرة ذاتية وأن الكاتبة تتحدث بالضمير المتكلم "أنا" وأن هناك توافق بين هوية الكاتبة والسارد وكذلك بين السارد والشخصية. كما أنها تتعهد أمام قرائها أنها ستحاول "أن أقول ما عندي بقدر ما أستطيع من صدق وأمانة". ص (8) وعليه فإن كتابها سيرة ذاتية بامتياز؛ تتوفر فيها شروط الميثاق الأتوبيوغرافي الذي وضعه الكاتب الفرنسي لوجون.
   تتكون  هذه السيرة الذاتية من اثنتي عشر فصلا دون عدّ المقدمة التي تشرح فيها الكاتبة سبب مشروعها السير ذاتي وتلخصه في دفاعها عن نفسها؛ لكي تبرأ نفسها أمام قرائها وتنفي الطابع السير ذاتي في باقي روايتها. بدأت مشوارها السير ذاتي من ولادتها بفلسطين عام 1946 وانتقال والدها بعد ذلك، الذي كان آنذاك يعمل مهندسا في شركة نفط العراق، إلى البصرة في العراق في نهاية عام خمسين من القرن الماضي.
   وقد كان أول اتصال لها بالعالم الخارجي بمدرسة الفاو الابتدائية النموذجية التي نصحت مديرتها الوالد "ذا النون" جراح بأن يسجل ابنته سلوى في مدرسة أخرى لأنها لا تشبه أطفال الصرائف. بالإضافة إلى الارباك الذي أصاب الطالبات وبائعة اللبلبي والذي حصل بسبب القطعة النقدية التي أرادت سلوى شراء اللبلبي بها. يبدو أن هذه القطعة النقدية، التي أخذتها من علبة أبيها الزجاجية دون علمه، كانت مبلغا ضخما من المال.
   وبعد تجربة الفاو، أرسلت إلى مدرسة الشويفات الدولية في بيروت، لتحظى بتعليم يساعد على تطوير شخصيتها. قضت بضعة أشهر فيها، ثم عادت سلوى إلى مدرسة الراهبات، بالبصرة. وهناك أحست، في هذه السن المبكرة، بالانتماء إلى مكان وناس وتاريخ وجغرافية. واكتسب هذا الانتماء للمكان والناس أبعادا، وتسترسل : "لوّنتني وشكلت رؤيتي ومشاعري على مدى سني العمر". ص 67
   ففي عام 1956، خلال إقامة العائلة بمدينة كركوك، التحقت سلوى، لفترة، بالمدرسة الأمريكية بيروت لدراسة اللغة الإنجليزية. فهذه المدرسة الأمريكية، تستقطب الطالبات من  دول متعددة، يتكلمن فيما بينهن لغات بلدانهن. لم ترق لها الحياة بالمدرسة الداخلية التي عانت فيها من حرمان الحرية الشخصية والحياة الاسرية. أحست سلوى لأول مرة بالوحدة والاغتراب. ولم تجد من يتحدث معها؛ لأن الطالبات العراقيات كن يعتبرنها الفلسطينية " المعرَقة".
   ومن بيروت عادت إلى كركوك، التي قضت بها سنين أطول، بمدرسة مار يوسف للراهبات الكلدان بين 1955 و1962. وهناك "عادت لعراقيتها التي تراكمت مع السنين وصار البعد عن العراق يقلقها". ص. 78
   مع نهاية صيف 1958، انتقلت العائلة للسكن في بيت بناه الوالد "ذا النون" في مزرعة، في منطقة خالية، خارج كركوك. عرفت هذه الحقبة التاريخية أحداثا كثيرة. لكن ما أثر بها هو ما قاله لها والدها أثناء اعتقاله واتهامه بالتخاطب مع الشواف الذي قاد التمرد ضد الثورة الفتية عام 1959: "لا تبكي أبوك وطني يحب بلده ولم يفعل ما يسيئ له". ص94 وفعلا أطلق سراحه في اليوم التالي. وخلال تلك الحقبة التاريخية، حدثت سلسلة من الانقلابات والنكبات والانتكاسات الدامية في العراق وفلسطين. ذاقت سلوى مرارتها ولها أيضا موقفا صريحا منها.
   مرحلة جديدة تبدأ بترقية الوالد وانتقال العائلة إلى بغداد. لكن ما لم يخطر على بال سلوى أنها، الآن، تعتبر طالبة قادمة من مدينة صغيرة "كركوك" ولا ترقى، حسب زميلاتها، إلى مستوى العاصمة بغداد. فبالرغم من اعجابها الشديد بمدينة بغداد، "فهي ليس الفلاح القادم من القرية إلى المدينة لأول مرة". ص. 109 وهنا تتغير نظرة الآخر لها. ولم تذكر أنها كوَنت صداقات بهذه المدرسة. مما جعلها تتقوقع على نفسها وتقول: "وصار الطعام المتنفس الوحيد وتراكمت سمنتي". ص 110
   كانت تشعر بالضياع وهذا أثّر على معدلاتها بامتحانات البكالوريا، وبذلك لم تستطيع تحقيق حلم أبيها بأن تصبح طبيبة. ولإرضاء والدها، قدمت أوراقها لعدة جامعات مصرية، لكن بدون جدوى وعادت إلى بغداد لتسجل بجامعة الحكمة  للآباء اليسوعيين، وذلك لدراسة اللغة الانجليزية والفلسفة وأساليب التعليم وتتخرج منها عام 1969. فخلال دراستها، كانت تعمل مساءا مترجمة بتلفزيون بغداد وعينت بعد التخرج مترجمة، في القسم التجاري، في شركة نفط العراق.
    لكن الإحساس بالاغتراب، عاد ليسيطر عليها، من جديد، بعد تأميم شركة نفط العراق، عام 1972. فنُقلت مع مجموعة من عمال النظافة والفراشين  إلى مبنى أمانة العاصمة في مدينة بغداد. وتَعترف أن الكتابة عن هذه المرحلة من حياتها شلَت تفكيرها، وكانت مرحلة معقدة عاشت خلالها ضياعا وصل في لحظات إلى حالة من الهلع والخوف. تعقدت الأمور بحيث صعُب عليها تحمل مسؤولية طفلها الصغير وغياب الزوج لفترة تدريبة في الخارج، وعمل لا يروق لها، ولا يرق لما درسته في جامعة الحكمة. فهذا الضياع والإحساس بالاغتراب الاجتماعي والسياسي يولد  شعورا بعدم التفاعل بين الذات وذوات الآخرين، وهو احساس بالعجز وعدم القدرة على التأثير وعلى تغيير الوضع الاجتماعي، بحيث يخلق شعورا بالتهميش وبقمع الآخر له، وسيطرته عليه وعلى مستقبله.
   نصل والكاتبة سلوى جراح إلى محطة مهمة، بالنسبة لها: لندن. هذه الفترة، لم تخلو، هي الأخرى، من اغتراب مضاعف ومتعدد الأوجه إذا صح التعبير؛ الانتقال للعيش في مجتمع غربي؛ تستغرب الكاتبة لعدم تمكنها من تكوين صداقات مع أسر انجليزية ولا تعرف السبب الحقيقي لذلك، واحساس باغتراب آخر داخل الخلطات العربية اللندنية، حسب قولها، خلال اثنين وعشرين سنة من عملها بالقسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي.
   لكن بالرغم من ذلك كله، وبالعزم والإصرار وتعزيز الثقة بالنفس في وسط غربي، يُأمن بتمكين المرأة ويؤمّن لها حريتها،  حققت سلوى جراح نجاحا في إعداد وتقديم برامج متعددة ومهمة. وبعد اعتزالها العمل بهيئة الإذاعة البريطانية وهي ما زالت بكامل طاقاتها، استغلت وقتها وصقلت مواهبَها المتعددة وانطلقت من نجاح إلى نجاح.
   ونخلص أن تجربة الاغتراب، ليست سلبية، لأننا نساهم في صنعها بأنفسنا، فهي تجعل نظرتنا للأمور ثاقبة أكثر وتمكننا من التأني خلال سيرورة نظرتنا للآخر ولأنفسنا.
   وأخيرا، عندما تسامت الكاتبة وتجاوزت المثل الشعبي" همّ نزل وهم يدبّج"، نجحت في التراضي مع نفسها، واثبات ذلك في تأليف روايتين رائعتين، عن العراق، الموسومتين بالتتالي "صورة في ماء ساكن" (2014) و"أبواب ضيقة" (2016)، بعدما أرضت جدّتها ووالديها وأهلها بالكتابة، عن فلسطين، في الرواية  الموسومة "صخور الشاطئ"، ولها أيضا روايات أخرى "الفصل الخامس" و"أرق على أرق" و"بلا شطآن". وكان آخر كتبها سيرة ذاتية تحت عنوان "لملة أوراق تبعثرت" قالت فيها كل ما عندها وأبقت لنفسها بعض الأوراق، ربما تطلعنا على فحواها في عمل جديد.


12
عقدة التفاوت الطبقي تُكلّل بجائزة الغونكور

   جميل أن تُكلّل رواية صادرة في السنة نفسها بجائزة. هذا ما حدث مع الكاتب الفرنسي نيكولا ماتيو الذي حاز، يوم الأربعاء 8 تشرين الثاني / نوفمبر 2018، على جائزة الغونكور، وهي من أهم الجوائز الأدبية الفرنكوفونية، عن روايته الموسومة "أطفالهم من بعدِهم" والتي تقع في 432 صفحة، والصادرة يوم 22 آب / أغسطس 2018.  بدأ الكاتب حياته كروائي مع الرواية الموسومة "الحرب للحيوانات" وهي رواية سوداء، متعددة الأصوات. تلقي، في 360 صفحة، الضوء على الطبقة العاملة، في منطقة فوجا الفرنسية، التي وجدت نفسها بين يوم وضحاه  مسحوقة، تعاني من البطالة والفقر بعد ان أغلق المعمل أبوابه وقضى على أحلام العمال وأبنائهم.
   وبعد أربع سنوات، عاد الروائي، من جديد، ليفرض صوته من خلال روايته الثانية الموسومة "أطفالهم من بعدِهم". نص حاد، كبير ويحمل طموحا أكبر. إن الكاتب يقدم لوحة اجتماعية تجري أحداثها في جهة اللورين الفرنسي الذي هشمته أزمة السنوات الأخيرة من فترة حكم متران وبداية حكم شيراك.
   كان الراوي أنطوني، عام 1992، في الرابعة عشرة من عمره. في هذا العام، بدأ سرد القصة التي غطت أربعة فصول متتالية، وهي أجزاء الرواية؛ صيف 1992، وصيف 1994، وصيف 1996،وصيف 1998. كان يتساءل كما الكاتب إذا ما حان وقت مغادرته سن المراهقة. تعرف على ستيف وأحبه. وفي حفلة تعرفا على شابين آخرين، حسن وكْلِم من اصل جزائري. هكذا أصبحت الرواية عبارة عن بورتريه جماعي على شكل موزاييك يمثل كل مكونات المجتمع التي حاول الكاتب أن يعيد بناؤها دون حكم مسبق عليها، منطلقا من فكرة لكل مكون صغيرأسبابه ودوافعه.
   غلب هؤلاء الشبان الأربعة الملل والفقر المحيط بهم فقرروا مغادرة المراهقة بهدوء والتحقوا، بدون استعجال، بسن البلوغ. خلال أربعة فصول الصيف المتتالية يقضيها أنطوني وأصدقاؤه في مدينة  نهشتها البطالة وجعلتها دون مستقبل واضح المعالم. يقع في فخ أسلاك شائكة لحياة لا مفر منها؛ حياة طفل تعيس بالمدرسة، طائش، من عائلة مكسورة الجناح بعد فقدان الأب لعمله.
   هذه الرواية تحكي قصة أنطوني والمجتمع الذي يعيش فيه هو ووالده وأمه وستيف وحسن وكْلِم، وسط سلسلة انطلاقات خاطئة وأحلام متوقفة، ومشاريع فاشلة وانغماس في دوامة الخمر، والانعزال الاجتماعي.
   هؤلاء الشبان يحلمون بمغادرة الوسط الذين يعيشون فيه، لكن القليل منهم يفلح في ذلك. لا ننسى أن الهياكل الاجتماعية والتفاوت الطبقي يلعبان دورا كبيرا. فالأغلبية مضطرة ومحكوم عليها أن تتحمل هذه الحياة المشابهة لحياة آبائهم كلعنة هالكة.
   كان الكاتب، أيضا، يعيش في وسط بين الشعبي والطبقة الوسطى. كانت مهنة أبيه ميكانيكي كهرباء وأمه محاسبة. وهو وحيد والديه. سُجل في مدرسة خاصة. لكنه سرعان ما اكتشف الفوارق الطبقية من خلال ملابسه وما يرتديه أبناء البرجوازيين. فكان يتمنى أن يكون كاتبا وأن ينتقل إلى وسط ثقافي نخبوي. وهو متأثر جدا بالعالم الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو (1930-2002) الذي كان مهتما بعدم التكافؤ الاجتماعي، مرورا بأول كتبه "سسيولجية الجزائر" عام 1958 و"بؤس العالم" عام 1993 إلى أخر كتبه بعد وفاته  "مخطط  تحليل - ذاتي" عام 2002، وآني إرنو (1940) المتأثرة أيضا ببورديو والتي غالبا ما تعود في كتاباتها إلى الوسط العمالي الذي ترعرعت فيه. ويتميز أسلوبها بالحيادية والموضوعية دون إصدارحكم مسبق، ومعروف عنها أنها تتجنب أسلوب البلاغة كالمجازات أو المقارنات.
    يتوق الكاتب إلى الانتقال إلى الضفة الأخرى، حرية وحياة أفضل، كما تتوق إلى ذلك الروائية الهولندية الشابة (1991) ماريكَ لوكاس غِينْفلد وشخصيتها الرئيسة "معطف" في روايتها الأولى الموسومة " الليلة إزعاج" ( 2018)،والتي وجدت صدى طيبا لدى النقاد وقراء نوادي الكتاب والقراء عموما. الكاتبة كما "معطف" يريدان الإفلات من ضغط القوانين الصارمة لعائلتهما البروتستانتية المتشددة والوسط الضيق الذي يطبق على أنفاسهما.
   نعود إلى روايتنا، إن آليتها مظلمة لكن الرواية بحد ذاتها ليست كذلك. فإنها تعكس طاقات هؤلاء الشبان وضوء وحرارة فصل الصيف المكهرب بالرغبة الجنسية وهوس عيش هذه الشخصيات. فالنص يتحرك ويرقص ويشد القارئ إليه بحدته  الرائعة وبحساسية اللانهائية؛ حدة نظرة مزعجة وحوارات، وجمال مفجع يحبس الأنفاس.
   إنها تراجيديا وهي نتيجة فشل خدعة جماعية تنتهي بشكل هزلي إلى وهم الوحدة والإخاء خلال نهاية كأس العالم لكرة القدم لعام 1998.


13


البعد الدلالي للألوان
رواية "كانت السماء زرقاء" انموذجا

                                                                         
نجاة تميم

    في رواية "كانت السماء زرقاء" للروائي إسماعيل فهد اسماعيل، يغمرنا اللون الأزرق بانعكاساته وظلاله من العتبة النصية الأولى، "العنوان"، إلى آخر جملة فيها. فيا ترى ما تأثير اللون علينا؟  وماذا يعني هذا اللون بالنسبة للكاتب؟  ولماذا يجذبه هذا اللون أكثر من غيره؟

    نعرف أن إدراكنا الحسي للألوان يعود، بشكل فطري، إلى الطبيعة وألوانها. لكن هذا لا يمنع أن هذه الألوان قد تكون لها مفاهيم شخصية وثقافية، وقد تكون هذه المفاهيم سلبية أو إيجابية، تختلف من بلد إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. ناهيك عن أن نظرية الألوان هي علم قائم بذاته.
   
   في الحقيقة، كنت ابحث خلال قراءتي لهذه الرواية عن ساردها فلم أجده، لكن ما أذهلني فعلا هي تداعيات الشخصية الرئيسة التي تتماهى مع نفسها في منولوج داخلي. يذكرني ذلك بإدوارد دو جردان (Du Jardin ) الذي يعتبر من الرواد الذين اكتشفوا وطبقوا المنولوج الداخلي. فهذه التقنية السردية التي تتبع بشكل متصل لحركات أفكار الشخصية الروائية هي أحد الفورات الأساسية في الادب الحديث. لقد طرحها دو جردان في روايته الموسومة "أوراق الغار المقصوصة" عام 1888 وذلك قبل ثلاثين سنة من طرح جيمس جويس، وفيرجينيا وولف ووليام فولكنر لها. يقول دو جردان، عن روايته، في رسالة إلى والديه بأنها ببساطة حكاية ست ساعات من حياة شاب، دانييل برنس، مغرم بأنسة. وخلال هذه الفترة الزمنية لم يحدث شيئا ولم تحدث أي مغامرة. من خلال سرد مكثف وجمل قصيرة ومتتالية نتنقل والبطل "دانييل برنس" إلى دواخله وهو يحاكي نفسه خلال تسعة فصول قصيرة. فالشاب المغرم يتيه في أزقة باريس، بين بيته وبيت "لِيا دارسي،" الفنانة الكوميدية التي أفلس جراء حبه العذري لها. أما الشخصية الرئيسة في الرواية الموسومة "كانت السماء زرقاء" فهو كذلك شاب في الثلاثين  من عمره؛ يحب القراءة ويهتم بما يدور حوله. لكنه حائر ومصدوم. ولم يستطع اتخاذ قرار فيما يخص حياته. يناجي نفسه وأحيانا ضميره.

    ينقسم النص السردي لهذه الرواية إلى قسمين؛ القسم الأول وهو اليوم الأول ويشمل إحدى عشرة فكرة مرقمة. اما القسم الثاني أي اليوم الثالث فيتوزع على أربع فقرات مرقمة، دون ذكر أحداث اليوم الثاني. ويغلب على هذا النص جمل قصيرة متتالية وحوارات مقتضبة.

   فهذا الشاب مثقف وكاتب قصة، يشعر بقيود تكبله وتكبت على أنفاسه. يتمنى أن ينجح في الهرب من كل شيء، من التقاليد وعادات المجتمع والوضع السياسي بشكل عام.  يحاول الغوص في دواخله ويحاور ضميره الجريح وهو مستلقي على أريكة المقهى؛ وربما تخبطه وهلوسته لمدة خمس ساعات توصله إلى حقيقة أمره.

     نعود إلى البحث عن سبب لجوء الروائي إسماعيل فهد اسماعيل لاختيار اللون الأزرق.  فهذا اللون يحيل على عالم الشفافية والصفاء والامتداد اللانهائي. كما يرتبط بالسلام والحماية، والجدية والحلم والحكمة وكذلك الاحساس الرهيف. ويستعمل غالبا في سياق تكنولوجي دولي. فنلاحظ دولا ومؤسسات رسمية محلية ودولية تستعمل اللون الأزرق كأحد ألوان علمها أو كخلفية لمواقعها العنكبوتية. وذلك لما للون الأزرق من تأثير علينا؛ بصريا ونفسيا. فهذا اللون الذي ينتمي إلى الألوان الهادئة والباردة يرتبط بالبحر والسماء. فماء البحر يحيل إلى الحياة والأمل، لكنه يحيل أيضا إلى الموت أو العبور إلى العالم  الآخر لاسترجاع الأمل. أما ارتباطه بالسماء فقد يوحي لنا بالصفاء واللامتناهى. وتقول ميري أندرسن أن اللون الأزرق لون هادئ وهو مريح للعين كما للروح. ولأن هذا اللون له أبعاد رمزية ودلالية فإنه يعد بلسما للجروح وعلاج نفسي يترك أثره فينا ويجعلنا نشعر بالهدوء والسلام. ويعود اكتشاف الطيف الضوئي إلى إسحاق نيوتن (1642-1727م) وهو الذي وضع اللبنات الأولى لعلم الألوان. وهذه الأخيرة تستعمل كذلك لعلاج أمراض عديدة. ويرجع الفضل في ذلك إلى موسوعة الألوان التي وضعها غاديالي ألي، عام 1930، كان آنذاك يعمل ويدرس بالولايات المتحدة.
 
    نلاحظ أن إسماعيل فهد إسماعيل اختار استعمال اللون الأزرق سبعة وثلاثين مرة، لكونه علامة بصرية تساهم في تكثيف دلالة النص السردي وما تثيره في نفسية المتلقي. وقد ذكر أيضا ألوانا أخرى كاللون الأحمر والبنفسجي والقرمزي مرة واحدة، أما اللون الأبيض والأصفر فثلاث مرات. والابعاد الدلالية للون الأزرق قد تنقسم إلى البعد النفسي والاجتماعي والوجودي والجمالي. فغوته يقول : " إن التجربة تعلمنا أن الألوان تخلق عندنا حالات روحية خاصة".

   سنرى أن البعد النفسي في هذه الرواية ينطلق من الإحساس بالذنب والمعاناة من جراء العجز في اتخاذ القرار وتغيير الوضع العام. أما البعد الاجتماعي فيدفع الشخصية الرئيسة إلى الهرب من القيود الاجتماعية ومسؤوليتها. يبقى البعد الوجودي الذي يخلص البطل من خلال هلوسته وتداعياته لكي يكتشف ذاته ويتخذ قراره لوحده. وأخيرا البعد الجمالي الذي يحيل على لون الصفاء والشفافية ويرد الشخصية الرئيسة إلى مسارها الطبيعي لكي يعود إلى الحبيبة ذات الثوب الأزرق التي ترمز إلى الثقافة والنعومة في آن واحد.

    كان الليل في أوله، والساعة حوالي السابعة، عندما دعاه صديق للجلوس في المقهى. فألقى بجسده على الأريكة الملقاة إلى جانب الشارع عند مفترق الطريق التي توصل إلى سوق البصرة القديم، والأخرى التي تتبعه ناحية الزبير. فصاحبه، لا يعدو كونه أحد الأشياء التي تربطه بماضيه. فعاد بذاكرته شيئا ما إلى الوراء. لقد حدث ذلك قبل يومين. وعلى إثر ذلك، أعلن ثورة وقرر الهرب من الوضع الذي هو عليه. لم يرفع عينيه عن امتداد الطريق الممتدة صوب الزبير. لقد شده الضوء الأزرق البعيد؛ هذا الضوء الذي يتعالى على الأضواء الحمراء التي تعلو خزانات النفط والذي يشكل له المنال الصعب والأمل المنقذ في نفس الوقت. "فنقل عينيه عن الأضواء الحمراء إلى ضوء أزرق بعيد. "ص21

    لقد تغيرت حياته كليا بعد تعرفه، قبل أيام، على ذات الثوب الأزرق؛ عندما زارهم أقرباء مصطحبين معهم فتاة جميلة ترتدي ثوبا أزرقا. فأعلن ثورة وقرر الهرب من الوضع الذي هو عليه. الشخصية الرئيسة متزوج وله طفلة كما أن زوجته تنتظر مولودا. "هو لم يقرر أثناء جلوسه على أريكة المقهى. قراره بدأ منذ زمن بعيد. كل ما فعله...."ص 80 هو أن استدعى المستقبل وافترض أن ابنته كبرت وأن زوجته ليست بحامل. وبدأت خيالات تتداعى على مخيلته. إنه ينوي الهرب. الهرب من كل شيء. لكن التزامه بزوجته وابنته كان حملا ثقيلا عليه.
 
   يريد أن يحدد نفسه لنفسه وأن يتخذ وحده قرارا لنفسه. لكنهم لا يدعونه يفعل ذلك. لقد تغيرت حياته بعدما تعرف على ذات الثوب الأزرق. زارتهم مع أحد أقاربهم في البيت. فهو قريبها من بعيد. فتاة جميلة، كانت ترتدي ثوبا أزرقا. لقد أبدت اهتماما كبيرا بمكتبته. أُعجب بجمالها وباهتمامها به وبالثقافة التي تتمتع بها. كانت على عكس زوجته التي تمنعه من شراء الكتب؛ "كيف لا  وهي (زوجته) القيد الذي يهد عنقه... كيف لا وحبها يسعى إلى استعباده. ألم يكفها حرمانه من اقتناء الكتب ومطالعتها." ص 5 ليست زوجته هي السبب الوحيد الذي حرمه من الكتب. فالمكتبة التي جلد بها بعض كتبه هي أيضا كانت مغلقة.  لقد كانت الكتب بالنسبة له هي "الرابطة الأولى". ص 36  لكن الآن بعد النكسة التي أصابته وهذه الحيرة التي أحكمت قبضتها عليه لم يعد للكتب مكان لديه.

   ليست فقط واجهة المكتبة مغلقة  فحسب، فالحدود أيضا مغلقة والمقهى التي يجلس فيها هي أيضا مغلقة. بالرغم من ذلك ألقى بنفسه على الاريكة الملقاة على جانب الطريق. "فالمستقبل المنخور من القيود يدعوني." ص 77 وأطلق العنان لمخيلته. يبحث عن حريته ويتطلع إلى الضوء الأزرق البعيد. ويتراءى له ثوبها الأزرق الضيق الذي يمرق أمامه. فلم يتسنى له أن يسترسل في تداعياته. لكن عمله المشين مع ذات الثوب الأزرق يجعل ضميره يؤنبه؛ ذلك الذي يتراءى له على شكل ضابط جريح. فتدهشه صورة الضابط المعلقة على الأشواك ويسمع صوتا يحثه على الركض والهرب. لكن يعود اللون الأزرق فيغرقه. ويتذكر أن حقيبته التي ضاعت منه هي أيضا زرقاء. فاللون الأزرق يمتلك الطريق ويعرفه. ويطغى على عينيه. يسترجع ماضيه. تغيرت أشياء كثيرة. يجب عليه أن يتخذ القرار. "لقد كانت السماء زرقاء وليس الآن." ص 43 فهذه المرة، أغرقه ثوبها الأزرق. وهو متأكد هذه المرة، أنها كانت صادقة. أحبته وذلك لأنه ينظر إلى الآخرين نظرة خاصة. ويقيمهم حسب ما هم فيه الآن، وليس على أساس ما كانوا عليه. وهذا اللون الأزرق يلزمه عند حد معين. لا يستطيع التخلص من التفكير بها. إحساس قوي يدفعه للتفكير بثوب أزرق.

