قصة قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي – الجزء الأول
بدأت فكرة تدمير المفاعل العراقي (تموز) الذي بنته فرنسا في بغداد بعد ان دمر عملاء الموساد المفاعل السابق الذي صنعته فرنسا وهو في ميناء التصدير الفرنسي .
فكر مناحيم بيجن رئيس وزراء اسرائيل اعادة تدمير المفاعل الجديد الذي أعيد بناؤه في بغداد من قبل الخبراء الفرنسيين بعد إعلان فرنسا عن قرب تشغيل المفاعل العراقي الجديد الذي بنته فرنسا . لكن المخابرات الإسرائيلية كانت قد جندت أحد الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل في بغداد لتزويدها بالمعلومات التي تطلبها عن المفاعل العراقي في جنوب بغداد .
كلف مناحيم بيغن الموساد بإعداد خطة وتنفيذ وسيلة لتدمير مفاعل تموز العراقي من قبل عملاء الموساد من الأكراد المتعاونين معهم في بغداد . ولكن الخطة فشلت لصعوبة تنفيذها، ثم درست الموساد خطة اسقاط مظليين اسرائيليين قرب بغداد لتنفيذ عملية التدمير، لكن الخطة فشلت أيضا لصعوبة تنفيذها عمليا، واعلن رئيس الموساد عدم امكانية تدمير المفاعل بقوات ارضية لأن هذا مستحيل التنفيذ.
طلب مناحيم بيغن رئيس الوزراء من قائد القوة الجوية الإسرائيلية إعداد خطة متقنة لقصف المفاعل العراقي بالطائرات من الجو . فوعد القائد بدراسة وإعداد خطة ملائمة لهذه المهمة .
وضعت الخطة وتم التدريب على تنفيذها لمدة عام كامل، وقد كانت مهمة صعبة جدا .
خطة الهجوم لتدمير المفاعل العراقي في بغداد من الجو كما يلي :
1- بعد حساب مسافة الطيران من قاعدة جوية اسرائيلية في صحراء النقب الى بغداد ذهابا وإيابا تبين ان المسافة تساوي بحدود 2000 كم . ولم يكن وقود الطائرات يكفي لهذه المسافة بكامل حمولة الطائرة F-16 مع معداتها الكاملة ، لذا وجب التخلص من المعدات الغير ضرورية بالطائرة قبل الإنطلاق لتقليل وزنها كي لا تستهلك وقودا كثيرا .
2- تدريب الطيارين المختارين المكلفين لتنفيذ المهمة على الطيران البعيد لمسافة 2000 كم فوق صحراء سيناء جنوبا ثم الاستدارة من جنوب البحر الأحمر والعودة فوقه الى إسرائيل للحصول على مسافة طيران تدريبية تعادل 2000 كم طيران بدون توقف .
3- تصنيع ماكيت أي نموذج مبني بما يشابه بناية المفاعل النووي العراقي في الصحراء و التدرب على قصفه بدقة .
4- اختيار ثمانية طائرات نوع F16 تحمل كل منها قنبلتين مجموع وزنها 2 طن . وتزويد كل طائرة خزانين للوقود الإضافي لزيادة مدة الطيران لمسافة أبعد . مع التخلص من أي معدات غير ضرورية لتخفيف وزن الطائرة لتقليل استهلاك الوقود .
5- تقوم سبعة طائرات نوع F-15 لتقديم الحماية والدعم الجوي إذا ما تعرضت الطائرات القاذفة لطائرات عراقية مضادة واشغالها في معركة جوية للسماح للقاذفات F16 لتنفيذ مهمتها فوق بغداد بنجاح .
6- يتم بدء القصف على بناية المفاعل في الساعة السادسة والنصف مساء وهو وقت تبديل الحراسات في أبنية المفاعل . ويتم التنفيذ في عصر يوم سبت / الأحد للتمتع بعطلة نهاية الأسبوع، وبعد انصراف الخبراء الفرنسيين وخروجهم من المفاعل كي لا يصابوا باذى .
7- تنطلق الطائرات المكلفة بالمهمة من قاعدة عتسيون الجوية في صحراء النقب ثم العودة اليها . وتطير بارتفاع واطئ جدا 30 متر فوق الأرض ، يكون الطيران فوق الصحراء بين الحدود الأردنية والمملكة العربية السعودية . تجنبا للرادارات العربية. حين وصولها الى الحدود العراقية تطير بارتفاع عال.
