المحرر موضوع: كولون غنّي بفرح وآنه الهموم اغناي‬  (زيارة 499 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل يوسف الموسوي

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1150
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

الشاعر الذي ادمن الغربة
جبار الغزي
قراءة عقيل هاشم
يكولون غنّي بفرح وآنه الهموم اغناي
بهيمه ازرعوني ومشوا وعزّوا عليّه الماي
نوبه انطفي ونوبه اشب وتايه بنص الدرب
في ليلة مظلمة من ايام الشتاء الماطرة عام 1985 وجدوه تحت جسر الجمهورية جثة هامدة ولانه دون مستمسكات نقل الى الطب العدلي لمدة عشرة ايام ، ومن ذا الذي بوسعه أن يتعرف عليه وقد غيّرت ملامحه سنوات الصبر والتشرد، فكان غريبا يعاني الفقدان ,الاهل والمدينة والفتاة الت احبها..
في شطرة الناصرية مسقط رأسه، شب شاعرنا الغزي تولد 1945. والذي سيصبح شاعر الغربة جبار الغزي مُبكراً ليمارس طقسه اليومي في كتابة نصوص اللوعة ، حيث يتفقد روح المدينة وحنان الام .كل مساء، تجده قد اقتعد كُرْسيا في أحد المواخير ، يعب كأس الحزن ،
عندما تقترب إليه يبش في وجهك ويبادر بمحادثتك، رافعا عنك كل كلفة للكلام والتقرب إليه. سر غريب يجذبه لهذه الامكنة . لا غنى لأحدهما عن الآخر.
محاولاته الشعرية الاولى بدات من علاقته ب فتاة احبها واستمر يبحبها هذه السيرة المتشابكة يعتقد أن حياته انتهت يوم فارقها ولم يتزوجها .
والمتتبع لشعره يجده محتفيا بالحبيبة والمكان والغربة . كأنه يكتب ما يستعيده وما يتذكره ويتخيله؛ عابر، لا زمني ومُتخيل بالفعل. وهكذا، في شعره حاجة وجودية من أجل أن يحيا في كل مرة من جديد،
ومن أجل أن يبعث ذاته من رفات النسيان، ومن أجل الحياة في طبيعتها الفطرية. فالأشياء والكائنات والأحاسيس والأفكار النابعة من زمن الطفولة الضائعة تظل في هذا الشعر ذات بريق خاص ودلالات سحرية معينة ونكهات روحانية غريبة، وسط مناخ مشحون بالمشاعر والأخيلة والأحلام.
داره البسيط ببابه الذي يصر، عاش مع أمه مثل ندبة تزهر، ولم يكن له من الأصدقاء في أول الأمر سوى عدد قليل الشعراء الذين سيذوق معهم طعم المعاشرة الروحية، قبل أن تتوطد علاقته بأقرانه من المطربين كونه يكتب النص الغنائي الذي وجد نفسه فيه .
عندما استجدت وقائع في حياته الشخصية وفي المحيط الاجتماعي حوله، وعندما أخذت ترد عليه أخبار ليست عادية في مدينته أصلا. سافر الى بغداد ليبتعد عن ماينغص حياته وعمل في مهن تافه سرعان ماتركها وراح يتسكع في الطرقات.
كتب عشرات القصائد في تلك الفترة , وفي قصائده الأولى، كان الشاعر مثل غيره من مجايلي عصره يكتب القصيدة التي تنصت لهواجس الذات في علاقتها بالواقع وإكراهاته التي طبعت في رسم المشهد الماساوي لمسيرة حياته.
، لكن بدرجة أخف لها؛ بعد أن احتمى مُبكرا بمشاغله الذاتية من رومانسية واقعية إلى أخرى رؤياوية أكثر تحررا.
ما جعل شعره يتأبى على التصنيف والارتهان لمرحلة زمنية معينة، إلا أن حدثا بارزا هو الذي حسم إلى غير رجعة في خياره الكتابي، ومن ثمة تغير في مفهومي للكتابة. فتح عينه على الواقع وخارج الذات، ثم سرعان ما أخذت أمزج أكثر بين الذات والواقع.
هكذا انبثقت جراح الذات، فانفصلت الذات إلى ذاتين: ذات في المدينة وذات في الغربة، واستمرا في ذلك برزح تحت عوامل الفقد والضياع الحقيقية .
وفي انحيازه الواضح إلى كتابة الذات، نتبين في شعره تآلُفا مُثْمرا بين الهم الجمالي والواجب الإنساني على نحو يعيد تسمية الأشياء ويرقى بالذائقة الفنية وموحيات القاموس الشعري. والأهم أن هذا الفعل الشعري كان يتم بأسلوب شعري بسيط لا غموض فيه ولا تعقيد، ما يجعل تأثيره في القارئ متحصلا وفاعلا.
هو يكتب بلغة يفهمها الاخر البسيط ، لغة بسيطة. لا أفتعل فيها ، بسيط كل البساطة. تجمعه بالأشياء بساطةُ في عمقها وصفائها. ولهذا، تتميز كتابته الشعرية بهذا الصفاء.
الذي ما زال يسكنه ويُوجهه على نحو ما تدهشه أشياء ألفتُها كثيرا،
تخيّل جبار الغزي أن تلك الجنوبية لا تتردد في التحدث مع من تشاء الا معه فيسألها عن الذي عوّدها ان تنساه..
يحاجي الناس كلها وما يحاجيني
يداري اهروش غيري وما يداريني
كلي اشعودّك يا ترف تنسانه
تجي وتروح ما جن عينك بعيني
نؤكد أن القصيدة كما كتبها الشاعر الغزي وحلُمَ بكتابتها، وما ينشده في مثل قصيدته الدائمة والتي لا إقامة لها، غايتان: البوح بما يضج في السريرة من صخب لا ينتهي، وبما يمور في ضمير الكون من أصداء وتموجات وبما يعتمل في سويداء الحياة ومكنوناتها في الوجود الإنساني من الدهشة والشك، وتحرقتْ أشواقه بما يراه ولا يراه من غربة الذات .
يكتب همومه وفقد الاحبة والخذلان عبر قصيدة ذات نفس شعري قصير، فيلتقط مخايلها وأسرارها في تفاصيل الحياة المنسية، بكثافة شديدة وشفافية عالية وذائقة فنية قادرة على أن تختزل الموقف في لقطة عابرة أو في تفصيل عابر، يجعل من وعي الأنا بما حواليها بؤرته الحادة. وهو، عبر هذه المعاني، مثل الشاعر النساج الذي لا يغزل وحسب، بل يتابع ببصره وبصيرته ما يقع منه ويضعه في نسيج اللغة ببساطة مدهشة.
غريبة الرووووووح لا طيفك يمر بيها
ولاديرة التلفيها..
ولم تنفك القصيدة كنمط كتابة ومشروع إقامة في عالم الغناء فقد غنى له عدد المطربين من الصف الاول و، عن مسار تطور الاغنية العراقية كانت لنصوصه المعادل الموضوعي لحضور اغنية المدينة .ربما هذا يعكس الوعي قلق الكتابة وخبرة الشاعر في استلهام المفردة .اقول فقد ظلت هذه القصائد منحازة، باستمرار، إلى تدوين ذاته وسيرته , هذه هي السيرة: سيرة إنسان وجد نفسه شاعرا في عالم فقد الناس الاصغاء والتذوق ،