    فبين حواراته مع ضميره "الضابط الجريح" وبين هلوسته بذات الثوب الأزرق، يكتشف أن حقيبته الزرقاء قد اختفت بالمرة.  شهق الثوب الأزرق" لكن المطرقة الزرقاء بدأت تعمل داخل رأسه ولم يعد يسمع الصوت الذي بدأ يشاب بالود." ص 69 لقد كانت ذات الثوب الأزرق تعتبره انسانا خاصا وأحيانا انسانا مجنونا. أما الضابط الجريح فينعته بسارق الإنسانية وبالمجرم واللص .. وأنه لا يشبه باقي الناس. ويحاول، أحيانا، أن يخاطب فيه عواطفه الإنسانية. يعود البطل ويعاتب  ذات الثوب الأزرق: "لو أنها صمتت...لو أنها اكتفت بحاضري، ولم تسألني عن الماضي.. لو أنها ذهبت وتركتني إلى جانب هذا الحيوان على الأريكة." ص 44 فهي تعاتبه أحيانا باكية وتصفه بنتشه زمانه، بالرغم أن هذا الأخير أصيب بلوث عقلي في أواخر أيامه. أما هو فما يزال في الثلاثين من عمره. كيف له أن يفكر في الهرب والتهرب وهو الذي يدعي نصرة إنسانية الإنسان الذي اضطره المجتمع ودفعته ظروف معينة إلى اتخاذ سلوك مختلف عن سلوك الآخرين. ولكي يرضيها صاحبها إلى السينما ليشاهدا فيلم شارلي شابلن. يا للسخرية!! صمت. لكن الثوب الأزرق استحثه. بدأ يدرك بأنه سيفقد انسانيته إن لم يفقد زوجته. لعلها التاسعة مساء، يعود الضابط ليسأله عن الوقت. ثم ينقل عينيه بحركة دائرية إلى الخارج. وألح أمام عينيه خيال أزرق. بدأ يسأله  الثوب الأزرق بصوت يخنقه البكاء. تضاعفت انتفاضات الثوب الأزرق. سارع إلى طرد الخيال الأزرق وانتظر بتصميم. قاطعه الضابط الجريح:" يخيل إلى أن التسمم تصاعد إلى وجهي. لعله صار أزرق اللون." ص 113 فيجيبه بأنه ليس كثوبها. يستفسر الضابط إذا كان يتحدث عن زوجته التي طلقها. لكنه كان يتحدث عن ذات الثوب الأزرق؛ عن "جسد غض لمعلمة غضة." ص 114 إنها غضة لكنها عجفاء من العقل وذلك لأنها حاولت خلقه من جديد. لكنه بالرغم من ذلك تقيئها أيضا كما فعل مع زوجته، وحرر نفسه تقريبا منها، لأنه [اشتهاها.. رغب بها ثانية]. ص 114

   لقد اعلن الثورة. و"الثورة التي أعلنها انا، لا أعني الثورة التي أطاحت بالكرسي خاصتك" ص 120، والتي حدثت قبل ثلاثة أيام في بلد معين وهو يخاطب الضابط الجريح.  فهجْر زوجته له لمدة ثمانية أيام وغيابها عنه جعله ينطلق بعيدا. لقد استطاع كسب صداقة وثقة ذات الثوب الأزرق وهذا دفعه لكره زوجته وللسير في طريق لم يكن قد رسمه مع صاحبة الثوب الأزرق مع سابق تصميم. افترقا لكنه بعدها بأيام أعلن الثورة.

   لقد كانت ذات الثوب الأزرق تعامله معاملة خاصة لأنه إنسان خاص. فالمشاعر الإنسانية ما زالت سلطتها عليه، لكنه يردد: "أنا أسرقها.. أسرق شيئا إنسانيا." ص 27 وربما فعل ذلك لكي يشعر أنه موجود. ومن خلال معاملة ذات الثوب الأزرق له يحس بأنه ما زال ينتمي إلى الفصيلة الإنسانية. لكنه ما عاد يعترف بنفسه إنسانا. خصوصا بعد اغتصابه عذرية ذات الثوب الأزرق. وكان يراوده "إحساس مبهم يعرفه بوجود إنسان يراقبه." ص 35

    ويخاطبه ضميره، الضابط الجريح. يجب أن يأخذ برأيه وأن صمته عنها يشير إلى مدى ارتباطه بها. ويقول له: "أنت حدثتني عن كل شيء انتهيت منه. أما هذه فلا. هي ما زالت تشدك إليها. كان الأحرى أن تفتح عينيكّ! " لأنني أتحدث نيابة عن الصوت الذي في داخلك." ص 116 لقد رأى ذات الثوب الأزرق البارحة في الحلم وهي إحدى بطلات نجيب محفوظ، مكتنزة لحما في إحدى مخافر الشرطة وكان جسدها يقطر دما فسأل الشرطي عن حالها فأجابه بأنها ضحيته.

    أما الضابط الجريح فقد اقتربت ساعته وبدأ يكرر سؤاله عن الوقت ويجيبه :"أظنها منتصف الليل." ص 126 وينصحه الضابط الجريح بأن يعود إليها قائلا: "يمكنك أن تبدأ من جديد.. الآن. أنت لم تنته قبل أيام. الآن انتهيت، فأبدأ من حيث انتهيت." ص 124 كان الضابط الجريح يلح عليه لكي يأخذ قرارا ويقول له :
       " ... نهايتي قريبة. أود سماع قرارك الأخير!
       -قراري الأخير هو الرفض.. مت إذا!
        الضابط: أنت الخاسر!
       - من البداية.
      الضابط: وأنت هارب!
       -إلى النهاية." ص 117
    وأخيرا قرر أن يعود إلى ذات الثوب الأزرق كما وعد الضابط الجريح لكن بشرط؛ ليس قبل وفاة الضابط. فأفلتت ضحكة واهنة من فم هذا الأخير. أما الآخر فأطبق جفنيه لكي يتراءى له شارلي شابلن واضعا يده في يد المتشردة، وهما يسيران معا عبر طريق سماؤه زرقاء غنية الأضواء. "وبلا وعي منه افترت شفتاه عن ابتسامة". وبهذه الجملة الأخيرة يكون قد فقه لوضعه واستوعب ما وجب قيامه به؛ وهي العودة إلى ما كان عليه. فبعد استرجاعه لأحداث حصلت فقد قرر، من خلال تقييمه لها، المواجهة ونبذ الهرب.
  لقد خضنا رحلة جميلة جدا مع هذه الرواية التي اعتبرها الراحل الشاعر صلاح عبد الصبور رواية سابقة لعصرها؛ رواية القرن العشرين ببنائها الفني المعاصر والمحكم. إنها حقا رواية بطل في صراع داخلي، بين  نفسه ونفسه. وذلك لإيجاد، ببساطة، نفسه.
         
 


 




14
تقنية السرد التصويرية في رواية "الكائن الظل"
لإسماعيل فهد إسماعيل
                         
نجاة تميم
      أخذه التفكير إلى حد الهلوسة. فبدأ، قبل قاب شهرين، من موعد مناقشة رسالته الجامعية، يسمع أصواتا داخل غرفته. وفي أحد الليالي، ظهر أمامه حمدون بن حمدي من العصر العباسي. حينها، رن جرس التلفون. فأشار له الضيف بأن لا يخبر زميله بوجوده. فأعاد الطالب السماعة إلى مكانها.
  هكذا بدأت رحلة الطالب مع ابن حمدي الذي عرض عليه المساعدة. لكن مقابل ذلك يريده أن يزوجه من حبيبته "فتنة". رحلة، اعتمد فيها الروائي إسماعيل فهد إسماعيل المشاهد السينمائية وأخذنا بذلك إلى عالم يتأرجح بين الحقيقة والخيال. فنسجها من ثمانية مشاهد سينمائية تحبس الانفاس، تارة يكون الطالب هو عين الكاميرا وتارة أخرى المشاهد أو ممثل البطولة بامتياز.
    يبدأ المشهد الأول عندما ينفرج جدار الغرفة برفوف كتبه لكي يكون الطالب أشبه بعين كاميرا محمولة، شاهدا على صراخ وصيحات الجرحى، وحشود من الناس تقاتل بعضها البعض. فزع الطالب لكن ابن حمدي نهره قائلا : "تجلد! فأنت في أمان ما زلت خارج الزمان!" ص 26 إنها وقعة "صالح" لحسم الخلافة بين الأمين والمأمون. وقد بدى الدمار والخراب على مدينة بغداد. حرب دارت أربعة شهر؛ حوصر خلالها الأمين وسكان مدينته من قبل قائد جيش المأمون طاهر بن الحسين. تخلى عنه أعوانه ولم يهب لنصرته إلا عامة الناس ومن بينهم الشطار والعيارين الذين كان همهم مساعدة فقراء يعانون من التفاوت الطبقي والاقتصادي.
   في المشهد الثاني، رجل كهل يبحث عن مخبأ هروبا من بطش المأمون. إنه شقيق هارون الرشيد، إبراهيم بن المهدي. أخيرا انفتحت له إحدى الأبواب. فرحت زوجة صاحب البيت لأن هذا الأخير لن يحتاج بعد الآن إلى امتهان السرقة. ستسلم الشيخ مقابل جائزة ثمن رأسه. لكن الزوج نهرها، لأن أخلاق مهنته لا تسمح له بذلك. فرحب بالشيخ ووعده الأخير بغدق اضعاف ما حدده المأمون ثمن رأسه. أجابه صاحب البيت أن حال سياف الرشيد مع معن بن زيادة ليس بأفضل من حاله معه. وجعله ينجو بنفسه  من مخرج خفي ببيته. ينتهي المشهد وتعود الرفوف إلى مكانها على الجدار. لكن الطالب كان متشوقا لمعرفة القصد من "الإحالة قصد المشابهة".
  فصوب ابن حمدي أصبعه، في مشهد ثالث، نحو الجدار لتتلاشى رفوف الكتب ويجد الطالب نفسه في مكان يحاذي نهرا عظيما: الفرات. ويلمح رجلا وهو يغادر أحد الدور. إنه معن بن زائدة الذي يلتقي صدفة سياف الرشيد المغضوب عليه "سرور" والذي أصبح من قطاع الطرق. كان معن معروفا بكرمه لكن سرور كان هذه المرة أكرم منه بحيث وهبه حياته ولم يقتله.
   سأل الطالب ابن حمدي عن المغزى. فأجابه بأن " اللصوصية بعيدا عن زمانكم – قرين الحرية". ص 40 وأن الشطار آنذاك " كانوا أعداء يعتد بهم حكامهم". وأن " الأمر الفاصل عند اللصوص آنذاك – ميثاق الشرف. أما أنا "ما خنت ولا كذبت منذ تفتيْت." ص 46 فبسط إحدى كفيه فوق سطح الطاولة ليظهر أمام عيني الطالب كراسا بعنوان: "لزوميات الانضباط من تعاليم عثمان الخياط". وهذا المصدر النادر يتوارثه الشطار والعيارون وهو شريعة اللصوص ومرجعهم الأخلاقي.
   ذكّر ابن حمدي الطالب بوعده بتزويجه من "فتنة". فانفتح المشهد الرابع على صحن بيت فسيح. وجعله يشهد على لقائهما الأخير. حيث أعلمها أن قائد الجيش، ابن شيرزاد، يريد مقابلته. فأبدت قلقها من ذلك. وعند احتضانهما لبعضهما تلاشى المشهد. اغتنم الطالب الفرصة لتدوين معلومات من المخطوطات الأثيرية، وبينما هو منهمك، غمر فجأة ضوء نهاري غرفته وتراءى له ابن حمدي وهو يغادر بيت فتنة وهي متعلقة به. طلب منها كوب ماء واستغل الفرصة ليضع خاتمه في ثغرة الجدار وذلك ليدل الطالب، في هذا المشهد الخامس، على بيت فتنة. يظهر ابن حمدي امام الطالب تاركا مكونات المشهد كما هي. فانتقل به إلى مشهد آخر ليعرفه على الطريق المؤدي إلى بيت فتنة. فكان الطالب أشبه بعدسة كاميرا محمولة تنقل حركة بانوراميا دائرية كاملة.
  أما المشهد السابع فقد انفتح على منظر غروب الشمس الساحر وطبيعة خلابة. وفي وسط هذه الأشجار يتراءى خان على مشارف خراسان، بداخله رجل هزيل القامة يعاني سكرات الموت. إنه مالك بن الريب، أشعر شعراء اللصوص وأشهرهم. قطع عهدا لسعيد بن عثمان لكي يكف عن هذه المهنة، لكن رغم الضيم والظلم الذي أصابه بعدها، ظل وفيا ولم يخلف وعده. مالك، "الذي احترف لصوصية الغزو لا لسبب الحاجة وإنما لإرضاء نزعة." ص 85
   لقد حان تنفيذ الوعد. قرأ حمدون الصيغة القانونية: "أنا حمدون بن حمدي، وكلتك عن نفسي شرعا لكي تزوجني فتنة بن طاهر." ص 103 وأمره : "أكتب!" ثم استلقى على سرير الطالب ليأخذ قسطا من الراحة.
   خلال انغماره كليا في النقل، أحس بأنه محبوس في داخل انسان ثان يطل من خلال عينيه على ما حوله. "رأتني – والآخر يمشيني مثقلا بسلاسل حديدية" تكبل قدميه وسط ساحة غاصة بحشود غاضبة ومحتجة على الغدر بابن حمدي.
   لكنه سرعان ما تذكر غرفته، مكتبته، بحثه، مراجعه. حاول أن يستجمع قواه ويتخلص من حبسه لكن جلدا أطبق عليه وسمع صوت ابن حمدي: "تجلد"! ارتقيا سلم المنصة بصعوبة وهدّأ ابن حمدي من روع الطالب لأنه مجرد ظل وأن الظل لا يُقتل. وحالما يتم توسيطه تحت المقصلة ويلفظ آخر أنفاسه يجد الطالب نفسه حرا وخارج جسم ابن حمدي. آنذاك يجب أن يهرع لكي يزوجه فتنة. نبهه: "أما إذا تأخرت، فإن روحي سترحل حسب ميقاتها إلى البرزخ، وسيبقى ظلك تائها في سديم هذا العصر." ص 113 وقبل أن يلفظ ابن حمدي أنفاسه، ردد جملة مسموعة للكافة: "أتمنى أن لا يختلط حابل الحكام بنابل الحرامية وتضيع العامة." ص 114 
   فما أن وجد الطالب نفسه حرا، في المشهد الثامن والأخير، حتى هرع إلى بيت فتنة فوجدها وقارورة السم في يدها. تفضل الانتحار حتى لا تتزوج ابن شيرزاد. أراها الخاتم وبذلك أكمل الجزء الأول من المهمة فما عليه إلا أن يعود إلى الساحة ليحتضن الجزء الحامل لرأس حمدون ويتم بذلك تزويجه من فتنة.
   رن جرس التلفون. يبدو أن الطالب كان غاطا في نوم عميق. أحس بصعوبة التنفس. واكتشف بأنه كان نائما على وجهه، واضعا وسادة تحث بطنه تماما كما استلقى ابن حمدي على سريره.
   أصابته الحيرة. اختلط الخيال بالواقع، الحلم باليقظة والتفت إلى رفوف مكتبته. لم ير شيئا. لكن رنين جرس التلفون يتوالى. فاجأه صوت زميله الذي يسأله عن سبب اغلاق السماعة دون الرد. استغرب الطالب أنه فعل ذلك قبل ثوان. تذكر جرس التلفون قبل هذه المرة وكأنه حدث في زمن ماض بعيد، وأن عقارب الساعة حيث هي لما ظهر ابن حمدي. فآوى إلى فراشه. فصباح الغد موعد مناقشة رسالته الجامعية.




15


اغتراب الكاتب الملعون
ما أصعب الإحساس بغربة الذات! محمد شكري
                                                                                 

 نجاة تميم


  اشتهر الكاتب والروائي المغربي محمد شكري (1935-2003) بثلاثية سيرته الذاتية الموسومة بالتتالي" الخبز الحافي" (1982)، "زمن الأخطاء" أو "الشطار"  (1992)1 و"وجوه" (2000)2. 
لقد كانت الكُتب والكتابة بالنسبة له المنبعين اللذين لا ينبضان منذ انبثاقهما في حياته. إنهما يقهران، حسب قوله، الزمن العادي لخلق زمن تعميق الإبداع. ويوجهان أحلامه وهواجسه المنبجسة. يخلصانه  من الرؤية ويقودانه  نحو الرؤيا، نحو الغربة الجوانية. (وج 154) فالبحث عن الذات والتعمق في بحورها تجعلنا نكتشف أنفسنا ونتعلم كيفية التعامل معها. 

   حسب بياتريس ديديي، تعود كتابة المذكرات إلى الفردية الرومانسية التي تعتمد على الإيمان بالفرد؛ بالأنا3.  أما فيليب لوجون فيقول أن كلمة "اوتوبيوغرافيا"، كما المذكرات الخاصة، ظهرت لأول مرة في انجلترا وبعدها انتشرت في أوروبا. ويضيف أن السيرة الذاتية هي أحد مؤشرات تغيير مفهوم "الفرد" وهي مرتبطة بشكل وثيق بالحضارة الصناعية وبقدوم البرجوازية إلى السلطة4.

   تتطلب عملية كتابة السيرة الذاتية من السارد أن يضع نوعين من المسافات: إما مواجهة الماضي أو مواجهة ما يكتب؛ أي توضيح العلاقة بين السارد والشخصية وبين الشخص البالغ والطفل. وهناك وضعيتان ممكنتان لذلك؛ إما أن يجد الكاتب  نفسه في الحالة أو أن يتخذ مسافة عنها. والأولى تعني التماهي مع ما حدث ومع ما يحدث الآن أيضا. أما الرفض فهو يحدث بالأخص على الصعيد الذهني- الثقافي ويشمل صعوبة تفهَم ما كنا عليه في الماضي وإيجاد أنفسنا في هذا الماضي. وقد يحدث هذا على الصعيد العاطفي. ويأخذ اتجاهين عكسيين متناقضين: الحنين أو الرفض. فيما يخص الأول، فهو الإحساس بالندم عن المسافة التي وجب علينا اتخاذها. أما الرفض فإنه يتزايد وقد يصل إذا اقتضى الأمر إلى اللعنة5.  وقد نلاحظ هذا التخبط في سيرورة العملية السيرية لمحمد شكري وهو الذي يقول أن
"حياتنا هي تجاربنا، لكن الكاتب الحقيقي لا يعلٍم التجارب. إنه يوقظ الإحساس بها."6

العيش في زمن الأخطاء: الاغتراب
يغطي الجزء الأول من السيرة الذاتية الموسوم "الخبز الحافي"، فترة زمنية مهمة من حياة محمد شكري وهي مرحلة الطفولة والمراهقة. أما الجزء الثاني بعنوان "زمن الأخطاء" فينقسم إلى قسمين؛ مرحلة الدراسة الثانوية والتخرج من مدرسة المعلمين، ومرحلة اكتشاف زمن الأخطاء والإحساس بغربة الذات. فبعد الفصل التاسع عشر المعنون "العيش في زمن الأخطاء" سنرى أن السيرة الذاتية ستأخذ منعطفا آخرا.
  عرف السارد-الشخصية الغربة من صباه عندما اضطرت عائلته للهجرة من الريف إلى طنجة بحثا عن القوت واستمرت غربته بين طنجة وتطوان والعرائش. وهو الذي يقول" أغترب ولو في ضاحية المدينة." (زأ 128) لكن الأشد من ذلك احساسه العميق بالاغتراب عن الذات وعن مجتمع، الفقر فيه يسحق الفقراء ويهمش الضعفاء. 
  يزداد اهتمام السارد "إبن حدو علال الشكري" (زأ 85)، الطالب في مدرسة المعلمين، بالقراءة الجدية. وبدأت محاولاته في الكتابة بمساعدة الكاتب محمد الصباغ  تتعمق وكذلك نظرته للحياة. وهنا يزيد احساسه بالاغتراب عن الذات. ويكون شاهدا على جيله وما يحل به. ففي سبعينيات القرن الماضي، يبدو أن "الأذكياء جنوا أو هم يهدون في الشوارع والأحقون بالبقاء هاجروا وكبلتهم الغربة الثقيلة...رأيتهم يشربون كؤوسهم الأخيرة حفنة من تراب الوطن. رأيت أحدهم يحملها في كيس صغير..ربما سيسمد بها بذورا في غربته القهرية..إنها مشيئة البؤس في وطنه... (زأ 126) يحس شكري بألم يلمؔ به ويرهف السمع. "لمن هذه الأنغام الحزينة التي أسمعها من بعيد؟ يبدو "أنها للراحلين في الجمارك وهم يزحفون واقفين. بطء زحفهم يذلهم حتى نخاع العظام. إن مذلة الوطن أقسى عليهم من مذلة الغربة." (زأ 127)
    إن الراوي تخونه الكتابة. "أكتب ما أمزقه من اليأس. يعجزني جمال التعبير. كيف تأتي الكتابة؟" يصف عجزه، ما باليد حيلة،"إني قزم نفسي." (زأ 128) فإن الصدأ يرعبه. (زأ 129) فعندما توصل إلى المفهوم الذي يقول: " أنا أحب، إذن أنا أحيا" عند هايني، قبل أن يعرف " أنا أفكر، إذن أنا موجود" عند ديكارت. ثم جاء سارتر فأيقظ فيه مفهوما آخر:"أنا ما هو أنا، ليس أنا ما هو أنا،" فإن وعيه بذاته وبعجزه جعله يمزق كل ما يكتب ويبيع كتبه لكي يسكر. لكن "انحلال الروح في الجسد، كان مسًي المرضي، الغلاب."( زأ 130). وذات ليلة أعلن إفلاسه الجسدي والروحي وكانت نهايته في مستشفى أمراض الأعصاب (ماريوكا) بتطوان. هناك تعرف على العالم الآخر، عالم المنسيين ( في فصل 20: المنسيون)؛ يوسف الذي يفسر كل حديث عن الله، والدين والكوارث الطبيعية ويقول: "يخشى الله من عباده العلماء." (زأ 131)  ويقولون أن القراءات السبع هي التي خبلته. أما منصور فيقول أن : "يوم فوق الأرض خير من ألف يوم تحت الأرض. ألف عام من الحياة حتى يلعنها الإنسان." أما عمر فيطلب منهم أن يكفوا من أخبار الأولين والترهان. ويريد الخبز والماء. وأبرهام الذي يغني للحب ومنصور الذي يجلس بجانب شكري ويقول أن "ليس سهلا أن يجن الإنسان، وصعب أن يعقل حتى لا يجن." (زأ 132)  فيجيبه يوسف أن "في عقول الناس أثقالا، وأجسادهم حميرها." ونساء أخريات يحملن أثقالا من الهموم أوصلتهن إلى هذا المستشفى.
   يتذكر محمد مع باتريسيا الشاعرة الفاشلة قصة الإسباني، بائع بالونات الأطفال، الذي يكره فرانكو. "كان يعيش.. زمن الصمت في المنفى." (زأ 166) أما وضعية محمد فقد تأزمت ودخل للمرة الثانية إلى مستشفى مايوركا للأعصاب بتطوان. وعانى أمرﱠ الغربتين، خارج المصحة وداخلها. وبلغت أشدها عند وفاة أمه. "فما عسى يقول الابن عن وفاة أمه؟ لا شيء من كل شيء." (زأ 180) .." وبموت أمي تموت كل أسرتي". (زأ 186)
      حالة الاغتراب التي يمر بها الإنسان، حسب د. حليم بركات،  تتصل بمشكلات التفكك الاجتماعي والثقافي والسياسي. فعندما يكون المرء عاجزا ويعي عجزه في علاقاته مع المجتمع ومؤسساته، تكون ثلاث خيارات سلوكية أمامه؛ إما الانسحاب أو الرضوخ أو التمرد - الثورة.
   يبدو أن شكري اختار في  "الخبز الحافي" طريق التمرد كرد فعل على الاغتراب الذي يعاني منه. وذلك بكسر حاجز التابوهات ومن ضمنها تابوه الجنس. واتجه السارد-الشخصية إلى تعاطي الحشيش والكيف وشرب الكحول والعربدة وكذلك معاشرة العاهرات وممارسة الجنس او محاولة ذلك. إن هذا التناول يعني للبعض التمرد على العادات والتقاليد، بما يسمى بالسلوك الاجتماعي السليم. وما زاد الطين بله وجعل تمرده يحتل ذروته هو حديثه بالضمير "الأنا" عن مشاهد ومغامرات جنسية مستعملا مفردات يستخدمها العامة.  كما أنه لم يبخل بالتفاصيل بجرأة مستفزة. وأعتقد أنه وصل هدفه وهو رفضه للاغتراب رفضا قاطعا، وذلك عن طريق صب حنقه وغضبه في هذا السلوك.
   أما في الجزء الثاني "زمن الأخطاء" فكان محمد يخطو خطواته الأولى في الدراسة والوعي  الاجتماعي والسياسي. أصبح مدرسا رغم كل الصعوبات التي واجهها لكن ملامح الجدية والالتزام والاهتمام بالمطالعة ملأت وقته أكثر. تمثلت في ثلاث قصائد شعرية متتالية. كما ختم هذا الجزء بقصيدة رابعة بعنوان "طنجيس" حفاوة بمدينة طنجة. أما سلوكه ودخوله مستشفى الأعصاب مرتين، فإنه يدل على انسحابه من المعركة وهروبه من المواجهة. ومع هذا كسب تجارب جعلته يكتب سيرته الذاتية الثالثة بطريقة أنضج.
     يعد الجزء الثالث الموسوم "وجوه"، الذي يتضمن 15 فصلا معنونا، سيرة ذاتية ثقافية، تطلعنا على صيرورة محمد شكري الابداعية من خلال حياته وتجاربه مع أصدقائه، كُتابا وفنانين غربيين كانوا أم محليين. وتعرفنا على الوجه الآخر لشكري من خلال قصائده الشعرية العشرة التي نثرها داخل المتن السردي وتسليطه الضوء على معاناة  المغترب عن الذات واغتراب المرأة والطفل والمسن وكذلك اغتراب المقيمين الأجانب المنفيين الذين عاشوا بالمغرب وربما ولدوا به. "وجوه" كتاب يهتم بالإضافة إلى ثيمة الاغتراب عن الذات وعن المجتمع بمؤسساته، فإنه متن يزخر بمعاني وملامح جمالية وأفكار تنم عن ثقافة الكاتب الواسعة ومتابعاته بحذر لما يجري حوله وفي العالم.
     استشهد حليم بركات، في كتابه "الإغتراب في الثقافة العربية"، بفاطمة المحسن لقولها أن هناك حقا ادب منفى وأعطت مثلا في الشعر الشاعر سعدي يوسف، وفي الرواية غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي. إن الأعمال والإبداعات الأدبية لهؤلاء الكتاب تحمل هموم وأماني العراقيين بشكل عام. كما يذكر محمد شكري أن "الحلم الجوال هو الذي جعل من الشاعر الجواهري والبياتي وسعدي يوسف "المنفى" الذي لن يصبح وطنا و"الوطن" الذي يظل منفى. فهذه الغربة الجوالة هي إلهام المبدعين المتجدد. ليست غربة الوطن هي القاسية فقط لأن المبدع يحمل وطنه معه أينما ارتحل إذا اضطهده جور حكام بلاده، بل هي غربة الذات."8 
   شكري الذي يشرب لكي يعي أكثر ويقول: "انا المفلس المديون لـ ( فاطي) والملعون،" (وج 33)  يعبر بجمالية عن اغترابه وشكوكه وتخبطه في أول قصيدة في "وجوه" بعنوان "الميراث":
غربة
لي غربتان
واحدة هنا وواحدة
هناك
أيهما الأغرب؟
لا خيار بينهما،
في زمن المحن،
رغم الوطن.
الضفادع هي التي
لا ترحل من مرجها،
ما كان لي أن اقول:
سأرحل غذا،
لكن انقيادي
كان قهرا،
وبقائي صمودا
كان هشا،
ها أنا ذهبت،
ها أنا عدت.
هذا ما هو أنا الآن. (وج 35-36)

  لكنﱡ المغتربين كثيرون؛ ريكاردو الذي يلغي عودته إلى اسبانيا للمرة الرابعة. وذلك لأنه وُلد وترعرع في طنجة ولا يريد أن يغادرها لمجرد العمل في اسبانيا، ودادي"أول شيوعي طنجوي" الذي هرب بجلده إلى بوردو عند احتلال فرانكو طنجة في 14 حزيران- يونيو 1940. وقد كان باكو (تصغير فرانكو) يطارد ويعدم المثقفين في شمال المغرب. وفي أحسن الأحوال، يسجنون في سجن سبته الرهيب El hacho الذي لا يقل فظاعة عن سجن الكاطرات ALcatraz.