8- عند مرور الطائرات الإسرائيلية فوق الأراضي السعودية يتم اقفال الإتصالات اللاسلكية فيما بين الطيارين و كذلك مع القاعدة الجوية تجنبا لكشفها من قبل أجهزة الرادارات السعودية المتطورة
9- عند الوصول للحدود العراقية ، ترتفع الطائرات الى مستوى عال مع زيادة سرعة الطيران .
تنفيذ العملية
أقلعت الطائرات الثمانية المحملة بالقنابل الثقيلة من قاعدتها بصعوبة بالغة في مؤخرة المدرج بسبب وزن القنابل مع تحميلها باكبر كمية كبيرة من الوقود في الخزانات الأصلية للطائرة و الخزانات الاحتياطية المحمولة تحت الأجنحة.
عبرت الطائرات خليج العقبة على ارتفاع واطئ، وكان بالصدفة الملك حسين وعائلته في رحلة استجمام باليخت الملكي في الخليج، و من أثر العصف للعدد الكبير للطائرات الواطئة فوق الخليج اهتز اليخت الملكي بشدة، فخرج الملك حسين الى شرفة اليخت وشاهد أسراب الطائرات الإسرائيلية فوق اليخت وهي تتجه شرقا، لكنه لم يعرف السبب واعتقد ان الإسرائيليين في عملية تدريب جوي .
في نهاية حدود الصحراء السعودية وبعد نفاذ الوقود في الخزانات الاحتياطية أسقطت الطائرات خزانات الوقود الاحتياطية لانتفاء الحاجة لها، وتخفيف وزن الطائرة ذات الحمولة الثقيلة (2 طن من القنابل).عدا وزن الطائرة والوقود . ولزيادة سرعة الطائرة ، ولتسهيل المناورة فوق الهدف .
اثناء دخول الطائرات الإسرائيلية المجال الجوي العراقي، كان رجال الدفاع الجوي العراقي لمدافع المضادات الأرضية وقواعد صواريخ سام المضادة للطائرات منشغلون بتبديل المناوبة مع زملائهم للوجبة التالية، ولسبب غير معروف حتى للموساد قام مشغلو الرادارات لصواريخ سام بإطفائها ، فصار عجز تام في الرادارات على الحدود الغربية لكشف أي هدف قادم من تلك الجهة . وقد كان بإمكانها كشف الطائرات الإسرائيلية القادمة من الغرب بسهولة ، كما يمكنها التشويش على الطائرات الإسرائيلية .ولكن للأسف لم يحدث هذا . وقد اندهش الطيارون الإسرائيليون لعدم كشفهم من الرادارات العراقية ولم يتم التصدي لهم بأي طائرة عراقية مقاتلة .
كان العراق في ذلك الوقت منشغلا بحربه مع ايران، وكانت أنظار قواته متجهة للجهة الشرقية من الحدود والأجواء لرصدها تحسبا من هجمات إيرانية . ولهذا بقى المجال الجوي مفتوحا للطيارين الإسرائيلين يصولون ويجولون بلا تهديد عراقي من الحدود الغربية .
لم يتوقع العراقيون أي هجوم يأتيهم من الحدود الغربية عبر الأجواء الأردنية.
ارتفعت الطائرات الإسرائيلية المغيرة داخل الأجواء العراقية الى 4000 إرتفاع قدم . فتحت راداراتها لكشف الأجواء أمامها ، فاندهش الطيارون لعدم كشفهم من قبل الرادارات العراقية وعدم وجود طائرات مقاتلة عراقية تعترضهم. وصلت هدفها في بغداد في الساعة السادسة والنصف مساء، وانقضت على الهدف المحدد لها وهو بناية المفاعل النووي العراقي . أسقطت قنابلها الثقيلة وكان مجموع القذائف الساقطة على الهدف 16 قنبلة ، أحدثت انفجارات هائلة وحرائق كبيرة . ودمرت المفاعل النووي تدميرا كاملا خلال دقيقتين .
ولم يتم إطلاق صافرات الإنذار في بغداد بسبب الهجوم المفاجئ !