  بالإضافة إلى اغتراب الهادي الذي عاد من حرب الهند الصينية مبتور الذراعين،" لقد عرف لماذا عاد ولكنه لم يعرف لماذا ذهب إليها،" (وج 36)  هناك أحمد المدرس الذي يقدس توحؔده وأخوه خليل الفنان النابغة، الذي عرض في أواخر الستينات "لوحات هياكل عظمية حية، وأشباح أشخاص ينتظرون من يدفنهم، مصلوبون أو مشنوقون ومن فقدوا ملامحهم الإنسانية." (وج 93) لكن هذه اللوحات صودرت في اليوم التالي.

   أخيرا عادت فاطي محجبة من غربتها التي دامت خمسة عشر عاما في اسبانيا، تفتح حوارا مع شكري حول الكتابة وعن عملها السابق في حانة غرناطة. الأمر سواء بينهما. اللعنات موجودة في كل عمل، حسب شكري، حتى تأليف الكتب لا يسلم من اللعنات والمنع والاعتداء إلى حد المطاردة والسجن والقتل.  ويُكمل"ربما تلقيتُ من الشتائم أكثر مما عانيتِ منه أنتِ. لقد بصق علي بعضهم في الشارع، في الحانات، في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. وفي كل مكان لأني كاتب ملعون." (وج 104)

   أما فيرونيك فهي "ربما حريته الوهمية في العيش مع امرأة." لكن والدتها "جاءت لترى أين تعيش ابنتها في طنجة، قيل لها ما قيل من ابنتها تعيش مع كاتب ملعون مدمن الكحول والحشيش وكل ما هو مريب. يا للعار." (وج 149) اطمئنت الأم على ابنتها وعادت إلى ديارها. لكن شكري أقنع ابنتها فيرونيك أن تعود إلى بلدها لتكمل تعليمها وتتطلع إلى مستقبل زاهر.

التراضي مع الذات
   محمد شكري كاتب عصامي. عانى الاغتراب على الصعيد الاجتماعي والطبقي والثقافي، وهو الذي حكم على نفسه بهذا النفي قائلا أن في "اختياري الرافض شجبا للظلم وإنقاذا للكرامة الإنسانية.9  ففي الجزء الاول من سيرته الذاتية "الخبز الحافي" عبر عن غضبه واستياءه من الوضع السياسي والاقتصادي والتمزق الاجتماعي  الذي كانت تعاني منه المرأة ومعها طبقات المجتمع المنكوبة. أما في الجزء الثاني "زمن الأخطاء"، فقد كان يجسد مرحلة الوعي بالذات وبالآخر وختم الجزء الثالث من سيرته الذاتية بالمصالحة مع النفس، مُعلنا: "هكذا زال المعنى المقلق لعيد ميلادي الرابع والستين. إنها لحظة صداقة." (وج 153) فبعدما كان يتخبط في أذيال هويته ويقول: "أنا ما هو أنا، وليس أنا ما هو أنا." (زأ 130) ويشك في "هذا ما هو أنا." (وج 36) إلى أن أصبح متأكدا أنه: أنا هو الذي أنا هو." (وج 153)
الهوامش
__________________________
 1 -"زمن الأخطاء" طبعت في بيروت حسب رغبة الناشر تحت عنوان "الشطار". الرواية الشطارية نسبة إلى رواية  Picaresque التي ازدهرت في القرن السادس عشر في اسبانيا. وهي تعتمد على اسلوب الأتوبيوغرافيا بالضمير المتكلم ويكون البطل الرئيس picaroهو الكاتب والراوي في نفس الوقت يعيش على هامش المجتمع أو عالة عليه. يطمع أن يرتقي اجتماعيا بأسلوب النصب والاحتيال. اما أعمال محمد شكري فليست شطارية.
 2- نرمز إلى " الخبز الحافي"( خح) ،" زمن الأخطاء" (زأ)،" وجوه" (وج) 
 3 - Georges May, L’autobiographie, PUF, 1979, p.26
 4 - Philipe Lejeune, L’autobiographie en France, Colin, Paris, 1971, p.14
 5 - Ibid., pp. 73-75
 6- محمد شكري، غواية  الشحرور الأبيض، منشورات الجمل، كولونيا، 1998، ص. 118 
 7 - سعدون هليل ، الإغتراب في الثقافة العربية لحليم بركات، طريق الشعب، يوم 23 شباط 2010
 8 - شكري، غواية  الشحرور الأبيض، ص. 4
 9- نفس المصدر، ص.44 

16
أربعينية الراحل الفنان خليل شوقي

نجاة تميم


  لقد فقدنا كلنا، عراقيين وعربا، قامة فنية، إبداعية وثقافية كبيرة. تاركا لنا أعمالا ستظل راسخة في الذاكرة العراقية، الشعبية والثقافية.

   لقد عرفناه فنانا شاملا وانسانا يحمل كل معاني الانسانية الراقية. جمع بين التأليف والإخراج والتمثيل وكتابة القصة. غطى نشاطه الفني الإبداعي مجالات المسرح والتلفزيون والسينما والإذاعة. أحبه الناس ممثلا ومخرجا ومؤلفا. واعجبوا بأدائه المميز وسحر صوته البغدادي الدافئ. كان ينحت دوره قبل تجسيده، فيقدمه على طريقته. فأبهر جمهوره بشخصيات عديدة، تمتعت بها أجيال متعاقبة، كشخصية "مصطفى الدلال" وهو يهمس ل"سليمة خاتون" في مسرحية " النخلة والجيران" وشخصية "قادر بيك" وتربصه المدهش ب"حسنية خاتون" في مسلسل " الذئب وعيون المدينة". كما أبدع في تجسيد شخصية البخيل في مسرحية "بغداد الأزل بين الجد والهزل" ودور الراوي في مسرحية "كان يا ما كان" وغيرها الكثير. وقد تجلى جانب من الدور الكبير الذي لعبه هذا الفنان المبدع كصوت شعبي ناقد من خلال أعماله الفنية وشخصيات قصصه القصيرة التي واكبت أوضاع مجتمعه.

  هذا من الناحية الفنية أما الوجه الإنساني للراحل خليل شوقي، فتكتشف، من خلال التعرف عليه، أنه إنسان بسيط والحقيقة أنه كان انسانا متواضعا، اجتماعيا وسهل التواصل. يجعلك تحس بالارتياح وأنت تتحدث إليه. ولا يبخل عليك بمعارفه الثقافية الواسعة.   انسان مشبع بالروح الشعبية العراقية وانعكس ذلك على سلوكه وفنه. انسان يحس هموم جمهوره ويركز على ابرازها في أعماله. غني فنيا لكنه إنسانيا أغنى بوعيه الاجتماعي والثقافي والسياسي وبالقيم الإنسانية التي آمن بها. وقد شاركت المرأة العراقية أيضا في  تكريمه عام 2003 إلى جانب الجمعيات والمؤسسات العراقية بهولندا.

  كما لا ننسى أنه نصير المرأة. فحضوره لفعاليات رابطة المرأة العراقية وجمعية النساء العراقيات بهولندا، خصوصا للاحتفال بيوم المرأة العالمي، لدليل على ايمانه القوي بحقوق المرأة ودعمه لتحقيق غد افضل لها.
 لقد ترك الراحل الفنان خليل شوقي بصمات ابداعه على ارث درامي وثقافي، ساهم بالتأكيد من خلاله في بناء الانسان العراقي.

وداعا خليل شوقي!
ستبقى خالدا!
ستبقى ذكراك منقوشة في أذهاننا وقلوبنا وفي الذاكرة الثقافية العراقية!


17
الغيرية في رواية "هروب الموناليزا، بوح قيثارة"
                                                                             
نجاة تميم
   عندما أهدتني الشاعرة بلقيس حميد حسن كتابها. لفتت نظري كلمتا هروب وبوح. فالهروب يقتضي مواجهة المستجدات والبوح يأتي كاعتراف ومحاولة التراضي مع الذات. وعلى إثر هاتين الكلمتين بنيت الرواية على مستويين.

   لكن قبل أن تخوض الكاتبة مشروعها، توجهت إلى القارئ في فصل خاص "ما قبل البوح" واتخذت موقفا مسبقا من الآخر. اعتزمت البوح معتبرة نفسها الناطق الرسمي للمرأة "الشرقية"، المظلومة والمحاطة من كل ناحية بسهام التهم ومحاولة الإيقاع بها في كل لحظة. فتقول: "سنبوح أنا وهي، وهن، سنبوح نحن نسل حواء، الخارجات إلى الدنيا من ثنايا أضلاعكم. سنبوج، لكن بوحنا لا تنتظروا أن يكون حقيقيا وتاما." وتكرر أنها ليست كاتبة روائية، وأنها لا تجيد فنها. و"إنما أنا امرأة تبوح بما عانت، وعانين من عرفتهن لا أكثر، أردت أن تروا حياتكم وحياتنا من أعماقها لتعرفوا ماذا صنعتم بأيديكم.."
   تحتوي الرواية على مقدمة وسبعة وعشرين وتر قيثارة، تتنقل الراوية فيما بينهم من خاطرة إلى أخرى؛ تارة تعلمنا عن طفولتها وتعرضها للتحرش الجنسي وتارة تضعنا أمام واقع قاسي ونهايات مؤلمة لشابات؛ كمصير عدالة العمياء و اعتداء ابن عمها عليها وقتل، غسلا للعار، نورية القاصرة ودويدة المتخلفة عقليا وكاظمية وكريمة وغيرهن كثيرات.
   في المستوى الأول، تعلمنا الشخصية الروائية "موناليزا سامي الخطيب" عن تفاصيل هروبها من بطش النظام الحاكم وهي الإنسانة اليسارية الملتزمة والمعارضة لهذا النظام المستبد. وفي نفس الوقت ترجع كل ما آلت إليه إلى ظروف طفولتها في مجتمع ضيق ومغلق على نفسه.
   أما المستوى الثاني فيشمل قصة صديقة موناليزا واسمها سومر. هذه الأخيرة تحاول التخلص من عبء أسرار حياتها وعلاقتها برجل متزوج. فتبوح لموناليزا بقصتها وتطلب منها أن تدونها كرواية. "فسومر، المرأة الشرقية المثقفة والرائعة والفنانة هي "سومر الحضارة الأولى" تعاني من الوحدة والغربة والانكسارات في حياتها وتلقي باللوم أحيانا على إهمال حبيبها لها وأحيانا أخرى على الظروف الاجتماعية التي نشأت فيها. وكلاهما تقصان حياة نساء مناضلات أو عاديات بمعاناتهن وظلم المجتمع الذكوري لهن. لكن قصصهما لا تخلو من شذوذ الرجل وحرمانه الجنسي ومعاناته النفسية التي لا تعيرها أي من الراويتين - موناليزا وسومر- أي اهتمام.

   إن الشخصيتين موناليزا وسومر هما وجهان لعملة واحدة. لم تعد موناليزا كما كانت عليه، فبعد الهروب حلت مرحلة مواجهة الغربة وقساوة الوحدة؛ امرأة ولدت من جديد، تعيش في بلد أوروبي متقدم. تحاول إيجاد ذاتها وتكتشف جسدها. امرأة في الأربعين تتحمل مسؤولية طفلة. تعتبر هي أيضا عائقا بالنسبة لاختياراتها في الحياة. فهي التي وجدت الحرية أخيرا في بلد المهجر تقول: "..وأنا اليوم حرة أن أختار أسلوب الحياة المناسب لي والذي يتلاءم مع إمكانياتي دون تأثير من ظرف أو خوف من أحد. آه الحرية.. الآن صار الوقت متأخرا كثيرا. العالم يفتح أبوابه للشباب برحابة وثقة، أما في عمر يقارب الأربعين- وامرأة مع ألحانها المهاجرة، وطفلة صغيرة لا تعرف أحدا سواها- فالفرص تتضاءل".

   موناليزا التي تكبدت المتاعب وأنهكها الخوف والرعب  من أتباع النظام تنجح أخيرا في الهرب من العراق. لكنها اكتشفت معاناة الغربة والوحدة وصعوبة استيعاب الثقافة الغربية وتعلم اللغة للاندماج في المجتمع الأوروبي. كل هذا عمق غربتها وازداد حنينها إلى الوطن الأم، مما جعلها تتشبث أكثر بانتمائها وهويتها؛ وبذلك تصبح "سومر الحضارة الأولى".

الآخر

  بالرغم أن الراويتين موناليزا و سومر شخصيتان تتوفران على ثقافة عامة من خلال استشهادهما بالعديد من الكتاب، استغرب كيف لموناليزا اليسارية والتي تدافع عن حقوق الانسان أن تستشهد  بمقولة أرسطو الذي يرى أن العبودية عنصر أساسي من عناصر الاقتصاد: "العبد الحقيقي هو الذي لا يستطيع التصريح بآرائه،" ص16  أو بالأحرى يقول أرسطو: "العبد الحقيقي هو ذلك الذي يستطيع التصريح بآرائه." وفي كل الأحوال، هل هناك عبد حقيقي وعبد مزور؟
 وتستشهد الراوية كذلك بمثل انجليزي يقول" ليس المهم أن تعرف سبب الدموع، لكن المهم أن تعرف كيف تمسحها".. أليس من المعقول أن تعي سومر سبب تعاستها وتحلل وضعها لكي تتجاوز محنتها واستحالة علاقتها مع حبيبها ؟ هذا الأخير الذي تربطه بها دهشته" بهذا الاكتمال الأنثوي" وهو يردد قول غوته: "وُجدت لكي اندهش". ص24 إنها "المرأة  التي لها دينها الخاص وفلسفتها المستهجنة من مجتمعها"، لكنها، رغم ذلك، لم تستطع الاندماج في المجتمع الأوروبي ولا مع موسيقاه بالرغم أنها موسيقية وتتساءل إذا كان هذا نقصا حضاريا في تكوينها. "فكل اللواتي دخلن عالمها منذ الطفولة كأحلام وكوابيس وأفلام رعب، كلهن كون شخصيتها." قتلتها الوحدة واعتقدت أنها أخيرا وجدت شبيها لها رأت فيه لونها ولسانها؛ الحبيب المتزوج من الأخرى المعلنة، الأوروبية، المتسلطة، القوية، الثرية ومن طبقة راقية، طبيبة ومستقلة، والتي علمها مجتمعها الثقة بالنفس وبالآخرين. أما العشيق، والمُهمل لها، فما هو إلا المتلقي حامل عقدة الشرق، عقدة الخواجة، عقدة الضعيف أمام القوي، عقدة التخلف أمام الحضارة. فهو الذي يبوح لها بأن زوجته توصيه:" مارس الجنس معها ولكن لا تحبها." ص215 لقد سمعَت أن الأوروبيين ينامون عراة وأنهم غير مهتمين بالجنس. فبرودة بلدانهم قد تنعكس على رغباتهم الجنسية. لكن هذا الحكم المُسبق ألغته سهير، المتزوجة من أوروبي، والتي سبق لها أن جربت أكثر من خمسين رجلا عربيا وأوعزت عجزهم الجنسي إلى الخوف من الحكومات الذي أمات أعضاءهم. ص211.

    كانت سومر تحسب نفسها موضوعية في الحكم على الآخرين. وتستشهد بمقولة سارتر:" الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، هو مفتاح لفهم ذاتي والإحساس بوجودي." ص45 وتتساءل، أحيانا، عن جدوى علاقتها بحبيبها وهي التي تؤمن بمقولة ابن حزم:" المهم أن أمتع روحي منه وهذا غاية الحب، فالحب عنده ليس بالضرورة متبادلا. أحبني أم لم يحبني، روحي تعشقه وتريده هو دون سواه، وأنا وروحي شيء واحد." لكنها تعود وتسخر من نفسها وتصفها بالغرائزية والأنانية، لأنها لا تحبه هو لذاته إنما تحب ذاتها، وتسترسل: "ولكي أسعدها أراني متحملة هذا الضيم ومستمرة في العلاقة طمعا في سويعات اللذة والسعادة." وتناجي نفسها، " يا ترى هل العشق في المنفى هو عشق حقيقي؟ أم علاقة مشبوهة بالوهم غالبا؟ ص80 "فهل الحب بهذه الطريقة حب للذات أكثر منه حبا للآخر؟" وهكذا تستمر مناجاتها وتساؤلاتها العديدة والمتعددة:
"فمن يفهمني يا ترى؟"
"ما الذي أذنبته أنا؟"
"أمثلي تستحق هذا؟"
"ومتى سأعرف الحقيقة؟"
"ليتني أجد الإجابة وأرتاح.."
"فالعاشقات، هن، أنا، نحن، ما زال الرجال يقتلوننا يوميا، بشتى الأساليب، كما يقتلني الحب ببطء وصمت." ص 164
لكن شاءت الظروف، أن تكون سومر وابنتها "لقاء" ضحية انفجار فندق في الأردن، عام 2005، وهما في الطريق لزيارة الأهل في العراق.









18
بين التمرد والرهبنة
الهوية النسائية في قصص أليس مونرو
                                                                                                                                    نجاة تميم
 
      بدأت المرأة، في القرن السابع عشر، تنتفض لكي تزيح الغبار عنها وترفض التعامل التعسفي المستخدم ضدها لإخضاعها وإسكاتها. ففي عام 1669، نُشرت "رسائل الراهبة البرتغالية" التي تُوضح التناقض بين حياة الراهبات ومشاعر الحب. فكانت هذه الرسائل الخمس للراهبة المجهولة بداية احتجاج على التقاليد والتعاليم الدينية المتحجرة. أما التطرق إلى هذه الثيمة، بشكل أوضح، فسنجده في رواية القرن الثامن عشر. حيث نشر ديدرو Diderot روايته "الراهبة" عام 1796، بعد كتابتها  بثلاثين سنة وهي عبارة عن مذكرة وجهتها سوزان لمحاميها. تتناول هذه الرواية  محاولات فتاة يائسة من الإفلات من السجن الذي فرضه عليها والديها. عاشت سوزان هذا التغيير من فتاة عادية إلى راهبة كحالة غياب عن ذاتها، فكانت تعاني من التهميش وفقدان الهوية. لكن إرادتها لمغادرة الدير كانت قوية، بحيث ساعدتها الكتابة على تخطي هذه المصاعب. وبدوره ديدرو رفض هذا التعسف في رواية خيالية وفتح بذلك المجال لطلب العدل والاعتراف باستقلالية المرأة وحريتها في اختيار حياتها.
   هذا ما تهتم به الكاتبة الكندية أليس مونرو، ذو الإثنين وثمانين عاما، التي تتحفنا بدورها بقصص قصيرة ما زالت تعالج الحياة اليومية للمرأة والصعوبات التي تواجهها. وتشمل آخر مجموعتها القصصية بعنوان "Dear Live" عشر قصص قصيرة "محايدة" وأربعة "شخصية جدا"، سيرة ذاتية، حسب قول مونرو، فيما يخص الإحساس ولكنها أحيانا لا تمت للواقع بشيء. وقد تُوجت هذه المجموعة القصصية، "Dear Live"، بجائزة نوبل في أكتوبر- تشرين الأول 2013. ووجدت لجنة التحكيم أن مونرو تتميز بأسلوب سلس وواضح وأنها تهتم بواقعية الأحداث والحالة النفسية لشخصياتها.
   كانت انطلاقة أليس مونرو عام 1968، عندما زين العنوان التالي "ربة بيت تجد الوقت لكتابة قصص قصيرة" صفحة جريدة محلية في أونتاريو، معلنا بذلك صدور أول مجموعة قصصية لها وهي في الأربعين من عمرها. لكن هذا العنوان لم يكن فحواه صحيحا. لأن أليس مونرو لم تجد فعلا الوقت الكافي للكتابة وهي التي كانت تدفع أصابع ابنتها البكر التي كان عمرها، آنذاك، أقل من سنتين بيد وباليد الأخرى تطبع على الآلة الكاتبة. لقد كان شغف الكتابة يأخذ الكثير من وقتها. وهذا الإحساس بالذنب والتقصير اتجاه أطفالها الأربعة رافقها في كل أعمالها التي تشمل ثلاثة عشر مجموعة قصصية ورواية وحيدة (1971).
  في قصص مونرو، تحتل الشخصية النسائية المرتبة الأولى ولا تقبل أن تكون من الدرجة الثانية. رغم  حياتها المعقدة لم تستسلم، فتختار الطريق الذي تراه حلا لمشكلتها. تتوفر هذه القصص على الكثير من التفاصيل والمفاجآت  ويصعب علينا تلخيصها. كما أن مونرو تترك المجال للقارئ لكي يعيد كتابة قصصها. فالتغييرات التي تحدث داخل القصة تشدنا لا محالة لتتبع القراءة وتجعلنا نفكر لإيجاد أجوبة لأسئلتنا وربما لا نجدها. نحس قوة الشخصية النسائية حتى في سكوتها وأحيانا حتى في خضوعها وتفاجئنا كل مرة فتحسم الأمر وتستمر حياتها. في القصة الأولى من هذه المجموعة بعنوان" الوصول إلى اليابان" كانت الحركة النِسوية في بدايتها. فلم يكن بإمكان المرأة أن تدلي برأيها، أن تكون شاعرة، والأصعب من ذلك أن تطرح أفكارا جديدة أو تكون متحررة. الشاعرة، كريتا، ربة بيت متزوجة غير سعيدة، تعاني أيضا من تضييق المجتمع عليها. تعرفت خلال احتفال أدبي على الصحفي "هانس" ووقعت في حبه. واستغلت أقرب فرصة للقائه. لكن خلال سفرتها بالقطار تترك ابنتها، كيتي، نائمة في عربة القطار المخصصة للنوم وتلبي دعوة شاب وتذهب إلى غرفته. لكن عند عودتها تفتقد ابنتها ويجن جنونها. وأخيرا تجدها جالسة على القطعة الحديدية التي تربط القاطرتين. تجرها بحذر وتضمها إلى صدرها وتعيد حساباتها والرعب والإحساس بالذنب يقتلها لتركها ابنتها لقدرها. ترفض بعدها الطفلة النوم بجانب أمها. لكن عندما يصل القطار إلى تورونتو، تجد كريتا هانس في انتظارها فتترك الطفلة يد أمها؛ لا تعرف ما يحدث بالضبط لكنها متأكدة من إهمال أمها لها.
     أما قصة المعلمة الشابة، التي تلتحق بمستشفى أمراض السل لتدريس الأطفال النزلاء، فإنها تشهد تغييرات داخل بنيتها. ويجد القارئ نفسه مندهشا وعليه أن يشارك في بناء القصة أو إعادة بنائها. تقع الفتاة في حب الطبيب الذي يجدها عذراء ويعدها بالزواج. لكنه يتراجع في آخر لحظة بدون إعطاء أي مبرر. بعد سنوات، يلتقي بها صدفة، كانت منزعجة من زوجها ومشاكل أولاده. "لكن لا شيء يغير الحب". بهذه الجملة تنتهي القصة.
     قصة أخرى عن الفتاة التي تبيع التذاكر في السينما، تعيش تحث ضغط أهلها المتزمتين والذين يمنعونها من كل شيء حتى من سماع أو رؤية مقطع فيلم. فتختفي يوما بدون سابق إنذار. ونكتشف زواجها من إبن راع كنيسة المدينة. وقد أقام راعي الكنيسة، أب زوجها، علاقة معها عندما اضطرت للسكن معهم.  تقاعد القس وتركها هي أيضا وزوجته وذهب للعيش مع راعية كنيسة. للعلم أن اول راعية كنيسة بدأت عملها بهذه الصفة كانت في الكنيسة البريطانية.
    في سبعينات القرن الماضي، فضلت الأم استبدال البيت الدافئ وزوجها الممل برجل آخر؛ هيبي يسكن كرافان متحرك. هكذا تروي لنا الساردة - الطفلة قصة عائلتها التراجيدية، وبأن أختها الأكبر التي استوعبت تدهور وضع العائلة رمت نفسها في مستنقع ماء. بعد مرور سنوات، التقت الساردة - الطفلة بالهيبي الذي قال لها: "المهم أن يكون الانسان سعيدا مهما حصل." ونلاحظ كيف أن الطلاق أو غرق طفل يأخذ، مع مرور الزمن، معنى آخرا.
    بعد هذا العرض لبعض القصص، نصل إلى القصص الأربعة الأخيرة في هذه المجموعة والتي تتناول فيها مونرو طفولتها وحياة والديها واختلاف وجهات نظرها مع أمها. . وتذكر في تمهيد قصير أن هذه القصص هي أول وآخر قصص شخصية تتناول فيها حياتها الشخصية. ففي قصة "العين"،  تسترجع الراوية - الطفلة وعمرها خمس سنوات، خلافاتها مع أمها. أما في قصة "الليل"، فتستنتج الطفلة- الراوية سدادة رأي ابيها وتفهمه لها. وتلاحظ الطفلة - الراوية، في قصة "الأصوات"، حزن الفتاة التي فقدت حبيبها في الحرب. أما في القصة الأخيرة بعنوان "الحياة العزيزة" Dear live، فتسترجع الراوية-الكاتبة طفولتها مع والدها وتنقله من مزارع ثم مربي غزلان وثعالب والمتاجرة في فروها إلى عامل في معمل البيرة بعد الانتكاس الاقتصادي آنذاك. أما والدتها فقد اضطرت لترك التدريس لإصابتها بمرض (الباركيسون). مما جعل الراوية - الكاتبة تتحمل أعباء البيت ومساعدة اخوتها وهي في عمر صغير. 
   من خلال قصص مونرو، نرى كيف تتخذ المرأة زمام أمورها بيدها رغم التابوهات والضغوط الممارسة عليها، وتختار لنفسها مخرجا ربما يسعدها أو يقلب حياتها رأسا على عقب. فتجسيد هذه الشخصيات الخيالية يساهم في خلخلة التقاليد المتعارف عليها ويضعها تحت المجهر. كما أننا نعرف أن تحرر المرأة ارتبط، في العالم الغربي، بعدة عوامل؛ منها النمو الاقتصادي الناتج عن الثورة الصناعية وتغيير العادات الاجتماعية وقانون الملكية والتحاق الفتيات بالتعليم والاحتجاجات النَسوية و النسْوية التقدمية وتراجع الضوابط الدينية. وقد كانت بداية هذا المنعطف المهم في نهاية القرن التاسع عشر وترسخ بعد الحربين العالميتين. وقد ساهم جيلين بأكملهما في خلق، على الأقل في الأدب، صورة المرأة المستقلة والمتحررة، امرأة حرة. فأين نحن، نساء العالم العربي، من هذا كله.
     ونختتم هذا العرض بالقول أن معظم أحداث قصص مونرو تقع في المدن الصغيرة والأوساط الضيقة في غرب أونتاريو في كندا؛ حيث تكون الرقابة الاجتماعية والتزمت في اشد حالاتهما لقلة أو انعدام مجالات الترفيه والتثقيف. وقد تذكر مونرو أحيانا زمن حدوث القصة وأحيانا نكتشف ذلك من خلال أحداثها. أما شخصياتها فهي مختلفة ومتنوعة؛ شخصيات نسائية تحاول التملص من إرضاء توقعات الزوج، والأولاد والأمهات والجيران. لكن بالرغم أن مونرو تهتم  بوضع المرأة من خلال شخصياتها النسائية من بداية القرن العشرين لكننا لا نجدها تصدر أحكاما مسبقة عليها. بل بالعكس تحرص على معالجة الثيمة في زمانها ومكانها من خلال إلقاء الضوء عليها.






19
الذات والوعي الاجتماعي*
السيرة الذاتية لمحمد شكري أنموذجا
                                                                                                نجاة تميم
   تعبًر السيرة الذاتية عن الرغبة الملحة لفهم النفس بعد إعادة النظر في ما يخالجها. لكن هذا لا يمنع تعدد دوافع كتابتها من كاتب إلى آخر. وبعبارة أخرى، فإن السيرة الذاتية هي قراءة ثانية للتجربة؛ تكون حقيقية أكثر من القراءة الأولى بما أنها تشكل الوعي بعينه لها. وهذا ليس من باب الصدفة، أن غوته نفسه عنون سيرته الذاتية "شعر وحقيقة". لكن تبقى أسئلة مطروحة  عن توقيت  كتابة السيرة الذاتية وماهية الأساليب المختلفة التي تُكتب بها والظروف أو الدوافع التي تدفع الكاتب إلى كتابة سيرته الذاتية. أما الكاتب والروائي المغربي محمد شكري (1935- 2003)، فقد اختار كتابة سيرته الذاتية لعدة أسباب سنأتي عليها لاحقا.
   لمحمد شكري مجموعات قصصية "مجنون الورد" (1979)،"الخيمة"، رواية "السوق الداخلي" (1985)، مذكرات "جان جنيه في طنجة" (1973)،"تينسي وليامز في طنجة" (1983) ،"بول بوولز وعزلة طنجة" (1997)، مسرحية "السعادة" (1994)، غواية الشحرور الأبيض (1998) وطبعا ثلاثية سيرته الذاتية: "الخبز الحافي" (1982)، "زمن الأخطاء" (1992) و"وجوه" (2000).
  السيرة الذاتية جنس من أجناس الأدب، ظهرت تسميته، قبل قرنين، في بريطانيا أولا. وانتشر في أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. أما تعريفه فهو مبهم ومربك شيئا ما وذلك لقلة الكتابات النقدية في هذا المجال. ولتحديد هذا المفهوم، سنعتمد، بالأخص، على كتابات فيليب لوجون، من بداية سبعينيات القرن الماضي، وأيضا لكتاب آخرين في هذا الموضوع.
   حسب لوجون، فإن السيرة الذاتية هي حكي إستعادي نثري يرويه شخص عن وجوده الذاتي؛ وذلك عندما يركز على حياته الفردية وبالأخص على تاريخه الشخصي.  أما تيبودي فيحدد أن هدف السيرة الذاتية، ليس إعلامنا بما نعرفه، عن طريق نثر بعض الذكريات هنا وهناك، وإنما استنباط وإيجاد ومعرفة الحقيقة عن الذات. ويتابع إن السيرة الذاتية التي تبدو لأول وهلة الجنس الأصدق من كل الأجناس فهي ربما الأكثر خطأ أو مغالطة. فالحكي عن الذات وتمزيق هذه الأخيرة إربا إربا، يعني أن الكاتب يضع في  مشروعه الأدبي هذا القسط الوحيد عن نفسه الذي نعرفه؛ أي ما توصلت إليه ذاكرته وليس وعيه الفردي الصريح، وإنما الوعي الذي يحكمه المجتمع بتقاليده وأعرافه بالإضافة إلى التفاهة والكذب.
   فإذا قارنا ظهور السيرة الذاتية في بلداننا العربية فنلاحظ أن هذا النوع من الكتابات برز أكثر بعد استقلال هذه الدول. ناهيك عن أن السيرة الذاتية في فرنسا، وقد يبدو ذلك غريبا، لم تدرج في المقررات المدرسية، إلى جانب الرواية والمسرح والشعر، إلا في سبعينيات القرن الماضي؛ حالها حال الرواية البوليسية، الخيال العلمي، الأدب العجائبي والرسوم المتحركة.
  إن ما يتراءى للنقاد أن كل سيرة ذاتية تتكون من جزء خيالي، هكذا إبداعي. نلاحظ غالبا أن الأنا ليست بُنية مسلمة وإنما هي مبنية لأنها تُخلق من خلال الفعل اللغوي لعملية حكي التجربة. فبالنسبة لروبرت ألباز، فإن الأنا خيالية بالضرورة، لأن كل خطاب لا يقترح إلا تأويلا فريدا للواقع. وأن نظرة كاتب السيرة الذاتية لحياته لا يمكنها أن تكون لا حيادية ولا لامبالية.  أما بول إكلين فيقترح بأن الكاتب يتوصل، عن طريق حكاية ماضيه، إلى تقبل هذا الأخير بشكل أفضل أو على الأقل فهمه. وبهذا فإن الكاتب لا يعيد الماضي لكنه يكمّله.  وذلك من خلال تنظيم وتأويل وقائع حياته بحيث يشارك بفعله هذا في صيرورة الإبداع.
   إذا عدنا إلى بداية ظهور السيرة الذاتية، فقد يكون لكتاب "الاعترافات" (430-350م) للقديس أوغست، الذي اتسم باعترافات سير ذاتية تيولوجية، تأثير كبير. لكن  نشر المجلدات الستة الأولى لجان جاك روسو، عام 1782، والتى تحمل نفس العنوان تعد الولادة الحقيقية للسيرة الذاتية في فرنسا، لكونها تتوفر على الشروط الضرورية والكافية لهذا الجنس.
    تصادفت نشأة السيرة الذاتية بنهاية القرن الثامن عشر مع اكتشاف قيمة الفرد: يُوضؔح و يُفسؔر الفرد من خلال تاريخ شخصه وبالأخص تكوينه في الطفولة والمراهقة. وتعد كتابة السيرة الذاتية محاولة للإلمام بشخص الكاتب في مجمله، في حركة تلخيص تركيبات الأنا.  أما الوسائل الأمينة للتعرف إلى السيرة الذاتية هي التأكد من التحقق من أن التطرق إلى الطفولة يشغل حيزا كبيرا أو بمعنى أوسع إذا كان السرد يؤكد على مكونات الشخصية.   ولكن يجب أن نفصل بين هذه الميزة التي تشمل سيرورة  الشخصية من الطفولة إلى المراهقة ونفس الميزة التي نجدها في رواية بيلدنج Bildungsroman. 
متى تكتب السيرة الذاتية؟
    عادة يكون كاتب السيرة ذاتية كاتبا معروفا. يعد منجزه هذا استرجاع الماضي بتجاربه بعد تجاوزه الخمسين من العمر. وتكون أحيانا هذه السير، كما يقول لامارتين، في فترة معلقة بين زمنين، لا نعرف إذا مازلنا مستمرين في الصعود أم سنبدأ في النزول.
    أما الشاعر والروائي الإنجليزي جورج مور، فقد نشر أول مجلد لسيرته الذاتية "اعترافات شاب"، عام 1888، وكان عمره لا يتجاوز الستة والثلاثين وكذلك أصدر ميشيل ليغيس أول عمل سيري عام 1939، وهو في عمر مور، بعنوان "عمر الإنسان". ويبدو أنه كان منهمكا فى كتابته وهو في التاسعة والعشرين من عمره. أما محمد شكري فقد كتب سيرته الذاتية وعمره آنذاك سبعة وثلاثون. وقد جلبت كتابة هذه السير، في حينها، شهرة مبكرة لكتابها.
الميثاق السيرذاتي
   بالرغم من أن الجزء الأول من السيرة الذاتية الموسوم "الخبز الحافي" يصنف كرواية من أول عتبة نصية على الغلاف، فإن محمد شكري يعلن في المقدمة أن كتابه "الخبز إلحافي" سيرة ذاتية. سبق أن كتبه قبل عشر سنوات أي عام 1972 وترجم من قبل بول بولس إلى اللغة الانجليزية أما النسخة العربية فلم ترى النور إلا عام 1982 وذلك بعد عامين من صدور النسخة الفرنسية بقلم الكاتب الفرنسي الطاهر بن جلون، المغربي الأصل. وقد يؤكد ذلك في هامش عن ذكرياته. ص 168(خح) وها هو يوفي بأول شرط من شروط الميثاق السير الذاتي؛ وهو تأكيد ذلك في النص وفي مقدمة الكتاب. ونلاحظ أن الجزء الثاني والثالث على التوالي"زمن الأخطاء" و"وجوه" يصنفان كذلك كرواية. أما الشرط الثاني للميثاق السيرذاتي، فهو أن السارد والشخصية يحملان اسم الكاتب نفسه؛ ونجد ذلك في صفحة 21(خح)" لماذا محمدك حزين هكذا؟"،"أنا شكري." ص 223 (خح)، "هذا أخوك محمد." ص 71(زأ) ،"وهو من بني الشكريين." ص  155 (خح)،  "هل أنت ابن حدو علال الشكري." ص85 (زأ)، "شكري، أنا أبحث عنك." ص 54 (زأ) ، "شكري الآخر." ص 103 (وج) . وهكذا تكتمل، حسب فيليب لوجون، الشروط الثلاثة للسيرة الذاتية والتي تنص على أن يكون المتن حكيا استعاديا نثريا خاليا من الوصف، وأن يكون هناك توافق بين هوية الكاتب والسارد، وتوافق بين هوية  السارد والشخصية الرئيسة.
الذات والوعي المبكر مع "الخبز الحافي"
   اضطرت عائلة الطفل محمد، في فترة الاستعمار الاسباني لشمال المغرب، أن تهاجر من الريف إلى مدينة طنجة هربا من المجاعة والحرب والقحط. هكذا تبدأ نكبة الطفل محمد. في أحد الليالي، يعود الأب العاطل، الهارب من الجندية الإسبانية، إلى البيت فارغ اليدين وليس لديه ما يطعم به ولديه وزوجته." يسُب العالم ويجدف على الله أحيانا ويستغفره." ص 8 (خح) هذا الأب، الوحش المنكسر، لا يتحمل رؤية ابنه الأصغر الذي يتلوى من الجوع ويلوي عنقه بعنف ويقضي الطفل نحبه. ويشتم الأم ويضربها. "لكنه ينتحب وينشق السعوط." ص 9 (خح)
    تحاول الأم عبثا ان تجد عملا. يبدأ الطفل محمد يعي الفرق الاجتماعي ويسأل أمه عن عدم سخاء الله معهم ويلاحظ فرقا حتى بين مقابر الأغنياء والفقراء. ازداد استياؤه من الوضع الذي هم عليه. "سأهجر هذا البيت القذر. لن أعود إليه أبدا." وجد له أبوه عملا في المقهى وأمه تبيع الخضر. هنا تبدأ مرحلة اخرى من الوعي. "إنه (الأب) يستغلنا أنا وأمي، صاحب المقهى يستغلني أيضا سأسرق كل من يستغلني حتى ولو كان أبي وأمي." ص 28 (خح) يفكر بعمق :"أدركت أني لست سوى أنا. وحدي أراني في مرآة نفسي. العالم يبدو لي مرآة كبيرة مكسرة وصدئة أرى فيها وجهي مشوﱠهاً." ص 29 (خح). المجاعة تعم كل البلاد حتى وهران. ويلاحظ تفاوتا طبقيا؛ "وجوه الناس عبوس، الفقر في ثيابهم...الأشياء الثمينة يملكها النصارى.ص 51  (خح) كان عمره 15 عاما عندما عمل بوهران عند عائلة اسبانية. وتعرف آنذاك على مناهضي فرانكو والوضع السياسي في اسبانيا. وعاد بعدئد إلى تطوان، ليعيش متسكعا في الشوارع، مفضلا "سجن الوطن ولا حرية المنفى." ص 70 (خح) وهل سيصمد؟ أما اباه فلا زال "يسب الناس دائما والله أحيانا."ص 71(خح)
   جنون الجوع والقيظ يفقدانه وضوح رؤية الأشياء. تعبَ التسكع والخوف من دورية القبض على المتشردين في الميناء،  يحاول الاستنجاد  وبمن؟ "رفعت وجهي إلى السماء إنها أعرى من الأرض. أعرى." ص 104 (خح) ويحتقن غضبا. "اللعنة على الخبز."ص 105 (خح) مع هذا فكل ما يعرفه هو أن الحياة يجب أن يحياها؛ " يوم جديد مع قليل من اليأس وكثير من الأحلام." ص 112(خح) ويخاطب سيدة أجنبية. "إنه العالم يا سيدة العالم. إن الذين يملكون هم أيضا لا يستحيون. إنهم يشتروننا بأبخس الأثمان. أما أنت فلا تحتاجين أن تبيعين نفسك." ص 113(خح) "وهل تعمد الله أن يخلق هذا العالم على هذا الشكل من الفوضى والتنوع." ص 114(خح)
    بدأت مرحلة جديدة في حياة محمد يوم 30 آذار- مارس 1952؛ نهاية اتفاقية الحماية. لأول مرة، يسمع محمد عن هذا اليوم المشؤوم، الذي وقعت فيه اتفاقية الحماية الفرنسية مع المغرب في عهد مولاي عبد الحفيظ عام 1912. إنه يستمع لأصدقائه؛ تشاطو، المرواني  والكبداني وغيرهم من الرفاق الذين يتحدثون في المقهى عن المظاهرات وعن الجلاء. وفي ذلك اليوم يطلق رجال الأمن النار على المتظاهرين عشوائيا. آنذاك كان محمد يعمل كمهرب بضائع وهو أفضل عمل قام به. "إنها مغامرة تجعلني أشعر برجولتي وأنا في السابعة عشرة من عمري." ص 158 (خح) مرحلة، علمته القدرة على التحمل وكتمان السر. لكنه يضطر لترك كوخ المهربين وسلافة و صديقتها بشرى لكي يتفقد ما يجري في المدينة بعد الحادث المشؤوم. ويجد أن "العالم حزين وعفن." ص 166 (خح)
    إن رفضَ أصدقائه مشاركته في المناقشات السياسية في المقهى ونعته بالأمي حفزاه أكثر للإصرار والعزم على تعلم القراءة والكتابة. كان عبد المالك، أخ حميد، يقرأ لزوار المقهى أخبار الجريدة بصوت عال و"لم يكن بعض الرواد يفرقون دائما بين قوله وقول الله."ص 220 (خح) ويتحدث رواد آخرون عن الملك فاروق ومحمد نجيب وسياسة عبد الناصر وثورة 23 يوليو 1952. ومن حسن حظ شكري انه تعرف على حسن، أخ عبد المالك  وحميد، وكان مزهوا بالكتاب الذي اشتراه تواً من مكتبة واد أحرضان. "أخوك حميد كان قد علمني في مخفر الشرطة الجنائية بعض الحروف وقال لي أنني عندي استعداد للتعلم."ص 221 (خح) وافق حسن على أن يرسله إلى مدرسة في العرائش لكي يتعلم القراءة والكتابة. وكان سؤاله: "كيف يمكن لي ذلك؟ إن عمري عشرون سنة، ولا أعرف حتى كيف أوقع إسمي." ص 230(خح) وبهذه المرحلة الحاسمة في حياة الكاتب - السارد - الشخصية الرئيسة، يبدأ الجزء الثاني من سيرته الذاتية  بعنوان "زمن الأخطاء."
الوعي الاجتماعي ووضع المرأة

   يتابع محمد شكري سيرته الذاتية في "زمن الأخطاء" الذي يتكون من اثنين وثلاثين فصلا معنونا عكس "الخبز الحافي " الذي يتوزع إلى ثلاثة عشر فصلا مرقما. وتكون التيمة الأساسية في متن "زمن الأخطاء، إلى جانب تداول تابوه الجنس، وضع المرأة قبل استقلال المغرب وبعده ووضع المنسيين سواء كانوا مثقفين محليين أو مثقفين غرباء في مدينة طنجة الدولية.  وكرس  شكري ستة وعشرين صفحة ليكون الفصل التاسع أطول فصل بعنوان "المرأة الطيبة" فاطي. وهذا إن يدل على شيء فإنما يدل على مدى استيعابه لوضع هذه المرأة المكافحة من أجل البقاء متفائلة بمستقبل أفضل.
     اكتشف محمد وهو في سن مبكرة وضع المرأة الاجتماعي والنفسي والإنساني في مجتمع لا يرحم من لا يملك وسائل عيشه ويقسو عليه ويهمشه. فالمرأة في حياة السارد - الشخصية،  تكمل نصفه الثاني العاطفي والروحي. وبحكم علاقته بأمه التي " يمتزج حبه لها بكراهيته لأبيه"، فإن مشهد امرأة، تبحث عن قبر ابنها الذي ألقى بنفسه على صخور ميناء طنجة، يذكره بأن أمه "هي أيضا امرأة بائسة. "ص 12(زأ)  وربما لعقدة أوديب دور هام في تحديد علاقات محمد بنساء عديدات في حياته، انطلاقا من الأم والأخت إلى نساء عاديات وأخريات غريبات أو متعلمات  ضعن في دوامة الزمن، يبحثن عن ذواتهن في مجتمع ذكوري قمعي.
   لقد كان السارد-الشخصية يراقب وضع المرأة عن كثب وكانت ملاحظاته دقيقة عن التصدعات  التي يحدثها الفقر بالإنسان، بدءا  بزميلاته في المدرسة. ويقرؔ أن "الفقر مسخ ملامحنا. لم يترك لنا سوى ما هو إنساني فينا. ربما يصرن جميلات هؤلاء الصبايا، إذا كافحن فقرهن، في المستقبل." إن السارد-الشخصية يقيم علاقات حميمية مع كل النساء اللواتي مررن في حياته. هذه المرة، يبدو أنه أحب كنزة المتغطرسة ولكي ينساها صادق صديقتها ربيعة التي حكت له مأساتها مع زوجة أبيها واغتصاب أبيها لها وهو سكران ووضعها أمام خيارين إما مغادرة مكناس أو لقاء حتفها على يده. أما صديقه حميد الزيلاشي فيحذر شكري من السقوط في شباك حب إحداهن،" لأن كل واحدة منهن (العاهرات) تعتقد أن الرجل هو الذي فشل حياتها.". لكن شكري يرثى لهن ويأخذه التفكير ويتمعن "في العلاقات البشرية القذرة." ص 45 (زأ)
   فاطي، المرأة التي أثرت كثيرا في نفسية شكري، المرأة الطيبة التي تعيش على هواها مع الإسبانيين وتتحاشى العشرة مع المغاربة، المرأة الكريمة التي تفكر أيضا بالآخر ومستعدة للمساعدة بالرغم من الحياة القاسية المفروضة عليها. لم ينس السارد - الشخصية رفاق الدرب ايام الصعلكة، فعند زيارته للتفرسيتي بتطوان سأله عن أحوال عزيزة وإبنها عبد السلام. ونذكر أن أم عبد السلام قد استقبلت شكري والسبتاوي وابنها وهي مخمورة في بيتها المفتوح للدعارة في الجزء الأول من السيرة الذاتية. ص 70 (خح) لكن "أم عبد السلام ماتت مصدورة، قتلها الخمر والكيف. أما ابنها عبد السلام فهو محكوم عليه بعامين لإدانته بعدة سرقات." ص 73 (زأ) إن عقلية شكري تختلف عن عقلية أصدقائه ويتجلى ذلك في نظرته إلى المرأة. إنه لا يصدر حكما مسبقا عليها بالرغم من درايته بنظرة المجتمع الذكوري لها. فخلال إقامة شكري عند التفرسيتي وصديقته الزهرة، تعرف على مينة التي تعمل خادمة عند عائلة فرنسية والتي رفضت أخذ النقود منه بحجة أنه يحتاج لهذه النقود أكثر منها. فأستنتج إنسانيتها و"أنها ليست محترفة". ص 73(زأ) أما أخبار فطيمة فقد عرفها من مربية سلوى. فاطي سافرت إلى اسبانيا للعمل، أما ابنتها سلوى فستقضي عطلتها الصيفية مع جدها في الريف.
   هناك نساء أخريات؛ كماريا روساريو صاحبة مطعم صغير التي  تناقش وبحجج الإسباني فرمين فيتو الموالي لفرانكو وتحتدم معه في النقاش حول الحرب الأهلية وموقف الكنيسة والرهبان. وتستشهد دائما بما تقرؤه. إنها محظوظة لأن قلة من بنات جيلها الفقيرات أتيح لهن أن يتعلمن. لقد أعدم الفاشيون زوجها الشيوعي في تطوان بأمر من فرانكو. وحتى يتسنى لهذا الأخير أن يشن حربه الصليبية ضد الشيوعيين أشرك الكنيسة في الهبة السماوية التي اختلقها لنفسه. هناك أيضا كانديدا حفيدة روساريو التي هربت من دار راهبات الإحسان. أما جدتها فتعزو فشلها في الدراسة إلى حبها لشاب هاجر مع عائلته إلى قرطبة. أما والدها فهو أيضا هرب من الفاشيين إلى كندا قبل ولادتها بشهرين وسمعوا بأنه كتب رواية عن المناضلين الجمهوريين الإسبانيين في شمال المغرب وبعدها انقطعت أخباره عنهم منذ أكثر من عشر سنوات.
     أما المرأة المثالية التي يدونها محمد في خواطره هي "التي ينبغي لي أن أميزها في الظلام...، إذا انطفأت الشموع يضئ كلانا الآخر. إذا حجبونا بستار سميك أراها وتراني. المرأة النور الخارق، المرأة الشفافة، لم أجدها بعد." ص 124 (زأ)
  نخلص إلى أن محمد شكري اختار استرجاع ماضيه ليفجر سخطه على الظروف المزرية التي كان يتقاسم عيشها  آنذاك مع شرائح كبيرة من المجتمع وخصوصا المرأة. إحساسه بالعجز أودى به إلى التخبط  والتمرد على التقاليد من خلال كسر حواجز التابوهات. وقد اثمرت هذه التجارب المؤلمة سيرة ذاتية ثقافية ثالثة بعنوان "وجوه"، لتؤكد صيرورته الإبداعية وتبرز مدى وعيه بمجتمعه وما يؤمه.
نشر هذا البحث في مجلة "الثقافة الجديدية" العدد359 تموز 2013
الهوامش




  - نرمز إلى " الخبز الحافي"( خح) ،" زمن الأخطاء" (زأ)، "وجوه" (وج)
   -Philippe Lejeune, L’Autobiographie en France, Colin, Paris, 1971, p.14
   -Lejeune, Pour l´autobiographie, Seuil, Paris, 1998, p.18
  - Jean-Philippe Miraux, L’autobiographie, écriture de soi et sincérité, 2009, p.37
   -Ibid., p.37
  - Lejeune, L’Autobiographie en France, op.cit., p.19
 - Bildungsroman    : جنس أدبي  تمتد جذوره إلى القرن الثامن عشر ( رواية غوته:  مايسترس لهياهري 1796). يهتم هذا الجنس بصيرورة تكوين شخصية المراهق الذكر فقط.  مدلوله (سيمانتيك) هو صراع البطل بين طموحه و ضغط الواقع عليه، وشكله (سانتكسيس)  يتميز بنمو مكونات الشخصية باتجاه النضج والتوازن بين الطموحات  الذاتية وما ينتظره المجتمع من الشخصية الرئيسة.