بعد تفريغ حمولة الطائرات من القنابل ، أصبح وزن الطائرات خفيفا، وانطلقوا في رحلة العودة بأقصى سرعة عبر الأجواء الأردنية باتجاه القاعدة التي انطلقوا منها.
وتجنبوا أي مواجهة مع الطائرات العراقية اذا ما ظهر أمامهم .وكانت لدي القاذفات الثمانية سبعة طائرات F-15 تحميهم من التصدي للطائرات العراقية إذا حاولت التدخل. لكن للأسف لم تقلع أي طائرة عراقية اعتراضية .
بعد انتهاء المهمة ارتفعت الطائرات على ارتفاع 40 ألف قدم . واستغرقت 90 دقيقة للوصول إلى قاعدتها .
- اتصل قائد السرب الإسرائيلي بقاعدته لاسلكيا، أبلغها بنجاح العملية وإنجاز المهمة على أكمل وجه دون أي مقاومة ارضية او اعتراض جوي عراقي . وان جميع الطيارين بخير وسالمين وهم في طريق العودة للقاعدة حسب المسار المحدد لهم .
- بعد وصول هذا الخبر للقاعدة اتصل قائد القوة الجوية الإسرائيلي برئيس الوزراء مناحيم بيجن يبلغه بتنفيذ المهمة بنجاح و دون خسائر .
- كان الإسرائيليون بقلق على نفاذ الوقود من الطائرات لبعد المسافة عن الهدف لعدم توفر طائرات الإرضاع الجوي في ذلك الوقت لتزويد الطائرات جوا بالوقود . وقد عادت الطائرات المغيرة جميعها لقاعدتها وهي على وشك نفاذ الوقود.
- لم يكن العراق لوحده قد تفاجأ بهذا الهجوم المباغت، بل العالم بأسره اندهاش وتعجب لجراءة اسرائيل في إنجاز هذه المهمة الصعبة وبدون خسائر .
- اعتبرت القيادة الأمريكية ان هذه الضربة للمفاعل النووي العراقي هي أهم المفاجآت العسكرية في ذلك الوقت، وان النجاح فيها يرجع الى الدراسة والتخطيط الدقيق لمدة عام تقريبا. وقد لامت الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض اجهزة مخابراتها لفشلها في كشف الخطة الإسرائيلية وعدم قدرتها على اختراق المخابرات الإسرائيلية والحصول على أي معلومات مسبقة عن هذه الخطة .
- كانت هذه المفاجأة صادمة للرئيس الأمريكي رونالد ريغان . ، فاجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي في البيت الأبيض لرفض هذه الغارة الإسرائيلية ، وساد الاجتماع رفض قوي لهذه العملية ليس تعاطفا مع العراق، بل لعدم تبليغ اسرائيل للبيت الأبيض بخطتها هذه قبل تنفيذها .وكان هذا الرفض بقيادة نائب الرئيس بوش الأب وجيمس بيكر كبير موظفي البيت الأبيض آنذاك.
- أدانت أمريكا ولأول مرة اسرائيل في مجلس الأمن الدولي لقيامها بهذه العملية، لكن لم يتخذ المجلس أي إجراء ضد اسرائيل . واعلن رئيس وزراء اسرائيل بكل صلافة مناحيم بيغن ان إسرائيل ليس لديها شئ لتعتذر منه من المجتمع الدولي، لأنها تحركت قبل فوات الأوان ( أي قبل تصنيع العراق للقنبلة الذرية) بالمفاعل النووي.
- دمرت الطائرات الإسرائيلية المهاجمة بناية المفاعل النووي فقط دون المساس بناية مجاورة له مخزن فيها الوقود النووي وإلا لكانت كارثة رهيبة تصيب العراقيين بسبب انتشار الإشعاعات النووية .
- حصيلة العملية قتل 11 شخصا، عشرة منهم عراقيين وشخص واحد اجنبي هو خبير فرنسي شاب في السادسة والعشرين من عمره، ربما كان هو الجاسوس الذي جنده الموساد بتزويد اسرائيل بالمعلومات عن التفاصيل الفنية للمفاعل والأبنية هناك وتوقيت تبديل الحراسات الأمنية.و أوقات تواجد الخبراء الفرنسيين في المفاعل. وبموته تم التخلص من مصدر معلومات الموساد .
صباح ابراهيم
المرجع : إسرائيل الصندوق الأسود د. رفعت الأنصاري .