20
الأسلوب الروائي وهيكلة البنية النصية
رواية الكاتب الهولندي أرتور جبان




نجاة تميم
  صدرت مؤخرا رواية بعنوان "لكن في الخارج هناك إحتفال" للكاتب الهولندي أرتور جبان عن دار أربيدرسبرس في 311 صفحة من القطع المتوسط.
    كتب (جبان) رواية غاية في الجمال الإبداعي من حيث الأسلوب وهيكلة البنية النصية لكنها في نفس الوقت رواية فظيعة من ناحية المضمون. فتسلسل الأحداث تجعل أنفاسك تنقطع وتجبرك على وضع الكتاب جانبا، لكي تستجمع قوتك ثم تستمر في القراءة. كل هذا، لا يمنع القول بأنها رواية ذات اسلوب راق ومشوق رغم التيمة المعالجة فيها.
   "ما تعلمناه من الصغر هو أنك تشعر بالأمان، إما بالتخفي في العتمة بحيث لا يستطيع أن يراك أحد أو أن تمتثل للأضواء بحيث لن تغيب عن الأنظار." هذه الجملة الاستهلالية هي مفتاح التغيير الذي حدث في حياة (فينتيو)، الطفلة - الساردة، التي اختارت في وقت مبكر من عمرها الاسم الفني (زونٙ).
   الشخصية الرئيسة (زون) مغنية مشهورة. تتميز بملابسها المزكرشة والباهية، ترسم من خلال صعودها على المسرح الابتسامة على وجوه جمهورها والمعجبين بها. تعيش في فيلا مع صديقها (ساندر). لكن حياتها ستعرف منعطفا آخرا عندما تقدم طلبا للمحكمة لحضانة ابنة أختها، التي نجت من حريق شب في بيتهم راح ضحيته أخت (زون) (لورا) مع زوجها وولديها. تضطر (زون) للتحدث أمام المحكمة ووسائل الإعلام، عن أشياء فظيعة حدثت لها في طفولتها القاسية. كل ذلك، لإنقاذ ابنة أختها من بين أيادي المعتدي عليها سابقا جنسيا. 
   الرواية عبارة عن فيلم استرجاعي تحكيه لنا الساردة - الطفلة (فينتيو) الوجه الآخر أو الشخصية المختبئة في أعماق المغنية (زون). الطفلة (فينتيو) تراقب حركات (زون) عن قرب وهي التي تقول بأن (زون) كانت تخبؤها تحت تنورتها وتحميها إلى أن اضطرت (زون) لمواجهة المعتدي عليها جنسيا. فقفزت الطفلة (فينتيو) إلى الوجود لتستعيد ما حدث لها مع زوج أمها خلال طفولتها. 
   اختارت الشخصية الرئيسة (زون) الأضواء بدل التقوقع على نفسها وأصبحت مغنية مشهورة، تصنع الابتسامة على أوجه محبيها وتدخل البهجة إلى قلوبهم. وقد جعل منها الروائي (أرتور جبان) تمثال المرأة القوية المتحدية للصعاب والآلام والتصغير. سخرت كل آلامها ومعاناتها لتُحولها إلى طاقة اجابية وتحقق طموحها ولم تجعل قساوة طفولتها تقضي على طموحها بل كانت مستعدة لإنقاذ ابنة اختها (لوت) من الرجل (سيمن)؛ أبو (لوت) وزوج أم (زون)، الذي اعتدى جنسيا عليها وعلى أختها(لورا) أم (لوت)، وكانتا آنذاك قاصرتين.
 وقد يذكرنا هذا بقصة الممثلة والمغنية الهولندية (كارين بلوم) التي تحدثت، قبل سنوات قليلة، عن اعتداء زوج أمها عليها وعلى اختها وهي ايضا طلبت حضانة ابنة اختها المتوفاة.
   ما جلب انتباهي في هذه الرواية هو التوافق والتكامل بين الجملة الاستهلالية والعتبات النصية. حيث أن الجملة الاستهلالية كما ذكرنا سابقا تكشف لنا الفكرة العامة والدرس المستخلص من صيرورة هذا النص السردي. كما أنها مكملة لعنوان الرواية "لكن في الخارج هناك احتفال". تكون هذه الجملة الشرارة الأولى لبداية أحداث القصة. فتقول إحدى صديقات أم (فينتيو- زون) التي طردت زوجها، الخياط،، من البيت بعد أن خانها مع جارتها، زبونته:" أنت تجلسين في الداخل في آمان، لكن في الخارج هناك احتفال". ص29 فخروج الأم في ذلك اليوم مع بناتها والتعرف على المصور(سيمن) كان نهاية الإحساس بالأمان لهذه العائلة وبداية العيش في رعب وزمن زنا المحارم.
   ف(زون) الابنة الثانية في تسلسل ثلاث أخوات تضطر لكشف ماضيها أمام الإعلام وتجد نفسها مضطرة لمجابهة ماضيها واستيعاده أمام المحكمة. (زون) هوالاسم الذي كان أبوها ( سلومون  فون سون) يناديها به. تغيرت حياتها وأصبحت جحيما عندما تزوجت أمها من (سيمن) ولم تتوقف اعتداءاته الجنسية عليها وعلى أختها (لورا). هذه الأخيرة، كانت ترضخ لتهديداته معتقدة أنها تحمي بذلك أختها الأصغر منها (فينتيو)، التي بدورها تضحي بنفسها لتبعد الخطر عن أختها (إيسا).
   بعد المرة التاسعة، بدأت الطفلة (فينتيو) ترسم في مدونتها اليومية أزهار الثلج لتوثق ما حدث لها. و أصبحت هذه الأزهار هي لغتها للتعبير عن الاعتداءات الجنسية المتكررة  عليها من قبل زوج أمها. لكن هذه الرسوم، فيما بعد، لم تكن كافية لإثبات ادانة (سيمن) بالمحكمة. فكان هذا الأخير يرعبها بنظراته ويمارس ضغطا نفسيا عليها بوجوده ويحاول بذلك : "أن ينزع قشوري، قشرة – قشرة، لكي أبدو عارية أمامه، لا لأن الآخرين سيرونني وإنما هو فقط سيراني." ص244" لكن (زون) لن تخف بعد الآن من أي شيء. "لأول مرة من سنين، ومنذ المشاركة في الاحتفال الفني بالعاصمة أمستردام، تحس (زون) أنها تعيش مرة ثانية مع الطفلة التي خبأتها في دواخلها عن (سيمن). كأنها تنتظر هذا اليوم." ص 235 وهو يوم المواجهة ومحاكمة المعتدي عليها وعلى أختها (لورا) جنسيا. 
   كان زوج الأم (سيمن) يلتقط صورا لكل من حوله في وضعيات غريبة ثم يبتزهم بها. أما أم (فينتيو – زون) فهي شخصية ضعيفة. تحس بأنها غير مرغوب فيها خصوصا بعد خيانة زوجها لها. لم تكن تريد ان تعرف ما يجري حولها. كان (سيمن) يحكم قبضته عليها ويهددها. كان يأخذ الوعود من الكل ويجعلهم يوقعون على اوراق صغيرة  ليهددهم بها. بعد حمل ( لورا) من (سيمن) ومغادرتها البيت وهي قاصر خوفا من الفضيحة وخصوصا من اسئلة مؤسسات رعاية الطفل، قررت ( فينتيو) أن تجعل أمها، التي لم تصدقها من قبل، شاهدة دون علمها على اعتداءات (سيمن) عليها. فكان أن طردت الأم الزوج من البيت. لكن بعد أن فات الآوان!!
   كانت الطفلة (فينتيو) تتمنى أن تستجوبها المُدرسة وتلح عليها لكي تتخلص من الاثقال التي تكسر ظهرها وهي الطفلة التي تحتاج إلى حضن أمها وحمايتها لها." ما يمارس عليها كانت تجهل حتى تسميته"... " فالبنات في عمرها يكتشفن ملامحهن في المرآة. لكن (فينتيو) لم تستطع أن تنظر في المرأة، أن تواجه هذه الطفلة التي أمامها في المرآة، لأنها تقرأ اشياء كثيرة في عيونها، وتظن ان الكل يجب أن يقرأ ذلك في عيونها. وفجأة وجَهت هذه الطفلة نظرها إلى دواخلها... لكن عندما تصعد ( فينتيو) على المسرح في شخصية (زون)، فإنها تستجمع القوة من كل الأحزان وتستخدمها  حافزا  للنجاح. ص 265
.."أصبحت من الآن شخصية واحدة، او بالأحرى نصفها"...لكن مع ذلك "عندما تتقدم (زون) إلى الأمام فإن (فينتيو) تتراجع إلى الوراء."  ص 287
   العنوان في هذه الرواية، هو مفتاح النص، ويكون حاسما ومهما جدا في البعد الدلالي والرمزي لأحداثها. كما يكون بالنسبة للناشر والقارئ وكل من تقع عينيه على الكتاب العتبة النصية الأولى التي يستلم منها رسالة معينة عن مضمون النص السردي. وقد نكتشف أن للعنوان وظائف أخرى أكثر عمقا ودقة في مضمون الرواية. أما الوظيفة العامة للعنوان فهي تسمية العمل الأدبي والتعرف على مضمونه وبذلك تثمينه. ويلخص جيرار جنيت، وهو من رواد البحث في علم العنوان  (Titrologie)بالإضافة إلى مؤسسه الفعلي (ليو هوك)، في كتابه (عتبات – Seuils) أهم وظائف العنوان في وظيفة  التحديد والتوصيف والإيحاء والإثارة أي إغراء الجمهور المقصود بقراءته.
   لنعد إلى عنوان رواية (جبان) " لكن في الخارج هناك احتفال" الذي يبدأ بكلمة "لكن" وبذلك يوحي لنا أن شيئا قد حدث أو سيحدث فيما بعد. أما عبارة "في الخارج" فيقتلنا الفضول لمعرفة ما يحدث في الداخل، وقد تكون الحياة مليئة بالأحزان أو مملة لنلجأ إلى كلمة "احتفال". ونستخلص هذه المضادات في الجملة الاستهلالية والعنوان؛ هناك الظلام في مكان مغلق تقابله الأضواء في مكان عام. ونلاحظ هذه الثنائيات التي تطغى على النص السردي، تتمحور حول الظلام والأضواء، الداخل والخارج، الحزن  والاحتفال.
   يعتبر هذا العنوان، الذي له دلالات مهمة تربطه بما جاء في الجملة الاستهلالية ومضمون النص، العتبة النصية الأولى للرواية. وبالإضافة إلى ذلك، هناك عتبات أخرى لا تقل أهمية وهي العناوين الداخلية. فبعد الاستشهاد بعبارة تمهيدية لفيودور دوستويفسكي، قدم (جبان) فهرسا عموديا مكونا من أجزاء الرواية وعناوينها الداخلية كأنها قصيدة شعرية انسيابية. استعمل عناوين لغوية ورقمية مصحوبة بأرقام الصفحات. ووزع الرواية إلى اربعة أجزاء بعناوين لغوية. تتكون هذه الأخيرة من كلمة واحدة أو كلمتين على شكل علم ومضاف إليه.
   يحتوي كلَ من الجزء الأول والجزء الرابع الموسومين بالتتالي "آباء" و"أمهات" على خمسة فصول تحمل اسمي الشخصية الرئيسة (زون) والساردة - الطفلة (فينتيو). ويبدو الترتيب كالتالي: زون – فينتيو – زون – فينتيو – زون. ففي الفصول المعنونة" زون"، تقوم الساردة – فينتيو بنقل ما يحدث (لِزون)، بالضمير الغائب "هي" اثناء السرد أي تعلمنا بما تقوم به (زون) في الحاضر. أما في الفصول المعنونة " فينتيو"، فتأخذ (فينتيو) زمام السرد بنفسها وتحكي لنا قصة طفولتها بالضمير المتكلم "أنا" وتكون بذلك هي الشخصية المحورية. هكذا نتنقل بين الماضي والحاضر والحاضر والماضي وقد تتناوب الأصوات في السرد على نفس المنوال في الفصول الخمسة في كل من الجزء الأول والرابع.
   نلاحظ أن زمن الحكي وتعدد الأصوات والتنقل من صوت إلى آخر، بين ضميري الغائب والمتكلم، بالإضافة إلى المسافة التي تأخذها الساردة – فينتيو من الشخصية (زون) عند سردها قصتها، تخفف شيئا ما من حدَة الدراما في النص الحكائي.
   أما الجزء الثاني والثالث الموسومان بالتتالي " صعود فينتيو" و"صعود زون" فإنهما يحتويان على فصول مرقمة. يتكون الجزء الثاني " صعود فينتيو" من عشرة فصول. تكون فيها الساردة –الطفلة (فينتيو) هي الشخصية الرئيسة وتسرد لنا قصتها بالضمير المتكلم. أما في الجزء الثالث الموسوم "صعود زون"، فتروي لنا الساردة – فينتيو أحداث قصة (زون) بالضمير الغائب "هي".
   لقد توفق أرتور جبان في اختيار هيكلية هذا النص السردي، ابتداءً من اختيار العنوان والفهرس وجمالية تقديمه إلى بناء النص تحت عناوين داخلية لغوية ورقمية مركبة. إنه بناء هندسي رائع ينمﱡ عن إحساس عال بجمالية فنية وفكرية. أما هذه العتبات النصية، سواء عنوان الرواية أو العناوين الداخلية، فقد أضافت دلالات فنية وفكرية وجمالية على النص السردي. ونجح بذلك في تقسيمه إلى مقاطع سردية خففت من الشحنة الدرامية  في مستوى النص السردي (الدال) ومستوى المضمون السردي (المدلول).
   يذكرنا ذلك بالرواية الموسومة "بصقة في وجه الحياة" لفؤاد التكرلي الذي عالج فيها أيضا تيمة زنا المحارم؛  أحداث رمزية ومجازية، حبيسة مخيلة الشخصية الرئيسة وردَ فعل على العنف أو بالأحرى التعنيف الجنسي (الحرمان) والتعنيف الاجتماعي (التهميش) والسياسي (الاقصاء) في نهاية أربعينيات القرن الماضي. لكن تناول (جبان) لهذه التيمة هي حقا صرخة في وجه المجتمع. وربما تكون هذه الرواية إنذارا للآباء والأمهات والمدارس والمؤسسات المعنية بالأطفال للاستماع إليهم بجدية أكثر والاهتمام بالتغيرات السلوكية الغريبة التي قد تحدث له، سواء أثناء انغلاقهم على أنفسهم أو تمردهم.



21
رواية  "السجادة الحمراء" تُناقش في نادي الكِتاب في هولندا
                                                                                                                                  نجاة تميم
     مؤخرا ناقش نادي الكِتاب، الذي أسعدني الانضمام إلى عضويته، الرواية الموسومة "السجادة الحمراء"De rode loper" للكاتب الهولندي توماس روزمبوم والتي صدرت بداية شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2012 .
    ولد الكاتب روزمبوم عام 1956 في مدينة أرنم بهولندا. تمتاز أعماله بالجانب التوثيقي المدروس. وتندرج ضمن الواقعية أو بالأحرى الواقعية الاشتراكية وما بعد الحداثة، كونه يعتمد تقنية المونتاج. أما شخصياته فإنها تتميز بتلاؤمها في المتن السردي بعكسها ظروف فترة زمنية ما وكأنها تحدث في يومنا هذا. حازت أعماله على جوائز عدة، من بينها جائزة (ليبريس الأدبية) مرتين. كما ترجمت كتبه إلى اللغة الدنماركية والألمانية والمجرية والفرنسية.
    تتناول الرواية حياة زميلين نجحا في امتحان البكلوريا وبدل أن يطمحا لإكمال دراستهما فضلا ان يعيشا على المعونة الاجتماعية التي كان من السهل الحصول عليها في بداية سبعينات القرن الماضي، فترة الحكومة الاشتراكية. فعند قراءة هذه الرواية، يغمرك شعور أن الشخصيتين الرئيستين (لو بيون) و(إدي فان دو بيك) يعانيان من معوقات سبق أن دمرت شيئا في دواخلهما؛ (لو)، الذي لا نعرف شيئا عن ماضيه، يريد أن يصبح مساعدا لفرقة الروك و(إدي) يطمح أن يكون صحفيا في مجلة محلية. يحاولان التحرك لكن دون تغيير وضعهما الاجتماعي؛ حيث يعيشا فراغا وأزمة هوية.
      إن اسلوب الرواية اسلوب درامي- كوميدي. يعترف السارد أن ما يرويه هو نقد للمجتمع الهولندي الذي أصابته الأنانية." فنصف الهولنديين يعانون من التوق الشديد لجلب الانتباه والاعجاب بالنفس، لكن كيف الوصول إلى ذلك عندما لا يتوفرون على شيء مميز." ص179
     نلاحظ أن كل شخصيات الرواية فاشلة في حياتها. تعاني من الإحساس بالوحدة والتقوقع على النفس وصراع الهوية. إن (لو) يختبئ وراء شعره الطويل المسدول على وجهه و(إدي) يغير اسمه من (فان دي بيك) إلى (فان دي فيك). هذا الأخير الذي يأتي كل مرة بأفكار لتنفيذ مشاريع ينقذ بها (لو) من الضياع، يعتبر استمراره في حياته الزوجية الفاشلة مجرد روتين. أما فرقة الروك التي كان (لو) يعمل معها والتي هي أيضا تعيش على المساعدة الاجتماعية لكي تحتفظ بحريتها وتعمل في مجال الموسيقى، لم تعرف سوى أربعة عشر يوما من النجاح في فيينا واضطر أعضاؤها الأربعة للبحث عن العمل بعد انتخاب حكومة جديدة أجبرتهم على ذلك. افتتح ( لو) بعد ذلك استوديو لتسجيل الأغاني، وعمل مصورا وبعدها فتح دارا للسينما خاصة بأفلام الرعب في بناية مهجورة. وبهذه الدار نفذ بمساعدة (إدي) مشروع السجادة الحمراء الذي لاقى إقبالا كبيرا. هكذا تنقل سيارة ليموزين، مقابل عشرة أورو، الأفراد من مكان محدد إلى دار السينما، يٌقدﱠمون بأسمائهم أمام كاميرات المصورين والمتفرجين وهم في أبهى حللهم. أما (لينا) التي تعرف عليها (لو) من على السجادة الحمراء مع ابنة عمها (ريت) زوجة (إدي)، تعاني من العزوف عن الكلام. فلم يستطع (لو) التواصل معها لانغلاقها على نفسها وعدم تمكنها من التغلب على مخاوفها. وبقي (لو) ضحية وحدته المميتة. أما (ريت) التي تقوم بعمل انساني كممرضة لم تفلح في التأثير إيجابيا على مجرى حياة زوجها الذي ما زال يعاني من تأثير سوء علاقته بأبيه. وكانت العبارة التي يكررها كلما احس بالحسرة والتذمر من حياته: طلبت من والدي قيثارة وأهداني آلة أوكولا؛ (آلة تشبه القيتارة).  ويمكنك تصور نظرته للحياة!!!
      إن تنظيم (لو) و(إدي) لاستقبال الناس على السجادة الحمراء، دون قيامهم بأي عمل مهم يستحق ذلك ودخولهم قاعة السينما لمجرد مشاهدة عرض مسجل للتو، يرون فيه أنفسهم على الشاشة وهم يمشون على السجادة الحمراء، بالإضافة إلى الاهتمام المفرط بالمظاهر وكسب الشهرة والولوج إلى البرامج الترفيهية كبرنامج أيدلزIdols  وماكس فاكتر Max Factor وHolland´s got talent، هذه المظاهر وغيرها تدل على "أن النرجسية هي مرض هذا العصر". ص179 هذا ما أراد الروائي (روزمبوم) أن يشعرنا به في روايته، التي من بدايتها إلى نهايتها، عبارة عن كاريكاتير للوحدة القاتلة والفراغ العاطفي والروحي للإنسان في المجتمعات الغربية؛ هولندا نموذجا.
      من المعروف أن هولندا تعرف تقليدا ثقافيا متميزا وهو تأسيس نوادي الكِتاب في كل أنحاء البلاد. والجميل في ذلك أن هذه النوادي تأسس بمبادرات شخصية من قراء، لا يشترط أن يكونوا كتابا أو مختصين بالأدب أو الفن. وقد يصادف أن يدعى الكاتب لحضور النقاش حول كتابه. أما النادي الذي انضممت إلى عضويته فقد أسسته صديقتي (هيني) عام 1985 ويضم سبع عضوات، يمتهن تدريس اللغات منها الفرنسية والهولندية والانجليزية. وواحدة فقط تعمل في مجال الصحة. نتفق على اختيار كتاب معين ونلتقي مرة كل شهر في دار احدى العضوات بالتناوب حيث نناقش موضوع الرواية متمتعات بحسن الضيافة، ويكون ذلك اللقاء ثقافيا، واجتماعيا حميميا. نخلص في كل مرة بتأويلات مختلفة وربما تكون قراءاتنا للكتاب متقاربة، لكن تغمرنا الفرحة اكثر عندما نجد أنفسنا ننظر إلى تيمات الكتاب من زوايا متعددة ومختلفة تماما. نكون بذلك قد أغنينا النقاش وتعمقنا أكثر في الموضوع. هذه النوادي كما نادينا تهتم بالكتب الصادرة باللغة الهولندية أو المترجمة إليها. والمعروف أن هناك مؤسسات تنظم دورات بمقابل مادي لقراءة ومناقشة كتب معينة باللغة الفرنسية أو الانجليزية وربما بلغات أخرى.
     أخيرا سيتجدد موعدنا الشهر المقبل لقراءة ومناقشة آخر رواية للكاتب الهولندي (أرتور جبان) Arthur Japin  بعنوان "لكن في الخارج هناك احتفال".




22
القرين في سرديات المهجر (2)
رواية "صوت أمي" لعبد القادر بنعلي أنموذجا
نجاة تميم          
بنية المتن الروائي
  تتكون الرواية من 46 فصلا . وتتخلل الرواية عشرون مدونة مطبوعة بالخط المائل للأخ التوأم للسارد الرئيس دون عدً الاستهلال الأول للرواية، موزعة بالتساوي بين جزئي الرواية.  كل الفصول معنونة وتبدو لأول وهلة وكأنها مستقلة بذاتها منفصلة عن الأحداث لكنها في نفس الوقت مرتبطة بخيوطها المتشابكة مع بعضها.
  يمتد السرد على ثلاث مستويات تتداخل فيما بينها وتعطينا بذالك رواية غير متسلسلة كرونولوجيا:
  المستوى الأول ويشمل القصة الآنية: يتصل خلالها الأب بالسارد/المصور يوم عيد الحب 14 فبراير(2008) لكي يبلغه بمرض أمه ورغبتها في تصفح ألبوم الصور. وقد ذهب فعلا لزيارة والديه بعد أيام. وبقي معهم ثلاثة أو أربعة أسابيع، وخلال هذه الفترة فارق والده الحياة بشكل مفاجئ بعد إصابته بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم.
  المستوى الثاني للسرد هو قصة لقائه بإيفا سواريس ( حواء) قبل أربع سنوات من اتصال والده به يوم عيد الحب أي عام 2004.
  أما المستوى الثالث للسرد، وهو الأقدم في الزمن، يقص السارد المصور زيارة عائلته للمغرب قبل عشرين سنة وخلالها لقي الأخ التوأم للسارد /المصور حتفه إثر قفزه من صخرة، تسمى صخرة المسيحيين، في البحر.

هدف الرواية
  يستهل عبد القادر بنعلي روايته صوت أمي بتمهيد قصير يلمح فيه إلى أحد مواضيع الرواية: خوف الآباء من نسيان أبنائهم لهم في المهجر. ويحذر من "أن غول المهجر ربما يبلعنا كليا بجلدنا وشعْرنا ". وقد سبق أن ختم  بن جلون روايته الرحيل بأن بلعت الأريكة الشخصية الرئيسة وهو جالس في انتظار أولاده للحاق به بعد عودته إلى الوطن الأم (المغرب). وقبل هذا التمهيد، استعار بنعلي أحد حكم شارل داروين التي تقول: "لأنه إنسان – إنسان عجيب- هو استثنائي." وهذا يدل على أن الإنسان من طبعه اجتماعي ويمكنه التأقلم مع الوسط الذي يعيش فيه. فبعد هذا المستهل تبدأ الرواية بالفعل ببدايتين تماما كما نلاحظ عند مارسيل بروست الذي استعمل أكثر من بداية في روايته " البحث عن الوقت الضائع".   
  الاستهلال الأول: وهو عبارة عن بداية تنبؤية وتوقعية، من صفحتين، يخبرنا فيها بما سيحدث في الرواية مستقبلا. الأخ التوأم للسارد يبدأ الرواية بوعد لأستاذه بكتابة إنشاء عن سفرة العائلة إلى المغرب وكذلك بقرار لا رجعة فيه، قد اتخذه وهو الذي ينهي الرواية بمدوناته التي تتكون من ثلاث جمل. يؤكد بذلك اختياره وعزمه على التنفيذ: "سأقفز غدا. لا أحد يستطيع منعي. سأنام جيدا". يخاطب معلمه ويعِده بكتابة المدونات لأنه يتمنى أن يكون كاتبا ولو لكتاب واحد في حياته وهو ما سيكتبه عن سفرته إلى المغرب وأنه سيعطي ما سيكتبه لأخيه التوأم لتسليمه بعد عودته من العطلة الصيفية؛ أخوه التوأم، السارد الرئيس، الذي يتمنى أن يكون مصورا ناجحا. "قلتَ أن مسافة الطريق ثلاثة كيلومترات إلى المغرب، أعرف ذلك. روتردام- أنتفربن- باريس- بلباو- مدريد- ملاقا- مليلية- وها قد وصلنا".  هكذا يستهل الكاتب روايته على لسان السارد / كاتب المدونات.
  أما الاستهلال الثاني فهو عبارة عن عملية استرجاع طويلة تعود بالسارد/المصور، الشخصية الرئيسة، بالضمير المتكلم "أنا"، إلى ذكريات طفولته. وظهور رقم والده على تلفونه المحمول جعلته يستحضر الماضي بذكرياته. إنه والد السارد/ المصور الذي يتصل به تلفونيا بعد مرور أربعة أشهر وستة أيام وثمان ساعات وستة عشر دقيقة. فالسارد منهمك في أخد صور لعارضات بولونيات اللواتي لا يتكلمن اللغة الهولندية. إنه مشغول بأخذ أجمل اللقطات لمجلات معروفة ومرموقة.
  هذه الرنة عن تلفون والده التي لم يجب عليها إلا بعد خمس وستون صفحة ويجيبه بكلمة واحدة وعلامة استفهام "أبي؟" ويعود ليستغرق في استرجاع ذكرياته. لكي يعود لمخاطبة أبيه بعد ثلاث صفحات "أتسمعني؟ " ويجيب الأب: نعم أسمعك." لكن السارد يعرف أن أباه لا يسمعه من كثرة الضجيج في موقع التصوير. ويطلب من أبيه بعد ثلاث صفحات أخرى أن يعاود الاتصال لكن الأب يصر على إبلاغه أمرا هاما، منبًها : " لا تقفل الخط، إن أمك مريضة."
  لكن الشخصية الرئيسة لا ترفع التلفون إلا بعد مرور 65 صفحة من الرواية ويعود ويتذكر علاقته بالمترجمة "إيفا سواريس" التي كان لا يرد على تلفوناتها ولا على رسائلها المصورة لمدة تسعة أشهر وهي فترة حملها. إيفا، صديقته قبل أربع سنوات خلت، كانت حاملا منه، لكنها تزوجت من رجل آخر وأنجبت توأما.
  السارد، الشخصية الرئيسة، يمارس مهنة التصوير التي لا تعجب الأب. فهذا الأخير يعتبر عملية التصوير في حد ذاتها عملية تزوير. فهل هي تعكس الحقيقة، الواقع أو شيئا آخر؟ وقد تكون كذلك، بما أن الصورة، حسب بيتر فان زيلفهاوت، هي في حد ذاتها ظاهرة غامضة . ويوافقه في ذلك سارتر حول موتيف الصورة التي سنتناوله لاحقا. السارد/ المصور هو إنسان ناجح في عمله ويؤديه بإخلاص ودقة وإبداع. واستطاع أن يتسلق السلم الاجتماعي وينظم إلى النخبة الهولندية. لكن الأب ووجوده ما زال يعرقل عمله الذي  يجهل كل شيء عنه. يتصل بابنه في وقت حرج. كان من المفروض أن السارد المصور الذي منع عامليه من استخدام الهاتف أثناء العمل أن لا يتجاوز القواعد التي وضعها بنفسه. لكنه لا يستطيع عدم الرد على اتصال أبيه عبر الهاتف المحمول. 
  تجري الأحداث حول عائلة تتكون من أب وأم وتوأمين. التوأم، كاتب المدونات، قرر أن يبقى بالمغرب وقد تحقق حدسه لكن بطريقة بشعة حيث أنه لم ينجو من حادث غرق بالبحر بعد أن قفز من صخرة عالية بالمغرب. في طريقهم إلى المغرب، كان التوأم المدون يعلمنا بين الفينة والأخرى بأهم الأحداث التي يعيشونها خلال هذه السفرة من هولندا مرورا ببلجيكا وفرنسا وملقا، عبورا بجبل طارق على ظهر السفينة إلى مليلية. إن هذه المدونات تتخلل فصول الرواية والذكريات التي يسترجعها السارد/ المصور. وهكذا تكون صيرورة السرد : استهلال تنبؤي في البداية ثم سرد تسلسلي في الزمن الحاضر وسرد استرجاعي ؛ سرد إلى الأمام وسرد إلى الوراء في نفس الوقت. الأول يسرد أحداثا تدون في حينها والثاني يعود بالذكريات إلى عشرين سنة مضت. هكذا يبدو وكأن ترابطا مفقودا بين هذه المدونات وفصول الرواية التي يتطابق تماما  فحواها مع عناوينها. لكن، بالعكس، فهذا "الذهاب والإياب" بين المدونات وفصول الرواية يجعلها رواية مشوقة أكثر.

القرين/التوأم
  تدرج هذه الرواية ضمن جنس الرواية السيكولوجية وتهتم بالأخص بعلاقة الابن بأمه. فعنوان الرواية وتخصيص فصلا يحمل عنوان الرواية أكبر دليل على ذلك. "آنذاك أحسست حقا بافتقادي لصوت أمي الذي لم أسمعه لسنوات عديدة . لا تتكلم معي." ص144
  يلعب القرين دورا مهما في بلورة الأحداث. علما أن ثيمة القرين، على شكل التوأم،  تتكرر مع ثلاثة أجيال في رواية صوت أمي. هكذا "التاريخ يكرر نفسه" ص46  مع الشخصية الرئيسة، مع الأب وربما ستستمر كذلك مع الأبناء التوأم للسارد/ المصور.
  يتكون التوأم الأول في العائلة من الأب وأخيه كريم؛(الوحيد الذي ذكر اسمه في الرواية) الذي غرق في البحر قبيل التحاق والد السارد/المصور بهولندا. قبل أن يغادر والد السارد إلى هولندا كانت هناك منافسة بين الأخوين التوأمين، الأب والعم، فمن يقفز من الصخرة ويسبح خارج الشاطئ يفوز بالزوجة ويغادر إلى هولندا؛ للالتحاق بالمهجر يجب أن يبقى النصف الثاني بالوطن.
    أما القرين في الجيل الثاني فيتجلى في علاقة السارد/المصور مع أخيه التوأم/ كاتب المدونات. فعلاقتهما تشبه علاقة الأخوين قابيل وهابيل. الأخ التوأم للسارد /المصور غرق كذلك عند قفزه من نفس الصخرة في البحر. كان التوأمان في نهاية المرحلة الابتدائية وكان عمرهما آنذاك إحدى عشرة سنة. كان يريد أن يقلَد أباه الذي قفز من نفس الصخرة وذلك ليثبت للأهل بالمغرب أن عائلته " لم يتغيروا بالرغم من وجودهم بهولندا، سيبقون عائلة واحدة". ص.176 فالأب لقب بالغطاس البهلواني لأنه قفز من الصخرة في البحر ونجى. أما قفزة الأخ التوأم للسارد/المصور فقد وثقها السارد/المصور وهي تزين الآن غلاف الرواية.
   أحيانا نلاحظ أن السارد /المصور يتكلم وكأنه يتكلم عن نفسه أو جزئه الآخر، فيقول عن أخيه التوأم وملامح الشزوفرينية تتضح في سلوكه: "كان ذلك وكأنني انظر إلى نفسي وكان رد فعلي أن هذا الشخص يستحق العقاب والإهانة لمجرد أنه "أنا". لكن ماذا يقول السارد عن نفسه: تعلمت وأنا طفل أن أكره نفسي."  ويسترسل عن أخيه، "...كان علي أن ألقنه درسا. لم أندم على ذلك". ص60" وفي هذه الحالة، لا نعرف أيتكلم السارد/الرئيس عن أخيه التوأم أم عن قرينه؟ "أحيانا اعتقدت أن أخي هو فقط صورة منعكسة على المرآة، فإذا وضعت يدي عليه فإنه سيختفي...فكرت يوما أيضا أن أقتل صورتي". ص62 ويحتار طارحا سؤالا آخرا؛"هل يمكن أن يكون هناك فرق بين مخلوقين متطابقين بحيث يجب التفريق بينهما لكي يستطيعا الحياة؟ ص70  يبدو أن غياب أحد التوأمين أو وفاته يعطي فرصة البقاء للتوأم الآخر لكي يعيش. إن القرين ينقسم "عموديا" بحيث نجد أن التوأمين مختلفين في أشياء كثيرة. يعاني السارد/المصور من عدم تمكنه من لغة أهله ولم يستطع التواصل معهم وكان يحس بالغربة وهو بينهم. فهو يعرف ذلك جيدا. " كان التحدث باللغة الأم مهما جدا بالنسبة لأخي التوأم. كنت أعي بألمٍ عجزي التحدث بلغة الأم".ص187 " ...كنت أتأخر كل مرة خطوة... أردت العودة إلى بلدي؛ هولندا".ص188  لم يستطع السارد\المصور التأقلم لقلة المفردات التي يعرفها بلغة الأم وكان يحس، يوما عن يوم، بأنه غريب بين أهله في القرية المغربية. لكن عبد القادر بنعلي نسي أن السارد/ المصور ولد بهولندا واسترسل وهو يحكي قصة طفولته لصديقته إيفا؛ "شرحت أن فراق الوطن الأم واستبدال القرية بعالم  يختلف تماما في الواقع  أيقظ ذاكرتي. أتيت من منطقة قاحلة إلى حديقة أطفال وحوض للرمال. طبعا تحتفظ بهذا بذاكرتك! اكتشفت بهولندا أن علي أن أخزن كل شيء بذاكرتي حتى أستطيع البقاء". ص 61
    كان هناك صراع بين التوأمين؛ بحيث يعتبر السارد/المصور جزءه الثاني مفروض عليه. ولقد( كانا) مختلفين وعلى النقيض تماما. ويتكلم عن أخيه التوأم وكأنه المسؤول عنه. "كان يحتاج إلى تصحيح. لقد كان كالخشب المعوج، فقط بالقوة يمكن تعديله." وأحيانا يقول:" كنت أجده الشخص المفضَل لكي يحمل أرائي. هكذا كنا نتعامل مع  بعضنا البعض. حديد ضد خشب." ص60
  ونلاحظ أيضا ملامح أخرى لثيمة القرين والثنائية في العلاقات العائلية. وتكون البداية في اختلاف العقلية بين الجيلين؛ الأب والابن عند بداية مرحلة مراهقته. ثم علاقة السارد/المصور بأبيه وكرهه له بعد ذلك، علاقته الأوديبية مع أمه وفي عيشه مع والديه سابقا وحياته الخاصة المستقلة عنهما. أما الأهم من ذلك فهو انتماؤه واندماجه كليا بالمجتمع الهولندي كمصور ناجح ومستقل، حر في تفكيره ومنفتح على الآخر وثقافته ومستوعبا له. لكنه، من جهة أخرى، لم يستطع تحمل غربته القاسية في بلد أهله وذويه وجهله لعاداتهم وتقاليدهم وعدم تواصله معهم بلغتهم. أما أخوه التوأم فهو الأقوى، يستطيع أن يتواصل مع أقاربه في المغرب ولا يحس بالغربة بينهم. كما ذكرنا سابقا فهو الذي قرَر من بداية الرواية البقاء وعدم العودة. إذا يجب على الجزء الآخر، ربما الأقوى حسب السارد، أن يبقى في الوطن/ الأم.
    تشمل ثيمة القرين كذلك الأم التي لها أيضا قرين يختلف عنها تماما. لقد كانت الأم سافرة وجميلة.  ترتدي ملابس عصرية تتماشى مع تلك الحقبة الزمنية. والسارد/المصور يفتخر بذلك؛ " أمي تشبه احد ممثلات أفلام هوليود".ص105 ..."أمي جميلة جدا ولا أقولها لمجرد أنها أمي...أنا فرح جدا لأنها لا تقرأ هذه اللغة لو حدث عكس ذلك لما استطعت أن اكتب بصراحة وحرية ما يجول في خاطري".ص108 لكن في بداية الثمانينات، تغير كل شيء في حياة هذه الأم. وجب عليها ارتداء غطاء الرأس وتغيرت بذلك طريقة ملبسها. وما كانت تحبه كثيرا ويدخل البهجة على قلبها وقلب زوجها أصبح حراما؛ لم يستمتعوا بعد بسماع أغاني أم كلثوم. وقد حدث ذلك، قبل عشرين سنة، بعد غرق ابنهم خلال آخر سفرة لهم إلى المغرب.

___________________________________________

 
Gérard Genette, Figures III, Éditions Du Seuil, Paris, 1972, p.88
  Peter van Zilfhout, De imaginaire Ruimte, verbeelding en subjectiviteit bij Sartre, Deuleuze en Becket, Faculteit der Wijsbegeerte, Universiteit van Amterdam, 1993, p.137


23

القرين في سرديات المهجر
رواية "صوت أمي" لعبد القادر بنعلي أنموذجا  (1)




نجاة تميم

    إن ثيمة القرين، كالعديد من الثيمات الكبيرة في الأدب، ليست بجديدة، لكنها كانت في القرن الثامن عشر، خصوصا، في ألمانيا، من الثيمات المفضَلة والمتداولة في الأدب الرومانسي والأدب ألعجائبي. فعلاقة الإنسان مع "الأنا" وخوفه من الدمار الشامل الذي سيسببه له الموت، تجعله يحاول أن يلغي هذا الخوف بلجوئه إلى سلسلة من الأساطير التي تعتمد على الإيمان بخلوده كما يلجأ إلى "الدين والفن والفلسفة ليقدموا له ما يرضيه ويخفف عنه"؛  وقد يجد ذلك في  قرينه.
   إن ثيمة القرين سبق أن استعملت منذ القدم، فنجدها في الديانات البدائية و في بعض الثقافات الشعبية. أما من الناحية العلمية، فمفردة القرين تطلق على الاضطراب النفسي المصحوب  بانفصام الشخصية؛ اضطراب يمكن أن يشمل هلوسات ذاتية أو هلوسات يكون مصدرها من خارج الجسم أو هلوسات  يجهل المريض مصدرها وتُمثل غالبا في شخصية القرين بكل تحولاته. وبشكل عام، فإن ثيمة القرين تقرن بظواهر ثنائية الشخصية (الشزفرينية أو الذهان الهذياني التأويلي).
  لغويا، تعني كلمة القرين الصاحب، الشريك أو الشبيه. وقد تستعمل لحد الآن لتفسير ثنائية الشخصية. كما أن تفسيرا آخرا متناول على مواقع الإنترنت؛ " الجن الذي يدخل الجسم الآدمي لشيئين ...قد يفيده أو يضره". أما في المعتقدات "البدائية" وثقافات بعض الشعوب، حسب دراسة معمقة للكاتب أوتو غنك، فإن القرين يُجسّد في الظل، خيال الإنسان، الصورة المنعكسة في المرآة، البورتريت، الروح، الصدى، ثنائية الشخصية أو في التوأم.
   لقد برزت ثيمة القرين في الأدب، بالأخص، إبان ظهور الرومانسية في القرن الثامن عشر في انجلترا وألمانيا من تمَ انتقلت بعدئذ إلى فرنسا. فبعد أن عرف القرن التاسع عشر الرواية القوطية، التي تبعتها فيما بعد الحرب العالمية الثانية الرواية السوداء، وأهم كتابها ( آن غدكلف 1764-1823) و(هوراس ولبول 1717-1797) والرواية التاريخية للكاتب القبرصي (ولتر سكوت)، شهدت نهاية سنوات 1820 أدبا جديدا يعتمد الخيال ويبحث عن أفق جديدة : حيث أتت الرومانسية لتثور على قواعد الأدب الكلاسيكي. فروايات  نوفاليس،هوفمان وجون بول وإختندورف في ألمانيا القرن الثامن عشر وروايات فكتور هيغو، ستاندال وموباسون في فرنسا القرن التاسع عشر خير مثال على ذالك.
  نعلم أن ثيمة القرين/ التوأم في الثقافات البدائية وكذالك في العديد من الأساطير لها علاقة بالتحضر وبناء المدن كما في أسطورة مؤسسي مدينة روما (غومولوس وغيموس ) في القرن السابع قبل الميلاد. وقد نجدها ممثلة في المسرح القديم، كمسرحيات بلوت (مسرحية المنيشم 215 ق.م ومسرحية أمفيترون 187ق.م التي ألهمت مليير ليكتب مسرحية تحمل نفس الاسم )، غير أن ثيمة القرين بمتغيراتها برزت بشكل مميز مع كتاب القرن التاسع عشر(هوفمان، شميزو، بو، موباسون ودويستوفسكي).    
  لقد كان لصدور كتاب هوفمان (1876-1822) الموسوم "قصص فانتاستيكية"في باريس عام 1922 والذي ينضوي أيضا تحت خانة الأدب ألعجائبي، صدى وتأثير كبيران على الساحة الأدبية آنذاك. لقد عالج هوفمان ثيمة القرين في أعمال عدة منها : الأميرة برامبيلا ، القلب من حجر، اختيار خطيبة، رجل الرمال، حكاية الصورة المنعكسة المفقودة وغيرها من الأعمال. ولا ننسى تأثير روايتي جون بول على هوفمان  
  (1800)  اللتين كانتا السباقتين في معالجة ثيمة القرين. Titanو  “(1796) Sienbenkâs  
  إن جون بول هو أول من أدخل موتيف القرين في الأدب الرومانسي. فالنقطة الرئيسة في روايته سييبنكاس تدور حول الالتباس المستمر بين الشخصية الرئيسة "سينبنكاس" وصديقه "ليبغبر" الذي يشبهه تماما ويلاحظ بول أن ليبغبر ينفصل عن جسمه ويوضًح في هذه الرواية أن القرين هو الشخص الذي يرى نفسه. ونفس الفكرة في روايته تحت عنوان  تيتان التي تعالج الدمج الكامل للشخصية بحيث : "الأنا يجب أن تصبح الأنت."  
   أما ثيمة القرين/الظل نجدها حيَة عند الشعراء ( كميسو، أندرسن وغوته).  فالظل، يقول أًتو غنك، يعني الموت لكنه يعني أيضا الحياة وكلاهما يعتمدان على اعتقاد بدائي، على ثنائية الروح .  فهناك الروح الفانية والروح الخالدة. تتحدث القصة الموسومة" الظل"(1846)  للكاتب الدانماركي أندرسون (1805-1875) عن حكاية عالم يعيش في أحد البلدان الحارة وهناك يفترق عنه ظله، لكن بعد مرور أعوام يصبح الظل رجلا قويا وغنيا، يلتقي بالعالم ويستطيع أن يُسخًر مالكه الأصلي ويطلب منه أن يتبادلا الأدوار ويصبح خياله. أما في قصة العملاق للكاتب غوته، فظل العملاق يضعف وسط النهار ويكبر ويصبح هائلا  أثناء شروق وغروب الشمس بحيث يستطيع سكان ضفتي النهر أن يعبروا النهر ممتطين ظل عنق العملاق. رغم ذلك فالسكان فضلوا استقلالهم عن العملاق وبنوا جسرا. لكن استقلالهم عن العملاق لم يتحقق؛ فكل صباح عندما يفرك العملاق عينيه ليبعد آثار النوم عنه فإن ظل كفيه يُسقط مارة الجسر وحيواناتهم في الماء.
  أخذت ثيمة القرين في الأدب صبغة الظل أو بالأحرى خيال الشخص والذي غالبا ما يقرن بالقرين.وهذا  الأخير، يمكن أن يُجسد في التوأم كما في رواية دستويفسكي الموسومة القرين (1846) والقصتين الموسومتين بالتوالي الهورْلا (1887) و هو (1883) للكاتب الفرنسي موباسون ورواية جون بول  التي تدور حول صراع الأخوين التوأمين. Flegeljahre
   قد يفترق القرين الغامض عن الأنا ويصبح مستقلا ويمتهن الظل أو الصورة المنعكسة وقد يبدو كالليم وهو شبيه الشخص تماما؛ من دم ولحم. هذا القرين وذاك قد يلتقيان بشكل غير مألوف وقد يتعارضان في كل شيء. فأول رواية لهوفمان  إليكسير الشيطان (1814) اعتمدت تشابها مُشابهِا بين الراهب (ميداردس) و (الكونت فيكتور)؛ أخوين من نفس الأب دون أن يعلما بذلك. ويعالج هوفمان موضوعا مماثلا في عمل لاحق بعنوان القرين؛ المنافسة أمام نفس المرأة  لمراهقين اثنين يتشابهان بشكل لا يمكن التفريق بينهما. قرابة غريبة تجمع الاثنين. فحبهما لنفس الفتاة جعلهما يخوضان مغامرات أكثر جنونا وينتهي  بهما المطاف عندما يجدان نفسيهما وجها لوجه أمام الفتاة الشابة ومع ذلك يتركانها بمحض إرادتهما. أما في روايته  الهرَ مُور، فإن ثيمة القرين/ الشبيه تتمثل في شخصين يتشابهان كأنهما أخوان؛ (كريسلغ)  و(إتلينغر)؛ الأول مرشح للجنون والثاني رسام مجنون فعلاً. (كريسلغ) الذي يرى صورته في الماء يعتقد أنها صورة الرسام المجنون ويذمه. والأغرب من ذلك عندما يعتقد أن "الأنا" يمشي بجانبه فيصيبه الرعب ويهرع إلى المعلم إبراهيم ليطلب منه أن يقتل، طعنا بالسيف، الشخص الذي يلاحقه.  
   بعد هذا التقديم المكثف حول القرين ومتغيراته، نعود إلى الشخصية الرئيسة المجهولة الاسم في رواية عبد القادر بنعلي  بعنوان صوت أمي التي تتضاعف على شكل توأم. فيكون بذلك للسارد/ المصور قرينا على شكل توأم الذي" لا يظهر، ككل مرة، نسخة طبق الأصل للبطل وإنما كنقيضه" في تكوينه الشخصي بالأخص، . وقد يقرأ ميشيل جيل  شيئا أخرا في قصة الكاتب البلجيكي فرانس هيلينس (1879-1881) الموسومة القرين. هذه الأخيرة  تتناول ثيمة القرين المنقسم إلى أجناس مختلفة. يحكي السارد قصة صديقه الهولندي من أصل عائلة مخضرمة تعمل في التجارة في جزر الهند الشرقية، المستعمرة الهولندية سابقا واندونيسيا حاليا. كان (هندريكس فان دو كمب) إنسانا حالما، وديعا، طيبا، يشفق على الفقراء. أرسله أبوه إلى جزر الهند الشرقية لكي يكتسب خبرة في الحياة. وفي طريقه إلى هناك تعرف (هندريكس) على هندي لقنه  تعاليم أجداده التي كانت السبب في تغيير حياته. فثابر ودرس هذه التعاليم الهندية. حسب حكاية (هندريكس) للسارد، فإنه بعد محاولات فاشلة وأخرى ناجحة حاول أن يخلق قرينا له. بدأ يرى، شيئا فشيئا، صورة قرينه تتكون كاملة أمامه، من لحم ودم، وتقف على رجليها. لكن الغريب في الأمر أن هذا القرين مجسَد في امرأة. في البداية كان لا يعرف من منهما يمثل حقيقته الطبيعية، القرين/المرأة أم هو؟. مع الوقت تعوَد على وضعيته الجديدة واقتنع أن قرينه هو شريكة حياته التي اختارها. بعد ذلك أصبح (هندريكس) يتمتع بالرجولة والخشونة ونجح في أعماله بعدما كان إنسانا وديعا، رهف الحس وفاشلا في حياته المهنية. لم يحدث هذا فقط معه فعندما أنجبت له زوجته/القرين طفلا أحس بفقدانه لطفولته فأصبح عنيفا ودمويا مع عمَاله. فجأة ساءت حالة  زوجته/القرين الصحية. لكن بعد وفاتها عاد واكتسب طيبته ورقته وأخيرا استرد شخصيته كاملة عندما فقد طفله/القرين.  نلاحظ في هذه الرواية أن القرين شهد انقساما إلى ثلاثة أجناس (البطل، المرأة، الطفل) وليس تعدَدا كما في القرين/التوأم مثلا. ويضيف (جون إهرسام وفغونيك) إلى ما كتبه (غويمار) و (ستراغليلي) اللذان يؤكدان أن القرين  يحدث بالتعدد أو بالانقسام وأيضا على شكل قرين الهلوسات الذي لا تراه إلا الضحية نفسها التي تعيش دراما تعدد الشخصية.  وقد يصْدق تودوروف عندما يقول في هذا المجال" بأن تعددية الشخصية هي، حرْفيا، نتيجة حتمية للتنقل بين المادة والروح، فإذا نحن أشخاص متعدﱢدون ذهنيا فسنصبح كذلك جسديا".
    بعد تطرقنا لبعض الحالات التي يمكن أن يجسدها القرين سنعود لثيمة القرين/التوأم، ونستشهد بما كتبه أوتو غنك عن موتيف القرين، الذي هو ناتج عن ظاهرة ولادة التوأم. هذا الأخير يجسد وضعية فوق طبيعية. فظهور الإنسان وقرينه يعطي للتوأم سلطة ما فوق طبيعية خاصة عن الحياة والموت، بحيث أن الإنسان يولد ويجلب معه قرينه الخالد. فبعد إتمام المهمة يتحتم على أحدهما الموت؛ فهذا شرط بقاء الآخر في الحياة. هكذا يُعلٙن في بداية الرواية عن وفاة الأخ التوأم للسارد الرئيس في رواية صوت أمي لعبد القادر بنعلي ويكتشف القارئ لأول وهلة أن عائلة السارد تعاني حزنا شديدا لفراق الأخ/التوأم.
    وتبدأ أحداث  هذه الرواية على إثر رنة تلفون. فبمجرد أن لمح السارد/المصور، الذي استطاع أن يثبت جدارته ويدخل مجتمع النخبة في هولندا، رقم تلفون أبيه عادت به ذاكرته إلى الوراء تماما كما أعادت حلوى" المادلين" ذاكرة " مرسيل بروست" إلى أيام طفولته ومجريات حياته.
    إن عبد القادر بنعلي الذي ولد بالمغرب، عام 1975، والتحق بوالده مع أمه وهو في الرابعة من عمره، ترعرع في هولندا وأكمل دراسته بالجامعة العريقة لمدينة لايدن، يعتبر من كتاب المهجر الأوائل الذين يكتبون باللغة الهولندية وهو كباقي كتاب المهجر والمنافي الذين يجدون أنفسهم بين ثقافتين يحاول كل على طريقته التعبير عن انتماءه أو انتماءاته وإثبات ذاته وهويته. غالبا ما نجد ثيمة القرين أو الانتماء المزدوج في كتاباتهم كما في ثنائية الكاتب والروائي الطاهر بن جلون  طفل الرمال و ليلة القدر. إن مفهوم القرين تجسد في البطل وهو الشخصية الرئيسة " أحمد" الذي هو في نفس الوقت، أو بالأحرى، فتاة اسمها زهرة. قبل ولادتها صمَم والدها أن تولد ذكرا. هكذا كان المولود السابع مولودا ذكرا أمام الخاص والعام وكبرت زهرة وهي تلعب دور أحمد في حياتها العائلية والاجتماعية. يعتبر الطاهر بن جلون من خلال رواياته وكتاباته الناطق الرسمي عن وضع المرأة المهمشة والمضطهدة من قبل النظام ألبطريركي وعن العمال المهاجرين الغير المعترف بهم وبما يقدمونه للبلد المستقبل وعن كل الذين يعيشون على الهامش في مجتمعات بلد المهجر(هنا فرنسا) أو غيرها. إن بن جلون قد لا يعاني من الانتماء المزدوج بل يعتبر من كتاب الجيل الأول الذين يساهمون بالأخص في التنوع الثقافي وربط  الجسور بين شعوب وحضارات بلدان الشمال والجنوب.  أما بالنسبة للجيل الثاني الذي ينتمي إليه الكاتب والروائي عبد القادر بنعلي فشغله الشاغل كذلك  إثبات الذات وشرعية وولاء المهاجر للبلد الذي ترعرع فيه وهو يعتبر نفسه ينتمي إلى هذا المجتمع  المتعدد الثقافات المعترف بها وله كل الحق في ذلك.

 Otto Frank, Don Juan et le Double, traduit par le Dr. S. Lautman, Editions Denoël, Paris, 1932, p.4
  Clément Rosset, le Réel et son double, Editions Gallimard, Paris, 1976, p. 87
  Ibid, p.13
  Ibid, p.38
  Ibid, p.44
  Franz Hellens, Le double et autres contes fantastiques, Espace nord, Bruxelles, 2009, p.293
  Ibid, p.290
المصادر:
بتول الخضيري، كم بدت السماء قريبة !!،  المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999
Abdelkader Benali, De stem van mijn moeder, De arbeiders, Amterdam, 2009
Collette Audy, Sartre et la réalité humaine, Editions Sechers, Paris, 1966
Marcel Brion, L’Allemagne Romantique, Novalis, Hoffmann, Jean Paul, Eichendorf, Editions Albin Michel, Paris, 1963
Michel Guiomar, Miroirs et Ténèbres, Librairie José Corti, Paris, 1984
Jean-F, A. Ricci, E.A.T, Hoffmann, L’homme et l’œuvre, Librairie José Corti, Paris, 1947
Sartre J. P., L’imagination, Presses Universitaires de France, Paris 1948



24
ميشيل هولبك بلزاك زمانه

                                                                                                                      نجاة تميم               
   حاز الكاتب الفرنسي ميشيل هولبك، ولأول مرة، على جائزة الكونكور يوم الإثنين 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، على روايته الموسومة "الخريطة والبلاد" والتي صدرت في 8 أيلول (سبتمبر) 2010 عن دار النشر( فلمغيون) في 428 صفحة من القطع المتوسط. أما ترجمتها إلى اللغة الهولندية فسترى النور، حسب دار النشر أربيدرس، عام 2011 . هذه الرواية، التي جعلت كثيرا من الحبر يسيل، تدور حول علاقة فنان معاصر بأبيه. ويكون، الكاتب نفسه، أحد شخصيات الرواية؛ سيُقتل من قبل الفنان وأبيه، والأغرب من ذلك أن هولبك المؤلف سيكتب مراسيم جنازة هولبك الشخصية.
  في لقاء صحفي مع "مغازين لترير"الفرنسية (المجلة الأدبية) في آب 2010 يقول هولبك عن روايته: إن "كتابة هكذا كتاب تذكرني بركوب دراجة على منحدر شديد: كيف يا ترى سنحافظ على السرعة الملائمة في التعبير حتى لا نسقط، كيف يا ترى سنتفادى المنعطفات القصيرة".
   لا يُعرف هولبك بغزارة أعماله وإنما بنوعيتها التي تجد، باستمرار، صدى كبيرا عند قراءه؛ وتجعله في الغالب ولنفس الأسباب إما مُحترما أو مذموما من قبلهم.
    ولد الكاتب في جزيرة غييونيون الفرنسية عام 1958. كان والده مرشدا سياحيا، بينما كانت والدته طبيبة تخدير. لكنه قضى جلَ طفولته مع جده وجدته في الجزائر. ويرجع لقبه الحالي إلى لقب جدته من جهة أبيه.
  بدأ مشروعه الأدبي بتأسيس مجلة أدبية إسمها " كرامازوف" في نهاية السبعينات. ومن أعماله، بحث حول الكاتب الأمريكي لوفكرافت بعنوان " ه.ب.لوفكرافت، ضد العالم وضد الحياة" و دواوين شعر: " ملاحقة السعادة" الذي حاز على جائزة (تريستان تزارا) عام 1992 و" معنى النضال" الذي كان من نصيبه جائزة (فلور) عام 1996. فبعد رفض العديد من دور النشر، أصدرت دار موريس نادو أول رواية لهولبك بعنوان " اتساع رقعة الكفاح" عام 1994، التي حوَلها فليب هارل فيلما بالفرنسية عام 1999 وأخرجها جنس ألبنوس  مسلسلا للتلفزيون الدانمركي عام 2002.
   في عام 1998، أحدث صدور رواية هولبك بعنوان "الجزيئات الأولية" جدلا في الوسط الثقافي وغيره. وحازت هذه الرواية على جائزة "نوفمبر" في نفس الوقت الذي كانت فيه مرشحة لجائزة الكونكور. هذه الرواية، التي تدَرس في جامعة لايدن الهولندية على سبيل المثال لا الحصر، تعالج وقائع تدهور الحضارة الغربية، حسب هولبك، من خلال سرد حياة تافهة وكئيبة لأخوين غير شقيقين يعيشان حالة صراع مع ظروفهما التعيسة. تلتها الرواية الموسومة" إمكانية جزيرة" عام 2005 ،التي أخرجها الكاتب فيلما عام 2008. وقد شكل الاستنساخ الذي كان موضوع الساعة في تلك الفترة، الثيمة الرئيسة في هذه الرواية.
  "أنا لا أبحث عن الحقيقة الإنسانية في الكتابة". ربما أصاب هولبك في كلامه. لكن مرورا بدواوينه ورواياته نلاحظ أنه يحاور أعماق النفس الإنسانية ويطرح المشاكل الاجتماعية وغيرها بطريقه مغايرة عن باقي كتاب جيله. فنراه يزاوج بين علم الاجتماع وعلم النفس، علم اللاهوت والفلسفة، الأدب الشعبي والأدب الكلاسيكي ومواضيع أخرى. ويتطرق كذلك إلى تبعات العولمة وأنماط الاستهلاك والحداثة.
 إن سر نجاح ميشيل هولبك يكمن، بالتأكيد، في رؤيته للعالم. فهو ينطلق من "الواقع" الفرنسي الراهن و يصوره من الداخل ومن الخارج بشكل لا يخلو من السخرية اللاذعة؛ معتمدا في ذلك الأدب العلمي والأدب ألعجائبي وربما يكون ذلك طالعا للمستقبل.


25
آخر الكتاب الثلاثة الكبار في هولندا
                                                                                                                   نجاة تميم

      بعد معاناة مع المرض الخبيث عدة أشهر، توفي هاري موليش في بيته بأمستردام، عن عمر يناهز 83 سنة، يوم 31  تشرين الأول (أكتوبر) 2010، وبهذا تكون هولندا قد فقدت قامة الأدب والثقافة وآخر كتابها الكبار الثلاثة من بعد فيلم فردريك هرمانس (1921-1995) وجرار غِفِ (1923-2006). يُعد موليش من أبرز الكتاب الهولنديين المرموقين في القرن العشرين. كتب أكثر من عشر روايات وعشرات المجموعات القصصية، إلى جانب العديد من المسرحيات والبحوث كما ترجمت أعماله إلى عدة لغات. ويعرف عنه كونه اشتراكيا دافع في فترة وبقوة عن فيدل كاسترو.   
  ولد موليش في 29 تموز (يوليو) 1927 بمدينة هارنم الهولندية. وهو ينحدر من أم  يهودية، بنت موظف يعمل في بنك، ولدت في بلجيكا أما والده فهو نمساوي-هنغاري الأصل، هاجر بعد الحرب العالمية الأولى إلى هولندا، وعمل موظفا في بنك ألماني. تعاون مع النازيين وكلفه هذا التعاون ثلاث سنوات سجن. هذا ما جعل موضوع الحرب من المواضيع الطاغية على أعمال موليش. وكان يقول:" أنا الحرب العالمية الثانية".
  حازت أول رواية له بعنوان "أرشبالد ستروهلم"  على جائزة غين برينسٌ  الغيرلنس عام 1952. وتلتها أكبر رواياته عن الحرب " زواج الأحجار" عام 1958 . وهي رواية ، تقوم بنية سردها على شكل دراما كلاسيكية، تدور حول طبيب أسنان دُعي، في الخمسينات،  لحضور مؤتمر بمدينة دريستن الهولندية؛ المدينة التي شارك هو في تدميرها بالقنابل، عام 1945، إبان الحرب العالمية الثانية. وتتابعت رواياته كقضية 40-61، ثم رواية "مستقبل البارحة" (1972) التي هي عبارة عن  مشروع كتابة؛ قصة كاتب يعيش في عالم فازت فيه ألمانيا بالحرب وهو يكتب رواية عن ألمانيا التي خسرت الحرب؛ حقيقة وأتوبيا مترابطتان في بنية واحدة. وكتب بعدئذ رواية "امرأتان" عام 1975التي كانت هدية المكتبات العامة عام 2008 بمناسبة "هولندا تقرأ". أما روايته الموسومة "الاعتداء" فمازالت تدرس في المدارس الثانوية الهولندية. أخرجت فيلما، عام 1989، وحازت على جائزة" أوسكار" كأفضل فيلم أجنبي. نلاحظ أن موليش يستعرض دائما الحرب في أعماله؛ كالمجموعات القصصية بعنوان" يتيم الحرب"(1987)، "العناصر" (1988)، رواية  "الدعوى"(1989) وأخر رواية له "سيغفريلد" (2000). وكانت أهم الجوائز الهولندية من نصيبه.
   في عام 2007، اختيرت روايته الموسومة "اكتشاف السماء" (1992) كأفضل كتاب باللغة الهولندية على الإطلاق.  لقد أجمع النقاد على أنها أفضل رواياته التي تلخص كل حياته وأغلب أعماله. وقد حُولت فيلما من قبل يرون كراب عام 2001.  وتحتوي هذه الرواية على خمسة وستين فصلا وإن كان هذا العدد يدل على شيء فإنما  يدل على الخمس والستين ربيعا، عمر الروائي عند صدور الرواية. ففي هذه الأخيرة، يمزج موليش غالبا وبشكل رمزي الرياضيات، اللسانيات، السياسة، التاريخ والشؤون الإنسانية. كما يعالج فترة السبعينات، مواضيع مثل الجنس، الإله، البيولوجيا ، النجوم، الأخلاق، الطب، المحرقة والشيوعية. وهذا ينم عن ثقافته الواسعة حيث نراه يعطي رأيه في كل شيء. إن هاري موريش يبهرنا بكتاباته من خلال حواراته الفلسفية الساحرة وخياله الخصب مما يجعل من روايته الموسومة "اكتشاف السماء" ملحمة إنسانية حقاً زاخرة بالإثارة.


26
الأدب ألعجائبي:(2) الفانتاستيك الداخلي
نجاة تميم
 من خلال قراءتنا لقصص الكاتب والباحث المغربي  أحمد المديني، يمكننا أن نصنف قصة " الصورة والوجه" في مجموعته القصصية "حروف الزين" ضمن الأدب ألعجائبي الداخلي. لكننا نجد كذلك بعض ملامح الفانتاستيك الخارجي ويتجلى ذلك في المكان المسكون؛ بحيث يقوم الراوي بضمير الغائب بسرد حكاية البطل- الشخصية الرئيسة وزوجته وأن زائرا اقتحم عنوة نومهما  وسمعا ليلا أن « حركة خفيفة لشيء تزحزح من مكانه». (ص99) يصمم بطل القصة أن يمعن الإنصات إلى مصدر الصوت. بدأ الشك يتسرب إلى داخله. أحس أن الصالون أصبح أطول، واكتشف أن « هذه الاستطالة مفترضة أكثر منها حقيقية.»( ص102) يتساءل عن من يحدث هذا الصوت : " أهو شخص أم شيء يجول في البيت كأن البيت بيته وليس بيتي". (ص100) ويعود الشك يراود الشخصية الرئيسة ؛ فيستطرد:« ربما يكون الصوت نابع من داخله هو، خارجا من رأسه.» ( ص102) لكن إصراره على معرفة الصوت جعله يمر بفترات ذعر وتردد ويكتشف أخيرا أن المصدر هو صورته مع الحاكم العام للمدينة المعلقة على الجدار في صدر الصالون. كانت المفاجئة أشد عندما شاهد « أن وجهه يغادر الصورة المعلقة في صدارة الجدار تتقدم نحوه  ... ومن اتجاه آخر رأى وجهاﱟ يعرفه ولا يعرفه يدخل إلى الصورة. أراد أن يسأله: من أنت؟ لكنه أحس بالحرج. بين الوجهين رأى من يشبهه ومن لا يشبهه؛» ( ص111 ) ...  استيقظت زوجته وذهبت تتفقده. « وحين تواجٙها ورأته أمامها ... وقبل أن تهوي في مكانها سمعت صوتها يسأل بين الرهبة والاستنكار: من أنت؟» ( ص112)
   يلعب دور القرين دورا مهما في هذه القصة. فالسارد يروي قصة بطل يبحث عن نفسه وربما وجدها أخيرا في بديله. لكن هذه المرة تمثل القرين في صورته المعلقة في الصالون والتي تحمل كل همومه وتردداته وأحلامه وتخبطه مع نفسه. هنا القرين ليس شخصا وإنما صورة. حسب كوامار وستراغياتي، "يمكن أن يستبدل القرين كإنسان "بشيء انتقالي" كلوحة أو تمثال". وهذا ما وجدناه في هذه القصة وما سنلاحظه أيضا في قصة الكاتب والقاص العراقي إبراهيم احمد تحت عنوان" قطة بدون شعر" من مجموعته القصصية " لارا....زهرة البراري". فقصتا المديني وإبراهيم أحمد تعبران عن واقع معاش وتعكسان هوية سردية التي من المفترض أن يتسم بها  كل متن سردي "كلقاء القاص بمجتمعه" (حسب عبارة محمد خضير سلطان) والتعبير عن ما يحدث حوله. لكن قصص  إدغار بو لا تحمل هوية معينة. يعرف عن إدغار بو أنه كان صحفيا وشاعرا وناقدا وقاصا. لكن قصصه لا تحمل هويته الأمريكية بل تعتبر قصصا كونية بما تحمله من تخبط وتردد وجنون ورغم ذلك فهي التي منحته الشهرة بأوروبا وفي العالم أجمع ومازال، إلى يومنا هذا، تأثيرها واضحا على الأدب بشكل عام ( الرواية البوليسية مثلا).
"وربما الجنون هو الخطاب السامي" ،حسب عبارة تودوروف ؛ وبعبارة مشابهة، "أليس الجنون ذروة العقلانية"؛ هكذا يستهل بو قصته "إليونرٙ" التي سبق أن ذكرناها وهي شخصية كأغلب شخصيات بو التي لا نعرف شيئا  لا عن أصلها ولا عن فصلها.  أما بطلة قصة إبراهيم أحمد " قطة بدون شعر"، من مجموعته القصصية " لارا...زهرة البراري"، فتدعى كذلك إلينور. لكن هذه الأخيرة لها هوية؛ فهي رسامة سويدية لا تستطيع امتلاك قطة لفرط حساسية زوجها من شعر القطط. فهنا الراوي يسرد لنا الأحداث  بالضمير الشخصي الأول "أنا". يتوجه الراوي-الشخصية الرئيسة إلى مدينة يون شوبنك للقاء أصدقاء له ولاجئين مثله. ويتوجب عليه أن يتوقف مرتين ليغير قطاره: محطتا قطار فرعيتان تعني مرحلتين في مسار السرد القصصي. في محطة القطار الأولى أو بالأحرى محطة السرد الأول؛ وعند استقبال إليونر له، كان الراوي يتساءل « إذا ما (كان) في حلم أم أن قطارا حقيقيا قد ألقى (به) في هذه البلدة. » (ص82) زار الراوي البطل معرض لوحات لنفس القطة للرسامة إليونر وطلبت منه طلبا غريبا أيقظت فيه نار الحساسية والغيرية عنده : مساعدتها لإيجاد قطة بدون شعر. ماذا تظنه؟ مع ذلك وعدها بذلك واستقل القطار وأفكار كثيرة في رأسه تتضارب حول ماهيته و بعد انطلاق القطار متوجها إلى المحطة الثانية وجد نفسه مرة ثانية يسير في الشارع الرئيسي لبلدة هرلنكة. هذه المرة استقبلته قطة جميلة بملابس مزركشة وأبلغته أن السيدة إليونر تنتظره بمفاجأة. لاحظ  وهو في طريقه إليها أن شجرة التفاح قد تعافت وتعالت أغصانها بعدما كانت مريضة في زيارته الأولى. يبدو أن دمعته « دمعة غريب حزين» التي سالت من عينيه أثناء زيارته السابقة هي السبب في شفائها (وإعادة الحياة لها) تقول له القطة الرشيقة. هذه الأخيرة رافقته إلى معرض إلينور. أصيب بالدهشة عندما رأى أن  «السيدة رسمت القطة الهاجعة في ( أعماقه)  كحلم عظيم يأبى أن يتحقق. وها هي أنامل السيدة إلينور تلتقطها من أدغال( روحه) التي غزاها الشوك والهوام.» (ص96) لقد استطاعت أن ترى قطته الحزينة التي تطل من عينيه. تمنى أن تعطيه هذه اللوحة. لكنها  امتنعت. فهي رسمت آلاف القطط ولحد الآن لم تستطيع أن ترسم قطتها الحقيقية «المنتظرة». (ص84)  فما باله وقطته. إن السيدة إلينور ترفق بقططها  وتسمح لهن بالخروج من لوحاتها  والتجول على الأرض أو السقف. نهضت الشخصية الرئيسة لاحتضان قطته الجميلة غير مبال بدقات القطار ووصول محطة يون شوبنك. وإذا بمئات القطط تنحدر من جدران المرسم تتهاوى وتتطاير وتحلق معا في الأعالي وعندما نزل من القطار رأى قطته الفاتنة وهي تزهو بملابس السباحة وبينما يحاول أن يتبعها تصدى له رجل متجهم الوجه على ذراعه شارة حارس الشواطئ ونهره لكي يعود أدراجه قائلا: « لا تقترب..هنا تبدل الفتيات ملابسهن.» (ص100)
   نلاحظ أن  كتاب  قصص الفانتاستيك غالبا ما يستعملون ضمير المتكلم "أنا" أو راو عليم وذلك لتمكين القارئ من أن يتماهى بسهولة أكثر مع السارد المتحدث بالضمير الشخصي" أنا". ففي قصص إدغار بو، السارد "أنا" راو طبيعي يحكي حدثا عاديا وقع له. ومع تسلسل الأحداث يبدو أن شيئا فوق الطبيعي خرق القوانين الطبيعية ويجب أن نجد له تفسيرا عقلانيا لكي نستطيع أن نتقبله. الشخصيات النسائية في قصص بو مثقفة ورائعة الجمال. السارد "أنا" لا يحتمل الفراق حتى بعد محاولته متابعة حياته الطبيعية والزواج مرة ثانية. وللتكفير عن الإحساس بالذنب وعن عدم الوفاء للحبيبة يحاول بعث روحها في جسم آخر لإعادتها إلى الحياة مجددا.  أما الشخصيات الرئيسة في قصص أحمد المديني وإبراهيم أحمد فإنها منشغلة بالبحث عن ذاتها. فبطل قصة "الصورة والوجه" بحث عن نفسه في صورته فاختلطت عليه الأشياء، رأى وجها، ربما وجهه يدخل إلى الصورة المعلقة على الحائط. يبدو أنه فقد نفسه إلى الأبد، والدليل على ذلك أن زوجته لم تتعرف عليه.
 أما الراوي "أنا" في قصة إبراهيم أحمد، كما السيدة إلينور فلم يجدا أنفسهما بعد حتى بعد محاولة رسم القطة الحبيسة بداخل البطل ورسم القطة الحقيقية المنتظرة للسيدة إلينور. هكذا بقيت النهاية مفتوحة لمحاولات أخرى.
   وختاما، إن أساس الأدب العجائبي، حسب تزيفتان تودوروف، هو تردد القارئ الذي يتماهى مع الشخصية الرئيسة فيما يخص طبيعة وضعية غريبة. التردد الذي يمكن معالجته إما بتقبلنا الوضعية الغريبة كواقع أو أن نقرر أنها ثمرة خيال أو نتيجة وهم، بمعنى آخر، يمكننا أن نقرﱠ، بأنفسنا، بوجود الوضعية أو عدم وجودها.
         المصادر:
1.   Charles Beaudelaire, Nouvelles Extraordinaires par Edgar Poe, Calmann Lévy, Paris, 1896, pp.423-433
2.   Franz Hellens, Le double et d’autres contes choisis, Editions Luc Pire, 2009.
3.   Franz Hellens, Styles et caractères, la Rennaissance du livre, Bruxelles, 1956.
4.   Franz Hellens, Le Fantastique réel, SODI, Bruxelles, 1967.
5.   Jacques Goimard et Roland Stragliati, Histoires de doubles, «La grande anthologie du fantastique», Presses Pocket, 1977.
6.   Roger Forclaz, Le Monde d’Edgar Poe, Herbert  Lang,  Berne, 1974.
7.   Tzvetan Todorov, Introduction à la littérature fantastique, poétique/Seuil, Paris, 1970.
- ابراهيم أحمد، لارا...زهرة البراري، دار المنفى، السويد، 2001، ص 81-100            8
- احمد المديني، حروف الزين، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2002, ص 95- 112   9
10-محمد خضير سلطان،" لقاء القاص بمجتمعه: تصحيح السرد القصصي العراقي"، الثقافة   
  الجديدة، العدد 331، 2009، ص. 126-130.   






27
الأدب ألعجائبي: أهو واقع أم خيال؟ (1)
                                                                                                        نجاة تميم
   الأدب العجائبي أو ما يسمى بالفانتاستيك حسب تودوروف هو التردد الذي يصيب المتلقي الذي لا يعرف غير القوانين الطبيعية ويجد نفسه أمام وضع فوق طبيعي حسب الظاهر. فعندما نجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة يمكننا تفسيرها إما من خلال المسببات الطبيعية أو فوق الطبيعية، لكن التردد بين هذه المسببات هو الذي يخلق هذا التأثير ألعجائبي.
  لقد عرفنا الأدب العجائبي و"الأدب الخارق" الذي يعتمد السحر من خلال قصص "ألف ليلة وليلة" والخيال العجائبي من خلال قصص الأطفال المشهورة، المستوحاة من التراث الدانمركي،  للكاتب هانس اندرسن (1805-1875). أما عبارة "العجائبي الواقعي" فقد استخدمت لأول مرة من قبل إدمون بيكارد عام 1887 وهو الذي طبقها على رواية الكاتب الفلمنكي البلجيكي  فرانز هلنس" (1881-1972) التي تحمل عنوان" الخارج-عن- الرياح" عام 1910. وبعد ذلك تابع  فرانز هلنس  العمل في بداية القرن الماضي حول الأدب العجائبي، وكتب كتبا باللغة الفرنسية منها "العجائبي الواقعي"، "الواقعية العجائبية"، "الواقعية العجائبية الجديدة"، " أساليب وسيمات" وكتبا أخرى تتضمن روايات ومجموعات قصصية.
  بعدما كان فرانز هلنس يتساءل  إذا ما وجب اعتبار الفانتاستيك جنسا أدبيا أم فقط أحد ميزات الأدب بشكل عام. عاد ونفى ذلك ليعتبر الأدب العجائبي فقط  نظرة، إحساسا،  تخيلا؛ أما تودوروف فقد يوافقه الرأي إلى حد ما، كون عبارة" الأدب العجائبي" بالنسبة له تعود إلى نوع من الأدب أو بالأحرى إلى جنس أدبي. وقد خصص كتابا للإجابة على هذا السؤال بعنوان" مدخل إلى الأدب العجائبي".  ووضع الأدب ألعجائبي بين جنسي الأدب الخارق والأدب الغريب.
   في بداية القرن الماضي، وبعد أن رفض تصنيفه كجنس أدبي، وضع الكاتب فرانز هلنس في كتابه بعنوان" العجائبية الواقعية" وجهتين للأدب ألعجائبي: الأولى خارجية والثانية داخلية.
  فيما يخص الفانتاستيك الخارجي، يستمد الكاتب شخصياته من بين" الكائنات الوسيطة". فأعمال هوفمان، بو، شميزو، غريم، سلمى لجرهوف تنتمي بالأخص إلى هذه الفئة. وفي هذا المضمار يضيف إدمون جَلو  الثيمه المتداولة  في الأدب العجائبي الخارجي عند الإنجليز و الألمان.  فالفانتاستيك الخارجي الأنجلو- سكسوني  تهيمن عليه الأشباح ، البيوت المسكونة، التواصل مع الأرواح وكل أنواع التنبؤات. أما الأدب ألعجائبي عند الألمان فالسحر يحتل المرتبة الأولى، بالإضافة إلى وجود الأقزام والجن والأرواح  وحوريات البحر والمشعوذين. بمعنى أن كل هذه الكائنات تلعب دور الوسيط. في هذه الحالة، الأمر يخص عنصرا روحانيا يؤمن بالروح وبعثها في الآخر. هكذا يبدو أن الفانتاستيك الخارجي الأنجلو-سكسوني  ذو طابع ديني،  والفانتاستيك الألماني ذو طابع بدائي.
  أما الفانتاستيك الداخلي، حسب فرانس هلنس، فهو نتاج روح شعرية. هنا الشخصية الرئيسة هو الكاتب نفسه: فشخصيته تتعدد، تتضاعف، تتحول، تمتزج مع المادة أو العنصر. فالأدب العجائبي شاعري في الأساس و يكمن  مصدر الإلهام في الخيال العاطفي الانفعالي . الشخصيات المبتكرة من قبل الكاتب في هذه الفئة هي ابتكارات وجدانية خالصة. فهذه الشخصيات هي الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة. فهو لم ينقل الواقع مع كل عناصره المرئية والطبيعية إلى مستوى فوق طبيعي، لكنه يجعل هذا الواقع يتحول، ويدمج مع الفوق طبيعي.  ومن بين  كتاب الفانتاستيك الداخلي نجد إميرسن، هولدلين وجن بول  وبشكل عام كل المتصوفين. فمثلا عند أفضل وأشهر كتاب الفانتاستيك، إدغار بو (1809-1849) وارنست هوفمان (1776-1822)، نجد  أن هاتين الوجهتين؛ أي الفانتاستيك الداخلي و الخارجي يتداخلان ويمتزجان مع بعضهما البعض. وهذا ما سنراه في قراءتنا بالتتالي لبعض القصص لإدغار بو وأحمد المديني وإبراهيم أحمد.
الفانتاستيك الخارجي
  يعتبر ارنست هوفمان  و إدغار بو من أهم الكتاب الذين كتبوا قصصا في الأدب العجائبي. لكن الفرق بين شخصيات كل منهما هو أن شخصيات إدغار بو هي " أموات بهذا العالم" حسب عبارة" وليام ولسن" (اسم بطل قصة  بو ويحمل عنوانها)  أما شخصيات هوفمان فهي مخلوقات تجري دماء الحياة في عروقها. من قصص إدغار بو في كتابه " قصص رائعة"، نستعرض ثلاث قصص بالعناوين التالية "إليونرٙ"، "موغلا" و"ليجيا".
  يستهل إدغار بو قصته "إليونرٙ" بملاحظة مثيرة بقوله أن"حلم اليقظة يمكًن الحالم من أن يحصل على معرفة آلاف الأشياء أكثر من الذي يحلم وهو نائم". ويبدأ الراوي وهو الشخصية الرئيسة قصته مستعملا الضمير المتكلم "أنا". يقسَم بذلك حياته إلى ظرفين زمنيين مختلفين. فترة زمنية واضحة الملامح التي تشكًل الجزء الأول من حياته ويجعل القارئ يتريث لسماع الفترة الزمنية الثانية التي تهيمن عليها الشكوك والظلمات. حيث يزعم أنه مجنون وأن ذاكرته ربما تخونه عند سرد قصته. فحبيبة الراوي التي تزوجها فيما بعد تسمى إليونرٙ وهي الابنة الوحيدة لخالته الوحيدة. فبعد مرور "خمس عشرة عاما من العيش يد في يد"، أحست إليونرٙ يوما "بأصبع الموت يوضع على صدرها". طلبت من حبيبها أن يعدها بأن لا يرتبط أبدا بأي فتاة بعد موتها. وكان لها ذلك. مرت الأيام وانتقل الراوي من الوادي الذي كان يقطنه مع حبيبته إلى مكان آخر. صادف أن التقى  بفتاة جميلة تدعى اغمنغارد. نسي الراوي وعده واللعنة التي ستلحق به وتزوج اغمنغارد . لكن إلينورٙ التي كانت دائما تزوره في وحدته وترافقه في خلوته وتملأ الجو بعطرها وحسها توقفت عن زيارته فجأة. وهنا بدأت الوساوس تدب في داخله.  بينما هو في سكون أحد الليالي ولمرة واحدة، وإذا بتنهدات لطيفة كانت قد فارقته فترة من الزمن تتسلل من خلال فتحات شباكه وتتحول إلى صوت عذب ومألوف لديه يقول له: "نم في سلام!" ويذكره بوعوده لإلينورٙ وبالحساب الذي ينتظره في السماء. وتكون بذلك نهاية لبداية حياة جديدة. يضيف شاغل  بودلير، في نهاية هذه القصة، وهو الذي قام بترجمة قصص كتاب إدغار بو المعنون " قصص رائعة"؛ إن الشاعر بو كان أيضا متزوجا من الابنة الوحيدة لخالته وكان ينوي الزواج مرة ثانية بعد أن فقدها. وما كتابة هذه القصة إلا تأكيدا للقيمة المعنوية لهذا الموضوع عنده.
   أما قصتا "موغلا" و"ليجيا" فتدوران كذلك حول نفس الفكرة: تتضمنان أحد مقومات الأدب ألعجائبي الداخلي و القاسم المشترك في هذه القصص الثلاث هو اعتمادها في الأساس على حلم اليقظة. لكن ثيمه الوسوسة، اللعنة، والقرين والانبعاث المستمدة من الأساطير تجعل هذه القصص تنتمي كذلك إلى ألعجائبي الخارجي. ففي قصة "إليونرٙ" و"موغلا" نجد مثلا دوام الروح في أجسام مختلفة. أما في قصة "ليجيا" فتصور لنا انتصار الإرادة على الموت.
  فالكاتب في قصة "ليجيا" يسرد حكايته في الواقع اليومي العادي؛ أحداث طبيعية يرويها لنا راو طبيعي. فقط بعد وفاة حبيبته بدأ يكتشف هويتها الفيزيائية والمعنوية. السيدة ليجيا، كما يسميها،  ماتت لكنها ما تزال تعيش بداخله وفي وعيه الثاني. وهو جالس أمام سرير موت زوجته الثانية "روينا " وإذا  به  يسمع صوت بكاء نابع من السرير ويبدو له، لا، بل إنه متأكد انه رأى ولاحظ أن وجنتي ليجيا احمرتا، ثم قام بترطيب  شفتيها بقطرات خمر. لكن مع الأسف لم تكن إلا قطرات الموت. فملامح الموت ما زالت بادية على وجهها. وفي رؤية ثانية وهو ما زال جالسا بجانب فراش موت زوجته روينا، رأى بأم عينيه  ليجيا تقوم من سريرها، تكشف الكفن عن وجهها وتقترب منه. وينسدل شعرها الطويل الأسود اللون  في أرجاء الغرفة وتفتح عينيها. إنه ما يزال يرى زوجته ليجيا بشعرها الأسود بدل الشعر الأشقر لزوجته روينا.  فالراوي يرفض عودة ليجيا إلى الحياة إلى أن تبددت شكوكه وأصبح الشك غير ممكن. فهو يعرف أن ليجيا تحب الحياة لذلك شهد عودتها إلى الحياة في جسم ضرتها. فكرهه لزوجته روينا  يجعله يستعيد ذكرى زوجته ليجيا. ولكي يجد تفسيرا عقلانيا لما يحدث معه يحاول أن يبرر هلوسته من خلال تأثير الأفيون عليه.
   أما في قصة "موغلا"، فإن الكاتب- الراوي المعجب بجمال موغلا الخارق دون أن يحبها، اكتشف أنها تقترب من الموت شيئا فشيئا. لكن من كثرة إعجابه بها وإشفاقه عليها تمنى موتها بأسرع ما يمكن. إنها تعرف أنه لا يحبها. وهي على فراش الموت، قالت له أنه سيحبها في "الموت إلى الأبد". وضعت موغلا فتاة  تشبهها تماما قبل موتها . فمن شدة الدهشة والإعجاب بهذا التشابه العجيب و الجمال الرهيب، لم يستطع الأب أن يسمي طفلته. لكن عند تعميدها همس في أذن القس: "موغلا". فسمع صوت طفلته يرد عليه: "أنا  هنا". لكن شاءت الظروف أن يخطف الموت أيضا ابنته، موغلا الشبيهة. وعند دفنها مع أمها، بقي الأب، الشخصية الرئيسة، أمام قبر الأم المفتوح مذهولا، لقد وجده فارغا. وإذا بنفس الصوت يهمس له من داخل القبر:" أنا هنا".
  هكذا بدأ الكاتب، الشخصية الرئيسة، قصصه الثلاث بسرد عادي وطبيعي لحياته ثم انتقل إلى ذروة القصة، إلى حدث فوق الطبيعي ثم يعود والمتلقي إلى محاولة إيجاد تفسير عقلاني لما حدث. ففي قصتي "موغلا" و"ليجيا" يشك الراوي-الشخصية الرئيسة في شهادة حواسه ويتردد فيما يسمع ويرى. هل هو يقظ أم في حلم؟ ونلمس في هاتين الحكايتين تأثير الحركة الرومانسية الألمانية الرائجة في ذلك الوقت. علما أن اهتمامات  إدغار بو قريبة جدا من اهتمامات هوفمان وتييري ونوفاليس فيما يخص فكرته عن الطبيعة، الجانب المظلم للأشياء وتبني ثيمه القرين، الموتى، التناسخ والتقمص والوسواس. ونرى تأثر بو بالأدب ألعجائبي الألماني واضح كذلك في قصته موغلا. فالراوي-الشخصية الرئيسة كان يشاركها قراءاتها. البطلة موغلا  كانت مولعة« بقراءات صوفية وبالأدب الألماني.» (ص306)

28
مليون نسخة من رواية "أوروخ" مجانا بالمكتبات العامة في هولندا
                                                                                                نجاة تميم 
   بمناسبة انطلاق التظاهرة الثقافية الوطنية تحت عنوان"هولندا تقرأ" والتي تقام من 23 تشرين الأول (أكتوبر) إلى غاية 20 تشرين الثاني (نوفمبر)2009، اختيرت رواية "أوروخ" للكاتبة الهولندية هيلا هاس لتكون هدية مجانية خلال هذه التظاهرة. والغاية من ذلك هو طرح موضوع الرواية، الذي ما زال شائكا، للنقاش في كل مكان وكذلك في المحافل الأدبية المقامة خصيصا لذلك. ففي عام 1948، اختيرت هذه الرواية، وهي أول رواية لهيلا هاس، من بين تسعة عشر عملا لكتاب آخرين، لـ "أسبوع الكتاب" ووزعت منها 145 ألف نسخة، مجانا، آنذاك، عند شراء كتب بمبلغ معين. أما هذه السنة فقد طبعت بالتحديد 923 ألف نسخة منها لكي توزع على المكتبات العامة بالمجان. ولقد سبق للكاتبة أن كتبت خصيصا لأسبوع الكتاب عام 1959 رواية بعنوان "هذا ما لا أعرفه أنا أيضا" وقصة "ترانزيت" عام 1994.
  وقد جرت العادة منذ عام 1932، في هولندا، أن يكلف كاتب أو كاتبة بكتابة رواية أو قصة أو بحث ضمن موضوع محدد سلفا لنشره خلال أسبوع الكتاب. ونفس العملية تطبق على "أسبوع كتاب الطفل" منذ عام 1955. ويكون هذا العمل هدية أسبوع الكتاب الذي يقام مدة عشرة أيام  في شهر آذار (مارس) من كل سنة ، ويقام أسبوع كتاب الطفل في شهر أيلول- تشرين الأول (سبتمبر- أكتوبر) من كل سنة أيضاً. أما فيما يخص التظاهرة الثقافية "هولندا تقرأ"، فقد كانت رواية "اللعبة المزدوجة" لفرانك مارتنيوس أريون قد دشنت هذه التظاهرة لأول مرة في هولندا عام 2006، وتلتها رواية "الفصل السعيد" للكاتب تيو تايساﱟ عام 2007. والعام الماضي، اختيرت رواية "امرأتان" لهنري مولش، الذي يعتبر من الكتاب الأربعة الكبار في هولندا. ووزع منها ما يقرب المليون نسخة.
  أما سر رواية "أوروخ" فيكمن في منشأ الروائية هيلا هاس. ولدت هذه الأخيرة بمدينة « بتافيا»، عام 1918، من أب مفتش عام بالإدارة المالية وأم عازفة بيانو. كبرت هيلا وترعرعت بجزر الهند الشرقية، المستعمرة الهولندية سابقا ، اندونيسيا حاليا . وهناك أكملت تعليمها الابتدائي والثانوي. وبعد حصولها على شهادة البكالوريا، غادرت إلى هولندا لكي تكمل دراستها الجامعية بمدينة « دلفت». يعرف عن الكاتبة غزارة إنتاجها، حيث يوجد أكثر من ستين عملا تحت اسمها؛ منها 25 رواية، سير ذاتية عديدة، بعض القصص والحكايات، عديد من المسرحيات ومجموعة من البحوث.
  يمكن تقسيم أعمالها إلى ثلاث مجموعات: الأولى تشمل أعمالا خيالية- معاصرة ، والثانية تاريخية ، والثالثة أندونيسية. وهي من الكتاب القلائل الذين ترجمت كل كتبهم إلى اللغة الفرنسية. وما زالت تقطن فرنسا منذ 1981 وكان معها زوجها الذي توفي عام 2008 وقد صدرت أعمالها في عشرين بلدا. كما حازت في هولندا على جوائز عديدة وشهادتي دكتوراه فخرية. وتعتبر من الكتاب القلائل الذين غمروا باهتمام كبير في فرنسا حيث مُنحت أعلى الأوسمة الفرنسية عامي 1995 و 2000. وفي عام 2004، تسلمت من "بياتريكس" ملكة هولندا جائزة الأدب الهولندي" عن مجمل أعمالها في احتفالية كبيرة.   
     نعود إلى رواية "أوروخ" التي صدرت في شهر شباط (فبراير) عام 1948، وصادف صدورها مطالبة اندونيسيا بالاستقلال وقد جاء اختيار لجنة التحكيم لـ "أسبوع الكتاب" لهذه الرواية ليدعم ذلك. وكان رد فعل الشارع بين معارض ومؤيد لاستقلال اندونيسيا.
  "كان أوروخ صديقي".  هكذا تستهل روايتها التي تبدو لأول وهلة وكأنها قصة صداقة حميمة بين طفلين؛ الشخصية الرئيسة "أنا" من أب هولندي موظف إداري و أوروخ من السكان المحليين. عاش الطفلان في الوسط الشاعري لجزر الهند الشرقية دون حدوث تصدع في صداقتهما إلا أحيانا عندما يستضيف البطل "أنا" زملاء هولنديين. فيضطر أوروخ للانسحاب ومراقبتهم من الحديقة. لكن التصدع الحقيقي يبدأ بعد أن أكمل الشخصية الرئيسة دراسته في هولندا وعاد إلى جزر الهند الشرقية للعمل  هناك.
  فكان موقف أوروخ كالتالي : فهو مع شعبه وضد المستعمِر و حتى ضد صديقه، هذا ما يبدو للراوي الشخصية الرئيسة "أنا". لم يستطع هذا الأخير أن يتفهم لا موقف أوروخ ولا موقف "ليدا"، الممرضة الهولندية التي تبنت قضية أوروخ وساعدته ماديا ومعنويا لكي يصبح طبيبا ويساعد السكان المحليين، كما أنه لم يستوعب التغيير الذي حصل لصديق طفولته. مما جعل الشخصية الرئيسة تتساءل عما إذا أصبح غريبا تماما عن البلد الذي ولد وترعرع فيه.
  إن رواية "أوروخ" تنتمي إلى أدب ما بعد الاستعمار. فهي تعالج المشكلة الأساسية المتعلقة بنزاع الهوية. لقد أثارت هذه الرواية عام 1948 ضجة وأحدثت انقساما في صفوف الرأي العام. يضيف (غبنسن تيالي) المناصر للقضية الأندونيسية أن هيلا هاس كامرأة هولندية بيضاء لم تكن تعي الكثير عن العلاقات الاستعمارية. أما باميلا بتينما، أستاذة كرسي بقسم الأدب والثقافة الهولندية الأندونيسية بجامعة أمستردام والتي هي بصدد الكتابة حول ذاكرة ثقافة ما بعد الاستعمار، فإنها تجد أن هيلا هاس وبعد 54 سنة على كتابة رواية "أوروخ" استدركت أخيرا وأصدرت رواية بعنوان " فتحة القفل" عام 2002 وذلك لكي تعيد الاعتبار لقراء "أوروخ" الذين وجدوا أنفسهم في شخصية أوروخ وما تحمله من ملامح الثقافة الاستعمارية. وبالإضافة إلى هاتين الروايتين، فقد كتبت هيلا هاس رواية ثالثة؛ "رجال الشاي" عام 1992، وهي مستوحاة من الثقافة الإندونيسية والتي اعتمدت فيها على مصادر تاريخية تتعلق بالاستعمار في القرن التاسع عشر.
  فمن يقرأ روايتي "أوروخ" (1948)، و"فتحة القفل" (2002) مرورا برواية "رجال الشاي" (1992)  يجد أن الكاتبة استطاعت أن تساهم بكتاباتها في المحاولة الوطنية للتخلص من أعباء الماضي الاستعماري الهولندي وفي تعزيز نوع من المصالحة مع الآخر ، ويتجلى ذلك في  إصدار ترجمة رواية "أوروخ" لأول مرة في إندونيسيا، هذا من جهة ومن جهة ثانية تكليف الكاتب والروائي الهولندي، من أصل مغربي، عبد القادر بن علي بكتابة بحث ونشره بهذه المناسبة حول "التعايش داخل الثقافات المتعددة".
   



29
مفهوم  الباريسيا
وشجاعة قول الحقيقة عند ميشيل فوكو
نجاة تميم
     "  لوفاة سقراط قيمة حتى في لُبً العقلية الغربية". ميشيل فوكو
  دشنت المحاضرات التي ألقاها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو خلال الفترة 1982-1984  في كوليج دو فرانس بداية بحث حول مفهوم الباريسيا Parrèsia وذلك من خلال إعادة قراءته للفلسفة اليونانية القديمة ودراسة وتحليل تطور هذا المفهوم وعلاقته بالسياسة والفلسفة وأزمة المؤسسات الديمقراطية الإغريقية في القرن الرابع قبل الميلاد. يذكرنا فوكو بأن المواطن الإغريقي  يصعد على أغورا (ساحة عامة)، غير خائف من أن يقول ما يفكر به والصديق  يقول لك ما لا تريد سماعه أو أيضا المستشار الذي يرفض مجاملة الملك رغم مخاطرته بحياته، وهناك، بالتأكيد، حسب قوله، طرق أخرى كثيرة لقول الحقيقة : كالحكمة، والنبوة والتعليم.
  ظهرت كلمة "الباريسيا" في الأدب الإغريقي لأول مرة من خلال التراجيديات الستة لأوريبيدس (حوالي 484-407 قبل الميلاد) واستمر وجودها في كتب اليونان القديمة إلى القرن الخامس بعد الميلاد. الباريسيا تعني إيثيمولوجيا قول كل شيء. فالباريستس يقول كل ما يفكر به، لا يخفي شيءً. فهو يقول الحقيقة للآخرين، متوخياً مصلحتهم ومساعدتهم. يقول بكل صراحة ما يريد قوله دون أن يستعمل فنون الخطابة، يتكلم بوضوح وإقناع بحيث يفهمه المتلقي.
  هناك نوعان من الباريسيا؛ النوع الغير مستحب وهو كلام تمويهي يستعمله في بعض الأحيان السياسيون ورجال الدين للنهي والإقناع وقد لا يمت للصحة بشيء. وهذا ما يسميها أفلاطون بالديمقراطية السيئة بمعنى إذا تمكن أي شخص من أن يوجه حديثه للناس ويقول ما يريد فليس هو بالضرورة "باريستسا". فهذا النوع من الباريسيا لا نجده في نصوص الكلاسيكية القديمة لكننا غالبا ما نجد فقط االباريسيا الإجابية.
  فالباريستس ليس صادقا فحسب ويعبر عما هو مقتنع به وإنما متأكد  من قوله للحقيقة ومن صحة رأيه. وما يميز الباريسيا عن أنواع الخطابة هو أن هناك دائما توافقا دقيقا بين الإقناع والحقيقة. أما الشروط التي يجب أن تتوفر في الباريستس فهي ميزاته الأخلاقية؛ فيكون، بذلك، له الحق للوصول إلى الحقيقة والتكلم عنها وإيصالها للآخرين لتوعيتهم وحثهم على أعمال حميدة تصب في صالحهم وفي صالح بلدهم. الفيلسوف مثلا ينتقد الطاغية وهو يعرف جيدا أنه، على الأقل، سينفى أو يعدم لكنه مع هذا يجد في نفسه الشجاعة ويعتبر قوله للحقيقة واجبا يؤديه للمصلحة العامة والأهم في ذلك أنه غير مجبر على فعل ذلك. وهذا ما حدث مع أفلاطون الذي واجه الطاغية دنيس سسيليا بأعماله لذلك غضب منه وحكم عليه بالعبودية.
  كانت  الباريسيا تعتبر ثاني ركائز الديمقراطية في أثينا. فهي مفهوم سياسي. وتعمل من الأسفل إلى الأعلى ومن الداخل إل الخارج أي يواجه الباريستس الشخصية الأعلى مرتبة منه بما يدور في داخله. أما الركيزة الأولى فهي "إسيغوريا" وتعني حرية التعبير. لكن الباريسيا الحقيقية اختفت من أيامنا هذه. ويحاول فوكو إحياءها والاستماع إلى دقات نواتها.
  إن الباريسيا تؤثر، في نفس الوقت، على الذي يمارسها وكذلك على الذي تُمارس عليه. تغضب، نعم، لكنها وسيلة كل واحد منا للوصول إلى حقيقته وبمعنى أدق إلى نفسه. فهي" قلق الشخص على نفسه" أو هوس الذات. فما يوضحه فوكو هنا هو دراسة وتحليل" الرسالة  السابعة "و"أ بولوجيا" سقراط و"ألسبياد" أفلاطون. إن قلق الشخص على نفسه وقلقه على الآخرين هما وجهان لضرورة واحدة تكمن في وصول كل منا إلى أعماق نفسه والاعتناء بها بحيث يمكن للشخص تغيير حياته وطريقة عيشه وحتى نفسه.
  كيف أستطاع  سقراط أن يقول الحقيقة لسكان أثينا بحيث عرَض نفسه للموت؟  الجواب :" لكي يحثهم على الاعتناء بأنفسهم، ليس بثرواتهم ولا بسمعتهم ولكن باهتمامهم أولا بأنفسهم، وبمعنى أخر، بحكمتهم، وبالحقيقة، وبروحهم. فأن يهتموا بأنفسهم فهذا أساسي جدا."
  من المهم أن نقارن هنا بين مفهوم الباريسيا والمفهوم الديكارتي الحديث. فديكارت يعتمد على البرهان الذي يستنتجه عن طريق التجربة لكي يصل إلى الحقيقة، لكن هذا لا يعني أنه متأكد  مما يعتقده في الواقع صحيحا ويمثل الحقيقة، عكس الباريستس الذي لن يساوره الشك أبدا فيما سيقول.
  يبني فوكو، في المحاضرات التي ألقاها عام 1984، شخصية فلسفية يجد نفسه فيها: بعد إعادة قراءة المفكرين اليونانيين القدامى وتحليل مفهوم الباريسيا والتحكم في النفس والاهتمام والاعتناء بها فهو يؤكد تسجيل نفسه في الحداثة الفلسفية؛ ويطرح إشكالية وظيفته ويحدد طريقة تفكيره ووجوده.
  ما يفهمه فوكو وديميريل من عبارة سقراط  الأخيرة والشهيرة لِكْريتون ؛إعطاء  قربانا لإسقلابيوس (إله الطب لدى القدامى)، هو إحساس عميق بالعرفان للفلسفة التي تشفي من الأمراض الخطيرة: مرض الآراء الخاطئة والأحكام المسبقة. فما يشغل فوكو هو مسائلة وظيفة "قول الحقيقة" في السياسة حتى يتسنى لنا أن نضع عددا من الشروط الأخلاقية للقواعد الأساسية للتوافق ما بين: شجاعة قول الحقيقة والإقناع. "كما أننا لا يمكننا أن نثبت لبنات الحقيقة دون الأخذ بالاعتبار الوضعية الرئيسة للغيرية. الحقيقة، ليست دائما هي نفسها. لا يمكن أن توجد حقيقة إلا في عالم الآخر والحياة الأخرى."حسب قول فوكو.
   لم تكن آخر محاضرة لميشيل فوكو، التي ألقاها، في كوليج دو فرنس، قبل أشهر من وفاته يوم 25 حزيران (يونيو) 1984، وثيقة تاريخية فحسب وإنما أيضا مثلا مدهشا لما حاول الفيلسوف التفكير به وهو "شجاعة قول الحقيقة". فوكو يعرض في هذه المحاضرة سيرورة "قول الحقيقة، الصراحة" من أيام الإغريق-الرومان ويربطها بما يجري بأيامنا هذه.
   عن طريق الباريسيا، يوظف المتحدث حريته ويختار الشجاعة بدلا من القناعات، الحقيقة بدلا من الكذب و التزام الصمت، المخاطرة بحياته بدلا من حياة آمنة، النقد بدلا من المجاملة والواجب الأخلاقي بدلا من المصلحة الخاصة. وكان سقراط أول من استعمل هذه الطريقة. يبدو، حاليا، أن هذا النوع من الخطاب أصبح معزولا مقابل أنواع أخرى من الخطابات: كالخطاب العلمي الذي يحدد أشكال قول الحقيقة، الخطاب السياسي الذي يطرح تساؤلات حول بُنية النظام السياسي وخطاب المواعظ الذي يحدد أصول السلوك.
   حرص ميشيل فوكو، بعد تعيينه بروفسورا لكي يشغل كرسي " تاريخ أنظمة الفكر" بكوليج دو فرانس ابتداءً من12 نيسان (أبريل) 1970 إلى يوم وفاته عام 1984، على نشر ملخصات محاضراته لكل سنة دراسية. لكن بسبب مشاكله الصحية، لم يستطع ذلك في السنوات الأخيرة من حياته.
 وقد صدر له،عام 2004، كتاب باللغة الهولندية يحمل اسمه بعنوان "الباريسيا، شجاعة قول الحقيقة" وهو في الأصل ترجمة لستة محاضرات مُسجَلة ألقاها الكاتب والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية في خريف 1983. وصدر له كذلك،عام2008، مجلدان باللغة الفرنسية تحت عنوان " التحكم في النفس وفي الآخر"(الجزء الأول)  و" التحكم في النفس وفي الآخر: شجاعة قول الحقيقة"(الجزء الثاني) عن دار النشر كاليمار. حررت من قبل فرانسو إوالد وألساندرو فونتانا. وهي محاضرات ألقيت من قبل فوكو في كوليج دو فرانس ما بين عامي 1982 و1984. إن نشر هذه المحاضرات التي لا غنى لنا عنها والتي أصبحت متوفرة شيئا فشيئا تمكننا من الوصول إلى الفكرة الفوكولدية التي ما زالت حية وبقوة.

30
Aime Cesaire
شاعر الزَنْوجة
                 نجاة تميم
    يرجع الفضل الأكبر لإفتخار سكان جزر الأنتيل كونهم سودا إلى  الشاعر والسياسي المارتنيكي إيمي سيزير. فخلال دراسته "بالمدرسة العليا للأساتذة " بباريس، أسس مع صديقيه الرئيس السابق لجمهورية السنغال الشاعر ليوبولد سيدار سينغور والشاعر الغيني ليون داماس مجلة أدبية إسمها "الطالب الأسود" عام 1934. وفي هذه المجلة ظهر لأول مرة مصطلح "الزنوجة" الذي أصبح فيما بعد حركة تهدف إلى تغيير المفهوم السلبي للزنجية.
  كتب إيمي سيزير عددا من المسرحيات مثل "تراجيديا الملك كريستوف" عام 1963 و"موسم في الكونغو" عام 1966. أما في الشعر فقد أصدر "الأسلحة العجائبية" و"الشمس المقطوعة العنق". ومن أبرز أعماله الأدبية "مذكرات العودة إلى الأرض الأم" الذي نشر عام 1935 وقد كتب مقدمته أندريه برتون، الشاعر الفرنسي والمنظر للحركة الأدبية والفنية السريالية في فرنسا، الذي أصبح فيما بعد صديقا له. يعتبر إيمي أحد أبرز وجوه تيار "الزنوجة" في الشعر الفرانكفوني ورمزا للحركة المناهضة للإستعمار. كما أنه تقلد لسنوات عديدة مهمة عمدة فور دو فرانس من عام 1945 إلى 2001. وقد ساعده على إعتلاء هذا المنصب الحزب الشيوعي الفرنسي الذي غادره غاضبا، إثر تدخل الإتحاد السوفياتي في أحداث 1956 في هنغاريا، ليشكل بعد ذلك الحزب التقدمي المارتنيكي.
  ولد هذا الشاعر والكاتب المعادي للاستعمار سنة 1913 بجزيرة المارتينيك التابعة لفرنسا حيث قضى عمره وهو يدافع عن مصطلح " الزَنْوجة"، الذي يهدف من خلاله أن يعيد إلى الإنسان الأسود  كرامته المهدورة بالعبودية.
    ويقول : رغم مرور قرون عديدة من الخزي والعار الَلذين وصما الحضارة الإنسانية بسبب العبودية، فإن الدم الإفريقي ما زال يغلي في عروق سكان جزر الأنتيل. أما الصدى الذي لاقته أشعاره ونثره وكتاباته ومسرحياته فقد بدا واضحا جدا عند وفاته، العام الماضي، يوم 17 ابريل 2008 بجزر المارتنيك. حيث رافق حشد كبير من الناس وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي "بابا إيمي" إلى مثواه الأخير في تشييع رسمي وشعبي يذكرنا تماما بمراسم تشييع فكتور هيغو.

31
كلود ليفي- شتراوس وعيد ميلاده المائة

   ولد كلود ليفي-شتراوس في بروكسل من والدين فرنسيين سنة 1908. ويرجع الفضل له في وضع أسس الانثروبولوجيا الحديثة في خمسينات القرن الماضي من خلال أعماله في أنظمة القرابة.
   يوم الجمعة 28 نوفمبر( تشرين الثاني) 2008، قام الرئيس الفرنسي نيكولاي سركوزي بزيارة الانثروبولوجي كلود ليفي- شتراوس في بيته بمناسبة عيد ميلاده المائة، وذلك لتهنئته والتعبير له عن تقدير الأمة الفرنسية بأكملها له. كما هنأه كذلك الرئيس السابق جاك شيراك. 
  وبهذه المناسبة، أعلنت وزيرة البحوث فليغي بيفغس أن الانثروبولوجي ليفي شتراوس قد وافق على إعطاء اسمه لجائزة وطنية للعلوم الإنسانية والاجتماعية. وهي عبارة عن مائة ألف  اورو تمنح كل سنة لأحسن باحث يعمل  في فرنسا في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.
  فبين أول كتاب لليفي-شتراوس "البنيات الأولى للقرابة" وأخر كتاب  "سودس دو برازيل"              هناك خمسون سنة من البحث و العمل . ومن أهم أعماله "مدارات حزينة" الذي صدر عام 1955. وهو عبارة عن توافق ملاحظات خاصة في تقرير سفر عن رحلة علمية واثنوغرافيا أربعة شعوب هندية بالبرازيل وثقافة فلسفية جديدة  وقوية، كتب هذا الكتاب بأسلوب سردي محترف وقد كان السبب في بداية شهرته.
  وبهذه المناسبة كذلك، عيد ميلاد كلود ليفي-شتراوس المائة، صدر للكاتب والفيلسوف الهولندي توم لميغ كتابا عن كلود ليفي شتراوس.  يبدو أن لميغ معجب بشخصية الانثروبولوجي الفرنسي كالعديد من مثقفي وأكاديميي جامعة لايدن بهولندا  فترة السبعينات. وهذا واضح من شعبيته عند تقديرهم له ومنحه جائزة إرازموس عام 1973.
   لم يتطرق توم لميغ في كتابه للبنية والبنيوية الانثروبولوجية عند ليفي- شتراوس وإنما لأوجه أخرى لا تقل أهمية لكنها معروفة أقل عنه، مواضيع كالموسيقى والفن والأدب. وقد تناول السيرة الذاتية للفيلسوف والانثروبولوجي الفرنسي لتوضيح ما علاقة التزام العالم بمضمون أعماله. فتأثير أفكار ليفي-شتراوس على العديد من العلوم الإنسانية (الثقافية)، الانثروبولوجيا، علم الاجتماع ،الدراسات الأدبية والفلسفة، أدت بأجمعها إلى محاولة راديكالية وجديدة حول الإنسان وفهم عالمه.
   درس كلود ليفي-شتراوس الفلسفة بباريس لكنها لم تلبي طموحاته المعرفية. فخلال الحرب العالمية الثانية، وتحديدا سنة 1941، غادر باريس إلى أمريكا حيث كون نفسه هناك انثروبولوجيا وعالم اجتماع. وهناك في أمريكا وجد نفسه بين نخبة يهودية أمريكية وأوربية. استطاع من خلالها  أن يستفيد من مكتبات كبيرة جدا وغنية. وبذلك سنحت له الفرصة لكي يتعمق في مخطوطاته التي دونها خلال سفرته العلمية بالبرازيل عام 1935،
   فكان آنذاك معجب بالانثروبولوجي  فرانز بوس (1858-1942) الألماني ذي الجذور اليهودية والمقيم في أمريكا منذ 1887. بعد ذلك أصبح ليفي-شتراوس انثروبولوجيا كبيرا لكنه كعادته لا يكتفي بما وصل إليه وإنما يصر على الاستمرار بالبحث عن ما هو مخفي. فاتجه إلى بنيوية اللسانيات التي ظهرت في بداية القرن العشرين على يد النمساوي سسور. وبعد السيميائية فالأعوام التي قضاها ليفي شتراوس في أمريكا سمحت له أن يلتقي بالعالم الروسي جاكوبسون وتيار اللسانيات.
  إلى جانب انثروبولوجيا بوس ولسانيات سسور أضاف ليفي-شتراوس إلى انثروبولوجيته علم الاجتماع الذي كان مؤسسه ايميل دوكهايم في شكله الفرنسي (1917-1958). وقد أهدى ليفي-شتراوس دوكهايم ديوانه الذي يتكون من  مجموعة مقالات  ويحمل عنوان " االانثروبولوجية البنيوية" عام 1958.
   يعتبر ليفي- شتراوس، الذي انتخب عام 1973 عضوا في الأكاديمية الفرنسية ،ذي الأربعين عضوا "الملقبين  بالمخلدين"، أول عضو في تاريخ الأكاديمية يتعدى عمره المائة، علما أن بوفيي دو فنتىيل وافته المنية عام1757، فقط ثلاثة أسابيع قبل أن يطفئ شموعه المائة.     

 
نجاة تميم

صفحات: [1]